رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل السابع والستون 67 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السابع والستون

الفصل السابع والستون(اتخذ قراره)

الفصل السابع والستون(اتخذ قراره)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخواتنا في كل الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

_______

_

ولربَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى

ذرعًا وعند اللهِ منها المخرجُ

ضاقت فلما استحكمت حلقاتُها

فُرجتْ وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ

“الإمام الشافعي”

_______________

“موسى…”

رفع رأسه فورًا، عينيه التقت بعينيها، فردّ بنبرة عفوية تنساب منها الحميمية:

“عيونه…”

اقتربت فيروز بخطواتٍ بطيئة حتى وقفت أمامه، ثم جلست إلى جواره بهدوءٍ، وملامحها ساكنة،

لكن عينيها فيهما ارتباكٌ واضح.

ظلّ يراقبها للحظات، حدّق في عينيها محاولًا قراءة ما خلفهما، ثم سأل بصوتٍ خافتٍ تخلله اهتمام صادق:

“عايزة تقولي حاجة؟”

أومأت بخفة، ثم ردّت بصوتٍ مائل للهمس:

“آه… بس أوعدني إنك ماتتوترش.”

رفع حاجبه بابتسامةٍ خفيفةٍ شابها التوجس وقال سريعًا:

“لا خلاص، أنا اتوترت.”

نظرت له بجدية وهي تنطق اسمه في محاولةٍ لتهدئته:

“موسى…”

رد بنفس الجدية الساخرة:

“والله اتوترت، في إيه؟”

لم تجب…

سكتت لثوانٍ ثقيلةٍ تقطر توترًا، وعيناه تتنقلان بين ملامحها في قلقٍ صامت، وهو يشعر أن قلبه بدأ يبطئ ضرباته استعدادًا لخبرٍ لا يعرف إن كان سيفرحه أم يحطّمه.

نفذ صبره سريعًا، وضاق صدره بصمتها الذي طال أكثر مما يحتمل، فمدّ يده نحوها وأمسك بكفها بقوةٍ خفيفة، صوته اختلط فيه القلق بالرجاء وهو يقول:

“فيه إيه يا فيروز؟ أنا قلبي هيقف من الخوف.”

نظرت إليه بعينين تائهتين للحظة، ثم وضعت كفها فوق كفه كأنها تهدئه، وأطلقت تنهيدة خافتة قبل أن تهمس:

“أنا بقالي كام يوم مش مظبوطة… حاسة بشوية تعب وكده.”

تبدلت ملامحه فورًا، اتسعت عيناه، وتوتر فكه وهو يقطع كلامها بسرعة:

“تعبانة؟ في إيه؟ في حاجة بتوجعك؟”

ابتسمت فيروز ابتسامة صغيرة تطمئنه، ومدت يدها لتلمس وجنته برفق، وقالت بنغمة هادئة تخفي تحتها رجفة خفيفة:

“مفيش حاجة تخوف، بالعكس… يمكن تكون حاجة تفرحنا كلنا.”

تجعد حاجباه في حيرة، وسكت لثوانٍ ثقيلة قبل أن يهمس:

“تقصدي إيه؟”

خفضت عينيها، وابتلعت ريقها قبل أن ترد بصوتٍ خافتٍ يحمل تردّدًا:

“مش عارفة لسه… مش متأكدة، علشان كده متوترة شوية.”

أعاد السؤال نفسه بصوتٍ أقرب للدهشة:

“يعني… ممكن تكوني؟”

وأشار بيده نحو بطنها بتردد، فهزّت رأسها بهدوء دون كلمة.

في تلك اللحظة، اتسعت عيناه بذهولٍ طفولي، شهق بقوةٍ لا إرادية، ونهض واقفًا كمن أصابه تيار من الدهشة والفرح في آنٍ واحد، وصوته يرتفع بخفةٍ ممزوجة بالارتباك:

“يا الله!”

نهضت هي الأخرى، شفتيها ترتجفان بابتسامةٍ خجولة لم تستطع كتمانها، تتابع بعينيها انفعاله المدهش، لتجده يقترب منها بخطواتٍ متسارعة، يمسك ذراعيها برفقٍ يفيض بالعاطفة، وصوته يتهدج وهو يقول:

“يعني بجد… بجد ممكن تكوني حامل يا فيروز؟”

هزّت كتفيها بخفة، ثم همست بصوتٍ خافتٍ متردد:

“مش عارفة… محتاجين نتأكد.”

لم يتركها تكمل، كأن الكلمات لم تجد طريقها إليه من شدة انفعاله، فقاطعها بنبرةٍ متسارعة يغمرها مزيج من القلق واللهفة:

“طبعًا نتأكد! وماله نتأكد! أنا هنزل حالًا أجيب اختبار!”

تحرك بخطواتٍ متلاحقة نحو الباب، بينما رفعت يدها نحوه في محاولةٍ متأخرة، تقول بسرعةٍ لا تخلو من رجاءٍ ناعم:

“استنى يا موسى، أنا كلمت الدكتور…”

لكن الباب كان قد أغلق بالفعل، تاركًا خلفه صدى حركته وارتباك أنفاسها.

وقفت هي لوهلةٍ في مكانها، يدها لا تزال مرفوعة في الهواء، ثم أنزلتها ببطءٍ وهي تتمتم بابتسامةٍ صغيرة يغمرها دفء وارتباك:

“وحجزت ميعاد.”

_________________

وصل إلى وجهته أخيرًا،

صيدلية عمته دلال

، يخطو بخفةٍ متسارعة كطائرٍ تحرّر لتوّه من قفص الانتظار

،

وقد كان في وجهه بريق نادر، خليط من رجاءٍ وفرحٍ وارتباكٍ طفوليّ يصعب تفسيره.

لكن ما إن اقترب من الباب الزجاجي حتى

توقّف فجأة

، كأن شيئًا في داخله جذبه إلى الصمت.

ارتفع حاجباه بتوترٍ خفيف، واتسعت عيناه بلحظة إدراكٍ مباغت، ثم همس لنفسه بنبرةٍ تحمل حذرًا وصدقًا معًا:

“ماينفعش أقولها وأعشمها.”

ظلّ واقفًا هكذا،

صراع صغير يدور في صدره

بين اندفاع قلبه وحكمة عقله، ثم رفع يده ليمسح على وجهه كمن يحاول ترتيب أفكاره، ثم أغمض عينيه لثانيةٍ قصيرة قبل أن يفتحها وقد بدا أكثر هدوءًا.

هزّ رأسه إيماءةً صغيرة تدل على أنه اتخذ قراره أخيرًا، ثم

أخذ نفسًا عميقًا

وولج إلى الداخل بخطواتٍ واثقة، صوته يسبق حضوره وهو يقول بنغمةٍ ودودة:

“السلام عليكم.”

رفعت دلال رأسها فور سماع صوته، وقد بدت الدهشة جليّة في ملامحها، ثم قالت وهي تضع يدها على الطاولة أمامها:

“وعليكم السلام… إيه اللي جابك؟ أنا لسه قافلة معاك من شوية!”

لكنّه لم يمنحها فرصة لتتساءل أكثر، اقترب منها بخطواتٍ متسارعة ونبرةٍ مفعمة بالانفعال المصطنع وهو يقول:

“جوزك! جوزك على وصول، وإنتِ قاعدة هنا؟ مش عارف بتعنليلي إيه؟ قومي بسرعة استقبليه، الراجل زمانه جاي تعبان من السفر!”

قالها وهو يمسك بذراعها ليجعلها تنهض من مكانها، بينما تابع بجدّيةٍ مفتعلة:

“يلا يا دلال، قومي بسرعة، ماينفعش تستقبليه كده!”

ارتبكت هي تمامًا، لم تفهم ما يحدث، ووقفت تتلفت حولها بتوترٍ واضح:

“طب شنطتي!”

أومأ بسرعة، وكأنه رجل في مهمة طارئة، وقال بحماسٍ مضحك:

“أجيب الشنطة!”

انحنى وأمسك بحقيبتها، سلّمها لها وهو يلوّح بيده نحو الباب مرددًا:

“اتفضلي الشنطة، يلا بسرعة، روحي قبل ما يوصل!”

حاولت الاعتراض وهي تنظر إلى الأرفف المليئة بالأدوية:

“طب والصيدلية؟”

ابتسم بثقةٍ مفرطة وقال وهو يفتح الباب لها:

“أنا هقفلها، متقلقيش! بس روحي بسرعة، الراجل زمانه على الباب!”

ومع كل كلمة كان يقرّبها خطوة نحو الخارج، حتى خرجت بالفعل، ولا تزال ملامحها مشوشة لا تصدّق ولا تستوعب ما جرى.

ظلّ واقفًا للحظةٍ عند الباب، عيونه تتابعها حتى غابت تمامًا عن ناظريه، عندها فقط أطلق ضحكةً قصيرة خرجت من أعماقه، ضحكةً تجمع بين دهاءٍ خفيف وانتصارٍ لذيذ، ثم زفر براحةٍ عميقة وكأنه أنهى مهمةً استخباراتية دقيقة.

استدار نحو الداخل بخفة، يده تمر على شعره كمن يستعد لمرحلةٍ جديدة من الخطة، وعيناه تلمعان بحماسٍ صادق، كطفلٍ مقبل على مغامرة صغيرة.

بدأ يتفحّص المكان بعينيه أولًا، يتحرك بين الرفوف بخطواتٍ حذرةٍ لكنها سريعة، يمرر أصابعه على العلب، يتفقد الأدراج بخبرةٍ من يعرف أنه لا يملك وقتًا طويلًا.

كان قلبه يدقّ بنشوةٍ خفية، وابتسامةُ فخرٍ صغيرة ترتسم على شفتيه كلما اقترب أكثر من هدفه.

وفجأة، وقعت عيناه عليها…

العلبة المنشودة.

مدّ يده والتقطها بسرعة، ثم تأملها للحظةٍ قصيرة وقد لمعت عيناه بحماسةٍ ودهشةٍ وشيء من الخوف الجميل.

ابتسم ابتسامةً واسعة وهمس لنفسه بخفة:

“تمام… المهمة تمت.”

لكن حظه، كالعادة، لا يمنحه نهاية مريحة.

فما إن استدار ليغادر حتى تجمّد في مكانه، عروقه شدّت للحظة،

كانت هي أمامه تمامًا

، واقفة على العتبة، ملامحها صارمة، وعيونها تطلق شررًا يكفي لإشعال المكان كله.

تراجع خطوة للخلف على الفور، وأخفى العلبة بسرعة في جيب بنطاله الخلفي بحركةٍ مرتجفة، ثم رفع حاجبيه متصنّعًا الهدوء وقال محاولًا صرف انتباهها:

“إيه اللي رجعك؟! جوزك… ”

لكنها لم تمنحه مساحة للمناورة، تقدّمت نحوه بخطوةٍ حادةٍ وقالت بصوتٍ مشحونٍ بالشكّ والتهديد:

“جوزي مش مسافر أصلًا، راح عزاء والد زميله في الشغل… إيه اللي وراك؟”

نظر خلفه بارتباكٍ واضح وردّ وهو يبتلع ريقه بصوتٍ خافتٍ مرتبك:

“مفيش حاجة ورايا.”

ضاقت عيناها، وخفَت صوته تمامًا حين نطقت باسمه ببطءٍ ثقيلٍ يحمل في طيّاته وعيدًا خفيًا:

“موسى…”

ارتبك للحظةٍ وهو يواجه نظراتها الحادة، لكن سرعان ما حاول استعادة ثباته، اعتدل في وقفته، وعدّل نبرة صوته لتخرج واثقةً متصنّعة، وقال وهو يلوّح بيده كمن يصدّ اتهامًا باطلًا:

“موسى إيه بس؟ إنتِ بتتكلمي معايا كده ليه؟ لما تتكلمي معايا عدل، أبقى أجاوبك… سلام.”

ثم مرّ بجوارها بخطواتٍ سريعةٍ متوترةٍ، لكن في ظاهرها ثقةٌ مصطنعة، بينما التفتت هي وراءه، وصوتها يعلو آمرةً:

“تعالَ هنا… استنى!”

تجاهلها هو تمامًا، وكأن صوتها لم يصل أذنه أصلًا، تابع طريقه بخطواتٍ متعجلة، وكل خلية في جسده تتمنى فقط أن يخرج دون أن يُفتضح أمره.

أما هي، فلم تستسلم… تبعته بخطواتٍ غاضبةٍ متوترةٍ، حتى كادت تصرخ به في الشارع، لكن صوتها اختنق فجأة حين وقعت عيناها على

شيءٍ صغيرٍ يطلّ من جيبه الخلفي

.

توقفت الكلمات في حلقها، اتسعت عيناها بدهشةٍ مصحوبةٍ بذهولٍ صادق، ثم شهقت بخفة، ورفعت يدها إلى فمها غير مصدّقة ما ترى… نفسها العبوة الصغيرة التي تعرفها جيدًا،

نصفها فقط ظاهر

، لكنها كافية لتكشف كل شيء.

بدت على وجهها ملامح صدمةٍ تحوّلت تدريجيًا إلى ابتسامةٍ واسعةٍ دافئة، ثم تمتمت بصوتٍ خافتٍ مفعمٍ بالدهشة والفرح المكبوت:

“مش معقول… بجد؟”

وفي تلك اللحظة بالتحديد، كان ذلك الهمس هو

بداية الفرح

_________________

كان يسير أمام باب الحمّام جيئةً وذهابًا كمن يحاول الهروب من أفكاره ولا يستطيع، عيناه تتنقلان بين ساعة يده والباب المغلق، وكل ثانية تمرّ كانت تثقل أنفاسه أكثر.

وقد كان توتره واضحًا في قبضته المشدودة، وفي ذلك الرجفان الخافت الذي يسكن أطراف أصابعه.

لم يكن يسمع سوى صوت دقات قلبه المتسارعة، وكأن الزمن توقف ينتظر ما سيُقال بعد لحظات.

وأخيرًا… تحرّك المقبض، وانفتح الباب ببطء.

طلّت فيروز من خلفه، ملامحها ساكنة، لكن في عينيها شيءٌ لا يمكن قراءته بسهولة.

اقترب منها بخطواتٍ سريعةٍ تكاد تتعثر في استعجالها، وعيناه تبحثان في وجهها عن الإجابة قبل أن تنطق بها.

وقفت هي أمامه، لم تقل شيئًا، فقط مدّت يدها نحوه، وضعت شيئًا في كفّه وأغلقت أصابع يده عليه برفق.

خفض بصره ببطء، ثم فتح كفه ليرى ما وضعته فيه… كان

الاختبار

، بخطّين أحمرين واضحين لا يقبلان الشك.

تجمّد لثوانٍ، كأن عقله رفض الاستيعاب أولًا، ثم اتسعت عيناه في صمتٍ مشوبٍ بالذهول، وخرج صوته أخيرًا، متقطعًا بين الدهشة والفرح والرهبة:

“ده… ده معناه إنك… حامل… صح؟”

لم تجبه بالكلمات، فقط أومأت بابتسامةٍ صغيرةٍ، خجولةٍ ومرتعشةٍ، فارتسمت على وجهه ملامح لا تُعرّف: مزيج من الدهشة، والفرحة، والخوف الجميل… ذلك النوع من الخوف الذي لا يولده إلا

الخبر الذي يغيّر الحياة كلها.

تراجع موسى خطوة إلى الخلف، كأن المفاجأة دفعت به دون وعي، وارتفع صوته يهتف بصدقٍ يفيض من أعماقه:

“يا الله!”

اهتزّ المكان بضحكته الممزوجة بدهشةٍ وفرحٍ صافٍ، بينما كانت هي تضحك من قلبها، والدموع تلمع في عينيها.

كان ينظر إلى الاختبار بين يديه بعينين لا تصدّقان، يقلبه، يطالعه مرارًا وكأنه يخشى أن يتلاشى الحلم بين أصابعه.

رفعت فيروز يدها برفق، ومسحت دمعة سالت على وجنتها دون قصد، ثم اقتربت منه حتى صارت أمامه تمامًا.

أمسكت بكفّه بكلتي يديها، مسحت عليه بحنوٍّ دافئ وهي تقول بصوتٍ رقيقٍ متزن:

“ساعات بيبقى في غلط في الحاجات دي، فخلينا نتأكد أكتر ونروح نعمل تحليل بكره، أنا كلمت الدكتورة وحجزت معاها.”

رفع عينيه نحوها، وصوته لا يزال يحمل أثر الذهول الجميل:

“ومالو، طبعًا نروح… بس ليه نستنى لبكرة؟ ماينفعش النهارده؟”

ابتسمت بخفوتٍ وهي تردّ بهدوءٍ:

“للأسف، هي مسافرة ومش هيرجع غير بكرة، وهتجيلي مخصوص، فما ينفعش ألغيه.”

أومأ برأسه موافقًا، والابتسامة لم تفارق وجهه، وقال بصوتٍ مفعمٍ بالعطف والاهتمام:

“ماينفعش طبعًا، خلاص نستنى بكرة… هي معملها فين؟”

أجابت بابتسامةٍ خفيفة، وصوت هادئ:

“فوق عيادتي بالظبط.”

أومأ موسى برأسه، وصوته خرج منخفضًا كأنه يحاول أن يثبت لنفسه أكثر مما يجيبها:

“تمام… نستنى لبكره، كلها كام ساعة، مش حكاية.”

قالها وهو يزيح نظراته عنها ويتجه إلى الأريكة، جلس عليها ببطء، وراح يحدّق في الفراغ أمامه، عيناه معلّقتان بنقطةٍ لا يراها أحد سواه، كأن عقله يحاول أن يلملم ما حدث للتو.

اقتربت منه بخطواتٍ هادئة، وجلست إلى جواره ثم سألته بصوتٍ هادئ:

“هتشتغل؟”

لم يلتفت، اكتفى بأن حرّك رأسه نفيًا وقال:

“لأ.”

صمتت لحظة ثم همست:

“طب هتنام؟”

أعاد نفس الحركة بنفس الهدوء المرهق:

“برضو لأ.”

ضحكت بخفةٍ تحاول أن تذيب التوتر، ثم قالت:

“أمال هتعمل إيه؟”

رفع رأسه نحوها أخيرًا، ونظر إليها بعينين مضطربتين كأنهما تبحثان عن يقينٍ ضائع، وقال بنبرةٍ تمزج بين الذهول والخوف والفرح:

“معرفش… مش هعرف أنام ولا أشتغل ولا أعمل أي حاجة… هفضل قاعد هنا للصبح.”

ضحكت وهي تهز رأسها بخفة، ثم اقتربت منه أكثر حتى أسندت رأسها على كتفه، تحرك هو تلقائيًا، التف ذراعه حولها كأنه يبحث عن شيء يمسكه كي لا ينهار من الدهشة.

ضمها إليه، استنشق رائحتها التي كانت دائمًا تملأه طمأنينة، ثم مال يقبّل أعلى رأسها همسًا كمن يخشى أن يوقظ حلمًا جميلًا.

ثم قال بصوتٍ خافتٍ فيه رعشة:

“بجد ممكن تطلعلي حامل؟”

ابتسمت، ورفعت عينيها إليه وقالت بنفس الحنو:

“بنسبة تسعة وتسعين في المية… آه.”

طالعها موسى للحظةٍ طويلة، كأنما أراد أن يحفر ملامحها في ذاكرته كما هي في تلك اللحظة بالذات؛ عيناها المتلألئتان بشيء بين الدهشة والرجاء، وابتسامة صغيرة تختبئ بين شفتيها كسرٍّ لم يكتمل بعد.

ابتسم بدوره، وضمّها إليه أكثر، ضمّةً تشبه وعدًا صامتًا بشيء أكبر من الكلام.

أراح ذقنه فوق رأسها، وأغمض عينيه وهو يتنفس بعمقٍ، تنهيدة امتزج فيها الخوف بالأمل، والرهبة بالامتنان، حتى بدا كأنهما يشتركان في أنفاسٍ واحدةٍ خرجت منهما معًا في همسٍ متقاطع:

“يارب… خير.”

وفي تلك اللحظة، لم يكن في العالم إلا هما.

دفء العناق، وسكون البيت، وضوء خافت يتسلل من بين الستائر، يرسم ظلالًا ناعمة على الجدران.

كل شيء بدا كأنه يتواطأ مع حلمٍ صغيرٍ يتكوّن في الغيب، حلمٍ قد يملأ هذا السقف القريب بضحكةٍ ثالثة… ضحكةٍ جديدة تُكمِل اللوحة، وتجعل هذا البيت بيتًا لثلاثة، لا لاثنين فقط.

_________________

بدأ الضوء يتسلّل بخجلٍ من خلف زجاج النوافذ، يطرد بقايا الليل المتشبّثة بالسماء، فيما المدينة تستعيد أنفاسها شيئًا فشيئًا.

كانت الصباحات في مثل هذه اللحظات تشبه الولادة؛ هادئة، متوترة، مترقبة لما سيأتي.

في غرفة الاستراحة الصغيرة، جلس هو وفي يده كفها، كأنما يتمسّك بها ليثبت وجوده في هذا الوقت المعلّق بين الخوف والرجاء.

كانت أصابعه تطبق على يدها بقوةٍ خفيفةٍ، بينما قدمه تهتز بلا وعيٍ، تعبّر عما يختلج داخله أكثر من أي كلمةٍ قد يقولها.

أما هي، فكانت تراقبه بعينٍ تحاول أن تخفي ارتجافها، تبتسم له كلما التقت نظراتهما لتسكب على ملامحه شيئًا من الطمأنينة التي لا تملكها هي نفسها، ثم تربّت على قدمه برفقٍ كأنها تهدهده.

الوقت مضى ببطءٍ موجِع، عقارب الساعة تتحرك بثقلٍ، وصوتها يملأ الغرفة كعدّ تنازليٍ لمصيرٍ ينتظران معرفته.

حتى فُتح الباب أخيرًا…

رفع كلاهما رأسه في لحظةٍ واحدة، ونهضا معًا كأن تيارًا خفيًا رفعهما، والقلوب معلّقة في تلك الثواني التي تسبق الكلمة الأولى.

تعلّقت أنظارهما بالطبيبة كمن يتشبّث بخيط النجاة الأخير، كانت ملامحها ثابتة، محايدة لوهلةٍ أربكت أنفاسهما، قبل أن تنفرج شفتاها عن ابتسامةٍ صغيرةٍ وهادئةٍ، وقالت بصوتٍ يحمل وقع الحياة:

“مبروك.”

وكانت الكلمة وحدها كفيلة بأن تُزلزل كيانهما، كأنها نبضٌ جديد وُهب لهما في تلك اللحظة.

اتسعت عينا فيروز، تجمّدت للحظة بين الدهشة والفرح، بينما هو شهق ضاحكًا، يهتف بحماسةٍ صافيةٍ وهو يخطو نحو الطبيبة:

“يااااااا الله!”

كان قاب قوسين أو أدنى من أن يضمها فرحًا، لكنه تدارك نفسه فجأة كمن استفاق من غفوة، فالتفت مسرعًا نحو فيروز وقال وهو يبتسم بعينين تبرقان:

“العنوان غلط!”

انفجرت الطبيبة بضحكةٍ رقيقة، بينما غطّت فيروز فمها محاولةً كتم ضحكتها، لكنه لم يمهلها طويلاً… ففي لحظةٍ خاطفةٍ كان قد رفعها بين ذراعيه، يدور بها في أرجاء الغرفة، وضحكاته تتشابك بضحكاتها، وصوته يهتف من قلبه:

“هبقى أب… هبقى أب يا فيروز! يااااااا الله!”

كانت الغرفة تضجّ بالفرح، ضحكاتهما تملأ المكان وتتماوج مع نور الصباح الداخل من النوافذ، كأن الحياة بأسرها قرّرت أن تبتسم لهما، وكأنها قررت أن تمنحهما فرصةً جديدة لبدء فصلٍ أكثر دفئًا من عمرهما.

في تلك اللحظة، لم يعد في الدنيا ما يهمّ سواها وسواه.

كانت يده لا تزال تحتضنها، ونبضهما يتقاطع بين ضلوعهما في إيقاعٍ واحدٍ ناعمٍ يملأ الجو سكينةً وسرورًا.

نظر إليها بعينين تلمعان بدموعٍ لم يدرِ أهي من الفرح أم من الامتنان، وهمس بصوتٍ خافتٍ يختلط بأنفاسه:

“بموت فيكِ… أقسم بالله بموت فيكِ.”

ابتسمت، لم تقل شيئًا، فقط أمالت رأسها على صدره، كأنها تقول بصمتها ما لا يُقال بالكلمات.

وهنا، في غرفةٍ صغيرةٍ يغمرها ضوء الصباح، وُلد وعدٌ جديد… وعد بحياةٍ امتلأت بالحب والدهشة والانتظار الجميل.

_________________

مع مرور الوقت…

كانت تجلس بجواره في السيارة، يده على المقود وابتسامةٌ لا تفارق وجهه، كأن الدنيا بأسرها انحنت له لتُهنّئه، بينما كانت هي تراقب ملامحه في صمتٍ دافئ، ترى في كل التفافةٍ من شفتيه بقايا الدهشة التي لم تزل تسكنه.

ابتسمت بخفة، بينما ألقى هو نظرة سريعة عليها ثم عاد بعينيه للطريق، وقال بصوتٍ تغمره الحماسة واللعب:

“هنقولهم إزاي؟ عندك أفكار؟”

ضحكت بخفة وردّت:

“لأ… هو محدّش يعرف، صح؟”

“لأ، أنا ماقولتش لحد خالص، وإنتِ؟”

“ولا أنا، حتى ماما كلمتني امبارح بالليل مارضتش أقولها.”

هز رأسه بإعجابٍ وقال وهو يبتسم:

“حلو، عايزين بقى نعمل حاجة كريتيف نعرفهم بيها الخبر ده.”

“خلينا نفكر سوا، ولحد ما نلاقي فكرة، لازم محدش يعـــ”

توقّفت الكلمات في حلقها فجأة، وانكمش حاجبا موسى بدهشةٍ حين اخترق أذنيهما صوت مألوف عبر ميكروفون المسجد في الحارة، صوت مفعم بالحياة يهتف:

“أحلى تحية للناس المية مية! جايب لكم أحلى خبر هتسمعوه لسنة قدّام! صاحبي وحبيبي موسى عمران… هيبقى أب يا جدعان!”

تجمّد موسى في مكانه، يده المرتعشة لا تزال قابضة على المقود، ونظراته معلّقة في الفراغ بين الذهول والصدمة، وصوت محسن لا يزال يتردّد في الخلفية كصدى بعيدٍ مستحيل التصديق.

وفيروز، لم تكن أقلّ ارتباكًا منه، التفتت نحوه بعينين متسعتين وقالت بدهشة:

“متأكد إن محدّش يعرف؟”

رفع نظره إليها، ووجهه مشدود تتنازعه الدهشة والارتباك، وأجاب بصدقٍ يقطر من نبرته:

“أنا والله ماقولت لحد!”

ساد الصمت للحظاتٍ قصيرة، فقط أصوات الشارع في الخارج، وأنفاسهما المتقطّعة، لكنّ المفاجآت لم تنتهِ بعد…

إذ فجأة، ارتسمت على وجه موسى ملامح التجمّد مرة أخرى، عيناه اتسعتا أكثر، ويداه شدّتا على المقود قبل أن يضغط الفرامل فجأة ويوقف السيارة.

“في إيه؟”

سألت فيروز بقلق، فأشار هو بعينيه للأمام في صمتٍ مذهول، اتبعت هي اتجاه نظره، وما إن رأت ما يراه حتى شهقت بخفة.

كان أمام مدخل العمارة يقف

داوود وأحمد

، كلاهما ممسك بصوانٍ من العصير يوزّعانها على الأهالي المارّين بابتسامةٍ عريضة، بينما داوود يهتف بصوتٍ مرتفعٍ مفعمٍ بالحماس:

“ده حاجة بسيطة كده! استنوا بس، الحلاوة الكبيرة لما تولد بالسلامة إن شاء الله!”

نظرت فيروز لموسى في ذهولٍ لا تخلو من الدهشة الممزوجة بالضحك، لتجده بدأ يلتفت داخل السيارة بعصبيةٍ غريبة، يرفع المقعد تارة، ويتفحص أسفل الطبلون تارة أخرى.

رفعت حاجبيها وسألته باندهاشٍ لم تستطع كتمه:

“بتدور على إيه؟”

أجاب دون أن يرفع نظره عنها، وصوته متوتر وجاد كما لو كان في مهمةٍ أمنية:

“بدور على جهاز تصنت… أكيد بيتجسسوا علينا علشان يعرفوا حاجة زي دي، ماحدش كان يعرفها غيرنا!”

اتسعت ابتسامتها، ثم لم تملك نفسها فانفجرت ضاحكة، وضحكتها تلك جعلته يرفع رأسه نحوها بملامح متجهمة مصطنعة، وقال بنبرةٍ تفيض سخريةً وغيرةً لطيفة:

“بتضحكي؟!… طب انزلي يالا، خلينا نشوف عرفوا منين! قال إيه جينا نفاجئهم لقيناهم هما اللي بيفاجئونا!”

ضحكت أكثر وهي تفتح باب السيارة وترد عليه:

“واضح إن المفاجأة قلبت علينا إحنا المرة دي!”

زفر هو بعمقٍ بينما يحاول إخفاء ابتسامةٍ فاضت من بين شفتيه رغم إرادته، ثم قال وهو يترجل خلف فيروز متصنعًا التذمر:

“أهو دا اللي اسمه اتغدوا بينا قبل ما نتعشّى بيهم.”

ضحكت فيروز بخفّةٍ وهي تمسك طرف حقيبتها، فيما أغلق هو باب السيارة خلفه بقوةٍ افتعل فيها الغضب أكثر مما شعر به حقًا.

وصوت الباب العالي جذب انتباه عمّه محمود الذي كان يقف غير بعيد، فالتفت ناحيتهما ضاحكًا وهو يقول بصوتٍ جهوريّ:

“صحاب الفرحة وصلوا أهو!”

وما إن نطقها حتى التفتت الأنظار كلها نحوهما، كأن كل الحاضرين كانوا ينتظرون تلك اللحظة.

تجمّد موسى في مكانه، التفت ببطء إلى فيروز فوجدها تنظر له بالذهول نفسه، كلاهما لا يعرف ماذا يفعل، لكن الموقف لم يمنحهما فرصة للهروب، إذ تقدّم داود نحوه بخطواتٍ مفعمة بالفرح، ترك ما في يده من مشروبات للصبي وفتح ذراعيه على اتساعهما، يهتف بصوتٍ تغمره البهجة:

“ألف مبروك يا حبيب أبوك!”

لم يجد موسى ما يقوله، اكتفى بأن يضحك ويبادله العناق بحرارةٍ غلبت دهشته، فضمّه داود بقوةٍ ثم ربت على كتفه بفخرٍ صادق، قبل أن يتجه نحو فيروز التي كانت تراقب المشهد ودمعة امتنانٍ تتلألأ في عينيها، ثم قال وهو يبتسم لها بعطفٍ أبويّ:

“مبروك يا حبيبة عمّك.”

ابتسمت له فيروز برقة وردّت بخجلٍ لطيف:

“الله يبارك فيك يا عمّو.”

وفي تلك اللحظة كان موسى قد أصبح محاطًا بأعمامه أحمد ومحمود والصبية الذين يعملون معهم، يمدّون إليه أيديهم بالمصافحات والعناق، والتهاني تتلاحق من كل اتجاه، والضحكات تعلو كأن الفرح قرر أن يتجمّع كله في هذا المكان.

وعندما تحرر من أيديهم، التفت نحو والده وأعمامه، في عينيه بريق دهشةٍ يختلط بشيءٍ من السخرية المبطّنة، ثم سأل بصوتٍ حاول أن يبقيه هادئًا:

“هو أنتم عرفتوا منين لمؤاخذة؟”

سبق داود الجميع وأجابه بثبات معتاد:

“من أمك.”

تلاه أحمد بنبرةٍ حيادية:

“من مراتي.”

ضحك موسى بخفوت، ضحكةً قصيرة تحمل أكثر مما تُظهر، ثم أومأ وهو يقول بنبرةٍ فيها لذعة مرارة:

“بما إن الخبر أصله ست، فالمركز أكيد…”

توقّف فجأة، كأن شيئًا شدّه من الداخل، إذ اخترق سمعه صوت زغرودةٍ طويلة حادة، اخترقت جدار اللحظة واستقرت مباشرة في ذاكرته.

أغمض عينيه، تنفّس بعمق، ثم ابتسم ابتسامةً صغيرة حزينة وقال بصوتٍ واهنٍ فيه يقين:

“مفيش غيرها.”

تحرّك بخطواتٍ سريعة نحو باب البيت، وفي لحظةٍ خاطفة، مدّ يده بخفة وسحب زوجته التي شهقت بدهشةٍ لم تُكملها، كأنها لم تلحق أن تفهم ما يدور في رأسه.

لم يُمهلها سؤالًا ولا تفسيرًا، فقط أمسك يدها برفقٍ حازم، ومضى يصعد الدرج بخطواتٍ تتأرجح هادئة لأجل سلامتها، فيما صوته يتردد في أرجاء البيت، حادًّا ومحمّلًا بمزيجٍ من الغيظ والخذلان:

“دلاااال!”

ثم، وكأنه شخصٌ آخر في اللحظة التالية، التفت نحو فيروز بنظرةٍ نقيض كل ما في صوته، نظرةٍ دافئة تلطّف حدّة الموقف، وهمس لها بهدوءٍ مدهش:

“اطلعي بالراحة… على مهلك.”

ضحكت فيروز بخفوتٍ لا يخلو من العجز، ضحكةً تنتمي أكثر للاستسلام منها للمرح، ثم تابعت الصعود خلفه، تتأمل ظهره المتوتر وحركات يديه التي تفضح احتقانه.

وما إن دخلا شقة جده حتى اخترق صوته الجدران كالرعد:

“دلاااال!”

تجمّدت دلال عندما كانت تقدم كوب الماء لوالدها، ثم التفتت ببطء نحو الباب، وهناك كان موسى واقفًا عند العتبة، كتفاه مشدودتان، ونظراته تتوعدها بغير كلمة.

تجمّدت ملامحها للحظة، ثم وضعت الصينية على الطاولة ببطءٍ متعمّد، في محاولةٍ بائسة لتأجيل العاصفة.

ثم رفعت كفّها أمامها وقالت بصوتٍ مرتجفٍ مكسوٍّ بالرجاء والسذاجة:

“بهدوء… نتكلم بهدوء يا موسى.”

ابتسم ابتسامةً خافتة خالية من الطمأنينة، وقال بنبرةٍ لا تبشر إلا بما يخالف قوله:

“بهدوء آه… إن شاء الله.”

ثم فجأة، تحوّلت الكلمات إلى حركة…

و

انفجر المشهد…

ركض نحوها بخطواتٍ غاضبة، والشرر في عينيه، فشهقت هي بحركةٍ غريزية وركضت عشوائيًّا، تتعثر وتلتفت خلفها، بينما صوته يتعالى وراءها كهديرٍ لا يهدأ:

“تعالي هنا!”

وانتشرت الفوضى في المكان كما لو أنّ البيت بأكمله فقد توازنه، ارتفعت الأصوات، اختلطت بالضحك والدهشة والغضب في آنٍ واحد.

نهض طارق بسرعة غريزية، اندفع بخطواتٍ ثابتة نحوهم ليقف بين موسى وزوجته، وعبير لحقت به بدورها، تمسك بذراع ابنها محاولةً تهدئته، فيما محمد كان يطلق ضحكاته بصوتٍ جهوري، كعادته حين يرى المشهد يغلي بالحياة، لا بالمشاجرة.

أما فيروز، فكانت تتابع كل ما يحدث بعينين متسعتين وابتسامةٍ مذهولة، تلك الضحكة التي خرجت منها كانت مزيجًا من الصدمة والتسلية، لا تعرف إن كانت تشاهد خلافًا عائليًا أم مسرحية واقعية طريفة اعتادت على رؤيتها منذ الصغر.

وبمجرد أن وقف طارق بين الاثنين، مدّ ذراعه حاجزًا موسى، فاستغلت دلال الفرصة لتتحصن خلفه، تمسك بطرف قميصه وكأنها تختبئ من عاصفةٍ تعرف جيدًا أنها أشعلتها بنفسها.

شدّت عبير كذلك على ذراع ابنها بحزمٍ خافت، والأخير فقط زفر بغضب، والعروق في عنقه بارزة، وصوته خرج حادًا وهو يهدر:

“عرفتي منين يا قادرة؟ ده احنا لسه عارفين من ساعة!”

رفعت دلال رأسها من خلف طارق، نظرتها فيها مزيج من الانتصار والسذاجة، وأجابت بنبرةٍ تحمل اعتدادًا طفوليًا:

“شوفت العلبة في جيبك امبارح.”

تجمّد موسى في مكانه، كأن إدراكًا ثقيلًا سقط عليه فجأة، مرّر كفّه على وجهه ببطءٍ كمن يحاول استيعاب ما سمع، ثم قال وهو يزفر غيظه:

“طب ماقدرتيش تستني لما تتأكدي أو نيجي إحنا ونقولهم؟ ولا مابيتبلش في بوقك فولة!”

ردّت ببرودٍ استفزه أكثر مما لو صرخت في وجهه:

“مش بيتبل في بقي فولة.”

عضّ موسى على شفتيه بقوة، وكاد أن يندفع نحوها لولا أن رفع طارق يده في وجهه بحزمٍ حاد وقال بصوتٍ منخفض لكنه يحمل تهديدًا صريحًا:

“قرب منها خطوة بس… وأقطع علاقتي بيك.”

تشنّج موسى من كلمات خاله، ثم أدار وجهه نحو دلال، نظرته خليط من الغضب والذهول والسخرية، وقال بصوتٍ مرتجفٍ بالكظم:

“بقيت بتتحامي فيه؟ مش كنتِ تتحامي في جدي على الأقل؟ راجل كبير… مش هيعرف يحوش عنك.”

رفع محمد رأسه ببطء من مكانه على الأريكة، عيونه نصف مغمضة، وصوته خرج مبحوحًا لكنه حاد كالسكين:

“آه يا وسخ.”

أما دلال، فلم تتهرب ولم تتراجع خطوة، فقط رفعت رأسها ونظرت نحو موسى بثباتٍ، وقالت ببساطةٍ وهدوءٍ جعل كلمتها أقوى من أي صراخ:

“مش أنا اتجوزت خلاص؟ أتحامى في جوزي.”

علّق محمد مجدداً، وهو يومئ برأسه نحو ابنته وقد ارتسمت على وجهه ملامح ساخرة، وصوته خرح عميق، يحمل لذعة العتاب ودفء الدعابة:

“آه يا خاينة.”

في تلك اللحظة، انطلقت ضحكة فيروز، خفيفة أولًا ثم عالية دون أن تشعر، ضحكة صادقة خرجت من عمق الدهشة والتوتر، فشقّت سكون المشهد كشرارةٍ صغيرة في جوٍّ مشحون.

التفتت إليها العيون دفعةً واحدة، كأنها أفاقت الجميع من غليانهم، توقفت ضحكتها على الفور، ارتبكت، ورفعت نظرها لتجدهم جميعًا يحدقون بها… بدهشة، بتسلية، وربما بشيء من الحنو الذي يشبه دفء العائلة بعد العاصفة.

تقدمت عبير نحوها بخطواتٍ سريعة وقد بدا على وجهها خليطٌ من العاطفة والندم والحنان الذي لا يُخفى، فتحت ذراعيها على اتساعهما، وقالت بصوتٍ دافئٍ مفعمٍ بالصدق:

“اتشغلت بمشاكلهم ونسيت أرحّب بمرات ابني… وبنتي… وحبيبتي… وأم حفيدي اللي جاي في السكة.”

لم تستطع فيروز إلا أن تبتسم، واندفعت تلقائيًا إلى حضنها، فعانقتها عبير بحرارةٍ أمٍّ وحنو صافٍ.

كانت لحظة عناقٍ طويلة، امتزج فيها الفرح بالطمأنينة، والدهشة بالامتنان، وكأن كل ما سبق من صراخٍ وضجيجٍ تلاشى أمام هذا الاحتواء.

أما موسى، فوقف يراقب المشهد بعينين لامعتين، يبتسم رغمًا عنه، ثم قال بنبرةٍ فيها خفة الظل التي لم تغب عنه يومًا:

“حفيدة لو سمحتِ يا ست الكل… هتبقى بنت إن شاء الله.”

التفتوا إليه، لكن بدل أن يردّ أحد، دوّى في المكان صوت ضحكاتهم جميعًا، تلك الضحكات الصافية التي تذيب كل ما تبقّى من توتر.

حتى محمد رفع رأسه من مقعده، نظر نحو فيروز بعينين راضيتين، وهتف بصوته الأجشّ الذي ملأ الغرفة دفئًا:

“ألف مبروك يا فيروز… ربنا يقومك بالسلامة يا بنتي.”

اقتربت فيروز منه بتقدير، قبّلت يده بوقارٍ وحنان، وصوتها الهادئ يتخلل ضوضاء الفرح من حولها وهي تقول:

“الله يبارك فيك يا جدي، وربنا يخليك لينا وتشيل عيالنا كلنا.”

نظر إليها محمد نظرةً طويلة امتزج فيها الحنو بالفخر، ثم ربت على يدها قائلاً بخفوتٍ يليق بجلاله:

“ويخلّيكوا لبعض يا بنتي، الدنيا تحلى بيكم والله.”

اقترب موسى منه بخطواتٍ خفيفة، جلس بجانبه وهو يضع يده على كتفه كأنه يمازحه، وقال بخفةٍ لم تُخفِ رقة المشهد في قلبه:

“وتربّي عيالي زي ما ربّيتني.”

رفعمحمد حاجبه ببطء ونظر له من طرف عينه، قبل أن يهمس بنبرةٍ جافةٍ لكنها مليئة بالحب المبطّن:

“هو إنت أصلاً متربّي؟”

تجمّد موسى لوهلة، شفتاه مفترقتان عن ردٍ لم يجد طريقه، بينما انفجرت ضحكات الجميع في المكان، وخاصة دلال التي كانت أوّل من كتمت ضحكتها ثم انفجرت بها مجددًا وهي تقول بخفّةٍ لاذعة:

“قال يعني هو اللي هيربّي!”

اقتربت بعدها من فيروز بخطواتٍ مليئةٍ بالحيوية، وضعت يديها على كتفيها ونظرت في عينيها بعاطفةٍ حقيقيةٍ رغم المزاح، وقالت وهي تبتسم بعذوبةٍ صافية:

“مش زعلانة إن قلتلهم، صح؟”

هزّت فيروز رأسها نافية بابتسامةٍ ناعمةٍ من قلبٍ مطمئن:

“لأ طبعًا، عمري ماأزعل منك.”

ابتسمت دلال بحماسٍ طفولي، ثم ضمّتها بين ذراعيها قائلة باندفاعٍ صادقٍ:

“مبروك، مبروك، مبروك… فرحانة أوي، أوي، أوي!”

بادلتها فيروز العناق بدفءٍ يفيض حبًّا، ثم همست لها بخفةٍ والابتسامة لا تفارق شفتيها:

“وأنا كمان فرحانة أوي، ولادنا هيتربّوا مع بعض… حاجة تحفة، صح؟”

ضحكت دلال بصوتٍ عالٍ وردّت دون تردّد:

“حاجة معدّية التحفة بكتير.”

وموسى، يجلس بصمتٍ محبٍّ، يراقب المشهد أمامه كمن يرى حلمًا طال انتظاره وقد صار واقعًا.

عينيه تتنقلان بين الوجوه: فيروز تبتسم وسط النساء، دلال تمسك يدها وتضحك، أمه تتحدث بحنانٍ معها، والده صعد مع أعمامه، وزوجاتهم وصلن كذلك، الأصوات تتداخل، والضحكات تتوالى بلا انقطاع.

البيت يعجّ بالناس وبالحياة معًا، بالدفء والضجيج الجميل، ومع كل مباركةٍ تصل إليه، وكل نظرةٍ يلتقطها من فيروز بين الزحام، كان يشعر بأن شيئًا داخله يهدأ ويزدهر في آنٍ واحد.

أحسّ بقلبه يمتلئ على آخره، لا من الفرح وحده، بل من الطمأنينة… الطمأنينة التي لا تأتي إلا حين تعرف أنك في المكان الصحيح، مع الأشخاص الصحيحين، في اللحظة التي كتبها الله لك بعنايةٍ كاملة.

_________________

في جهةٍ أخرى…

كان المكتب يغرق في هدوءٍ ثقيل لا يقطعه سوى صوت أوراقٍ تُقلَّب بين الحين والآخر، وضوء النهار المنكسر على الزجاج ينساب على الطاولة أمامه.

كان يجلس يؤدي مهامه بروتينيةٍ يعرفها جيدًا، كأنه آلة لا تعرف التوقف ولا المفاجآت، لكنّ الحياة كانت تخبّئ له اليوم مفاجأة من النوع الذي يربك النبض.

رنّ هاتفه، فرفع رأسه متثاقلًا، ثم جاءه صوت ليلى، دافئًا، متردّدًا بشيءٍ من الحماسة المخبأة:

“سامي… عندي لك خبر هيخليك تطير من الفرح.”

اعتدل في جلسته، ملامحه امتزجت بين القلق والفضول، وهو يقول:

“خير يا ليلى؟ في إيه؟”

ضحكت بخفّةٍ وقالت ببطء، كمن تريد أن تمنحه لحظةً ليلتقط أنفاسه قبل المفاجأة:

“فيروز حامل!”

تجمّد المكان حوله لثوانٍ، كأن الزمن نفسه توقّف عند الكلمة… عقله يحاول استيعابها، وقلبه سبقها بخطوةٍ وارتجف.

ثم فجأة، كمن أفلت من سكونٍ عميق، انتفض من مقعده، تساقطت الأوراق من بين يديه وهو يهتف بانفعالٍ طفوليٍ صادق:

“أنت بتتكلمي جد يا ليلى؟ فيروز حامل بجد؟!”

جاءه صوتها المفعم بالدفء ليؤكّد الخبر ويزيده واقعًا:

“آه والله حامل، ماما اللي لسه قايلالي. دلال هي اللي بلغتها، وحتى صاحبك من شوية أعلن الخبر في ميكروفون الجامع.”

ضحك بخفةٍ مصدومة، ورفع حاجبيه بدهشةٍ لم تخلُ من عتابٍ محبّ:

“يعني أنا آخر من يعلم؟ نسيتوني ولا إيه؟”

ضحكت ليلى، ذلك الضحك الذي يذيب التوتر قبل أن يولد:

“تلاقي الفرح شغلهم يا حبيبي، ما نلومهمش.”

تبدّدت الغيرة البسيطة داخله، وحلّ مكانها دفءٌ غامر، فابتسم وهو يقول بصوتٍ متأثرٍ يحمل بين نبراته كل ما لم يُقل:

“مش هلومهم… بس بجد، بجد أنا مش مصدّق… أنا هبقى خال يا ليلى، خال! أنتِ مصدقة؟”

جاء ردّها ضاحكًا، لكنه مائل إلى الحنان أكثر:

“أنا مصدقة، بس واضح إنك إنت اللي مش مصدق.”

أجابها، وصوته هذه المرة خرج أكثر هدوءًا، كأنه يكلّم نفسه لا سواها:

“من فرحتي يا ليلى، من فرحتي مش قادر أستوعب… بقولك إيه، أنا هحاول أستأذن وأجيلكم حالًا.”

ردّت بصوتها الناعم، المفعم بالودّ:

“تيجي بالسلامة يا حبيبي.”

أغلق الهاتف، وظل واقفًا لحظةً، يبتسم في صمتٍ لا يعرف له سببًا سوى فيض النعمة، ثم مرّر يده على وجهه، ورفع بصره إلى الأعلى، وتمتم بشكرٍ صامتٍ لله.

نهض بعدها بخفّةٍ غير معتادة، والكون من حوله بدا أكثر إشراقًا، حتى ضوء المكتب الباهت اكتسب لونًا جديدًا… لون الفرح الذي يسكن القلب قبل أن يراه البصر.

_________________

مع مرور الوقت…

وصل سامي إلى البيت، وقلبه يسبق خطواته، كان يلهث بخفةٍ من شدّة الترقّب، وابتسامة واسعة تتسلّل من بين شفتيه رغمًا عنه، كأنها انعكاس لنبضٍ لا يستطيع السيطرة عليه.

صعد الدرج بخطواتٍ سريعةٍ مرتبكة، يعبث بالمفاتيح في يده دون أن يراها، حتى فتح الباب أخيرًا، ودخل كمن يُفتح له باب لحياةٍ أخرى.

كان البيت دافئًا على غير عادته، يفيض بصوتٍ أنثويٍ حنون، تتداخل فيه ضحكاتٌ خافتة مع همساتٍ ناعمةٍ من حديثٍ عائليٍ مطمئن.

توقّف لحظة على العتبة، كأنه يخشى أن يفسد المشهد بنَفَسه، ثم رفع بصره فرأى ما جعله يبتسم دون وعي.

أمه تجلس على الأريكة، وهي تلامس شعر يزيد الصغير النائم برفقٍ، بينما ليلى تجلس بجوارها، تبتسم في صمتٍ مطمئن، ودفء الرضا يملأ وجهها.

لكن عينيه لم تلبث أن استقرتا على فيروز… أخته الصغيرة، قلبه الذي كان يخاف عليه أكثر مما يفصح.

كانت تجلس أمامهنّ، وجهها متورّد، نظرتها خجولة ولامعة كوميضِ سرٍّ جميلٍ لا يُقال، ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها وهي تلامس بيديها فستانها الطويل كأنها تحاول إخفاء سعادتها بخجلٍ طفولي.

انتبهن له حين فُتح الباب، فرفعت فيروز رأسها نحوه، وعيناها تلمعان بفرحةٍ صافية، تجمّد هو في مكانه للحظةٍ، لم يدرك فيها إن كان يحلم أم لا، ثم ابتسم بخفةٍ غالبت ارتباكه، واندفع نحوها.

وقفت هي الأخرى، بخطواتٍ سريعة، لكن سرعان ما تلاقت المسافة بينهما في منتصف الطريق، واحتواها بذراعيه في عناقٍ أخويٍ دافئٍ، عناقٍ يشبه الرجوع إلى الأمان.

ضمّها إلى صدره بحنانٍ حقيقي، ثم همس في أذنها بصوتٍ مبحوحٍ من شدّة الامتنان والفرح:

“مبروك… ألف مبروك يا حبيبة أخوكِ، مش قادر أوصفلك أنا فرحان ليكِ قد إيه… هتبقي أحلى أم في الدنيا.”

ابتعدت عنه قليلًا، لتضع كفّيها على وجهه برقةٍ أختٍ تعرف قلب أخيها جيدًا، وقالت بابتسامةٍ ناعمةٍ:

“الله يبارك فيك يا حبيبي، وعقبال ما تجيب أخ ليزيد يا رب.”

ضحك سامي، تلك الضحكة التي تخرج من عمق القلب حين يكون مطمئنًا، ثم عاد وضمها إليه من جديد، ثم رفع نظره قليلًا نحو ليلى، فابتسمت له بخجلٍ رقيقٍ، فيما أمه تراقبهما بعينٍ دامعةٍ فيها مزيجٌ من الفخر والدعاء.

ألقى نظرةً أخيرة نحو يزيد النائم بهدوءٍ على الأريكة، فابتسم أكثر، وقد شعر أن الدفء قد غمر البيت كله، لكن فجأة، طرق رأسه خاطرٌ طفيف، فابتعد عن فيروز قليلًا وسألها بابتسامةٍ عريضةٍ:

“أومال فين جوزك؟”

_________________

في جهة أخرى…

شعورُ الرِّضا… ذلك الإحساس الدافئ الذي يملأ القلب سكينة، كأنّك تلامس النور بيديك.

هو لحظةٌ تمتزج فيها النعمة بالشكر، والرغبة بالتحقّق، حتى تشعر أنّك نِلت ما كنت ترجوه، بل أكثر ممّا ظننت أنك تستحق. تفيض عيناك دمعًا من شدّة الفرح، لا لأنّك حَصلت، بل لأنّك أُجيبت.

وهكذا كان حاله في تلك اللحظة؛ جالسٌ في ركن المسجد الذي كان يومًا شاهداً على بكائه ودعواته الخافتة، يشكر ربّه في نفس المكان الذي حمل يوماً آلامه وأمانيه المؤجّلة… والآن، نفس الجدران التي سمعت أنينه، تسمع همسه بالشكر، ونفس السجادة التي ارتوت من دموع الضعف، تشهد دموع الامتنان.

أنهى صلاته، وسلّم بطمأنينةٍ وابتسامةٍ تغمر وجهه، ثم رفع كفّيه إلى السماء، يحدّث ربّه بصوتٍ لا يسمعه إلا هو، حتى خَتَم دعاءه ومسح وجهه بخشوعٍ مبلّلٍ بالدموع.

وفي لحظةٍ هادئة، كأنها صُنعت خصيصًا لتُكمل المشهد، انشقّ سكون المكان على صوتٍ مألوفٍ يحمل دفئًا صادقًا:

“عوض ربنا حلو، مش كده؟”

التفت موسى برأسه قليلًا، ورفع عينيه، فإذا به يرى الشيخ سالم، رفيق صمته في هذا المسجد، وسامعه الدائم حين كانت الكلمات تثقل صدره.

ابتسم موسى، ابتسامةً خافتةً اختلطت بدمعةٍ لامعةٍ لم تجد مكانًا لتختبئ فيه، ثم قال بصوتٍ مبحوحٍ تغلّفه الدهشة:

“أجمل مما كنت أتخيل.”

بادل الشيخ ابتسامته، ثم اقترب وجلس إلى جواره، يرقب وجهه كما يرقب المرء مَن خرج من ليلٍ طويلٍ إلى فجرٍ صافٍ.

رفع موسى يده ليمسح دموعه التي انسابت بصدقٍ عفوي، ثم تنفّس بعمقٍ وقال بنبرةٍ تختلط فيها الذكرى بالدهشة:

“تخيل يا شيخ سالم؟ إني من سنة بس كنت باجي هنا، أقعد في نفس الركن ده، أشتكي لربنا وأنا حاسس إن الدنيا كلها ضيقة عليّ… لدرجة كنت ببكي لما الحمل يزيد عليّ، لما أحس إن ماليش سند ولا طاقة أكمل، والنهاردة… ببكي من فرحتي.”

صمت لحظة، وكأنّ الكلمات اختنقت بين الامتنان والذهول، ثم تابع بابتسامةٍ ترتجف على شفتيه:

“مش قادر أصدق اللي وصلت له… حسّيت بدفا حضن أبويا وأمي أخيراً، وشُفت دعم عيلتي ليا… أصحابي وكل اللي بحبهم حواليّا، وشغلي ماشي عال العال… واتجوّزت حب حياتي… لا، وكمان هبقى أب! تخيل يا شيخ سالم، بعد كام شهر بس، هشيل حتة مني بين إيديا… في حضني!”

ضحك ضحكة قصيرة مبلّلة بالدموع، ثم أضاف بخفةٍ ممزوجة بالدهشة:

“والله لو كان حد جه وقالي زمان إني هوصل لكده… كنت خدتُه العباسية بنفسي!”

ضحك الشيخ سالم بخفّةٍ حانية، ثم وضع يده على كتف موسى وقال بصوتٍ عميقٍ تغلّفه الطمأنينة:

“سبحان من يبدّل الحال بحكمةٍ لا نعلمها إلا حين نصل.”

تعلّقت الكلمات في أذن موسى لحظة، كأنها وجدت في داخله مكانها الذي كانت تبحث عنه منذ زمن.

شرد ببصره إلى الأمام، لا يرى شيئًا بعينه، بل يستعيد في ذاكرته طريقه الطويل، بكل ما حمله من تعبٍ وصبرٍ وانكساراتٍ خفية… ثم حرّك رأسه ببطءٍ موافقًا، وقد ارتسم على وجهه تعبيرٌ لا يُشبه سوى من تذوّق طعم الفرج بعد طول انتظار.

فقد أدرك لتوّه أن ما يعيشه الآن ليس صدفةً ولا حظًا عابرًا، بل جزاء صبره على ما مضى، وثمرة ثقته بمن لا يُخلف وعده.

فلا كربَ يدوم، ولا ليلٌ يبقى مظلمًا إلى الأبد، سيأتي الفرج حين يُؤذن له بالوصول… فقط حين نصبر، ونثق، ونسلّم الأمر للرحيم العليم الحكيم.

وفي وسط السكون الذي حلّ على المكان، سكونٍ مهيبٍ لا يُسمع فيه سوى أنفاسٍ مطمئنة، اخترق الأجواء صوتٌ مألوف يتسلّل شيئًا فشيئًا، يتقدّم بخفّةٍ نحوهم.

التفت الاثنان في الوقت ذاته، وإذا بخمسة وجوهٍ يعرفانها جيدًا تقترب، تتقدّم بخطواتٍ مفعمةٍ بالحياة والبهجة…

سامي، كارم، حسن، حسين، ومحسن

.

كان محسن أول من كسر صمت المسجد بضحكته العالية وهو يرفع يديه في الهواء بحماسٍ طفوليٍّ محبّب، هاتفًا بصوتٍ يملؤه الفرح:

“إيه رأيك في إعلان الخبر بصوتك المرة دي؟ أجيبلك الميكروفون؟”

نهضا كلاهما، وابتسم الشيخ سالم، ضحك بخفّةٍ على تصرّف ابنه الذي لم يتغيّر مهما مرّ الزمن، بينما رمقه موسى بنظرةٍ تجمع بين الحرج والامتعاض، نظرة من يحاول أن يُخفي فرحه خلف ملامحٍ متماسكة.

وقبل أن ينطق بكلمة، تقدّم

سامي

نحوه بخطواتٍ ثابتة، وفتح ذراعيه في بساطةٍ صادقةٍ وقال بابتسامةٍ دافئة:

“مبروك.”

ابتسم موسى ابتسامةً واسعة، تلك التي لا تُرى فقط على الشفاه، بل تُضيء الملامح بأكملها، واقترب من سامي ليبادله العناق وهو يقول بصوتٍ تغمره المودة:

“الله يبارك فيك يا خال العيال.”

ضحك سامي بحرارةٍ وهو يربّت على ظهره بقوة، عناقٌ يحمل أكثر مما تعبّر عنه الكلمات، ثم ابتعد قليلًا وهو يعاتبه بنبرةٍ يغلبها الحنان:

“ماكنتش قادر ترفع التلفون وتقولّي؟”

ضحك موسى بخجلٍ بسيط وقال وهو يلوّح بيده:

“أنا والله ماقلت لحد يا غالي، ولا حتى لحقت أفكر أقولكم إزاي، أنا يدوب دخلت الحارة لقيت الأستاذ اللي وراك بيعلن الخبر على الهوا!”

انفجر الجميع ضاحكين، بينما التفتت العيون نحو

محسن

الذي سارع بالدفاع عن نفسه رافعًا يديه في الهواء كعادته:

“أنا شايف إن الموضوع عادي جدًا! ما هو طلب إيدها بالميكروفون في نص الشارع، وأعلن كتب كتابه بالميكروفون برضه، فمش هتفرق يعني لما أعلن خبر الحمل!”

رفع سامي حاجبه في سخريةٍ صامتة، تلك النظرة التي تحمل في طيّاتها ألف تعليق دون أن يقول شيئًا.

أما موسى، فابتسم ببراءةٍ محبّبة وقال وهو يومئ مقتنعًا:

“بصراحة… اقتنعت.”

تعالت الضحكات في أرجاء المسجد، ضحكاتٌ خفيفة لكنها مفعمة بالرضا، كأنها صدى الفرح يرتدّ من جدران المكان.

وحين بدأت الأصوات تخفت شيئًا فشيئًا، اقترب الشيخ سالم بخطواتٍ هادئة من موسى وسامي، وربت على كتفيهما بنظرةٍ دافئةٍ تجمع بين الحنان والدعاء، ثم أدار بصره نحوهم جميعًا، وقال بصوتٍ أبويٍّ رقيق:

“ربنا يكثر من أفراحكم، ويجعل الابتسامة دايمًا على وشوشكم، ويخليكم لبعض.”

رددوا جميعًا “آمين” بخشوعٍ صادق، فابتسم الشيخ وهو يرى في وجوههم ما كان يدعو الله أن يراه منذ زمن، ثم قال وهو يتهيأ للانصراف:

“أسيبكم أنا بقى… اقفل المسجد يا حسن.”

أومأ حسن بالإيجاب في احترامٍ وهدوء، فانصرف الشيخ بخطواتٍ مطمئنة، تاركًا خلفه سكونًا لطيفًا امتزج بعبق الدعاء ودفء اللحظة.

لم يلبث أن كسره صوت

كارم

وهو يقترب بخطوةٍ نحو الدائرة الصغيرة التي جمعتهم، واضعًا يديه على كتفي صديقيه، وقال بابتسامةٍ واسعةٍ مفعمةٍ بالنشاط:

“مش ملاحظين إن أفراحنا زادت الفترة دي؟ أنا كتبت كتابي، وحسين قرى فاتحته وقريب هيخطب، وموسى هيبقى أب… الدنيا والعه معانا!”

ضحك موسى وردّ عليه بسخريةٍ لطيفة:

“انبر فيها إنت لحد ما تولع فينا كلنا!”

انفجروا جميعًا في ضحكٍ جديد، وكان موسى أول من استعاد جديّته، فابتسم في هدوءٍ وقال بنبرةٍ مفعمةٍ بالامتنان:

“بعيد عن الهزار… أنا فرحان أوي باللي بيحصل لنا… عقبال الباقي يا رب.”

التفت نحو

حسن

، ونظر إليه نظرةً فيها دفء ومغزى، وقال بابتسامةٍ خفيفةٍ صادقة:

“عقبال قلبك يا حسن، يدق بقى… علشان نروح ندق الباب على بنت الحلال.”

كانت جملةً عابرة في ظاهرها للبعض، من تلك الجمل التي تُقال في لحظات الفرح وتُنسى سريعًا، لكنها لم تكن كذلك لحسن.

فموسى لم يكن يمزح، بل أصاب بقصدٍ وتراً خفيًّا في داخله، وترًا لم يخمد بعد، رغم كل ما حاول نسيانه.

كلماته تلك لم تمرّ كغيرها، بل أيقظت في حسن ذكرى لم تغادر قلبه،

ذكر

ّه بها… وذكرّه بتلك الفكرة التي ما زالت تؤلمه، فكرة أن هناك من يريدها.

تجهم وجهه للحظةٍ سريعةٍ لا تكاد تُلحظ، كأن ظلًّا عبر ملامحه ثم اختفى، لكنّه تدارك الأمر سريعًا، فارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خافتة، ابتسامةٌ فاترة لا تصل إلى عينيه، ليُخفي بها ما لم يُرد لأحد أن يراه.

شاركهم ضحكاتهم بعدها، هزّ رأسه مجارياً فرحتهم، لكن في داخله كانت سعادته خجولة، خافتة… تُصافح الفرح من بعيد دون أن تقترب منه حقًا.

_________________

مع مرور الوقت…

دخل المسجد بخطواتٍ متوترة، تتقدّمها أنفاس قلقة، حتى وقعت عيناه على ابنه جالسًا في أحد الأركان، متربعًا في صمتٍ يشبه التأمل.

تنفس الصعداء بارتياحٍ خافت، كأن ثقلاً سقط عن صدره، ثم اقترب بخطواتٍ هادئةٍ وقال بنبرةٍ يغلبها القلق الأبوي:

“ماقفلتش الجامع وجيت ليه يا بني؟ قلقت عليك.”

رفع

حسن

رأسه ببطء، وعيناه لا تحملان اضطرابًا بل شيئًا أعمق، وقال بهدوءٍ متزنٍ:

“كنت بصلي… صلاة استخارة يا بابا.”

عقد

الشيخ سالم

حاجبيه بدهشةٍ خفيفة، ثم سرعان ما انفرجت ملامحه في تفهّمٍ عميق.

جلس إلى جواره في سكون، وكأنه لا يريد أن يقطع خيط التفكير في رأس ابنه، ثم قال بصوتٍ وديٍّ هادئ:

“ده معناه إن في حاجة شاغلة بالك… في إيه يا حسن؟”

ظل حسن صامتًا لثوانٍ، يطرق بصره إلى السجادة أمامه، كأنه يجمع شتات مشاعره قبل أن يرفع عينيه أخيرًا ويقول بصوتٍ يحمل مزيجًا من الحسم والراحة:

“لحد دقيقة فاتت كنت تايه ومشوش… بس دلوقتي عرفت أنا عايز إيه.”

ارتسمت على وجه أبيه ملامح فضولٍ ممزوجٍ بالخوف الأبوي، فسأله بهدوء:

“عايز إيه يا ابني؟”

نظر حسن إليه نظرةً صافية، لا ارتباك فيها هذه المرة، وقال بثباتٍ ورتابةٍ:

“عايز أتجوز… أنا بحب لينا بنت عمي فاروق، وعايز أتجوزها.”

#يتبع…

_________________

كتابة/ أمل عبد الرحمن.

أتمنى الفصل يبقى عجبكم، وبعتذر جداً عن التأخير، بس بجد غصب عني، والدتي أجرت عملية الأسبوع اللي قبل اللي فات، وكان عندي امتحانات، فكنت مضغوطة جداً، ومازلت والله بس ماحبتش أتأخر عليكم أكتر من كده.

وأخيرا مستنية رأيكم وتوقعاتكم؟

دمتم بخير… سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق