رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل التاسع والستون
الفصل التاسع والستون (أول نظرة)
وقفت على حدود غرفة المعيشة، تتأمل والدها الجالس على الأريكة بهدوءٍ مألوف، غير أن ملامحه اليوم بدت أكثر جدية من المعتاد
، وبجانبه جلست والدتها، يديها متشابكتان في حجرها، وعيناها تتنقلان بين زوجها وابنتها بملامح محايدة.
رفع فاروق عينيه نحو لينا، وأشار بيده قائلاً بصوته الرزين:
“تعالي يا لينا.”
ابتلعت ريقها واقتربت ببطء، وجلست أمامه في صمتٍ مطبق، بينما بقيت تينا واقفة خلفها تراقب المشهد بفضولٍ خفيّ، ولم تمر لحظة حتى التفت والدها إليها قائلاً:
“تعالي إنتِ كمان يا تينا.”
اقتربت وجلست إلى جوار أختها، التي لم تكن تقوى حتى على رفع عينيها نحوه.
كان الهواء في الغرفة ثقيل، مليئ بالترقب، كانت دقات الساعة في الجدار وحدها تملأ الصمت، ومع كل ثانية تمر كانت لينا تشعر أن قلبها يدق أسرع.
وأخيراً، تنهد فاروق، تنهدًا امتزج بين التفكير والمسؤولية، ثم نظر إليهم واحدًا تلو الآخر، وعاد بعينيه إلى لينا، ثم قال بهدوءٍ لا يخلو من الجدية، كمن يفتح بابًا نحو ما هو قادم:
“أنا مجمّعكم علشان أتكلم معاكم في موضوع مهم أوي… موضوع يخصّك يا لينا.”
قبضت لينا على كفّيها في حجرها، وقد شعرت بأن كل ذرة في جسدها تستعد لسماع الكلمات التي انتظرتها طويلًا، تلك التي رسمتها في خيالها مئات المرات.
ولم يُطل فاروق صمتها، بل قال مباشرة، بصوته الهادئ والواثق:
“في واحد متقدملك.”
كأن الزمن توقّف في تلك اللحظة…
تجمّدت أنفاسها في صدرها، واتسعت عيناها في ذهولٍ لا تصفه الكلمات، بينما التفتت تينا نحوها بصدمةٍ حادة، أما سهير فمالت للأمام، تنظر لزوجها باستفهامٍ مستعجل، وقالت بسرعة:
“واحد؟ واحد مين يا فاروق؟”
ظل فاروق محتفظًا بملامحه الجادة، وعيناه لم تفارقا ابنته وهو يجيب ببساطةٍ مقصودة:
“حسن… حسن ابن الشيخ سالم.”
كأن شرارة خفيفة مرّت في المكان؛ حدقت تينا في أختها بذهولٍ أكبر، بينما على النقيض، اتسعت ابتسامة سهير حتى غمرت وجهها كله، وهتفت بفرحةٍ فاجأت الجميع:
“يا بنت المحظوظة! هو أنا دعيت لك في ليلة القدر ولا إيه؟”
التفت الثلاثة نحوها بدهشة متباينة؛ فاروق بعينين متسائلتين، لينا بخجلٍ لم تعرف كيف تخفيه، وتينا بصوتٍ لم يخلُ من استغرابٍ حاد قالت:
“هو إنتِ فرحانة؟”
ضحكت سهير وهي تهز رأسها بحماسٍ صادق:
“طبعًا فرحانة! ده حسن يا بنتي، الحارة كلها تشهد بأخلاقه، ده كتلة أدب واحترام ماشية على الأرض… ده أنا دايمًا كنت بقول يا بخت اللي هتكون من نصيبه، ماكنتش أعرف إن بنتي هي اللي هتكون من نصيبه.”
توردت وجنتا لينا كزهرتين خجولتين، وأطرقت رأسها في صمتٍ عجزت معه عن الكلام، بينما ابتسامة صغيرة لم تستطع السيطرة عليها كانت تتسلل إلى ملامحها.
عندها تدخّل فاروق، وقال بنبرةٍ جادة لكن حانية:
“بس أنا لسه ما وافقتش علشان تكون من نصيبه.”
رفعت لينا عينيها نحو والدها، نظرة متجمّدة، مزيج من الرجاء والخوف والدهشة، كأن قلبها تعثّر في منتصف الطريق بين الحلم والخيبة.
بينما بادرت سهير، بصوتٍ يحمل توجسًا خفيفًا، قائلة:
“ليه؟ هو أنت مش ناوي توافق؟”
لم يُجب فاروق فورًا، بل صمت للحظةٍ طويلة، عيناه تائهتان في نقطةٍ بعيدة على الأرض، كأنما يبحث عن تبريرٍ لمشاعره التي لم يعبّر عنها بعد.
ثم تنفّس بعمق وقال بهدوءٍ متردد:
“مش عارف يا سهير… هو حسن محترم، وابن ناس، وما يتقالش عليه كلمة، بس لينا لسه صغيرة… دي لسه يدوب مكملة العشرين.”
ارتسمت على ملامح سهير ابتسامة ساخرة خفيفة، وهزّت رأسها قائلة بنبرةٍ متعجبة:
“أنت ليه محسسني إنها قاصر؟ ولا هو في جواز بكرة الصبح؟”
أجابها بصوتٍ يحمل شيئًا من الحسم والأبوة التي يصعب مجادلتها:
“ولا ده ولا ده يا سهير… الفكرة إنّي مش مستعد بناتي يبعدوا عني دلوقتي، بناتي لسه صغيرين، ولسه ما شبعتش منهم، يمكن بعد خمس سنين كمان أفكر أجوّزهم.”
اتسعت عينا لينا بذهول، كأن الكلمات سُحبت من تحتها الأرض، بينما انطلقت تينا واقفة من مكانها، تلوّح بيديها بحماسٍ ساخر قائلة:
“عين العقل يا بابا! والله إنك بتفهم يا سيادة اللواء! جواز إيه دلوقتي؟ قول بعد عشر سنين كمان!”
استدارت سهير نحوها بحدة، رمقتها بنظرةٍ حادة وقالت بنبرةٍ قاطعة:
“اسكتي يا بنت!”
زمت تينا شفتيها بغيظٍ واضح، وعادت لتجلس بجوار لينا التي ما زالت عيناها معلّقتين بوالدتها، كأنها تستنجد بها بصمتٍ لا يُسمع.
أما سهير فتنهدت بخفة، ثم نظرت نحو فاروق بعينين تجمعان بين الحنان والعقل، وقالت بنبرةٍ هادئة لكنها حازمة في معناها:
“بص يا فاروق، أنا عارفة إنك بتحب بناتك، وبتخاف عليهم أوي، بس ده مش معناه إننا نقعدهم جنبنا لحد ما يشيبوا… وبصراحة، الواحد زي حسن ما يتعوضش، ده لو راح، مش هييجي أحسن منه، بسم الله ما شاء الله عليه، مافهوش غلطة.”
توقفت قليلًا، ثم تابعت بإقناعٍ ناعمٍ وهي تميل نحوه قليلًا:
“وياسيدي، لو أنت قلقان، خليهم يتخطبوا بس، الخطوبة سنتين لحد ما تخلص كليتها، كده نكون أرضينا الكل… إيه رأيك؟”
ساد الصمت للحظة، وفاروق لم يُجب، لكنه لم يعترض أيضًا، كان ينظر نحو الأرض بعينٍ شاردة، كأن كلماته القادمة تُعاد صياغتها في داخله.
ورغم صمته، شعر الجميع أن اقتناعه بدأ يتسرّب إليه شيئًا فشيئًا، حتى تينا نفسها التقطت هذا التحوّل، فأسرعت تقول بنبرةٍ سريعة مليئة بالمكر:
“مش المفروض ناخد رأي العروسة الأول؟ يعني نشوف موافقة ولا لأ!”
التفتت الأنظار كلها نحو لينا، فتوترت أكثر، وانخفضت نظراتها للأرض، بينما قلبها يخفق بعنفٍ يكاد يُسمع.
أمال فاروق جسده قليلًا للأمام، ونظر إليها بحنو، وسألها بنبرةٍ هادئة لكنها حاسمة:
“إيه رأيك يا لينا؟ موافقة؟”
سكتت لينا للحظاتٍ بدت كدهر، أناملها تتشابك فوق بعضها، وتينا تترقب الإجابة بعينين متلهفتين لرفضٍ يريحها، ووالدتها تبتسم بتشجيعٍ خفيفٍ خفيّ، ووالدها ينتظر الكلمة الفصل.
ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم رفعت رأسها قليلًا، ونظرت إلى والديها بخجلٍ ظاهر، وصوتٍ خافتٍ كاد يختنق بين خجلها وسعادتها:
“موافقة.”
تجمّدت تينا في مكانها، لا تصدّق ما سمعته، وكأن الزمن توقّف للحظة عند كلمة “موافقة”، بينما في الجهة الأخرى كانت سهير تغمر وجهها ابتسامة دافئة اتّسعت من قلبها قبل شفتيها.
نهضت بسرعة واتجهت نحو ابنتها، ضمّتها بين ذراعيها بحنانٍ يغمره الفخر والفرح، وهمست قرب أذنها بصوتٍ مرتجف من التأثر:
“حبيبة أمك والله…”
أما فاروق، فظلّ جالسًا في مكانه، يراقب المشهد بنظرةٍ صامتةٍ تجمع بين الرضا والاستسلام، ثم تنفّس بعمقٍ وأومأ بخفوتٍ، كمن تقبّل أخيرًا أن الأمور تسير كما كُتب لها أن تسير.
وفي أحضان والدتها، كانت لينا تشعر بأن قلبها يكاد يطير من بين أضلاعها، رفرفة فرحٍ تملأ صدرها، سعادة صافية تتصاعد في روحها كأنها ضوء، ولولا خجلها الذي عقد أطراف ابتسامتها لكانت قفزت في مكانها من شدة الفرح.
كل ما استطاعت فعله هو أن تبتسم بخجلٍ رقيقٍ، بينما عيناها تلمعان بذلك البريق الذي لا يعرفه إلا من ذاق لحظة تحقق حلمه.
_________________
في جهة أخرى….
كانت تقف عند العتبة كأن الأرض تجمّدت تحت قدميها، والعالم من حولها غاب عن إدراكها للحظةٍ، لم تعد تسمع سوى صدى الكلمات التي خرجت من فم ابنها قبل ثوانٍ، تلك الكلمات التي اخترقت سكونها كطعنةٍ باردةٍ في قلبٍ لم يكن مهيّأ لها.
ارتجفت شفتاها وهي تحدّق فيه بعينين اتسعتا بين الذهول والرفض، ثم خرج صوتها مبحوحًا، خافتًا كأنها تخشى تأكيد ما تخاف سماعه:
“هو… اللي قلته ده صح؟”
ابتلع أدهم ريقه، أطرق رأسه بارتباك، ثم أومأ ببطءٍ دون أن ينطق.
تجمّد الزمن من جديد، شعرت بأن أنفاسها تتكسر في صدرها، وبصوتٍ متهدّج بالكاد خرجت الكلمات من بين شفتيها:
“وأنتَ… وأنت عرفت منين؟”
ردّ بصوتٍ خافتٍ، كمن يلقي باعترافٍ ثقيلٍ:
“موسى هو اللي قالّي… وكان قايل لي ماقولكيش، علشان عمو مصطفى مش عايزك تعرفي.”
سقطت الكلمات على قلبها كحجرٍ في ماءٍ ساكن، أزاح سكونها وأثار في داخلها موجًا من الذهول والوجع.
لم تنطق، لم تتحرك، فقط نظرت نحوهما بنظرةٍ تائهةٍ جامدة، قبل أن تتراجع خطوةً إلى الخلف كمن خذله الهواء من حوله، ثم استدارت فجأة واتجهت نحو السلم بخطواتٍ سريعةٍ مضطربةٍ.
“ماما!”
كلمة خرجت من أدهم الذي
ركض خلفها، وتبعته عالية التي اتسعت عيناها خوفًا، بينما هي كانت تهبط الدرج بلهاثٍ خافتٍ، وكل خطوة تقودها نحو بابٍ لا تعرف إن كانت تريد طرقه حقًا أم لا، لكنها لا تملك سوى أن تفعل.
وقفت أمام الباب، يديها ترتجفان، وقلبها يخبط بجنونٍ في صدرها، ثم رفعت يدها أخيرًا ودقّت الباب، طرقةً مترددةً تحمل في داخلها كل الثقل.
لم تمر ثوانٍ حتى فُتح الباب، وظهر وجهه أمامها… وجهٌ تعرفه كما تعرف قلبها، غير أن ملامحها الشاحبة أربكته، فرفع حاجبيه بدهشةٍ وهمس باسمها:
“شمس…”
لكنها لم تمنحه وقتًا للتفسير، ولا لنفسها لتفكر، فقط نطقت بصوتٍ يقطّع السكون ويكشف ما بداخلها من خوفٍ وغضبٍ ودهشةٍ مكتومة:
“هو إنت… مش بتخلّف؟”
_________________
على الجهة الأخرى…
وقف بجوارها، يساعدها في غسل الأطباق بعد وجبتهما المسائية، في مشهد بسيط لكنه مليء بألفة لا تُقال.
كانت هي تغسل وهو يجفف، يمرر القماشة على الزجاج والصلصال بحركة منتظمة، ثم يعيد كل شيء إلى مكانه كما تحب هي.
التفت نحوها بطبق في يده، رفعه قليلًا وهو يقول بخفة:
“بصي كده؟”
رفعت رأسها تنظر للطبق، ليضيف هو بابتسامة مشاكسة وهو يتأمل انعكاس وجهها في بريق الزجاج:
“إيه الحلاوة دي؟”
كزّت كتفه بخفة وهي تضحك بخجل قائلة:
“موسى…”
رد على الفور، وهو يقترب منها قليلًا بنبرة دافئة:
“عيونه.”
انفجرت ضاحكة، فضحك معها، ضحكة قصيرة لكنها صادقة، كسرت صمت البيت وملأته حياة.
وبعد أن أنهى هو تجفيف آخر طبق ناولته إياه، وضعه بعناية في الخزانة وأغلق الباب برفق.
خلعت هي المريول ومسحت يديها في المنشفة، ثم جلست على طاولة المطبخ الصغيرة، بينما اتجه هو نحو الثلاجة، أخرج منها زجاجة ماء، وشرب بارتواء، فيما كانت هي تنظر إليه بهدوء، بعينين تقولان أكثر مما تنطقان.
أعاد الزجاجة إلى مكانها، وما إن فعل حتى رن هاتفه الموضوع على الطاولة، فسألها بنبرة عادية وهو يشير إليه برأسه:
“مين؟”
ألقت نظرة على الشاشة، قبل أن ترفع عينيها نحوه وتقول بهدوء خفيف:
“ده أدهم.”
تجهمت ملامحه للحظة، خطّ بين حاجبيه عبوسٌ خفيف، قبل أن يقترب منها بخطوات سريعة ويقول بجدية متوترة:
“خير؟”
لم تجبه، فقط ناولته الهاتف بهدوء بينما تتابعه بعينيها في صمتٍ ثقيل، التقط هو الجهاز من يدها، وأجاب على الفور بنبرة عادية:
“ألو يا أدهم.”
جاءه الصوت من الطرف الآخر متقطعًا، لاهثًا، مليئًا بالذعر:
“تعالى بسرعة يا موسى، ماما سمعتني وأنا بتكلم مع عالية… وعرفت إن عمو مصطفى مش بيخلف، والوضع هنا مش مطمئن خالص.”
تجمّد موسى في مكانه، حدّق للحظات في الفراغ وكأنه يعيد ترتيب الكلمات داخل رأسه، ثم انفرجت شفتاه عن ابتسامة بطيئة… ابتسامة خافتة، ماكرة، كأنها تحمل وراءها فكرة بدأت للتو تنبت في رأسه.
لمعت عيناه بوميض غامض قبل أن يتمتم بصوتٍ خافتٍ أقرب إلى الهمس:
“حلو… أوي.”
_________________
خرج صوتها كأنه محاولة فاشلة للتماسك، مبحوحًا، مثقلًا بما يفوق القدرة على التصديق، وهي تكرر بذهولٍ متقطع:
“عرفت… امتى؟”
ابتلع هز ريقه ببطء، كما لو أن الهواء نفسه صار ثقيلاً في صدره، ثم رفع عينيه نحوها للحظة، وأطرق رأسه خاضعًا لذلك العبء الذي لم يعد يحتمل كتمانه.
وحين نطق بالكلمات التالية خرج صوته مبحوحًا، متماسكًا بالكاد، وكل جملة منه كانت تُقال بثمنٍ من روحه:
“بعد ما رحنا للدكتور… لما شكينا إنك حامل، قالنا ساعتها إنه مجرد تعب عادي، وطلب نعمل تحاليل، وبعدها بأيام… كلّمني وطلب يقابلني، ولما رحت له… قالّي إني عندي مشكلة، ومش هقدر أخلف.”
ساد صمت ثقيل بعد كلماته، صمت لم يقطعه سوى صوت أنفاسها المرتجفة. ظلت واقفة في مكانها، عيناها معلقتان به، بينما أولادها خلفها يراقبون في صمتٍ.
تكسرت أنفاسها بين صدرها وحنجرتها، وقالت بعد لحظة كأنها تتحدث مع طيفٍ لا مع رجل أمامها:
“وعشان كده… بدأت تعاملني وحش؟ كنت عايز تكرهني فيك؟ علشان أسيبك؟ وقدرت فعلاً تعمل ده…”
رفع رأسه ببطء، في عينيه ألم لا يُخفى، وقال بصوتٍ متهدج لكنه صادق:
“ماكنتش عايز أحرمك من حقك يا شمس… لو كنتي فضلتي معايا، ماكنتش هتعرفي تبقي أم.”
ارتعشت شفتاها، والدموع تتلألأ في عينيها دون أن تسقط، قبل أن تهمس بمرارة ممزوجة بخذلانٍ عميق:
“بس كان لازم تقولّي… مش تقرر لوحدك، ده كان موضوع يخصّنا إحنا الاتنين، كان لازم تخيّرني يا مصطفى.”
خفض عينيه، ونبرته صارت أهدأ لكنها أكثر وجعًا:
“لو كنت خيرتك… ماكنتيش هتوافقي ننفصل، وكنت وقتها هعيش وأنا شايل ذنبك… وده اللي ماقدرتش أتحمله.”
تساقطت الكلمات بينهما كأنها اعتراف متأخر، ووقف كلاهما وسط الصمت، وكل ما حولهما بدا باهتًا أمام الحقيقة التي خرجت أخيرًا للنور…
سكتت لثوانٍ ثم تقدمت نحوه بخطوة، عينان مشتعلتان بالجرح والغضب، وصوتها ارتجف بين الحزم والألم:
“أنت أناني… أنت أناني يا مصطفى! إحنا وقتها كنا عيلة، وكان لازم تقول لي ونتناقش مع بعض، مش تكرر لوحدك… دي كانت حاجة تخصنا إحنا الاتنين، وأنت ببساطة قررت لوحدك.”
وصلت كلماتها إلى قلبه كطعنة حادة، وشعر بثقل الذنب يضغط على صدره…
هو يعرف، بوضوح، أنه أخطأ حين لم يشاركها القرار، لكنه أيضًا كان يقنع نفسه أنه أراد الأفضل لها، أراد أن تمنح نفسها حقًا لم تكن لتستمتع به لو بقيت معه.
وقف كلاهما لحظة صامتين، وكل نفس بينهما يشهد على مزيج من الوجع والحب والندم، الحقيقة صارخة، والقرار الذي اتخذه منفردًا كان عبئه عليه الآن كما هو عليها.
ففي النهاية… كل قرار يخص اثنين يجب أن يُتخذ معًا، بكل شفافية وثقة.
أغمض مصطفى عينيه للحظة، كأنه يحاول حبس كل الندم الذي يعتصره، ثم فتحهما ببطء ونظر إليها بعينين متعبتين وقال بصوتٍ مبحوح يخالطه انكسار:
“أنا آسف… أنا فعلاً غلطت، وكان لازم أقولك، حقك عليا يا شمس… بس والله ماكنت عايز غير راحتك.”
ظلت تحدق فيه بعينين تلمعان بالدموع، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ متحشرج، تزامن مع دمعة انزلقت على وجنتها:
“بعد إيه بقى يا مصطفى؟… أسفك ده مالوش لازمة دلوقتي.”
خطا نحوها خطوة بطيئة، وكأن الأرض أثقلته بندمه، وقال بحرارةٍ خرجت من عمق قلبٍ أنهكه الشوق:
“بس أنا بحبك يا شمس… والله لسه بحبك، ولا يوم عدّى وأنا ناسيكي… ولو رجع بيا الزمن، عمري ما كنت ضيعتك من إيدي أبداً.”
اقترب أكثر، وصوته يرتعش برجاءٍ حقيقي، كأن قلبه يتوسل من وراء كلماته:
“اديني فرصة يا شمس… مش عايز أكتر من فرصة واحدة، فرصة أعوضك فيها عن كل اللي فات… أرجوكِ، ريّحي قلبي اللي من يوم ما بَعِد عنك وهو تعبان.”
كانت عيناه تقولان ما لا تقدر الكلمات على قوله…
أما هي، فوقفت أمامه بين ندمٍ وحبٍ وذاكرةٍ لا تشيخ، تتنفس بصعوبة، كأن القرار بين الغفران أو الرحيل أثقل من قدرتها على الاحتمال.
وفي الخلف، وقف أدهم وعالية صامتين، يراقبان المشهد بعينين متسعتين، بينما جلس محمد على الشرفة، يبتسم بحزن خفي، متأمّلًا الحالة التي بلغها ابنه
.
فجأة، كسر صمت الغرفة صوت مألوف، قوي وواثق، صوت موسى الذي دخل إلى الشقة وهو يرفع صوته بابتسامة خفيفة:
“اتفضل يا شيخنا.”
تحركت كل الأنظار نحوه، وهو يخطو بثقة، يتبعه رجل ذو لحية كثيفة، يحمل بين يديه دفترًا، فتوقف بجانبه، ثم سأل موسى بصوت هادئ لكنه مليء بالفضول:
“فين العرسان يا بني؟”
ابتسم موسى ابتسامة هادئة، واثقة، وأشار بيده نحو عمه وشمس، وقال بصوت ثابت وببساطة تكاد تخدع من يسمعها:
“أهم قدامك يا شيخنا… هنجوز عمي وطليقته.”
تجمّدت العيون في الصدمة، وتشنجت الوجوه، بينما لم يستطع أدهم إخفاء ابتسامته، أما محمد، فتنهد بهدوء وقال بإعجاب:
“عملها ابن داوود.”
وفي تلك اللحظة، أشار ابن داوود للمأذون بالجلوس قائلاً:
“اتفضل هنا يا شيخنا.”
تقدم الشيخ وجلس في المكان الذي أشار إليه، بينما التفت موسى نحو أدهم وقال:
“جيب بطاقتك يلا يا أدهم، وبطاقتي خالتي كمان، وأنا هدخل أجيب بطاقة عمي.”
أومأ له أدهم، وكاد أن يتحرك لولا أن أمسكت شقيقته عالية بيده وسألته بصرامة:
“هتعمل إيه؟”
ابتسم أدهم ببساطة وأجابها بهدوء:
“هجيب بطاقة أمك، علشان تكتب كتابها.”
سحب أدهم ذراعه من بين أناملها، وخرج من الشقة، بينما دخل موسى غرفة عمه يبحث عن بطاقته الشخصية، وكل هذا، ومصطفى وشمس في حالة من اللاوعي، كأنهما لم يدركا بعد جنون اللحظة وما الذي يفعله هذا الشاب المجنون.
رمش مصطفى مرتين، كمن يحاول طرد ذهولٍ أثقل رأسه، ثم تحرك بخطوات سريعة نحو الغرفة، يدفعه مزيج من الغضب والارتباك وعدم التصديق.
فتح الباب على مصراعيه، ليجد موسى منحنياً أمام الأدراج، يقلب فيها بعجلةٍ ظاهرة، يبحث عن شيء يعرف مصطفى جيدًا ما هو.
قال بصوتٍ خافت لكنه محمل بالتحذير:
“إنت بتعمل إيه يا موسى؟”
لم يلتفت موسى، اكتفى بأن ردّ بجديةٍ هادئة:
“كويس إن حضرتك جيت… فين البطاقة؟ أنا دوّرت ومش لاقيها.”
تقدم مصطفى نحوه بسرعة، قبض على ذراعه بقوةٍ جعلته يرفع رأسه نحوه، ثم قال بعينين يملؤهما الغضب والدهشة:
“بُصلي هنا يا موسى، إنت بتهبّب إيه؟ وماتقوليش إنك بتعمل الصح!”
لم يتراجع موسى، بل رفع رأسه بثبات وقال بصوتٍ حازم يحمل دفئ الإصرار:
“لأ، ما أنا فعلاً بعمل الصح.”
اشتد صوت مصطفى وهو يناديه للمرة الأخيرة، بنبرة حادة تحمل ما يشبه الرجاء:
“موسى!”
لكن موسى لم يتراجع، بل واجهه بصدقٍ نابع من عمق قلبه:
“عمي… إنت بتحبها، والفرصة قدامك، أهي ربنا بعتهالك على طبق من دهب… بترفضها ليه؟”
أطرق مصطفى رأسه، وصوته خفت حين قال:
“علشان هي مش بتحبني.”
ابتسم موسى بابتسامة هادئة وثابتة، ثم قال بنبرة مفعمة باليقين والطمأنينة:
“مين قالك؟ خالتي شمس بتحبك… لو ماكنتش بتحبك ماكنتش جات وعاتبتك دلوقتي على حاجة حصلت من أكتر من اتنين وعشرين سنة.”
توقف للحظة، وكأن كلماته تحتاج إلى مساحة لتترسخ في قلب مصطفى، ثم تابع بنبرة أعمق وأثقل بالمعنى:
“الإنسان يا عمي… ما بيعاتبش غير اللي بيحبه… وخالتي، لسه بتحبك، وأكتر مما تفتكر.”
تقدم خطوة نحو مصطفى، وضع يده بحنان على كتفه، وابتسم ابتسامة عريضة وهو يقول بمزج من الدعابة والحزم:
“جيب البطاقة يالا ياعريس، لحد ما أطلع وأقنع العروسة.”
ثم خرج من الغرفة، تاركًا مصطفى غارقًا في كلماته، أو لنقل، مكتفيًا بالاقتناع بها، فها هو الآن يبحث عن بطاقته، على أمل أن يبدأ فصلاً جديدًا من حياته مع شمس.
أما موسى، فما إن خرج من الغرفة حتى لمح جده يجلس مبتسمًا في الشرفة، فغمز له بمشاكسة، ثم توجه نحو شمس التي سبقته بالكلام، وقالت بحدة خفيفة:
“اللي بتعمله ده ماينفعش ياموسى.”
أجابها موسى بثباتٍ يشي باليقين وهدوءٍ يغمر المكان:
“بالعكس ياخالتي، ده اللي مفروض يتعمل… اديله فرصة، علشان خاطر العشرة اللي كانت بينكم… عينك بتقول إنه لسه ليه مكان في قلبك، وإنك مش متضايقة منه على قد ما زعلانة منه، وعليه كمان… الإنسان مش بيزعل إلا من اللي بيحبه ياخالتي، فايديله فرصة… ووالله، وغلاوة أغلى الناس عندي، عمي هيعوضك، وماهيكرر اللي عمله تاني… هو عرف غلطته خلاص، ومستحيل يسبيك تاني تضيعي من بين إيده.”
سكتت شمس، وارتجف قلبها بشدة تحت وقع كلماته، شعرت وكأن الأرض قد انزلقت تحت قدميها للحظة.
عيناها تجولت بلا وعي حتى توقفت على مصطفى، الذي خرج من الغرفة ممسكًا ببطاقته بين أنامله، وعيناه تتوسلانها، تحملان كل الأمل والخوف في آن واحد.
وفجأة، جاء صوت محمد من الخلف، قائلاً بصوت مفعم بالحنان والحزم معًا:
“وافقي يا بنتي، هو خلاص عرف غلطته… ولو كررها تاني، هتتبرى منه فيها من غير تردد.”
رفعت شمس عينيها إليه، ثم التفتت لترى أدهم قد وصل، وقد تقدم يعطب البطاقات للمأذون في يده، ووجهه مشرق بحماسة واضحة:
“اتفضل يا شيخنا.”
تناول المأذون البطاقات، ثم التفت أدهم وتقدم نحو والدته، أمسك بيدها برفق، ومال نحوها، ليقبلها بلطف، ثم رفع عينيه إليها كأنهما يترجيانها، قائلاً بصوت خافت مشبع بالعاطفة:
“وغلاوتي عندك… وافقي.”
أغمضت شمس عينيها، فسال دموعها بلا تحكم، وسارعت أنامله بمسحها برفق، فابتسمت له بابتسامة متعبة، قبل أن تمر عيناها على الحضور، فتوقفت عند ابنتها، التي بدا عليها الحزن والارتباك، فتلاشت ابتسامة شمس فورًا، ثم رفعت رأسها وحرمت نفسها من أي شعور بالرضا، وقالت بحسم وارتجاف خفي:
“لأ… مش موافقة.”
وسحب الأمل من مصطفى بعد أن كاد يعود له، لكن… أدهم، التفت بسرعة نحو شقيقته، ناظرًا إليها بعينين توسلتاها:
“عالية…”
التقت عالية بعينيه، فوجدت فيهما كل ما قاله لها سابقًا، كل الرجاء، وكل دعوة لإعطاء فرصة جديدة ليس فقط لحياة والدتها، بل لحياتهم جميعًا.
ابتلعت ريقها بغصة، وأحست بالعواصف تتلاطم داخل صدرها، لكنها اقتربت من والدتها أخيرًا، ثم همست بعد تردد طويل، بعد صراع داخلي مرير:
“وافقي يا ماما.”
ضحك أدهم بسعادة غامرة، وتقدم نحوها بخطوات مترددة من شدة الفرح، وتلقفها بين أحضانه بحرارة، ثم أمسك بيد والدته برفق، وشدها لعناقه أيضاً، لتبتسم بعيونٍ تتلألأ بالراحة، ثم التقت عينها بمصطفى، الذي كان يتنفس الصعداء بعمق، كما لو أن هذا كان أول شهيق من راحة يأخذه بعد سنوات.
أما محمد، فقد ارتسمت على وجهه ابتسامة رضا وسعادة، ورفع يده ليربت على كتف موسى الذي ابتسم بانتصار هادئ، تبادلا نظرة صامتة تحمل كل معاني الفخر والارتياح، قبل أن يلتفت موسى نحو المأذون، ويهتف بثقة وهدوء:
“يلا شيخنا… اكتب.”
.
.
.
.
بعد دقائق…
صافح موسى المأذون بحرارة، واصطحبه نحو الباب وهو يقول بابتسامة خفيفة تحمل طرافة الموقف:
“تسلم ياشيخنا، احفظ رقمي بقا عندك، جايز نحتاجك تاني.”
ابتسم المأذون وهو يرد بمودة:
“ربنا يكتر من أفراحكم يا بني، السلام عليكم.”
“وعليكم السلام.”
انصرف المأذون، ونزل السلم ببطء، لكن قبل أن يلتفت موسى ويعود إلى الداخل، وصل إلى أذنه صوت مألوف، مفعم بالدهشة والاستغراب:
“هو المأذون بيعمل ايه عندنا ياموسى؟”
التفت موسى ببطء، ليجد والده واقفًا على الدرج، لا يزال في حالة دهشة عفوية من الموقف، وكأنه لم يصدق ما شاهده.
ابتسم موسى بخفة، محاولًا كبح ضحكة، وأجاب بهدوء وبساطة:
“لا ولا حاجة… أخوك كان بيتجوز بس.”
_________________
”
بعد يومين
”
“أنا مش قادر أستوعب اللي حصل لحد دلوقتي… يعني أبقى نازل أقعد شوية مع أبويا، ألاقي أخويا اتجوز من غير ما أعرف!”
قالها داود وهو يهز رأسه بعدم تصديق، ونبرته تجمع بين الدهشة والامتعاض، وقد علقت
كلماته في الجو، بين ضحكاتٍ مكتومة ونظراتٍ متبادلة في غرفة جمعته هو وإخوته محمود وأحمد، ووالده محمد، وبالطبع ابنه موسى الذي جلس في الطرف، يشرب كوب الشاي كأن الأمر لا يعنيه.
رفع موسى كوبه، واحتسى منه القليل ببرودٍ ساخر، ثم قال وهو يبتسم:
“خلاص يا بابا، مايبقاش قلبك أسود… المرة الجاية هبقى أقولك، وأخليك تشهد كمان.”
ارتفع حاجبا داود بدهشة حقيقية هذه المرة، وصوته خرج ممتزجًا بين الغضب والسخرية:
“المرة الجاية إزاي؟! ناوي تتجوز مين تاني؟”
ابتسم موسى ابتسامة واثقة، وأشار بيده في اتجاه عمه محمود الذي كان يحتسي الشاي بهدوء لا يخلو من الفضول، ثم قال ببرودٍ مشاغب:
“عمي محمود… ناوي أجوّزه التالتة.”
ساد صمت لثانية، ثم انفجر المكان بضحكاتٍ متتالية، حتى داود نفسه لم يستطع كبح ابتسامته، بينما
نظر محمود إلى موسى بحدةٍ توحي بأن النقطة لم تعجبه إطلاقًا، ثم قال بصوته الغليظ الذي يحمل تهديدًا أكثر مما يحمل مزاحًا:
“طب أنا معدّيلك الفصل الناقص اللي عملته وقلت إن كل حاجة حصلت بسرعة… بس هتقل أدبك وتستخف بدمّك على حسابي؟ والله لأعلّقك على باب العمارة.”
رفع موسى كفّيه مستسلمًا، وملامحه امتلأت ببراءةٍ مصطنعة:
“وعلى إيه يا حوده… خلاص مش هاهزر معاك، وأديني ماشي قبل ما تعلّقني… أنا كده كده متأخر على المدام ولازم أوديها الشغل علشان أروح شغلي… عن إذنكم.”
نهض من مكانه، ممسكًا بالكوب بين يديه، ثم التفت نحو محمد وسأله بنبرة نصف جادة نصف ساخرة:
“عايز الكوباية دي يا جدي ولا أخدها معايا؟”
انفجر الجميع بضحكة جديدة على بروده المعتاد، فقال محمد وهو يومئ برأسه:
“خدها يا حبيب جدك.”
ابتسم موسى، ورفع الكوب ليشرب منه وهو يسير بخطوات هادئة نحو الباب، لكن قبل أن يكمل طريقه، توقف بجانب عمه محمود، وانحنى قليلًا نحوه وكأنه يهمس بسرّ خطير:
“تحب تكون عندها كام سنة يا عمي؟”
رفع محمود رأسه بحدة، واشتعلت نظراته، ثم زجره بصوت جهوري، اختلط فيه الغضب بالسخرية:
“امشي يا وسخ من هنا!”
تراجع موسى خطوة إلى الوراء وهو يضحك بخبثٍ لا يخلو من الظرف، بينما انفجرت ضحكات الجميع من حوله، تلك الضحكات التي تُعيد للمكان خفّته المعتادة.
ومع ذلك، ما لبث أن ابتلع ضحكته فجأة، وأخذ نفسًا قصيرًا قبل أن يضع الكوب جانبًا على الطاولة، وقال مبتسمًا، ونبرته تحمل مزيجًا من المرح والجدّ:
“عن إذنكم… أشوفكم بالليل بقا.”
تحرك بخطواتٍ واثقة نحو الباب، فتحه وغادر الشقة هذه المرة، لكن قبل أن يخطو أكثر من خطوة، سمع وقع أقدامٍ تهبط بسرعة من الطابق الأعلى، فرفع رأسه نحو مصدر الصوت، لتقع عيناه على أدهم وهو يترجل من على الدرج بخطواتٍ مستعجلة.
ابتسم موسى تلقائيًا، وقال بنبرة دافئة فيها شيء من الحماس:
“كويس إنك نزلت… كنت لسه هتصل بيك.”
اقترب أدهم منه وهو يبتسم بخفةٍ ويقول بنبرةٍ دافئة:
“اتأخرت عليك ولا إيه؟”
أجابه موسى بابتسامة مطمئنة وهو يشير له بيده أن يقترب:
“لا خالص، تعالى يلا.”
أومأ له أدهم برأسه، ثم تحركا معًا بخطواتٍ متقاربة على الدرج، تزامن صوت وقع أقدامهما مع صوت موسى الذي ألقى عليه نظرة جانبية وسأله بنبرةٍ تحمل اهتمامًا حقيقيًا:
“إيه أخبار الجو عندكم؟”
تنهد أدهم بخفة، وكأن السؤال أعاد إلى ذهنه كل ما حاول تناسيه:
“متوتر أوي… لسه محدش فينا أخد على الوضع الجديد، النهارده مثلاً كان أول فطار لينا مع بعض.”
رفع موسى حاجبيه متسائلًا، وصوته يحمل فضولًا هادئًا:
“وإيه اللي حصل؟”
أجاب أدهم بابتسامة باهتة امتزجت فيها السخرية بشيء من الحزن:
“كنا بناكل… وكل واحد عينه في طبقه.”
ساد بينهما صمت قصير، قبل أن يقول موسى بنبرة هادئة لكنها مليئة بالتفهم:
“ده طبيعي إنه يحصل، الموضوع غريب برده… بس هتتعودوا، كلها كام يوم وتتعودوا،
بس خليك أنت وراهم، وخد وادّي معاهم كده… علشان ياخدوا على بعض، وبالذات أختك وعمي.”
هزّ أدهم رأسه ببطء، ونظر للأرض للحظة كأنه يحاول طمأنة نفسه قبل أن يطمئن غيره، ثم رفع عينيه إلى موسى وقال بصوتٍ خافت فيه رجاء:
“يارب يا موسى… يارب، أنا هعمل كل اللي عليّ، وإن شاء الله خير.”
ابتسم موسى ابتسامة صغيرة، كانت تحمل دعمًا أكثر مما تحمل كلمات، ثم ربت على كتفه وهو يقول بثقة هادئة:
“إن شاء الله.”
_________________
في الأعلى…
كان الهدوء يخيّم على المطبخ إلا من صوت الماء الجاري وصوت الصحون المتلامسة في الحوض.
وقفت شمس تغسل الأطباق، بينما كانت عالية تتحرك بخطواتٍ سريعة ومرتّبة، تجمع بقايا الفطور وتعيد النظام إلى المكان.
وفجأة، كُسر ذلك الهدوء بصوته، عندما دخل مصطفى بخطواتٍ هادئة وصوتٍ منخفضٍ كمن يخشى أن يوقظ شيئًا ساكنًا:
“محتاجين مساعدة؟”
التفتت له شمس، رفعت عينيها نحوه بملامحٍ لم تخلُ من دفءٍ حذر، ثم قالت بنبرةٍ لطيفة:
“لأ، تحب أعملك فنجان قهوة؟”
ابتسم ابتسامة صغيرة وقال وهو يلوّح بيده نافيًا:
“لأ، أنا هنزل أشربه مع الحج، محتاجة حاجة أجبها لك من تحت؟”
هزّت رأسها بخفة، وارتسمت على وجهها ابتسامة خافتة تحمل امتنانًا صامتًا:
“لا، شكرًا.”
أومأ برأسه بهدوء، ثم التفت نحو عالية التي كانت منهمكة في ترتيب الطاولة، وسألها بصوتٍ وديّ، كأنه يحاول أن يمدّ خيطًا من الحديث:
“طب وإنتِ يا عالية؟ محتاجة حاجة أجيبها لك؟”
جاء ردها مقتضبًا، حادًّا بعض الشيء، دون أن تكلف نفسها عناء النظر إليه:
“لأ.”
تجمدت لحظة قصيرة في الهواء، وكأنها طعنة هادئة أصابت المكان كله.
نظرت شمس إليها بحدةٍ خفيفة، وعتابها واضح في نظرتها أكثر من أي كلمة، فزفرت عالية بخفوت، ثم استدركت بنبرةٍ أقل جفافًا، رفعت فيها رأسها نحوه وقالت:
“لا شكرًا… مش عاوزة حاجة.”
أومأ مصطفى بابتسامةٍ متماسكة تخفي خيبةً صغيرة في عينيه، وقال بهدوءٍ:
“تمام… أنا هنزل، ولو احتجتوا حاجة، ابقوا اتصلوا بيا.”
خرج مصطفى بخطوات ثابتة، تحمل في هدوئها شيئًا من الثقل غير المعلن، وما إن كاد يبلغ باب الشقة حتى اخترق السكون صوتها وهي تنادي بخفوتٍ خجول:
“مصطفى.”
توقف، استدار ببطء، والتقت عيناهما في لحظة قصيرة لكنها مشحونة بكل ما لم يُقال.
بدت شمس مترددة، تمسك بأطراف حديثٍ لا تعرف من أين تبدأه، ثم قالت بنبرة حاولت أن تجعلها عادية:
“ما تزعلش من عالية… هي لسه ما أخدتش على الوضع.”
ابتسم بهدوء مطمئن وقال بصوتٍ منخفض يحمل صدقًا جميلاً:
“مش زعلان منها، ماتقلقيش… احنا كلنا لسه ما أخدناش على الوضع، وأنا متفهمها كويس.”
ارتسمت على وجه شمس ابتسامة امتنانٍ صادقة، تلك التي تخرج من القلب قبل أن تصل إلى الشفاه.
نظر هو إليها لحظة وكأنه يقرأ ما وراء صمتها، ثم قال بابتسامة خفيفة:
“طب… وإنتِ؟ لسه زعلانة مني؟”
غامت ملامحها قليلاً، وسكتت لثوانٍ بدت كأنها دهور قبل أن تهمس:
“اديني وقتي… ممكن؟”
أومأ بإيماءةٍ تحمل تفهماً حقيقياً، وقال بابتسامة دافئة:
“أكيد، خدي وقتك براحتك… بس أهم حاجة، لما الوقت ده يعدي، ترضي عني خالص، ونرجع زي الأول.”
وفي نهاية كلماته، ألقى عليها نظرة طويلة فيها مزيج من الأمل والحنين، ثم قال:
“يلا، أنا هنزل.”
استدار مغادرًا، بينما وقفت شمس للحظة تتبعه بعينيها حتى اختفى، فأغلقت الباب برفقٍ وتنهدت بعمق، ثم استجمعت أنفاسها قبل أن تعود إلى المطبخ بخطواتٍ هادئة، تحمل في صدرها شيئًا بين الراحة والإرتباك.
_________________
في جهة أخرى…
كانت تتنقل بخفة من على درج بيتها، يمسك هاتفها بين أناملها، تتصفح بتركيز ما، ثم أغلقت الجهاز ونظرت أمامها لتتجه خارج مدخل البيت.
لكن فجأة، وبمجرد أن خطت خطوة واحدة إلى الشارع، كادت
دراجة نارية
تدهسها، ولولا حركة سريعة وسحب جسدها إلى الوراء، لكانت الآن في موقف لا يُحسد عليه.
لم ينجُ جسدها من الوقوع تمامًا، فسقطت على الأرض، واضطرت لدعم نفسها بكفّ يدها، ما أدى إلى إصابة بسيطة في كفها.
توقف سائق الدراجة على الفور، وأوقف محركها، ونظر إليها بحدة، صائحًا في وجهها:
“ماتفتحتي يا ست!”
شهقت ضحى بقوة، ثم وقفت على قدميها وهي تشعر بالغضب يتصاعد فيها، وعينها تلمع بالاندفاع:
“أفتح؟ يعني أنت كنت هتخبطني وتقولي أنا أفتح؟ روح اكشف على عينك أو عقلك! مين اللي يسيب الشارع فاضي ويسوق قدام مداخل البيوت، ناقص تدخل جواها!”
ضحك السائق باستهزاء، ورد بسخرية تلامس الغطرسة:
“عامية ولسانها طويل، الله عليكِ.”
اتسعت عينا
ضحى
بقوة، وارتفعت ضربات قلبها من وقع أسلوبه الفظ، تقدمت نحوه بخطوات متوترة، وكادت أن ترد عليه بطريقته، ربما بكلمة جارحة تمس كرامته، أو حتى بكف على وجهه لتفعل به المثل.
لكن فجأة، تجمدت في مكانها، وشعر جسدها بالدهشة حين سبقتها يد قوية وأمسكت بالسائق من تلابيبه، وصاح بصوت جهوري يملأ المكان:
“مين اللي لسانها طويل ياروح أمك!”
وقفت
ضحى
مشدوهة، عيناها تتبعان ذلك الجسد الذي تعرفه جيدًا؛ كان
محسن
، ذاك الذي أنزل السائق من على الدراجة رغماً عنه، وهو يهدر بغضب وهو يصرخ:
“انزل يا حيلتها… انزل!”
تقدم بخطوات حازمة، أمسك الشاب من ياقة قميصه، ونظر إلى ضحى بعينين تحملان مزيجًا من الحزم والقلق، ثم سألها بهدوء مختلط بالغضب:
“هو إيه اللي حصل؟”
ارتجفت ضحى قليلاً قبل أن تجيب بصوت مليئ بالغضب:
“كنت… كنت طالعة من البيت عادي، وفجأة الأستاذ عدا وكان هيخبطني، وبدل ما يعتذر، راح زعقلي وغلط فيا زي ما سمعت.”
توجهت نظرات محسن نحو الشاب، عيناه تلمعان بالشرر، وكأنها تلوح بالتحذير قبل أن يقترب.
شعر الشاب بالضغط، فحاول الدفاع عن نفسه بصوت متلعثم:
“هي اللي طلعت قدامي فجــ…”
لكن قبل أن يكمل كلماته، لم يُسمح له بإتمام أي تبرير؛ فقد جاء
ضرب محسن
بعنف، رأسه يصطدم فوق عين الشاب، فتجمّد الأخير للحظة، تحسّس مكان الضربة وهو يصرخ من الألم، بينما شهقت ضحى بقلق وخوف.
نظر محسن إليه بسخرية قاتلة، وقال بحدة:
“علشان تفتح بعد كده!”
أنهى جملته، ثم أمسكه من قميصه مجددًا، ولكمه في وجهه بقوة، وهو يردد بغضب متحكم:
“ودي علشان لسانك ما يطولش على واحدة ست!”
وقف الجميع متجمدين للحظة، صمت مثقل بالغضب والصدمة يخيّم على المكان، وعيون
ضحى
تلتقط كل حركة، كل كلمة، وكل شرر غضب في وجه
محسن
، الذي نظر إلى الشاب بعينين حادتين، وصوته منخفض لكنه حازم وهو يقول:
“أنت غريب عن المنطقة يلا صح؟ علشان ما شوفتش خلقتك هنا قبل كده… عموماً غريب ولا لأ، مش عايز أشوف خلقتك، اختفي من قدامي يلا قبل ما أمسح بيك الشارع.”
رمى الشاب نظرة مليئة بالغضب، وهو يضع يده على فمه حيث كان ينزف دم بعد لكمة محسن، ثم صعد إلى دراجته، التي لم يفوّت محسن فرصة لركلها وهو يهتف بغضب:
“يلا يا روح أمك!”
استدار الشاب بالدراجة وانطلق بها بعيدًا، فزفر
محسن
بقوة، ثم التفت نحو
ضحى
وتقدم إليها بخطوات مطمئنة وسألها بصدق:
“أنتِ كويسة؟”
أومأت بخفّة، فردّ هو بابتسامة صغيرة من الارتياح:
“آه.”
تابع محسن بنبرة جادة، محاولًا أن يمرر لها درسًا من وقائع اليوم:
“طب الحمد لله… بس نصيحة مني، لما تقابلي واحد من الأشكال دي، ماتاخديش وتدي معاه، لأنك مش هتقدري عليه… مش هيقدر عليه غير راجل زيه.”
رفعت
ضحى
حاجبها بتحدٍ، ونبرة صوتها ملؤها الحدة والرفض:
“ليه ان شاء الله؟ وايه الذكورية اللي بتتكلم بيها دي؟”
تلعثم محسن قليلاً وهو يحاول التوضيح:
“ذكورية ايه؟ أنا قصدي…”
قاطعته ضحى بحدة، موجّهة كلامها مباشرة:
“بلا قصدك بل بتاع… كلكم زي بعض!”
أنهت جملتها وهي تلوّح بيدها في الهواء، ثم استدارت وانصرفت من أمامه بخطوات حاسمة.
بينما وقف محسن مذهولاً، يراقبها وهي تختفي، ثم تمتم لنفسه:
“هو أنا عملت إيه غلط… ده حتى ما شكرتنيش؟”
ألقى نظرة ضيقة على المكان، ثم ابتسم على مضض، ثم أضاف بصوت منخفض، موجهًا كلامه لنفسه أكثر منه للآخرين:
“يلا، هعديها علشان مُزة…”
رفع يده ليضعها على فمه، التفت حوله ليطمئن ألا أحد سمعه، ثم تنهد بارتياح، وقال:
“هو داء فيا ولا إيه؟ أقص لساني علشان أتلّم.”
زفر ببطء، ثم تحرك نحو دراجته، صاعدًا عليها لينطلق في شوارع المدينة إلى عمله، وخلفه صدى ذلك الموقف.
_________________
رنّ جرس الباب، وما إن تجاوبت ثوانٍ حتى انفتح الباب على
لينا
التي ابتسمت وأشارت لها بالدخول قائلةً بنبرة لطيفة ودافئة:
“تعالي.”
دخلت
ضحى
المنزل بخطوات هادئة، وأخذت تنظر حولها،حتى توقفت عينها عند
سهير
التي كانت منهمكة في المطبخ، تعمل بتركيز وحب.
رفعت ضحى صوتها بابتسامة مشرقة، محاولةً كسر الحاجز الأولي:
“إزيك يا أم العروسة!”
ابتسمت سهير وهي ترفع رأسها، ووجهها يفيض بالود والرضا، فردّت بصوت دافئ:
“الحمد لله يا حبيبتي… عقبالك.”
ابتسمت
ضحى
بدفء، وجهها يشرق ببساطة العاطفة، وقالت بمرح واهتمام:
“وعقبال تينا… هي فين يا المناسبة؟”
أنهت جملتها وهي تواجه
لينا
بسؤالها، فابتسمت الأخيرة وأجابت بصوت مليء باليأس والتعب:
“في أوضتها مع مسك… بقالنا ساعة بنتكلم معاها ومش قادرين عليها.”
رفعت ضحى حاجبها بدهشة، وأضافت بنبرة لامسة للدهشة والفضول:
“هي لسه ما كلمتكش من يومها؟”
أجابت لينا بنفي سريع:
“لأ.”
هزّت ضحى رأسها، ثم ابتسمت بخفة قبل أن تقول بحزم مرح:
“طب تعالى نحاول نعقلها المجنونة دي.”
تحركت الاثنتان نحو غرفة المذكورة، وما إن دخلتا حتى وجدتّا
تينا
تولي ظهرها لمسك، التي كانت تقف في الخلفية وهي تتحدث مع نفسها بنبرة حادة:
“يا بنتي… هو أنتِ هتفضلي كل ما حد فينا يخطب تاخدي جنب منه؟”
ردّت تينا بصوت مفعم بالغضب والعتاب، وعيونها تلمع بالتحدي:
“آه… علشان أنتو خونة.”
تأففت
مسك
بنفاد صبر، تراجعت للخلف بخطوات قصيرة، وهي تقول بصوت ممزوج بالاستياء:
“لأ، أنا جبت أخرى… كملوا أنتم بقى.”
تقدمت
ضحى
نحو
تينا
بخطوات هادئة، محاولةً أن تكسر التوتر بينهما، ثم قالت بنبرة مازحة تحمل نوعًا من الفضول:
“هتفضلي مخاصمة أختك كتير؟”
رفعت تينا كتفها بطريقة عابرة، وأجابت باقتضاب:
“آه.”
حدّقت ضحى فيها للحظة، ثم سألت بهدوء محاولًة أن تفهم المدى:
“لحد إمتى يعني؟”
أجابت تينا بنبرة صريحة، تحمل شيئًا من التحدي:
“معرفش… بس هفضل مخصماها عامةً.”
ابتسمت ضحى بخفة، محاولة أن تُخفف من حدة الموقف، وقالت:
“يعني هتسبيها النهاردة لوحدها ولا إيه؟”
رفعت
تينا
رأسها بنبرة شبه دفاعية، كأنها تؤكد موقفها بحزم:
“مش هي اللي واقفت تقابله… مع نفسها بقى، خلي الست مسك تنفعها.”
علقت
مسك
بسرعة:
“طب وأنا مالي.”
التفتت تينا إليها بعينين حادتين، وصوتها مشحون بالتوبيخ:
“مش أنتِ اللي طلعت من الحلف ورحتِ اتخطبتي؟ أهي عملت زيك… وبكره ضحى كمان تعمل زيك.”
نفذ صبر
ضحى
فجأة، وارتفع صوتها بحدة مختلطة بالغضب والحزم:
“بت، اتظبطي! هو كل ما واحدة فينا يجيلها عريس تعملي نفس الموال؟ ماتعقلي بقى الله! ويلا تعالى معانا علشان نساعد مامتك في التحضيرات، وبعدين نساعد أختك علشان تجهز، وعايزة أسمع اعتراض منك، الواحد مش طايق نفسه.”
تراجعت تينا خطوة إلى الوراء من وقع كلمات
ضحى
الانفعالية، وامتلأت عيونها بالدهشة، بينما امتزج في عيون
لينا
شعور بالصدمة والفرحة معًا، أما
مسك
فقد ضحكت بشيء من التشفّي، وردت بابتسامة ساخرة:
“جدعة.”
زفرت
ضحى
أنفاسها ببطء، ثم أشارت لتينا بالتحرك أمامها وهي تقول بحزم:
“يلا قدامي.”
زمّت
تينا
شفتيها، وتقدمت بخطوات غاضبة، حتى توقفت بجوار
لينا
، وقالت بنبرة تحذيرية كأنها تصدر إنذارًا مباشرًا:
“فاكرة اللي عملته في مسك يوم ما وافقت على حسين؟ هعمل أضعافه معاكِ لو وافقت على حسن.”
اتسعت عينا
لينا
من وقع تهديدها، بينما تقدمت
ضحى
بسرعة نحو تينا، دفعتها للخارج بخفة، وقالت بنبرة نصف غاضبة نصف مزحة:
“يلا بت، يلا… ده أنت مستفزة.”
خرجت كلتاهما من الغرفة، وبقيت
لينا
و
مسك
التي نظرت إلى الأولى وقالت:
“فكك منها، دي ملسوعة.”
ضحكت
لينا
بيأس، ثم تحركت مع مسك للخارج، متجنبة أي توتر أو خلاف، فهي اليوم تريد أن تعيش فرحتها على أكمل وجه، فهو اليوم المنتظر… اليوم الذي سيأتي فيه لطلب يدها… كما كانت تتمنى.
_________________
مع مرور الوقت…
غابت الشمس، وأُعلن انتهاء النهار، وقد أصبح كل شيء معدًا ومهيأً لذلك التجمع في بيت
فاروق
.
وقف
هو
أمام المرآة في غرفته، يضبط ساعة يده بدقة، وكأن هذه اللمسة الأخيرة تكمل كل تفاصيل طلّته، وقد ارتدى
بنطالًا أسود
ينسجم مع أناقته، وفوقه
قميص أبيض
طوى جزءًا من أكمامه، ما منح مظهره مزيجًا من الرصانة والراحة.
وفي جهة موازية، كانت
هي
كذلك تقف أمام المرآة في غرفتها، لكن الجو مختلف قليلًا؛ فحولها
الفتيات يتحركن بسرعة وحماس
، ينسقن التفاصيل الأخيرة من حجابها وملابسها، بينما هي بالكاد تعي بما يحدث حولها.
كانت
شاردة
، تغوص في اللحظة القادمة، تسترجع تفاصيل اليوم في رأسها، وتتهيأ للقائه بخفة قلب ودفء إحساس.
وقد ارتدت
فستانًا بلون البيج
، ناعم ورقيق، يتلائم مع ملامحها ويزيدها بهاءً ورقة، كأنها جزء من نور المساء الذي ينساب عبر الشرفة.
هو هناك، وهي هنا…
وها هما بعد دقائق قليلة، يجلسان معًا…
جلسا متقابلين في
الشرفة
، تاركين الباب مفتوحًا كالمعتاد، في ما يُعرف بـ”الرؤية الشرعية”، حيث يسمح لهما بالنظر إلى بعضهما لمعرفة الصفات الأساسية، ضمن ضوابط الحياء والاحترام.
ولكن الغريب، أن أكثر من خمس دقائق مرت، دون كلمة واحدة، ودون أن يجرؤ أي منهما على رفع بصره للآخر… الخجل تملك كليهما، وجعل كل حركة بسيطة تصبح ثقيلة.
هي جالسة، يداها مطويتان في حجرها، تنحني بخجل، وخفضت عينيها في خجل ظاهر، كأنها تخفي كل حرارة قلبها خلف نظرة خجولة.
أما هو، فكان يطرق رأسه ببطء، وينحني ببصره بعيدًا عنها، بينما يحاول ضبط أنفاسه المتسارعة، وقلبه الذي دق بشغف، وكأن كل ثانية تمر أثقل من التي قبلها.
لم يكن السكوت الذي يخيم على المكان فارغًا؛ بل كان ممتلئًا بكل ما لم يُقال، مشاعر صامتة من
ترقب، رهبة، ودفء توق لشيء لم يتحقق بعد
.
وأخيرًا، رفع كلاهما رأسه في الوقت ذاته، كأن قلبيهما دفعاهما لذلك، ولأول مرة يراها، ولأول مرة تتلاقى عيناهما معها لأكثر من ثانية.
ارتجف قلبه بسرعة، وتسارعت أنفاسه، وكاد يشعر أن قلبه سيتوقف من شدة ما يختبره.
ومع كل هذا الانبهار والدهشة، لم يخرج منه إلا
كلمتان
، متقطعتان، تكاد تخترق صمت المكان:
“سبحان الله.”
علقت عينيه بعينيها،
تلك العيون الواسعة والجميلة التي تشبه عيون الغزال
، وكأنهما يحملان في عمقهما كل الصمت، كل الترقب، وكل دفء المشاعر التي لم يجد القلب كلمات لها بعد.
_________________
بعد دقائق…
خرجا وعادا كل منهما إلى مكانه، هي جلست بجوار
والدها
، وهو بجوار
والده
، الذي نظر إليهما بدهشة وقال:
“ماتكلمتوش مع بعض خالص، ليه كده؟”
أخفض كل منهما عينيه بخجل، بينما ظل الصمت يملأ المكان، ولم تأتِ الإجابة من أي منهما، بل خرجت من
موسى
، الذي كان يراقب الموقف باهتمام، وقال بنبرة جادة، رغم لمسة المرح التي اختلطت بها كلماته:
“أكيد مكسوفين… ده أول قعدة بينهم، وبعدين هيتكلموا في إيه؟ أكيد عارفين كل حاجة عن بعض… هما غُرب.”
ابتسم البعض على كلماته، بينما ضحك آخرون بخفة، حتى نظر
فاروق
إلى ابنته وسألها بفضول:
“يعني في قبول ولا لأ؟”
نظر
سالم
كذلك نحو
لينا
وقال بهدوء:
“لو فيه، فخلينا نقرا الفاتحة، وبعدين نحدد ميعاد الخطوبة.”
في تلك اللحظة، رفع
حسن
رأسه ونظر إلى والده، وقال بهدوء وجرأة:
“بعد إذنك يابابا…”
التفتت كل العيون إليه، حتى هي نفسها وجهت نظرها إليه بدهشة، بينما هو رفع بصره إلى
فاروق
وأكمل:
“أنا مش عايز خطوبة… أنا عايز أكتب الكتاب.”
#يتبع…
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.