رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثامن والستون 68 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثامن والستون

الفصل الثامن والستون(لحظة انكشافٍ مؤلمة)

الفصل الثامن والستون(لحظة انكشافٍ مؤلمة)

وها هي مناسبة أخرى تُضاف إلى سجلّ العائلة، لكن هذه المرة لم تكن بين زوايا القاهرة المعتادة، بل في قلب عروس البحر المتوسط،

الإسكندرية

هناك، في أحد أحيائها العريقة التي تعبق جدرانها برائحة البحر والذكريات، بحجراتها العالية وشرفاتها المزخرفة، حيث تمتزج الأناقة القديمة برقيٍّ لا يُصطنع، ودفءٍ لا يُنسى.

في الطابق الثاني من مبنى قديم يطل على شارعٍ يعجّ بالحياة، أقيمت المناسبة في شقّةٍ فوق

الجزارة

التي يملكها والد العروس،

كمال

، رجلٌ يعرفه الحيّ كلّه بابتسامته وكرمه.

اجتمع أفراد العائلتين في الصالة الواسعة التي امتلأت بالألوان والضحكات، والعيون المتلألئة بالدموع الخفيفة.

جلست مِسك إلى جوار

حسين

، وكلاهما يحمل في عينيه مزيجًا من الارتباك والفرحة الصافية، تلك النظرات التي تسبق البدايات الجديدة.

مدّ

حسين

يده بثباتٍ وألبسها دبلتها، وهو ينظر إليها نظرة قصيرة بعينين تبتسمان قبل شفتيه، فارتسم على وجه

مسك

خجلٌ رقيقٌ ازداد وضوحًا تحت ضوء المصابيح الدافئ، ثم بادلت النظر بنظرةٍ صغيرةٍ مملوءةٍ بالرقة، وألبسته دبلته هي الأخرى، كأنها تربط وعدًا بوعدٍ… وقلبًا بقلبٍ.

وفي اللحظة التي اكتمل فيها المشهد، انطلقت

الزغاريد

كأمواجٍ متلاحقةٍ من الفرح، تصعد في أرجاء البيت وتعود، تتقاطع مع صفيرٍ عالٍ أطلقه توأمه

محسن

الذي لم يستطع كتمان نشوته، فارتفع الجوّ كله على وقع الضحكات والتهاني.

ازدحم المكان بالمشاعر: عناقٌ هنا، مصافحةٌ هناك، وعيونٌ دامعةٌ في كل زاوية…

كانت الفتيات يُهنئنها والضحكات تتشابك بينهن، أما

مسك

فكانت تقف في المنتصف، تغمرها نظرات الحبّ والدعوات، تشعر بخفةٍ غريبة كأنها لا تلامس الأرض.

لكن بين كل هذا البهاء، كانت

عينٌ واحدةٌ

لا تشارك في الفرح.

في أقصى المجلس، وقفت

تينا

بوجهٍ متصلّبٍ كأنما سُحب منه الضوء، لم تتكلم، ولم تقترب، فقط كانت تحدّق في

مسك

نظرةً تجمع بين الذهول والاستياء، نظرة من يشعر أنه تمت خيانته للتو.

لاحظت

مسك

غيابها أولًا، ثم لمحتها عبر نظرات

لينا

التي أشارت بخفةٍ نحو الجهة التي تقف فيها أختها.

ابتسمت

مسك

بخفةٍ لا تخلو من الشقاوة، ورفعت يدها عاليًا، ملوّحةً بالخاتم الذي يلمع تحت الضوء، ثم حرّكته قليلًا أمامها وكأنها تتعمّد إثارة غيرتها.

وبالفعل، لم تُخِب

تينا

الظن؛ لوت شفتيها بانزعاجٍ واضح، وأدارت وجهها بتبرّمٍ طفولي.

ضحكت

مسك

حينها ضحكة قصيرةً مكتومة، ثم عادت بوجهٍ هادئٍ لتتلقى المباركات من الفتيات اللواتي تزاحمن حولها، بينما كان

حسين

على الجانب الآخر يتلقى التهاني من الرجال، والفرح نفسه يتنقّل بينهما كما لو كان له جسدٌ واحد وقلبان ينبضان في وقتٍ واحد.

ومع مرور الدقائق، كان المشهد يزداد حياةً…

لم تهدأ الأصوات، بل تصاعدت لتملأ الجدران دفئًا وضجيجًا جميلًا؛ الرجال تجمعوا في ركنٍ يتبادلون الأحاديث والضحكات العالية، والنساء تفرقن في مجموعات، البعض حول العروس يتهامسن ويتهنّئن، والبعض في المطبخ يساعدن في إعداد الضيافة، بينما الأطفال يركضون بخفةٍ وفوضى، يملؤون الأرجاء حيوية.

وفي خضمّ كل هذا الصخب، خرج أحدهم من المطبخ ممسكًا بكوب ماء، بخطواتٍ واثقةٍ وكأن البيت بيته، أو لعلّه كذلك فعلًا، فالبيت بيت أحد أقاربه، وهذا وحده كفيل بأن يجعله يشعر بالألفة المطلقة.

وأثناء توجهه نحو زوجته التي كانت تجلس بجوار دلال حول العروس، توقف فجأة، عندما لمح بطرف عينه تينا، تقف في زاويةٍ بعيدةٍ عن الفتيات، تنكمش على نفسها كما لو أن ضجيج الفرح لا يعنيها في شيء.

عقد حاجبيه بدهشةٍ لم يخلُ منها الفضول، واقترب منها بخطواتٍ هادئةٍ ونبرةٍ ساخرةٍ:

“مالك يا بومة؟”

أبعدت وجهها عنه بضيقٍ واضح، وردّت بجفاءٍ مقتضب:

“مالكش دعوة.”

تأملها لحظة، ثم رفع حاجبه ببطءٍ، وقد خفتت السخرية في صوته لتحلّ محلها نبرةُ اهتمامٍ صادقٍ لا تخطئها الأذن:

“مالك يا بت؟”

ولحسن حظه لم ينتظر طويلاً، إذ أتت لينا من خلفه، وقالت وهي تشير بخفةٍ إلى شقيقتها:

“مضايقة من مسك علشان اتخطبت.”

التفت موسى نحوها مبتسمًا بسخريته المعتادة، ثم نظر إلى تينا قبل أن يقول وهو يرفع حاجبه مجددًا:

“ليه؟ كنتي ناوية تخطبيها إنتِ؟”

زجرته تينا بحدةٍ وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها، أما لينا، فظلت على هدوئها المعتاد، وقالت بصوتٍ متزنٍ أقرب للشرح منه للمشاركة:

“لا، علشان كده مسك خرجت من الحِلف اللي الآنسة تينا عاملاه.”

التفت موسى نحوها وقد ارتسمت على وجهه علامات الفضول، وسأل وهو يرفع حاجبيه في استغرابٍ مصحوبٍ بابتسامةٍ ساخرةٍ صغيرة:

“حِلف إيه؟”

أجابت لينا ببساطةٍ وهدوءٍ شديد:

“حِلف لا للرجالة في حياتنا.”

لثوانٍ ظل موسى يحدق فيها بصمتٍ، قبل أن يفتح فمه ببطءٍ كمن يحاول استيعاب الجملة، ثم فجأة انفجر ضاحكًا، ضحكةً خالصةً من القلب، مدويةً، لم يستطع أن يمنعها مهما حاول.

كانت ضحكته تجذب الأنظار نحوه، لكنه لم يكترث، فقد وجد الموقف مضحكًا أكثر مما يحتمل.

نظرت له تينا باستنكارٍ بالغ، وعينيها تكادان تقدحان شررًا وهي تقول بحدّةٍ ممتزجةٍ بالحنق:

“إيه اللي بيضحك يا سوسة؟”

مسح دمعة الضحك من عينه وهو يلتقط أنفاسه، ثم قال بين ضحكاته المتقطعة:

“قولي إيه اللي مش بيضحك؟ عاملة حِلف ضد الرجالة وزعلانة إن صاحبتك خرجت منه واتخطبت؟ مستني وشك لما ييجي راجل ويدخل حياتك!”

اشتعلت عيناها غضبًا وهي ترد بعنادٍ قاطعٍ، يكاد يكون طفوليًا في براءته:

“مش هدخل أي رجالة حياتي!”

أشار إليها بإصبعه وهو يبتسم ابتسامةً خبيثةً صغيرة وقال بثقةٍ مرحةٍ:

“كان غيرك أشطر يا حبيبتي، ياما قالوا الحب مش لينا، وفي الآخر وقعوا… زيهم زي غيرهم.”

أنهى جملته وهو لا يزال يبتسم، ثم أدار رأسه نحو صديقه الجالس في الطرف الآخر من الغرفة، إلى جوار زوجته، يتبادلان أطراف الحديث في هدوءٍ رائق، وابتسامةٌ دافئةٌ تزيّن وجهه، كأنّ الدنيا بأسرها قد اختُصرت في وجودها قربه.

أشار موسى نحوه برأسه وأكمل ساخرًا بصوتٍ مرتفعٍ يكفي لأن تسمعه تينا:

“حتى اسألي كارم باشا.”

رفعت تينا عينيها نحوه بحدّةٍ واضحة، نظرة ضيقٍ حادّة كالسهم، ثم قالت بنبرةٍ جافةٍ وهي تشيح بوجهها عنه:

“امشي يا موسى من قدامي.”

رفع حاجبه بلامبالاةٍ مصطنعةٍ وأجابها وهو يخطو مبتعدًا:

“كنت ماشي يا أختي من غير ما تقولي، الوقفة معاك بترفع الضغط.”

قالها وهو يرمقها بطرف عينه بابتسامة جانبيةٍ ماكرة، ثم أكمل طريقه نحو زوجته… لكنه توقف فجأة بجانب لينا وهمس لها بصوتٍ منخفضٍ لا يسمعه سواها:

“حاولي تخليها تفك شوية… خديها وخلّيها تشارك في الفرح بدل الوش المأتم اللي مركّباه.”

ضحكت لينا بخفةٍ وهي تهمس له:

“حاضر.”

أومأ لها برضا وهو يبتسم ابتسامة صغيرة ثم واصل طريقه نحو زوجته، يناولها كوب الماء الذي كان يحمله، وقد بدا عليه الارتياح وكأنه أنهى مهمة صغيرة بطريقته المعتادة.

أما لينا، فظلت واقفة تتابعه للحظة، قبل أن تلتفت نحو شقيقتها تينا، التي كانت لا تزال في ركنها، متجهمة الوجه، عيناها تتحركان ببطء نحو الجميع وكأنها خارجة عن إيقاع الفرح.

اقتربت منها لينا بخطواتٍ واثقةٍ، ثم أمسكت بذراعها برفقٍ أولًا، قبل أن تشدها بخفةٍ حين لم تتحرك، وقالت بنبرةٍ تجمع بين الحزم والحنان:

“تعالي معايا.”

قطبت تينا حاجبيها وقالت بعنادٍ صريحٍ وهي تحاول التملص من يدها:

“مش عايزة.”

ابتسمت لينا نصف ابتسامةٍ وهي تردّ بهدوءٍ لا يخلو من السلطة:

“أنا مش بخيّرك يا تينا… أنا بأمرك، ما تنسيش إن الكبيرة.”

رفعت تينا رأسها بتحدٍّ وهي تقول:

“ده هما ست دقايق.”

ضحكت لينا بخفةٍ وأجابت دون أن تترك يدها:

“وإذا… برضه أنا الكبيرة.”

ثم سحبتها معها وسط الضحكات والأنغام، كأنها تجرّها من ضيقها إلى قلب الفرح رغماً عنها،

ومع كل خطوةٍ كانت ملامح تينا تلين أكثر، حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، بدت كإعلانٍ صامتٍ عن انكسار عنادها وبداية تصالحها مع اللحظة.

_________________

في جهة أخرى من الاحتفال…

كان حسين يجلس بجوار شقيقه محسن، وقد بدا عليه الهدوء إلى درجةٍ تُشبه السأم، عيناه تتنقلان بكسلٍ بين الحاضرين، وكأنه يحاول أن يستوعب المشهد من حوله دون أن يندمج فيه حقًا.

بدا للحظة كأنه غارق في تفكيره، ثم مال برأسه نحو محسن وهمس بصوتٍ خافتٍ كأنه يخشى أن يسمعه أحد:

“محسن…”

رفع محسن رأسه إليه وهو يتوقع أن يسمع شيئًا مهمًّا أو مؤثرًا، فأجابه سريعًا:

“نعم؟”

اقترب حسين أكثر وهمس بجديةٍ مبالغٍ فيها:

“أنا جعان.”

ظلّ محسن يحدّق فيه لثوانٍ، وكأنه لم يصدق ما سمع، قبل أن يفتح فمه بدهشةٍ أقرب إلى البلاهة ويقول:

“احنا في خطوبتك لو مش واخد بالك.”

ابتسم حسين ابتسامة باردة وهو يرد بهدوءٍ تامٍّ لا يخلو من العبث:

“هو علشان خطوبتي… ماجعش يعني؟”

ظلّ محسن يحدّق فيه للحظة، تعابير وجهه تتبدّل بين الضيق والذهول، ثم قال بنبرةٍ يغلب عليها السخط:

“يعني أنت عايز مني إيه بالظبط؟ أنا مش فاهم! أجيبلك أكل منين أنا يعني؟ أروح أقولهم: أكلّوا خطيب بنتكم علشان جعان؟”

ابتسم حسين ابتسامة جانبية وهو يقول بجديةٍ متعمدة:

“والله الواحد بيفكر ياخد حماه على جنب ويوصّيه على حتّة كبدة طازة، يروح يعملها في خمس دقايق ويضربها وهو رايق.”

رفع محسن حاجبيه بدهشةٍ تامة، ثم قال وهو يضرب جبهته بكفّه:

“أقسم بالله عقلك واخد أجازة طويلة، جرب تعمل كده وشوف حسن وأبوك هيعملوا فيك إيه! أنا إيه اللي خلّاني أقعد جنبك يا عم؟ ده إنت رخم!”

التفت له حسين للجهة الأخرى وهو يشيح بيده غير مبالٍ:

“مش أكتر منك.”

ظلّ محسن يرمقه بضيقٍ مكتومٍ لثوانٍ، قبل أن يدير وجهه عنه يائسًا، أما حسين، فأسند ظهره للخلف، زافرًا براحةٍ مصطنعةٍ كأن كل ما حوله لا يعنيه، إلى أن تبدّلت ملامحه فجأة… ارتجف حاجباه، وعيناه اتسعتا بقلقٍ غريب، ثم نظر بسرعة نحو أخيه وقال بنبرةٍ خافتةٍ مشوبةٍ بالفزع:

“محسن!”

لم يلتفت محسن إليه هذه المرة، واكتفى بالرد بضيقٍ واضح:

“إيه تاني يا زفت؟”

انحنى حسين قليلًا نحو أذنه وهمس بعجلةٍ:

“في حاجة بتلعب في بنطلوني!”

التفت له محسن ببطءٍ، وجهه مزيج بين السخرية والدهشة، وقال وهو يرفع حاجبه:

“هو الجوع أثر عليك ولا إيه؟”

لكن حسين لم يكن يمزح هذه المرة، نظر إليه بعينين متسعتين وهو يكرر بجديّةٍ غريبة:

“والله العظيم في حاجة بتلعب في بنطلوني!”

تجمّد محسن لوهلة، ثم انحنى ببطءٍ وهو يقول بنبرةٍ متحفّزةٍ لا تخلو من السخرية:

“استنى هشوف… يمكن فار، تاخده تطبخه ونخلص.”

مال قليلًا ونظر أسفل مقعد شقيقه، يزيح طرف الستار بيده، يتأمل المكان بعينٍ فاحصة، وما هي إلا ثوانٍ حتى ارتفع حاجباه وارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة، تلك الابتسامة التي لا تبشّر أبدًا بخير.

تأهّب حسين في مكانه وسأله بقلقٍ واضح، صوته منخفضٌ لكن نبرته متوترة:

“طلع إيه يا لا؟ فار؟”

رفع محسن رأسه ببطء، وعلى وجهه تلك الابتسامة المريبة التي تسبق المقالب، ثم قال وهو يمد يده للأعلى:

“لا… اللي بتاكل الفار.”

وما إن أنهى جملته حتى رفع بيده قطة صغيرة رمادية، تموء بخفّةٍ بين أصابعه، فانتفض حسين في مكانه كمن أصابه تيار كهربائي، اتسعت عيناه وهتف بفزعٍ حقيقي:

“ياريته طلع فار! أبعده عني بسرعة يا لا!”

قهقه محسن وهو يقرّب القطة منه أكثر، قائلاً بمرحٍ متعمّد:

“دي قطة!”

لكن حسين تراجع بجسده للخلف، يرفع يديه كأنه يواجه وحشًا حقيقيًا، ثم قال بارتباكٍ مضحكٍ وهو يلوّح بيده:

“وأنا مال أمي! هو أنا هتجوزها؟”

انفجر محسن ضاحكًا حتى احمرّ وجهه ودمعت عيناه، بينما كان حسين ما يزال واقفًا مشدوهًا أمام المقعد، لا يدرك تحديدًا ما الذي رآه لتوّه.

كانت ضحكات محسن تتعالى في أرجاء الصالة حتى لفتت انتباه الجميع، فالتفت كمال من مكانه وسألهم بنبرة استغراب مشوبة بابتسامة:

“مالكم يا ولاد؟”

حاول محسن أن يكتم ما تبقى من ضحكه وهو يشير إلى القطة قائلاً بصعوبة:

“لقينا دي يا عمي… تحت الكرسي!”

اقترب كمال منهم بخطوات متأنية، والتقط القطة الصغيرة من يد محسن، ثم ابتسم برفق وهو يرفعها قائلاً:

“دي ‘فيونا’… قطة مسك.”

التفت حسين نحوه باندهاش حقيقي، عيناه تتسعان كأنما يسمع شيئًا غير قابل للتصديق:

“مسك… بتربي قطط؟”

ضحك كمال بخفة وأجابه وهو يربّت على القطة الصغيرة:

“أه بتربيهم وهي جدتها، فوق عندها مزرعة كاملة، يمكن ستة أو سبعة قطط، المفروض يكونوا كلهم في الأوضة دلوقتي، بس الظاهر الصغيرة دي هربت وطلعت تتمشى.”

ظل حسين يحدق فيه بوجه خالٍ من التعبير، كأن الخبر نزل عليه من عالم آخر، ثم رمش ببطء بينما كانت علامات الصدمة ترتسم على ملامحه أكثر فأكثر.

أما محسن، فلم يحتمل المشهد، فعضّ على شفته محاولًا أن يمنع انفجار ضحكته الجديدة، لكن صوته خانَه في النهاية وخرجت منه قهقهة مكتومة جعلت حسين يرميه بنظرة حادة.

بينما

رفع كمال حاجبيه مبتسمًا وقال وهو يتجه نحو ابنته:

“هروح أرجّعها لصاحبتها… عن إذنكم.”

رحل كمال حاملًا القطة بين يديه، بينما كان محسن ما يزال يحاول كتم ضحكاته، وكتفاه يهتزان بخفة، أما حسين فظلّ واقفًا في مكانه، مشدود الملامح، كأن الصدمة علّقته بين التفكير والكلام.

مرّت لحظة طويلة، لم يُسمع فيها سوى أنفاس متقطعة وضحكة محبوسة في صدر محسن، قبل أن يلتفت إليه حسين فجأة، بعينين متسعتين وصوت خرج منه متلعثمًا مبحوحًا:

“هو أنا… ينفع أرجع في كلامي؟ وألغي الخطوبة؟”

_________________

في جهةٍ أخرى…

حيث انطلقت الزغاريد وارتسمت البهجة على وجوه النسوة، كان كمال يشقّ طريقه بخطواتٍ هادئة بين المقاعد والأنوار الدافئة.

توقف عند مدخل الركن الذي تجمعن فيه، ثم حمحم قليلًا بنبرةٍ خفيفة جعلت العيون تلتفت نحوه والضحكات تخفت تدريجيًّا.

رفع نظره نحو ابنته وقال بنبرةٍ تجمع بين الدعابة والحنان:

“فيونا عايزة تباركلك يا ست مسك.”

تعالت ضحكات الفتيات، بينما ابتسمت مسك بخجلٍ لطيف واقتربت لتأخذ القطة الصغيرة منه، تمسكها بين ذراعيها كأنها طفلها المدلل، بينما استأذن كمال منهم بإماءة خافتة، ثم غادر بخطواتٍ واثقة تاركًا خلفه همساتٍ خافتة وضحكاتٍ متفرقة.

نظرت مسك إلى القطة بعينٍ مازحة وقالت وهي تلوّح بإصبعها:

“طلعتي إزاي يا شقية أنتِ؟”

اقتربت ضحى بخفةٍ وهي تمد يديها نحو القطة قائلةً بحماس:

“هاتيها شوية يا مسك، العسولة دي مش لازم تفارق حضني!”

ابتسمت مسك وأعطتها القطة برقة، فأخذت ضحى تداعبها برفقٍ ظاهر، نظراتها مليئة بعطفٍ لم يخفَ عن أحد، فهي تحب القطط منذ زمن، ولولا رفض والدتها القاطع لوجودها في البيت، لكانت الآن تملك قطة تشبه هذه في الهدوء والجمال.

تجمعت بعض الفتيات حولهما، تتعالى بينهن الضحكات والنكات، وامتزجت أصوات المزاح بأنغام الأغنية الراقصة في الخلفية، حتى نفد صبر دلال فجأة، وقالت بلهجةٍ مازحةٍ صارمة:

“يا حلوة إنتِ وهي، احنا هنا علشان نفرح بالعروسة مش بالقطة!”

انفجر الجمع ضاحكًا، والفرح يتناثر في الأجواء كشراراتٍ صغيرة من النور، بينما غمزت دلال إلى لينا وقالت بنغمةٍ خفيفةٍ يملؤها الحماس:

“غيرلنا الأغنية دي يا لينا، هاتلنا واحدة تليق على الأجواء دي أكتر.”

ابتسمت لينا وهي تومئ برأسها قائلة:

“حاضر.”

تحركت بخفة نحو الحاسوب الموضوع على الطاولة، وما هي إلا لحظات حتى تبدلت الموسيقى بانسيابٍ عذب، وانطلقت أغنية أكثر بهجةً ودفئًا، كأنها تنفخ في المكان روحًا جديدة من الحياة.

تبدلت ملامح الحاضرين فجأة، الأجواء اشتعلت فرحًا، والضحكات أصبحت أكثر تحررًا، بينما أخذت يمنى بيد مسك تجرّها نحو منتصف الدائرة وهي تقول بحماسٍ طفولي:

“تعالي نرقص شوية يا عروسة!”

ضحكت مسك بخجلٍ جميل، لكنها لم تقاوم، فاستدارت مع يمنى بخفةٍ رشيقة، وفستانها الزهري يدور حولها كغمامةٍ وردية، يجعلها تبدو كزهرةٍ متفتحة في قلب الاحتفال.

وقفت الفتيات من حولها، يصفقن ويشجعنها، تتطاير الضحكات بينهن، ومن بينهن تينا التي كانت حتى قبل دقائق تعاني ضيقًا واضحاً، لكنها الآن، ومع كل نغمةٍ، كانت تذوب ابتسامةً وتشارك صديقتها الفرحة، كأن الأجواء غسلت قلبها من الغضب.

على الجانب الآخر، كانت دلال وفيروز وليلى وميرنا تصفقن بإيقاعٍ مرحٍ رقيق يواكب الموسيقى، وأحيانًا تطلق دلال زغرودةً طويلة تملأ المكان بهجةً، فتضحك الفتيات من حولها، بينما تحاول فيروز أن تقلدها، لكن صوتها يخرج متقطعًا فتثير موجة جديدة من الضحك.

وفي خضم تلك الفوضى الجميلة، وبينما الأنوار تتراقص على الوجوه، لمحت دلال من بعيد موسى يقف في الجهة المقابلة، يراقبها مبتسمًا، ثم أشار إليها بخفة أن تقترب.

توقفت دلال عن التصفيق فجأة، وتبادلت نظرة سريعة مشوبة بتساؤلٍ وفضول مع فيروز، ثم انسلت من بين الحضور بخفةٍ نحو موسى، الذي كان يقف عند الطرف المقابل، يراقب شيئًا بعينين لامعتين.

وقفت أمامه وسألت بنبرةٍ منخفضةٍ يغلب عليها الحذر:

“في إيه؟”

لم يُجب بالكلام، بل أشار برأسه إلى الاتجاه المقابل، نحو الشرفة المطلة على الشارع، تابعت نظراته، وحين رأت ما يراه، اتسعت عيناها بدهشةٍ تملؤها الفرحة: الشيخ سالم يقف هناك إلى جوار ابنه حسن، ومعهما فاروق والد لينا.

وضعت يدها على فمها وهي تهمس بفرحٍ لا يُكتم:

“بيعملوا اللي في بالي بالك؟”

ابتسم موسى ابتسامةً جانبية، وهزّ رأسه بثقةٍ وهدوءٍ مفعم بالرضا:

“آه… حسن قالي من شوية، الخطة نجحت يا سُكر.”

غمز لها بخفةٍ في نهاية جملته، فارتسمت على وجهها ملامح انفعالٍ جميل، بين الدهشة والفخر والحماس، ثم رفعت رأسها إليه، تلمع عيناها كطفلةٍ على وشك أن تفصح عن سرٍّ جميل، فقال لها وهو يكتم ضحكته:

“يلا، روحي قوليلها… خليها تفرح أكتر.”

لم تحتج لأكثر من تلك الجملة؛ انطلقت كنسمةٍ سريعة تخترق صفوف الفتيات حتى وصلت إلى لينا، أمسكت بذراعها فجأة دون أن تنبس بكلمة، فارتبكت الأخيرة وسألت بقلقٍ خافت:

“في إيه يا خالتو؟”

توقفت دلال عند منتصف الشقة، والتفتت نحو الشرفة، وأشارت بعينيها فقط، دون أن تنطق بحرف.

تبعت لينا نظراتها، التفتت ببطء، وعندما رأتهم _والدها واقفًا أمامه الشيخ سالم، وإلى جانبهم حسن_ تجمدت في مكانها.

تسمرت أنفاسها في صدرها، وتعلقت نظراتها بالمشهد كأنها تخشى أن يختفي إن رمشت، كانت ملامحها بين الذهول والامتنان، وعيناها تمتلئان ببريقٍ رقيقٍ متردد بين البكاء والابتسام.

لقد رأت ما تمنته طويلًا في صمت، ما صلّت لأجله في سرّها، دون أن تجرؤ على الحلم به علنًا… وها هو الآن يتحقق أمامها، حيًّا، واقفًا هناك، بثلاثتهم معًا.

ظلت تحدق في المشهد أمامها بعينين تلمعان كقطرتين من ضوء، لا تكاد تصدق أن ما تراه حقيقي.

نعم، لم تكن تسمع ما يقولونه، لكن ملامحهم كانت كافية؛ ابتسامة والدها الهادئة، وخجل حسن الواضح، وتلك التربيتة الخفيفة على كتفه… كل شيء قال لها دون كلمات إن أمنيتها قد صارت واقعًا.

دقيقة تتلو الأخرى، والوقت يمرّ ببطءٍ محمّلٍ بالترقّب، حتى انقضت عشر دقائق كاملة، وهي ما تزال واقفة بجوار دلال، تتابع المشهد بصمتٍ مدهوش، لا تسمع ما يُقال، لكنها تقرأه في الوجوه، في الإيماءات، في نظرات الرضا.

خرج الرجال أخيرًا من الشرفة، ولم تكد تخطو دلال خطوة حتى اخترق الضجيج صوتٌ مألوفٌ يهتف بحماسةٍ مميّزة:

“حاسس إننا نايمين، وأنا مش متعوّد على كده! أنا عايز إسكندرية كلها تسمع فرحتنا!”

توجّهت الأنظار فورًا إلى مصدر الصوت، إلى

كارم

، الذي كان يقف في منتصف الجمع، ممسكًا بطبلةٍ لامعةٍ كأنها امتدادٌ لروحه المرحة، ثم صرخ ضاحكًا وهو يشير نحو صديقه:

“يلا مزّجنا يا حبيب أخوك!”

اتسعت ابتسامة

محسن

، التقط الطبلة من يده، جلس بخفةٍ ووضعها على فخذه، لتبدأ النغمة الأولى تدقّ في قلب المكان، قويةً، نابضةً بالحياة.

تعالت الضحكات، وتجمّع الرجال حول محسن، بعضهم يغنّي، وبعضهم يصفّق، والنساء من بعيد يطلقن الزغاريد التي اخترقت جدران البيت كأجنحة من الفرح.

اشتعلت الأجواء أكثر حين اندفع

موسى

و

كارم

يرقصان مع

حسين

وسط التصفيق والهتاف، وما لبث أن انضم إليهم

سامي

و

حسن

، لتتحوّل اللحظة إلى مشهدٍ مكتملٍ من البهجة الصافية، كأن الفرح نفسه قرر أن يسكن المكان.

لكن الفرح لم يكن في الأصوات فقط، بل في القلوب أيضًا…

فـ

فيروز

، كان قلبها يرقص كما يرقص زوجها الآن، تتابعه بعينين يملؤهما حبٌ دافئ، وتضع يدها على بطنها في حنوٍّ، لتكتمل لوحتها الصغيرة بالسكينة والابتسامة.

و

دلال

، اتسعت ضحكتها حين رأت زوجها ينضم للرقص وسط التصفيق، فرفعت يدها بزغروطةٍ مدوّيةٍ، جعلته يلتفت إليها مبتسمًا، فبادلته نظرةً تفيض بالعمر كلّه، وكأن الزمن توقّف بينهما على لحظة حبٍّ خالصة.

أما

ليلى

، فقد لمعت عيناها وهي ترى زوجها يقترب منها، يأخذ صغيرها الذي وقف بجوارها، يرفعه عاليًا، يضعه على كتفيه، ثم يدور به وسط الدائرة في ضحكٍ طفوليٍّ صادق، فتبتسم هي في صمتٍ ممتنٍّ، كأنها تلتقط تلك اللحظة لتخبئها في قلبها إلى الأبد.

وفي زاويةٍ أخرى، كانت

ميرنا

تتابع زوجها _وكم ما زالت الكلمة غريبةً على سمعها، لكنها محببةٌ لروحها_ تراه يرقص ويضحك بين الجميع، وهو السبب الأول في اشتعال هذه الضجة السعيدة.

أما

مسك

، فكانت تصفق بانفعالٍ طفولي، قلبها يرفّ فرحًا وهي تراقب

حسين

بين أصدقائه، ودبلته تلمع في إصبعه كما يلمع الفرح في عينيها.

و

لينا

، بجوارهم، تتابع

حسن

بنظرةٍ خجولةٍ لا تخفى، تخفيها خلف تصفيقها الرقيق، بينما قلبها يدقّ كطبول محسن، تتخيل تلك اللحظة التي يدخل فيها من باب بيتها، ليطلب يدها رسميًا، وتشعر أن تلك اللحظة أقرب مما كانت تظن.

فرحٌ في كل زاوية، في كل نظرة، في كل نبضة.

فرحٌ يعلو فوق الموج، يملأ سماء الإسكندرية، وكأن البحر نفسه يصفّق لهم بموجه.

فرحٌ جديد، يشبه وعدًا طيّبًا بأن القادم أجمل.

_________________

في اليوم التالي…

وعلى عكس صخب الأمس، كان اليوم هادئًا، رتيبًا، كأن الحياة استعادت إيقاعها العادي…

ولج إلى بيته بخطواتٍ متثاقلة، يعلو كتفيه أثرُ يومٍ طويلٍ من العمل، وقد كانت رائحة الدفء تملأ المكان، رائحةُ بيتٍ ينتظره فيه قلب.

ألقى مفاتيحه على المنضدة الصغيرة بجوار الباب، وخلع حذاءه بتنهيدةٍ امتزج فيها التعب بالارتياح، ثم نادى بصوتٍ هادئ يحمل شوقًا خفيًا:

“فيروز…”

جاءه صوتها الرقيق من المطبخ، دافئًا كنسمةٍ ليليةٍ في نهاية نهارٍ حارّ:

“تعالَ، أنا في المطبخ.”

ابتسم دون أن يشعر، وكأنّ الصوت وحده كفيلٌ بأن يُنسيه صخب يومه، ثم سار نحوها بخطواتٍ متأنية، وما إن دخل حتى رآها واقفة أمام الحوض، تغسل بعض الأسماك بتركيزٍ وهدوء، عقد حاجبيه، وسألها:

“بتعملي إيه؟”

التفتت إليه بابتسامةٍ صغيرةٍ تُضيء وجهها، وقالت وهي تواصل عملها:

“بعمل سمك، ماما عبير كانت هنا النهاردة، وقعدنا شوية نحكي، وقالتلي إنك بتحب السمك المقلي بتتبيلة معينة، فأخدت الوصفة منها وقلت أعملهالك.”

رمقها بنظرةٍ امتزج فيها الامتنان بالقلق، ثم اقترب منها بخطوةٍ حذرة، صوته خرج دافئًا لكن يحمل شيئًا من العتاب الخافت:

“طب ليه تتعبي نفسك؟ كنا نطلبه من برّه وخلاص، أو أجيبه وأنا راجع… أنتِ كنتِ تعبانة الصبح، كان المفروض ترتاحي.”

رفعت رأسها نحوه مبتسمة رغم الشحوب الواضح في ملامحها، وقالت بنبرةٍ تحاول أن تُطمئنه:

“ما تخفش والله بقيت أحسن، وبعدين ده تعب طبيعي علشان أول الحمل، وماما عبير جات زي ماحضرتك طلبت منها، وخدت بالها مني لحد ما بقيت تمام.”

نظر إليها للحظةٍ طويلة، ثم قال وهو يشيح بوجهه قليلًا، يخفي وراء صوته حنينًا وقلقًا:

“ما هو أنتِ اللي أصريتي أروح الشغل، وما وافقتيش أفضل معاكي.”

ضحكت بخفةٍ متعبة، ووضعت ما في يديها في الطبق أمامها، ثم التفتت نحوه بعينين تلمعان بودٍّ خالص، وقالت بنبرةٍ تحمل رقةً ممزوجةً بعتابٍ لطيف:

“هو أنا كل ما هتعب هتقعد من شغلك وتتعطل بسببي؟”

ابتسم وهو يقترب منها قليلًا، صوته هادئ لكن كلماته خرجت بحزمٍ فيه حنان:

“فين العطل بس؟ أنا ممكن أشتغل من البيت عادي جدًا، ما أنا لسنين كنت بشتغل من البيت والشغل كان ماشي مية المية.”

رفعت حاجبيها بدهشةٍ خفيفة وقالت:

“بس دلوقتي عندك موظفين، ومحتاج تكون هناك علشان تتابع.”

هز رأسه بثقةٍ وهو ينظر إليها بعينين جادتين:

“في غيري اللي يقدر يشرف عليهم، بس مفيش غيري اللي واجبه ياخد باله منك.”

توقفت كلماتها عند حافة الشفاه، وزفرت بقلة حيلةٍ كأنها استسلمت لحججه التي تُرهقها أكثر مما تُقنعها:

“مش هقدر عليك، صح؟”

ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ صغيرة، وقال وهو يرفع حاجبه في مزاحٍ خفيف:

“في الموضوع ده بالذات؟ لأ.”

ضحكت بيأسٍ لطيفٍ يكسوه الدفء، فابتسم هو الآخر، ثم قال وهو يخلع ساعته متجهًا نحو الحوض:

“هأغسل إيدي وأجي أساعدك.”

لم تمر ثوانٍ حتى كان واقفًا إلى جوارها، وبدأ يتعامل مع الأسماك تحت إشرافها الدقيق

، بينما جلست

هي على الطاولة خلفه، تقطع الخضروات بخفةٍ وتراقبه بابتسامةٍ صغيرة لا تفارق شفتيها.

التفت نحوها وهو يمسك بإحدى السمكات التي كان يُتبّلها، وقال وهو يرفعها نحوها متسائلًا:

“كده حلو؟”

نظرت إليها بنظرة الخبيرة وابتسمت بخفة:

“آه، بس دخل التتبيلة كمان جواها.”

ضحك وقال وهو ينفذ تعليماتها بانتباهٍ كطفلٍ يرضي معلمته:

“ماشي، أوامرك.”

ابتسمت بخفةٍ وهي تعود لتقطيع ما في يديها، وبعد لحظاتٍ قصيرة، رفعت نظرها نحوه وسألت وهي تراقبه بنظرةٍ تجمع بين المزاح والفضول:

“صحّ يا موسى… هو أنت كنت بتساعد ماما عبير زي ما بتساعدني كده؟”

توقفت يداه في منتصف الحركة، ثم التفت نحوها بنصف ابتسامةٍ وملامحٍ توحي باسترجاع ذكريات قديمة، وقال بنبرةٍ مازحةٍ لا تخلو من الصدق:

“ربنا يعلم إني كنت دايمًا ناوي أساعدها… بس كنت أول ما أعدي عتبة المطبخ، ألاقي الشبشب في حضني!”

انفجرت ضحكتها تلقائيًا، ضحكة دافئة ملأت المطبخ بحياةٍ خفيفة، بينما هو اكتفى بابتسامةٍ صغيرةٍ تحمل فخرًا خفيًا بأنه السبب وراء تلك الضحكة، ثم عاد بعدها ليكمل عمله بهدوء، كأنّ الحوار أعاد إليه نشاطه بعد يومٍ طويل.

ولمّا انتهى، غسل يديه ثم التقط الطبق الذي وضع فيه الأسماك المتبلة واقترب منها، يسأل بنبرةٍ عمليةٍ لكن لطيفة:

“أعمل إيه دلوقتي؟”

رفعت نظرها نحوه سريعًا ثم قالت:

“هنسيبهم شوية لحد ما يتبلوا، وبعدها نقليهم.”

“تمام.”

قالها وهو يتجه نحو الطاولة الخشبية، وضع الطبق عليها بعنايةٍ كما لو كان يتعامل مع شيءٍ ثمين، ثم غطّاه بحرصٍ قبل أن يعود إليها بخطواتٍ واثقةٍ هادئة، ويسألها مبتسمًا:

“أعمل إيه تاني؟”

هزّت رأسها وهي تتابع تقطيع الخضروات وقالت:

“مفيش بقى، أنا هخلّص السلطة، وبعدين أعمل الرز وخلاص.”

تراجع خطوةً إلى الخلف وأشار نحوها بيده كمن يعلن تحديًا لطيفًا:

“لأ، أنا هعمل الرز… بس تابعي معايا علشان ما أُعكش.”

رفعت حاجبيها بدهشةٍ خفيفةٍ امتزجت بضحكةٍ صغيرة، بينما التفت هو نحو الخزانة وجمع الأدوات التي يظنها ضرورية لغسل الأرز، يتحرك بخطواتٍ جادةٍ وكأنه مقبلٌ على مهمةٍ مصيرية.

وهي تراقبه بصمتٍ لطيف، بينما بدأت بتوجيهه من بعيد، صوتها ينساب خلفه بنغمةٍ دافئةٍ تجمع بين المزاح والحرص:

“خلي بالك بس… حاول ماتوقعش رز في الحوض.”

أجاب دون أن يرفع رأسه، وهو يملأ الوعاء بالماء:

“حاضر.”

كان صوته جادًا على نحوٍ مضحك، وكأنه يتلقى تعليماتٍ حساسة في معملٍ لا في مطبخٍ صغير.

ابتسمت في صمتٍ وهي تتابعه بعينيها، تنظر إليه وكأنها تراه لأول مرة من جديد، بنظرةٍ مملوءةٍ بدهشةٍ ناعمةٍ وإعجابٍ صادق.

كانت يده تتحرك ببطءٍ داخل الوعاء، يغسل الأرز بحذرٍ كمن يخشى أن يؤذي حباته البيضاء، وكل لمسةٍ منه تحمل عنايةً أكثر مما يقتضيه الموقف.

لم تستطع إلا أن تبتسم بعمقٍ، فالكائن الذي أمامها يجيد أن يكون كل شيء دون أن يدّعي شيئًا.

قالت وهي تميل قليلاً على الطاولة، نبرتها مرحة لكن عينيها تشي بدفءٍ عميق:

“يا بختي والله… متجوزة راجل عسول وحنين، وهاكر قد الدنيا، وبيزنس مان كبير، وشيف تحت التدريب، ومأذون بيوفق راسين في الحلال.”

انفجر ضاحكًا، ضحكةً حقيقيةً خرجت من القلب، تملأ المكان بخفةٍ وسكينةٍ في آنٍ واحد، ثم التفت نحوها ومسح يده في المنشفة وقال بنبرةٍ مازحةٍ:

“أوافقك في كل اللي قلتيه، ما عدا آخر نقطة… علشان أنا مش موافق أبقى مأذون، أو بمعنى أصح خاطبة، هما اللي بيدبسوني.”

رفعت حاجبها بدهشةٍ مشاغبة وسألته:

“بجد! طب مين اللي دبسك وخلاك تطلب إيد خالتو شمس لعمو مصطفى؟”

ساد لحظة صمتٍ قصيرة، خفت فيها ضوء المزاح في عينيه، ثم قال بعد تنهيدةٍ خفيفة:

“لأ… محدش دبسني في ده، ولو عايزة الحق، لو فعلاً في يوم حبيت أكون مأذون، هجوز الاتنين دول، أدفع نص عمري بس يرجعوا لبعض.”

كان صوته هذه المرة خفيضًا، جادًّا على نحوٍ يختلف عن كل ما سبق من الحديث، كأن نبرة المزاح التي كانت تملأ المطبخ قبل دقائق تلاشت لتحل محلها نغمة حقيقية، ثقيلة بعض الشيء.

نظرت إليه فيروز نظرةً يعلوها الأسى، وقالت بهدوءٍ مشوبٍ بالرجاء:

“مش كنتوا متفقين أنت وأدهم؟ مفيش أي جديد؟”

زفر موسى أنفاسه ببطء، كأن الإجابة تحمل أكثر مما يُقال، ثم قال بصوتٍ متعبٍ فيه صدق وواقعية:

“يعني… أنا جاي معاه أصلاً، لما سألته قالي إنه بيحاول مع خالتي شمس… بس للأسف، في حد ضده.”

رفعت رأسها قليلًا وقالت بثقةٍ وشيء من الفطنة:

“عالية.”

أومأ برأسه موافقًا، وصوته اتخذ نبرةَ من يعرف تمامًا ما يقول:

“بالظبط، قالي إن كل ما يحاول يلين قلب خالتي شمس على عمه، أو حتى يشكر فيه قدامها، تيجي عالية وتقلب الترابيزة عليه… يعني باختصار، خالتي شمس دلوقتي زي اللي متعلّقة في الهوا… لا هي طايلة أرض ولا طايلة سما.”

سكت قليلًا، بينما كانت فيروز تستمع بعينٍ يملؤها التفكير، ثم قالت بنبرةٍ تمزج بين الملاحظة والشفقة:

“المشكلة في عالية فعلًا… أنا ماقعدتش معاها غير مرة، بس خدت بالي إنها عنيدة… عنيدة جدًا، تعرف.. أنا ودلال والبنات حاولنا نقرب منها، نخليها تتعوّد علينا، بس هي رافضة خالص، كل مرة بنعزمها تخرج معانا أو تقعد شوية، ترفض بحجج مختلفة، مش عايزة تختلط بينا أصلًا.”

أومأ موسى وهو ينظر إلى نقطةٍ ثابتةٍ أمامه، وصوته خرج حاسمًا لكن فيه شيء من الحزن العميق:

“تعرفي… لو عالية لانت، كل حاجة هتتصلح… العقدة عندها، هي المفتاح اللي ماسك الباب كله.”

ساد بعدها صمتٌ قصير، لم يكن صمتًا عابرًا، بل من النوع الذي يترك بين الاثنين إحساسًا بثقل الحكاية.

صوت الماء الخافت من الحوض بدا وكأنه يملأ الفراغ بينهما، بينما فيروز أطرقت رأسها تفكر: كم من العُقد في الحياة تبدأ من قلبٍ واحدٍ متحجّر… وكم من البيوت يمكن أن تُشفى لو لانَ قلبٌ واحد فقط.

_________________

في جهةٍ أخرى…

وضعت شمس آخر الأطباق على الطاولة بعنايةٍ زائدة، وكأنها تحاول أن تُلهي نفسها في ترتيب الأشياء لتتجنب ترتيب أفكارها.

مسحت يديها في المنديل ثم رفعت رأسها تنادي بنبرةٍ دافئةٍ، لكنها تحمل تعب الأيام المتراكمة:

“يلا يا أدهم.”

تزامن صوتها مع خروجه من غرفته، وقد بدّل ملابسه للتو بعد يومٍ طويلٍ من العمل، بدا على وجهه الإرهاق، لكنه حاول أن يخفيه بابتسامةٍ صغيرة وهو يقول بهدوءٍ معتاد:

“جاي أهو.”

اقترب وسحب مقعده، جلس في مكانه بثقلٍ يشبه ثقل يومه، ثم تناول الملعقة وبدأ يحرّك الطعام أمامه دون شهيةٍ واضحة، قبل أن يسأل بنبرةٍ يغلب عليها القلق أكثر من الفضول:

“هي عالية مش هتاكل؟”

رفعت شمس نظرها نحوه، وفي عينيها ظلّ الحزن المقيم منذ أسابيع، وقالت بصوتٍ مبحوحٍ كأنّه يحمل اعتذارًا عن عجزٍ طويل:

“مش عايزة… من الصبح ما طلعتش من الأوضة أصلاً.”

تنهد أدهم ببطء، وأسند ظهره إلى الكرسي متأملًا السقف لوهلةٍ، قبل أن يقول وهو يهز رأسه في استياءٍ هادئ:

“هتفضل مقموصة كده كتير؟”

أطرقت شمس برأسها، وقد خيّم على ملامحها مزيجٌ مرهق من الأسف والحنان، ثم قالت بصوتٍ واهنٍ يحمل تعب الأيام أكثر مما يحمل شكوى اللحظة:

“والله ما عارفة يا أدهم… أنا تعبت، والله تعبت ومابقتش عندي طاقة.”

نظر إليها أدهم مطولًا، يَقرأ في عينيها ما عجزت الكلمات عن قوله، ثم مدّ يده بهدوء ووضع كفه فوق يدها، كأنه يَعدها ضمنًا بشيءٍ لا يُقال.

ثم قال بصوتٍ خافتٍ فيه رجاء:

“ماتزعليش علشان خاطري… أنا هخلص وأدخل أتكلم معاها، بس ماتزعليش.”

تنهدت شمس بخفوتٍ وقالت:

“بس بالله عليك يا أدهم ماتفتحش الموضوع نفسه، هو اللي عمل كل المشاكل دي.”

كانت تقصد بذاك الموضوع: “مصطفى”، فتنفس أدهم بعمق وزفر، ثم أومأ برأسه قائلًا:

“ماشي، حاضر… يلا كلي.”

أرسل ابتسامة دافئة تُخفي قلقه، فردّت بابتسامةٍ خفيفةٍ فيها امتنانٌ أكثر من فرح، ثم شرعا يتناولان الطعام في صمتٍ وديٍّ كأن بينهما اتفاقًا غير منطوق على تأجيل الوجع.

________________

_

في جهة الأخرى…

كانت جالسة في غرفتها، بين يديها كتابٌ فتحته أكثر من مرة دون أن تقرأ فعليًا، فصفحات الكلمات لم تعد تُسكِت ضجيج رأسها، فعقلها كان يخذلها في كل مرة، وقلبها يُعيدها إلى ذات النقطة… إليه.

كلما حاولت أن تُبعد الفكرة، عادت لتتساءل من جديد: كيف سيفتح والدها الموضوع؟ متى؟ وهل سيوافق أصلًا إن وافقت هي؟ أم أن كل شيء سينتهي قبل أن يبدأ؟

أفكار قصيرة ومتلاحقة كانت تثقل رأسها، أغلقت الكتاب بهدوء، وأسندت ظهرها إلى الوسادة خلفها، تُغمض عينيها محاولة تهدئة توترٍ خفيّ، ثم زفرت تنهيدة طويلة تحمل بين طيّاتها قلقًا وخوفًا وشيئًا من الأمل.

وبينما كانت تحدّق في سقف الغرفة بعينين شاردتين، امتدت يدها إلى الدرج الجانبي، أزاحت بعض الكتب وسحبت شيئًا صغيرًا… منديله.

تسلّل دفء ابتسامة إلى وجهها وهي تلمس القماش ببطء، كأنها تلمس لحظة من الماضي لا تُنسى، ثم تذكّرت ليلة أمس عندما كان يقف مع والدها… ارتسمت على وجهها ابتسامة أوسع، مزيج من الفرح والخجل.

لكن اللحظة لم تكتمل؛ انتفض جسدها على صوت الباب يُفتح فجأة، فخبأت المنديل سريعًا تحت الوسادة، ورفعت رأسها نحو أختها التي قالت بنبرةٍ عادية لا تعرف وقعها عليها:

“بابا جه… وعايزك برّه.”

________________

_

على الجهة الأخرى…

فرغا كلاهما من تناول الطعام، ونهضت شمس لتجمع الأطباق، فسارع هو لمساعدتها، سلّمها آخر طبقٍ وقال بابتسامةٍ لطيفةٍ:

“اتفضلي يا ماما.”

أخذته منه وابتسمت بدفءٍ أموميٍّ صادق، ثم قالت:

“أنا عاملة كيكة، خدلك حتة منها، وأنا هنزل أوصل الطلبية دي لخالتك أم محمد وهرجع بسرعة.”

أومأ أدهم برأسه وهو يتمتم بهدوءٍ:

“ماشي…”

بادلته شمس إيماءةً قصيرةً قبل أن تتناول الحقيبة التي أعدّت فيها طلبية الطعام، ثم غادرت بخطواتٍ هادئةٍ تحمل تعب الأيام وثقل الهمّ.

ظلّ أدهم يراقبها حتى اختفى ظلّها خلف الباب، فأغلقه ببطء، وأسند ظهره إليه لحظةً كأنه يحاول أن يمنع شيئًا من الانفلات داخله.

زفر زفرةً عميقة، ثم اتجه نحو المطبخ، التقط كوبًا من الماء واحتساه دفعةً واحدة، كأنه يبتلع معه توتره، ثم ألقى نظرةً نحو غرفة شقيقته، تلك الغرفة التي باتت مغلقة أكثر مما ينبغي.

ظلّ صامتًا لحظة، ثم تنفس بعمق واتجه نحوها بخطواتٍ مترددةٍ لا تخلو من الحذر، رفع يده وطرق الباب برفقٍ أول مرة، فلم يجبه سوى الصمت، انتظر قليلاً، ثم أعاد الطرق بصوتٍ أوضح، لكن لا حياة في الداخل.

زفر مجددًا، وبدت ملامحه أكثر توترًا وهو يقول بنبرةٍ حاول أن يُمسكها بين الحزم واللين:

“افتحي يا عالية… بلاش شغل العيال ده.”

سكت ثانية، كأنه يُعطيها فرصة، ثم عاد يطرق الباب وهو يضيف بصوتٍ أكثر رجاءً هذه المرة:

“أمك نزلت… خلينا نتكلم يمكن نوصل لحل.”

لم يأته رد، لا حركة ولا همسة من الداخل، فقط صمتٌ كئيبٌ يُثقل الأجواء.

زفر بضيقٍ ورفع يده مجددًا ينوي طرق الباب، لكن قبل أن تلامس أصابعه الخشب، انفتح فجأة لتظهر هي، واقفةً أمامه بوجهٍ جامدٍ خالٍ من الحياة.

أسقط يده ببطء، وتسللت إلى عينيه لمحة ارتياحٍ عابرة وهو يتمتم:

“أخيرًا…”

لكنها لم تُمهله حتى يلتقط أنفاسه، إذ قالت ببرودٍ قاطع وصوتٍ يحمل حدّةً لا تخفى:

“أنا ماعنديش حاجة أقولها، لأني قلت كل اللي عندي يا أدهم، وأصلاً خلاص… أنا أخدت قراري… أنا همشي، مش هقعد هنا أكتر من كده، لو عايزين تفضلوا براحتكم، بس أنا مش هفضل.”

تجمّدت نظراته عليها لحظة، بين الذهول والغضب، ثم قال بنبرةٍ حادةٍ اختلط فيها الألم بالاستنكار:

“إنتِ عايزة توصلي لإيه بالظبط؟ ليه رافضة تكون أمك سعيدة؟ ليه رافضة رجوعها لعمو مصطفى؟ ليه مصممة تضغطي عليها علشان تمشي من هنا؟”

رفعت ذقنها بشموخٍ متصلب وقالت بوضوحٍ جاف:

“علشان أنا مش عايزة حد يدخل حياتنا… مش عايزة حد ياخد مكان أبونا.”

صمت لبرهة، ثم أطلق ضحكة قصيرة، خالية من الفرح، وقال بمرارةٍ قاتمة:

“أبونا؟ إنتِ مصدقة نفسك يا عالية؟ أبونا مين؟ هو كان أب لينا أصلاً؟ أبوك ما نجحش يبقى حاجة… لا زوج كويس، ولا أب، ولا حتى راجل يوقف على رجله، نفع بس يبقى تابع لأخوه.”

شهقت عالية وكأن كلماته صفعة، ثم ردت بعنادٍ مجروح:

“مهما عمل يا أدهم، هيفضل أبوك… اللي جابك على الدنيا، واللي شايل اسمه.”

ابتسم ابتسامةً مائلة إلى الألم، وقال بنبرةٍ خافتةٍ لكنها مثقلة بالقهر:

“ياريتني أقدر أمسح اسمه… ياريت، علشان لو كنت بحبه يوم، هو نفسه محا حبي واحترامي ليه لما خلانا تحت رحمة أخوه اللي ما يتسماش… فبلاش تستخدمي ده حجة، أنا عارف إن في سبب تاني أقوى… قوليلي يا عالية، إيه هو؟”

صمتت عالية للحظاتٍ، تائهةً بين ما تشعر به وما تخشاه، ثم هربت بعينيها بعيدًا، كأنها تبحث عن مخرجٍ من نظراته التي تحاصرها.

ابتسم هو بمرارةٍ وهو يراقبها، وقال بصوتٍ منخفضٍ ينزف إدراكًا:

“الناس… خايفة من كلام الناس، صح يا عالية؟”

لم تجبه، فقط شدّت يديها إلى صدرها كمن يحتمي بنفسه، فتابع هو وهو يقترب خطوة:

“خايفة يقولوا رجعت لطليقها علشان فلوسه… خايفة لما نمشي قصادهم ويشاوروا علينا ويقولوا: دول ولاد شمس اللي ضحكت عليه ورجعت تتجوزه، علشان الميراث والعيشة الحلوة… صح؟”

رفرفت أنفاسها المضطربة، وكأن كلماته تُصيبها في مواضعٍ حاولت دفنها، ثم قالت بصوتٍ متكسرٍ:

“آه، خايفة منهم يا أدهم… وسبق وقلت ده، أنا سمعتهم بوداني وهما بيتكلموا علينا، تخيل بقى لو أمك رجعتله… هيعملوا فينا إيه؟”

نظر إليها أدهم طويلاً، ثم قال بصوتٍ خافتٍ لكن كلماته خرجت كالسياط:

“يولعوا… يولعوا الناس بكلامهم يا شيخة… أنا مالي؟ أنا آخر همي كلام الناس…

مش همشي حياتي على مزاجهم، ولا هسمحلك تمشي حياتنا على كلامهم،

الناس ما شافوش اللي إحنا شوفناه، ما عاشوش في بيتنا ولا حسّوا وجع أمك وهي بتبات تعيط على حالها وحالنا، الناس مش هتبطل تتكلم، دايمًا بيتكلموا، وبيتكلموا، وبيتكلموا… ولو قعدنا نحسب حسابهم كل مرة، مش هنعيش… مش هنعرف نعيش يا عالية.”

ارتجفت شفتاها، وبدت كأنها تريد الرد، لكنها لم تفعل، فقط أطرقت رأسها في صمتٍ، وصوته لا يزال يتردد في أذنيها كصرخةٍ توقظ ما تحاول تجاهله:

“فوقي… فوقي قبل ما تخسري كل حاجة.”

رفع يده إلى وجهه، يغطي ملامحه التي أثقلها الإرهاق والقلق، ثم تركها تسقط ببطءٍ وهو ينظر إليها بعينين مثقلتين بالرجاء، وقال بصوتٍ خافتٍ، مبحوحٍ من الألم:

“لآخر مرة بقولك… أنا آخر همّي كلام الناس، ما يهمّنيش منهم حد، همّي الأول والأخير هو أنتِ وماما، وسعادتكم… أنا عايز أطمن عليكم يا عالية، بس كده، عايز أطمن.”

ارتجف صوته وهو ينطق الجملة الأخيرة، كأنها خرجت من مكانٍ عميقٍ في صدره، فرفعت عالية رأسها نحوه، ودموعها تحفر خطوطها على خديها.

نظرت إليه مطولًا، نظرةَ خوفٍ ووجعٍ في آنٍ واحد، بينما أكمل هو، بصوتٍ يتهدج ويكاد ينكسر:

“أنا مش ضامن عمري يا عالية… أنتِ عارفة قلبي ضعيف، وبيضعف عن الأول، ومش عارف اللي فاضل لي قد إيه… يمكن شهور معدودة، ويمكن أيام، بس اللي أعرفه… إني عايز أسيب الدنيا وأنا مطمن عليكم، عايز أمشي وأنا مرتاح، مطمن إنكم مع الشخص اللي يقدر يحميكم، اللي هيعوضكم عن كل اللي مريتوا بيه… افهميني يا عالية… أبوس إيدك افهميني.”

كان صوته في آخر كلماته أقرب إلى الرجاء منه إلى اللوم، والدمعة التي لم يُرد أن تنزل خانته، فهوت على وجنته بصمتٍ موجعٍ.

تجمدت عالية في مكانها، وكأن الأرض ابتلعت قدرتها على الحركة، قلبها يخبط في صدرها بعنفٍ، وجهها شاحبٌ كقطعة طبشور، وشفتاها ترتجفان قبل أن يخرج منهما صوتٌ مبحوحٌ خافت:

“ما تقولش كده يا أدهم… بالله عليك.”

ابتسم ابتسامةً موجوعةً، نصفها ألم ونصفها استسلام، وقال:

“دي الحقيقة يا عالية… أنا وأنتِ وماما عارفين إنّي ما فضليش كتير، فبالله عليكِ، ارضي… وافقي، ادّيله فرصة، علشان خاطري بس.”

ارتعشت أنفاسها، وابتلعت ريقها بصعوبة، ثم تمتمت بصوتٍ متقطعٍ تغلب عليه بحة البكاء:

“أنا مش… مش عايزاها ترجع لمصطفى، مش عايزاها يا أدهم.”

نظر إليها بشيءٍ بين الغضب والخذلان، واقترب خطوة وهو يسألها بانفعالٍ حقيقيٍّ:

“ليه؟ ليه يا عالية؟ ليه؟ اديني سبب غير أبوكِ، والناس.”

رفعت رأسها نحوه، والدموع تهتز في عينيها وهي تقول بسرعةٍ كأنها تدافع عن خوفها:

“علشان هو سابها زمان، يمكن يسيبها تاني… ويوجعها تاني، أنا ما صدقتش اللي أمك قالته، ما صدقتش حكاية إنهم ما اتفقوش علشان مش شبه بعض، أنا متأكدة إن في حاجة تانية حصلت، حاجة وجعتها وخَلّتها تكرهه، أكيد أذاها، وأنا… أنا مش عايزاها ترجعله علشان ممكن يأذيها تاني!”

ساد الصمت لحظةً، صمتٌ ثقيل كحافة جرح، قبل أن يقول أدهم بصوتٍ منخفضٍ لكنه حادٌّ كالسيف:

“عمو مصطفى سابها علشان مش بيخلّف.”

تجمدت ملامحها، واتسعت عيناها كأنها تلقت صفعة، لم تستوعب الجملة في البداية، لكنه أكمل، بخطواتٍ بطيئةٍ نحوها وصوتٍ متهدجٍ من شدّة انفعاله:

“سابها علشان ما يحرِمهاش من حقّها في الأمومة، ضحّى بسعادته علشانها، سابها لما عرف إنه هو اللي مش بيخلّف يا عالية، مش أذاها… حماها.”

وقبل أن تستوعب عالية كلماته، جاء الصوت الذي لم يتوقعه أحد… خفيفٌ لكنه حادٌّ كطعنةٍ في صدر اللحظة… صوت ارتطام المعدن بالأرض.

التفت الاثنان في آنٍ واحدٍ نحو الباب، وهناك وقفت شمس، عيناها مشدوهتان، ووجهها خالٍ من أي تعبير.

تتأرجح حقيبة صغيرة في يدها بينما مفاتيح الشقة تتدحرج على الأرض وتصدر رنينًا معدنيًا يتردد صداه في المكان، كأنه يُعلن عن لحظة انكشافٍ مؤلمة.

#يتبع….

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق