رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الخامس والثلاثون 35 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الخامس والثلاثون

الفصل الخامس والثلاثون (مشهد لم تتوقعه!)

الفصل الخامس والثلاثون (مشهد لم تتوقعه!)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ولاتنسوا الدعاء لإخواتنا في الدول العربية،ربنا ينصرهم ويشفي جريحهم ويرحم أمواتهم.

نبدأ بسم الله…

__________

أجواء كئيبة بإمتياز..الظلام غمر المكان، وكأن الجدران نفسها تتنفس الحزن..الثياب المبعثرة هنا وهناك،تشهد على الفوضى التي تعكس حالته النفسية المتدهورة..النوافذ المغلقة التي تمنع الضوء،وتزيد من الشعور بالانسداد الداخلي الذي لا يستطيع التخلص منه.

وهو…

وسط هذا الفوضى،مستلقٍ على فراشه بملامحٍ جامدة، تتناقض مع الألم الذي يشعر به داخلياً، عينيه لا تفارقان السقف، لكنه لا يرى شيئاً سوى انعكاسات أفكاره المشوهة،وكأنها قطع متفرقة من كابوس طويل.

محيطه صامت،لكن داخله مليء بالضجيج، أفكار تتسابق في رأسه، متشابكة، تلاحقه كالأشباح. ذاكرته تخونه،تجلب له صوراً وذكريات مؤلمة لا يستطيع الهروب منها.

و يدرك تماماً أن الصمت الذي يعيشه ليس هدوءاً، بل نوع من العزلة التي يفرضها على نفسه خوفاً من مواجهة الواقع، أو ربما لأن الكلمات لم تعد تكفي للتعبير عن كل ما يمر به.

وسط تلك الأجواء،فُتح باب الغرفة فجأة، لتدخل منه..والدته،التي وقفت عند المدخل تحدق فيه بمشاعر ممزوجة بين القلق والألم، وقفت تحدق في ابنها الذي كان غارقاً في صمته العميق،والذي لم يرفع عينيه لها، بل استمر في تحديقته الثابتة إلى السقف، كأن عقله لا يستطيع الخروج من هذا السجن الذي بناه لنفسه.

حركت هي رأسها بحزن وأسى، ولم تجد سبيلاً سوى الاقتراب من النافذة،وقامت بشد الستائر بعيدًا بشئ من اللامبالاة، ليدخل ضوء النهار إلى الغرفة كأنما محاولات الحياة نفسها، لكنها لم تستطع أن تضيء قلبه الغارق في الظلام.

رفع هو رأسه فجأة،وكأن الضوء كسر شيء داخله، فابتعد عن الضوء بسرعة وتأفف بضجر، وقال:

“لازم نكد يعني؟؟”

لكن ردّها جاء سريعاً فقالت بنبرة مستنكرة،لكنها تحمل الصدق والألم:

“نكد إيه؟! أومال اللي أنت عامله في نفسك ده إيه يا موسى؟!”

اقتربت منه بخطى مثقلة بالغضب والشفقة،وبحركة حاسمة أشاحت الغطاء عن جسده كمن يحاول نفض الغبار عن قطعة من الزمن توقفت عن الحياة، وقالت بصوت متهدج تغلب عليه نبرة الضيق:

“عاجبك حالتك دي يعني؟ عاجبك السجن ده اللي حبست نفسك فيه؟”

رفع كفيه ببطء ومسح وجهه كما لو كان يحاول إزاحة ما أثقل ملامحه من التعب، ثم نظر إليها أخيرًا، بعينين جافتين من كل شعور، وأجاب ببرود قاتل:

“سجن إيه؟ دي أوضتي.”

لم تتوقف بل جاء ردّها كالسيل المتدفق تحاول أن تهز جدران عزلته:

“أوضتك اللي أنت بقالك يومين مش بتخرج منها! يدوب بتنزل تصلي وترجع، لا راضي تخرج تاكل معانا، ولا راضي تنزل تقعد مع صحابك…”

خفت صوتها فجأة هنا،وتحول من لهجة العتاب إلى لهجة تحمل كسرة وحزنٍ عميق:

“ولا حتى راضي تروح تشوفها…”

ولم تكن نبرتها فقط من انكسرت،بل حتى نظراتها بدأت تفقد صلابتها،وبدت متورطة في حزن عميق لا تستطيع التعبير عنه بالكلمات.

وفي تلك اللحظة، كأن شيئًا داخله قد تشقق..بدأت ملامحه تذوب شيئًا فشيئًا،والحزن الذي أخفاه بعناد بدأ يظهر، لا على لسانه، بل في عينيه التي خفضهما فجأة، كأنه يخجل من ضعفه…أو من اشتياقه.

نظر في وجهها مطولًا في صمتٍ،فاسترسلت هي بصوت خافت،لكنه حاسم:

“وحشتك…عينيك بتقول إنها وحشتك، ليه مش عايز تروح تشوفها بقى؟”

أدار وجهه عنها ببطء، ثم ابتلع ريقه بمرارة كأن الكلام علق في حلقه، وقال أخيرًا بصوت خافت أشبه بالاعتراف:

“أنا…مش مستعد،مش إني مش عايز.”

نظرت إليه نظرة حزن ممزوجة برجاء،وسألته بصوت يفيض بالحنان:

“ليه؟ مش مستعد تشوفها ليه؟”

أطرق برأسه للحظة، ثم قال بصوت مكسور:

“علشان فيروز دلوقتي عايزة جنبها حد يخفف عنها…وأنا لو رحتلها،مش هعرف أعمل ده.”

خرجت كلماته الأخيرة وكأنها تحمل عبئًا ثقيلًا لم يعد يستطيع حمله، ليس لأنه لا يحبها، بل لأنه يخشى أن يكون ضعفه عبئًا إضافيًا على ألمها…

ازداد الأسى في قلبها عليه،وطالعت وجهه في صمتٍ لبضع لحظات قبل أن تجلس بجواره،وتمسح على شعره بحنوٍّ يعيد له شيئًا من الطمأنينة،ثم قالت بنبرة دافئة تحمل كل الحنان الذي يمكن لقلب أم أن يمنحه:

“بس بغيابك عنها بتأذيها…وبتأذي نفسك كمان يا ابني.”

رفع عينيه إليها،عينان مثقلتان بالحزن،كأنهما تتوسلان شيئًا لا يستطيع النطق به،ثم ابتلع ريقه مجددًا وقال بنبرة بالكاد تُسمع:

“خايف…خايف لما أروح أتعبها أكتر،لما…لما ماقدرش أساعدها تعدي اللي هي فيه.”

وضعت يدها على كتفه،وضغطت عليه برفق، ثم قالت بصوت يحمل قوة العاطفة وثقة القلب:

“لما تروح لها هتساعدوا بعض،هتساعدوا بعض على الوقوف من جديد…وبعدين، تقدر تعتبر اللي فات ده امتحان ليكم…علشان علاقتكم تقوى أكتر،وتبقى قايمة على الثقة والمساندة،مش بس الحب.”

ابتسمت له ابتسامة صغيرة،مليئة بالرجاء ثم تابعت:

“يلا قوم يا حبيبي…قون اغسل وشك وتعالى اتغدى معايا،وبعدين انزل روحلها…أو حتى روح لدلال، عارفة إن مفيش غيرها هيفوقك ويهون عليك.”

رفع عينيه إليها مجددًا،ثم سألها بصوت بالكاد سمعته:

“هي…جات؟”

أومأت برأسها بخفوت وقالت:

“أبوك وعمّك راحوا يجيبوها من المطار هي وطارق…زمانهم على وصول.”

ازدرد ريقه من جديد،ثم سألها بصوت خافت:

“أكدتِ عليهم ماحدش يقولها حاجة على اللي حصل؟”

أومأت بالإيجاب،وقالت برقة:

“أكدت عليهم وعلى البنات كمان زي ما قلت لي..بس يا ابني،لازم تبقى عارف إن حاجة زي دي صعب تتخبّى،ومسيرها تعرف دلوقتي أو بعدين.”

هزّ رأسه ببطء ثم قال:

“عارف إنها صعب نخبي حاجة زي دي…علشان كده هقولها،بس مش دلوقتي…مش عايز أعكّر مزاجها هي وطارق وهما لسه واصلين من شهر عسلهم…فاهماني؟؟”

“فهماك.”

قالتها ببساطة،لكنها كانت مليئة بالرضا والاحتواء،كأنها تمنحه الإذن بالتأجيل دون أن تُشعره بالذنب،بينما هو فأومأ بخفوت وهو يشيح بنظره بعيدًا،فعادت تميل نحوه في حنانٍ أموميٍ خالص،وضعت قبلة دافئة على جبينه وهمست:

“يلا قوم علشان خاطري.”

أومأ مجددًا بنفس الخفوت،وكأن صوته أصبح عاجزًا عن مجاراة مشاعره،بينما هي فابتسمت له برقة،وربّتت على كتفه كأنها تمنحه دفعة خفية من القوة،ثم نهضت بخطى هادئة،وتركت الغرفة من جديد.

ظلّ هو يطالع أثرها حتى اختفت خلف الباب،وبقي بعدها صامتًا،يحدق في الفراغ للحظات…قبل أن يستدير ببطء،وينظر صوب النافذة

بعينين دامعتين تحملان شيئًا من الحنين،

ظل يحدق فيها مطولًا،كأنه يودّ أن يخترق الجدار بنظراته،أن يرى من خلفه،أن يطمئن عليها…كأن عينيه تشتاقان لاحتضانها،كما يشتاق قلبه إليها بصمتٍ خجول،ثقيل،لكنه صادق حتى النخاع.

_________________

وخلف تلك الجدران…

وتحديدًا في الطابق الثاني،حيث كانت نادية تجلس مع سامي في البهو الهادئ الذي خيّم عليه الصمت، لم يكن هناك ما يشغلهم سوى النظر إلى ذلك الباب المغلق…الباب الذي تقبع خلفه “هي”.

وما هي إلا لحظات حتى فُتح الباب بهدوء، وخرجت منه ليلى حاملة صينية الطعام كما دخلت بها تمامًا،وكأن أحدًا لم يشعر بوجودها أصلًا.

وبمحض رؤيتها،أغمض سامي عينيه في تعبٍ ظاهر،وكأنه ينوء بحمل عجزه عن فعل أي شيء، أما نادية فسألت ليلى بنبرة يغلبها الأسى:

“برضه ما أكلتش؟؟”

هزّت ليلى رأسها بالنفي بأسفٍ ثقيل،وكأنها تنقل من خلالها خيبة أملٍ لا تملك وصفها، وما إن فعلت، حتى نهض سامي من مكانه وهو يتمتم بإصرار ممزوج بالنفاد صبر:

“هاتيها أنا هدخلها.”

أوقفته نادية بصوت حاسم رغم دفء نبرتها:

“اقعد يا سامي..أنت دخلت لها بدل المرة عشرة وأنا زيك،وبرضه ما رضيتش تاكل خالص…اقعد.”

نظر إليها بعينين تشتعلان بقلقٍ لا يكاد يُحتمل،ثم قال بانفعال خافت،يحمل من الرجاء أكثر مما يحمل من الغضب:

“يعني هنسيبها مانعة الأكل لحد ما تروح مننا؟!”

ردّت نادية بقلة حيلة،وكأنها هي الأخرى تُصارع مشاعر العجز:

“مفيش حاجة في إيدينا نعملها أكتر من كده…أهو إحنا بنحاول نخرجها من الحالة اللي لبستها،بس واحدة واحدة،بالهدوء مش بالعصبية يا سامي…أنت عارف أختك عمرها ما جات بالعنف.”

لم كلماتها تكن لومًا،بل محاولة لإعادة الاتزان وسط هذا الانهيار الصامت،محاولة لاحتواء ذلك القلق المتصاعد في صدره.

أرخى سامي جسده المشدود،ثم أغلق عينيه وتنهّد تنهيدة ثقيلة،خرجت من أعماقه محمّلة بكل ما لا يستطيع البوح به.

وفي لحظةٍ صامتة،شعر بلمسة خفيفة على كتفه،لم تكن قاسية ولا مترددة، بل دافئة، مليئة بالحضور…التفت قليلًا،ليجد ليلى تقف بجواره،تنظر إليه بعينين فيهما حزن لا يقل عن حزنه، لكنها في تلك اللحظة بدت أقوى منه…أصبحت هي من يشدّ أزره،هي من يربّت على ألمِه كي لا يسقط.

زفر بهدوء، كأنما يحاول أن يطرد من صدره شيئًا أثقل من الهواء…ثم وجّه نظراته ببطء نحو الباب المغلق،ذاك الباب الذي بات يحوي خلفه أكثر من مجرد غرفة…غرفة أضحت معتمة كروح صاحبتها،ساكنة كأنفاسها،موحشة كغصّتها العالقة.

لم تكن مجرد أربعة جدران،بل صندوقًا لوجعٍ مكتوم،يحتضن انكسارًا ناعم الحضور،عنيد الرحيل…

هناك خلف ذاك الباب،تختبئ روح لم تعد تجد في الضوء نفعًا،ولا في الكلمات عزاء،وكأنها أغلقت على نفسها أبواب الحياة،كما أُغلق ذلك الباب تمامًا.

_________________

على الجهة الأخرى…

جلست في البهو بمفردها على الأريكة،تمرّر نظراتها بهدوء على الغرفة من حولها…على الأثاث البسيط،على الجدران، على تلك الصور العائلية التي عُلقت بعناية، تحوي وجوهًا مألوفة، وذكريات تملأ المكان بدفءٍ خفي.

فجأة، خرج هو من المطبخ،ليقطع شرودها بخطواته الهادئة، ويتقدّم نحوها حاملاً صينية صغيرة فوقها كوب شاي ساخن، والبخار يتصاعد منه كأنما يدعوها لراحة مؤقتة، وهو يردد بابتسامة خفيفة:

“معلش بقى عملتلك شاي،علشان دي الحاجة الوحيدة اللي بعرف أعملها،وللأسف زي ما إنتِ شايفة مفيش غيري في البيت…الست الوالدة نزلت تجيب شوية طلبات،والأخت ضحى في الكلية.”

ابتسمت بلطف مجاملة، وقالت:

“لا عادي،ماكنش ليه لزوم التعب.”

وضع الصينية أمامها بلطفٍ وهو يردّ:

“ده الواجب…اتفضلي.”

جلس على المقعد المقابل لها،يراقب ردّ فعلها باهتمام،قبل أن يقول بنبرة فيها شيء من الخفة والاهتمام في آنٍ معًا:

“أهم حاجة بس تبقي بتشربيه.”

سكتت لبرهة قصيرة_نظرت خلالها إلى الكوب_ثم التقطته برفق وقالت:

“ما جربتوش قبل كده،بس ماعنديش مانع إني أجربه.”

ابتسم سريعًا وردّ بثقةٍ مرحة:

“جربيه وإن شاء الله يعجبك…أنا بعمل شاي حلو أوي،وده بشهادة ناس كتير.”

ابتسمت برقة،ثم ارتشفت رشفة خفيفة من الكوب،شعرت بحرارته الدافئة تنساب في حلقها،فرفعت عينيها إليه وقالت بصوت خافت:

“حلو…طعمه حلو.”

أومأ بخفوت،بحركة بسيطة صاحبتها بسمة جانبية هادئة،وكأنه شعر بالرضا من تعليقها،بينما ظلّ يطالعها بصمتٍ وهي تحتسي الشاي.

ومع مرور لحظة صمت قصيرة،بدت هادئة على السطح،لكنها كانت تموج بالكثير تحته،قطعها صوته..حين سألها بنبرة هادئة،لكن في أعماقها سكنت حدّة خفيفة لم تكن خافية،حدّة كانت أكثر وضوحًا في عينيه:

“اختفيتِ فجأة.”

ألقت عليه نظرة سريعة،ثم وضعت الكوب على المنضدة بهدوء،وتعدّلت في جلستها،كأنها تتهيّأ لقول ما كتمته..

زفرت أنفاسها بهدوء قبل أن تقول بصوت متماسك رغم ما تحمله نبرتها من توتر دفين:

“وكنت مستنية تفتح الموضوع؟”

ردّ عليها بنبرة جامدة،غلّفها برود مقصود،لكنه كان يحمل خيبة بين السطور:

“وأنا مستني أسمع إجابة…مش هكدب عليكِ،الموضوع ضايقني،ومازال…حطي نفسك مكاني.”

“مش محتاجة أحط نفسي مكانك علشان أنا

already

فاهمك…وجايه أصلاً علشان أشرحلك وأفهمك اللي حصل.”

رفع حاجبيه قليلًا،لكنه أبقى نبرته محايدة،وقال بنبرة مقتضبة لكنها صادقة:

“وأنا سامعك.”

زفرت بخفوت،ثم ابتلعت ريقها بصعوبة وأخفضت عينيها للحظة قبل أن ترفعها مجددًا نحوه وتبدأ في السرد بصوتٍ منخفض لكنه يحمل صدقًا واضحًا:

“يوم ما اتقبض عليك…أنا كنت مستنياك بره،فعلاً كنت هناك..وكلمت بابا علشان يبعتلك محامي،بس بدل ما يبعته،بعت المساعد بتاعه…ولما جه،أخدني مــ معاه…”

Flashback

كانت تقف في إحدى زوايا قسم الشرطة،يداها ترتجفان بتوترٍ واضح،وعيناها لا تفارقان الممر الذي ولجه هو منذ لحظات بصحبة العساكر، بينما تمسك بالهاتف على أذنها، تحاول الاتصال وسط ضوضاء المكان واضطراب قلبها.

مرت لحظات طويلة من الرنين دون إجابة،حتى جاءها أخيرًا صوت من الجهة الأخرى،يحمل شيئًا من القلق:

“أيوه يا ميرنا؟”

أجابته بلهفة ونبرة مشبعة بالبكاء المكبوت:

“أيوه يا بابي…أنا في كارثة،أرجوك تعالى!”

“اهدي…اهدي فيه إيه؟ بتعيطي ليه؟ إيه اللي حصل؟”

أعادت خصلة من شعرها خلف أذنها بيد مرتجفة،ثم قالت بصوت مضطرب:

“حاجات كتير…حصلت مشكلة في الشغل معايا،وواحد زميلي اتخانق علشاني،وكان بيدافع عني…والبوليس جه أخده،وأنا دلوقتي معاه في القسم ومش عارفة أتصرف إزاي،ممكن تبعتلي أونكل مرتضى علشان يطلّعه؟”

“طب اهدي وقوليلي قسم إيه طيب؟”

“قسم *** اللي جنب الشركة.”

“تمام،أنا هكلمه وأبعتهولك،بس ما تتحركيش من مكانك…وخدي بالك من نفسك لحد ما يوصل،أوكي؟”

“حاضر.”

“يلا،أنا هقفل وأكلمه.”

أومأت بخفوت،ثم أنهت المكالمة،وراحت تنظر حولها كالتائهة في صحراء قاحلة،قبل أن تعود لتجلس على المقعد الخشبي من جديد…بقلب ممتلئ بالقلق،وقلة حيلة تتسلل إلى أطرافها كالبرد.

مرّت نصف ساعة كأنها دهر،وكانت لاتزال جالسة على المقعد،رأسها منكّس نحو الأرض، تطالع بقعة لا تراها…قلبها مثقل بالانتظار،والقلق يتآكل منها شيئًا فشيئًا.

وفجأة،قطع وقع أقدام خطواتٍ من صمت اللحظة،رفعت رأسها سريعًا،فوجدت شهاب_ساعد والدها_ يقترب منها برفقة رجلين آخرين بملامح جامدة،فنهضت من مكانها باندفاع وسألته بلهفة:

“فين أونكل مرتضى يا شهاب؟؟”

أجابها شهاب بنبرة جامدة،خالية من أي تفاعل:

“تعالي معانا يا آنسة ميرنا.”

أشار لها بالخروج برفقتهم،لكنها ابتعدت خطوتين إلى الوراء،ثم قالت بعناد لا يخلو من رجاء:

“مش طالعة من هنا..مش هسيب المكان غير لما أطمن عليه واتأكد إنه خرج!”

ردّ بهدوء عملي،يخلو من العاطفة:

“هيخرج..الباشا أمر إننا نوصلك البيت الأول ونتأكد إنك بخير،وبعدين نبلغ أستاذ مرتضى علشان ييجي ويخرجه”

رمقته بنظرة غاضبة وقلقة،ثم هتفت بحدّة:

“ليه ما تبلغهوش دلوقتي؟ أنتوا مش مصدقين إنه مظلوم يعني؟؟”

أعاد شهاب تكرار جملته،لكن بنبرة أكثر حزمًا:

“ده أمر الباشا…اتفضلي معانا.”

بدأت عيناها تدمع من التوتر،وراحت تنظر إلى وجوههم واحدة تلو الأخرى،تحاول أن تجد في أيٍّ منها ذرة تفهّم أو تعاون،إلى أن اقترب منها شهاب قليلًا وقال بنبرة ثابتة،لكنها محمّلة بتحذير مبطّن:

“ما تصعّبيش علينا الموضوع يا آنسة ميرنا…يستحسن لو عايزاه يخرج بسرعة تتحركي معانا بهدوء…علشان خاطر والد حضرتك.”

كانت كلماته كصفعة من واقعٍ لا يرحم،لكنها ابتلعت مرارتها في صمت، تكتم أنفاسها وتبتلع وجعها، وفي عينيها دمعة مترددة…دمعة حبستها في منتصف الطريق،بين انصياعٍ مضطر، وبين قلبٍ يأبى أن يتخلى عن من بقي خلف القضبان، لكن ما باليد حيلة، فهي تعرف والدها جيدًا،وتدرك كم هو رجل عنيد، لا يتنازل عمّا يراه صوابًا، حتى لو كسر ذلك قلبها.

نظرت بحزنٍ نحو الممر الذي دخله منذ قليل، ثم ابتلعت ريقها على مضض،وبدأت تتحرك نحو الخارج بخطوات مثقلة،يسبقها الحزن ويلحق بها التردد،والرجال خلفها يسيرون في صمتٍ يضاعف شعورها بالعجز.

وفي لحظة خروجهم وتقدّمهم نحو السيارة،كانت الأقدار تدبّر مشهدًا آخر في الاتجاه المعاكس…إذ كان هناك من يدخلان إلى القسم،يخطوان بثقة وثقل الوقت على أكتافهما،ولم يكونا سوى

موسى

و

عزّت

.

Back

“لما وصلت البيت…ما لقيتش بابا،طلع سافر الصبح وماكنتش أعرف،حاولت أتصل بيه كتير، بس كان موبايله مقفول…وحتى لما حاولت أخرج وأجيلك، الحُراس مانعوني،تنفيذًا لأوامره برده”

نبست تلك الكلمات بصوت خافت،بينما تهرب بنظراتها منه بين لحظةٍ وأخرى، وكأنها تخجل من اعترافها.

بينما هو فكان

يُصغي بصمت،لكن عقله كان يعمل…يستشفّ من كلامها خيوطًا تُكشف للمرة الأولى،تُخبره بعلاقة مختلفة تجمعها بوالدها،ليست علاقة بنت بأبيها فقط،بل علاقة قوامها السيطرة، الطاعة،وربما الخوف.

زفرت بهدوء وكأنها تحاول التخلص من ثقل داخل صدرها،ثم تابعَت:

“لما فشلت في الاتصال بيه…وفشلت إني أخرج،حاولت أكلمك أنت..بس ماكنتش بترد،فعرفت إنك لسه محجوز،فماكنش قدامي غير إني أستنى…قلت يمكن تكلمني وتطمني…بس أنت ما اتصلتش..ولما اتصلت أنا بيك تاني يوم كان تليفونك مقفول.”

مرر كارم يده على عنقه،وأجابها بنبرة هادئة،أقرب إلى التبرير:

“كنت قافله..يعني ماكنتش عايز أتكلم مع حد…ولما فتحته حصلت حاجة وقتها وانشغلنا فيها…والتليفون فصل شحن كمان.”

لم يعرف لماذا برر لها،لكنه فعل..شيء بداخله أراد أن يُبعد عنها فكرة التجاهل المتعمّد.

أومأت هي برأسها بهدوء،وكأنها قدّرت ذلك،بينما هو سأل:

“طيب كمّلي…ليه ما اتصلتيش اليومين اللي فاتوا؟”

ردّت بخفوت:

“علشان بابا رجع…حكيتله كل حاجة حصلت،وقالي إنك خرجت بكفالة،وإنه هيشوفلك حل علشان تطلع براءة…فقلت أستنى،لحد ما اتأكدت إن القضية خلاص…خلصت،وأبقى أكلمك”

سألها بصوت حذر:

“يعني…أفهم من كده إن أبوك له دخل في إلغاء القضية؟”

أومأت بخفة وهمست:

“حاجة زي كده…”

ضاقت عينا كارم وسأل بنبرة جادة لكنه خفيفة:

“وأقنعه إزاي؟ يعني باباكي أقنع فهمي إنه يتنازل عن القضية إزاي؟”

هزّت رأسها بالنفي وقالت:

“هو ما أقنعوش…”

رفع حاجبه وقال بنبرة تحمل سخرية خفية:

“أجبره يعني؟”

“لأ،يعني…الحكاية إن في حد من الناس اللي تبع بابا في الشركة..جاب تسجيلات الكاميرات،وعرف منها إن فهمي كان قاصد كل اللي حصل.”

ارتسمت الحيرة على ملامح كارم،وهتف بحدة طفيفة:

“مش فاهم…كان قاصد يعني إيه؟”

“يعني كان ناوي من الأول…يعمل ال show ده قدام الناس..علشان يأذيك،وبابا اتأكد من كلام المدير المالي للشركة…قاله إن فهمي قبلها بيوم كان بيقول إنه عايز يمشيك،لأنه حاسس إنك هتاخد مكانه قريب،وإنه عارف طريق يمشيك منه…من غير ما يتأذي.”

سكت كارم للحظة،وحدّق فيها قليلا قبل أن أن يردف بنبرة صوت خفتت لكنها اكتسبت وزنًا داخليًا كالسيف حين يخرج من غمده:

“وأنتِ الطريق ده؟”

سؤال،لا يُنتظر منه إجابة بقدر ما يُفجّر اعترافًا…أو صمتًا أثقل من الكلام.

أومأت له بخفوت،ثم بللت شفتيها قبل أن تقول بنبرة تحمل خجلًا ممزوجًا بالمرارة: “فهمي قاله…إنه لاحظ اهتمامك بيا…وإنه هيستغل ده علشان يمشيك.”

مرت لحظة من الصمت،قبل أن يمرر كارم يده على ذقنه بحركة سريعة،كمن يحاول كتم نيران مشتعلة داخله،ثم قال بنبرة حادة:

“يعني…هو قصد يضايقك علشان أتعصب وأضر نفسي؟”

أومأت بالإيجاب،وعيناها تنطقان بالأسف أكثر مما عبّرت به كلماتها:

“آه…أنا آسفة.”

نظر إليها،وأجاب بصوت خفت قليلًا،لكنه ظل ثابتًا:

“بتعتذري ليه؟…أنتِ مالكش ذنب.”

سكت للحظة،ثم زفر بقوة وسألها بعينين تمتلئان بانكسار الغضب:

“تعرفي أنا نفسي في إيه دلوقتي؟”

نظرت إليه نظرة في صمتٍ،لكنه تابع بحدة:

“نفسي أرجع للحظة اللي قبل ما أضربه فيها.”

همست بتردد وصوت خافت:

“علشان..ماتأذهوش؟”

هز رأسه بالنفي،وعيناه اشتعلتا بغضبٍ مكتوم،وهو يقول:

“لأ…علشان أموّته،علشان أكسر دماغه بدل ما كنت أكسر مناخيره.”

ترددت أنفاسها،وشعرت بقلبها يضيق للحظة..لكنها لم تُجبه،فقط نظرت إليه،ونظرة في عينيه كانت كافية لتُخبرها أنه لايمزح..بل يبوح بما كان سيفعله دون أن يرف له جفن.

مسح وجهه بكفه بعنف،يده ترتجف،وقدمه تهتز لا إراديًا،كأن جسده كله يصرخ بالغضب…قبضته انغلقت بشدة حتى كادت عظامه تئن،وهمس لنفسه بصوت بالكاد بلغه:

“استغلك..خدك كبري،ابن الـكـ٠ـلب!”

كانت عيناه تطالعان الأرض بنظرات نارية،بينما هي تراقبه بصمت،لا تدري ما الفعل الصائب لتهدئته،وقبل أن تفتح فمها بكلمة واحدة،رفع رأسه فجأة ونظر إليها نظرة جامدة وسأل:

“أبوكِ عمله ايه؟”

ارتبكت من صلابته،ثم التقطت أنفاسها وردّت:

“بابا قابله في مكتبه…بس قبل كده حقق وراه،وعرف إنه بياخد رشاوي.”

ضحك ضحكة مريرة،لا تحمل في طياتها إلا السخرية والدهشة،و قال:

“الله أكبر…وأبوكِ طبعًا هدّده، صح؟”

هزّت رأسها بالإيجاب،وقالت بخفوت:

“آه…قاله يتنازل عن المحضر وإلا هيبلغ عنه…وقاله إنه هيكتفي بطرده.”

ظل صامتًا قليلًا،وقدمه لا تزال تهتز،ثم أعاد النظر إليها وسأل بنبرة أخف قليلًا:

“وطبعًا أبوكِ عمل كده كله علشان خاطرك؟”

أومأت بخجل،قبل أن تضيف بصوت خفيض متوتر:

“وقالي أبلّغك إنك تقدر ترجع الشغل…بس هيتخصم منك شهرين…بسبب التعدي على مديرك.”

نظر إليها للحظة…ثم انفجر ضاحكًا،ضحكة ساخرة أكثر منها حقيقة،وهو يقول:

“أبوكِ رايق…رايق أوي!”

طالعته بصمت،ثم سألت بخجلٍ يشوبه قلق:

“أنت هترجع…صح؟”

تأملها للحظة، وكأنه يبحث في ملامحها عن سبب مقنع للعودة_ماعداها_،ثم أشاح بنظره بعيدًا عنها،وقال بصوتٍ خافتٍ يحمل من الإرهاق أكثر مما يحمل من التردد:

“مش عارف…يعني محتاج أفكر شوية…أنا بقيت بسيب الشغل أكتر ما بقعد فيه.”

أومأت بخفوت وهي تهمس:

“فاهماك عامةً.”

ألقى عليها نظرة سريعة، ثم مسح وجهه مجددًا وأبعد عينيه عنها، لكن سرعان ما نظر لها حينما سألته بصوت منخفض،فيه رجاء لا يخلو من الخوف:

“أنت لسه مضايق مني؟”

نظر إليها هذه المرة نظرة أطول…وكأنه كان يزن كلماته،أو كأن جزءًا منه لم يُرد أن يُظهر ما يشعر به حقًا،ثم قال بنبرة هادئة،ولكن عميقة:

“مش مضايق…لو اتضايقت أو زعلت منك،هبقى ظالمك.”

كلامه خرج صادقًا، بسيطًا…لكنه رغم بساطته،رسم على وجهها ابتسامة صافية خجولة،ابتسامة فيها امتنان وارتياح،وسعادة خفيّة.

ابتسامة بددت شيئًا من ضيقه،سكنت اضطراب نفسه،فبادلها الابتسامة دون أن يشعر…ابتسامة هادئة،خفيفة،دون تكلف.

شعر بحرارة تسري في أوصاله من نظراتها، فأشار بيده نحو الكوب وقال بمرح خفيف محاولاً أن يهرب به من التوتر:

“اشرب الـ ice tea ده !”

ضحكت على تعليقه،ضحكة خرجت خفيفة كنسمة مساءٍ لطيفة،ثم تناولت كوب الشاي وأخذت تحتسي منه،بينما تسرق النظر إليه بين الرشفة والأخرى.

أما هو،فكان يتابعها ببسمة هادئة،تملأ وجهه سكينة،وكأنه نسي العالم كله إلا هي.

كان يمكنه أن يقسم أنه يسمع دقات قلبه في تلك اللحظة،وأنه…لا يمانع أن يسمعها للأبد.

وفي تلك اللحظة،قطع الصمت بينهما صوت فتح الباب فتوجهت أنظارهما نحوه في ذات اللحظة، ودخلت منه فاطمة_والدة كارم_وهي تقول بنبرة دافئة:

“سلام عليكم.”

ردّا كلاهما التحية سريعًا،بينما تقدمت هي بخطوات هادئة،مدققة النظر في ميرنا التي كانت قد وقفت بدورها احترامًا،تاركة كوب الشاي على الطاولة.

وضعت فاطمة الأكياس التي كانت تحملها جانبًا،ثم حدقت فيها لبرهة قبل أن تبتسم وتقول بلهجتها البسيطة:

“أنتِ البِتّ الحلوة اللي رجّعت الفيزا للواد ده؟…كان اسمك ميـ…ميرنا،صح؟”

أومأت ميرنا بالإيجاب وهي تبتسم بخجل واضح،بينما اقتربت منها فاطمة لتعانقها بحفاوة،وتقول بصوت محبّب:

“أهلاً وسهلاً يا حبيبتي…نورتينا.”

ابتعدت عنها قليلًا ونظرت صوب ابنها الذي نهض لاستقبالها بدوره،وقالت له بنبرة عاتبة ممزوجة بالحب:

“مش كنت تقول إن عندنا ضيوف يا كارم؟”

لكن قبل أن يتمكن كارم من الرد،تدخلت ميرنا بلطف:

“هو ماكنش يعرف يا طنط إني جاية،أنا جيت من غير ميعاد.”

بادرتها فاطمة بابتسامة واسعة وهي تقول:

“إنتِ تيجي في أي وقت يا حبيبتي…تنوّري والله.”

ابتسمت ميرنا برقة،بينما وجهت فاطمة نظراتها نحو كارم وقالت بحنق واضح:

“قدّمتلها إيه يا واد؟”

أشار كارم نحو الكوب وقال ببساطة:

“شاي.”

قطّبت فاطمة حاجبيها وقالت بنبرة مشاكسة:

“يا خيبتك…شاي بس؟! ما جبتلهاش حتى حتة بسبوسة من اللي أنا عاملها جوه؟”

أجابها بصوتٍ غلّفه البرود الظريف:

“وأنا أعرف منين إنك عاملة بسبوسة؟! إنتِ يوم ما بتعمليها بتخبيها مننا علشان ماحدش ياخد منها قبل الغدا!”

ضحكت فاطمة ضحكة دافئة،ثم ضربته بخفة على كتفه وقالت بنبرة فيها مزاح وعتاب:

“ماشي يا واد،أهو انفضحت قدام البنت…طيب يلا روّح هاتلها طبق منها بسرعة،ولا بقولك،تبقى تحلّي بيها بعد ما تتغدى معانا.”

ابتسمت ميرنا بخجل وهي تلتقط حقيبتها وتقول بنبرة معتذرة:

“لا لا لا،مالوش لزوم والله…أنا أصلاً كنت ماشية.”

ردّت فاطمة بإصرارٍ أمومي:

“لا والله ما حاصل…لازم تتغدي معانا،ما تخافيش الأكل جاهز، أنا مجهزاه من بدري،يدوب بس هسخنه.”

ازدادت ابتسامة ميرنا اتساعًا امتنانًا،لكن صوتها ظل خفيضًا وهي تقول:

“متشكرة لذوق حضرتك جدًا،بس خليها مرة تانية معلش…أنا لازم أستأذن دلوقتي.”

“مش هتمشي غير لما تاكلي لقمة معانا برضه،ماتقول حاجة يا كارم.”

نظرت في نهاية جملتها إلى ابنها،الذي قرأ في عينيها ما لا يحتاج لتفسير،فابتلع ضحكته وقال بسرعة وهو ينظر إلى ميرنا:

“خليكِ يا ميرنا وكلي معانا،وإلا كده أمي هتطردني وراكِ.”

ضحكت ميرنا بخفة على تعليقه،ومالت برأسها قليلاً وهي تومئ في هدوء، علامة منها على الموافقة، وكأنها تسلّمت دعوة دافئة لا يمكن رفضها أكثر من ذلك.

ابتسمت فاطمة بسعادة حقيقية،وقد ارتسمت على وجهها ملامح الارتياح وهي تقول بحبور:

“أيوه كده…كده بقى قلبي ارتاح.”

تقدمت نحو المطبخ وهي تتابع بحماس:

“أنا هروح أسخّن الأكل،وأنت يا كارم جهّز السفرة…عايزة البنت دي تاكل وتتبسط.”

رمقها كارم بنظرة جانبية وقد ارتسم على وجهه مزيج من السخرية والمودة،بينما بقيت ميرنا في مكانها،تراقب هذه اللحظات الصغيرة التي تسرّبت إلى قلبها بهدوء،كأنها مشهد دافئ من فيلمٍ قديم،لطالما تمنت أن تعيشه.

_________________

جلس على الطاولة بوجه متجهم، متوتر الملامح، يراقب المشهد أمامه كمن يشاهد كارثة تتكوّن على مهل. كانت والدته تغرف الطعام بعناية مفرطة في صحن ميرنا،ثم تميل نحوها وتطعمها بيدها بحنية خالصة، بينما قلبه يتقلّب مع كل لقمة.

يداه مشدودتان حول الهاتف،وعيناه لا تبارحان المائدة، يتابع والدته وهي تتابع حديثها بابتسامة فخورة، غير مدركة تمامًا فداحة ما يحدث:

“من حظك الحلو يا بنتي إن الحج جابلي شوية الكوارع والعكاوي دول امبارح، فقلت أعملهم النهاردة جنب شوية المحشي، أصل الحاج عبدالله بيحبهم موت،بس عشان حالته الصحية مبقاش بياكل منهم كتير،والحمد لله إنه عنده عزومة النهاردة عند صاحبه،وإلا كان قلب الدنيا علينا.”

تسللت نظرة رعب مرحة إلى ملامح كارم وهو يرى ميرنا تبتسم بخجل وتحاول مجاراة الحنان،بينما ترفع ملعقة العكاوي الثقيلة إلى فمها دون أن تدري ما تأكله فعلاً،فمسح يده بوجه ثم تمتم لنفسه في صمت مذعور:

“اللهم اجعلها لقمة خفيفة على معدتها…”

ظل يحدق في ميرنا بوجه مزيج بين الذعر والتسليم،وكأن مشهدها وهي تبتلع كل لقمة هو النهاية الرسمية لها.

لم يخرج من حالته تلك إلا على صوت شقيقته


ضحى

التي كانت تجلس بجواره غير مبالاية لما يحدث حولها، ثم سألته ببرود:

“مابتاكلش ليه؟”

أجابها وهو لا يزال يطالع المشهد الكارثي أمامه دون أن يحول وجهه نحوها:

“مش فاضي.”

رفعت حاجبها وهي تتابع فضولها:

“مش فاضي ازاي؟ ما أنت قاعد معانا أهو، وبعدين ماسك التليفون كده ليه؟ وإيه الرقم ده؟”

ألقى نظرة خاطفة على شاشة هاتفه التي ظهر عليها رقم مكتوب بوضوح، ثم همس بجديّة مرعبة:

“ده رقم الإسعاف…أصل أمك ناوية تبعت البنت من هنا للمشرحة على طول.”

ضحكت ضحى رغماً عنها حين استوعبت ما يقصده،ثم تمتمت بسخرية وهي تتابع والدتها تطعم ميرنا قطعة جديدة:

“لا كده مش طوارئ…كده هتطلع على المدافن فورًا.”

التفت كارم لها ببطء،ثم أومأ برأسه وهو يهمس:

“أنتِ صح.”

أنهى جملته بينما يحرك إصبعه على شاشة الهاتف من جديد،فسألته ضحى بفضول ساخر:

“بتعمل إيه؟”

رد ببرود قاتل:

“بجهز رقم البوليس…علشان أول ما تطب ساكتة،ييجوا ياخدونا على طول،أصل مفيش مجال لإنكار الجريمة،البنت في بيتنا!”

ضحكت


ضحى

بسخرية وهي تأخذ لقمة من المحشي،كأنها تحمد الله على حسن اختيارها للطعام،ثم قالت بنبرة متشفية:

“ما هو أنت غلطان برضه،كان لازم يعني تصر عليها تاكل معانا وأنت عارف إن أمك عاملة كوارع وعكاوي؟”

رد كارم بسرعة،مدافعاً عن نفسه كمن يتهرب من تهمة جنائية:

“ماكنتش أعرف،والله ماكنت أعرف! أنا لو كنت أعرف،كنت طردتها بنفسي بدل ما أشوفها وهي بتموت على البطيء كده!”

ضحكت


ضحى

أكثر وهي تهز رأسها،ثم قالت بنبرة ساخرة خفيفة:

“ماتأفورش بقى،مش هيحصلها حاجة…أخرها غسيل معدة وخلاص.”

سكتت لبرهة ثم مالت على أذنه وتابعت بهمس ساخر:

“بس أنا بقولك من دلوقتي أهو،لو فضلت تأكل بالشكل ده،هنحتاج نكتب في نعيها: ‘توفيت بسبب حسن الضيافة


‘.

رمقها كارم بغيظ شديد،شفتاه مزمومتان وعيناه تقدحان شرراً،بينما ابتعدت


ضحى

عنه وهي تضحك ضاحكة المنتصرة،غير مبالية بنظراته المغتاظة ولا بشبح الرعب المرتسم على وجهه،جلست تتابع طعامها براحة وعدم اكتراث لما يحدث وماسيحدث.

أما هو،فعاد يحدّق بهما،في تلك التي الآن تمسك طبقًا من الحساء وتقدمه لها بحماسٍ أموميٍّ مفاجئ وهي تقول:

“دوقي بقى الشوربة دي وقوليلي رأيك.”

ترددت ميرنا وهي تنظر للطبق،ثم قالت بنبرة متحفظة:

“مش هقدر بجد،حساها هتبقى تقيلة عليا.”

ضحكت فاطمة وهي ترد بعفوية:

“ولا تقيلة ولا حاجة! وبعدين إنتِ نشفة كده ليه؟ حتى عصاية متعاصة لحمة! هو أمك مش بتأكلك؟”

اختفت ابتسامة ميرنا الصغيرة،وانخفضت عيناها لحظة قبل أن تهمس بنبرة خافت،ظهر فيها الحزن:

“والدتي متوفية.”

ساد الصمت للحظة،قبل أن تقترب منها فاطمة وتربت على كتفها بحنان:

“يا حبيبتي يا بنتي…حقك عليا،بس ما تزعليش،ممكن تعتبريني مكانها.”

رفعت ميرنا عينيها بابتسامة امتنان خفيفة،بينما تابعت فاطمة بحماس:

“يلا بقى،دوقي الشوربة، وكمّلي طبق المحشي ده علشان تتغذي وتربربي كده.”

ضحكت


ميرنا

بخفوت،ثم أخذت طبق الشوربة وبدأت تحتسي منه رضاءً لها،بينما فاطمة تبتسم كأنها قد نجحت في مهمّة عظيمة.

كل هذا تحت أنظار كارم،الذي لم يرفع عينيه عنهما للحظة،ظلّ يحدّق فيهما بصمت، ملامحه تتقلّب بين الصدمة والذهول،وكأن عقله يحاول استيعاب ما يحدث أمامه.

تناول كوب الماء ببطء بيد ترتعش بخفة،ثم تمتم بأسى حقيقي،ناظرًا إلى اللا شيء:

“عليه العوض في البت.”

_________________

على جهة أخرى…

وصل إلى وجهته، وقف على باب شقتها كمن يتهيّأ لمواجهة مع نفسه قبل أن تكون مع الآخرين، يداه كانت في جيبيه،وكأنهما يحاولان التخفّي من توتره،بينما عيناه تائهتان في الفراغ،يبحثان عن شجاعةٍ يدّعيها ولا يشعر بها.

تنفّس بعمق،محاولًا انتزاع شعوره الحقيقي وزرع ابتسامة مُصطنعة على وجهه، تلك الابتسامة التي لا تشبهه، لكنها تؤدي الغرض.

رفع يده ليطرق الجرس،لكن فُتح الباب فجأة قبل أن يلمسه،وخرج منه

طارق

ببسمته المعتادة وصوته الودود:

“موسى! أخبارك إيه؟؟”

ربت طارق على كتف موسى بحرارة،فبادله الأخير ابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيه،ولم تعبّر سوى عن نصف روحٍ منهكة،ثم قال بصوت منخفض:

“حمد لله على السلامة.”

“الله يسلمك…”

قالها طارق قبل أن يقطب حاجبيه فجأة حين لمح الضمادة حول يد موسى،فأردف بنبرة قلقة:

“الله! إيه ده؟! إيه اللي حصل لإيدك؟”

رفع موسى كفه ببطء ثم ابتلع ريقه وقال باقتضاب:

“مفيش…اتخبطت في الحيطة.”

نظر له طارق بعتاب ممزوج بالقلق:

“مش كنت تاخد بالك يا بني؟!”

“أهو اللي حصل بقى.”

هز طارق رأسه قليلًا وقال بهدوء:

“خد بالك من نفسك أكتر من كده.”

أومأ موسى بخفوت،وهمس كأنما يهمس لنفسه:

“حاضر.”

أشار له طارق بالدخول وهو يقول بنبرة هادئة:

“طب تعالى ادخل،دلال جوه…أنا هنزل أجيب شوية طلبات وراجعلكم.”

أومأ موسى مجددًا،دون أن ينبس بكلمة،بينما ترجل طارق على الدرج بخطوات خفيفة،ليتركه واقفًا وحده عند العتبة.

وقف هناك كأنما يتردد بين الدخول أو الرحيل، ثم أخيرًا تقدم للداخل بخطى حذرة، وما إن خطا داخل الشقة،حتى خرجت

دلال

من إحدى الغرف،بعينيها اللتين أضاءهما الحنين،وبسمة دافئة خرجت قبل الكلمات،وما إن وقعت عيناها عليه حتى تقدّمت نحوه بسرعة، عانقته بصدقٍ واضح،وخرج صوتها مرتجف بشوق:

“موسى!…وحشتني.”

تسمّر في مكانه لوهلة،كأن جسده نسي كيف يتحرك،لكن حرارة عناقها اخترقت تردده،أذابت جليده،وكأن روحه كانت تتوق لهذا الحضن منذ زمن..رفع يديه ببطء،وبادلها العناق أخيرًا، ثم همس بصوتٍ مبحوح بالكاد سُمع:

“وإنتِ كمان…وحشتيني.”

ابتعدت عنه قليلًا،ونظرت في وجهه،كأنها تفتش عن ابتسامته القديمة،تلك التي كانت تسبق صوته،لكنها لم تجد سوى ظلها،أما نظراته فكانت شاردة، ضائعة، تتشح بالحزن أكثر مما تحتمل..شيء غريب تبصره، لا تعرف له اسمًا،لكنه يشبه الغصة التي لا تُبلع، ولا تُقال.

وبتلقائية حقيقية،وبصوت خرج من قلبها قبل لسانها، سألته:

“إنت كويس؟”

لم يجب مباشرة،فقط ظل صامتًا للحظة ثم أومأ بخفة،وقال بصوت خافت:

“كويس.”

لكنها لم تصدق…كانت تعلم أن شيئًا ما لا يُقال يثقل عليه،لكن رغم كل شيء،ابتسمت له،وقررت أن تمنحه تصديقًا مؤقتًا،إلى أن يُقرّ هو بالحقيقة.

وفجأة أبصرا الضمادة التي تلف يده، فاتسعت عيناها،وأمسكت بكفه بسرعة،وهي تهتف بقلق:

“إيه ده؟! إيه اللي حصل؟”

سحب يده برفق،وحاول تهدئتها بصوت هادئ:

“خبطت إيدي في الحيطة…ما تخافيش،خدش بسيط.”

“طب خليني أشوفه؟”

أشاح بنظره بعيدًا،وسحب كفه ببطء،وهو يقول بنفس النبرة المتعبة:

“مالوش لزوم…صدقيني،خدش صغير.”

سكتت وطالعته بريبة،حدّقت فيه وكأنها تحاول قراءة صفحة مطوية داخل قلبه،لكنه لم يمنحها وقتًا،وتعمّد كسر الصمت حين ماقال بابتسامة باهتة،ليغير مجرى الحديث:

“قوليلي بقى…جبتيلي إيه معاكِ؟ أوعى تقوليلي إنك نسيتي تجيبيلي حاجة؟”

ابتسمت بسرعة،كأنها قررت أن تمشي معه في مجراه:

“معقول أنسى؟ احنا جيبنا للكل،وأنا بصراحة اتوصيت بيك شوية…تعالَ اقعد لحد ما أجيبلك الحاجة.”

ابتسم في خفوت وتقدّم بخطاه الثقيلة وجلس،بينما دخلت هي الغرفة،تختفي بخفتها

المعتادة.

بينما هو فأخفض عينيه،وظل يحدّق في الأرض بشرودٍ قاتم،حتى خرجت فجأة من الداخل بصوت مفعم بالحماسة:

“جبتلك هديتين! ولففت طارق معايا كتير لحد ما لقيت اللي في بالي!”

رفع عينيه نحوها،فرآها تجلس بجواره وتبدأ بإخراج ما في الحقيبة: علبة قطيفة سوداء أنيقة،وحقيبة صغيرة بيضاء مخططة.

فتحت العلبة أولا،وأخرجت منها ساعة أنيقة التصميم،وقالت بابتسامة واسعة:

“إيه رأيك؟ أول ما شفتها حسيت إنها بتاعتك،حسيت إنها لايقة عليك أوي…وقلت تلبسها أول مرة في فرحك إن شاء الله،وأنا ألبسهالك بنفسي كمان.”

نظر للساعة ثم إليها،وأومأ بخفة وابتسامة بالكاد تُرى:

“شكلها حلو.”

وضعت الساعة جانبًا،وأخرجت زجاجة عطر أنيقة من الحقيبة الصغيرة:

“ودي بقى…دورت عليها كتير،عارفة إنك بتحب ماركتها،الحمد لله إني لقيتها في الآخر.”

فتحت الزجاجة،ووضعت منها قليلًا على يدها،ثم قرّبتها لأنفه مرددة:

“شم كده… ريحتها حلوة،صح؟”

“حلوة.”

اختفت ابتسامتها ببطء،وكأن كلماته زادت من يقينها أن هناك شيئًا خطأ،فوضعت الزجاجة جانبًا،ثم نظرت له بحدة لم يعهدها فيها:

“لا بقى في حاجة غلط…أنا متأكدة،دي مش طبيعتك..اتوقعت لما تشوف الحاجلت تتريق أو تتبارد عليا أو حتى تفرح،أي حاجة! بس أنت ماعملتش أي رد فعل؟”

نظر لها وقال ببرود حاول اصطناعه:

“يعني عشان ما تريقتش عليكِ،أبقى مش كويس يا دلال؟”

“أيوه مش كويس يا موسى…مفيش حاجة فيك تخليني أصدقك،لا وشك،ولا صوتك، ولا حتى عينيك…في حاجة،وأنا واثقة إنك مخبيها عني،صح؟”

أشاح بوجهه عنها،وأجاب بفتور:

“لا مش صح.”

لم تسمح له بالهرب،فأمسكت بوجهه، وأجبرته أن ينظر في عينيها،ثم قالت بنبرة مشحونة:

“لا في حاجة…ولو في،يستحسن تقولها دلوقتي،لأن لو عرفتها بعدين…”

سكتت للحظة،ثم أردفت بنبرة فيها وعيد واضح:

“هزعل منك جامد،والمرة دي مش هتبقى زي أي مرة،فاهم؟”

طالعها موسى مطولًا،بعينين أرهقهما السهر،واختنق فيهما الكلام قبل أن يجد طريقه،ثم ابتلع ريقه بصعوبة،وهمس بصوت مبحوح بالكاد خرج:

“فيروز…اتخطفت.”

وكأن الزمن توقف من حولها…انعقد حاجباها،وسجنت ملامحها في دهشة غريبة،قبل أن تهمس ببطء بصوت خرج مكسورًا:

“إز..إزاي؟! دي أنا لسه مكلماها هي و نادية من شوية…”

رد بسرعة بنفاذ صبر حاول أن يخفي وراءه وجعه،لكنه خرج في نبرة ساخرة رغمًا عنه:

“لا فوقي معايا يادلال…بقولك اتخطفت، فعل ماضي حصل وانتهى…إنتِ دخلتِ صيدلة إزاي؟!”

رمشت ببطء كأنها تحاول فهم الواقع،وكأن عقلها يرفض التصديق،ثم همست،بنبرة خافتة:

“امتى؟”

زفر بصوت عميق،وكأن ذكرى اللحظة تخنقه من جديد،وقال:

“لما كنتِ مسافرة.”

سكتت،وعلقت عيناها في وجهه،كأنها تحاول قراءة التفاصيل من بين تجاعيد صمته،ثم تمتمت:

“احكيلي…احكيلي كل اللي حصل.”

.

.

.

نكس  رأسه قليلًا بعد أن أنهى سرده لما حدث،اختفى صوته وسط صمت ثقيل خيّم بينهما،ثم رفع عينيه نحوها وقال بنبرة خافتة:

“وبس…ده كل اللي حصل…ومن ساعتها لا كلمتها ولا شفتها.”

ظلّت تحدّق في وجهه بصمت،كأنها تُمحّص كلماته،ثم تمتمت بمرارة:

“كل ده حصل وأنا مسافرة…وأنت ماكنتش ناوي تقولي؟”

ابتلع موسى ريقه،وأجاب بهدوء مضغوط:

“ماكنتش بقا..أديني حكيتلك كل حاجة قبل أول قلم حتى…كل ما في الموضوع،إني ماكنتش عايز أعكر مزاجكم أنتِ وطارق..أنتم لسه راجعين من شهر العسل.”

رمقته بنظرة عاتبة،ثم زفرت وقالت بغضب لم تحاول أن تخفيه:

“أنت تحمد ربك إنك اتكلمت دلوقتي،لأني لو كنت عرفت اللي قلته ده من حد غيرك…والله ماكنت هسامحك…كنت هبقى أنا والدنيا كلها عليك.”

ابتسم بسخرية مريرة وقال:

“هي جات عليكِ يعني…”

أغمضت عينيها لثوانٍ،كأنها تحاول تهدئة الموج المتلاطم في صدرها،ثم فتحتها وسألته بصوت ناعم فيه من الحنان ما يكفي لتليين صخور:

“وأنت…ليه ماكلمتهاش؟”

نكس رأسه مجددًا،وعيناه ثابتتان على الأرض،أجاب بصوت خافت كأنه يخجل من الجواب:

“علشان…مش هقدر أساعدها تتخطّى اللي حصل،وأنا نفسي…مش قادر أتخطّاه.”

همست بصوت دافئ يحمل يقينًا صلبًا:

“هتتخطّوه مع بعض،هتساعدوا بعض تنسوا…علشان كده هروبك منها مش حل يا موسى ولا ليك ولا ليها.”

طالعها موسى بنظرة شاردة،ثم قال بصوت خافت:

“أنا ما بهربش…أنا بس مش جاهز.”

زفرت بهدوء ثم وضعت كفها على يده برفق،ونظرت إليه بعينين فيهما مزيج من الحنان والجدية،وهمست بنبرة هادئة ولكنها راسخة:

“اللي حصل مش سهل،وأنا مقدّرة ده كويس…بس أنتوا الاتنين محتاجين بعض دلوقتي،وهي محتاجاك أكتر…وبعدك عنها دلوقتي بيأذيها.”

ارتسمت علامات الاستغراب على وجهه موسى،وانعقدا حاجباه كأنه لم يفهم،أو لم يتوقع ما قالته…لكنها لم تترك له فرصة للشك،وسارعت بتفسيرها بصوت حازم:

“أنت فاكر إيه؟ إن بعدك عنها بيريحها؟ بالعكس، أنا مش هستبعد إنها تكون فاكرة إنك زعلان منها، علشان خبت عليك موضوع اللي اسمه خالد ده..وأكيد دماغها بتوديها وتجيبها…أكيد فاكرة إنك مضايق منها،ومش قادر تسامحها.”

رد بنبرة سريعة:

“بس أنا مش مضايق منها.”

هزّت رأسها بتفهّم،لكنها لم تتراجع:

“بس أكيد هي فاكرة كده…أنا لو مكانها،هفكر كده..مش هيجي في بالي إن اللي بحبه اختفى علشان موجوع…لأ،هفكر إنه زعلان،يمكن حتى ندمان،ويمكن شايفني غلطانة…وهتعب أكتر،وهتحمّل نفسي ذنب فوق اللي أنا فيه.”

تعمّدت في كلماتها الأخيرة أن تلمس ألمه،تحرّك الساكن في قلبه،تهزّ ما يحاول كتمه،فقال بهدوء مبحوح:

“أنا بس…مش عارف.”

نظرت إليه طويلًا،ثم وضعت يدها على كتفه،وقالا بنبرة صوت أختًا حنونة،أو صديقة وفية تعرف تمامًا أين موضع الجرح:

“أنا فاهماك يا موسى،وعارفة إنت بتفكر إزاي…بس لازم تكون جنبها دلوقتي،لأنك لو معرفتش تكون سندها في أصعب وقت،فأنت ما تستحقهاش…أنتم دلوقتي متجوزين مش مخطوبين…يعني إنت بقيت أول حد المفروض تتسند عليه،وأول حد يقدملها الدعم وقت الضعف.”

سكتت للحظة ثم أردفت بنبرة أهدأ،وأكثر دفئًا:

“وبقولهالك تاني أهي…هي وقعت،وأنت وقعت،بس لما تقربوا من بعض..هتقوموا سوا.”

نظر إليها مطولاً بصمتٍ خافت،كأن عيناه تبحثان عن مفرٍ في ملامحها،ثم أشاح بنظره عنها ببطء،ونزع قبعته من فوق رأسه وكأنها كانت تثقل روحه،دفن وجهه بين كفّيه،ومرّر يده على وجهه بحركة ثقيلة تنمّ عن إرهاق لا علاقة له بالنوم،ثم همس بصوت مخنوق:

“أنا في دوّامة يا دلال…دوامة مش عارف أخرج منها.”

اقتربت منه أكثر،لم تنزعج من انكساره بل شعرت أن هذه اللحظة هي ما كانت تنتظرها لتلمسه،لتوقظه من تلك العزلة القاسية،فقالت بنبرة دافئة لكنها واثقة:

“صدقني…مش هتخرج من الدوّامة دي غير لما تروحلها.”

رفعت يدها بهدوء،ووضعتها على كتفه مرة أخرى،ثم همست كأنها تؤكد وعدًا:

“روحلها يا موسى…مش علشان هي بس محتاجاك..علشان إنت كمان محتاج ترجع لنفسك.”

ظلّ ساكنًا في مكانه،كأن الأرض تشده من قدميه،يطالعها من بين كفّيه، لا يرى سوى شتاته، وبعد لحظات من الصمت الثقيل،مسح عينيه بباطن كفّه،ثم رفع رأسه أخيرًا نحو دلال،وعيناه تكاد تنطق برجاء خافت، وهمس بصوت مبحوح:

“هروحلها…بس مش عايز أحسسها بحاجة.مش عايزها تزعل أكتر…عايز أفرّحها يا دلال…فاهماني؟”

ظلت تحدّق فيه،تقرأ ما بين السطور،تفهم عمق الجرح تحت كلماته. وبعد تفكير للحظات، انفرجت شفتيها عن ابتسامة صغيرة وهي تهمس بنبرة تحمل شيئًا من المرح:

“تاهت ولقيناها.”

قطّب جبينه بعدم فهم وهمس:

“إيه؟”

اتسعت ابتسامتها بدهاء بريء،ثم أردفت وكأنها تخطط لعملية سرّية:

“بُكرة إيه؟”

تشنّج وجهه لثوانٍ،كأنها ألقت عليه سؤالًا مفاجئًا،فأدار رأسه ببطء ناحية التقويم المُعلّق،وما إن أبصر تاريخ اليوم،حتى نظر إليها باندهاش،فوجدها تبتسم له بثقة وتشعّ حيوية،قبل أن تمدّ يدها،وتمسك بكفّه بحماس وهي تهتف:

“عندي خطة ما تخرّش الميه…نص عليك ونص عليا”

_________________

نزل برفقتها من شقتهما،بخُطا هادئة على الدرج،وعندما وصلا إلى سيارتها،توقّف بجانبها،ونظر إليها لبرهة قبل أن يسأل بنبرة يغلفها اهتمام خجول:

“أنتِ كويسة؟”

ابتسمت ميرنا بهدوء،وفي عينيها لمعة خفية من الاستغراب،ثم أجابت:

“احنا من ساعة ما خلصنا أكل وأنت بتسألني نفس السؤال…هو في حاجة؟”

رفع يده ليحك عنقه بتوتر ظاهر، ثم قال:

“لا مفيش..بطمن بس…الفكرة إن الأكل كان تقيل شوية،فخايف تتعبي ولا حاجة.”

هزّت رأسها بابتسامة مطمئنة وقالت:

“اطمن،لحد دلوقتي أنا كويسة.”

أخرج يديه من جيبيه كمن يستعد لطرح سؤال يحاول صياغته بعناية،ثم قال:

“أظن دي أول مرة تاكلي الحاجات دي، صح؟”

أومأت بإيجاب ثم ردّت بهدوء:

“آه.”

تابع يسألها،وقد بان الفضول على ملامحه:

“وعارفة هي إيه؟”

أجابت بابتسامة خفيفة:

“لحمة…بس مش عارفة لحمة إيه بالضبط.”

ردّ بتلقائية:

“لحمة جاموسة…يعني لحمة جاموسة عادي.”

أومأت مرة أخرى،ثم علّقت بإعجاب صادق:

“بس كان طعمها لذيذ…مامتك نفسها حلوة في الأكل.”

ابتسم على بخفة،ثم أردف بمرح:

“لو طلعت دلوقتي وقلتلها الكلمتين دول،هتعزمك كل يوم على الغدا مخصوص علشان تسمعهم منك…أصل إحنا أولاد عاقّين وما بنقولهاش حاجة.”

ضحكت ميرنا بخفة،ضحكة ناعمة تسللت إلى قلبه دون استئذان،فارتسمت على وجهه ابتسامة دافئة. كانت عينيه تبتسم لها قبل شفتيه،يراقبها بإعجاب صامت،كأنما يتأمل لوحة فنية تنبض بالحياة، لا شبيه لها ولا تكرار.

لكن فجأة، وفي خضم تلك اللحظة المتشبعة بالسكينة والمشاعر،اخترق الجو صوت صفيرٍ طويل تبعه صوت شاب متهكّم،قال بعبثٍ ونظره لا يغادر الأخيرة:

“وأنا بقول الحارة منورة ليه…أتاري القمر بنفسه نزل عندنا.”

اتسعت عيناها بدهشة،ونظرت إليه باستغراب لا تخلو منه نفور،بينما كارم فتقلّب في لحظة من حال إلى حال، انطفأ الدفء في ملامحه،وتحول إلى جمر مشتعل. نظر إلى الشاب بنظرة مشتعلة،تحمل تهديدًا صريحًا، ثم قال بنبرة حادة لا تقبل المزاح:

“عينيك قدامك ولسانك في بقك،بدل ما أخليك تمشي من غيرهم.”

ارتبك الشاب لوهلة،وأكمل طريقه دون أن ينبس بكلمة،بينما ظلت ميرنا واقفة تنظر إلى كارم،بعينين لا تخفيان الاندهاش…والإعجاب.

أما هو فسألها فجأة بصوت جامد،وهو يشير إلى ملابسها:

“البلوزة دي…مالهاش جاكيت؟”

نظرت إليه باستغراب،ثم إلى نفسها، حيث كانت ترتدي بلوزة سوداء بنصف أكمام وتنورة طويلة بنفس اللون،التفتت تلقائيًا نحو سيارتها وأشارت قائلة:

“ليها،في الـــ”

وقبل أن لم تُكمل جملتها،كان هو قد تقدم نحو السيارة بخطوات ثابتة،فتح الباب الخلفي وأخرج سترة داكنة كانت موضوعة بإهمال على المقعد،ثم عاد إليها دون أن يقول كلمة،وضع السترة برفق على كتفيها،ونظر لعينيها مباشرة وهو يقول:

“خليكِ لابساها.”

كانت نبرته هادئة،لكنها لم تكن تحتمل نقاشًا، فيها دفء يشبه الأمر، واهتمام يليق برجل لا يعرف كيف يُعبّر إلا بفعلٍ واضح.

وقفت ميرنا في مكانها،ولم تنبس ببنت شفة،لكنها أحسّت بدفئًا في تصرفه،ونظرته،وكل ما لم يقله.

ابتسمت بخجلٍ ناعم،وهي تخفض عينيها للحظة،ثم رفعت نظرها إليه وقالت بنبرة ماكرة تحمل من بعض التحدي:

“أشوفك في المكتب.”

بادلها الابتسامة،لكنها كانت هذه المرة أوسع،مشبعة بمرحٍ ساخر وهو يرد بتحدٍ ظاهر:

“قلتلك لسه هفكر.”

“فكر…بس برضه هستناك.”

ضحك على إصرارها،ضحكة خفيفة لكنها عميقة،كأنها تخترق قلبه رغمًا عنه…

كم كانت مختلفة…وكم أحب هذا الاختلاف.

“باي.”

قالتها وهي تفتح باب السيارة،فرد عليها،بصوت يلين معها كما يلين مع قليلين:

“باي باي”

استدارت إلى سيارتها،صعدت إليها وأدارت المحرك،وقبل أن تنطلق بها رفع يده ملوّحًا لها بتحية أخيرة قبل أن تبتعد.

ردّت ابتسامة صامتة عبر الزجاج،ثم انطلقت السيارة،مخلفة خلفها سحابة خفيفة من الغبار، وبقايا لقاء قصير…لكنه سيبقى عالق،أكثر مما تخيلا.

حدّق في السيارة المبتعدة،وعيناه تتبعان أثرها حتى غابت عن ناظريه،لكن ظلالها بقيت تطوف حوله، كأنها لم ترحل بعد. لحظة صمت قصيرة عاشها بكل ما فيها من دفء، حتى قطعه صوت رنيت هاتفه، فأخرجه من جيبه وردّ دون أن ينظر حتى لهوية المتصل:

“ألو؟”

جاءه الصوت على الطرف الآخر،مألوفًا:

“أيوه يا كارم.”

تجمد للحظة، ثم أبعد الهاتف سريعًا عن أذنه ليتأكد، وبمجرد أن رأى الاسم على الشاشة،انفجرت السعادة في صوته حينما قال:

“موسى! عاش من سمع صوتك يا عم…وأهلاً بالعودة!”

“لا…العودة دي محتاج مساعدتكم فيها.”

قطب كارم حاجبيه وهو يقول بنبرة جادة:

“تقصد إيه؟”

رد موسى ببساطة لا تخلو من الغموض:

“عايزك في مصلحة،وياريت لو تجيب معاك محسن كمان.”

“عينيا حاضر، بس مصلحة إيه؟”

قالها وهو يحاول فهم ما يدور خلف كلمات موسى،لكن الأخير اكتفى بجملة واحدة وكانت:

“هتعرفوا لما تيجوا…هستناكم في السايبر.”

هز كارم رأسه، ثم أجاب بثقة:

“تمام…مسافة السكة ياصاحبي.”

_________________

مع مرور الوقت…

كانت تستلقي على فراشها في تلك الغرفة المعتمة،لا ضوء فيها سوى خيط باهت يتسلل من خلف الستائر الثقيلة، وكأن الشمس ذاتها ترفض أن تزورها. لم تكن نائمة،فالنعاس بات غريبًا عنها منذ ذلك اليوم المشؤوم، يوم انقلبت فيه كل موازين حياتها وسُلب منها الأمان.

عيناها تحدقان في السقف تارة، في الجدران تارة أخرى، نظرات خاوية كأنها تبحث عن مخرجٍ من دوامة لا نهاية لها. السكون يلف الغرفة، إلا من صوت أنفاسها المتقطعة، وبكاءٍ يعلو أحيانًا ويخفت أحيانًا، لكنه لا يختفي تمامًا…تمامًا كألمها.

كانت الذكريات تنهش سكون عقلها كوحشٍ لا يرتوي، كل لحظة، كل كلمة، كل لمسة، وكل نظرة تعود لتضربها بقوة…تارة تتوسل النسيان، وتارة تتشبث بالذكرى وكأنها الشيء الوحيد الذي يثبت أنها ما زالت حية، لم يكن الصمت سلامًا لها، بل كان صوتًا آخر للحزن، صوتًا داخليًا لا يسكت، يردد ما لا تجرؤ على قوله.

وفجأة،أثناء ذلك الصمت القاتل، سمعت صوتًا غريبًا يتسلل من جهة الشرفة…صوت أشبه بصوت ارتطام خفيف،كأن شيئًا ما يُلقى أو يُسحب ببطء،لكنه بدا بالنسبة لها غير مألوف.

ظنت في البداية أنها تتوهم،أن عقلها المنهك بدأ ينسج هلوسات من فرط السهاد والوحدة،فحاولت تجاهله، لكن الصوت تكرر…ثم تكرر مرة ثالثة، بنفس الإيقاع، بنفس الغرابة.

تشنج جسدها للحظة،تملّكها التوتر، والتفت ببطء نحو النافذة،والعتمة ما زالت تملأ الغرفة. ثبتت عينيها على اتجاه الصوت،كأنها تحاول أن تسبق خطواتها بفهم ما يجري.

لم يدم ترددها طويلًا، فقد نهضت من على الفراش بخطى مترددة، ألقت بطرف الغطاء عن جسدها،والتقطت حجاب رأسها ووضعته بشكل غير مهندم لكنه يفي بالغرض،ثم تقدّمت ببطء نحو الشرفة…

كانت خطواتها خافتة، خجولة، كأنها لا تريد إزعاج الصوت ذاته،امتدت يدها ببطء إلى الستارة الثقيلة،وقلبها يدق في صدرها بقلق لم تفهم مصدره،حتى إنها كادت تسمعه أعلى من الصوت الآتي من الخارج.

وأخيرًا،بعد لحظات بدت كأنها دهر،أزاحت الستائر بحذر،ودفعت النافذة لتفتحها على اتساعها،وإذا بعينيها تقعان على مشهد لم تتوقعه..

شهقت بصوت خافت،وانقبض وجهها في ذهول،واتسعت حدقتاها حتى كادتا تفضحان كل ما في صدرها من قلق ودهشة،ثم خرج همس من شفتيها بالكاد سمعته:

“موسى!”

#يتبع…

_________________

كتابة/أمل بشر.

ممكن تحسوا إن الفصل قصير شوية،بس أنا قلت أنزله النهاردة وخلاص علشان ماأتأخرش عليكم،وخاصة إني بكره وبعده عنده كلية وماكنتش هعرف أنزله غير على الخميس.

المهم،أتمنى يكون البارت عجبكم وماتنسوش نجمة حلوة كده وكومنت برأيكم وتوقعاتكم بخصوص اللي هيعمله سوبر مان بتاعنا؟؟👀

دمتم بخير…سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق