رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثاني والستون
الفصل الثاني والستون(اعترافًا مدفونًا)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
“سيظلّ شيءٌ في ضميركِ كامنًا
أنّي عشقتكِ ذاتَ يومٍ موطنًا
وأنّي وجدتُكِ في الضلوعِ سكينةً
وفي الحياةِ أحببتكِ مأمنًا”
–
فاروق جويدة
_____________
“مين يا بابا؟”
ابتسم يحيى بثبات، صوته واثق ودافئ في آن واحد:
“حبيبك يا روح بابا.”
عقدت حاجبيها باستغراب، ثم لاحظت أن عينيه تتجهان خلفه، فالتفتت هي أيضًا، ووقفت مشدوهة، وكأن الزمن تجمّد للحظة، لتجد أمامها هو… موسى، حبيبها، أسير عيونها وقلبها، حاضر أمامها كما لو أن كل الانتظار انتهى فجأة
.
لمعت عيناها بدموع لم تسقط بعد، تمردت بين الفرحة والذهول، قبل أن يفلت منها همس مرتجف، كأنها لا تصدق بعد أنه أمامها:
“موسى!”
هو الآخر كان يبتسم، ابتسامته الدافئة المعتادة التي كانت دائمًا ملاذها. ترك الحقيبة تستقر على الأرض بهدوء، ثم مد ذراعيه في دعوة صامتة، دعوة للرجوع إلى موطنها الأول… قلبه.
نظرت إليه لحظة، لحظة واحدة كانت كافية لتكسر كل مسافة بينهما، فانطلقت تركض، تركض بروحها قبل جسدها، حتى استكانت بين ذراعيه، تسمع دقات قلبه وكأنها تعزف لها لحن العودة.
وهناك، في حضنه، لم تحتج إلا لكلمة واحدة، كلمة خرجت مشبعة بكل الشوق والحنين:
“وحشتني.”
ووالله إن اشتياقه لها كان أكبر من أن تحمله الحروف أو تصفه الجُمل… أيام من الانتظار انسكبت في لحظة واحدة، لحظة صار فيها قلبه يفيض فرحًا حتى كاد المكان يضيق عن سَعته.
ضمّها إليه بقوة أكبر، ثم أغمض عينيه يتنفس بعمق، تنهيدة راحة خرجت من أعماقه كأنها أول نفس صادق يعيشه منذ زمن.
وبصوت اختلط فيه الدفء بالرجفة، قال وهو يدفن وجهه في قربها:
“وأنتِ وحشتيني… وحشتيني أوي.”
وها هو عاد قلبه ليتنفس في قربها، كأن صدره لم يعرف الهواء إلا الآن، وعاد قلبها لينبض في قربه، كأن دقاتها كانت تنتظر هذه اللحظة لتستعيد إيقاعها الحقيقي.
التقت أنفاسهما، وتداخل وجدانُهما حتى غاب كل ما حولهما، نعم…
لم يكن الغياب طويلًا، لكنه كان كافيًا ليجعل اللقاء
أثمن، وأحلى، وأصدق.
_________________
“يعني موسى سافر لها في الآخر؟”
سأل طارق وهو يقترب منها بخطوات هادئة، يحمل بيده الدواء،
مدّت دلال يدها لتأخذه منه، وفي عينيها بريق لا يمكن إخفاؤه، ثم أجابت بابتسامة صغيرة:
“آه… هو كان مستني الفيزا والتأشيرة يطلعوا، وأول ما طلعوا حجز الطيارة وطار.”
ضحك طارق ضحكة خفيفة وهو يناولها كوب الماء، فأخذته منه وأتبعت الدواء برشفة صغيرة، بينما جلس بجوارها على الأريكة في غرفة المعيشة.
نظر إليها وقال وهو يبتسم بمزيج من السخرية الخفيفة والحنان:
“يعني مقدرش يستحمل يبعد عنها أسبوعين.”
وضعت الكوب على الطاولة، ثم التفتت إليه بنصف جسدها، نظرتها مليئة بالمشاكسة، وقالت وهي تقلد موسى بنبرة ساخرة ضاحكة:
“قولتله نفس الكلمتين دول وأنا بساعده امبارح في تحضير الشنطة، راح رفع صباعه في وشي وقال: لا… أكتر من أسبوعين! على أساس إنها فرقت يعني.”
تشارك الاثنان الضحكة، ضحكة كانت كنسمة خفيفة تسري في المكان، تبعث فيه حياة وبهجة.
كان طارق أول من تراجع، مسح ابتسامته قليلًا ليتركها راسخة في عينيه، ثم قال بنبرة مزيج بين المزاح والجدية:
“هيفضل طول عمره مش مفهوم… طريقة تفكيره غريبة بجد، وعلى قد ما هو مستفز وبارد، بس طيب وجدع.”
أومأت دلال برأسها، وابتسامتها الهادئة تؤكد ما قاله، ثم تابعت بصوت محمّل بالصدق:
“ده حقيقة، هو عنده عيوب كتير، ماأقدرش أنكر، بس مميزاته أكتر… وأهمها إنه طيب وجدع وحنين، وطموح ومُثابر… تعرف، وإحنا صغيرين كان موسى أشطر مني في الرياضة، وكان هو اللي بيذاكرلي، كان شاطر جدًا فيها، وواثقة إنه لو كان دخل حاسبات زي ما كان نفسه، كان هيتفوق، بس… قدر الله وما شاء فعل.”
سكتت لحظة، كأنها تستعيد ذكرى قديمة، ثم أكملت بابتسامة امتنان:
“هو ماقدرش يدخلها، بس قدر يحقق حلمه برضه، سألته مرة من قريب: ليه ما دخلتش بعد التجارة كلية تانية أو معهد تكمل بعده في حاسبات؟ رد عليا وقال: ماكنتش عايز أضيع وقتي… استغليت وقتي كله في إني أتعلم الحاجة اللي بحبها، غير إن داود أصلا كان رافض دخوله معهد يكمل بعده كلية، أو الأصح ماوافقش يسمع وجهة نظره دي… بس في الآخر، رغم كل ده قدر يحقق حلمه.”
أخذت نفسًا قصيرًا وكأنها تلخّص سنين من الكفاح في جملة واحدة، ثم أردفت بنبرة فخر:
“لو أي حد مكانه وحصله زي ما حصل لموسى، كنت متأكدة إنه كان هيستسلم ويقف في مكانه، موسى ماعملش كده… بالعكس، كل حاجة واجهته اعتبرها حافز يكمل بيه.. والحمد لله، في النهاية حقق حلمه.. وأنا مبسوطة جدًا علشانه، لأنه فعلًا يستحق كل حاجة حلوة حصلت له ولسه هتحصله.”
أومأ طارق برأسه، وكأنه يضع خطًا تحت كل كلمة نطقتها، ثم قال بابتسامة فخر صافية:
“ربنا عوّضه… مين كان يتخيل إنه يوصل للي وصل له ده؟ فتح شركة، وشغله ماشي الحمد لله، ومش بعيد كمان كام سنة يتعرف أكتر ويفتح بدل الشركة اتنين، ربنا كريم، وعوضه كبير… عوض موسى عن كل اللي حصل له، وكفاية فيروز، دي لوحدها جايزة كبيرة ليه.”
ضحكت دلال وهي تومئ موافقة، ثم ردّت بنبرة يغمرها الرضا:
“ده حقيقة… ربنا عوضه بفيروز، وعوّض فيروز بيه. ربنا يخليهم لبعض.”
تأملها طارق للحظة، ثم قال بصوت يخرج من قلبه:
“ويخليكي ليا انت كمان.”
ابتسمت بخفة، ضحكة قصيرة خرجت منها قبل أن تميل برقة وترتمي بين ذراعيه، فاحتواها هو بذراعين ثابتتين، وابتسامة لا تُخطئها عين، ابتسامة تحمل كل الحب والعشق.
فافي النهاية… كما نال موسى فيروز، نال طارق دلال.
_________________
على الجهة الأخرى…
كان واقفًا أمام نافذة غرفته الواسعة، عيناه معلقتان بأفق دبي الممتد، والبرج الشامخ _برج خليفة_ يقطع السماء كرمزٍ للقوة والتحدي.
الشمس كانت تنثر خيوطها الذهبية على الزجاج والمدينة من تحته،
فتبدو وكأنها تتزين بوشاح من ضياءٍ خفيف
، يلفها بحنان ويكشف ملامحها في أبهى صورة.
قطع شروده صوتها الرقيق وهي تقترب منه بخطوات خفيفة، صوتها يحمل دفئًا مألوفًا:
“جهزتلك الحمام علشان تدخل تاخد دوش، وبعدين ترتاح من السفر.”
التفت إليها بنصف جسده، نظرة عينيه تكسوها راحة اللقاء، ثم مد يده نحوها، يده التي ما زالت ملتفة بالجبيرة، وقد تخلّى عن الحامل أخيرًا.
رفعت هي حاجبيها بدهشة صغيرة في البداية، قبل أن تستسلم لابتسامة هادئة وهي تضع يدها في يده.
جذبها نحوه بخفة مفاجئة، فشهقت بصوت خافت، لتجد نفسها واقفة أمامه، بينما هو انتقل بخطوة هادئة خلفها، يطوّق خصرها بذراعيه.
مالت هي بجسدها قليلًا إلى الوراء، مستسلمة لاحتوائه، فيما أسند هو ذقنه على كتفها كمن يعلن اكتمال الطمأنينة.
وبصوت منخفض، يحمل شيئًا من الرضا واليقين، قال وهو يتنفس قربها:
“كده المشهد اكتمل.”
ابتسمت بدفء، وكأن قلبها تنفّس بعد طول عناء، ثم أطلقت زفرة راحة وهي تتابع المشهد أمامها، وقالت بصوت خفيف يختلط بالمرح:
“واضح إن الإطلالة عجبتك؟”
التفت نحوها قليلًا، عيناه تلمعان وهو يجيب باختصار حمل في طياته الكثير:
“آه… وعجباني أكتر دلوقتي.”
اتسعت ابتسامتها، وازداد وجهها إشراقًا، ثم أمسكت بذراعيه لتقرّبه منها أكثر، فضحك بخفة وهو يشد احتضانها.
بقيا هكذا، يتأملان الأفق الهادئ معًا، في صمت لم يقطعه إلا صوته حين قال وهو مازال شاخصًا نحو البرج:
“ما قلتليش قبل كده إنك ساكنة في مكان قريب من البرج.”
أمالت رأسها قليلًا نحوه وقالت بهدوء:
“ماجتش مناسبة أقولك.. وبعدين إحنا كده مش قريبين أوي، بيتنا القديم كان أقرب، وكان في دور عالي، فكنت بشوفه أوضح من كده بكتير.”
رفع حاجبه باستغراب، ثم سأل:
“يعني ده ماكنش بيتكم أصلًا؟”
هزّت رأسها نافية، وهي تجيب:
“لأ… إحنا نقلنا هنا بعد ما دخلت الكلية.. بابا وقتها ارتقى واتنقل لفرع تاني، فاشترينا البيت ده.”
أومأ برفق، وعيناه مازالت معلقتين بالبرج الذي يتلألأ تحت الشمس، حتى ابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال بنبرة تحمل شيئًا من الحماس والطفولة:
“الحقيقة… نفسي أشوف البرج من قريب، ممكن تبقي المرشد بتاعي وتاخديني في جولة هنا؟”
ابتسمت في البداية، ابتسامة خفيفة وكأنها ترحّب بالفكرة، لكن فجأة اختفى النور من وجهها، وانطفأت ملامحها وهي تهمس:
“بابا… ماقدرش أسيبه لوحده.”
تدخل فجأة صوت مألوف، يقول برتابة:
“باباكِ بقى كويس خلاص.”
التفتا معًا في اللحظة نفسها نحو الباب، حيث كان يقف يحيى، وقد التقط كلمات حديثهما وهو في طريقه إلى غرفته.
ظل واقفًا عند العتبة لحظة، قبل أن يدخل بخطوات ثابتة إلى الغرفة، ومع اقترابه، ابتعدا هما قليلاً عن بعضهما، كأن الموقف استدعى التزام الوقار أمامه.
وقف أمامها أولًا، يواجه عينيها مباشرة، وقال بصوت هادئ حاسم يحمل دفء الأبوة:
“أنا بقيت تمام الحمد لله… الدكتور هو اللي قالك امبارح، كل اللي هاخده شوية أدوية وخلاص.. بلاش خوف وقلق على الفاضي… أنا كويس الحمد لله، ولو حصل أي حاجة ياروحي، هتصل بيكِ.. سهلة.”
أنهى جملته وهو يرفع يده ببطء، يضعها برفق على وجنتها، فارتسمت ابتسامة مطمئنة على وجهها، ردّت عليها ابتسامة مشابهة على شفتيه.
ثم حوّل نظره إليهما معًا، بعينين تحملان مزيجًا من الحنان والمزاح، وقال:
“خديه في جولة يلا… اتفسحوا كده، واعتبروه شهر عسل تاني.. وماتقلقوش عليا.”
كانت كلماته بمثابة إذن صريح لهما، فارتسمت ابتسامة ممتنة على وجهيهما، ثم تبادلا النظرات في صمت، وكأن خيالهما سبق الواقع، فرسم لهما جولة يتقاسمان تفاصيلها منذ الآن.
_________________
وفي صباح اليوم التالي، انطلقت جولتهما كما لو كانت وعدًا صغيرًا تحقّق أخيرًا…
استقلا سيارة والدها، وجلست هي خلف المقود بثقة، لا لكون يده ما تزال مصابة فحسب، بل لأنها تحفظ طرق المدينة عن ظهر قلب أكثر منه.
كان هو يجلس بجوارها يراقب ملامحها بين الحين والآخر، بينما يتردد في الخلفية صوت عبد الحليم، ينساب من المذياع كخيط حنين يلون الرحلة بأجواء دافئة.
ارتديا ملابس متشابهة، يغلب عليها الأبيض والأسود، وكأنهما لوحة متناغمة بين النور والظل. زاد تشابه القبعات التي وضعاها على رأسيهما _اتقاءً لشمس دبي الساطعة_ من شعور التوحد بينهما، حتى بدا الأمر وكأنهما انعكاسان لصورة واحدة.
تجوّلا معًا في أشهر أماكن المدينة، متنقلين بين صخب الشوارع المزدحمة ورحابة الحدائق المورقة، يلتهمان المشاهد كما لو كانا يعيشان يومًا أول وأخيرًا في آن واحد.
حتى توقفا في إحدى الحدائق، حيث أفسحا للمرح مكانًا واسعًا، فانطلقا يتسابقان على الدراجات باندفاع طفولي، كأنهما تحررا فجأة من كل أثقال العالم. علت ضحكاتهما في الهواء، متشابكة، صافية، والعيون مغمورة بفرح عميق لا تصفه الكلمات.
وفي كل محطة، كانت الكاميرا حاضرة لتوثّق اللحظة: صور عفوية جداً، واحدة وهو يرفع يده ممسكًا بخديها برقة، وأخرى وهي تفعل الأمر نفسه بابتسامة مليئة بالدلال، وثالثة وهو ينحني ليقدم لها الورود كفارس قديم يعاهد محبوبته، وأخرى… وهو يقود الدراجة الهوائية بثبات واندفاع، بينما جلست هي خلفه متشبثة بظهره، ضاحكة كطفلة تكتشف الدنيا من جديد، وأخرى وهما يمدان أيديهما للكاميرا بإشارة عفوية، كأنهما يعلنان للكون كله أنهما معًا، لا شيء سيفصل بينهما.
وغيرها وغيرها من اللقطات التي بدت في ظاهرها مجرد صور، لكنها في عمقها كانت شهادات حيّة على حبٍ يتنفس في كل حركة، ويزهر في كل ضحكة، ويكبر مع كل نظرة صادقة بينهما.
ومع اقتراب المساء، اتفقا أن تكون محطتهما الأخيرة هي برج خليفة، لكن قبل ذلك مرّا على أحد المطاعم الراقية لتناول العشاء معًا.
جلسا على طاولة قرب النافذة، وبينهما أطباق الطعام الشهية، بينما الأجواء المحيطة تحمل مزيجًا من الرقي والسكينة.
تأملت فيروز موسى للحظة، ثم همست بصوت خافت يختلطه دفء:
“مبسوط؟”
التفت إليها، وعينيه تنطق بالصدق قبل أن تنطق شفتاه، ثم ابتسم وهو يجيب:
“أوي… كفاية وجودك أصلاً علشان أبقى مبسوط.”
شعرت فيروز وكأن كلماته اخترقت قلبها قبل أذنها، فابتسمت بدورها ووضعته يدها فوق يده على الطاولة، وكأنها تريد أن تشارك قلبها معه لتثبت اللحظة في ذاكرتهما معًا.
جلسا يتناولان طعامهما في جو دافئ مفعم بالطمأنينة، مقطَّعًا أحيانًا بتبادل النظرات والابتسامات الصغيرة التي تخصهما وحدهما، لحظات صامتة لكنها أعمق من أي كلمات، تجعل كل ثانية تمر كأنها دهر من السعادة المشتركة.
بدا المكان وكأنه خلق خصيصًا ليحتضن لحظتهما تلك، حتى اخترق السكون صوت أنثوي جاء متردداً، كمن لم يصدق ما تراه عيناه:
“فيروز؟”
التفتا معًا إلى مصدر الصوت، فرأيا فتاة تقف غير بعيد، تحدق نحوها بذهول يختلط بابتسامة آخذة في التفتح شيئًا فشيئًا.
ترددت لحظة قبل أن تقول وقد اتسعت ابتسامتها:
“طلعتِ أنتِ بجد!”
نهضت فيروز من مكانها بهدوء، وهي تردد باقتضاب:
“مروة…”
تبادلا عناقًا قصيرًا يحمل طابع المجاملة أكثر من الشوق، لتقول مروة بابتسامة عادية:
“إيه الأخبار؟ بقالي كتير ما شوفتكش.”
ابتسمت فيروز ابتسامة خفيفة، وأجابت
بنبرة بسيطة لكنها محمّلة بما هو أكثر من الكلمات:
“رجعت مصر.”
انعقد حاجبا مروة باستغراب لم تستطع إخفاءه، فرددت مستفهمة:
“مصر؟”
أومأت فيروز، وما زالت ابتسامتها تضيء وجهها:
“آه… خلاص رجعت واستقريت هناك، أنا هنا زيارة بس علشان بابا… وبالمناسبة، أعرفك على موسى، جوزي.”
انتقلت أنظار مروة المندهشة على الفور إلى موسى، الذي نهض بدوره بهدوء، وحيّاها بابتسامة هادئة وإماءة خافتة:
“أهلاً.”
بادلت الابتسامة بابتسامة ودودة وهي تعرّف بنفسها:
“أهلاً… أنا مروة، كنت زميلة فيروز في الجامعة.”
قال موسى بهدوءٍ رسمي:
“اتشرفنا.”
لكن مروة لم تستطع كتمان دهشتها، فأخذت تمرر عينيها بينهما مرارًا، قبل أن تقول:
“أنتم بجد متجوزين؟ أنا مش مستوعبة…!”
ثم ما لبثت أن ثبّتت نظرها على فيروز وأضافت بجرأة:
“مش أنتِ كنتِ مخطوبة لخالد؟”
تبدلت ملامح فيروز على الفور، وغابت الابتسامة عن وجهها، بينما تجهم موسى في لحظة وكأن الاسم أيقظ بداخله ما يكره تذكره، وأسرع يرد بصوت حازم يحمل بين حروفه رفضًا قاطعًا:
“لأ… ده كان مجرد كلام وقتها، وماكانش بينهم أي حاجة، والأفضل ما تجيبيش سيرته تاني… لو سمحتِ.”
ارتبكت مروة من لهجته الحاسمة، وانخفض صوتها وهي تقول بتوتر:
“حاضر… أنا بس سألت، ماكانش قصدي حاجة.”
بادرت فيروز، لتخفف وقع الموقف، فأمسكت بيد صديقتها بلطف وقالت:
“عارفة طبعًا إنك ماقصدتيش حاجة، بس الموضوع طويل ومش حلو، ومش هينفع أشرحه دلوقتي.”
هزّت مروة رأسها متفهمة، ثم ابتسمت محاولة كسر حدة الجو:
“عادي… ولا يهمك، أنا مبسوطة علشانك كده كده… بس ماقلتيليش، اتعرفتوا على بعض إزاي؟”
نظرت فيروز سريعًا نحو موسى، تبادلا نظرة قصيرة مليئة بالحب، قبل أن تجيب بابتسامة هادئة:
“لا، احنا صحاب من الطفولة… وجيران، الباب في وش الباب.”
اتسعت عينا مروة بدهشة ممزوجة بالإعجاب:
“واو… دي حاجة جميلة أوي.”
التفتت بعدها نحو موسى وسألته بفضول:
“وحضرتك… دكتور؟”
أجاب بهدوء مختصر:
“لأ.”
“طب خريج إيه؟”
لكن فيروز سبقت موسى في الرد، وكأنها تعمدت أن تضع اعتزازها به في كلمات واضحة:
“الحقيقة موسى ماكملش دراسته، بس دلوقتي عنده شركته الخاصة، شركة برمجة، ودعاية وإعلان رقمية… تعرفي MF؟”
ارتفعت ملامح الدهشة على وجه مروة، وقالت بسرعة:
“آه طبعًا! سمعت عنه كتير… حضرتك اشتغلت معاه؟”
أجابت فيروز بنبرة يملؤها الاعتزاز، وعيناها تلمعان وهي تتأمل موسى وكأنها ترى فيه أكثر مما يراه الآخرون:
“لا… هو
MF
.”
شهقت مروة بخفة، وعقدت حاجبيها بدهشة صادقة وهي تردد:
“مش معقول!”
لم تترك فيروز الفرصة لتمر، بل اقتربت من موسى وعانقت ذراعه بحركة عفوية مليئة بالفخر والحنان، ثم قالت بابتسامة واسعة، تحمل بين طياتها حبًا صريحًا:
“لا، معقول.. وحقيقة كمان، جوزي وحبيبي
هو
MF
.”
التفت موسى نحوها، وابتسامته تنطق برضا داخلي لا يخفى، تبادلا نظرات قصيرة لكنها ممتلئة بمعانٍ عميقة، قبل أن ينتبها لمروة التي مازالت مذهولة، فقالت وهي تبتسم رغم صدمتها:
“بجد لسه مش مستوعبة… بس ألف مبروك، لايقين أوي على بعض.”
التفتت فيروز إلى صديقتها السابقة، وأجابت بابتسامة رقيقة:
“الله يبارك فيكِ.”
رفعت مروة حقيبتها وهي تقول بخفة:
“تمام… أنا همشي بقى علشان بابا معايا، نبقى نتواصل؟”
أومأت فيروز موافقة، ونبرتها هادئة لكنها ودودة:
“أكيد.”
ابتعدت مروة بخطواتها الهادئة، تاركة خلفها لحظة أثقلها الصمت المحمَّل بالكثير من المعاني.
ظل موسى يراقب فيروز، وكأنه يراها لأول مرة من جديد، تأملها طويلًا، نظراته عميقة، تتجاوز ملامحها إلى أعماقها، قبل أن يقطع ذلك الصمت بصوت خافت لكنه ممتلئ باليقين:
“بحبك على فكرة.”
لم تتردد هي، بل جاء ردها عفويًا، صادقًا، يخرج من القلب قبل اللسان:
“وأنا بموت فيك.”
ضحكت بخجل ممزوج بالحب، فارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة جعلته يضحك هو الآخر، ضحكة صافية كأنها ولدت من دفء اللحظة، ثم مال بجسده قليلًا للأمام وقال وهو ما زال مبتسمًا:
“نكمل؟”
أومأت برقة وابتسامة ثابتة:
“أكيد.”
رفع يده وأشار نحو الطاولة، ثم تقدم بخطواته الهادئة، وأزاح الكرسي لها بلمسة نبيلة، فجلست أولًا وهي تراقبه بعينين تزدادان امتنانًا.
وعاد هو بعدها لمقعده المقابل، وكأنهما يبدآن من جديد سهرة تخصهما وحدهما، بينما المدينة من خلف الزجاج تمتد كلوحة صامتة تشهد على حبهما.
________________
_
ومع مرور الوقت…
وصلوا أخيرًا إلى البرج، وقفوا أمام المصاعد العالية التي حملتهم سريعًا إلى الطوابق العليا.. وعند وصولهم، خرجا إلى منصة مطلة على المدينة، حيث الهواء البارد يلامس وجوههم بخفة، والليل قد أسدل ستاره على دبي، فأصبحت أضواء المدينة تتلألأ كبحر من النجوم الممتدة أسفلهم.
توقفا للحظة، كل منهما يغوص في صمتٍ ممتع، يتأملان الأفق المضاء، حيث المباني الشاهقة والطرق المتعرجة، والأنهار الصغيرة من السيارات تتحرك كتيارات ضوئية، بينما السماء فوقهم مظلمة وعميقة.
أمسكت فيروز بذراعه، وهو لف ذراعه حولها بلطف، وكأنهما يضعان العالم كله خلف ظهرهما. كانت اللحظة هادئة، لكنها مشحونة بسحرٍ خاص؛ فرحة بهدوء الليل، دفء وجودهما معًا، شعور بالاكتمال وكأن كل شيء في مكانه الصحيح.
كان صمت محبب يخيم على المكان، يقطعه فقط صوت الهواء البارد الذي يلامس وجوههما برقة، حتى كسر موسى ذلك الصمت بصوت منخفض لكنه دافئ:
“أعتقد البنت اللي قابلناها من شوية… مش مقربة ليكِ صح؟ حسيت بكده.”
ابتسمت فيروز بخفوت، ونظرتها تتبع الأفق قليلًا قبل أن تلتفت إليه وتجيب بهدوء:
“آه، هي كانت زميلتي في الجامعة، وكمان بنت صديق بابا في الشغل، وهو اللي عرفني عليها.. مجرد زميلة يعني، مش صاحبتي.. وأكيد لاحظت ده من طريقتنا كمان.”
أومأ موسى برفق وقال:
“لاحظت.”
ظل يراقب الأفق بصمت، بينما فيروز ظلت تنظر إليه، كأنها تبحث عن تأكيد داخلي لشيء ما، ثم قالت بصوت خافت محمّل بالحرص:
“أنت مش مضايق، صح؟”
التفت لها موسى، عينيه صادقتا ابتسامته، وسألها ببساطة:
“وأضايق ليه؟”
ابتلعت فيروز كلماتها قليلاً قبل أن تهمس:
“علشان هي جابت سيرة خــ…”
لكن موسى قاطعها بسرعة، صوته حازم وحنون في الوقت ذاته:
“ما تقوليش اسمه… إحنا ماصدقنا نسينا ورمينا اللي حصل ورا ضهرنا، فأكيد مش هنرجع نفتكره… وماتقلقيش، أنا مش مضايق، هو في حد يبقى معاكِ ويضايق برضه؟”
ضحكت فيروز بدفء، كأن كلماته أزالت أي شعور بالقلق، فرد موسى بابتسامة عريضة وهو يقول:
“أيوا، اضحكي كده… علشان اللحظة دي تتبروز، أنا وأنتِ وضحكة حلوة منك.”
أنهى كلماته وهو يشد ذراعيه حولها، فأحست بدفء جسده يملأ المكان، ومال بذقنه على كتفها في حركة عفوية مليئة بالحنان.
ظلّا معًا، صامتين، يراقبان الأفق الممتد أمامهما، أضواء المدينة تتلألأ كأنه بحر من الأضواء الصغيرة المتناثرة، وكل ما حولهما يختفي في خلفية هادئة تجعل اللحظة أكثر خصوصية.
كانت هذه نهاية الجولة، الجولة التي احتوت على موسى وفيروز، على ضحكاتهما العفوية، وابتساماتهما الصافية، وعلى الكثير من اللحظات اللطيفة التي سيتذكرانها دائمًا، لحظات صنعت لهما عالمًا صغيرًا، مليئًا بالحب والدفء والطمأنينة، عالم لا يحتاج إلى شيء آخر سوى وجودهما معًا.
_________________
كان يجلس في غرفته، مغمض العينين، واصبعه يتحرك على نظاراته في حركة معتادة كلما غاص في التفكير، وكلمات موسى قبل سفره بيوم تتردد في أذنه بلا توقف، تزن على قلبه بكل ثقلها.
FLASHBACK
“أنا متفهم جدًا إن الموضوع صعب، بس فكر معايا كده… مش يمكن ربنا ليه حكمة من كل اللي حصل ده؟ يعني المشاكل اللي مرت بيها، وكل المواقف اللي عاشت فيها، لحد وجودها هنا في بيتنا، ورجوعها لشقتكم يا عمي بعد كل السنين دي… مش يمكن كل ده حصل علشان ترجعوا لبعض؟ ومش يمكن كمان ربنا حب يعوضك باللي اتحرمت منه، وتعيش إحساس الأبوة معاهم يا عمي… الإحساس اللي أنا واثق إنه كان نفسك تعيشه أوي.”
نظر مصطفى حينها له بصمت، والعديد من الأفكار تعصف بعقله، تزن عليه بلا رحمة، تذكره بالفراغ الذي كان يتمنى ملؤه منذ زمن.
BACK
فتح عينيه ببطء، وأعاد رأسه إلى الخلف مستندًا على حافة المقعد، وهمس بصدق متقلب بين الأمل والخشية:
“يارب.”
حرك عيونه في الغرفة ببطء، تلتقط كل زاوية، حتى استقرت على المنضدة القريبة من الفراش، نهض ببطء، واقترب من المنضدة، يده تلتقط المفتاح الذي اعتاد استخدامه.
فتح الدرج برفق، وحرك بعض الكتب الموجودة في الأسفل، حتى وقع بصره على مايريده. التقطه بحذر، وأخرجه ببطء… صورة.
صورة لهما في حفل زفافهما، يبتسمان فيها كما لو أن العالم كله لا يمكن أن يؤثر على سعادتهما.
نظر إلى الصورة طويلاً، كأن عيونه تغوص في تفاصيلها بحثًا عن دفء الأيام الماضية، عن اللحظات التي تركت أثرًا لا يمحى في قلبه.
وبعد ثوانٍ طويلة من التأمل، أغمض عينيه، ثم فتحهما، وظهرت فيهما لمعة إصرار، عاقد العزم على ما يجب فعله.
وضع الصورة بعناية داخل جيب بنطاله، والتفت بخطوات متزنة نحو الباب، وخرج من الغرفة.
خرج من الشقة بخطوات سريعة وحازمة، متجهًا للطابق الأعلى، صعد على الدرجات دون أن يتوقف، حتى توقف أمام شقتها في الطابق الخامس.
اقترب من الباب، رفع يده ليطرقه، لكن فجأة، توقف، وتراجع خطوة إلى الوراء وهو يتحدث لنفسه بنبرة مليئة بالدهشة والحرج:
“ايه اللي أنت بتعمله ده يا مصطفى؟”
كان صوته يمزج بين الاستفهام الذاتي والتحذير الداخلي، وكأن عقله وقلبه يتجادلان في لحظة واحدة، عن الجرأة، عن المخاطرة، وعن القرار الذي سيغير مجرى الأمور تماماً.
أغمض عينيه بتعب من التفكير، ونزع نظاراته بيد مرتجفة قبل أن يمسح عينيه بيده، محاولة أن يخفف ثقل الأفكار التي تثقل قلبه.
ثم التفت ببطء ليعود من حيث أتى، لكن صدى فتحة الباب أعاد وقفه فجأة، وتبعه صوتها المألوف، خافت لكنه مليء بالحنان:
“مصطفى؟”
التفت نحوها، فوجدها تقف عند الباب، عيناها تحملان مزيجًا من الفضول واللطف، وسألت بهدوء:
“محتاج حاجة؟”
ارتبك للحظة، تلعثمت كلماته في صمت قصير قبل أن يجيب بصوت منخفض:
“لأ… كنت فوق عن داوود، و… وبس. أنتِ محتاجة حاجة؟”
ابتسمت بخفة ونفت برفق:
“لأ، شكراً.”
أومأ لها ثم قال مودعًا بحذر:
“عن إذنك.”
قالها ومضى بخطوات هادئة نحو الدرج، حيث قابل ابنتها عالية التي رفعت رأسها للحظة وأومأت بخفوت تحية له، فبادلتها التحية بهدوء مماثل.
نزل هو على درجات الدرج بخطوات ثابتة، بينما صعدت عالية إلى الأعلى لتجد والدتها تكاد تغلق الباب خلفها، فهمت على الفور أن والدتها كانت تتحدث معه، فتجهم وجهها قليلًا، وتقدمت بسرعة وهي تقول باقتضاب:
“استني يا ماما.”
فتحت شمس الباب التي كادت أن تُغلقه، وقالت بصوت مختصر:
“جيتي…”
دخلت عالية إلى الداخل، وخلفها شمس تتبعها بعينين متفحصة، وهي تسألها:
“جيبتي كل الطلبات؟”
وضعت عالية الأكياس على الطاولة في غرفة المعيشة، ثم التفتت نحو والدتها بعينين حادتين، وسألتها بحدة واضحة:
“كان عايزك في إيه؟”
رفعت شمس حاجبيها بدهشة، وعينيها تتسعان قليلًا أمام لهجة عالية الحادة، وقالت:
“إيه؟”
اقتربت عالية بخطوات متسارعة، ونبرتها مشحونة بالفضول والتهيب، وهي تقول:
“الراجل ده كان عايزك في إيه؟؟”
“أنتِ بتتكلمي كده ليه؟ الراجل ده ليه اسم على فكرة، اسمه الأستاذ مصطفى.”
ردت عالية بسرعة، وكأن الفضول لم يعد يُحتمل:
“آه آه، أستاذ مصطفى، كان بيعمل إيه معاكِ بقى؟”
تنهدت شمس ببطء، وميّلت رأسها للأعلى، محاولة أن تشرح بصبر دون أن تفقد هدوء أعصابها، صوتها هادئ لكنه حازم:
“هو أنتِ بتستجوبيني دلوقتي؟ في إيه يا عالية؟”
نظرت إليها عالية بعينين حادتين، ونبرة صوتها متوترة، مشحونة برغبة قوية في الانفصال عن الوضع:
“في إيه؟… في إني عايزة أمشي من هنا يا ماما.”
ارتفعت عينا شمس بدهشة واضحة، وصوتها يحمل مزيجًا من الاستفهام والقلق:
“إيه؟؟”
أكملت عالية بصراحة وصرامة:
“زي ما سمعتِ، عايزة أمشي من هنا، مش عايزة أقعد في البيت ده.”
سألت شمس بحدة مختلطة بالدهشة:
“إيه؟!… إيه اللي حصل؟ في حاجة ضايقتك علشان كده عايزة تمشي؟”
طالعتها عالية للحظة، عيونها لا تكذب، وصوتها يعكس إحساسها بالضيق والاختناق:
“أنتِ مش ملاحظة إن وجودنا هنا غلط؟ وجودك أنتِ وعيالك في بيت طلقيك… حاجة مش صح.”
سكتت شمس لحظة، مذهولة من اندفاع ابنتها، قبل أن يعلو صوتها بانفجار محمّل بالوجع أكثر من الغضب:
“هو أنا قاعدة هنا بإرادتي؟! هو أنا لقيت مكان تاني أروحه وقلت لأ؟ أنا دست على كرامتي ورجعت البيت ده تاني علشانك إنتِ وأخوك… علشان ماتناموش في الشارع! مش علشان اللي في دماغك يا عالية، تمام؟ اللي كان بيني وبين مصطفى خلص… خلص من زمان! وقلتلك ده، دلوقتي بلاش توقفي قدامي وعينيك بتتهمني بحاجة مكسوفة تقوليها.”
ارتجف صوتها في آخر جملة، لكن عالية لم تتراجع، بل تقدمت خطوة، ونبرتها أكثر حدة، وكأنها تكشف ما تخشاه الأم:
“أنا مش بتهمك يا ماما… أنا بتهمه هو، مش ملاحظة حاجة غريبة فيه؟ مش واخدة بالك من نظراته ليكِ؟ من تصرفاته معاكِ؟ من كل كلمة بيقولها؟! كل حاجة فيه… بتقول إنه لسه بيحبك ياماما، وإنتِ… إنتِ من جواكِ عارفة ده، فبلاش تنكري.”
عندها خيم صمت ثقيل على المكان، صمتٌ لم يكن ضعفًا بقدر ما كان مواجهة مؤلمة بين قلبين؛ قلب أم يحاول إقناع نفسه أنه تجاوز، وقلب ابنة ترى الحقيقة أوضح مما تريد أمها الاعتراف به.
في تلك اللحظة، ولج أدهم إلى البيت، صوته يسبق خطواته:
“في إيه مالكم؟ صوتكم واصل لبرّه ليه؟”
اقترب بملامح متسائلة، ينظر من أمه إلى أخته، لكن لم يجبه أحد، إذ لفّ الصمت المكان فجأة، صمت مشحون أكثر من أي كلمات.
بقي لحظة يحدّق في وجهيهما المرهقين، حتى كسرت عالية الصمت بنبرة ثابتة، وعينيها مثبتة في عيني والدتها، كأنها لا تريد أن تهرب من المواجهة:
“تعرفي أنا بسمع إيه لما بخرج؟ بسمع الناس بتتكلم حواليا… عنكِ. بسمعهم وهما بيقولوا إنك راجعة تلفّي عليه من تاني، وتورّثيه أنتي وعيالك، بعد ما أخو جوزك أكل حقك وحقنا.. بسمعهم وهما بيقولوا إنك كنتِ مستنية اللحظة اللي ترجعي له فيها، كل كلمة من كلامهم… بتخرم ودني، ومش عارفة أرد.. أرد على مين ولا مين؟! أقول إيه أصلاً؟ أقولهم إنهم غلطانين؟ وأنا من جوايا مرعوبة إن في يوم ترجعي له وتثبتي لهم إن كل كلمة قالوها كانت صح.”
خرجت كلماتها كسياط تضرب في قلب شمس، لا لأنّها صدّقت ما يقوله الناس، بل لأنها سمعت ابنتها تردده بوجع مختلط بخوف.
في تلك اللحظة، كان صدى كلمات عالية يتردد في صدر شمس كطعنة لا تهدأ، فيما ظل أدهم واقفًا بينهما، عيناه تتنقلان بين ملامح والدته وشقيقته، لا يفهم عمق ما يجري لكنه يشعر بثقله، حتى فقد صبره وقال بنبرة متوترة:
“ماحد يفهمني إيه اللي بيحصل؟ مين اللي بيقول الكلام ده على أمك يا عالية؟”
التفتت إليه عالية بنظرة مباشرة، عيناها تلمعان بإصرار أكثر منه غضبًا، ثم قالت ببطء وكأنها تقيس وقع كلماتها:
“لو مصطفى… أقصد، لو الأستاذ مصطفى قرر يرجع لأمك… هتوافق؟”
وقع السؤال عليه كالصاعقة، فارتبك وأصابته الدهشة، صمت يتيمدّد بينه وبين أمه، كلاهما مشلول عن الكلام، كأن السؤال كشف شيئًا لم يكن أيٌّ منهما مستعدًا للاعتراف به حتى أمام نفسه.
مررت عالية نظراتها بينهما، مستشعرة العجز في ردّهما، فابتعدت خطوة للخلف وقالت بحسم:
“أنا مش هقعد في البيت ده أكتر من كده، من بكرة هانزل أدور على شقة… مش هنقعد هنا.”
أنهت جملتها، ثم ولجت إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها بقوة، تاركة خلفها صدى ارتطام الباب يتردد في جدران البيت كما لو كان إعلان قطيعة.
ظل أدهم يتابع أثرها بنظرات مشدوهة، ثم التفت ببطء إلى والدته، فوجدها واقفة تحدّق في الفراغ، ملامحها واجمة، كأنها تحاول أن تثبّت نفسها في مكانها كي لا تنهار.
اقترب منها بهدوء، وضع ذراعيه حول كتفيها بحنو، ساعدها على الجلوس، ثم جلس إلى جوارها ممسكًا بكفها المرتجف.
ظلّ يضغط عليه بلطف، يحاول أن يمنحها بعض الطمأنينة، فيما عقله هو الآخر شرَد بعيدًا، وسؤال أخته له ينهش في داخله بلا هوادة.
_________________
“بعد أسبوع”
“آه، أنا خلصت وهطلع… تمام نتقابل هناك، باي”
أنهت جملتها الأخيرة مع الطرف الآخر وأغلقت الهاتف، لتترك خلفها زفرة قصيرة، ثم التفتت نحو الحقيبة الموضوعة على السرير، رتبت ما تبقى بعناية سريعة ثم أغلقتها، وحملتها على كتفها، واتجهت نحو الباب.
لكن ما إن فتحت الباب وخرجت حتى اصطدمت بنظرات ريناد، ابنة عمها، التي بدت واضحة أنها كانت تتلصص على ما يدور.
ارتبكت لبرهة، ثم سرعان ما أصلحت من وقفتها، لتُخفي فضولها خلف قناع مصطنع.
رسمت على شفتيها ابتسامة صفراء، ابتسامة تحمل مزيجًا من السخرية والدهاء، قبل أن تقول بنبرة ظاهرها عابث وباطنها متفحّص:
“على فين يا ميرو؟”
تجمدت ملامح ميرنا للحظة، ثم رفعت عينيها إليها بنظرة مقتضبة باردة، وقالت بصرامة هادئة:
“أعتقد مش مضطرة أقولك.”
خطت خطوة لتتابع طريقها، لكن ريناد سارعت لتوقفها بكلمة أثقل من خطواتها:
“خارجة مع كارم؟”
أغمضت ميرنا عينيها للحظة، محاولة أن تحبس أنفاس الضيق الذي غمرها، ثم التفتت نحو ريناد بنظرة باردة وحادة وهمست:
“برضه مش مضطرة أقولك.”
ومرة أخرى، همّت بالابتعاد، لكن يد ريناد امتدت لتقبض على ذراعها، قبضتها بدت ناعمة في ظاهرها، لكن شدتها فضحت عنادها وخبثها وهي تقول بصوت مموّه بالاستفزاز:
“استني بس يا ميرو… مستعجلة كده ليه؟”
شدّت ميرنا ذراعها محاولة الانفلات، وصوتها يخرج حادًا:
“سيبي إيدي.”
لكن ريناد لم تفعل، بل زادت من ضغطها، كأنها تتلذذ بالهيمنة، حتى انطلق صوت مألوف من خلفهما، يحمل حزمًا لا يقبل النقاش:
“ريناد!”
التفتت الاثنتان في وقت واحد، لتجدا جنة تتقدم بخطوات سريعة، وعيناها متقدتان بالقلق.
وصلت إليهما وأبعدت ريناد بيد حاسمة، ثم استدارت نحو ميرنا تسألها بخوف:
“أنتِ كويسة؟”
اكتفت ميرنا بإيماءة صغيرة، وابتسامة خافتة بالكاد تُرى، لتتنفس جنة الصعداء ويغمر ملامحها ارتياح واضح، ثم أمالت رأسها قليلًا وسألت:
“خارجة مع كارم؟”
ترددت ميرنا، وكادت ألا تجيبها كما تفعل في العادة، لكن في تلك اللحظة تذكرت كلمات كارم، حين أوصاها أن تمنح جنة فرصة، أن تقترب منها لا أن تبعدها.
رفعت عينيها إليها ثم همست:
“لأ… مع البنات.”
أضاءت ابتسامة دافئة وجه جنة وهي تومئ قائلة:
“طب يلا… روحي علشان ما تتأخريش.”
هزّت ميرنا رأسها بخفوت شاكرة، ثم غادرت بخطوات سريعة، لكن قبل أن تختفي، التفتت نظرة خاطفة إلى ريناد، التي كانت تنظر لها بعينين مشبعتين بالغيظ والحقد.
انتبهت ريناد فجأة إلى جنة التي ما زالت واقفة، تنظر إليها نظرة قاسية وهي تقول بحدة لم تترك مجالًا للالتباس:
“أنتِ مش طبيعية… حقيقي مش طبيعية.”
طالعتها ريناد بنظرة باردة، كأن كلمات جنة لم تترك أي أثر فيها، لكن جنة لم تتوقف، بل أضافت بحدة ممزوجة بالشفقة:
“بطلي حقد بقى… البنت ماعملتش حاجة علشان تحقدي عليها كده. أنتِ من كتر غيرتك وحقدك بقيتِ مريضة… بقيتِ إنسانة مريضة، فوقي.”
رمقتها بنظرات قاسية ثم ابتعدت بخطوات ثابتة، تاركة ريناد واقفة وحدها…
للحظة بدت الأخيرة شاردة، تحدّق في الفراغ، لكن فجأة ارتسمت على محياها ابتسامة باردة، خالية من أي دفء، قبل أن تهمس ببرود:
“هتشوفي الإنسانة المريضة دي… هتعمل إيه.”
اندفعت سريعًا نحو غرفتها، وأغلقت الباب خلفها بإحكام، جلست أمام حاسوبها، أصابعها تتحرك بخفة على لوحة المفاتيح حتى فتحت أحد الملفات المخزنة فيه.
وما إن ظهرت محتوياته على الشاشة حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة، تسللت منها ضحكة قصيرة وهي تتمتم:
“نبعتهم لأستاذ كارم… يتسلى بيهم النهاردة، علشان نتسلى احنا بعدين بال show اللي هيحصل.”
تحركت أصابعها لتضغط زر الإرسال على “الماسنجر”، لكن في اللحظة الأخيرة توقفت…
رفعت حاجبها بخبث، وعيناها تلمعان بفكرة أكثر ظلمة، فارتدت للخلف على المقعد وهي تهمس:
“لا… الدراما مش هتكون قوية كده لو بعتهم دلوقتي، نستنى شوية… بعد كتب الكتاب، ساعتها لو اتفركش الجواز، يبقى اسمه طلاق… وتبقى ميرو مطلقة رسمي.”
ضحكت بخفة أول الأمر، ضحكة قصيرة متقطعة، لكن سرعان ما تصاعدت إلى ضحكة مختلة، حادة ومهووسة، ملأت الغرفة الصغيرة وأضفت على وجهها مسحة من الجنون.
أغلقت الحاسوب بقوة، وأسندت ظهرها إلى الكرسي، تترك نفسها تسبح في وهم الانتصار الذي لم يأتِ بعد.
_________________
في جهة أخرى…
كانت تترجل من على الدرج بخطوات خفيفة، الهاتف ملتصق بأذنها، والابتسامة لا تفارق شفتيها وهي تقول:
“آه نازلة أهو، خمسة دقايق وأبقى عندك… ماشي، باي.”
أغلقت المكالمة وهي تضع الهاتف في حقيبتها، لتجد أمامها شقيقها واقفًا ينوي الصعود للأعلى.
وما إن لمحها حتى تحرك نحوها بخطوات بطيئة، لكنه ما لبث أن وقف في مواجهتها وسألها بفضول، يخفي خلفه اهتمامًا حقيقيًا:
“على فين؟”
أجابته بخفة وهي تضع هاتفها في حقيبة يدها:
“خارجة مع البنات.”
رفع حاجبه بسخرية لا تخلو من البرود:
“آه، إجازة وكده بقى… فاضيين طبعًا.”
ابتسمت ضحى بلامبالاة، لكنها قررت أن تلقي بكلمة تعلم جيدًا وقعها عليه:
“ميرنا خارجة معانا.”
وكأن الكلمة أشعلت في داخله شيئًا لم يكن يريد الاعتراف به، تغيرت ملامحه في لحظة، وتبدل صوته كذلك، فقال على عجل:
“براحتكم طبعًا، حقكم تطلعوا… روحوا أحسن الأماكن، أوكي؟ وأكلوها أحسن أكل… قصدي كلوا كلكم أحسن أكل.”
ثم مد يده إلى جيبه سريعًا وأخرج محفظته، وهو يلوّح بها:
“معاكِ فلوس؟ عايزة فلوس؟”
وقفت ضحى تراقبه للحظة، قبل أن تهز رأسها بيأس وتنفجر ضاحكة، ابتعدت عنه وهي تقول بين ضحكاتها:
“يا سلام! الثبات على الموقف عندك غريب أوي!”
تركته واقفًا في مكانه، يزفر بقوة وكأنه كُشف أمره، ثم أعاد محفظته إلى جيب بنطاله وهو يتمتم بابتسامة نصف عابثة:
“طالما البسكوتة معاهم… يبقوا يدلعوا براحتهم.”
_________________
على الجهة الأخرى…
كان الهدوء يسيطر على الورشة، لا يُسمع سوى أصوات الأدوات ووقع المطارق المتناغم مع أنفاس العمال.
جلس مصطفى أمام شقيقه داود، يتبادلان أطراف الحديث بين الحين والآخر، ثم يعودان للصمت.
وبينما كان داود يتابع حركة العمال بنصف انتباه، وقعت عيناه فجأة على سيارة أجرة توقفت أمام باب الورشة، فتجهم قليلًا، قبل أن ينطق مستغربًا بصوت مسموع:
“مين اللي طالب تاكسي عندنا؟”
استدار مصطفى تلقائيًا في الاتجاه نفسه، ليتأكد أن ما يراه أخوه صحيح… وبالفعل، سيارة أجرة تقف هناك، والسائق يترجل منها متجهًا إلى الصندوق الخلفي.
لكن ما جعل ملامح مصطفى تتبدل هو المشهد الذي تلا ذلك:
عالية
تسير بخطوات مترددة نحو السيارة، حقيبة سفر كبيرة تسحبها بيدها، وخلفها مباشرة
أدهم
يحمل حقيبة أخرى، والسائق ينحني ليفتح الصندوق استعدادًا لوضع الحقائب.
لم تمض ثوانٍ حتى التقت عينا الشقيقين بصمتٍ أثقل من الكلام، نظرة قصيرة لكنها محمّلة بكل علامات الدهشة والتساؤل.
انتفض مصطفى من مكانه فجأة، كأن صاعقة أيقظته، وداود تبعه دون تفكير، خرجا من الورشة بخطوات سريعة، العيون تلاحق المشهد والقلوب تتسابق مع إيقاع الخطوات.
وبمجرد أن بلغا العتبة، رأيا
شمس
هي الأخرى تلحق بهما، تحمل حقيبة لا تقل حجمًا عن الأولى، ملامحها مصممة لكن خلفها ظلّ من التردد.
عندها لم يعد داود قادرًا على الصمت، فتوقف وسألهم بفضول مشوب بالقلق:
“على فين يا ولاد؟”
توقفت الأقدام في مكانها، وكأن الزمن قد تجمّد لوهلة، والهواء أثقل من أن يُستنشق.
تبادلت العيون نظرات متلاحقة؛ داود بعينيه المتسائلتين، ومصطفى الذي لم تُغادر نظراته وجه شمس، يترقب منها كلمة أو إشارة، لكن صمته انكسر حين اقتربت
عالية
بخطوات محسوبة، وقفت أمامهما بثبات لم يعهده أحد فيها، وقالت بصوت واضح، كالسهم يخترق الهدوء:
“هنمشي يا عمو… إحنا تقلنا عليكم بالزيادة، والحمد لله لقينا شقة مناسبة لينا، وهننقل فيها.. وطبعًا متشكرين على كل حاجة قدمتوها لينا… وأسفين علشان ماقولناش ليكم قبل دلوقتي.”
ارتجف قلب داود، وانعقد حاجباه بدهشة، لكن وقع الكلمات على مصطفى كان أشدّ؛ كأنها صفعة مفاجئة، جمدت الدم في عروقه.
تبادل نظرات متقطعة بينها وبين أدهم الذي أطرق رأسه إلى الأرض، يشي بخضوعٍ لا يجرؤ على تحويله إلى كلمات، ثم عاد ينظر إلى شمس التي ظلّت واقفة كتمثال صامت، عيناها تائهتان في فراغ لا يراه أحد سواها.
وفجأة، أضافت
عالية
بصرامة، وكأنها تغلق الأبواب خلفها:
“نشوف وشكم بخير… وشكرًا مرة تانية.”
ثم التفتت نحو شقيقها، تبعتها عيناها المرهقتان، قبل أن تستدير إلى والدتها وتقول بحزم، كأنها تسحبهم من قلب المكان:
“يلا يا أدهم… يلا يا ماما.”
وبينما كانت خطوات الثلاثة تتجه نحو السيارة، وقف داود مكانه، عاجزًا عن اتخاذ أي موقف، فيما بدا مصطفى أشد عجزًا، يداه متصلبتان ونظراته متشابكة بين شمس والفراغ.
حاول أن يُقاوم الصمت، تقدّم خطوة كأنها بداية اعتراف أو اعتراض، لكن سرعان ما ارتبك وتراجع، مستسلماً لثقلٍ داخلي، وأطرق رأسه بخزي، كأن الكلمات خانته في اللحظة الأهم.
في تلك اللحظة، كانت الحقائب قد استقرت داخل السيارة، وصوت ارتطام بابها المعدني ألقى صدى قاسياً على قلوب الجميع.
وما إن بدأت شمس وعالية وأدهم بالصعود، حتى انشق سكون المكان على صوت مألوف، قوي، يحمل شيئًا من الدهشة:
“رايحين فين؟؟”
التفتت الرؤوس دفعة واحدة، لتجد موسى وقد أتى لتوه _ملامحه تجمع بين الحيرة والرفض_ بعد أن كان أوصل فيروز وبقية الفتيات.
تقدّم بخطوات متسارعة، وعيناه تنتقلان بين الوجوه المندهشة، حتى وقعت على عالية التي أجابته بصرامة مختصرة:
“ماشيين، لقينا شقة وخلاص هننقل… شكراً على مساعدتك لينا.”
ارتفع حاجباه بدهشة أكبر، وراح يتنقل ببصره بينهم، كأنه يبحث عن تأكيد لما قيل.
توقّف عند عمه مصطفى، فرأى في ملامحه انكسارًا لم يره من قبل، وفي صمته استسلامًا موجعًا…
عندها عاد بصره بقوة، وأعلن بصوت حاد يرفض الاستسلام:
“ماينفعش تمشوا.”
توقف الجميع في أماكنهم، حتى عالية التي رفعت رأسها إليه بتساؤل واستغراب:
“ليه؟”
سكت موسى للحظة، كأنه يُصارع نفسه، قبل أن يشدّ على أنفاسه ويخطو بخطوات ثابتة نحو شمس مباشرة.
وقف أمامها وجهًا لوجه، وصوته هذه المرة خرج صادقًا، جادًا، لا يقبل المواربة:
“علشان عمي طالب القرب منك… من تاني.”
سقطت كلماته بينهم كصاعقة، جمدت اللحظة، ورفعت العيون بحدة نحو شمس التي اتسعت عيناها في ذهول، فيما انكمشت ملامح مصطفى في صمت مفضوح، وكأن اعترافًا مدفونًا خرج أخيرًا للنور على لسان غيره.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.