رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثالث والستون 63 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثالث والستون

الفصل الثالث والستون(انتظار مُعلّق)

الفصل الثالث والستون(انتظار مُعلّق)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

__________

_

فارقتُها والقلبُ يذوي مُحبًّا

كي تستريحَ بما يليقُ بها قدَرُ

“مقتبس”

_______________

_

في زاوية أنيقة من مقهى راقٍ يفيض بالهدوء، حيث تُزيّن الجدران لوحات بسيطة وتتصاعد روائح القهوة الفاخرة ممتزجة بعطر الزهور الطبيعية، احتلت الفتيات طاولة طويلة تتسع لعددهن الكبير.

كان المكان مخصصًا للنساء فقط، مما منحهن شعورًا بالراحة والانطلاق، وكأنهن في مساحة آمنة لا يشاركهن فيها أحد.

جلست الفتيات متقابلات حول الطاولة، كأن الدائرة تجمع بين ماضٍ طويل من الذكريات وحاضرٍ يكتب فصولًا جديدة.

ثلاثة عشرة وجهًا متنوعًا:

دلال وفيروز وضحى

، وبجانبهن بنات عمومة وعمات موسى الثمانية، ثم

سلمى وليلى

، وأخيرًا

ميرنا

، الغريبة القريبة، العضوة التي دخلت حديثًا إلى هذه الدائرة، وصارت _دون أن تختار_ مركز الأحاديث في هذا التجمع.

قطعت

دلال

سيل الأحاديث المتناثرة بابتسامة ماكرة وصوت عالٍ بما يكفي ليلفت انتباه الجميع:

“لازم نجهز بقا يا بنات… عندنا كتب كتاب آخر الأسبوع.”

التفتت الأنظار مباشرة نحو

ميرنا

التي احمرّت وجنتاها، وابتسمت بخجل خفيف، مطرقة رأسها كأنها تبحث عن مخرج من كل تلك النظرات.

انفجرت بعض الفتيات ضاحكات بدفء ومحبة، بينما مدّت

تينا

يدها لتربت على كتف ميرنا، ثم أطلقت تعليقها المرح الممزوج بالسخرية اللطيفة:

“خلاص هتتجوزي كارم؟ قلبي معاكي يا بنتي والله… ده نص القاعدين دول كانوا بيخافوا منه.”

رفعت

مسك

يدها بسرعة كمن يسلم نفسه وقالت بنبرة صريحة:

“وأنا أولهم!”

ارتفعت القهقهات من جديد، لكن هذه المرة لم تذُب ملامح ميرنا في دفء الضحك مثل الأخريات؛ تجمّد وجهها للحظة، فقد كانت هذه المرة الأولى التي تستمع فيها لحديثٍ كهذا عن

كارم

أمامها.

صحيح أنّه في البداية بثّ في نفسها رهبة، بصوته الجاد وملامحه الحادة في أكثر من موقف، لكنه اليوم… صار أكثر من مجرد رجل بجانبها؛ صار

المكان الذي تلجأ إليه بأمان

.

فلماذا يصرّ الجميع على أن يروه مخيفًا؟

سؤال لمع في عينيها أكثر من أي كلمات، والتقطته

ضحى

فورًا، فمالت بجسدها للأمام وقالت بجدية رقيقة:

“لا، اهدوا كده يا بنات… البنت أول مرة تسمع الكلام ده.”

توقفت الضحكات تدريجيًا، وانسحبت تدريجيًا حتى لم يبقَ سوى أنظارهن كلها معلّقة على ميرنا، التي التقطت أنفاسها ببطء، ثم قالت بصوتها الرقيق، الذي يشبه نسمة تمرّ في هدوء:

“أنا عارفة إنه عصبي… ولما بيتعصب فعلاً بيخوّف شوية، بس مش لدرجة إنكم تخافوا منه.”

لم تنتظر

مسك

أكثر من ثوانٍ حتى ردّت باندفاع صادق:

“أنا اللي مش فاهمة إزاي انتِ ماخُفتيش منه!”

تدخّلت هنا

ضحى

وهي ترفع ذقنها بفخر مرح، وكأنها تكشف سرًا كبيرًا:

“لا… أصل ميرنا مش أي حد… دي البسكوتة.”

اتسعت عينا ميرنا بدهشة طفولية، كأن قلبها انكشف على الطاولة دفعة واحدة، وما أثار اندهاشها أكثر لم يكن الكلمة، بل معرفة ضحى بها.

وأمام ثقل النظرات التي انهالت عليها، لم تجد إلا أن تبتسم بخجل، تخفض رأسها في محاولة للاختباء من سيل الفضول الذي بدأ يتصاعد.

لكن

يمنى

لم تدع الأمر يمرّ بسهولة، رفعت حاجبيها متسائلة بنبرة مشاغبة:

“بسكوته؟”

ضحكت ضحى وقالت بمرح وصدق في آنٍ واحد:

“آه، مسمّيها كده على موبايله.. والله شوفته بالصدفة وهي بتتصل عليه.”

في تلك اللحظة، ارتجف قلب

ميرنا

بين الفرح والحرج، ولم تدري إن كان عليها أن تخفي ابتسامتها أم تستسلم لها، لكن الارتباك لم يستطع الصمود طويلًا أمام دفء اللحظة، فاستسلمت أخيرًا وابتسمت بخجل، ثم همست بصوت هادئ:

“أنا فجأة لقيته بيناديني بيه… ولحد دلوقتي معرفش ليه؟”

كانت العيون كلها معلقة بها، وفيما يشبه البرق أجابت

ضحى

مباشرة دون أن تفكر:

“علشان أنتِ بسكوته… أنتِ رقيقة أوي زي البسكوته.”

توردت وجنتا

ميرنا

أكثر، وعادت تخفض عينيها، غير قادرة على مقاومة الدفء الذي تسلل إلى قلبها.

عندها مالت

دلال

للأمام وأطلقت كلماتها بنبرة واثقة تشبه الوصف الذي يُحسم:

“أنا أعتقد إنك أرق بنت ممكن تعدي على كارم… يمكن علشان كده سماكِ كده، أو يمكن علشان كده حبك.”

ساد صمت قصير، ثم انفجر في ضحكات خفيفة متقطعة، تتمايل معها الرؤوس بإيماءات تؤيد ما قالته، وقد امتلأ الهواء بمزيج من الود والمرح، وكأن كل ضحكة منهن كانت تغلف قلب ميرنا بطبقة جديدة من الاطمئنان.

جلست هي بينهم، تراقبهن بعينين تلمعان بالامتنان، وتبتسم بخجلٍ لا تستطيع إخفاءه، بينما في داخلها كانت فرحتها تتسع شيئًا فشيئًا… فرحة الحديث عنه، عن اللقب الذي اختاره لها، عن الدفء الذي حملته تلك التسمية، وعن الحب الذي صار واضحًا أمام الجميع حتى لم يعد يحتاج لإعلان أو تأكيد.

ومضت الدقائق في ذلك المقهى الراقي بهدوءٍ ممتزج بالدفء، أحاديث متناثرة تتنقل بين الطاولة كما تتنقل النسمات الخفيفة في مساءٍ رقيق، وضحكات ناعمة تتصاعد فتزيد المكان أُنسًا، وكل واحدة من الفتيات كانت جزءًا من هذه اللوحة الحيّة.

حتى ميرنا وليلى، رغم ميلهما الطبيعي للصمت والهدوء، انجرفتا مع الجو العام، فخرجت منهما كلمات خفيفة وضحكات صغيرة صادقة.

وفي خضم هذا الجو، تحركت يد تينا لتلتقط هاتفها بعد أن تلقت إشعار، وبعد لحظات، رفعت عينيها نحوهن، ابتسامة خبيثة مرحة ترتسم على وجهها، وقالت وهي تقطع سيل الأحاديث:

“بقولكم إيه يا بنات…”

سكتت برهة متعمدة، وكأنها تريد أن تجمع كل الانتباه إليها.. وبالفعل، تحولت العيون نحوها في انتظار ما ستقول، فتابعت عندها بنبرة مشوقة:

“في محل قريب من هنا عامل offers ‘عروض’ حلوة أوي… إيه رأيكم نروح نتفرج؟ يمكن نلاقي حاجة مناسبة نحضر بيها كتب الكتاب، هو موجود في المول القريب من هنا.”

تبادلت الفتيات النظرات القصيرة فيما بينهن، عيون سريعة تلتقط العيون الأخرى، وسؤالٌ صامت يتنقل على الطاولة:

“نروح؟”

ابتسمت بعضهن برضا، وأومأ البعض الأخر بموافقة، وأخيرًا، انحنت دلال إلى الأمام قليلًا، ورفعت رأسها نحو تينا، ثم قالت ببساطة ودفء:

“ومالو…”

_________________

دخلن المول بخفة خطواتهن وضحكاتهن التي تماهت مع صخب المكان، ثم سرعان ماانتقلن إلى المحل الكبير المضيء، حيث الألوان الزاهية تتدلى من الرفوف وكأنها تدعوهن للمسّ والاختيار.

تفرّقن بين الأركان، كل واحدة غاصت في عالمها الخاص؛ هذه تقلب بين الفساتين بتأنٍ، وتلك تجرب أمام المرآة فترتسم على شفتيها ابتسامة، وأخرى انتهت من اختيارها لكنها لم تكتفِ، فاتجهت لتساعد صديقتها، تمد لها القطع وتضحك معها في حيرة لطيفة.

كانت دقائق طويلة لكنها انقضت بخفة، فكيف لا؟ وهنّ يفعلن ما تعشقه أغلب الفتيات: التسوق، وشراء ما يمنحهن شعورًا مضاعفًا بالجمال والمرح.

اقتربت دلال بخطوات واثقة من فيروز التي ما تزال واقفة أمام صف طويل من الفساتين، تتأملها بعين ناقدة، وكأنها تبحث عن قطعة تحمل سرًا خاصًا.

مالت دلال عليها وقالت بنبرة خفيفة:

“مافيش حاجة عجباكِ ولا إيه؟”

التفتت فيروز نحوها وهي تهز رأسها بخفة، وقالت بابتسامة حائرة:

“في حاجات كتير حلوة، بس لسه مفيش حاجة شدتني… اختاري معايا كده.”

ضحكت دلال ومدّت يدها بين الملابس، تقلبها بخفة وكأنها تخوض مغامرة صغيرة للعثور على القطعة المثالية لصديقتها، فيما على الجهة الأخرى كانت تينا تنحني إلى شقيقتها، تقارن بين الألوان وتضحك بين الفينة والأخرى.

لكن فجأة اخترق الجو صوت مسك من ركن بعيد:

“تينا…”

التفتت لها تينا سريعًا، لتجد مسك تشير إليها بابتسامة متوسلة:

“تعالي كده ساعديني أختار طرحة تليق على الفستان.”

نظرت تينا لشقيقتها التي عقدت ذراعيها قائلة بخفة لا تخلو من الدلال:

“روحي، ذوقك أصلاً مش عاجبني.”

ابتسمت تينا بسخرية مرحة وأجابت:

“يا سلام على ذوقك أنتِ!”

ثم مضت نحو مسك بخطوات خفيفة، لتجدها واقفة بجوار ضحى وميرنا، حيث كانت الأخيرة تميل برأسها قليلًا نحو ضحى التي تعرض عليها ثوبًا بلون هادئ.

لكن ما أثار انتباه ميرنا حقًا لم يكن الثوب فقط، بل تلك الأيدي التي راحت ترفع قطع الحجاب وتضعها أمام الفساتين، تقارن الألوان وتناقش التناسق.

وقفت ميرنا تتابع المشهد بعينين لامعتين بالاهتمام، وكأنها تنظر لعالم جديد يفتح أمامها تفاصيله الصغيرة، وقد كان في عينيها بريق صامت، لم تنطق به لكن وضوحه جعل فيروز تلتقطه أولًا، قبل أن تلحظه دلال أيضًا.

تبادلت الاثنتان النظرات لثوانٍ، تلك النظرات القصيرة التي تحمل أكثر مما يقال بالكلمات، ثم همست دلال بنبرة عميقة فيها لمحة من المكر:

“بتفكري في اللي بفكر فيه؟”

أومأت فيروز مبتسمة بمكر أنثوي ناعم:

“مش بفكر في غيره.”

ارتسمت على وجهيهما ابتسامات دهاء صافية، كأنهما اكتشفتا سرًا صغيرًا أو ما شابه، ثم تحركتا معًا نحو المجموعة، ولم يكن لهما في تلك اللحظة أي هدف سوى واحد فقط… ميرنا.

_________________

على الجهة الأخرى…

على النقيض تمامًا من الضحكات والدفء في المول، كان الجو هنا مشحونًا، متوترًا كخيط على وشك الانقطاع.

فتح مصطفى باب شقة والده بعنف، صوته يسبق خطواته وهو يهدر بانفعال لم يعهده أحد فيه:

“إنتَ إيه اللي هببته ده؟ إزاي تقول حاجة زي دي؟”

اندفع إلى الداخل، عيناه تلمعان بالغضب، قبل أن يتفاجأ بموسى يقف أمامه، يدخل برفقة داود، ثابت الملامح، لا يطرف له جفن، وأجاب ببرود متعمد:

“عملت الصح.”

وقعت كلماته كشرارة في برميل بارود، أشعلت فتيل مصطفى الذي كان يكظم دائمًا، فإذا به ينفجر الآن كبركان:

“صح؟! بتقول صح؟! فين الصح اللي عملته؟ وريني فين!”

ارتفع صوته أكثر، حتى خرج محمد من الشرفة، ملامحه متجهمة وصوته يحمل حزماً واضحاً:

“في إيه يا مصطفى؟ صوتكم طالع ليه؟”

التفت مصطفى صوب والده بعصبية لم يستطع كبحها، وأشار بيده المرتجفة نحو موسى:

“اسأل حفيدك! خليه يقولك بنفسه عمل إيه!”

انتقلت عينا محمد بين مصطفى وموسى، وصوته هذه المرة خرج أبطأ:

“عملت إيه؟”

ساد صمت قصير، ثقيل كالحجر، لم يقطعه أحد سوا داود، الذي قال بنبرة هادئة لكنها هبطت كالصاعقة:

“طلب إيد شمس لمصطفى.”

ارتفع حاجبا محمد بدهشة لم يستطع إخفاءها، انعكست على ملامحه لحظة واحدة، قبل أن يعود ينظر مباشرة إلى موسى، فوجده يثبت نظراته دون تردد، يبرر ببرود يثير الغضب:

“كانوا هيمشوا… فقلت أتصرف، وبصراحة؟ أنا شايف إني عملت اللي لازم يتعمل.”

رفع مصطفى يده، مسح وجهه بعصبية وهو يتمتم من بين أسنانه:

“لا حول ولا قوة إلا بالله… ولسه مصرّ إن ده الصح؟”

أجاب موسى بعناد أشد، صوته يعلو بثقة لا تتزحزح:

“آه صح! ده اللي كان لازم يتعمل يا عمي.. والمفروض كنت حضرتك اللي تعمل الخطوة دي من زمان… مش تسيبها كده، كفاية بقى… أنا عايز أطلع لها دلوقتي أصلاً وأقولها كل حاجة… أقولها اللي مخبيه عنّا كلنا!”

تلاقى نظر محمد وداود بحدة، وارتسمت علامات التوجس على وجهيهما، حتى قطع داود التوتر متسائلاً بلهفة حادة:

“مخبي إيه؟”

في تلك اللحظة، نظر موسى صوب مصطفى، الذي كان يحذره بعينيه بوضوح، تستجديه أن يصمت، أن يكبح لسانه… لكن موسى لم يبالِ، بل زاد من رفع رأسه، ثم التفت إلى والده ومن بعده إلى جده، وألقى كلماته كطلقة نارية مزقت الصمت:

“عمي ساب خالتي شمس… علشان مش بيخلف.”

اتسعت عينا داود بدهشة صاعقة، تجمد في مكانه وهو يحدق في شقيقه الذي أغمض عينيه وأطرق رأسه قليلاً، كأن الكلمات كانت أثقل من أن يحتملها.

أما محمد، فلم يبدِ أي رد فعل في البداية، ظلّ صامتًا، ساكنًا، لكن عينيه ثبتتا على وجه مصطفى، نظرة طويلة مشبعة بالأسى.

اقترب داود خطوة، وصوته خرج مترددًا لكنه مملوء بالذهول:

“الكلام ده صح يا مصطفى؟… ده السبب اللي خلاكم تتطلقوا؟”

فتح مصطفى عينيه ببطء، نظر نحو شقيقه، ثم قال بصوت منخفض لكنه صادق كجرح نازف:

“لو ماكنتش عملت كده… كنت هبقى أناني، كنت هحرمها من حقها إنها تكون أم.”

انقطع الصمت فجأة بانفجار صوت محمد، جادًا صارمًا، كالسيف القاطع:

“بس كنت لازم تخيّرها.”

التفتت العيون كلها نحوه بدهشة، بينما هو يقترب خطوة من ابنه، صوته يزداد حدة مع كل كلمة:

“كان لازم تخليها تختار! مش تاخد القرار لوحدك وتدمر نفسك وتدمرها بالشكل ده… وأمك قالتلك الكلام ده قبل كده.”

اتسعت عينا مصطفى أكثر من أي وقت مضى، وكأن كلمات والده صدمته أكثر من اعتراف موسى، فهمس مذهولًا:

“حضرتك… كنت عارف؟”

أجاب محمد بثبات حزين، نبرة صوته تجمع بين القوة والخذلان:

“أمال أمك هتخبي عني حاجة زي دي؟ أكيد قالتلي.. قالتلي يوم ماعرفت منك بالموضوع، بس كان الأوان فات علشان أحاول أمنعك، كنت طلقتها خلاص… وأنا ساعتها ماقدرتش أعمل حاجة، واستنيتك… استنيتك تيجي وتقوللي ندمان، وتقوللي عايز أرجعها.. لكن إنت عملت إيه؟”

سكت قليلًا ثم تابع بصوت ثابت:

“روحت سافرت.. هربت.. وكنت فاكر إنك هتنسى، بس مانسيتش… مانسيتش يا مصطفى.. وأكبر دليل؟ عيونك، عيونك اللي فضحتك… ولسه بتفضحك لحد النهاردة، ولسه بتقول قد إيه لسه بتحبها.”

ابتلع مصطفى ريقه بغصة واضحة، كأن الكلمات تصارع للخروج من بين ضلوعه، ثم انطلق صوته مبحوحًا، ثقيلاً بالوجع:

“آه… لسه بحبها، ولسه كل ما أفتكرها قلبي بيتلوى، اتوجعت لما بعدها عني، بس… كنت هتوجع أكتر لو فضلت أشوفها قدامي وهي بتتمنى تبقى أم ومش هتاخد حقها في ده بسببي… كده على الأقل هي مرتاحة.”

حدق فيه محمد للحظة، كأنه لم يصدق ما يسمع، ثم جاء صوته محمّلًا بالاستنكار والمرارة، أقرب لصفعة:

“مرتاحة؟… أنتَ عارف هي عدت بإيه بعد طلاقكم؟… عارف إيه اللي حصلها وانت بتقول دلوقتي إنك عملت الصح؟! اللي بتقول عليها مرتاحة دي ماارتاحتش يوم واحد في حياتها يا مصطفى… ولا يوم!”

اقترب خطوة، عيناه تضجّان بغضب ممزوج بالشفقة، وكأن قلبه ينزف وهو يحكي:

“أمك نفسها… أمك يا مصطفى، ماقدرتش تستوعب اللي حصل، كانت بتيجي تشتكي لي وتقول: ابنك ضيّع البنت، ابنك دمر نفسه ودمرها. أبوها… أبوها اللي المفروض يحميها، راح جوزها لواحد أكبر منها بعشرين سنة، قال إيه علشان يلمّ الكلام اللي الناس قالته بعد ماطلقت بعد سنة واحدة من جوازها منك! رماها لراجل مش راجل أصلاً، عرّة… بنقلل من الرجالة لو حسبناه منهم.”

تنفّس محمد بحدة، وصوته جامد وهو يصف:

“راجل مالوش كلمة، مالوش شخصية… أخوه هو اللي ماسك زمام حياته، يزعق لمراته، يهينها، يمسح بكرامتها الأرض وهو قاعد بيتفرج وكأنه بيتفرج على مشهد عادي… واحد راح تنازل عن كل اللي يملكه لأخوه بإيده… وسابها هي وولادها من غير ولا قرش، تحت رحمة أخوه المفتري.”

خفض محمد رأسه قليلًا، وصوته انكسر للحظة وهو يلفظ الكلمات الأخيرة:

“شمس… ماشافتش يوم عدل يا مصطفى، ماارتاحتش.. يمكن الحاجة الوحيدة اللي طلعت بيها من كل ده هم عيالها… عالية وأدهم، غير كده؟… هي اتبهدلت… اتبهدلت أوي.”

ساد صمت ثِقيل كأن الكلمات الأخيرة قد غرست سكينًا باردًا في صدر مصطفى لا يُشفيه شيء منها.

اتسعت عيناه وقد استمعت لكل تلك الحكايا التي لم تُروَ له من قبل؛ لأول مرة وصلت له صورة ما عاشته شمس من وجع ومذلة، وللمرة الأولى شعر بثِقل نتيجة أفعاله يتكدس عليه بأضعافٍ مضاعفة، وندمه صار لا يُطاق.

ابتلع ريقه بغصةٍ عميقة، ثم تمايل خطواته حتى اقترب من أقرب مقعدٍ وجلس عليه كأنّ الدنيا سحقت قدماه.

ارتعشت يده فأزال نظاراته عن وجهه، مسح زجاجتها كمن يريد أن يرى العالم بوضوح لم يعد يملك فيه مبررًا، ولم تَعُد عيناه قادرتين على الصرامة؛ لمع فيهما شيءٌ من الدمع، وصوتٌ مبحوح خَرَج من بين أضلاعه:

“دمرتها… أنا دمرت حياتها وبهدلتها.”

كانت الجملة تسقط كاعترافٍ مكشوف، ثقيلة لدرجة أن الجدران بدا عليها صدى كل كلمة.

وقف الوقت لوهلةٍ لدى كل من حوله: محمد الذي تبادل النظرات بين الحزن والغضب، وداود الذي اقترب بخطوةٍ رقيقة ثم مدّ يده ليضعها على كتف شقيقه، محاولةً صامتةً لاحتواء ذلك الانهيار.

وموسى بقي متماسكًا خارجيًا، لكن عينيه كانت تحترقان بشيء من المرارة التي لا تخلو من حق.

وفي ذلك الصمت المُدَّوٍ، بدا اعترافه بدايةً لزلزال لم تعد كلمات تقيه أو تُداويه؛ كان بابًا مفتوحًا على ألمٍ قديم ربما يطلب الآن ثمنًا لا يطاق.

_________________

وفي الأعلى…

حيث ولجت شمس برفقة ولديها إلى الشقة، خطواتها مترددة مثقلة، كأنها تُساق إلى مواجهة لم ترغبها يومًا.

كانت مُجبرة على ذلك بعدما أرغمها موسى بطريقة لا تحتمل الرفض، إذ أصرّ أن يعودوا معه، بل جعل شباب الورشة يحملون حقائبهم ويصعدون بها إلى هنا، قاطعًا بذلك أي فرصة لهم للهرب أو الاعتراض، بالإضافة إلى الصدمة التي تركتها كلماته فيهم، التي جعلتهم عاجزين عن الوقوف في وجهه، وكأنهم فقدوا القدرة على المقاومة.

وما إن اجتازت أقدامهم عتبة الشقة، حتى دوّى صوت عالية بانفعال يقطر غضبًا، لم تستطع كبته لحظة:

“أهو اللي كنت خايفة منه حصل؟! لسه بيحبك وعايز يرجعلك، وابن أخوه من بجاحته بيطلب إيدك!”

كانت الكلمات كالسهم، صريحة جارحة، تحمل كل ما اعتمل في صدرها من خوف ورفض، وتهز المكان بما فيه.

ارتجف الجو من وقعها، وتيبست شمس في مكانها كأن الأرض جذبتها نحوها بقوة، عيناها اتسعتا أكثر بدهشة مرتبكة، وفي داخلهما مزيج من ذهول وحيرة وشيء من الصدمة الصامتة.

أما أدهم، الذي لم يحتمل حدّة صوت أخته، استدار إليها سريعًا، وملامحه متوترة، محاولًا كبح اندفاعها:

“اهدي يا عالية، ماينفعش تتكلمي بالطريقة دي مع ماما.”

لكن عالية لم تقتنع، بل ازدادت ثورتها وهي تبتعد عنه خطوة وتقول بصوت مهزوز من شدة الانفعال:

“أمال إيه اللي ينفع يا أدهم؟ قولّي إيه اللي ينفع؟ مفيش حاجة من اللي بتحصل معانا تنفع أصلًا!”

رفعت يدها فجأة وأشارت نحو والدتها، التي جلست على الأريكة بجسد متهالك كأن روحها انسحبت منها، لا قدرة لها حتى على الدفاع عن نفسها أو رد كلمة.

ارتعشت أصابع شمس وهي تحاول أن تُخفي ما يجتاح قلبها، لكن ابنتها لم تمنحها فرصة، إذ تابعت عالية بنفس الانفعال، وبصوت يقطر مرارة:

“إنت مش مستوعب اللي حصل! في واحد طلب إيد أمك… عايز يتجوز أمك يا أدهم!”

كانت الجملة قاطعة، كأنها إعلان للحرب…

ساد صمت ثقيل بعدها، صمت لا يخلو من الارتجاف، وقف أدهم متجمدًا، يحاول أن يستوعب وقع الكلمات، بينما انحنت شمس قليلًا، تضع كفها على جبينها كمن يبحث عن متنفس، كمن لا يجد مساحة يهرب إليها من نظرات ابنتها ولومها.

و

فجأة،

انفجرت الكلمات من فم عالية كالبركان، حارقة كل ما يحيط بها، كأن صبرها الذي ظل يتآكل لحظة بعد لحظة لم يعد يحتمل مزيدًا من الصمت.

ارتجفت أنفاسها، وعيناها تدوران بين أمها وأخيها في حدة، تبحث عن إجابة تقتل الخوف الذي ينهشها:

“ماحد فيكم يرد عليّا؟ سكتوا ليه؟ لتكونوا موافقين على اللي بيحصل ده؟”

التفتت إلى والدتها مباشرة، عيناها تلمعان بالتحدي الممزوج بالخذلان:

“ردي عليّا يا ماما؟”

لكن شمس ظلت صامتة، عيناها غارقتان في شرود ثقيل، كأنها تسمع ولا تسمع، كأنها غريبة عن المشهد رغم وجودها في قلبه.

التفتت عالية بسرعة نحو أخيها، تستنجد به، تنتظر أن يُشعل بصوته دفاعًا عنها أو على الأقل يطمئنها.

هزت كتفيه بالكلمات قبل أن تهزّهما بيديها:

“رد عليّا يا أدهم! أنتَ ليه مش بتتكلم؟ لتكون موافق إن أمك تتجوز وهي في السن ده؟ وييجي راجل ياخد مكان أبوك؟”

ارتطمت جملتها الأخيرة به ارتطامًا مؤلمًا، كأنها اخترقت قلبه قبل أن تصل إلى أذنيه.

حدّق بها أدهم بصمتٍ ثقيل، لا يحمل إجابة، فقط عيونٌ غارقة في ارتباكٍ عميق، أطرق بنظره قليلًا، كأنه يبحث عن مهرب من المواجهة، فابتعدت هي عنه بخطوة مترددة، تهتف باسمه:

“أدهم…”

رفع عينيه إليها، نظراته مشوشة، فألقت السؤال مباشرة، كسكين لا يترك فرصة للتراجع:

“هو أنت موافق أن أمك تتجوز تاني؟”

ظل أدهم يطالعها، وصمته كان أقسى من أي رد، لم تكن في نظرته موافقة صريحة، ولم يكن فيها رفضٌ قاطع أيضًا… مزيجٌ من الحيرة والاضطراب، كأن قلبه يريد شيئ، وعقله يريد نقيضه.

ضحكت عالية بمرارة، ضحكة مشوبة بالخذلان، وقالت وهي تهز رأسها في أسى:

“بصّوا… أي كان ايه اللي بتفكروا فيه، أنا مستحيل أوافق على إنك تتجوزي تاني يا ماما، مستحيل أوافق إن حد يدخل حياتك وياخد مكان بابا.”

رفعت صوتها أكثر، كأنها تعلن حكمًا نهائيًا لا رجعة فيه:

“وهنسيب البيت ده… برضاهم أو غصب عنهم هنمشي من هنا.”

خيم الصمت بعدها كثيفًا، صمتًا أشبه بغيمة ثقيلة داهمت القلوب، يضغط على الأرواح فلا يترك فيها متنفسًا.

وفجأة اخترق هذا الصمت صوت طرقٍ خفيف على الباب المفتوح، فانتفضت الأنظار جميعها نحوه، وهناك… عند العتبة، ظهر كلٌّ من مصطفى وموسى، وجوههم تشي بوضوح أنهم سمعوا كل كلمة من كلمات عالية الأخيرة، بل واستوعبوا ثقلها.

خفض موسى يده بعد أن ترك أثر طرقته على الخشب، وحدّق في الداخل للحظة قصيرة، ثم قال بصوت ثابتٍ، هادئٍ على غير ما يوحي به الموقف:

“ممكن ندخل؟”

.

.

.

.

جلسا متقابلين، المسافة بينهما قصيرة في الظاهر، لكنها في الحقيقة هوّة عميقة صنعتها السنوات والخذلان.

جلست هي على الأريكة، جسدها مائل قليلًا كمن يبحث عن مسافة أمان، بينما جلس هو على المقعد أمامها، يراقبها بعينين مثقلتين بالندم، وقد تركهم الشبان بمفردهما؛ عالية انسحبت إلى غرفتها رغمًا عنها، وموسى اصطحب أدهم إلى الشرفة، تاركًا خلفه صمتًا محمّلًا بكل ما لم يُقال بعد.

بيد مرتعشة، نزع مصطفى نظارته ووضعها على الطاولة، ثم مرر كفه على وجهه كمن يحاول استجماع ما تبعثر في داخله، وأطلق زفيرًا خافتًا، رفع بعدها نظره نحوها وقال بصوت بالكاد خرج من حنجرته:

“شمس…”

رفعت عينيها له، نظرة سريعة لكنها كفيلة بأن تهز كيانه، تطلع إليها لثوانٍ، ثم ابتلَع غصته وقال بصوت مخنوق:

“أنا أس…”

لكنها لم تسمح له أن يكمل، قاطعته بنبرة حاولت أن تبدو متماسكة، بينما ارتجافها فضحها:

“مفيش حاجة هتحصل بينا يامصطفى.”

ارتسم الصمت على ملامحه، وبدت الصدمة جلية في عينيه، أما هي فأكملت دون أن تمنحه فرصة:

“اللي انكسر مستحيل يتصلح… اللي كان بينا انتهى ومش هيرجع تاني.. وأنا عارفة إن موسى قال الكلام ده من دماغه… وإنك مش عايز نرجع.”

قاطعها سريعًا، وصوته يرتعش كأنه يتشبّث بعود نجاة أخير:

“عايز… عايز نرجع يا شمس.”

ارتفع حاجباها بدهشةٍ لم تُخْفَها، لكنه لم يتراجع، بل اندفقت الكلمات منه كندمٍ متأخرٍ لا يعرف التراجع:

“أنا لسه بحبك يا شمس، الحقيقة إني عمري ما بطلت أحبك… وعارف إن الرجوع صعب، وفكرة إنك تسمحيلي على اللي عملته معاكي وعلى اللي حصل لك بعد طلاقنا، تكاد تكون مستحيلة.”

ارتعشت يداه وهو يمسح العبرات التي تجمعت في مقلتيه، وكأن محاولة إخفاء الانكسار تزيده هشاشةً:

“أنا لسه عارف من شوية اللي عدّيتِ بيه… والله ماكنتش أعرف إنك اتعذبت كده. كنت فاكر إنك مرتاحة في حياتك، ماكنتش أعرف إنك اتبهدلت في جوازك…”

ترددت كلماتُه، ثم أجّلها في صدره قبل أن تُطفِق الخروج، كنارٍ كانت تكاد تُحرقه من الداخل:

“ماكنتش بسأل عليكِ بعد طلاقنا… مش عشان مش فارق معايا، لكن لأنّي كنت خايف أتكسر لما أشوفك مع غيري… ويوم ما شفتك في فرح دلال وشوفت الخاتم في إيدك اتوجهت وحسيت نفسي مخنوق، لكن لما شوفت بنتك وعرفت إنك خلفتي، فرحتلك من قلبي… والنهارده لما عرفت اللي عدّيتِ بيه، زعلت ونِدمت… نِدمت إنّي بعدتك وطلقتك.”

توقفت الكلمات هناك، كأنها سقطت منه كلها دفعةً واحدة، وتركته واقفًا بين اعترافٍ مدّمرٍ وندمٍ لا يطفئه شيء.

ساد صمت مُرّ ثقيل كقبرٍ للحظة، يلتهم كل صوت، وتجمّدت الأنفاس في الفضاء بينهما…

كانت نظرات شمس معلّقة به طويلاً، عيناها تبلوران دهشةً تتلوها استيعابٌ ثقيل للحقيقة التي انهالت عليها دفعة واحدة، حتى كادت الكلمات أن تختنق في صدرها.

ولما طال صمتها عن الحد الذي يحتمله، قرر هو أن يخرق السكون بنفسه؛ زفَر زفرة خافتة، ثم قال بصوتٍ يئنُّ من رجاءٍ متأخر:

“أنا عايز نرجع يا شمس… عايز أتجوزك تاني.”

طالعته للحظة، ثم نهضت من مكانها كأنما تنهض من تحت التراب، وصوتها خرج قاطعًا لا يقبل المجاملة:

“وأنا مش عايزة يا مصطفى، مش عايزة أرجع لك.”

صُدِم، إذ كان يتوقع هذا الرفض، لكن وقع الكلمات كان كالصاعقة، ولم تكتفِ هي بالنفي، بل اندلعت في كلامها مرارةٌ مركزة، تفضح العمر كله من الجرح:

“أنت جاي تقولي ارجعي بعد إيه؟ وليه؟ علشان شفقان عليا؟ علشان حاسس بالذنب إنك طلقتني وخليتني أعيش اللي أعيشه؟ طيب ما حسّيتش بالذنب لما غيّرت معاملتك ليا بعد جوازنا بشهور… ما حسّيتش بالذنب وأنت بعد ما أدّيتني كل حاجة حلوة وعيشتني أحلى أيام حياتي فجأة أخدت كل حاجة مني… ما حسّيتش بالذنب وأنت بتتكلّكلي على كل صغيرة وكبيرة وتزعقلي لأتفه الأسباب، وخليتني أوصل لدرجة ما أقدّرش أطيقك فيها وأطلب الطلاق بالرغم إني بحبك.”

توقفت لبرهة، كأنها تستجمع كلمات وجعٍ امتدّ سنينًا، ثم واصلت بصوتٍ يرتجف بالغضب والمرارة:

“لو فاكر إنّي اتبهدمت في جوازي التاني؟ آه، اتبهدت… بس السبب الحقيقي اللي خلّاني أتكسر، هو انت… أنت يامصطفى، لأنك الإنسان اللي حبيته وطلعني السما، وبعدها بلا مقدمات نزلتني سابع أرض… أنتَ أكبر غدرة في حياتي يا مصطفى، ومش مسمحاك… مش مسمحاك يا مصطفى.”

كانت الجملة الأخيرة بمثابة ختمٍ على فصلٍ انتهى، لا رجعة فيه؛ كلماتٌ تحمل حُكمًا وخلاصًا، وعيونها تنطق بالقرار قبل لسانها.

وقف هو مكفهرًا، تائهاً بين اعترافه ورفضها، وبين الماضي الذي تلاشى وحاضرٍ صار لا يبشر بعودة.

كل تلك الكلمات انسكبت في الصالة كأنها اعتراف متأخر أُجبر على الخروج للعلن، ولم يكن الشباب خلف الأبواب بمعزل عنها، لم يتعمدوا الإصغاء، لكن حدّة الأصوات، وارتجافها، جعلت كل ما قيل يتسرّب إليهم.

تبادلوا النظرات القلقة، حتى لم يستطع موسى أن يظلّ ساكناً؛ تحرك بخطوات مترددة نحو الداخل، وأدهم يلاحقه في أثره، ليكسر صمت المكان قائلاً بنبرةٍ مشوبة بالحذر:

“بس عمي كان عنده أسبابه يا خالتي…”

توجّهت أنظار شمس إليه، عيناها تلمعان بالحدة والخذلان في آنٍ واحد، فاقترب موسى أكثر، كأنه يملك مفتاحاً لشيء دفين:

“عمي سابك علـ…”

لكن قبل أن تكتمل الجملة، انقضّ مصطفى على كلماته، قبض على ذراعه بقوةٍ واضحة، وقال بصوتٍ مبحوح، كأنه يجلد نفسه:

“علشان كنت غبي… كنت غبي وضيعتك من إيدي يا شمس.”

اتسعت عينا موسى بدهشةٍ وصمت، بينما قابل نظرات عمه بنظرات استفهام صامتة، قبل أن يلمح توسلات مصطفى الصامتة التي ترجوه أن يصمت، فتراجع موسى حينها خطوة للوراء، وأذعن للصمت رغم ثقل الحقيقة في صدره.

وفي تلك اللحظة، خرجت عالية من وراء الباب أيضاً، لتصبح جزءاً من الدائرة التي امتلأت بالوجوه المشدودة.

رفع مصطفى بصره إليها للحظة، ثم عاد بكلماته إلى شمس، صوته هذه المرة أكثر انكساراً:

“تمام يا شمس… معاكِ حق في كل كلمة قلتيها، أنا أصلاً ماكنتش متوقع إنك توافقي… لكن عندي طلب واحد بس… أتمنى ماتسيبيش البيت.. خليكِ هنا، علشان ده أأمن مكان، منتصر لو عرف إنكم مشيتوا، هيرجع يضايقكم.”

انفجرت عالية سريعاً، صوتها كالسهم:

“مش هنفضل هنا.”

لكن شمس التفتت نحوها نظرةً حادة أسكتتها، ثم عادت بعينيها إلى مصطفى وقالت بهدوءٍ ثابت:

“ماشي يا مصطفى… مش هنمشي، بس برضه مش هنفضل هنا على طول.”

تأملها مصطفى لبرهة، كأنما يحاول أن يلتقط من ملامحها خيطاً يربطه بها، ثم أومأ ببطء، مستسلماً:

“ماشي… في الوقت المناسب تقدري تمشي، عن إذنك.”

ثم التفت نحو موسى، مشيراً له بيده أن يلحق به:

“يلا يا موسى.”

وغادر الاثنان الغرفة، تاركين وراءهما جواً مثقلاً، تختلط فيه الكلمات المبتورة بالأنفاس الثقيلة، فيما كان صوت إغلاق الباب خلفهما أشبه بالنقطة الأخيرة في جملة مشحونة، أُغلقت معها صفحة لكنها لم تُمحَ.

ظلت شمس ظلّت تطالع الباب لحظة طويلة، وعندما اقتربت منها عالية، رفعت عينيها نحوها، وقالت بصوتٍ مبحوح لكنه حاسم:

“مش دلوقتي يا عالية، مش دلوقتي.”

ثم التفتت مبتعدة، تاركة ابنتها خلفها، وانسلت إلى غرفتها وأغلقت الباب بإحكام، كأنها تغلق على نفسها جرحاً لا تريد لأحد أن يراه.

وقفت عالية متسمّرة في مكانها، تتابع أثرها بنظرات قلقة مترددة، في حين كان أدهم يوزّع عينيه بين الباب الذي ابتلع والدته والباب الذي غادر منه مصطفى، وكأن كل باب يحوي نصف الحقيقة.

لم يستطع أن يتجاهل صدى كلمات موسى التي تسللت إلى داخله قبل دقائق، تطرق ذهنه بلا هوادة:

“أنا قلتلك الكلام ده علشان حاسس إنك معندكش مانع لو خالتي رجعت لعمي… حاسك من مؤيدين رجعوهم عكس أختك، فعلشان كده حبيت أعرفك ليه عمي ساب خالتي من الأساس، علشان مايظهرش في صورة وحشة… عمي كان بيحب خالتي، والإنسان لما بيحب بيعمل كل حاجة علشان حبيبه يبقى مبسوط… فعمي ضحى بيها علشان تبقى مبسوطة، وعلى الأقل كان فاكر إن لو عمل كده هتبقى مبسوطة.”

ثم تذكر يد موسى الثقيلة الدافئة على كتفه وصوته الذي حمل رجاءً أكثر من أمر:

“بص يا أدهم… من الآخر أنا عايز مساعدتك إن الاتنين اللي جوه دول يرجعوا لبعض، صدقني راحتهم وسعادتهم لما يرجعوا جنب بعض… أنا مش هضغط عليك، فكر… ولو شايف إن عمي مناسب ليها وهيقدر يعوضها، كل اللي عليك تحط إيدك في إيدي وبس… فكر براحتك وأنا هستنى ردك.”

قطع صوت ارتطام عنيف لباب غرفة عالية خيط أفكاره، فأفاق من ذكرياته، ليجد نفسه وحيداً في غرفة المعيشة

واقفاً، متسمّراً في مكانه، تائهاً بين رغبة قلبه ورفض عقله، دون أن يجد لنفسه طريقاً يخرجه من دوامة الأسئلة التي تحاصره.

________________

_

ولج مصطفى إلى شقة والده، خطواته سريعة مثقلة، وموسى يلحق به، صوته متوسل يتشبث به:

“استنى يا عمي… لازم نتكلم.”

توقف مصطفى فجأة، ثم التفت إليه، وفي اللحظة نفسها انتبه محمد وداود لهما، كانا جالسين في البهو يترقبان عودتهما بصمتٍ مشوب بالقلق.

التقت أعينهم للحظة قبل أن يشيح مصطفى بوجهه، يهدر بصوت متحشرج بالمرارة:

“نتكلم في إيه يا موسى؟ أنت سمعت ردها بنفسك فوق… أنا مش عارف إزاي قلت كده أصلاً، أنا كنت طالع أعتذر لها، أقول كلمتين وأمشي… مش أفتح باب ماضي خلص، وأحط نفسي وهي في الموقف السخيف ده.”

حاول موسى أن يقترب منه خطوة، نبرته أكثر هدوءاً:

“يعني حضرتك زعلان إنها رفضتك؟”

ضحك مصطفى ضحكة قصيرة مكسورة، أشبه بزفرة موجوعة، ثم هز رأسه قائلاً:

“أنا زعلان من نفسي يا موسى… زعلان إني اعترفت لها أصلاً، ماكنش لازم أعمل كده، ماكانش عندي الحق من البداية… ماليش عين أقف قدامها وأقولها

ارجعيلي

، وبعد كل اللي عملته فيها أطلب منها تسامحني ونرجع، بس خلاص… اتقالت، وده الرد اللي استحقه… وخدته.”

قال عبارته الأخيرة ببطء، وكأن كل كلمة تنزع قطعة من روحه، ثم أطرق رأسه للحظة، يداه ترتجفان وهو يخلع نظارته، يحاول أن يخفي عينيه التي لم تعد قادرة على كتمان بريق الدموع.

زفر موسى بقوة، كأن صدره لم يعد يحتمل مزيدًا من الكتمان، ثم قال بعنادٍ يتخلله رجاء:

“طب ليه ما سيبتنيش أقولها يا عمي؟ يمكن كان قلبها يلين… وتعرف إنك عملت كده علشانها.”

لكن مصطفى انتفض، صوته متقطع من الانفعال:

“لأ، لأ يا موسى… شمس لا هتعرف، ولا لازم تعرف.. سامع؟”

اقترب منه بخطوة ثابتة، نظره حاد كأنه يطعن في الصميم، وقال بصوت مرتجف لكنه صارم:

“احلفلي دلوقتي… بأغلى حاجة عندك، إنك مش هتقولها.”

تراجع موسى للحظة، حدّق في عيني عمه ثم هز رأسه ببطء:

“مش هحلف… علشان لازم تعرف.”

اشتعلت ملامح مصطفى، وخرج صوته مهزوزًا لكنه أشبه بالزئير:

“لا، هتحلف! احلف دلوقتي يا موسى إنك مش هتقول لشمس موضوع الخلفة! هي تعبت بسببي بما فيه الكفاية… حرام عليا أجي دلوقتي وألغبط لها حياتها أكتر… يلا، احلف!”

صمت موسى للحظات، يطالعه بعينين يملؤهما العناد والرفض، ثم تراجع خطوة للخلف كأن المسافة بينهما تحميه، وقال بصلابة:

“يعني حضرتك ناوي تستسلم؟”

رفع مصطفى بصره نحوه ببطء، صوته مبحوح كأنه يجرّ وراءه أثقال السنين:

“أنا مستسلم من زمان يا موسى… ماكنش عندي أمل أصلاً علشان يختفي.”

ظل موسى ينظر له بثباتٍ لحظة، ثم ارتسم على شفتيه شبه ابتسامة حزينة وقال بإصرارٍ يملؤه يقين:

“بس أنا مش هستسلم يا عمي… وهترجعوا، إن شاء الله هترجعوا… وهتشوف يا أستاذ مصطفى عمران.”

أنهى جملته بنبرة حاسمة، ثم التفت نحو محمد وداود، ألقى عليهم السلام واستأذن في هدوء، قبل أن يخرج من الشقة بخطواتٍ سريعة.

ظل مصطفى يطالع أثره عند الباب لحظةً، ثم أشاح بوجهه وسار نحو غرفته، يغلق على نفسه وعلى ما تبقى من وجعه.

وبقي محمد وداود وحدهما في بهو الشقة، زفر الأول ببطء، واضعًا يده على عكازه، ثم تمتم بلهجة متضرعة:

“يارب استرها…”

نظر داود إليه بعينين يملؤهما القلق، ثم جلس أمامه، مومئًا وهو يردد بتلقائية منكسرة:

“يارب… يارب يا حج.”

و

في الداخل، حيث خيم السكون على الغرفة، جلس مصطفى منهكًا فوق المقعد، رأسه يستند إلى الخلف كأن ثقله لم يعد يحتمله، عيونه مثبتة على السقف، لكن بصره لم يكن يرى شيئًا، غارقًا في غشاوة الدموع التي لم تعد تتوارى.

وبين صمته الموجوع، انبثقت الجملة التي طعنته وأعادت تمزيقه من الداخل، كأنها تتردد بين جدران رأسه بلا توقف:

“أنتَ أكبر غدرة في حياتي يا مصطفى… ومش مسمحاك… مش مسمحاك يا مصطفى.”

ارتجف صدره، اختنق أنفاسه، ثم انكسرت السدود فجأة…

انحدرت دموعه بلا مقاومة، دموع ثقيلة حارة كأنها تنزف من قلبه لا من عينيه، تحمل في مسارها ثِقل عمرٍ ضائع، وقهرًا تراكم كالصخور فوق صدره، وندمًا متأخرًا جاء ليقضي على ما تبقى منه.

كان انهياره الآن صورة طبق الأصل من انهياره الأول؛ كأنه لم يَشفَ قط، وكأن الزمن لم يَعبُر.

وفي الطابق الأعلى، كانت المأساة تتضاعف في صورة أخرى لا تقل وجعًا؛ جلست شمس قُرب سريرها، جسدها مطويٌّ على نفسه كمن يحاول الانكماش ليختفي عن العالم، رأسها مدفون بين ركبتيها كطفلة تبحث عن مأمن في وسط العاصفة.

انفجرت دموعها بحرقة، تبلل كفيها وتُثقل أنفاسها…

شهقاتها تعالت، تحمل في صداها جرح الماضي كما تحمل وجع الحاضر، حتى غدا بكاؤها كأنه بكاءٌ واحد ممتد، بدأ منذ سنوات ولم يجد طريقه للنهاية بعد.

وكأن انفصالهما لم يكن قبل أربعٍ وعشرين سنة، بل حدث لتوّه، وكأن الجرح الذي ظنت أنه التأم، انفتح اليوم أعمق وأكثر وجعًا.

هو ينهار هناك، وهي تنهار هنا… وحبٌ قديم مازال حيًا، يصر على أن يُعيد وجعهما من جديد، ليذكّرهما بأن الفراق لم يكن يومًا نهاية، بل بداية لعذابٍ طويل.

_________________

بعد أربعة أيام…

جلس في غرفة المعيشة على إحدى الأرائك الوثير، الحاسوب المحمول أمامه، أصابعه تنقر بخفةٍ على لوحة المفاتيح في محاولة لشغل وقته بالعمل حتى تنتهي زوجته من استعدادها.

وقد كان يرتدي بذلة أنيقة باللون الأزرق القاتم، يعلوها قميص أبيض ناعم دون ربطة عنق، وبنطال متناسق مع السترة، فيما أكمَل إطلالته حذاءٌ أسود لامع يمنحه حضورًا رسميًا لكنه غير متكلّف.

وفجأة، انفتح باب الغرفة، وخرجت هي لتعلن انتهاء استعدادها بكلمةٍ قصيرة:

“خلصت…”

رفع رأسه نحوها بتلقائية، وفي لحظة… اتسعت عيناه بانبهار واضح، تجمدت أصابعه فوق لوحة المفاتيح، ثم أغلق الحاسوب دفعةً واحدة دون أن يقدر على صرف بصره عنها، ثم نهض واقفًا، وكل خطوة يخطوها نحوه كانت مشبعة بدهشةٍ لا تنطفئ.

سألته بابتسامة خجولة، وصوتٍ يختلط فيه الترقب بالثقة:

“إيه رأيك؟”

نظر إليها من أسفل إلى أعلى، يتأمل تفاصيل الفستان الذي اختارته مع دلال؛ نفس لون بذلته، كان الفستان رقيقًا، ينساب على جسدها بليونةٍ تجعله يليق عليها وكأنه صُنع خصيصًا لها، يبرز أنوثتها من دون تكلف.

ابتلع ريقه ببطء ثم أجاب، وصوته مشوب بدهشةٍ صادقة:

“رأيي؟… رأي إيه بس؟”

اقترب منها أكثر، وأمسك يدها برفق، ثم أدارها حول نفسها في حركةٍ خفيفة جعلت الفستان يتمايل معها وكأنه يرقص على وقع نظراته.

وفي تلك اللحظة، خرج صوته عميقًا، ممتلئًا بالعاطفة:

“مفيش كلام يوصف انبهاري بيكِ… ولا حُبي ليكِ، أنتِ فوق أي تقييم.”

كانت نظراته كافية _أعمق من أي كلمة_ تخبرها أن كل بلاغة العالم تقف عاجزة أمام ما يفيض به قلبه الآن.

ضحكت هي خفّة ورقة، ضحكة فيها استمرار للدفء، ثم توقفت فجأة، ثبتت قدماها على الأرض كأنها تستشعر الأرض تحتها أكثر، رفعت يدها ببطء ووَضعتها على وجنته برقة، وقالت بصوتٍ فيه مزاح وصدق:

“مش هتبطل تخلّيني أحبّ أكتر.”

ابتسم بعنفوانٍ ممتدّ، ضغط على يدها برقة كما لو أنها أثمن ما يملك، ثم مال إليها وطبَع قبلةً هادئة عليها قبل أن يكرر الكلمات كما لو أنه يراعي كل حرف:

“لما تبطلي أنتِ الأول هبطل، رغم إني عارف إن مستحيل أبطل حبك… حبك بيزيد مع كل دقة من قلبي… احسبيها انتي بقى.”

انطلقت ضحكتها بخفة، فارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة تبعتها ضحكة دافئة، وكأن اللحظة الصغيرة احتوت العالم كله بينهما.

تبادلا الضحك حتى انتبه هو إلى عقارب الساعة، فمال برأسه نحوها وقال بنبرة مازحة تخفي جديّة الوقت:

“يلا بقى علشان ما نتأخرش… نأجل الفقرة دي لما نرجع.”

ابتسمت أكثر وهي تتمسك بذراعه بحنانٍ واضح، كأنها تُعلن دون كلام أنها لا تريد أن تفلت منه، ثم تقدما معًا بخطوات متناسقة. التقط هاتفه من الطاولة في آخر لحظة، وبحركة عابرة أغلق الباب خلفهما.

خرجا من الشقة متجاورين كما لو أن المسافة بينهما غير موجودة أصلًا، متجاورين كقلوبٍ تعرف طريقها منذ زمن، لا تُضلّه لحظة ولا يُعكر صفوه ظرف.

_________________

على الجهة الأخرى…

وكما هناك قلوب دافئة بالحب، هنا أيضًا قلب يرقص فرحًا بسببه…

وقف كارم أمام المرآة يضبط خصلات شعره السوداء الكثيفة ويعيدها إلى الوراء بحركة متكررة تدل على حرصه أن يبدو في أفضل حالاته.

وقد انتهى للتو من تجهيز نفسه، مرتديًا بذلة كاملة باللون الأبيض، حتى أن قميصه وبنطاله وحذاءه اتخذوا الدرجة ذاتها، وكأنه أراد أن يكون صفحة بيضاء تبدأ من جديد.

عدل من وضع ساعة يده، ثم مال قليلًا إلى الأمام ليتأكد من انعكاس صورته، ابتسم بخفة، ثم غمز لنفسه بمشاكسة وقال بنبرة مفعمة بالمرح:

“جايلك يا بسكوتة.”

استدار بعدها متجهًا نحو باب الغرفة، لكن بمجرد أن تجاوز العتبة، توقفت خطواته حين وجد والدته أمامه، وخلفها والده يتأمله في صمتٍ مفعم بالفخر.

اتسعت ابتسامته تلقائيًا، وأشار نحو نفسه كمن ينتظر التصفيق وقال:

“إيه رأيكم؟”

لم تتمالك فاطمة نفسها، فتقدمت لتحتضن وجهه بكفيها، وعيناها تلمعان بمزيج من السعادة والحنو وهي تقول:

“زي القمر يا قلبي أمك… ألف مبروك، ربنا يسعدك إنت وهي.”

ابتسم كارم لوالدته ومال يلثم جبينها برفق، كطفلٍ يطلب رضاها في أهم أيامه، وهو يردد بنبرة دافئة:

“وربنا يخليكي ليا يا بطة.”

ضحكت فاطمة من كنيته المعتادة لها واحتضنته أكثر بعينيها قبل ذراعيها، بينما كان هو يلتفت نحو والده الذي اقترب بخطوات ثابتة.

وضع عبد الله كفه على كتف ابنه وضغط عليه بحنو أبوي عميق وهو يقول:

“ألف مبروك يا حبيب أبوك.”

ابتسم كارم بحرارة، ثم اندفع في عناقٍ قصير لكنه عناق جمع كل الامتنان والدفء، وربت عبد الله على ظهره بحنو عميق.

وحين ابتعدا قليلًا، قال عبد الله وهو يلمع بعينيه:

“يلا بينا؟”

أومأ كارم موافقًا، لكنه أدار رأسه يتفقد البيت بنظراتٍ متسائلة ثم قال:

“ماشي… بس فين ضحى؟”

وما هي إلا لحظة حتى خرجت ضحى من غرفتها، خطواتها رشيقة وصوتها يسبقها بحماس:

“أنا جيت!”

ارتسمت ابتسامة واسعة على ملامح كارم فور رؤيتها، فاقتربت منه بسرعة وعانقته بصدق، كأختٍ تحمل له كل الدعوات البيضاء، وهي تردد بنغمة مشبعة بالفرح:

“مبروك… عقبال الليلة الكبيرة.”

ضحك كارم بخفة وغمز لها وهو يردّ:

“الله يبارك فيكِ… وعقبال ما أفرح بيكِ قريب.”

تحدثت فاطمة وهو تمرر كفها على وجنتها بحنان:

“لما نلاقي ابن الحلال الأول.”

سارع كارم يؤيدها بجديةٍ فيها لمحة مزاح:

“أمال إيه؟ لو ماكنش راجل ابن راجل ويستحقها مش هيدخل البيت… ولا إيه يا حج عبد الله؟”

أجاب عبد الله بنبرة جادة، وهو ينظر لابنته بحنان:

“زي ما قلت يا حبيب أبوك… دي أغلى حاجة عندي، أفرط فيها وأديها لأي حد ولا ايه؟!”

ابتسموا جميعًا في لحظةٍ دافئة جمعتهم، قبل أن تقطع فاطمة هذا الجو بقولها وهي تشير نحو الباب:

“يلا بينا.”

تحركوا معًا بخطواتٍ متلاحقة، ونزلوا الدرج والضحكة المخبأة على وجوههم تسبقهم، حتى إذا عبروا عتبة الباب إلى الشارع، انفجرت المفاجأة في وجههم: أصوات الطبول تدوي كالرعد، والزغاريد تتطاير في الهواء كطيورٍ بيضاء، والغناء الشعبي يملأ الحي ببهجة لا تخفى.

وقف الأصدقاء مصطفّين عند المدخل، عيونهم تلمع بالحماس، وأياديهم تصفق بفرح صادق، وقد كان المشهد كرنفالًا صغيرًا، كل تفصيلة فيه تصرخ بالحب والوفاء.

وقف كارم مبهورًا باللوحة التي ارتسمت أمامه، عيناه تجولتا سريعًا بين محسن، الذي يمسك بالطبلة ويدق عليها بحرارة كأنها قلبه، وبين موسى وسامي وحسن وحسين، الذين يتمايلون على الإيقاع بأجسادٍ خفيفة وقلوبٍ مشتعلة بالفرح.

وفي الخلف، علت أصوات النساء بزغاريد متتالية، تشق السماء وتنسج خيطًا من النور حوله.

ظل كارم يطالعهم بدهشةٍ غامرة، حتى وجد يدًا قوية تسحبه من ذهوله… كان موسى يجره بحماس، يدفعه نحو قلب الحلقة، نحو الرقص والغناء، نحو اللحظة التي لا تُعوّض.

تردد صوت الطبلة أكثر فأكثر، وارتفع صوت محسن وهو يغني من أغنيات محمد منير، كأنه يغني لعرس صديقه المفضل،

ولأجل الفرحة الطاغية التي تملأ قلبه في تلك اللحظة.

ابتسم كارم، ابتسامة غمرت وجهه كله، وترك نفسه للإيقاع، يرقص بينهم كطفلٍ عاد إلى حضن الفرح، ينسى كل شيء إلا أن هذه الليلة ليلته، وأن هؤلاء من حوله ليسوا مجرد أصدقاء، بل أوطان صغيرة تحمله على أكتافها.

_________________

في جهة أخرى…

خطا نازلًا على الدرج، يعدّل من وضع قميصه الرمادي، وفجأة سمع صوت باب يُفتح، فالتفت غريزيًا، ليرى مصطفى يخرج من شقة والده.

توقف أدهم في منتصف نزوله، تباطأت خطواته وكأن اللحظة أثقلته، ثم بعد صمتٍ قصير تلعثم بهدوء:

“مساء الخير.”

ابتسم مصطفى له ابتسامة خافتة، تحمل بعض الدفء وبعض الحذر:

“مساء النور… رايح كتب الكتاب؟”

أومأ أدهم وهو يشيح بعينيه للحظة قبل أن يعود بهما:

“آه… كارم دعاني، ومعرفتش أقوله لأ… هروح مع موسى.”

أمال مصطفى رأسه قليلًا وقال بهدوء عارض:

“طب ماتيجي معايا؟ أنا كده كده رايح لوحدي، والعربية فاضية، تعال اركب معايا.”

تردد أدهم لحظة، شدّ على درابزين السلم كمن يتمسك بعذرٍ يبعده، ثم هز رأسه:

“لا… مالوش لزوم.”

تأمله مصطفى بعمق، قرأ ما وراء رفضه، ثم سأله بصوتٍ يحمل شيء من الوجل:

“هو أنت مضايق مني بسبب اللي حصل أخر فترة؟”

لم يواجهه أدهم مباشرة، أطلق زفرة قصيرة وقال بإرتباك:

“لأ… بس يعني… الموقف محرج.”

ابتسم مصطفى ابتسامةً مُرة، ابتسامة بدت كأنها تحمل اعترافًا صامتًا أثقل من أي كلمة قد يقولها، ثم تمتم بصوت خافت يكاد يخونه:

“معاك حق…”

رفع أدهم عينيه إليه، يطالعه لبرهة بحيرةٍ تكسو ملامحه، وكأن شيئًا ما لم يكتمل بداخله، لكنه في النهاية ابتلع ريقه، مستسلمًا لصمته وقال:

“ماشي…”

تفرس فيه مصطفى للحظة، فالتقط أدهم أنفاسه وأضاف بعد ترددٍ قصير:

“موافق… يلا نمشي.”

تبددت ابتسامة مصطفى المريرة لتحل محلها ابتسامة صغيرة ممتنة، فيها امتنان خافت لا يقال، ثم لوّح له بيده وكأنه يدفعه لخطوة إلى الأمام وهو يقول:

“طب يلا…”

أومأ أدهم برأسه إيجابًا، كمن يرضخ أكثر مما يقتنع، ثم تحرك معه نحو الأسفل، خطواته تثقلها الهواجس، وصدى أفكاره يضرب رأسه بعنف، كأن كل خطوة يخطوها نحو الطريق تُقابَل بارتطام داخلي، يزيد من ثقل صدره أكثر فأكثر.

_________________

مع مرور الوقت…

بدا بهو المنزل كخلية نحل عامرة بالدفء، تختلط فيه أصوات الضحكات مع وقع الأقدام وصخب التهاني.

كان المكان غارقًا في جو احتفالي، رجال يتحلقون في الأسفل ينتظرون قدوم المأذون بلهفة، وفتيات متجمّعات في الأعلى حول ميرنا في الغرفة، يزينَّ اللحظة بأحاديث خفيفة ولمسات حنان.

لكن خلف هذا المشهد المبهج، كانت هناك روح واحدة تقف على الضفة الأخرى من الفرح… ريناد.

عيناها تتابع من الطابق الثاني حشود المهنئين وهم يستقبلون المأذون، لكن ملامحها لم تعرف شيئًا من البهجة… بسمة مقتضبة تلمع على شفتيها للحظة، سرعان ما انطفأت تاركة مكانها لجمود قاسٍ.

التفتت مبتعدة، وكأنها تنفض عن نفسها غبار المشاركة، واتجهت إلى غرفتها بخطوات باردة.

ولجت الداخل وجلست على الفراش، التقطت حاسوبها المحمول، وأطلقت العنان لأناملها تتنقل بين الصور التي ظهرت أمامها.

هناك… وجه ميرنا يضحك، وعينان متلألئتان إلى جوار شاب آخر… لم يكن المشهد عابرًا، بل كان كفيلاً بإشعال ابتسامة خبيثة ارتسمت على محيا ريناد، ابتسامة تحمل نكهة مؤامرة قيد التنفيذ.

أمالت رأسها على كتفها بتراخٍ مدروس، وكأنها تهمس لنفسها سرًا عظيمًا:

“أول ما يعلنوا الجواز… أنا هعلن بداية نهايته.”

ضحكة عالية، حادة، انطلقت من أعماقها وهي تغلق الحاسوب، ضحكة لم يكن فيها أي أثر للبراءة، بل إعلان صريح أن فرحة الآخرين قد تتحول إلى مأساة على يديها.

_________________

وفي الأسفل…

كان البهو يعجّ بالأنفاس المتلاحقة، والأنظار كلها مسمّرة على الطاولة حيث جلس المأذون متأهّبًا، يفتح أوراقه بعناية في انتظار لحظة البدء.

الحشود الملتفّة حوله بدت كبحرٍ صاخب من الوجوه المتلهّفة، تتأرجح بين الدعاء والفضول، وبين نظراتٍ حائرة نحو الدرج، حيث يفترض أن تهبط العروس بخطواتها الأولى نحو مصيرها الجديد.

لكن عوضًا عن ذلك، كان المشهد مختلفًا تمامًا…

ظهرت على الدرج صورتان مألوفتان،

دلال

و

ضحى

، تهبطان معًا بوجوهٍ متماسكة تخفي ما يعتمل في دواخلهما.

ساد البهو لحظة صمتٍ مربك، اختلط فيها الانتظار بالدهشة، قبل أن تشق صوت فاطمة الناعم أجواء الترقّب وهي تسأل:

“أُمال فين العروسة؟”

تبادلت دلال وضحى النظرات لثوانٍ… وأخيرًا، ثبتت دلال بصرها على الحاضرين، وعيناها تعكسان مزيجًا من التردّد والحسم، ثم نطقت بجملةٍ وقعت كالحجر في ماء راكد:

“العروسة مش نازلة…”

#يتبع….

_________________

ماأقدرش أقول إن دي العودة أوي، علشان أنا حرفياً لسه فاقدة الشغف، وكاتبة الفصل بالعافية، علشان خاكرطم بس نزلته، فأتمنى تقدروا تعبي دي وتتفاعلوا♥️.

دمتم بخير… سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق