رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون(حقيقة قاتمة تلوح في الأفق)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ولا تنسوا الدعاء لاخوتنا في الدول العربية.
وعيدكم مباركُ،تقبّل الله منكم ومنّا وجعل أيامكم سعادة وبركة،كل عام وأنتم بخير❤.
_________
“أُحِبُّكَ حُبًّا لَوْ تَحِبُّ مِثْلَهُ
*
أُصِبْتَ بِه مِن وَجْدِ قَلْبِكَ بِالْجُنُونِ”
–
قيس بن الملوح
.
_______________
“سامعة يا زوزة؟ أنا وأنتِ هنتجوز كمان شوية…وبعدها هنسافر،هنكمّل حياتنا هناك مع بعض،ومش هنرجع هنا تاني أبدًا.”
ابتلعت ريقها بصعوبة،كأن حلقها صار صحراء جافة،بينما تسللت القشعريرة إلى عمق جسدها،لا من البرد بل من الرعب والاشمئزاز، أنفاسه الساخنة لامست وجهها،محمّلة برائحة الجنون والهوس،فشعرت برغبة عارمة في التراجع،في الهروب،في الاختفاء من هذا المكان الذي صار زنزانة مظلمة تسحقها…لكنها لم تستطع.
أما موسى،فكانت يده قابضة على الهاتف بقوة حتى أبيضّت مفاصله،وكأن ضغطه عليه قد يعيده إليها،قد يسحبها من براثن هذا المسعور.
ثم سمعها…سمع أنفاسها المضطربة…
شهقة صغيرة،بالكاد مسموعة،لكنه عرفها فورًا،ميزها على الفور.
شعر أن قلبه ينفجر،أن روحه تتمزق وهو لا يستطيع الوصول إليها،جف حلقه،واحترقت عروقه بنار العجز،قبل أن يهمس أخيرًا،بصوت مفطور،مكسور،لكن مشبع بالحب والرجاء:
“فيروز!”
كان اسمها،لكنه حمل كل شيء…كل الشوق،كل الحب،كل الرعب،كل الألم،وكل الوعد…وعدٌ بأنها لن تكون وحيدة،بأنه سيجدها…حتى لو كان الثمن حياته
.
بينما
اتسعت عيناها عندما وصلها صوته،ذلك الصوت الذي تعرفه جيدًا،الذي كان دومًا ملاذها وسكينتها،شعرت للحظة أن أنفاسها المضطربة هدأت قليلًا،وكأنها استطاعت الإمساك بحبل نجاة وسط هذا الجحيم.
أرادت أن تجيبه،أن تصرخ باسمه،أن تخبره أنها هنا،أنها خائفة لكنها تقاوم أنها تحتاج إليه الآن أكثر من أي وقت مضى،لكن القيود التي كبلت معصميها والفم المكمم منعها من ذلك،لكن لم يمنعها شيء من البكاء.
سال الدمع على وجنتيها بصمت،كأنها ترجوه أن يفهم،أن يشعر بها كما كان يفعل دائمًا.
على الجانب الآخر،لم يكن بحاجة إلى سماع صوتها ليعرف حالتها،كان يشعر بها بقلبه قبل أن يدركها عقله.
وبصوت دامع لكنه مشبع بعزيمة قاتلة،همس مجددًا كأنه يتشبث بالكلمات كما يتشبث الغريق بقشة:
“أنا جايلكِ يا فيروز…جايلكِ يا حبيبتي…أنا عارف إنكِ سمعاني،استحملي،أقسم بالله ما هسيبك هناك،جايلكِ،وغلاوتك عندي هجيلكِ،سمـ…”
توقفت كلماته فجأة،حُبست على طرف لسانه عندما انقطع الخط في وجهه، نظر إلى الهاتف في يده وكأنه يرفض تصديق ما حدث ثم ضغط عليه بقوة،حتى كاد أن يحطمه،قبل أن ينفجر صارخًا بانفعال وغضبٍ كاسح:
“يا ابن الكـ*ـلب!”
أغمض سامي عينيه بتعبٍ،وكأن الألم في داخله يهدد بابتلاعه ثم مرر يده على وجهه ومسحه بعنف،كأنما يحاول محو الغضب العارم الذي يتأجج في صدره.
في تلك اللحظة،اقترب منه موسى بصمت،وناوله الهاتف دون أن ينطق بكلمة ثم استدار وخرج من الشقة بخطوات سريعة بل قل مشتعلة.
تتبَّع سامي أثره بعينيه قبل أن يدرك أن أصدقاءه الأربعة قد تحركوا بدورهم،يلحقون به،كأنهم يشكلون طوفانًا لا يمكن إيقافه، زفر سامي بقوة كأنما يحاول ترتيب أفكاره وسط هذا الفوضى التي اجتاحت كيانه، ثم استدار ببطء ليجد نفسه يواجه والده..الغارق في صدمته.
أخرج هاتفه ثم أرسل رقم المدعو “خالد” لنفسه،قبل أن يقتر
ب من والده بخطوات ثقيلة،كل خلية في وجهه تنطق بجمود قاتم،ثم أمسك بيده،وضع الهاتف بين أصابعه،وهمس بصوت بارد لكن عينيه الحمراوتين كانتا تتحدثان بصوت أعلى:
“ما شاء الله على اختياراتك لينا…ما شاء الله.”
كلماته كانت قليلة،لكنها سقطت بثقل الجبال على مسامع والده.
تركه بعدها وغادر مهرولًا خلف أصدقائه،كأنما يحاول اللحاق بذلك الإعصار الذي يهدد بابتلاع الجميع.
أما والده،فقد ظل جامدًا في مكانه،ينظر إلى أثره بصدمة،وملامحه منقبضة بانهيار صامت،حتى خانته قدماه وسقط على الكرسي خلفه،يحدق في الأرض في صمت قاتل.
في الأسفل…
تقدم نحو سيارته بخطوات سريعة،عاصفًا كإعصار لا يرى أمامه سوى وجهة واحدة،وقلبه يغلي كبركان يستعد للانفجار.
تعالت أصوات أصدقائه من خلفه،تناديه،تحاول أن تُعيده خطوة للوراء قبل أن يندفع ويلقي بنفسه إلى الهاوية.
وقبل أن تصل يده إلى مقبض الباب،اخترق صوت واحد الضجيج،صوت حمل ثقله إلى صدره مباشرة كرصاصة لا تخطئ الهدف:
“موسى!”
تجمدت خطواته كأن الصوت قد سحب الأرض من تحت قدميه للحظة، استدار ببطء ليجد سامي يقترب منه،عيناه تحملان ما هو أبعد من الكلمات،وما خلفه من وجوه كانت أشبه بمشهد من معركة لم تشتعل بعد، سار الأخير نحوه بخطوات ثابتة كأنه يختار كلماته بعناية قبل أن يُلقي بها في وجهه:
“خالد كان اختيار بابا…مش اختيارها،هو اللي عرفها عليه علشان كان شايفه مناسب ليها،وكان عايزهم يتجوزوا…بس هي ماكانتش موافقة،فيروز ماكانتش عايزاه.”
طالعه موسى في صمتٍ للحظات قبل أن يندفع صوته كالسهم:
“بتدافع عن مين يا سامي؟ بتبرر لمين؟!”
تبدلت نبرته فجأة وهدأت،لكنها لم تخفت بل أصبحت أعمق:
“دي فيروز…اللي مفيش غيرها ساكنة قلبي،واللي عارف إن مفيش غيري في قلبها،أنا مش زعلان منها…أنا زعلان عليها،واللي عايز أعمله دلوقتي،إني أروح أدور عليها،وألقيها”
استدار ليكمل طريقه،لكن هذه المرة،أوقفه صوت والده حينما هتف بإسمه بصوت جهوري:
“موسى!”
توقف كأن الزمن توقف معه،رفع عينيه ببطء،وحين التفت لم وجد والده يتقرب منه برفقة أعمامه وأولادهم أيضاً
،يتقدمون نحوه بخطوات متسارعة،ملامحهم تنطق بتوجس لم يستطع تجاهله.
توقفوا أمامه،ومن بين نظراتهم المتفحصة جاء صوت داود حادًا يحمل نفاد صبر مكتومًا:
“وصلتوا لحاجة؟”
بقي موسى صامتًا،يحدق في والده بعينين خاويتين،وكأن الكلمات استعصت على الخروج، لم يكن صمته مجرد تردد بل كان صراعًا بين البوح والانهيار لثقل الكلمات على لسانه.
التفت داود نحو سامي،عاقدًا حاجبيه ثم قال بنبرة آمرة:
“جاوبني أنت يا سامي.”
لكن قبل أن يتمكن سامي حتى من فتح فمه،جاء صوت موسى أخيرًا،مثقلًا بالكلمات وكأنها تكاد تخنقه:
“فيروز…اتخطفت.”
ساد الصمت،ثوانٍ مرت لكنها بدت كالأبدية،قبل أن تتسع الأعين بدهشة وذهول،التفت الجميع نحوه دفعة واحدة وكأنهم لم يصدقوا ما سمعوه للتو.
هتف داود حينها بصدمة:
“إيه؟!”
رفع موسى عينيه،ونظر إلى والده نظرة رجل لا يزال يحاول استيعاب ما حدث ثم قال بصوت حمل من الغضب بقدر ما حمل من العجز:
“مراتي مخطوفة،في واحد مجنون ومهووس بيها…خطفها وعايز يتجوزها.”
خيم الصمت من جديد،ولأن الكلمات كانت ثقيلة على آذان وعقول من سمعها كما كانت على من قالها،بدت صعبة الاستيعاب،شعور بالصدمة اجتاح الجميع،انقبضت الملامح،وتشنجت الوجوه،وعجزت الألسنة عن النطق بالحروف،وكأن الكلمات نفسها تأبى أن تُقال.
كان عمه محمود أول من كسر حاجز الذهول،وسأل بصوت مشوب بالحيرة وعدم التصديق:
“عرفتوا إزاي؟”
لم يحتج موسى إلى وقت للتفكير،فقد ألقى الرد مباشرة بصوت حاد:
“كلمناه،لسه مكلمني وقايللي الكلمتين دول.”
زادت كلماته من التوتر السائد،فاستقام عزت وقال بنبرة رتيبة لكنها تحمل القلق:
“لازم نبلغ البوليس ونعرّف عمي فاروق.”
ردّ موسى بحدة وهو يهّم بالتحرك:
“أنا مش هستنى لحد ما البوليس يتحرك من مكانه،أنا هروح أدور عليها بنفسي!”
التفا سريعًا ليمسك بمقبض الباب،لكن قبل أن يفعل وقف داود أمامه مباشرة،ومنعه من التقدم وهو يسأله باستنكار واضح:
“هتروح تدور عليها فين؟!”
توقفت فجأة ورفع رأسه لينظر في عيني والده نظرة مشحونة بالغضب ثم قال بنبرة جامدة لكنها لم تخلُ من الانفعال:
“هدور عليها في كل مكان لحد ما ألاقيها،هدور عليها حتى لو تحت الأرض!”
كان في صوته وعد قاطع،قسم غير قابل للنقاش، لكن مصطفى،الذي كان صامتًا حتى اللحظة،تقدم خطوة وقال برزانة رغم التوتر الذي يتخلل صوته:
“أنت كده هتلف حوالين نفسك وهتضيع وقتك مش أكتر،الأفضل إننا نبلغ فاروق والبوليس،هما هيعرفوا يتصرفوا أحسن مننا بكتير.”
اقترب سامي من موسى،ووضع يده على كتفه في محاولة لتهدئته ثم قال بصوت هادئ لكنه جامد،يحمل في طياته خوف لايقل عن خوف الأخير:
“عمك معاه حق يا موسى،إحنا لازم نستنى.”
لكن هذه الكلمات كانت آخر ما يحتاج إليه موسى في تلك اللحظة،انفجر صارخًا بانفعال جارف،نفض يد سامي عنه وكأنها تحرقه،غضبه وصل إلى أوجِه وهو يهتف بصوت مرتفع،بنبرة تحمل القلق واليأس أكثر من الغضب ذاته:
“مش مستني حد يا سامي! بقولك مراتي مخطوفة! في واحد مجنون خاطفها وعايز يتجوزها،ومش مُستبعد إنه يأذيها،وعايزني أقعد وأستنى خبر من البوليس؟!”
كان في صوته نداءٌ يائس،رجاءٌ غير منطوق بأن يفهموا شعوره،أن يدركوا أن الوقت لم يعد رفاهية يمكنهم تحملها…لكن رغم ذلك،لم يكن الجميع مقتنعين بعد بما ينوي فعله،
وخاصة سامي الذي فقد القدرة على تحمله أخيرًا، لم يعد بإمكانه كبح مشاعره أكثر،فهتف بصوت حمل كل ما في قلبه من خوف وقلق على شقيقته الصغرى،على توأم روحه:
“أنت ليه محسسنا إننا مش خايفين وقلقانين زيك؟! اللي بتتكلم عليها دي أختي على فكرة! زي ما أنت خايف ومقهور عليها إحنا كمان زيك! لو قلبك بيتقطع عليها قيراط،فأنا قلبي بيتقطع عليها أربعة وعشرين قيراط!”
كان صوته يرتجف،أنفاسه تتسارع مع كل كلمة،وكأن الكلمات كانت تحترق داخله قبل أن تخرج، أغمض عينيه للحظة محاولًا أن يستعيد سيطرته على نفسه،لكنه سرعان ما تابع،بنبرة امتزجت فيها القوة بالرجاء:
“أنا بحاول أتماسك وأفكر بالمنطق، بحاول أفكر بعقلي علشان نلاقيها بأسرع وقت! علشان كده بقولك إن عمك معاه حق! لازم نبلغ البوليس ونديهم الرقم! لو سمعنا كلامك دلوقت وعملنا زي ما أنت عايز…هندور عليها فين؟! هي مصر أوضة وصالة؟!”
كانت كلماته كالصفعة،كأنها أيقظت في المكان إدراكًا جديدًا،لا أحد يستطيع إنكار يأس موسى،لكن أيضًا…لا أحد يستطيع إنكار أن التهور لن ينقذ فيروز.
تنفس سامي الصعداء،وكأنه يحاول استجماع أنفاسه المبعثرة بين الغضب والقلق،ثم رفع يديه إلى وجهه يغطيه للحظات قبل أن يزفر بقوة، لم يكن الأمر سهلًا عليه،لم يكن مجرد نقاش عادي أو خلاف يمكن تجاوزه،بل كان صراعًا بين العاطفة والعقل،بين الرغبة في التحرك فورًا والخوف من اتخاذ خطوة خاطئة قد تكلفهم أكثر مما يحتملون،قد تأخرهم عليها بدلا أن توصلهم لها.
أبعد يديه عن وجهه ثم تقدم خطوة نحو موسى،لم تكن مجرد خطوة جسدية بل كانت محاولة للوصول إليه،لا بالكلمات وحدها بل بالمشاعر التي تتأجج داخله، رفع يديه ووضعهما على كتفي الأخير،نظر في عينيه مباشرة،وبصوت أكثر هدوءًا من ذي قبل،لكنه لا يزال يحمل رجفة المشاعر المتداخلة،قال:
“أنا حاسس بيك…يمكن أكون أكتر واحد حاسس بيك،وعارف قد إيه هي غالية عليك…بس هي كمان غالية عليا،دي أختي الوحيدة يا موسى،أختي اللي ما لحقتش أشبع منها والله…”
ابتلع غصة في حلقه،أطبق أصابعه قليلًا على كتفي موسى وكأنما يحاول منعه من الانجراف وراء انفعالاته،ثم أردف برجاء خافت لكنه قوي في معناه:
“علشان خاطري،اسمع الكلام…وحاول تهدى.”
طالعه موسى في صمت للحظات،عيناه تحملان بقايا العناد والرفض،لكن خلفهما كان هناك تعب أعمق،تعب من العجز،من الشعور بأنه لا يستطيع فعل شيء بينما فيروز هناك،في مكان ما..تحتاج إليه.
ظل متصلبًا لوهلة ثم ببطء وكأنه يسلم بمعركة لم يرغب في خوضها،أرخى عضلاته المشدودة وأغمض عينيه بتعب،كأنما يعترف باستسلامه لهم..ولو مؤقتًا.
شعر داود بتلك الإشارة الصامتة،فوضع يده على كتف ابنه،وضغط عليها بخفة كأنما يخبره أنه فعل الصواب ثم قال بنبرة هادئة لكنها تحمل حسمًا لا يقبل الجدال:
“خلينا نطلع…”
التفت صوب بلال،الذي كان يراقب المشهد في صمت،وقال بجدية:
“اتصل بفاروق وبلغه بالجديد يا بلال.”
هز بلال رأسه سريعًا،ومدّ يده إلى هاتفه ليبدأ بالاتصال،لكن تدخل سامي سريعًا وقال بجدية وهو يخرج هاتفه:
“وأنا هبعتلك الرقم علشان تبعتهوله.”
رفع بلال عينيه عن شاشة الهاتف،ونظر صوب سامي متسائلًا:
“رقمه مصري؟”
أجابه سامي دون تردد وكأنه كان يتوقع السؤال مسبقًا:
“آه، مصري.”
كان الجميع يتحرك في تلك اللحظة،وكأن لحظة الجمود قد انتهت،وكأن القرار قد اتُّخذ أخيرًا،لكن رغم ذلك،لم يكن هناك من يستطيع تهدئة النار التي تتأجج في صدر موسى..نيران الغضب،العجز،والخوف كانت تتصارع داخله،تطالب بالخروج،تحرقه من الداخل مع كل ثانية تمر دون أن يعلم شيئًا عن فيروز.
قبض على يديه بقوة،وكأن قبضته المتشنجة يمكن أن تمسك بزمام الأمور التي خرجت عن سيطرته،لكن الحقيقة ظلت كما هي:الوقت يمر…وهي لا تزال مفقودة.
_________________
غرفة نوم بأربعة جدران،ألوانها زاهية قليلًا لكنها بدت باهتة في عينيها،كانت واسعة، كبيرة،لكنها بالنسبة لها ضيقة، تخنقها، تسلب أنفاسها، تزيد شعورها بالاختناق…وخاصة بوجوده…هو.
الرجل الذي جعل هذه المساحة الشاسعة تبدو كزنزانة مغلقة،يقف بجوارها ممسكًا بهاتفه، ملامحه مشدودة بغضب،أنفاسه ثقيلة بعد أن أغلق الخط في وجه موسى دون اكتراث.
خيّل لها للحظة أن عينيه تشتعلان،لكنه سرعان ما التفت نحوها،ليبتسم بجنون،ابتسامة لم تحمل أي دفء،فقط جنونًا امتزج بالتملك.
جلس أمامها ببطء،وكأنه يستمتع بكل ثانية من هذا الوضع ثم قال بصوت متهدج بنشوة غير مفهومة:
“عصبني أوي،عمال يقولك مراتي،وحبيبتي…هو ما فهمش إنك ليا وبس ولا إيه؟!”
قال كلماته الأخيرة وهو يرفع يده ببطء_كمن يمد يده إلى شيء ملكه_ليضعها على وجنتها…لكن قبل أن يتمكن من ذلك،أدارت رأسها بسرعة،تنفض لمسته قبل أن تصل إليها،نظراتها كانت كافية لتقول كل شيء،نظرات امرأة مقهورة،مقيدة،لكنها رغم ذلك لم تنكسر.
حدقت فيه بعينين تشتعلان رفضًا،وكأنهما تصرخان بما لم تستطع شفتيها أن تنطق به.
لمعت عيناه بغضبٍ خاطف،كوميض برق سبق العاصفة،وكأنه لم يصدق بعد هذا الرفض الصامت، ذاك التحدي الذي لم ينكسر رغم كل شيء، لكنه ما لبث أن استعاد قناعه سريعًا،ارتسمت على وجهه ابتسامة مشبعة بالاستفزاز، كمن يملك زمام الأمور تمامًا. أبعد يده عن وجهها وتراجع بخطوة طفيفة ثم قال بنبرة هادئة لكن تحتها تيارات خفية من السيطرة والوعيد:
“أنا آسف،نسيت إنك ملتزمة في النقطة دي…خلاص،مش هلمسك غير لما تبقي حلالي،على العموم هانت…شوية وهتبقي مراتي وبتاعتي،افرحي…مش عايزة تقولي حاجة بقا؟”
حدّقت فيه بصمتٍ جامد،وشرر الغضب لا يزال يشتعل في عينيها،بينما هو فضرب رأسه بيده بخفة،وكأن فكرة ما طرأت على باله، ثم تمتم بصوتٍ وكأنه يعاتب نفسه على سهوه:
“نسيت أشيل القماشة.”
مدّ يده ببطء نحو القماشة التي تعيق فمها،كمن يتلذذ بإطالة لحظة التحرير ليُشعرها بفضله عليها،نزعها بحركة هادئة لكنها كانت تحمل من الاستفزاز أكثر مما تحمل من الرحمة، لكنه لم يكن مستعدًا للرد الذي تلقاه،لم يكن يتوقع أن تكون حريتها أول ما تستغله ضده…
فورًا،ودون أدنى تردد،بصقت في وجهه!
كانت حركة فطرية،صرخة غضب انفجرت من داخلها قبل أن تجد وسيلة للخروج، كانت عيناها تتوهجان باشتعال لا يرحم،وكأنها ترفض أن تكون مجرد ضحية صامتة.
تجمّد لثانية،كأن الزمن توقف،كأن العالم بأسره اختصر في تلك اللحظة…
رفع يده إلى وجهه ببطء،ومسح أثر بصقتها،وعندما رفع عينيه نحوها لم يكن في نظراته مجرد غضب…بل شيء آخر،شيء أكثر ظلمة،وأكثر وحشية.
وفي غمضة عين،لم تسبق كلماته يده بل سبقتها ضربةٌ عنيفة،صفعةٌ ملأت الغرفة بصداها،لكن رغم قوتها،لم تكن أعلى من الصوت الذي دوّى داخلها…صوت كرامة رفضت أن تنحني،حتى لو كان الثمن ألمًا يُشعل الوجع في عظامها.
حدّقت فيه بعينين متقدتين،لا خوف فيهما بل احتقارٌ صارخ،ثم أردفت بنبرة حادة، قاطعة كالسيف:
“مُختل.”
لم يتحرك وجهه،لم يتغير شيء في ملامحه،فقط ابتسم،تلك الابتسامة الباردة التي كانت تحمل في طياتها من الجنون أكثر مما تحمل من الهدوء،وأجاب بصوت ناعم، لكنه كان كفحيح أفعى تزحف ببطء نحو فريستها:
“بس بحبك…وعلشان بحبك مش هشوفك بتغلطِ وأسكت،واوعي تكرري اللي عملتيه تاني،مفيش ست تعمل كده مع جوزها.”
شهقت بسخرية،لم تلن نظرتها بل ازدادت احتقارًا،وتفجّرت كلماتها كالطلقات:
“في أحلامك…مستحيل أتجوزك،مستحيل أكون ملك واحد مجنون ومختل زيك!”
لاح برق الغضب في عينيه للحظة،لكنه لم ينفجر كما توقّعت،لم يصرخ،لم يتهجم…بل تحرّكت يده ببطء نحو فمها،كأنه يستمتع بجرعة الغضب التي تغلي في عروقها،كأنه يتغذى على تحديها له.
رفع القماشة من جديد،وأعاد تكميم فمها بحركة هادئة مستفزة،قاطعةً بذلك صرختها التي كادت تنفجر،ثم همس بصوت مهووس،ناعم حدّ القشعريرة:
“صوتك يا زوزة…وطي صوتك علشان زورك ما ينجرحش.”
نهض من مجلسه ببطء،كمن انتهى لتوّه من لعبة ممتعة، ثم نظر إليها متأمّلًا ملامحها المنهكة، دموعها التي تلمع على وجنتيها كخيوط زجاج مهشّم،وابتسم…لكنها لم تكن ابتسامة رحمة بل ابتسامة مهووسة، ملتوية كعقله، مشبعة بالسادية التي يتغذّى عليها.
ثم قال بصوت مفعم بالعبث:
“بطّلي عياط بقا،وافرحي…افرحي يا زوزة.”
غمز لها عقب جملته،وكأن كل شيء كان مجرد مزحة ثقيلة، وكأنه لم يدرك_لم يهتم_بالشرخ العميق الذي تركه في روحها.
استدار وسار مبتعدًا،تاركًا وراءه فراغًا خانقًا،وسكونًا مشبعًا بالوجع.
راقبته بعينين تفيضان بالقهر، بالاشمئزاز، بالحقد الذي ينهش قلبها، لكنها لم تكن ضعيفة…لا، لم تكن كذلك أبدًا.
رغم القيود،رغم العزلة،رغم الخوف الذي يحاول التسلل إليها،كانت متمسكة بشيء واحد، شيء لم يستطع انتزاعه منها…
الأمل.
ما زالت تؤمن،ما زالت واثقة أنهم سيأتون،أنهم لن يتركوها فريسة لهذا المجنون،لهذا السجن الذي حاول بناءه حولها.
ولكن رغم تلك الثقة،لم تستطع منع نفسها من البكاء، كان الألم أكبر من أن يُحتوى،ألم أعمق وأثقل من أن تتحمله.
أغمضت عينيها،فاندفعت الدموع دون إذن، تسللت على وجنتيها كأنها تحاول غسل أثر السذاجة التي قادتها إلى هذا المصير.
بكت بصمت،بكت وهي تستعيد كل تفصيلة أوصلتها إلى هنا،كل خطأ،كل لحظة وثقت فيها بمن لا يستحق…
Flashback
ترجلت من على الدرج بخطواتٍ مضطربة،تتناغم مع دقات قلبها المتسارعة، حتى لامست قدماها الأرضية الباردة، رفعت بصرها بحذرٍ لتجد أمامها مباشرة سيارة زرقاء ذات طراز قديم تقف بثبات أمام مدخل البيت وكأنها كانت بانتظارها، تطلعت نحو النافذة، وهناك وسط الظلال الخافتة،التقت عيناها بعينيه، كان يجلس بجوار السائق،يطالعها ببسمة خافتة،ونظرة غامضة لم تفسرها.
أشار إليها فجأة برأسه قائلاً بصوت مقتضب لكنه ثابت:
“اركبي!..خلينا نروح مكان نشرب حاجة ونتكلم براحتنا، أسمع اللي عندك وأقولك اللي عندي،من غير ما حد يقاطعنا.”
ترددت للحظات،وأصبح جسدها مشدود بين الرغبة في الفرار والخضوع له، وقفت في مكانها دون حراك، فرفع حاجبه قليلًا ثم سألها بنبرة هادئة لكن تحمل في طياتها خبثاً وشراً خفيًا:
“خايفة مني ولا إيه يا فيروز؟ أنا بقولك نروح مكان تاني علشان أكيد مش هنتكلم في الشارع، اركبي… ما تخافيش.”
حاولت التملص قائلة بصوت منخفض لكنها متماسكة:
“خلينا نطلع عندنا فوق أحسن”
جاءها الر، حاسمًا، قاطعًا أي مجال للنقاش:
“لأ، أنا عايز أتكلم معاكِ لوحدنا،من غير ما حد يقاطعنا.”
سادت لحظة صمت،لا يُسمع فيها سوى أنفاسها المترددة وصوت محرك السيارة الهادئ، نظرت هي حولها سريعًا،بحثًا عن أي عيون تراقب هذا المشهد، ثم بعد لحظة تردد أخرى، زفرت ببطء وصعدت إلى المقعد الخلفي،أغلقت الباب خلفها وكأنها بذلك تحبس أنفاسها داخل صندوق مجهول العواقب.
انطلقت السيارة بسرعة تاركة خلفها سحابة من الغبار، حدقت في الطريق الممتد أمامها، لكن عقلها كان مشغولًا به، بالشخص الجالس أمامها بملامحه المتوترة ونظراته التي لم تفارقها منذ أن صعدت، كانت تشعر بثقل نظرته كأنها تخترقها وتحلل كل حركة تقوم بها.
حاولت التظاهر بعدم الانتباه،لكن شيئًا ما في عينيه كان يثير قلقها،ذلك الوهج الغريب الذي لم تفهم معناه، وبحركة تلقائية رفعت يدها لتضبط وضع حاجبها،متوهمة أن شيئًا ما في مظهرها كان السبب في تدقيقه الحاد، غير أن اللحظة التالية حملت مفاجأة غير متوقعة…فقد لمعت عيناه على الفور واتسعت حدقتاه عندما وقعتا على الخاتم في يدها.
هتف فجأة بحدة،قاطعًا سكون الأجواء بنبرة امتزجت بالغضب والخذلان:
“علشان كده كنتِ مطنّشاني…أنا كنت حاسس،كنت حاسس إن في حاجة غلط!”
تجمدت للحظات و لم تستوعب مغزى كلماته فورًا، لكن عندما تبعت نظراته،أدركت الحقيقة،عندما أدركت نظراته نحو الخاتم، استعادت نفسها سريعًا وحاولت التبرير بصوت هادئ لكنه متماسك:
“ده اللي كنت عايزة أقولهلك يا خالد.”
جاءها رده سريعًا، حادًا، كأنه لم يكن ينتظر سوى تأكيد لشكوكه:
“تقولِيلي إيه؟!،ده
أنا كنت فاكر إن والدتك اثرت عليكِ في موضوعنا علشان كده رفض أطلع معاكِ فوق،بس طلع
الموضوع حاجة تانية خالص،طلعتِ…
”
توقف وعجز عن الإسترسال،بينما هي ابتلعت ريقها وجمعت شجاعتها ثم نطقت بثبات رغم أن قلبها كان يخفق بعنف:
“اتجوزت،اتجوزت ياخالد،اتجوزت الراجل الوحيد اللي حبيته في حياتي.”
ساد صمت ثقيل للحظة،لكنه لم يدم طويلًا،إذ جاء رده كالسهم،حادًا وغاضبًا:
“وأنا إيه؟!”
نظرت إليه بدهشة،وعقدت حاجبيها بملامح مستنكرة قبل أن تقول بصراحة لم تحاول تلطيفها:
“أنت إيه يا خالد؟! أنت عارف إني مش بحبك،وإني كنت بشوفك مجرد صديق مش أكتر،والمرات القليلة اللي خرجت فيها معاك ما كانتش علشان اللي في بالك،كانت علشان بابا بس،هو اللي كان بيغصبني أقابلك…واضح إنك فاهم غلط خالص.”
لكن كلمتها الأخيرة لم تكن كافية لإخماد نيران غضبه،بل على العكس زادته احتدامًا، نظر إليها بنظرة مظلمة،شفتاه ارتسمتا على مزيج من السخرية والمرارة،قبل أن يقول بصوت منخفض لكنه يحمل وعيدًا خفيًا:
“لا،أنا فاهم صح،فاهم صح أوي…أنتِ وأبوكِ كنتوا بتستعبطوني،كنتوا بتلعبوا بيا وبس…بس أنا مش عبيط،ومش هطلع خسران يا فيروز”
شعرت بقلبها يضطرب،لم تكن نبرته مجرد غضب عابر بل كان فيها شيء آخر،شيء خطير لم تستطع تحديده بعد، سألت بصوت حذر،تخفي في طياته ارتباكًا واضحًا:
“تقصد إيه؟!”
لم يجب بل أدار وجهه عنها ببرود،ثم التفت إلى السائق قائلاً بصوت صارم:
“اطلع على البيت يا مدحت.”
ازدردت ريقها،ونبض قلبها بسرعة وكأنها تشعر بشيء قاتم يقترب،شيء غير قابل للتجاهل،
أي بيت هذا؟ وماذا ينوي أن يفعل؟!
كانت الأسئلة تتسابق في ذهنها لكن الرد لم يكن واضحًا، كان مجرد صمت ثقيل يملأ السيارة.
قبل أن تدرك ما يحدث،اتسعت حدقتها فجأة،وتدفق الخوف في عروقها، تحركت بسرعة من مكانها وهي تصرخ:
“بيت مين يا خالد؟ نزلني يا خالد، بلاش جنان!”
كان ردّه باردًا،وكأن نبرة صوته كانت غريبة عن كل ما كانت تعرفه عن هذا الشخص، لم ينظر إليها،ولم تبدُ عليه أي علامة من علامات الاهتمام فقط قال بهدوء:
“جنان! أنت لست شوفتِ جنان؟”
شعرت بغصة في حلقها،وارتجف جسدها، حاولت فتح الباب بسرعة، لكن عبثًا فقد كانت قد تأخرت خطوة واحدة،حيث أغلق الباب مسبقًا من الخارج،فأصبح محبوسة داخل السيارة،غير قادرة على الهروب.
“افتح الباب يا خالد!”
صرخت بها بكل قوتها،لكن جاء رده قاسيًا:
“اقعدي يا فيروز، اقعدي ساكتة ده أحسنلك وأحسن لي.”
رفضت أن تستسلم،وكان جسدها يشع بالرغبة في الهروب،قاومت بكل ما أوتيت من قوة،لكن يده كانت أسرع منها بكثير. في لحظة غير متوقعة،شعرت به يقفز عبر المقعد ليصبح خلفها، يحاصرها تمامًا.،كتم فمها بقوة لكن صوتها اختنق في حلقها،بينما كان قلبها يخفق بسرعة غير طبيعية وكأن كل دقة تزيد من خوفها،حاولت الهروب من قبضته لكن يده الأخرى انتقلت إلى رقبتها.
تحركت أصابعه ببطء وبتخطيط مدروس على عنقها،حتى بدأت تشعر بثقل جسدها،وكأن الهواء نفسه أصبح لا يسعها،عينيها انغلقتا تدريجيًا،شعرت بأن كل شيء يتلاشى حولها،وكأن ذهنها يطفو بعيدًا،حتى فقدت الوعي تمامًا،غارقة تماماً في سكون مفاجئ.
Back
عادت من ذكرياتها،تتأمل تلك اللحظات المظلمة التي جلبت نفسها إليها،تلعن غبائها الذي دفعها لأن تجد نفسها في هذا الموقف، شعرت بثقل الندم يضغط على قلبها،وكأنها تسحق نفسها تحت وطأته.
رفعت رأسها للخلف،ودفعت دموعها لتغرق وجهها أكثر. كانت العيون غارقة في الحزن، والألم يعتصر قلبها بشدة، بينما كانت تهمس بصوت مكتوم، يختلط فيه الرجاء والحزن، يتسرب عبر الغصة في حلقها:
“يارب…يارب.”
كانت الكلمات بالكاد تخرج بسبب القماشة التي تقيد فمها،لكنها كانت تصرخ بها في أعماق قلبها، تستجدي الأمل في لحظة ضعف، تتوسل لربها بأن يخرجها من هذه الورطة التي وقعت فيها.
_________________
في بيت آل عمران،وتحديدًا في شقة كبيرهم، تجمّع الرجال جميعًا، بعد أن أرسل أحمد لزوجته بأن تجمع النساء وتصعد بهن إلى شقتهما، تاركة هذا الطابق للرجال فقط.
تواجدوا جميعًا في الغرفة،بعضهم كان واقفًا،والبعض الآخر جالس،بينما كان البعض يعصره القلق،يجاهد في إظهار الثبات، وأبرز مثال على ذلك كان سامي بالطبع،والذي كان يحاول الحفاظ على تماسكه رغم الصراع الداخلي الذي يشعر به.
في الزاوية البعيدة،كان يجلس هو،الوحيد الذي كان يبدو كما لو أن الزمن قد توقف بالنسبة له، جلس هناك، مكتوف اليدين، عينيه مشتعلة بالحزن والغضب معًا، فكل لحظة تمر كانت تزيد من الألم في قلبه،بينما كانت عيناه تتابعان الأرض تحت قدميه وكأنها لا تحمل أي إجابة لأسئلته الصامتة، كان يشعر بفراغٍ كبيرٍ،كأن الوقت يمر ببطءٍ شديد وكل ثانية تُسحب منه بلا رحمة.
نكس رأسه ودفن وجهه بين كفيه، بينما كانت قدمه تهتز بسرعة بلا توقف، كأنها تعبر عن اضطراب عقله وقلبه، أغمض عينيه محاولًا تهدئة نفسه، لكنه لم يستطع إبعاد تلك الذكريات التي بدأت تتسلل إلى ذهنه، أخذ يتذكر حديثه معها ليلة أمس أثناء مكالمتهما،صوتها الذي كان ينبض في قلبه،وكلماتها التي تترك أثراً أكثر من مجرد حروف عابرة،وضحكتها التي كان تجعل قلبه يرفرف كالعصفور الصغير.
Flashback
كان يجلس على فراشه بينما يضع الهاتف على أذنه،يتبادل أطراف الحديث معها،يشعر بالراحة في الحديث عن تلك الذكريات التي لا تُنسى،يبتسم حين يتذكر تلك اللحظات الطفولية:
“ولا فاكرة اليوم اللي روحنا فيه المصيف،لما نزلت البحر وكنت هغرق؟”
وضعت يدها على فمها وضحكت بقوة، بينما كانت تجلس على فراشها حينذاك،وعينها تلمع بالذكريات الجميلة، ثم أجابت ضاحكة:
“أنتِ اللي استغليت انشغالنا وقتها وروحت نازل من ورانا،مش عارفة كنت بتفكر في إيه وقتها، كنت هتموت وتنزل البحر وأنت مابتعرفش تعوم!”
“ماهو كنت عيل بقا وقتها،كنت لسه عشر سنين تقريبًا،بس أهم حاجة إني اتلحقت يعني.”
أجابته ضاحكة بينما تحاول كبت ضحكتها:
“ماهو الفضل يرجع لدلال اللي لاحظت غيابك، ودورت عليك لحد ما لقيت في شيء بيطلع وينزل في المية.”
أجاب مبتسمًا بسعادة صادقة:
“آه، دي كانت راسي.”
ضحكت مجددًا، بينما هو تابع حديثه من بين ضحكاته:
“اليوم ده عمري ما هنساه،ده أنا كل ما أروح اسكندرية لحد دلوقتي بفتكره، بس الحمد لله ماطلعتش متعقد واتعلمت السباحة بعدها وبقيت بعرف أعوم.”
ضحكت مجددًا،ثم قالت بنبرة مرحٍ:
“كنت هتبقى مسخرة لو طلعت بتخاف من المية.”
ضحك بحبور،واضعًا يده على وجهه وهو يلقي بجسده للخلف، مستلقيًا على الفراش، كان يشعر بخفة غريبة تسري في صدره وكأن الحديث معها وحده كفيل بمحو كل ضغوط اليوم، لكن فجأة وصله صوتها هذه المرة بنبرة جادة لكنها دافئة:
“تخيل كم الذكريات اللي كانت هتبقى بتجمعنا لو ماكنتش سافرت وفضلت هنا.”
اختفت ابتسامته فجأة وكأن كلماتها لامست وترًا حساسًا في داخله، ظل صامتًا للحظة، لكنه سرعان ما ابتسم بخفوت ثم زفر بهدوء وقال بشجن:
“المهم إنك دلوقتي هنا، مش هقدر أنكر إني كنت هبقى أسعد لو كنتِ طول السنين دي جنبي، لو كنا جمعنا ذكريات أكتر علشان نفتكرها زي ما بنعمل دلوقتي…بس برضه،أنا مبسوط، مبسوط إنك رجعتِ، وإنك هنا دلوقتي،هنا مش بس على أساس جارتي وصديقتي…لأ،هنا على أساس مراتي،وحبيبتي،وحبيبة قلبي،واللي هقضي معاها الباقي من عمري،ومهما حصل مش هنبعد عن بعض تاني.”
تشنجت ملامحها للحظات،كأن كلماته تسللت إلى أعماق قلبها، حتى ظهرت ابتسامتها كزهرةٍ تتفتح تحت أشعة الشمس وقالت برقة:
“مظبوط…خلاص،قلبي ارتبط بقلبك،ومش هيبعدوا تاني.”
ساد الصمت للحظات، لكنه لم يكن صمتًا فارغًا بل كان ممتلئًا بالمشاعر التي لا تحتاج إلى كلمات، ثم وصلها صوته فجأة،تلك النغمة التي أدمنت سماعها:
“فيروز…”
“نعم؟”
“بحبك.”
شعرت بقلبها يخفق بسرعة،ابتسمت بخجل ثم همست:
“وأنا كمان.”
سألها بدهاء وكأنه لا يكتفي بتلك الإجابة:
“وأنتِ كمان إيه؟”
ضحكت بخفوت ثم قالت بصوتٍ يفيض بالمحبة:
“وأنا كمان بحبك.”
ضحك بخفة ثم تابع بنبرة شاعرية دافئة، كأن كلماته تُنسج من نبضات قلبه مباشرة:
“أحدهم يعشقكِ…ويعشق عشقَه لكِ…والله.”
ورغم خجلها، لم تستطع أن تمنع نفسها من الرد بمرح، محاولةً إخفاء تأثير كلماته عليها:
“مصدقاك من غير ما تحلف.”
انفجر ضاحكًا بصوت عالٍ،ضحكة صافية تملؤها السعادة،جعلتها هي الأخرى تبتسم بسعادة لمستها لمسة خجل،وهي تستمع لضحكته التي كانت بالنسبة لها أجمل موسيقى يمكن أن تسمعها.
Back
مسح وجهه بكفيه،وزفر بقوة وكأن صدره يضيق بما لا يحتمل، ثم نهض فجأة متجهمًا وعيناه تلمعان بإصرار جارف:
“ما بقيتش قادر أستنى خلاص!”
التفتت إليه الأعين المترقبة،وانعقدت الجباه بقلق،تقدم داوود نحوه بخطوات مترددة،ووقف في وجهه وسأله بصوت منخفض لكنه مشحون بالحذر:
“هتعمل إيه؟”
حدّق موسى به للحظة ثم أجاب بنبرةٍ لا تقبل الجدل:
“هتصرف…هعمل أي حاجة توصلني ليها،بدل ما أنا قاعد حاطط إيدي على خدي ومستني.”
تبادل الحاضرون النظرات،وكأنهم يدركون أن صبره قد نفذ تماماً،تقدّم سامي بسرعة وكأنما يحاول إيقافه قبل أن يفكر أكثر،وهتف بتحذير:
“إنت عايز تودّي نفسك في داهية؟ دي ممكن تدخلك السجن!”
لم يتردد موسى لحظة،التفت نحوه وعيناه تشتعلان بالغضب والتصميم:
“إن شاء الله أروح في ستين داهية المهم ألاقيها قبل المجنون ده ما يعملها حاجة.”
تنهد بلال وهو يحاول أن يبث بعض المنطق في الموقف، قائلا بجديّة:
“لو عملت اللي في دماغك ده هتضيع نفسك يابني،فكّر بعقل، إحنا مقدمناش حل غير إننا نستنى خبر من عمك فاروق.”
لكن الأخير لم يكن يرى أمامه سوى ذلك الحل…حلٌ محفوف بالمخاطر،قد يودي به إلى السجن، طلكنه لم يعد يبالي، لم يكن مستعدًا لأن يسمع أحدًا أو ينتظر شيئًا، لم يعد للمنطق مكان في رأسه،ولم يكن يهمه سوى أن يجدها…حتى لو كان الثمن نفسه.
وسط هذا السكون اللحظي الذي أثقل الأجواء كحمل لا يُطاق،اخترقه صوت ضربة قوية هوت بعصا محمد على الأرض،ارتجف المكان تحت وطأتها،وتبعها صوت محمد،حازمًا كالسيف،قاطعًا أي تردد:
“موسى!”
استدار موسى بحدة،وعيناه التقيتا بتلك النظرة الصارمة التي سددها إليه جده، لم يكن في وجهه أي لين، لم يكن فيه تردد، فقط صلابة جافة كأن كلماته نُحتت من صخر:
“اسمع الكلام واقعد…استنى لحد ما يجينا خبر.”
تجمد موسى،وكأن الهواء حوله قد تجلد فجأة، نظر إلى جده بعينين تضيقان برجفة مكتومة،بينما صدره يعلو ويهبط في محاولة يائسة لكبح عاصفة تجتاحه من الداخل، أصابعه انقبضت حتى ابيضّت أنامله،وكأنها تمسك بخيط واهٍ من ضبط النفس،قبل أن يستدير فجأة،وتتشنج خطواته وهو يتجه نحو غرفته.
دفع الباب بقوة،وولج إلى الداخل وأغلقه بعنف وكأنه أراد أن يعزل نفسه عن كل شيء…أو ربما أراد أن يمنع الجميع من رؤية ما خلف ذلك الجدار، تركهم يحدقون في أثره،وقلوبهم مثقلة بمشاعر متشابكة،خليط من القلق عليه،والحزن لأجله.
في داخل الغرفة…
جلس موسى على طرف الفراش،نكس رأسه وشبك يديه خلف رقبته،
وعيناه المشتعلتان بالحزن تحدقان في الأرض تحت قدميه، كان الصمت يطبق على الغرفة،لكنه لم يكن صمتًا مريحًا بل صمتًا يضج بالاضطراب، بثقل الأفكار التي تتصارع في رأسه، وبالنار التي تأكل صدره دون أن يجد لها مهربًا.
وفجأة،قطع هدوء المكان صوت طرق خفيف على الباب، لم يرفع رأسه ولم يحرك ساكنًا،لكن الباب انفتح على أي حال،ليطل منه داود،ويدخل ويغلق الباب خلفه دون أن ينبس بكلمة.
تقدم نحوه بثبات وكأنما يسير فوق حقل ألغام،قبل أن يجلس بجواره، دون أن يقتحم مساحته، لكنه كان قريبًا بما يكفي ليشعر الأخير بوجوده.
لم يتكلم أي منهما،فقط صمت آخر أضيف إلى الغرفة،لكنه كان مختلفًا،وكأن الهواء نفسه صار أثقل،يضج بمشاعر غير منطوقة،خانقة.
لكن فجأة، رفع داود يده وربت على كتف ابنه بحنان،لم تكن لمسته مجرد حركة عابرة، بل كانت امتدادًا لكل الكلمات التي لم تُقل،لكل المشاعر التي حاول موسى حبسها.
ثم همس بصوت بالكاد يُسمع، لكنه اخترق صميم قلب ابنه:
“معلش.”
مجرد كلمة واحدة،صغيرة بحروفها، لكنها حملت بين طياتها أكثر مما احتمل موسى،وكأنها كانت المفتاح الذي حطم السدود داخله، اهتز كيانه فجأة،وخرج من فقاعة الصلابة التي أحاط نفسه بها خلال الوقت الماضي،استدار نحو والده فجأة وارتمي في أحضانه،احتضنه بقوة وكأنه يحاول أن يتشبث به،أن يستمد منه بعض الأمان،بينما شهقاته المكتومة تفرّ من بين ضلوعه،ساخنة، محملة بثقل الألم الذي لم يستطع تحمله وحده بعد الآن.
وضع داود يده على رأس ابنه،شدد احتضانه له، وكأنما يحاول أن يحتضن ألمه كله، أن يسحبه من بين ضلوعه ليتحمله عنه، لكنه يعلم أن بعض الأوجاع لا يمكن مشاركتها، فقط يُمكن أن تكون شاهدًا عليها.
غصّة ثقيلة استقرت في حلقه، فخرج صوته متحشرجًا:
“حقك عليا أنا…حقك عليا أنا يا ابني.”
استمر موسى في بكائه،وشهقاته تخترق السكون وكأنها تتحداه،حتى أردف بصوت مرتعش بالكاد يخرج من بين دموعه:
“هو أنا ليه ما بلحقش أفرح يا بابا؟ ليه كل ما أفتكر إني هافرد جناحي، ألاقي الدنيا بتقصّهم لي؟ ليه فرحي مش بيدوم؟ ليه يا بابا؟ وأنا اللي كنت فاكر إن الدنيا بدأت تضحك لي…أتاريها كانت بتضحك عليا.”
تكسرت كلماته تحت وطأة وجعه،لم يكن يطلب إجابة،ولم يكن يتوقع واحدة، كانت تساؤلاته مجرد صرخة في وجه القدر،عتابًا للحياة،ألمًا مكبوتًا أخيرًا وجد طريقه للخروج.
شدّ داوود من احتضانه، ولم يحاول أن يواسيه بكلمات فارغة، فقط تركه يبكي، سمح له بأن يُخرج كل ما احتبسه في قلبه، كان يعلم أن بعض الآلام لا تُعالج إلا بالبكاء، وأن حتى الرجل، مهما كان قويًا وصلبًا، له الحق في أن يعبر عن ألمه.
مرّت ثوانٍ، كان الزمن فيها وكأنه متوقف، لا شيء سوى أنين موسى، وصوت أنفاسه المتقطعة، قبل همس داود بصوت هادئ، رتيب، كمن يحاول أن يخفف من غلواء الألم الذي يعتصر قلب ابنه:
“فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)”
(سورة الشرح: 5-6)
صمت للحظة ثم أضاف بصوت أكثر هدوءًا، كما لو كان يحاول أن يغرس الأمل في قلب ابنه:
“مع كل عسر يأتي يسر،والفرج قريب مهما اشتدت المحن، اصبر يا بني، اصبر يا حبيب أبوك، واتوكل على الرحمن، ما حدش هيبقى أحن عليك أكتر منه.”
كانت كلماته، وإن كانت بسيطة، لكنها كانت تعبيرًا عن إيمان عميق بالفرج الذي يأتي بعد كل شدة، و كانت تلك الكلمات في تلك اللحظة بمثابة الضوء الذي يرشح من بين طيات الظلام، يوجهه نحو الأمل، ويعطيه القوة للاستمرار في الصبر.
أخذ داود يمسح على ظهر ابنه بحنان،وكأنما يحاول أن يمحو عنه كل الألم الذي يثقل قلبه، حتى ابتعد موسى قليلاً عنه ومسح دموعه بكف يده برفق،ثم تبادل مع والده نظرة صامتة، كانت أكثر تعبيرًا من أي كلمات، كانت نظرة مليئة بالمواساة،بالفهم العميق لما يمر به،والتأكيد على أنه ليس وحده في هذا الصراع.
رفع داوود يديه وأحاط وجه ابنه بكفيه برقة،عينيه غارقتان في قلبه، وقال بصوت دافئ وحكيم:
“اصبر واتوكل على الله يا بني.”
كانت كلمات بسيطة،لكنها كافية لتخفف من وطأة الحزن الذي يثقل قلب موسى، لم تكن مجرد نصيحة، بل كانت تذكيرًا بقدرة الله ورحمته التي لا حدود لها، وأنه مهما طال الزمن وتوالت المحن، فالصبر والتوكل على الله هما السبيل الوحيد للفرج.
حاوط داود رأس ابنه من جديد ودفنها على كتفه،كما لو كان يحاول أن يطمئنه وأن يكون ملاذًا له في لحظة ضعفه، لكن فجأة، قطع صوت رنين هاتف موسى هذا الهدوء، فابتعد موسى عن والده ببط وأخرج هاتفه من جيب بنطاله، وعندما رأى اسم المتصل على الشاشة،لم يستطع أن يخفي لهفته.
فهتف
بحماس، والدموع ما زالت تلمع في عينيه:
“ده عمي فاروق!”
أجاب داود بسرعة، بصوت يملأه الحافز:
“طب رد بسرعة.”
كانت تلك اللحظة بمثابة فاصل بين ألم اللحظة وحلم ربما يكون بداية فرج.
بدأ موسى المكالمة ورفع الهاتف على أذنه، وعيناه لا تزال مشتعلة بالأمل والحذر في آن واحد. أجاب بسرعة وكأن الكلمات تخرج منه رغم كل الجهد:
“ألو يا عمي، وصلتوا لحاجة؟”
جاءه الصوت الذي طال انتظاره من الطرف الأخر،صوت فاروق وهو يرد عليه بثقة:
“عرفنا المنطقة اللي فيه،هبعتلك اسمها حالًا، وإحنا هنحصلك،والشارع ده لعلمك مافيهش بيوت كتير، فده هيسهل عليك البحث.”
كانت كلماته بمثابة بصيص من الأمل، أضاءت طريق موسى المظلم وأعطته دفعة جديدة للاستمرار، ورغم كل التوتر الذي لا يزال يعصف به إلا أن هذه المعلومات كانت خطوة مهمة على طريق العثور عليها.
انتهت المكالمة،وأخذ موسى يطالع الهاتف في يده حتى وصلت الرسالة التي تحتوي على العنوان، فقرأها بعينين تلمعان بالرجاء ثم هتف بسرعة:
“عرفنا عنوان المنطقة!”
رد عليه داود بحماس،لم يخفِ اندفاعه:
“طب خلينا نروح يلا، مستني إيه؟”
خرج الاثنان من الغرفة بسرعة،وفي نفس اللحظة،هتف موسى بصوت مرتفع ليعلن للجميع:
“عمي فاروق اتصل، وعرفنا عنوان المنطقة!”
وعلى الفور انتفض الجميع من أماكنهم،وهرولوا نحو الخارج بسرعة،كل واحد منهم يحمل الأمل في قلبه، بينما كان محمد يقف في مكانه،يراقبهم وهو يدعو لهم في سره:
“ربنا يسترها معاكم.”
توجه الجميع نحو السيارات،وبدأوا في توزيع أنفسهم على المركبات،صعد موسى مع سامي وحسن وحسين في سيارة واحدة، بينما صعد كارم مع محسن على دراجته.
في السيارة الأخرى،كان بلال برفقة والده وعمه محمود،بينما عزت كان في سيارته مع فادي وكريم ورؤف، أما داود فصعد مع مصطفى والصبي تامر في سيارته.
كل سيارة انطلقت في طريقها،تحمل معها الأمل والخوف معًا،وكل واحد منهم يتمنى أن تعود من يبحثون عنها برفقتهم.
_________________
كانت لا تزال تجلس في عزلتها، تبكي بحرقة على حالها الذي وصلت إليه، شاردة الذهن بين جدران مكانها الضيق، كانت تنظر إلى السقف وتقرأ ما تحفظ من آيات الذكر الحكيم،وكأنها تسعى لإيجاد طوق النجاة في كلمات الله،تستجدي ربها أن يخرجها من هذا المأزق الذي أطبق عليها.
فُتح الباب فحأة،وولج إليه هو،بابتسامته المشمئزة التي لا تحمل في طياتها إلا السخرية،يتقدم نحوها وكأنه يعتقد أنه يسيطر على كل شيء، اقترب منها وقال بنبرةٍ
مخادعة،محاولًا فرض ذاته عليها:
“المأذون على وصول، يلا عروسة.”
اقترب منها وكأنه يحاول مساعدتها على النهوض،لكنها أبعدته عنها بعنف بيدها المقيدة،وضربت القيود التي حول معصميها بشدة،مما جعلها تصرخ رغم فمها المكبل،محاولة أن تعبر عن تمردها على هذا الواقع المفروض عليها.
لكن محاولتها كانت بلا جدوى،فقد كان أقوى منها بكثير،فتمكن من إحكام قبضته على يديها،ثم اقترب منها أكثر وهمس بصوت خبيث،يملؤه الشر والتهديد:
“خليكِ مؤدبة بدل ما أعمل حاجة ماتعجبكش دلوقتي فاهمة؟”
صرخ في وجهها بنبرة عالية مليئة بالغضب،لكنه فجأة،كما لو كانت مشاعر الغضب قد تبخرت،أزال ملامح التوتر عن وجهه ليحل مكانها ابتسامة استفزازية، ثم همس مرة أخرى بنبرة مليئة بالخبث وهو يمرر أنامله على وجنتها،وعيونه تتنقل على جسدها وكأنها ليست إلا مجرد ملكية له:
“لعلمك،أنا محترم نفسي لحد دلوقتي، قلت نكتب الكتاب علشان تبقى ليا وأقرب من حقي…بس أنا عادي على فكرة،ممكن أقرب من حاجة مش من حقي.”
نظر إليها وعيناه مليئة بالاستهزاء والاحتقار، ثم أضاف:
“فلو ما قعدتش ساكتة وطلعت معايا علشان نكتب كتابنا،معنديش مانع إني أعمل اللي ما أجله يازوزة.”
كانت كلماته أشبه بتهديد واضح،وكان كل حرف منها يرسخ في قلبها الخوف والألم،وعينيها، اللتين امتلأتا بالدموع، لم تعدا قادرتين على التعبير عن كل هذا الاضطهاد الذي تعيشه.
شد قبضته على يديها بقوة وسحبها معه للخارج،كما لو كانت مجرد غرض لا حق لها في مقاومة إرادته، كانت محاولة مقاومتها بلا جدوى،فكلما ابتعدت عنه كان هو يجذبها إليه مرة أخرى بكل قوة، وكأنها لا تساوي شيئًا أمام جبروته.
ومع تزايد عنادها،نفد صبره فجأة،فرفع يده ليصفعها على وجهها صفعة قوية، جعلت رأسها ينعطف بسرعة، وسقطت على الأرض من شدة الضربة.
ومع سقوطها، شعرت وكأن كل شيء ينهار من حولها، كرامتها، ثقتها في نفسها، وحياتها، كلها تحطمت في لحظة واحدة..كيف لا؟ وهي تلك الفتاة المدللة التي لم تعرف في حياتها سوى الدلال والاحترام، ولم تعهد يوماً مثل هذا المعاملة حتى من والدها المستبد، الذي كان حتى لا يجرؤ على رفع يده عليها..لكن الآن، ذلك الحقير فعلها، لا مرة بل مرتين وبدم بارد كما لو كان لا يشعر بشيء.
رفعت رأسها عن الأرض،ونظرت إليه بعينين مملوءتين بالقهر،قهر امرأة مكسورة لا تجد في نفسها أي قوة للقتال، كان ينظر إليها بلا تعاطف،وقبل أن تتمكن من التفكير في شيء آخر،اقترب منها مجددًا،وأمسك بها من يديها،ليجبرها على النهوض قبل أن يسحبها معه مرة أخرى.
بينما كانت دموعها تتجمع في عينيها،همس في أذنها بنبرة متوترة مليئة بالغضب:
“قلتلك خليكِ مؤدبة بدل ما أفقد أعصابي،وأعمل حاجة هتكسرك طول عمرك.”
كانت كلماتها مثل الرصاص،تصيب أعماق قلبها،وتذكرها بحقيقة مريرة: أن لا شيء في هذا العالم يمكنه أن يحميها من جبروت هذا الرجل في الوقت الحالي،إلا أن تطيع أوامرها بلا نقاش.
_________________
في الشارع نفسه…
كانوا قد تفرقوا على المباني الموجودة في المنطقة،ووزعوا أنفسهم عليها للبحث فيها، لكن رغم عددهم الكبير، كان عدد المباني أكبر بكثير مما توقعوا، لذا كان من الضروري أن ينتهي كل واحد من البحث في مبنى معين ثم يذهب إلى مبنى آخر ليواصل البحث ويسأل سكانه عن المفقودة أو عن أي شيء مريب قد حدث.
كانت الأجواء مشحونة بالتوتر،والقلق يزداد مع مرور الوقت،وفي ظل هذا التوتر، كان كارم ومحسن قد انتهيا لتوهما من البحث في المبنى الثاني، توقفا في منتصف الطريق، وتنفسا بصعوبة، كأن كل خطوة كانت تقطع جزءًا من طاقتهما، ثم قال كارم لصديقه،محاولًا تهدئة نفسه:
“دي تاني عمارة نسأل فيها،ومحدش لاحظ حاجة.”
صمت محسن لوهلة قبل أن يرد، كما لو كان يشك في أن الأمور قد تكون أكثر تعقيدًا:
“تفتكر الباقين وصلوا لحاجة؟”
“لو كانوا وصلوا كنا اديونا خبر.”
مسح محسن وجهه بعنف وزفر بقوة،وكأنما يحاول أن يطرد التوتر الذي بدأ يعتصر قلبه،ثم قال:
“طب يلا خلينا نكمل.”
“يلا.”
ومع هذه الكلمات،بدأ كلاهما في التحرك مجددًا،بخطوات متسارعة في محاولة لإيجاد أي خيط يقودهم إلى المفقودة، لكن ما إن خطوا خطوتين،حتى اصطدم شاب مسرع بمحسن دون قصد،فتوقفت خطوات محسن،ونظر إلى الشاب الذي اعتذر سريعًا قائلاً:
“آسف يا أخ.”
أنهى الشاب كلمته سريعًا،ثم توقف ليشير إلى الرجل الذي كان برفقته وقال له:
“يلا يا مولانا علشان اتأخرنا.”
نظرا محسن وكارم لبعضهما لثوانٍ،وكان هناك شيء غريب بحقٍ في الموقف جعل قلوبهم تنبض بشدة، نظروا إلى الرجل برفقة ذلك الشاب والذي كان يرتدي زي الشيوخ،ويحمل في يده دفترًا كبيرًا، لذا لم يخطر في بالهما إلا أنه ربما يكون المأذون.
دون تفكير طويل، تقدما بحذر خلف الرجلين،محاولان الاقتراب منهما دون أن يلفتا الانتباه، ومع خطواتهما أخرج كارم هاتفه بسرعة واتصل بموسى، وبمجرد أن بدأت المكالمة، قال بصوت خافت لم يخلو من الحماسة:
“أيوة يا موسى،أظن إننا عرفنا مكانهم، تعالى بسرعة لتالت عمارة على إيدك الشمال،هتلاقي بوابتها بنّي وقديمة شوية.”
_________________
كانت تجلس على الأريكة في غرفة المعيشة، دموعها تتساقط على خديها كأنها لا تستطيع حبسها، قلبها يئن من الألم والحيرة، كلما نظرت إليه، شعرت بالخوف أكثر، كانت الأنفاس تتسارع في صدرها مع كل لحظة تمر، وكأن الوقت يقف في مكانه.
بينما هو فكان أمامها يسير ذهابًا وإيابًا بحركات عصبية،ووجهه يعكس توتره الشديد، وكأن كل خطوة تزيد من حدة القلق الذي يعصف به.
ثم توقف فجأة،ورفع نظره إلى مدحت،الذي كان يجلس على المقعد أمامه،قائلاً بصوت حاد:
“هو صاحبك ده اتأخر كده ليه؟”
أجاب مدحت بصوت هادئ
في محاولة لتهدئة الموقف،
:
“تلاقي الطريق زحمة يا ابن عمي،اهدي شوية، زمانه على وصول، أنا لسه متصل بيه، وقالي إنه جاب المأذون ودخل بيه المنطقة.”
أومأ خالد برأسه في صمت،لكنه عاد مرة أخرى للسير أمامها بخطوات غير ثابتة،وكأنما يتنقل بين الأمل والخوف، ولكن فجأة قطع صوت جرس الباب صمت المكان،فاتجهت إليه جميع الأنظار في لحظة واحدة،و نهض مدحت بسرعة وهو يقول بحماسة مضطربة:
“أهم وصلوا يا سيدي.”
توجه نحو الباب وفتحه ليكشف عن مشهد لم يكن أحدهم يتوقعه، كان كارم يمسك بصديقه من لياقة قميصه من الخلف،الذي كان فاقدًا للوعي تمامًا بعد ماطاله من ضرب مبرح من كل من كارم ومحسن.
والذي بالمناسبة كان يقف الخلف مباشرة بجانب المأذون الذي كان يبدو مرتبكًا،كأن ما يحدث كان أكبر من أن يستوعبه.
لكن قبل أن يستوعب أي شئ وجد كارم يغمز له بعبث قائلاً:
“اتأخرنا عليكم معلش.”
وفجأة بلا تحذير،رمى جسد صديقه عليه بقوة، ليقع الشاب ومدحت معًا على الأرض، مما جعل أعين خالد تتسع في ذهول،أما فيروز فقد انتفض جسدها فجأة.
لكن حين التقت عيونها بعيني كارم، شعرت بشيء غريب يعمّ قلبها،وكأن الراحة تسللت إليها حين أدركت أن الوضع سيتحسن، على عكس خالد، الذي تجمد في مكانه، وكان وجهه مشدودًا بنظرة من الحذر والشك، وعيناه تلمعان بالسؤال الذي لا مفر منه:
“أنت مين؟”
ثبتت عينا كارم على خالد للحظة،قبل أن يميل برأسه قليلاً ويبتسم ببرود،ثم قال بصوت هادئ لكنه حمل في طياته نبرة دهاء:
“خليه هو يجاوبك.”
نبس تلك الكلمات حين لمح بطرف عينه موسى وسامي يصعدان الدرج بخطوات سريعة، وملامحهما المذعورة تسبق وصولهما.
واللذان سرعان ماتوقفا بجوار كارم،وما إن وقعت أعينهما على فيروز،حتى توقفت أنفاسهما للحظة،وخرجت منها هي شهقة غير واعية،بينما نطقت ألسنتهما باسمها في آنٍ واحد، بوجع غرس في الصدور كسهمٍ مسموم:
“فيروز!”
تحرك موسى لا إراديًا،كأن عقله لم يعد يسيطر على جسده، كل ما كان يراه هو ملامحها الشاحبة، الدموع العالقة على خديها، نظراتها المكسورة…لكنه لم يكد يقطع بضع خطوات حتى سبقه خالد،وكأنما كان متوقعًا ردّ فعله.
في جزء من الثانية،كان خالد قد أمسك بسكين حاد من على طاولة الفاكهة القريبة،وانقضّ عليها،ليضع النصل البارد على رقبتها الهشة.
اتسعت الأعين في فزع،وتجمد الجميع في أماكنهم، أصبح الهواء ثقيلاً، مشبعًا بالخطر، والقلوب تدق بعنف كأنها تحاول تحطيم الضلوع للهروب.
ارتفع صوت خالد،مبحوحًا لكنه يحمل تهديدًا لا يقبل الجدال:
“لو حد فيكم قرب…روحها هتكون التمن!”
لم يكن الأمر مجرد تهديد أجوف، بل حقيقة قاتمة تلوح في الأفق…
#يتبع…
_________________
كتابة/أمل بشر.
لو وصلتوا لهنا في نجمة حلوة تقديراً لتعبي ومجهودي،وكومنت برأيكم وتوقعاتكم
ياحلوين
.
دمتم بخير..سلام.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.