رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الرابع والثلاثون 34 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الرابع والثلاثون

الفصل الرابع والثلاثون (اليوم الأسوء)

الفصل الرابع والثلاثون (اليوم الأسوء)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ولاتنسوا الدعاء لإخواتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

_______

أنا المكسورُ في عيني…وإن وقفتْ جموعُ الناسِ تهتف لي

.

“أدونيس”

___________

“خليه هو يجاوبك.”

نبس كارم تلك الكلمات حين لمح بطرف عينه موسى وسامي يصعدان الدرج بخطوات سريعة، وملامحهما المذعورة تسبق وصولهما.

واللذان سرعان ماتوقفا بجوار كارم،وما إن وقعت أعينهما على فيروز،حتى توقفت أنفاسهما للحظة،وخرجت منها هي شهقة غير واعية،بينما نطقت ألسنتهما باسمها في آنٍ واحد، بوجع غرس في الصدور كسهمٍ مسموم:

“فيروز!”

تحرك موسى لا إراديًا،كأن عقله لم يعد يسيطر على جسده، كل ما كان يراه هو ملامحها الشاحبة، الدموع العالقة على خديها، نظراتها المكسورة…لكنه لم يكد يقطع بضع خطوات حتى سبقه خالد،وكأنما كان متوقعًا ردّ فعله.

في جزء من الثانية،كان خالد قد أمسك بسكين حاد من على طاولة الفاكهة القريبة،وانقضّ عليها،ليضع النصل البارد على رقبتها الهشة.

اتسعت الأعين في فزع،وتجمد الجميع في أماكنهم، أصبح الهواء ثقيلاً، مشبعًا بالخطر، والقلوب تدق بعنف كأنها تحاول تحطيم الضلوع للهروب.

ارتفع صوت خالد،مبحوحًا لكنه يحمل تهديدًا لا يقبل الجدال:

“لو حد فيكم قرب…روحها هتكون التمن!”

لم يكن الأمر مجرد تهديد أجوف،بل حقيقة قاتمة تلوح في الأفق

جعلت الزمن يتوقف للحظات،وكأن الجميع فقدوا القدرة على التنفس.

شهقت فيروز بصوت مكتوم،وارتجف جسدها بين ذراعيه كغصن يابس أمام ريح هوجاء،وعيناها المرتاعتان لاتفارقان وجه كل من زوجها وشقيقها.

نهض مدحت حينها من على الأرض،ووقف خلفه ليتحامى فيه من البقية،فقط وقف في الخلف ليراقب في صمت تلك الحفلة المجنونة التي يقيمها صديقه.

رفع خالد السكين فجأة،وأشار بها في وجهيهما،بينما عينيه تغليان بالسؤال:

“مين فيكم موسى؟!”

سكنت الدهشة الجميع..إلا موسى،الذي لم تفارقا عيناه وجهها.

لم يسمع السؤال لكنه شعر به في نخاعه،لكن حين ارتفعت النبرة وازداد نصل الموت توهجًا،أدرك السؤال… وأدرك الخطر.

“انطقوا! من فيكم جوزها؟!”

همس سريعاً وكأن صوته لا يخصه:

“أنا…”

نظر له  وخطا للأمام وهو يقول:

“أنا موسى…جوزها.”

لكن الأخير كان أسرع،حين رفع السكين في وجهه كحائط من نار وأمره بصوت هادر:

“مكانك! اوعى تقرب…ارجع!”

تجمّد موسى للحظة،وعيناه لا تفارقان نظراتها المرتجفة المملوءة بالخوف،ووجهها الذي لطمه الغدر، والدماء العالقة في ملامحها، كما لو كانت صورتها قد رسمت بلونٍ قاتم،أما أنفاسها المتقطعة، فقد كانت تشق الظلام، تقطع صمت المكان وتشق قلبه الذي كان كل نبضة فيه تنادي باسمها وكأن قلبه أصبح ملكًا لألمها.

ارتفع صوت خالد فجأة، فاقعًا، ممزوجًا بالعتاب والاحتقار،وألقى بنظرة عميقة نحو فيروز،وكأن الكلمة كانت محملة بالكراهية والخذلان:

“هو ده اللي اتجوزتيه؟ ده اللي اخترتيه بدالي؟ فيه إيه أحسن مني؟ هو أحسن مني فيه علشان تحبيه وأنا لأ؟!”

كان كل سؤال يشتعل في الأذن كاللهب،يزيد النار اشتعالًا في قلبها،حتى غمضت عينيها في خوفٍ،لكنها لم تجد مفرًا.

فجأة رأته يقتلع القماشة عن فمها بعنف ثم رفع السكين في وجه موسى،يشير بها إليه وكأنها طعنة إضافية:

“ده أحسن مني في إيه؟ جاوبيني!”

سكنت لوهلة ثم تماسكت وعيناها تسقطان على موسى،الذي كانت عيناه المملوءة بالدموع مثبتة عليها،كما لو أن كل لحظة في عينيه تحكي قصة تائهة عن الخوف والألم.

همست بصوتٍ متقطع،باكٍ بالكاد يُسمع:

“في كل حاجة…”

رفعت صوتها قليلاً لتزداد كلماتها وضوحًا، محطمة صمت المكان حولها:

“هو أحسن منك في كل حاجة…كفاية إن لما ببص في عينه،بطمن…بطمن وأنسى كل همومي،بلاقى الأمان اللي فضلت سنين بدور عليه.”

تحولت نظرتها في تلك اللحظة إلى شيء أعمق من مجرد الضعف،كانت نظرة امرأة مكسورة، تتحدث بكل قهر، كما لو أن الكلمات خرجت من جرح عميق:

“أما أنتَ…فأنا من أول مرة شوفتك فيها،وأنا مش بشوف في عينك…غير بابا…مش بشوف فيها غيره…كنت فاكرك زيه…بس طلعت أسوأ منه بمراحل.”

كانت الكلمات تتساقط منها كما لو أن كل حرف منها كان يجرحها أكثر، كانت تحاول أن تواجهه بالحقيقة وتصفعه بها، لكن داخلها كان يعلم أن هذه الكلمات لن تؤثر عليه، إذا كان هناك شخصًا سيشعر بشيء فإنه شخص عاقل، شخص يمتلك قلبًا وعقلًا قادرين على فهم الحقيقة، أما هو..فكان يرفض تمامًا أن يرى أو يفهم،فقد كان لا يزال مهووسًا بها،متجاهلًا كل ما قالته.

ابتسم بخفة مجنونة ثم حرك رأسه نافيًا، وتراجع خطوة للخلف،وهو يثبت السكين على رقبتها، ليهدر بصوته المبحوح والجاف،يرفض كل ما قالته كأنما كان حديثها مجرد هذيان في أذنه:

“أنت مش فاهمة حاجة! أنت مش فاهمة حاجة خالص! أنا بحبك! أنا بحبك أكتر منه! محدش بيحبك زي ما أنا بحبك، علشان كده عايزك ليا، ليا وبس! أنا مش وحش زي ما أنت فاكره! أنا بس بحبك،وأوعدك لو هتحبيني هخليكي تعيشي ملكة! بس أنت تبقى ليا لوحدي، وأنا مش هحرمك من أي حاجة عايزاها!”

كان يردد كلماته بشراسة وكأنها التبرير لكل أفعاله،لكن في الحقيقة، لم يكن يفهم أنها لم تشعر بأي شيء تجاهه، تلك الكلمات كانت مجرد صدى فارغ، لا تجد صدى في قلبها، وكانت ترى فيه مجرد كابوس يطاردها..ليس أكثر.

ومع كل تلك اللحظات التي أُغرقت فيها بآلامها،بكت بحرقة،مُستسلمة لحقيقة أن لا أحد سيفهمها..كان كل شيء يدور حولها،كل العيون تتجه نحوها،شقيقها سامي الذي أغمض عينيه بشدة،تفرغ جسده من أي قوة وهو يضغط قبضته بقوة،وموسى الذي كان صدره يرتفع وينخفض بشكل سريع كأن أنفاسه تكاد تهرب منه.

ولكن مرة أخرى،لم يستطع أن يوقف جسده من التقدم نحوها،فصرخ بشجاعة يائسة، محاولًا الحفاظ على ما تبقى من عقله في تلك اللحظة:

“سيبها! أنا عدوك مش هيا!”

رفع خالد السكين مرة أخرى في وجه موسى،فتوقف الأخير وأشار إلى نفسه بيدٍ مرتجفة، وهو يردد،وكأن الكلمات نفسها باتت أملًا ضائعًا:

“مش أنت مضايق إني خدتها منك؟ خلاص،خدني أنا بدالها وخلص حقك مني،وسيبها هي،سيبها تمشي مع أخوها!”

نظر موسى نحو سامي وهو يشير برأسه إليه،لعلها تكون فرصتهم للخلاص،لكن قبل أن يتمكن سامي من التقدم خطوة واحدة،كان خالد قد وجه السكين نحو الأخير،وأوقفه بحركة واحدة،ثم قال بصوتٍ غارق في الجنون وعينيه مثبتتين على موسى:

“لأ…لو سيبتها مش هتبقى ليا،وطالما مش هتبقى ليا..مش هتبقى لحد تاني.”

كانت كلماته هي القيد الذي يزيد من قيودهم،وكل كلمة كانت تعني شيئًا أكثر من مجرد تهديد..كانت تعني الموت،وكانت تعني أن كل ما في يديه سيكون ملكًا له،حتى لو كان ذلك على جثثهم.

عمَّ صمت قاتل في المكان،صمت لا تتبادل فيه الكلمات،بل تتبادل فيه النظرات المشحونة بمشاعر مختلطة من خوف، قلق، وغضب..كانت تلك اللحظة كما لو أنها امتداد لعمرٍ بأكمله،يمر ببطء،بكل ثقل الظلام الذي يحيط بهم.

في تلك اللحظة،كان محسن لايزال يقف في الخلف مع المأذون،عينيه تدوران بين الوجوه في صمت،حتى قرر استغلال السكون الذي يعم المكان،فدفع الباب بقدمه بقوة،ليصدر عنه صوت عالي،وكان الصوت بمثابة تحذير مفاجئ جعل خالد يلتفت نحوه،مما منح موسى الفرصة التي كان ينتظرها.

تقدم بسرعة نحو فيروز،أمسك بيدها وجذبها إليه بقوة ليحاوطها بذراعه،كان قلبه ينبض بسرعة ولكن بيديه كان يحاول أن يمنحها الأمان حتى لو كان ذلك مؤقتًا،لكن لحظة السكون تلك لم تدم طويلاً،فما إن استقرت فيروز بين أحضانه،حتى عاد خالد ليشعل النار مرة أخرى في تلك اللحظة،وكأنها كانت الشرارة التي توقّعها.

تقدم خالد نحوهم بخطوات ثابتة،وعيناه مشتعلة بالغضب،وهو يوجه السكين نحوهم،والهواء في المكان أصبح ثقيلًا،والقلوب تنبض بسرعة كأنها تتسابق للنجاة،دون أن يعرف أحدٌ منهم من سيكون هدف السكين في تلك اللحظة الموحشة.

_________________

في الأسفل…

كان داود قد وصل إلى المبنى الذي يتواجد فيه الشباب برفقة إخوته،ليجد حسن وحسين قد سبقوهما هناك، يتقدمان نحوه بخطى سريعة، ما إن رآهما حتى رفع صوته مناديًا:

“حسن!”

توقف كل منهما والتفتا نحوه،ليقترب منهم داود ويسأل بلهفة:

“هما في العمارة دي؟”

أجاب حسن بصوت متزن:

“أيوه، محسن قال إنهم في الدور التالت.”

رد داود دون تردد:

“طب يلا نطلع لهم.”

وقبل أن يتحركوا تدخل أحمد قائلًا:

“أنا هتصل بفاروق وأقوله على مكانّا.”

أومأ له داود سريعًا موافقًا ثم اندفع برفقة التوأم وإخوته محمود ومصطفى،يصعدون الدرج بخطى متسارعة نحو تلك الوجهة…نحو المجهول الذي ينتظرهم في الأعلى.

_________________

في الأعلى…

تساقطت قطرات الدماء على الأرض تباعًا،تُرسم بلونها القاني طريق الألم والخوف،ومع كل قطرة تهبط، كان الصمت يُخيّم أكثر،والأنفاس تُحبس في الصدور.

تدريجيًا،حين ارتفعت الأنظار للأعلى،تبيّن أن الدماء تنبع من يد موسى،تلك اليد التي أمسكت بنصل السكين في اللحظة الأخيرة،قبل أن يخترق جسد فيروز،ويحوّل اللحظة إلى مأساة لا عودة منها.

كانت أصابعه تنزف بغزارة،تنكمش حول السكين بإصرار،كأنها ترفض أن تسمح للقدر بأن يسرق منه من يحب،لم يكن الألم في ملامحه بقدر ما كان الإصرار،الإصرار على الحماية…مهما كانت العواقب.

بينما كانت عيون موسى مشتعلة، نظراته لا تفارق خالد الذي ظل مشدودًا إليه عبر السكين، التي كانت الآن أشبه بحبلٍ واهٍ يربط بين نقيضين؛ الحب والجنون، التضحية والامتلاك.

كان خالد يحدّق فيه بذهول، الهلع قد بدأ يتسرّب إلى أعماقه،حين أدرك أخيرًا أنه خسرها…خسر تلك التي كان يظن أنه يفعل كل شيء من أجلها،ولم يفهم يومًا أنها لم تكن تريده،ولا تخافه بل تحتقر ما يفعله باسم الحب.

وعلى الجهة الأخرى،كان سامي يتقدّم بخطى ثقيلة،جسده بالكاد يستجيب بعدما تجمد حين رأى السكين تقترب من شقيقته، لكن حين لمحها بخير، آمنة في أحضان موسى،كأن الدم عاد يجري في عروقه فجأة، اقترب منها بخطى متثاقلة،وعينيه تتنقل بين يد موسى النازفة،ووجه أخته الدافن لرأسها في صدر زوجها،وكأنها تحتمي من العالم.

ثم دون إنذار، حدّق في خالد وتقدّم بخطوة واحدة فقط،لكنها كانت كافية لتفريغ كل غضبه، كل خوفه، كل قهره.

وفي لحظة،كانت قبضته ترتطم بمنتصف وجه خالد، لكمة خاطفة وقوية، أطاحت به أرضًا بعنف، كما لو أنها تُسقط كل جنونه معه.

في تلك اللحظة،ترك موسى السكين من يده،لتسقط أرضًا بصوتٍ معدنيّ اخترق الصمت كأنّه إعلان بانتهاء العاصفة، وفي اللحظة ذاتها،ابتعدت فيروز عنه ببطء كأن جسدها يرفض أن يتحرك وكأنها تخشى أن تفيق من كابوس لم ينتهِ بعد.

وحين أدارت عينيها نحوه،رأته… رأته واقفًا بصمت،يتنفس بصعوبة،ويده تنزف بلا توقف،الدم ينساب من بين أصابعه وكأنه الثمن الذي دفعه لإنقاذها.

اتسعت عيناها،وذُعرها الذي خفتَ قليلًا عاد يضرب قلبها بقوة،ليس خوفًا من الموت بل ألمًا عليه…عليه هو،من وضع يده مكان السكين لينقذها دون أن يتردد.

همست حينها بصوت مرتجف بالكاد يُسمع:

“إيدك…”

نظر إليها نظرة مطوّلة،نظرة حوت من المشاعر ما لا تقوى الكلمات على وصفه…خليط من حبٍ جارف،ووجعٍ دفين،وارتياح مؤلم لأنها ما تزال هنا..تتنفس.

كانت عيونه تقول كل ما عجز لسانه عن النطق به،وكل ما لم يسمح له الموقف أن يبوح به.

ابتعد عنها بهدوء،وكأنه يسلّمها بيده لمن هو أحق بها في تلك اللحظة…لأخيها،سلّمها لسامي،الذي لم ينتظر لحظة،وضمها إليه بقوة كأنما يحتضن روحه التي هربت منذ اختفائها،وكأن عناقه لها محاولة بائسة لتضميد كل الساعات التي عاشها في قلقٍ لا يُحتمل.

أما موسى،فبقي واقفًا لثوانٍ يراقب المشهد، قبل أن يتحرك ببطء ويتجه نحو من كان سبب هذا الجنون…خالد،الراقد أرضًا،غارقًا بين الغضب والسقوط.

اقترب منه موسى وعيناه تشتعلان،ليس بالكراهية فقط،بل بالألم المكبوت،بالشعور بأن تلك اللحظة لن تُمحى،وبأن من أذى من يحب…لا يُسامَح بسهولة.

وقبل أن تصل قبضته إلى خالد،اندفع مدحت ليمنعه،لكن كارم كان أسرع..فقد أمسك بيد مدحت التي امتدت وشدّها بقوة،قبل أن يقول بنبرة يكسوها المرح المتخفي خلف وعيد ثقيل:

“سيبه هو معاه…وخليك إنت معايا،ده أنا حتى كنت بدور على حاجة أطلع غلّي فيها،وإنت جيت لي هدية من السما.”

ولم تمرّ لحظة حتى تبخر المرح من وجهه واختفت ابتسامته،وفي لحظة خاطفة، نطحه برأسه في منتصف وجهه،ليبدأ بعدها حفلة من الضربات،كل واحدة فيها أقوى من سابقتها.

أما موسى،فقد انحنى على خالد ورفعه من ملابسه،عيناه كالجمر وأنفاسه كأنها تخرج من نارٍ داخل صدره.

وجّه إليه لكمة…ثم ثانية،فثالثة،ورابعة…ولم يتوقف.

يده المجروحة نزفت أكثر،واختلط دمها بدم خالد،لكنه لم يهتم، لم يشعر، لم يتوقف…

كان كمن يحاول أن ينتزع الألم من صدره بالضرب، أن يفرغ كل ما تراكم بداخله على وجه ذلك الرجل الذي جرّد زوجته من الأمان.

كل صفعة، كل لكمة، لم تكن مجرد فعل عنف…بل كانت شهادة وجع،صرخة رجل لم يستطع أن يحمي حبيبته في الوقت المناسب،فصبّ كل ما عجز عن قوله في قبضته.

يد تضرب،وأخرى تمسك بثبات،وكل نظرة من عينيه كانت تطفح بالغليان…لم يكن يرى من حوله، لم يكن يسمع الأصوات،ولا حتى يشعر بألم يده المصابة،فقد باتت نار الغضب تسكنه، تغذيه، وتدفعه نحو المزيد.

أما خالد،فكان وجهه يتلقى دون ردّ،كأنه استسلم…أو كأنه أدرك،ولو متأخراً،أنه خسرها…خسر كل شيء.

في تلك اللحظة التي كانت فيها الأرض تهتز تحت وطأة الغضب،والدماء تتناثر بين قبضات الألم دوى صوت أقدام على السلالم،وأعقبه صوت داود المرتفع وهو يصيح:

“موسى! سامي!”

اندفعت الأعين نحو مصدر الصوت،وظهر داود يتقدم بخطى سريعة،تتبعه أجساد كثيرة ووجوه قلقة…حسن وحسين،محمود ومصطفى…كلّهم جاؤوا بقلقٍ ملتهب،وعيون تدور على وجوه الحاضرين.

وما إن دخلوا إلى الشقة،حتى كانت أنفاسهم تخرج دفعاتٍ،والذهول يرتسم على وجوههم…الدماء،الوجوه الملطخة،فيروز التي تحتمي بين ذراعي أخيها،موسى الذي يضرب بجنون،كارم الذي يقف على مدحت الذي بالكاد ينهض…

ولم تمرّ ثوانٍ حتى علت صفارات سيارات الشرطة في الأسفل،تبعتها خطوات راكضة تصعد السلالم بقوة،وصوت رجل أمن ينادي:

“الكل يبعد!!!”

دخل الضباط،وأول ما رأوه كان موسى الذي لايزال مستمرًا في ضرب خالد الذي كان قد فقد وعيه من شدة الضرب،فاندفع أحدهم،وأمسك بموسى من الخلف،وأبعده بالقوة بينما صرخ فاروق بحدة:

“كفاية ياموسى!”

تدخل أكثر من ضابط،ووسط فوضى الأصوات واقتربوا من خالد_ورفاقه_الذي كان ملقى أرضًا بلا حراك يُذكر

، فقد كان فاقدًا للسيطرة على نفسه تمامًا، عيناه تبحثان عن فيروز في الفوضى،لكن قلبه كان يعلمه في اللحظة نفسها أنها لم تعد تبالي به،لم تعد تراه حتى،كانت فقط تنظر إلى ذلك الرجل الذي وقف كالجسد المثقل،زوجها…موسى.

أغلقت عينيها،كأنها تبحث عن راحة نهائية،وكأنها قد انفصلت عن الواقع للحظة،فانهارت بين ذراعي أخيها سامي، وكأن كل ما كان بداخلها قد انطفأ فجأة.

وفي تلك اللحظة،كانت قد انطفأت…لم يكن الأمر فقط من التعب،بل من وجعٍ أثقل روحها..من صراعٍ امتدّ أكثر مما تحتمل.

وعندما شعر سامي بجسدها يترنح في يديه،كأنها زهرة ذابلة،أمسك بها سريعًا،ضمّها إليه بقوة،كأن روحًا عزيزة قد أُخذت منه،صرخ باسمها وهو يهزّها برفق،محاولًا إعادة الحياة إليها،قائلاً في ذعرٍ:

“فيروز! فيروز،ردي عليا!”

لكنها لم تُجب…

ركض موسى بسرعة،وعينيه مشوشة بين القلق والرعب،لم يكن يعرف كيف يواجه كل ما مرّ به،لكن قلبه كان يهتف باسمها،لمست يده المرتجفة وجهها وهمس بصوت مختنق بالكاد يُسمع:

“فيروز…”

ثم جاء داود، وصرخ بصوتٍ أعلى من الجميع:

“شيلوها بسرعة! خلينا ناخدها على أقرب مستشفى!”

ودون انتظار لحظة،كان بلال قد بدأ يتصل بالإسعاف بسرعة،صوته مشوشًا لكنه كان يحاول أن يظهر السيطرة وسط الفوضى التي تعم المكان.

في تلك الأثناء،كانت عيون موسى وسامي تتابعان فيروز بكل حزن،يراقبانها كمن يرى جزء من نفسه يُفقد ببطء،لم يكن بإمكان أي منهما أن يجد الكلمات المناسبة،كان الألم أكثر من أن يُحتمل.

لكن موسى،لم ينتظر طويلاً،فقد حملها بعيدًا عن هذا الواقع البشع الذي يعصف بها،نظر إلى سامي،وكأنما يتبادل معه صمتًا حزينًا ثم انحنى بسرعة،حملها بين ذراعيه،وأخذها بسرعة كبيرة نحو الخارج.

_________________

بعد ساعة…

امتلأ الممر بالأجساد المنهكة والوجوه التي غلب عليها الإرهاق،وجوه أنهكها الانتظار،وكأنها فقدت القدرة على التعبير إلا بالعيون التي لا تنفك تحدق في اللاشيء.

القلوب خافقة،معلّقة على وتر مشدود،كل نبضة ترتجف من المجهول خلف ذلك الباب المغلق.

جلس

داود

وإخوته وفاروق على المقاعد الحديدية وكأن الجدران احتضنت تعبهم،بينما كان

بلال

وباقي الشباب،يقفون مستندين إلى الجدران،أذرعهم متشابكة أو متدلية،رؤوسهم منحنية قليلاً كأن كلٌ منهم يحاول أن يُخفي إرهاقه.

على الطرف الآخر،كان

كارم

و

محسن

قد عادا من الخارج يحملان بعض زجاجات الماء والمشروبات،وزّعاها بصمتٍ بين الموجودين في صمتٍ،من أخذ ومنهم من رفض.

في الزاوية بعيدة،كان

سامي

يقف وحده،يراقب الباب الذي دخلت منه،الباب الذي تسلّمتها منه أيدي الطاقم الطبي.

عيناه لم تُزَغ عن الباب منذ أن غابت خلفه،وكأنها أخذت معه روحه،تركته واقفًا كظلٍّ خافت،متجمّد في لحظة لم تعد تتقدّم.

أما

موسى

،فجلس على مقعدٍ موازٍ تمامًا لباب الغرفة،لا يحيد ببصره عنه كأن بقاءه هناك ضمانة لعودتها، بينما يده اليمنى متدلية بجانبه،ملفوفة بضمادة طبية لا تزال آثار الدم عليها،تذَكُر جرحًا صنعه دفاعًا عنها،ورفضه التام أن يبتعد عنها ولو للحظة.

رفض حتى أن يُعالَج بعيدًا عنها،فخُيط الجرح وهو في مكانه،لأنه لم يستطع أن يترك الباب…الباب الذي سلمت روحها خلفه.

مرت دقائق أخرى وكأنها ساعات،والسكون في الممر كان أثقل من أي صوت.

كل من فيه كان يترقب،العيون معلقة بذلك الباب الأبيض الذي أُغلِق منذ أُخذت فيروز إلى الداخل.

وفجأة تحرك المقبض،وفُتح الباب بهدوء.

خرج الطبيب،بخطى ثابتة،ووجه مرهق من يومٍ طويل،لكنه لم يخلُ من بعض الاطمئنان.

انتفضت الأجساد دفعةً واحدة،وكأن كلّ من في المكان عاد يتنفس حين رأوا الطبيب يظهر أمامهم.

تقدّموا نحوه كمن يتمسّك بطوق نجاة،والقلق يطفح من عيونهم،فأطلّ عليهم الطبيب بنظرة هادئة وأردف بصوتٍ مطمئن:

“اطمنوا…الحالة كانت نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية،الإغماء كان بسبب الضغط العصبي والإرهاق،لكن الحمد لله استجابت بسرعة للعلاج.”

كأنّ جدران الممر أطلقت زفيرها مع من فيه..

عادت الأنفاس المحبوسة ببطء،وبدأ التوتر يذوب من فوق الأكتاف،خفيفًا بعدما كان كالجبل.

لكن تقدم سامي خطوة،بصدرٍ ما زال يعلو ويهبط من الخوف،وسأل بصوت بالكاد يُسمع:

“يعني هي كويسة دلوقتي يا دكتور؟”

أجابه الطبيب بنبرة أكثر طمأنينة وهو يومئ بخفة:

“الحمد لله حالتها مستقرة،إحنا ظبطنالها الضغط والسكر وكل المؤشرات رجعت طبيعية،وكمان أول ما المحلول يخلص تقدر تروح معاكم،حمد لله على سلامتها.”

سبق داود الجميع بردٍّ سريع يشوبه امتنان عميق:

“الله يسلمك يا دكتور، ألف شكر.”

ابتسم الطبيب بهدوء وقال وهو ينظر إليهم جميعًا:

“العفو يا حج،ده واجبي…”

أومأ لهم ثم غادر وهو يهمس:

“عن إذنكم.”

ظل سامي واقفًا في مكانه،قبل أن يسحب نفسًا عميقًا كما لو أنه خرج من تحت الماء.

رفع يده،ومسح وجهه المتعب،وأغمض عينيه للحظة،كأنه يمنح قلبه فرصة لاستيعاب أن كل شيء بخير أخيرًا… أن شقيقته وتوأم روحه بخير.

أما موسى،فقد أنزل رأسه بهدوء،دفن وجهه بين كفّيه،ومسح ملامحه المرتبكة بصمت،وفي نفس اللحظة اقترب داود منه وربت على كتفه،وهمس له بحنانٍ وصوت دافئ:

“عدت يا بني…عدت،احمد ربنا.”

هزّ موسى رأسه بالإيجاب ببطء،وهمس من خلف دموعه بصوتٍ متحشرج خافت:

“الحمد لله…الحمد لله.”

انقسم الأصدقاء تلقائيًا كأنّ شيئًا في داخلهم قادهم؛اقترب كارم ومحسن من سامي،وربّت حسن وحسين على كتف موسى في صمت داعم،لم يحمل كلمات كثيرة،لكنه حمل كل ما يلزم من المواساة.

ثم صدح صوت داود أخيرًا،وكان الوحيد الذي استعاد نبرة المسؤولية:

“هتصل على البيت وأطمنهم عليها.”

حصل على إماءة سريعة من معظمهم،كأنّهم جميعًا أوكلوا إليه تلك المهمّة عن طيب خاطر،فمدّ يده إلى جيبه وأخرج هاتفه ثم ابتعد خطوات بسيطة وهو يطلب الرقم،لسعلم الخبر للبقية،ليطمأنهم ويطمأن قلب تلك أم الذي ينتظر،قلب لم يعرف طعم الراحة منذ لحظة سماع الخبر،قلب احترق قلقًا على ابنتها،وزاد احتراقه صمتًا حين انقطع الخبر.

________________

_

مع مرور الوقت…

عاد الجميع إلى منازلهم بعد أن اطمأنوا عليها،وقد هدأت قلوبهم أخيرًا حين رأوها بين أيديهم سالمة،ما إن تأكدوا من أنها بخير حتى تفرّقوا بهدوء،بينما عادت هي إلى منزلها،محاطة بمن تبقى إلى جانبها: شقيقها _والصغير على ذراعه_ وزوجته، ووالدتها التي لم تترك يدها منذ أن أمسكت بها.

وصلوا إلى مدخل البيت،حيث توقّف موسى ووالده،مكتفيين بإيصالهم حتى هناك، وبعد إلحاح من سامي على أن يعودا ليستريحا قليلاً،انصاعا لرغبته وودّعاهم بكلمات ثقيلة من التعب،مشبعة بالطمأنينة.

صعدت فيروز الدرجات الأولى برفقة من معها، خطواتها متثاقلة، متعبة لا بالجسد وحده بل بالروح التي مرت بعاصفة لا يعلم أحد مداها، كانت تحاول التركيز على اللحظة،على فكرة أنها أخيرًا في طريق العودة…إلى البيت.

لكن فجأة،انفتح باب شقة الضيافة التي يسكنها والدها منذ أن عاد، خرج منها كأنّه سمع صوتها عن بعد أو استشعر اقترابها بقلب الأب قبل أذنه، توقفت الأقدام وتجمدت الوجوه، وانسحب كل الدفء من المكان ليحل محله صمت ثقيل مشوب بالتوتر.

كان هو أول من كسر ذلك الصمت،يتقدّم منها ببطء،كأن كل خطوة منه تحمل ثقلًا من الألم والندم، عيناه معلّقتان بملامحها وصوته حين نطق باسمها لم يكن مجرد نداء بل رجاء خالص،ممتلئ بخوف حقيقي وعاطفة حاولت أن تختبئ كثيرًا لكنها لم تُفلح:

“فيروز!…كنت هموت من الخوف عليكِ.”

ارتمى والدها واحضتنها فجأة بذراعيه المرتجفتين،وكأنه كان يحاول التأكد بأنها أمامه حقًا،وليست مجرد طيف عاد لزيارته في لحظة ندم،ضمّها إليه بشوق أبٍ أضناه القلق،وكأن ذلك العناق محاولة لتدارك كل ما فات،لملمة لما انكسر بينهما دون مقدمات.

لكنها لم تبادله العناق،فقط بقيت واقفة بين ذراعيه بلا رد فعل،كأن جسدها هناك،أما روحها فقد انسحبت إلى مكان بعيد، نظرت إلى والدتها وعيناها تنطقان بكل شيء لم تقله،ثم قالت ببساطة بصوت خافت مبحوح من التعب:

“عايزة أطلع أنام يا ماما.”

كانت الكلمات قليلة،لكنها سقطت على والدها بثقل لم يتوقعه،كأنها صفعة صامتة أيقظته من وهم اللحظة، أدرك من برودها،من ذلك العناق الذي لم يُردّ،ومن نبرتها الخافتة التي تحمل أكثر مما تقول،أنه جرحها…جرحًا عميقًا لن يُشفى بكلمة،ولا بحضن متأخر.

تألم بصمت،كمن يعي تمامًا أن الندم لا يكفي.

تدخل سامي حينها،صوته هادئ لكن حازم،كأنه أراد أن يخفف وقع الموقف على الجميع وخصيصاً على أخته:

“خديها يا ماما ترتاح…اليوم كان صعب أوي عليها.”

أومأت نادية بالإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة،وبدأت بمرافقة فيروز نحو الداخل،ذراعها ملتفة حول ابنتها،تخفي بها كل الانهيارات الصغيرة التي لا يجب أن يراها أحد.

في تلك اللحظة،نظر سامي إلى زوجته،لم يقل شيئًا فقط رمقها بنظرة واحدة،لكنها كانت كافية،فهمت ما يريده تمامًا من خلالها،فأخذت الصغير من بين يديه برفق،وبدون كلمة صعدت مع الآخرين،تاركة خلفها هدوءًا مقصوداً..هدوءًا ما كان إلا تمهيدًا لمواجهة لم يكن منها مفر.

وقف سامي للحظة في مكانه،يرمق والده بنظرة طويلة خالية من الانفعال، لكنها ليست فارغة..كانت تحمل ما يكفي من التراكمات والعتاب الصامت،ذلك النوع من النظرات الذي لا يحتاج إلى صوت ليكون مسموعًا.

ثم سار بهدوء،دون أن ينبس بكلمة،وتوجّه نحو شقة الضيافة التي يسكن فيها والده منذ عودته،دخل وترك الباب مواربًا خلفه،لا دعوة صريحة…ولا إغلاقٌ في وجهه.

تردد الأب لوهلة،كأن قدميه أصبحتا أثقل مما يحتمل، نظر نحو السلم حيث اختفت ابنته،ثم أعاد عينيه إلى باب الشقة المفتوح،وكأن الخيار الوحيد الآن هو المواجهة.

زفر ببطء ثم تبع ابنه،عبر العتبة بخطوات مترددة، صامتة، إلى الداخل…حيث الكلمات تنتظره،حيث لا مجال للهروب من الحساب.

وقف سامي أمام يحيى،عيناه ملتهبتان بالمرارة والغضب،بينما كانت نظراته متصلبة، متجمدة وكأن الزمن توقف لحظة أمام هذه المواجهة، جدران الشقة المحيطة بهما أصبحت تحمل بين طياتها صمتًا يثقل الهواء، وصوت كلماته هو الصوت الوحيد الذي يملأ المكان الآن.

فتح والده فمه أخيرًا ليقول الكلمات التي طالما انتظر سامي سماعها،لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن تلك الكلمات ليست كافية،ولن تكون كافية أبدًا بعد الأن:

“أنا أسف يا سامي بس أنا…”

لم يكن مستعدًا لقبول اعتذاره،لم يكن مستعدًا لاستماع كلامه بعد كل ما جرى، بادره بنبرة مستنكرة حادة،وكأن الكلمات التي قالها كانت تحمل أوجاع سنوات:

“أسف!! أنت بتعتذر دلوقتي بجد؟؟ يعني بتعترف إنك غلطان؟”

ضحك ضحكة مليئة بالسخرية،ضحكة تعكس مدى الألم الذي يحرقه ثم تابع كلامه بنبرة ملؤها الندم والمرارة:

“بس بعد إيه؟ ويفيد إيه الاعتذار ده بعد اللي حصل؟ مالوش لازمة. ياريته يفيد، ياريته يقدر يصلح اللي انكسر…لكن للأسف صعب..بل مستحيل.”

تحول وجه سامي فجأة إلى وجه صارم، مليء بالغضب الشديد، وعيناه تتألقان بالحزن والتحدي في آن واحد، كان حالة شقيقته لاتغادر عقله فكان صوته يحمل نبرة قاسية، ومع ذلك،كانت الكلمات التي تخرج منه مليئة بكل الألم تجاهها:

“بس بقى مستحيل كلمة زي دي تدواي جروح أختي؟ تخليها تنسى اللي حصلها؟ تخليها تسامحك؟ وأنت جاي بكل بساطة تقول أسف؟ وأنت أصلاً ما تعرفش هي مرت بإيه! ما تعرفش حصلها إيه!”

توقف للحظة،وكأن الكلمات لم تعد كافية،وكأن ما كان في قلبه يحتاج إلى أن ينفجر دفعة واحدة، ثم تابع وعيونه تلمع بالغضب والانفعال:

“ما تعرفش إني واحد مجنون كان عايز يتجوزها غصب وأخدها كحق امتلاك! وكان هيقتلها قدامنا كلنا لولا ستر الله…كنا هنخسرها…كنت هخسر أختي…بسببك! بسبب اختياراتك السوبر اللي طول الوقت بتتباهى بيها! بس برافو،حقيقي برافو،تفوز وبجدارة بلقب أسوأ..أب ياأستاذ يحيى!”

كانت كلماته تقطع في قلب والده مثل السكاكين،ولكنه لم يتوقف بل أضاف بحدة أكثر وكأن كل كلمة كانت دليلاً على فشل والده:

“طول عمري كنت شايفك زوج فاشل،زوج ما قدرش يحافظ على عيلته ودمرها بإيده،والنهاردة أثبتلي إنك كمان أب فاشل،أب ما قدرش يحافظ على بنته وكان هيسلمها لواحد مجنون لمجرد إنه شافه زيه،طموح..ذكي وأكيد غني..وما لاحظتش إنه مجنون، مختل!”

كان صوته يزداد انفعالًا،وكل كلمة خرجت منه كانت تجسد سنوات من الألم والصراع الداخلي،وألم على شقيقته ماوصلت له.

تقدم يحيى خطوة نحوه،ووجهه مليء بالندم والاعتذار كما لو كان يحاول الدفاع عن نفسه في وجه هذا السيل الجارف من الاتهامات،ثم قال بصوت عالي:

“والله العظيم ما كنت أعرف إنه كده،لو كنت أعرف مكانتش هخليه يقرب منه.”

لم يكن الأخير مستعدًا لسماع أي مبررات،لم يعد يهمه شيء مما يقوله يحيى، رفع يده في حركة حاسمة،ووقف ثابتًا في مكانه،ليمنعه من الاقتراب منه أكثر،قبل أن يهتف بصوتٍ جافٍ،محمل بكل الألم الذي يعانيه:

“مش عايز أسمع مبررات،علشان أنا عارف أصلاً انت هتقول إيه،فملهاش لازمة…أنا دلوقتي مش قادر حتى أبص في وشك،مش بس أسمعك…مش قادر.”

ابتلع ريقه بغصة ثقيلة ثم بحركة تلقائية رفع يديه ومسح عينيه المملوءتين بالدموع،في محاولة يائسة لإخفاء مشاعره، ثم نظر إلى والده،بنظرات مليئة بالقوة والحزم هذه المرة،وقال:

“أنا هطلب منك طلب واحد بس،هيكون آخر طلب أطلبه منك،وهبقى ممتن ليك جداً لو نفذته…”

توقف لحظة ثم أكمل بنبرة قاطعة،كانت أقوى من أي شيء آخر، كأنها الصرخة الأخيرة:

“امشي…ارجع لمكان ما جيت،سيبنا نعيش براحتنا وامشي…ابعد عننا وسيبنا نكمل حياتنا…امشي.”

كانت كلماته قاطعة، صريحة، لا مجال للرد عليها،كأنها حكم نهائي لا رجعة فيه، كانت هذه النهاية بالنسبة له، نهاية هذا الجدال تمامًا،نهاية الحديث وكل ما يمكن أن يقال.

وما هي إلا ثوانٍ معدودة تبادلا فيها النظرات في صمت،كان سامي يترك المكان تامًا عزمه،تاركًا والده غارقًا في صدمته وندمه،وحيدًا مع قراراته التي ندم على اتخاذها،وعجزه عن تحمل عواقبها.

كان كل شيء قد انتهى،ولم يعد هناك مجال للتراجع أو لتغيير ما حدث..مع الأسف.

________________

_

ولج إلى شقته _برفقة زوجته_ بخطوات ثقيلة،جسده منهك وروحه أكثر،يحمل بين ذراعيه الصغير النائم الذي لم يشعر بشيء مما دار حوله، أغلق الباب خلفه بهدوء كأنه يخشى أن يوقظ شيئًا آخر غير الطفل…شيئًا في داخله لم يخمد بعد.

توجه إلى غرفة الصغير،وأراح جسده المنهك على أطراف أصابعه وهو يضعه في سريره بلطف، غطّاه ببطانية خفيفة ثم انحنى عليه يقبّل وجنته الناعمة،بينما يمرر أصابعه بين خصلاته بخفة.

خرج من الغرفة بعد أطفأ الأنوار ليجدها واقفة قرب الباب،لم تتكلم في البداية…فقط كانت تراقبه،تشهد تلك اللحظة  بعينٍ ممتلئة،ثم قالت بصوت خافت:

“أعملك حاجة تاكلها؟ أنت ما أكلتش حاجة من الصبح…”

تنهد سامي بصوت متعب، كأن الكلمات تتسرب من داخله بثقل:

“ماليش نفس…هدخل أستحمى وأصلي العشاء علشان فاتتني،وبعدها هاأنام…أنتِ كلي حاجة،واعملي ليزيد كمان…لما يصحى أكيد هيكون جعان.”

أرادت أن تجادله،أن تطلب منه أن يأكل…لكنها رأت في عينيه ما يكفي ليجعلها تصمت…ذلك الصمت الذي يُقال فيه كل شيء ولا يُقال فيه شيء.

هزّت رأسها بخفة،وراقبته وهو يتجه نحو غرفته،يتوارى خلف الباب،وينعزل مع حزنه ووجعه،كأنه يغلق على نفسه العالم وما فيه.

رافقت خطواته بنظراتها،بصمت…وبحزنٍ،لأجله وعليه.

دخل هو الغرفة بخطوات متثاقلة،كأن الأرض تشدّه إليها بثقل ما يحمله في صدره، اتجه نحو الخزانة بآلية،فتحها بهدوء وأخرج منها بعض الثياب المنزلية،لم يكن في الأمر شيء مميز سوا بطء حركته،كأنه يهرب من مواجهة شيء ما…أو ربما يختبئ من كل شيء.

أغلق باب الخزانة وكأن صدى إغلاقه اختزل صخب يوم بأكمله،ثم التفت نحو السرير ووضع الثياب عليه بعناية عابرة قبل أن يجلس بجانبها،كأن روحه المنهكة تستند إلى طرف الفراش كما لو أنه طوق نجاة في بحر متلاطم من الذكريات الثقيلة.

انحنى بجسده قليلاً ونكس رأسه نحو الأرض،حدق في اللاشيء بعينين غائمتين كأنما يبحث عن معنى في الفراغ،شرد ذهنه بعيدًا…إلى حيث الألم،وإلى اليوم الذي نقش جراحه في أعماقه كأبشع ما مرّ به.

تنهد بعمق،كان الزفير كأنما يحمل رماد قلبه ثم دفن وجهه بين كفّيه،يتوارى عن العالم، ويتقوقع داخل دائرة من الحزن والخذلان،بينما راح يستعرض مشاهد هذا اليوم تفصيلةً تفصيلة وكأنها مشاهد من فيلم مقيت يُرغَم على مشاهدته مرارًا.

وفجأة،وسط عتمة شروده،أحس بيد دافئة تمتد نحوه…يدٌ ربتت على كتفه بلطف،لم تكن فقط لمسة بل كانت عزاءً.

ارتعش قلبه من دفء العاطفة التي تسللت إليه في لحظة انكساره،رفع رأسه ببطء ليجدها هناك..إلى جواره،قد جلست بصمت دون أن يشعر بوجودها…دون أن تنبس بكلمة،فقط كانت


حاضرة


،

لم تتركه يغرق وحده بل جاءت لتكون ضوءًا في عتمته،وسكونًا في عاصفته.

طالَعها مطولًا،كأن كل ما في الغرفة قد اندثر،كأن الزمان توقف،وكأنها وحدها الحقيقة الباقية في عالمٍ يتداعى.

عيناه عالقتان بها،يتأمل قسمات وجهها بصمت،كأنها طوق النجاة الذي ظهر فجأة وسط محيط يبتلعه،لم تكن الكلمات ضرورية فالنظرات وحدها كانت تتحدث…تنقل وجعًا لم يُنطق،واحتواءً لم يُطلب.

مرّت ثوانٍ ثقيلة،صمتٌ كثيف سكن المكان،حتى قرر هو أخيرًا كسره،بصوت اختنق داخله قبل أن يصل إليها…همس بالكاد سُمع،لكنه وصلها بكل ما فيه من وجع:

“أنا تعبان…تعبان أوي.”

تلك الكلمات رغم بساطتها،انكسرت داخلها كزجاج هش..لم تنتظر، لم تفكر، فقط اندفعت نحوه وكأن قلبها قادها دون استئذان، جذبت جسده إليها، احتضنته بقوة، وضمّت أوجاعه بين ذراعيها كما لو كانت تقدر أن تُلغيها بعناق.

لم يكن مجرد حضن…بل كان وطنًا.

لفت ذراعيها حوله كما لو كانت أمًّا لطفلها العائد باكيًا من يوم طويل، مسحت بيدها على شعره بحنان دافئ،حنان لا يشبه شيئًا سوى تلك اللمسة التي تجمع بين حنو الأم،ووفاء الزوجة،وصدق الرفيقة،كانت هي هناك في تلك اللحظة… بكلها له.

ومع مرور ثوانٍ أخرى من الصمت،لم تكن فيها إلا أنفاسٌ متقاطعة وهمسات قلبين يجمعهما الوجع،خرج صوته أخيرًا…مبحوحًا، متحشرجًا، كأن الكلمات تُسحب من حنجرته بالقوة،مثقلة بثقل الذكريات:

“كنت فاكر إني عديت بأسوأ يوم في حياتي…كنت فاكر إن مفيش حاجة هتكون أسوء من اليوم اللي اطلقوا فيه أهلي…بس النهاردة…النهاردة بس،اتأكدت إني كنت غلطان.”

سكت لحظة،وكأن قلبه توقف لوهلة ثم أكمل بصوت متهدج،مخنوق بالخذلان:

“الدنيا دي؟ ما تتأمنش…كل مرة تفتكر إنك عدّيت،تلاقيها بتسحبك من رجليك وتعيشك في أسوأ من اللي قبله..أسوأ مما ظنيت إنك ممكن تحتمله.”

كلماته لم تكن مجرد حروف بل كانت جراحًا مفتوحة تنزف،سنوات من الصبر تنفلت أخيرًا من بين شفتيه،ليس طلبًا للعزاء بل لأنه لم يعُد قادرًا على حملها وحده،كان كل ما يملكه في تلك اللحظة هو حضنها…هو صمتها الذي يفهم،ودفؤها الذي لا يُشبه شيئًا في هذه الدنيا الغادرة.

ابتعد عنها قليلًا،كأن قربها صار مرآة تعكس هشاشته دون رحمة،تعريه من كل قناع اعتاد أن يضعه ليبدو صلبًا أمام الجميع، رفع يده ومسح وجهه بكفٍ مرتجف كمن يحاول طرد آثار الانهيار،لكنه يدرك في قرارة نفسه أن الانكسار هذه المرة قد وصل العمق،حيث لا يُجدي المسح ولا الصمت.

ثم نطق بصوتٍ مخنوق،صوتٍ يشبه شهقة كُتمت طويلًا حتى انفلتت أخيرًا:

“أنا…أنا النهاردة بس حسيت بكسرة،كسرة وجعتني في قلبي،في رجولتي،في روحي كلها…لما وقفت عاجز…لما وقفت عاجز وماعرفتش أساعدها..ولا لما اتخطفت ولا لما كانت هتتأذي..وقفت عاجز وأنا شايف عينيها بتنطفي،ونفسها بتتكسر قدامي.”

توقف للحظة والتقط أنفاسه بصعوبة،ثم ابتلع ريقه كمن يبتلع مرارة لا تنتهي،وتابع بصوت مرتجف:

“فيروز اتكسرت..واللي كسرها مش غريب…اللي كسرها…هو أبونا،أبونا ياليلى.”

نكس رأسه فجأة،كأن كتفيه لم يعودا قادرين على حمل ما ينوء به صدره،وكأن ما قاله للتو لم يكن إلا غيضًا من فيض،خذلانًا متراكمًا منذ سنين، لم يكن ما يسكن صوته غضبًا بل وجعًا قديمًا،وجع من نوعٍ خاص…ذلك الذي لا يأتي من غريب بل من شخصٍ كان يُفترض به أن يكون حصنًا، ظهرًا، أمانًا، فإذا به أول من دفعهم نحو السقوط.

زفر بثقلٍ كأن صدره ضاق بحمله، ثم همس وعيناه ما زالتا مشغولتين بالأرض:

“أبونا…أبونا اللي عمره ماكان أب لينا.”

رفع رأسه مجددًا،ونظر إليها نظرة تحمل طبقاتٍ من الألم والكتمان، ثم أكمل وكأن كل كلمة تخرج منه تنزع معه قطعة من ذاكرته:

“الراجل اللي حتى وهو موجود جنبنا،حرمنا من أبوته،حرمنا من حنانه،الحاجة الوحيدة اللي اديهالنا كانت الأوامر…كان بس يقولنا اللي عايزه يتنفذ،يقولنا اللي لازم نعمله من غير نقاش،لأنه دايمًا صح،دايماً عارف مصلحتنا أكتر مننا،دايماً معاه حق،دايماً اختيارته صح وعمره ماغِلط،عمره ماشاف نفسه غلطان حتى لو كل الناس غلطته…علشان هو بإختصار…أناني.”

هز رأسه في حركة خفيفة موافقًا نفسه،مؤكدًا حقيقة يعرفها منذ زمن:

“آه أناني،كلنا عارفين إنه كده إلا هو..هو طول عمره شايف نفسه مثالي،راجل مثالي،زوج مثالي،أب مثالي،هو أيقونة في المثالية ومالوش شبيه.”

رفع يده بتعب،وفرك عنقه كأن الذكرى تخنقه،وكأن الكلمات تعلق في حلقه فلا تخرج إلا جافة موجعة:

“النهاردة بس جاي يعترف بغلطه،يعترف إنه إنسان زينا عادي،وبيغلط…بس بعد ما دفعنا كلنا التمن،بعد ما أختي دفعت تمن اختياراته…غالي.”

هز رأسه نفيًا،نفي من يتمنى لو أن الزمان كان أرحم،أو أن الأبوة كانت أقل قسوة ثم تمتم بنبرة منهارة:

“ياريته فاق قبل ما كل ده يحصل،ياريته فاق وعرف يكون أب لينا…ياريته.”

ابتلع ريقه بصعوبة،وكأن طعم الذكرى ما زال عالقًا في فمه كالعلقم،ثم مرر كفه على عينيه،يمسح ما علق بهما من إرهاق وندم،قبل أن ينظر إليها مرة أخرى،وهذه المرة كان في عينيه بوحٌ مختلف،شيء كُتم طويلًا ولم يُقال قط:

“تعرفي؟ في موقف حصل زمان،لحد دلوقتي فاكره…وعمره مانستهوله.”

تنهد بثقل،زفرة طويلة خرجت من صدرٍ أثقلته الذكريات، ثم غامت عيناه قليلًا وهو يسترجع تلك اللحظة البعيدة، كأنها تُعرض أمامه كشريط باهت لكنه ما زال حادًا في طعنه، راح يسردها لها بصوتٍ متحشرج كأن كل كلمة تجر معها وجعًا لم يُداوَ:

“لما كان عندي ١٢ سنة،اتخانقت في المدرسة،في ولد أكبر مني ضايقني وشتمني بوالدتي،فأنا اتعصبت وقتها وضربته،فمسكنا في بعض أنا وهو وواحد صاحبه،المهم أخدونا وقتها على مكتب المديرة،وعملونا استدعاء ولي أمر…استنينا ساعة واتنين ومحدش جه…خالص،مفيش غير أهل الأولاد التانيين،ووالدي أنا…لأ”

صمت لحظة، كأن الصدمة القديمة ما زالت تتكرر في صدره،وكأن مشهد الانتظار الطويل لم يبرح ذاكرته ثم تابع بصوت أضعف:

“استغربت،فروحت للمدرس اللي معاه رقمه،واللي كان المفروض يتصل بيه علشان ييجي،سألته وقلتله حضرتك ما اتصلتش ببابا ليه؟؟سكت شوية،وبعدين قالي…أنا اتصلت بيه،وحكيت له اللي حصل وطلبت منه يحضر،بس هو قالي إنه مشغول ومش هيعرف ييجي،وقالي أقولك إنك تعتذر وخلاص،وكلامه معاك هيبقى في البيت لما ترجع.”

توقّف،كأن الكلمات خانته أخيرًا أو كأن الحزن المتراكم منذ ذلك الموقف قد التفّ حول عنقه ومنعه من الاسترسال، مرت لحظات من الصمت،لا يسمع فيها سوى صوت أنفاسه المتثاقلة، ثم مدّ كفه من جديد، مسح وجهه كأنّه يزيل غبار الذكرى قبل أن يُكمل بصوتٍ منخفض يجر خلفه خيبة عمر:

“الفكرة هنا مش بس إنه ماجاش،وإنه كان فاكرني غلطان فعلًا،وماكنش واثق فيا…”

اهتز صوته هنا قليلًا،كمن يحاول أن يتمالك ذاته وهو يُكمل:

“الفكرة إني لما روحت واستنيته…استنيت حضرته لحد ما رجع من الشغل…ماكلمنيش..ماجابش سيرة الموضوع أصلاً..مش عارف بقى إذا كان نسى غصب عنه،ولا تجاهله قصداً…مش عارف.”

أسند ظهره قليلًا،وعيناه مثبتتان على نقطة وهمية في الأرض،كأنه يرى الطفل الذي كانه وقتها واقفًا على باب الانتظار يترقب أبًا لا يأتي.

“اللي أعرفه إن من اليوم ده،وبسبب الموقف ده..بطلت أتخانق مع أي حد،علشان ماأضطرش أتحط في الموقف تاني..ماأضطرش أستنى حد…مش فاضيلي.”

كانت تلك الجملة الأخيرة_رغم بساطتها_تحمل كل شيء…الوجع، الخذلان، والأثر الذي ظل عالقًا في نفسه منذ الطفولة،كندبة لا تراها العيون لكنها تحكم قبضتها على القلب كلما اقترب منها الزمن.

ومع لحظة صمت ثقيلة،مسح الدموع التي تجمّعت حول مقلتيه بكف مرتجفة،كما لو كان يحاول إخفاء انكسارٍ لا يجوز له أن يُرى، ثم رفع رأسه ببطء وبصوتٍ مبحوحٍ خرج من مكانٍ بعيدٍ جدًا بداخله، قال:

“بس أنا مش بكرهه،والله العظيم مابكرهه…ده في الأول وفي الآخر أبويا…أنا بس زعلان منه…زعلان منه أوي…”

وفي نهاية الجملة،ارتجفت نبرته،وتحولت تدريجيًا إلى نبرة باكية،نبرة طفلٍ صغير لم ينَل حنان أبيه يومًا،لكنه ظل رغم كل شيء…يُحبّه،ويشتاق إليه،ويتمنى فقط لو كان مختلفًا.

سكنت مكانها للحظة،لم تُجبه بكلمة،فقط نظرت إليه نظرة ممتلئة بوجع لم يُنطق،لكنها شعرت به في كل حرف تفجّر من صدره،كانت عيناها تراقبه كمن يرى جرحًا ينزف أمامه ولا يعرف كيف يوقفه،لكنها تعرف تمامًا أنها لن تتركه ينزف أكثر.

مدّت يدها ببطء،بحذر الأم التي تخشى أن يفرّ منها طفلها،ثم أمسكت بكفّه الدافئ المرتجف،وشدّته نحوها من جديد،وكأنها تقول له دون كلمات:

أنا هنا، وسأبقى هنا.

وبمجرد أن شعر هو بلمستها،كأن شيئًا داخله انكسر مرة أخرى،لكنه هذه المرة انكسر ليرتاح، ليتكئ، ليفرغ ما تبقّى.

رفع كفه الآخر ومسح بها عينيه الدامعتين ثم قال بصوت باكٍ، خرج مبلولًا بالحزن والرجاء:

“تعرفي إيه اللي مش عايزه يحصل؟مش عايز أبقى شبهه في يوم…مش عايز حد يشبهني بيه..عايز أكون زوج كويس،وأب كويس،عيلته تحبه وما تستغناش عنه…

طفل..

والله،كانت تقسم أنها ترى طفلًا يتألّم أمامها الآن.

الدموع التي انسابت دون إذن،رجفة يده، النظرة البريئة في عينيه…لم تكن لرجل،بل لطفلٍ كُسر حين لم يجده أبوه،وما زال يبحث عن معنى للأمان.

رفعت كفّها ببطء،وكأنها تتعامل مع وجعه ككنز هشّ لا يُمسّ إلا بلُطف،ثم مسحت بها على خده،بحركةٍ حانية لا تبحث عن تجفيف دموع بل عن تضميد قلبٍ أنهكته الأحمال،لم تكن تُمسح دمعةً فحسب…بل تُمسح معها عجز، وخوف، وذكرى قديمة توشك أن تتحول إلى عقدة.

ثم همست بصوتٍ ناعم،لكنه مملوء بيقينٍ يُربّت على روحه المرتجفة:

“إنت مش هتكون…إنت بالفعل أحسن وأحنّ زوج وأب تشوفهم عينيّا يا سامي…والله العظيم إنت أطيب راجل تشوفه عيني،واللي ربنا بعتهولي علشان يعوضني أنا وابني عن كل اللي حصلنا..إنتَ مفيش زيك والله…ولا في زي طيبة قلبك،كفاية بس إنك لسه بتحبه رغم كل اللي عمله.”

وضعت يدها الأخرى فوق كفّيه كأنها تُشيد جدارًا من الطمأنينة حوله، تُحيطه بكل ما تملكه من دفء، ثم تابعت وصوتها ينساب في صدره كأنها تُنثر فيه الأمل قطرة قطرة:

“أنا عارفة إن اللي حصل مش سهل على أي حد،وبالذات على حد زيك…حد كل اللي عايزه من الدنيا الراحة،عايز يرتاح،وعايز اللي بيحبهم يرتاحوا.”

سكتت لوهلة ثم ضغطت على كفه برفق وأكملت:

“بس معلش…احنا لازم نعدي بفترات زي دي في حياتنا،بس لازم نصدق إنها هتعدي،هتعدي وهتبقى مجرد ذكرى..آه هنتألم كل ما نفتكرها…بس برضه في غيرها لما نفتكرها هنضحك…هي دي الدنيا.”

طالعها بعينين دامعتين،عيون تحكي الكثير…عن الخذلان، عن الإنهاك، عن ألم السنين، لكن وسط كل ذلك كان فيه حب واضح، نقي، يشعّ من نظراته لها كأنها النجاة الوحيدة وسط كل غرقه.

ثم نطق بصوت متقطع، كأن كل حرف محتاج قوة لكي يخرج:

“احتضنيني يا ليلى…ممكن تحضنيني؟”

ابتسمت من بين دموعها،ابتسامة صغيرة لكنها دافئة،وهمست بصوت فيه لمعة من الحب:

“كنت لسه هطلب ده منك.”

ولم تحتج إلى كلمة إضافية…

كانت ذراعاها قد سبقتا الكلمات،كأن جسدها فهم وجعه قبل أن يُفصح عنه،فاحتضنته بقوة،بقوة من يعرف أن هذا العناق وحده قد يُرمم شيئًا تصدّع في أعماقه.

شدّت ضمته إليها،لا لتواسيه فقط بل وكأنها تُحاول أن تجمع شتات قلبه بداخلها، كأنها تخشى أن يتفتت بين يديها إن تركته ينهار وحده، وكأنها تحميه من نفسه، من الألم، من الذكرى.

وفي قلب ذلك العناق،انساب صوته كهمسٍ هشّ لكن صادق، كأنه يعترف بحقيقةٍ لا تحتمل الإنكار:

“أنا بحبك…بحبك أوي يا ليلى.”

ساد الصمت…

لكن صمتها لم يكن ترددًا،بل لحظة التقطت فيها مشاعرها المتراكمة،حاولت أن تُهدّئ قلبها الذي انتفض تحت وقع كلماته.

ثم بعد برهة،خرج صوتها..خافتًا،لكن فيه صدق امرأة وجدت في حبه خلاصها:

“وأنا كمان…وأنا كمان بحبك يا سامي.”

وقد يكون الحب أحيانًا دواءً للجروح…

لا يمحو الألم،لكنّه يُعيد تشكيله بلطف…

يضمّد الشقوق،يُرمم الكسور،ويمنح القلب سببًا جديدًا للنبض…

نبضًا لا يصدر عن حياة فحسب،بل عن من أحبّ حقًا،واحتوى دون أن يطلب شيئًا.

_________________

خمسة عشر ساعة ويزيد…خمسة عشر ساعة من الخوف،والقلق، والإرهاق، واحتراق الروح على الحبيبة.

ساعات ثقيلة مرّت عليه وكأن الزمن توقّف عن الحركة،وكأن أنفاسه كانت معلّقة برقّة أنفاسها…لا تهدأ حتى تطمئن.

والآن،بعد أن مرّت العاصفة وهدأت الأصوات من حوله،جلس أخيرًا في غرفته،فوق فراشه،في عزلةٍ لا يقطعها سوى وهج الشاشة الخافتة أمامه.

كان ممسكًا بحاسوبه،يحاول أن ينجز بعض الأعمال،لا رغبة منه في العمل بل محاولة للهروب من تلك الأفكار التي تنهش عقله كلما هدأ الصخب.

كانت بخير الآن، في أمان…نعم،لكنّه كان يعلم في قرارة نفسه أن شيئًا ما قد انكسر،ولن يعود كما كان بسهولة..لا هي ستعود كما كانت،ولا هو…على الأقل ليس بسهولة.

تخطي ما حدث لن يكون خطوة عابرة،بل طريقًا بأشواك طويلة،ووجعٍ خافت لن يفارقهم بسهولة.

زفر بقوة،كأن في صدره رمادًا يتراكم،ثم أغلق الحاسوب ببطء،نهض من مجلسه متثاقلًا،خطواته ليست بكسل بل بثقلٍ يسكن روحه.

خرج من غرفته وسارت قدماه به نحو الشرفة،تلك التي تُطلّ على غرفتها،كان يعلم أنها ليست هناك،يعلم أنها الأت في سريرها تقبع بين أحضان والدتها،لكن قلبه أراد أن يأتي إلى هنا…إلى أقرب نقطة منها.

وقف هناك،يطالع الشباك المغلق، غير مبالٍ بنسمات الخريف الباردة التي تضرب وجهه ولا بذلك السكون الثقيل الذي يلف المكان مع تأخر الوقت.

كل شيء ساكن حوله،إلا قلبه…كان كعاصفة صامتة،تمزق صدره ولا تُحدِث صوتًا.

أخرج موسى هاتفه من جيب بنطاله،نظر إلى الساعة،التي الثالثة والربع صباحًا.

مرر إصبعه على الشاشة حتى وصل إلى الاسم الذي يريده.

ضغط زر الاتصال،وثوانٍ مرت وهو لا يسمع سوى الرنين..ظن أنها نائمة،وهمّ بإنهاء المكالمة،لكن قبل أن يفعل،جاءه صوتها، هادئًا مرهقًا، لكن فيه من الحنو ما يهدّ الجبال:

“أيوه يا موسى يا بني.”

كانت نادية…

تلك التي نهضت بحذر من جوار ابنتها حتى لا توقظها،وابتعدت قليلاً لتتحدث مع موسى بصوت خافت.

فقال مباشرة،كأن السؤال اختنق في صدره طويلًا:

“هي عاملة إيه دلوقتي يا خالتي؟”

نظرت نادية نحو فيروز،نظرة أمٍ انكسر قلبها ألف مرة على ابنتها،نظرة تحمل في طياتها خوفًا دفينًا ووجعًا ثقيلًا لا تقدر الكلمات على وصفه، ثم قالت بصوت خافت، متهدّج بأسى لم تحاول أن تخفيه:

“الحمد لله…نامت،رفضت تاكل للأسف،وكانت عايزة تنام بس…قامت كام مرة مفزوعة يا حبة عيني،تصحى تبص حواليها كأنها تايهة،بس دلوقتي نايمة…ربنا يهون عليها،ويهون عليك يا بني.”

صمت موسى من الجهة الأخرى،وصمته كان أشبه بصوتٍ عميق لا يُسمع،لكنه يُحسّ…صمت كأن الكلمات تجمّدت في حلقه،وكأن قلبه نفسه لا يجد طريقة للتعبير عمّا ينهشه.

شعرت نادية بكل ذلك دون أن تحتاج لسماعه،فقالت له برفق أم تُداوي ابنها كما تداوي ابنتها:

“ما تقلقش عليها يا بني،هتبقى كويسة وهترجع أحسن من الأول إن شاء الله،بس شد حيلك علشان تشد هي كمان حيلها،يلا روح نام وريح جسمك،إنت تعبت أوي امبارح.”

نكس موسى رأسه قليلًا،كأنّه يهرب من مواجهة نفسه،ثم ابتلع ريقه بمرارة وقال بصوت مبحوح،واهنٍ:

“ابقى طمنيني عليها.”

“حاضر.”

“تصبحي على خير.”

“وأنت من أهله يا حبيبي.”

انتهت المكالمة لكن الألم لم ينتهِ،أغلق موسى الهاتف وأعاده إلى جيبه،ثم رفع عينيه مجددًا إلى شرفتها،يطالع النافذة المغلقة وكأنّه يبحث عن ظلّها وراء الزجاج،عيناه كانتا تمتلئان بالحزن، يشوبه شيء من الأسف،وشيء من الرجاء، والكثير من الحب الصامت.

وفي الداخل،داخل تلك الغرفة التي يتوق للوصول إليها،كانت نادية تعود إلى الفراش،

اقتربت من ابنتها، واستلقت بجوارها،ربتت على كتفها بحنان،كأنها تقول دون كلام:”أنا هنا،ما تخافيش.”

ظنت أنها غارقة في نومها،لكن فيروز كانت مستيقظة،تسمع وتعي،وتشعر بكل شيء.

سمعت الحديث كله…كل كلمة،كل تنهيدة،وكل نبرة شوق في صوته.

ويا للمفارقة…

لم يحظَ أي منهما بالنوم..الليل مضى ثقيلًا على كليهما،وأعينهما بقيت ساهرة،حزينة،وقلوبهما مجروحة،مفطورة،معتمة…كسماء تلك الليلة التي غاب عنها القمر.

_________________

“بعد يومين”

كان واقفاً في شرفة غرفته كأنما الزمن قد توقّف عنده،يطالع الطريق الممتد تحته بعينين غائمتين لا تحملان أي شغف،كأن لا شيء في هذا العالم يعنيه حقاً.

السيجار بين إصبعيه كان يشتعل ببطء،ينفث منه سحب الدخان الثقيلة بهدوء تام،وكأنها عادة قديمة التصقت به،لا يبتغي منها لذة بقدر ما هي مهربٌ صامت من ضجيج أفكاره في تلك اللحظة تحديداً.

وخاصة عندما أتت هي في خاطره،كعادتها كلما خلا لنفسه في الآونة الأخيرة، لم يحتج الأمر لوقت طويل بل لمحة واحدة من وحدته كفيلة بإحياء صورتها في عقله،وكأنها تسكن هناك دون إذن أو رحيل..وللحقيقة،هي لم تغب عنه لحظة منذ ذلك اليوم…

كانت ملامحه ساكنة،جامدة،تحمل لا مبالاة متقنة،كأنما صُقلت بهذا الجمود على مهل،فقط ينفث الدخان من فمه وأنفه،يراقب الطريق في الأسفل بصمت، على النقيض التام من الضجيج المشتعل داخل عقله…

لكن فجأة،قطع ذلك الصمت صوت رنين هاتفه يتسلل من الداخل، رمش ببطء كمن يعود من حلم يقظة ثقيل ثم أطفأ السيجار بحركة معتادة على سور الشرفة وولج إلى الغرفة.

اتجه نحو المنضدة بجوار الفراش والتقط الهاتف بنظرة عابرة على الشاشة ثم أجاب بصوت خافت لكنه واضح:

“ألو يا زيزو…”

وصله صوت عزت عبر السماعة يحمل سعادة خفية:

“صباح الخير يا كارم.”

“صباح النور…خير؟؟”

جاءه الرد سريعاً،أكثر حيوية مما توقع:

“خير وخير أوي كمان.”

ضيق كارم عينيه،وبدأ الشك يتسلل إلى صوته فسألع:

“إيه؟ اتحكم عليا بكام سنة؟”

رد عزت مستنكراً:

“هيتحكم عليك إزاي يا بني من غير ما تحضر؟ جلسة المحكمة المفروض أصلاً بعد بُكرة وأنت عارف،هيطلع الحكم قبلها إزاي؟”

رد كارم بسخرية لاذعة:

“جايز يطلع واسطة،الدنيا دي مابقتش أمان.”

تنهّد عزت من الطرف الآخر ثم قال:

“مش هرد عليك،علشان أنا مانمتش طول الليل بسبب على،وماعنديش خلق لفزلكتك دي خالص،فخليني أقولك اللي اتصلت علشانه.”

“اتفضل…سامعك.”

“مفيش جلسة محكمة…علشان مابقاش في قضية.”

تجمّد كارم للحظة،وارتفعا حاجباه باستغراب،ثم نطق متردداً:

“إزاي؟ مفيش قضية إزاي؟”

جاءه صوت عزت مؤكداً:

“زي ما سمعت، سه واصلني الخبر دلوقت…اللي اسمه فَهْمي ده راح وسحب القضية اللي رافعها ضدك.”

“فهمي اللي أعرفه،اللي كسرتله مناخيره،سحب القضية اللي رافعها عليّا؟”

جاءه صوت عزت حاسماً:

“سحبها والله..أنا كمان اتفاجأت لما عرفت زيك بالظبط،وكنت فاكرك هتكون عندك تفسير أو سبب منطقي.”

هزّ كارم رأسه ببطء كأنه غير مصدق لما سمعه:

“تفسير لإيه بس؟ أنا مش مستوعب لسه اللي قلته ومش مصدق…يعني هو هيسحبها ليه بعد اللي عملته فيه؟ ده يطيق العمى وما يطيقنيش.”

رد عزت بنبرة مختلطة بين التعب والاستسلام:

“علمي علمك،اللي أعرفه واللي وصلني قولتهولك،اعرف أنت بقى بطريقتك هو عمل كده ليه… يلا،أنا هقفل دلوقتي علشان داخل المحكمة…سلام.”

“سلام.”

أنهى المكالمة،وبقي الهاتف في يده لبضعة ثوانٍ،ينظر إليه بشرودٍ وكأنما ينتظر أن ينطق ويكمل له الجملة التي لم تُفهم، دارا في رأسه عشرات الأسئلة، ولا شيء فيها له إجابة واضحة.

لكن قبل أن يغوص أكثر في دوّامة أفكاره،رن هاتفه من جديد، ألقى نظرة سريعة على الشاشة،فرأى اسم “محسن” يسطع أمامه،ففتح الخط دون تردد وبدأ المكالمة بنبرة متحمسة لم يستطع كتمها:

“مش هتصدق أنا عرفت إيه من شوية؟؟”

وصله صوت محسن سريعاً،يتساءل بلهفة:

“خير؟”

رد كارم وهو يتحرك خارج غرفته ولا يزال تحت تأثير الصدمة:

“خير يا صاحبي…القضية اتسحبت،والمحضر اتلغى.”

“بجد؟”

أجابه كارم بنبرة جازمة،وفيها شيء من المرح المفاجئ:

“بجد ونص!”

سأله محسن بفضول أكبر:

“طب إزاي؟؟”

توقف كارم عند الباب،ووضع يده على المقبض ثم قال:

“إزاي دي هتستغربها…بص،انزل لي،أنا هستناك تحت،هاحكيلك بالتفصيل..يمكن يبقى عندك تفسير للي حصل ده.”

وبمجرد ما أنهى جملته،فتح باب الشقة بخطوات سريعة،لكنه فجأة تجمّد في مكانه وكأن الهواء قد انقطع من حوله،عيناه اتسعتا وجسده تحجّر بالكامل حين رآها واقفة أمامه تماماً،وكأنها خرجت من ذاكرته لتتجسّد على عتبة بابه.

همس حينها بصوت بالكاد خرج من بين شفتيه:

“ميرنا!!”

#يتبع…

_________________

كتابة/أمل بشر.

لو وصلتوا لهنا  في نجمة حلوة تقدير لتعبي ومجهودي وماتنسوش تقولولي رأيكم وتوقعاتكم.

وايه أكتر مشهد عجبكم في الفصل؟؟

وطبعاً بعتذر عن التأخير بس بجد غصب عني،الواحد مضغوط الفترة دي أوي في الكلية،فاعذروني وادعولي فضلاً.

دمتم بخير…سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق