رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السادس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون (مسار مليء بالتحديات)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
-أحبكِ جدًا وأعرف أن الطريق إلى المستحيل طويل
وأعرف أنكِ ست النساء
وليس لدي بديل
وأني أحبكِ
حين تبكينَ… وحين تضحكينَ
وأحب وجهكِ مشرقًا مثل طفل صغير
“نزار قباني”
********
-سأكون قنديلَ الليالي إن تَعَبْتِ
وأكون ضحكتَكِ الجميلة إن بكيـتِ
”
فاروق جويدة
”
____________
تشنج جسدها للحظة،تملّكها التوتر، والتفت ببطء نحو النافذة،والعتمة ما زالت تملأ الغرفة. ثبتت عينيها على اتجاه الصوت،كأنها تحاول أن تسبق خطواتها بفهم ما يجري.
لم يدم ترددها طويلًا، فقد نهضت من على الفراش بخطى مترددة، ألقت بطرف الغطاء عن جسدها،والتقطت حجاب رأسها ووضعته بشكل غير مهندم لكنه يفي بالغرض،ثم تقدّمت ببطء نحو الشرفة…
كانت خطواتها خافتة، خجولة، كأنها لا تريد إزعاج الصوت ذاته،امتدت يدها ببطء إلى الستارة الثقيلة،وقلبها يدق في صدرها بقلق لم تفهم مصدره،حتى إنها كادت تسمعه أعلى من الصوت الآتي من الخارج.
وأخيرًا،بعد لحظات بدت كأنها دهر،أزاحت الستائر بحذر،ودفعت النافذة لتفتحها على اتساعها،وإذا بعينيها تقعان على مشهد لم تتوقعه..
شهقت بصوت خافت،وانقبض وجهها في ذهول،واتسعت حدقتاها حتى كادتا تفضحان كل ما في صدرها من قلق ودهشة،ثم خرج همس من شفتيها بالكاد سمعته:
“موسى!”
كان هو، نعم هو…يقف أمامها،يقف وكأن الأرض لم تمس قدمه، كما لو أنه خرج من أفكارها ليقف أمامها في هذا اللحظة…
يطالعها ويبتسم لها بتلك الابتسامة التي تحمل كل دفء الدنيا،بينما يداه تحملان صندوقًا صغيراً مغلفًا بعناية،بطريقة أنيقة،مع باقة ورد بيضاء كأنها تنتشلها من الحلم…لكن شيئًا ما لم يكن صحيحًا،شيء غريب في المشهد دفعها لتتراجع خطوة إلى الوراء.
لحظة!
كيف يقف هكذا؟ هل هو واقف على الهواء؟! اتسعت عيناها أكثر بدهشة واضحة،وبمجرد أن استوعبت الموقف، اقتربت منه بخطى مرتجفة،وتساؤل مدهوش يتسرب من فمها؛ لتهمس بحيرة تملؤها كل الاضطرابات التي كانت تتنقل في صدرها:
“أنت واقف ازاي؟؟”
نظر هو إليها في صمت للحظة،بينما هي فنظرت إلى الأسفل، لتجده يقف على سلم خشبي طويل،وقد كان يمسك به من أسفل كل من كارم ومحسن.
فهمت أخيرًا الصورة كاملة،والدهشة تملؤها أكثر، ثم رفعت رأسها،ونظرت إليه مجددًا…
كانت المسافة بينهما صغيرة،صغيرة لتجعل كل منهما يشعر بأنفاس الآخر، وكأن الزمن توقف للحظة قصيرة بين نظراتهم.
ابتسم لها ابتسامة دافئة،ثم همس بكلمة واحدة،تلك الكلمة التي كانت أكثر من كل الكلمات،وأكثر من كل الوصف:
“وحشتيني.”
كانت كلمة واحدة، لكنها حملت بين طياتها كل الشوق الذي خنق نفسه طوال هذه الفترة، كل الألم الذي عانى منه بعيدًا عن قلبها، وكل المحبة التي لو ظل عمرًا كاملًا يوصف فيها، لما انتهى…كلنت كلمة تحمل كل المعاني التي لا توصف، بل تختصر كل شيء في لحظة.
أما هي، فا فور سماعها لتلك الكلمة، شعرت بأن قلبها يقفز في صدرها، وكأن الزمن عاد إلى الوراء، وكأن الساعات المظلمة التي مرت وكأنها دهر طويل، قد انتهت في لحظة واحدة…تلك اللحظة التي أضاءت قلبها وأضاءت كل شيء حولها، فجعلت ظلال الأيام الماضية تتبخر كما لو أنها لم تكن. لمعت العبرات في عينيها، ولكنها قاومت أن تتساقط، وعندما همست بصوت مبحوح، كان يشبه رنينًا هشًا في صمت الليل:
“لسه زعلان مني؟؟”
حرك رأسه بنفي هادئ، ثم قال وكأن كلمات قلبه تتسابق لتكون جزءًا من تلك اللحظة:
“ماقدرش أزعل منك…أنتِ العشق يا فيروز،اللي قلبي دق ليها ومادقش لحد غيرها…أزعل منك ازاي وأنتِ حب حياتي؟ وربنا شاهد إني ما تمنيتش غيرك طول حياتي.”
منعت عبراتها من السقوط ثم سألته بصوت خافت،متهدج:
“طب ليه ما كلمتينيش ولا جيت شوفتني من يوم ما رُحنا النيابة،لو مش زعلان؟”
أجابها بكلمات أقرب إلى الاعتراف،أقرب إلى التوبة:
“كنت حمار…حقك عليا، غِلط، وأنا جاي دلوقتي أطلب السماح…فأتمنى تسامحيني.”
أنهى جملته بتلك البسمة الهادئة،التي حملت في طياتها أكثر من مجرد اعتذار…كانت بسمة مليئة بالحب،ولكن أيضًا بالندم الذي لا يمكن إخفاؤه.
قدم لها باقة الزهور كما لو أنها كانت الرسالة الوحيدة التي يمكن أن تصل إليها، رسالة تحمل بين أوراقها وبتلاتها كل ما لم يستطع قوله بكلمات، بينما كانت عينيه_وهما يتأملان في نظراتها_تحملان وعدًا صادقًا، وعدًا بأن كل خطأ قد حدث في الماضي، لن يتكرر مجددًا.
تناولت منه الباقة بيدين ترتجفان قليلًا، ثم نظرت إليها مطولًا،كأنها تبحث عن السعادة التي كان غائبة في الأيام الماضية.
بينما هو فكان يراقبها بعينين مليئتين بالحب، وبعيني عاشق متعطش لنظرة منها، لأمل يتولد في قلبه من جديد، ولم تمضِ لحظة طويلة حتى فجر حديثه، الذي حمل مرحًا خفيفًا، لكنه كان يشبه الهمسات التي تفتح الأبواب المغلقة:
“ده بمبلغ دي.”
ضحكت..أخيرًا ضحكت…
تلك الضحكة التي كان ينتظرها بفارغ الصبر،الضحكة التي كانت بمثابة مفتاح لقلبه، تلك الضحكة التي جعلت قلبه يرفرف من جديد، كما لو أنه لأول مرة يشعر بالحياة تدب فيه. و لم تكتفِ عينيه من التوهج والسعادة، حتى أصبح ضوء عينيه يشرق أكثر مما كان. وإذا كان قد فعل كل ما فعله من أجل طلب السماح، فقد فعل أيضًا ليرى تلك الابتسامة التي تعيد الحياة لروحِه، وليرتوي من تلك الضحكة الخفيفة التي كانت بالنسبة له أعظم من أي شيء آخر.
رفعت عيونها إليه،وحدقت فيه بعمق كما يفعل هو،بعينين مليئتين بالحب،كأنهما تعكسان كل ما في قلبها من مشاعر،كل همساتها، كل آلامها وأفراحها. لم يكن هناك شيء آخر في ذلك العالم غيره، غير تلك اللحظة التي أصبح فيها الكون بأسره مشهدًا يقتصر فقط عليهما، لم تبالِ بما يدور من حولها،ولا بالمشاهدين من حولهم…كانت تلك اللحظة ملكًا لها ولحبه، فقط لها.
أما هو،فكان ينظر إليها بنفس العمق، بنفس الهدوء الذي يتملك قلبه كلما اقترب منها،وكأن الوقت قد توقف بينهما، لم يهتم هو الآخر بما كان يحدث حولهم، بكل تلك الوجوه التي تقف في الشرفات،أو المارة الذين توقفوا فجأة ليشاهدوا ذلك العاشق الذي يقف أمام محبوبته،وباقة الزهور في يديها، في مشهد بدا وكأنه خرج من أحد أفلام السينما، مشهد غير قابل للتصديق، لكنه واقع.
لكن لم يكن هناك أي شيء سوى تلك النظرات بينهما،تلك اللحظات التي جعلت كل شيء في العالم يذوب، ويساوي لا شيء أمام قوة الحب الذي كان يجمعهما.
لكن فجأة،تبخر كل ذلك المشهد الهادئ الذي صنعه الحب واللحظات المفعمة بالسلام بينهما…
في لحظة خاطفة،اختل توازن الأخير على الدرج،وسقطت قدمه فجأة في الهواء،وكأن الوقت توقف لحظة قبل أن يتعثر وينحني جسده في محاولة يائسة للثبات، شهقت هي بصوت قوي،كأن قلبها قد توقف للحظة،واتسعت حدقتاها كما لو أنها ترى حلمًا ينهار أمام عينيها.
اقتربت منه بسرعة،ناظرة إلى يديه وهو يترنح على السلم،لكن قبل أن تلمس يده كان هو قد تصرف أسرع،ومد يده الشاغرة نحو السور،ممسكًا به بكل قوته،ليمنع نفسه من السقوط.
كان صوت الزفير الذي خرج منه واضحًا،تنفسه أضحى ثقيل، وكأن روحه كانت تخرج لحظة السقوط، لكنه لحسن الحظ نجى بحياته.
امتدت يدها نحوه بسرعة،وأمسكت بكفه بقوة،كأنها تتأكد أنه مازال هنا، نظر هو لها بعينيه،تلك العينان اللتان كانتا تحملان كل الطمأنينة،وكأنهما يطمئنانها بأنه بخير.
لكنه سرعان ما نظر للأسفل في إحساس بالحنق والغضب،وهو يحدق في ذلك الذي ترك السلم،ثم هتف بتلك الجملة التي كانت مشبعة بالازدراء:
“أنت بتعمل أنت إيه يا زفت؟؟”
رفع كارم رأسه حين شعر أن الكلمات كانت موجهة إليه،ثم أجابه ببرود ولامبالاة،والسيجار بين شفتيه:
“بشرب سيجارة يا برنس.”
اندفع الرد سريعًا من فم موسى وقد ارتفعت نبرة صوته:
“طب اطفيها وامسك السلم،بدل ما أنزل أطفيها في قفاك.”
كانت كلماته مشبعة بالغضب، تنذر ببركان قريب على وشك الانفجار، وكل حرف فيها كان يحمل تحذيرًا واضحًا، كأنه يصرخ في وجهه أن الأمر تجاوز حدود الاحتمال..لكن هل تأثر كارم؟ لا والله لم يتأثر قط.
ببساطة تامة،وكأن ما قيل لم يمسّه من قريب أو بعيد،أخرج قداحته وأشعل سيجارته أولاً، ثم استنشق منها بعمق ونفث الدخان ببطء، وكأنما يتعمد إغاظته.
كل هذا كان يحدث بينما موسى يراقبه من الأعلى، مصدوماً، مذهولاً من اللامبالاة الفادحة التي أمامه، غير مستوعب كيف يستطيع كارم أن يتصرف بهذه البرودة وسط هذا الموقف.
وأخيرًا،تحرك كارم بتراخٍ واقترب من السلم ليمسكه من جديد،
بعدما حرق أعصاب موسى عن بكرة أبيها.
ظل موسى يحدق بكارم،بينما يرمش ببطء وكأنه يحاول استيعاب بروده المستفز، حتى شعر بيدها تُوضع برفق على كتفه؛ فالتفت نحوها، ليجد عينيها تحملان قلقًا خافتًا وهي تهمس له:
“تعالَ اطلع…علشان ما توقعش.”
أومأ برأسه بخفوت، ثم وضع الصندوق الذي كان يحمله فوق سور الشرفة،وتحرك بحذر حتى قفز بخفة فوق السور،ودخل إلى الشرفة بمساعدتها،مستندًا على يدها كأنها الأمان الذي يحتاجه.
بمجرد أن استقرت قدماه داخل الشرفة،قالت له بنبرة عتاب خفيفة لا تخلو من حنان:
“نفسي أفهم…ليه مادخلتش من الباب زي الناس؟”
ابتسم ابتسامة واسعة يملؤها المرح،وأجابها ببساطة كأن الأمر بديهي:
“أومال كنت هعمل الفضيحة دي ازاي؟”
ابتسمت بدورها،ضحكة صغيرة بقلة حيلة زينت ملامحها،وهي تدرك أنها مهما حاولت فهم جنونه،لن تتوقف يومًا عن محبته.
أما هو،فلم يتوقف عند ذلك، بل أمسك بالصندوق بإحدى يديه،ومدّ الأخرى ليقبض على يدها كأنما يعلن للجميع أن ملكيته لها لا جدال فيها، ثم رفع رأسه بعدها، ومرر عينيه على الواقفين،وأولهم أفراد عائلته الذين راقبوا المشهد منذ البداية بذهول وسعادة في الوقت ذاته.
حينها،رفع هو صوته بمرح صادق وهو يهتف:
“لمؤاخذة يا جماعة على الحوار…بس دي مراتي،خليكم فاكرين الله يستركم، ماحدش يفهمنا غلط!”
ضحك البعض بيأس،وكأنهم استسلموا لعبث اللحظة،بينما نظر آخرون بدهشة، أما هو وهي، فمررا أعينهما سريعًا عليهم جميعًا، ثم مال موسى نحو أذنها، وهمس بنبرة خفيفة لا تخلو من الدفء:
“خلينا نكمّل كلامنا جوه.”
أومأت له بخفوت،وابتسامة خافتة تتراقص على شفتيها، ثم سارت معه بخطوات هادئة نحو غرفتها، مبتعدين عن ضجيج وأحاديث العيون.
وفي الخارج،بدأت الحركة تعود لطبيعتها،فبعض الناس انسحبوا إلى شققهم،وبعضهم أكمل طريقه كأن شيئًا لم يحدث.
وبينما كان الجميع يتفرق،صدح صوت كارم جاداً،وهو ينفض رماد سيجارته وينظر إلى السلم الخشبي الطويل:
“يلا نرجع السلم للحاج صبري يامحسن،قبل ما يلاحظ حاجة.”
ضحك داود بخفة على تعليق كارم هذا،وقد كان يقف في شرفة شقته برفقة عبير منذ بداية هذا العرض العجيب.
زفر بعدها بقوة،كأنه يزيح عن صدره كل ثقل الأيام الماضية، ثم قال بنبرة هادئة دافئة تحمل الكثير مما لم يقله صراحة:
“الدنيا نورت تاني يا عبير.”
نظرت إليه عبير بابتسامة لطيفة،تفهم تمامًا ما يقصده دون أن يضطر لشرح كلماته، كانت تدرك أن حديثه لا يشير فقط إلى المشهد الطريف الذي شهداه،بل إلى شيء أعمق بكثير…كان يقصد أن دنيته أضاءت من جديد،بعدما عاد ابنه إلى طبيعته،بعدما عادت الابتسامة إلى وجهه من جديد.
ولم يكن حال داود مختلفًا عن حال سامي،الذي كان يقف في شرفة شقته،وقد كان يراقب المشهد برفقة زوجته منذ البداية.
كان الصمت يلفهما،فــ لا حاجة للكلمات حين تتكلم القلوب…
ابتسم سامي بسعادة خفيفة،تلك الابتسامة التي تنبع من أعماق الطمأنينة،ثم همس لنفسه بصوت خافت بالكاد يسمع:
“ربنا يخليكم لبعض.”
كانت كلماته البسيطة دعاءً صادقًا خرج من قلبه،محمّلًا بكل الأمنيات الطيبة، وكأن فرح موسى وفيروز قد انعكس على الجميع،فلامس القلوب بشيء من الدفء الذي افتقدوه لفترة.
_______________
في داخل الغرفة…
جلست على طرف الفراش برقة،ووضعت باقة الأزهار على المنضدة الصغيرة بجانبها، بينما جلس هو أمامها على الحافة المقابلة.
رفعت رأسها لتنظر إليه، ثم خفضت عينيها بخجل واضح قبل أن تعاود النظر نحوه مرة أخرى، فتحت شفتيها لتتكلم
بتوتر ظاهر على قسمات وجهها
:
“أنا….”
لكنه قاطعها بلطف،بصوت خافت أقرب للرجاء:
“استني…سيبيني أنا أتكلم الأول، ممكن؟”
أومأت بخفوت،وهي تترقب ما سيقوله، أما هو فقد تنهد بعُمق،وكأنه يجمع كل شجاعته،ثم مد إليها الصندوق الذي كان لا يزال ممسكًا به، وقال ببسمة دافئة حملت كل الحب الذي لم تقوَ الكلمات على وصفه:
“كل سنة وأنتِ طيبة.”
عقدت حاجبيها في حيرة،ولم تملك سوى أن تتمتم بارتباك:
“بس… أنا…”
توقفت فجأة، ومرت لحظة قصيرة قبل أن تتسع عيناها بدهشة خفيفة،وقد تذكرت ما غاب عنها وسط زخم كل ما حدث. أغمضت عينيها لحظة ثم همست وهي تفتحهما:
“بكره…”
ابتسم هو ابتسامة صغيرة وهو يكمل عنها بحنان:
“آه…بكره عيد ميلادك.”
حدقت فيه بصمت،تقرأ في ملامحه ألف كلمة وكلمة،حتى أشار لها بعينيه نحو الصندوق بلطف يشجعها.
مدت يدها وأخذته منه بحذر،وكأنها تحمل كنزًا ثمينًا، ثم همست مترددة:
“إيه ده؟؟”
ابتسم ابتسامة صغيرة مشبعة بالشوق وقال بهدوء:
“افتحيها.”
بدأت بفك الشريط بعناية،أناملها ترتجف بخفة تحت وطأة الترقب، وكلما اقتربت من كشف ما بداخل الصندوق، ازداد قلبها خفقانًا، كأن العالم كله قد توقف ينتظر معها.
وأخيرًا، رفعت الغطاء ببطء، لينكشف أمام عينيها ما بداخله…والذي لم يكن سوى هاتف حديث الطراز،
وكما يدعى “أخر إصدار”.
تسمرت مكانها للحظة، تحدق به بدهشة طفولية،قبل أن ترفع عينيها نحوه وتهمس:
“ده…!!”
ابتسم بخفة، وكأن سعادته تزداد برؤيتها على هذه الحالة، ثم قال بنبرة دافئة،تحمل في طياتها شئ من المرح:
“موبايلك جاب شاشة، فقلت بدل ما أدفع مبلغ وقدره عشان يتصلح، أجيبلك موبايل جديد أحسن…وتبقى كمان هدية عيد ميلادك.”
رمشت بعدم تصديق، قبل أن تتمتم معترضة بخجل:
“بس ده غالي أوي يا موسى…”
مال نحوها قليلًا،وعيناه تلمعان بذلك الحب الصادق الذي لا تعرفه سوى القلوب الصافية، وقال بنبرة دافئة كعادته حين يتحدث عنها:
“ما قلتلك قبل كده، مفيش حاجة تغلى عليكِ…كله سهل وعادي قدامك يا غالي.”
ابتسمت بخجل وسعادة امتزجا في ملامحها الرقيقة،فبادلها هو الابتسامة، تلك الابتسامة التي كانت تحمل في طياتها كل الحنين الذي لم تنطقه الكلمات.
ثم قال بنبرة خفيفة ممزوجة بشيء من المزاح اللطيف:
“ابقى حطِ بقى الخط القديم فيه…عشان أعرف أكلمك.”
أومأت له بخفوت، ولا تزال تلك الابتسامة تزين شفتيها، كأنها زهرة تفتحت بعد طول انتظار.
راقبها في صمت، متأملاً ملامحها ، ثم زفر بخفوت، قبل أن ينطق بنبرة خافتة،صادقة:
“وحشتيني أوي يا فيروز…وحشتيني ووحشتي قلبي كمان.”
خفتت ابتسامته شيئًا فشيئًا حتى تلاشت تمامًا، لتحل محلها نظرة مملوءة بالندم والألم، وقال بصوت خافت كأن كل كلمة تجرح روحه قبل أن تخرج:
“حقك عليا…علشان بعدت وسيبتك لوحدك، بس والله كان غصب عني…كنت خايف أجيلك ومعرفش أساعدك…معرفش أخفف عنك ولا أساعدتك تتخطي، بس الحمد لله إني فوقت…وعرفت إن مكاني الحقيقي جنبك…لازم أكون ضهرك وسندك…وأشيل عنك همومك..أكون أول شخص تلجأ له لما الدنيا تضيق بيكِ…أنا آسف يا فيروز…آسف من كل قلبي.”
ظلت صامتة للحظة،وكأن الكلمات تتردد في حلقها قبل أن تخرج، ثم همست بنبرة خافتة، كأنها تعترف بما في قلبها:
“أنا اللي آسفة…”
انزلقت العبرات من عينيها، وجاء الصوت باكيًا محملاً بالحزن والألم:
“أنا من يوم ما رجعت لحياتك، وأنت في مشاكل…المصايب مش سيباك في حالك…وما بقيتش مرتاح بسببي.”
نظر إليها بعينين مليئتين بالحب والصدق، ثم قال بنبرة عميقة، خرجت من قلبه:
“طب لو قلتلك إني معرفتش طعم الراحة غير لما رجعتِ لحياتي…هتصدقيني؟”
تأملته في صمت طويل، ثم قالت بصدق، وكأن الكلمات تخرج من قلب مجروح:
“أنت اتأذيت بسببي كتير.”
سأله مستنكرا، محاولًا أن يزيل هذا الإحساس بالذنب الذي بدا على ملامحها:
“فين الأذى ده؟؟”
نظرت صوب يده المجروحة ثم همست بهدوء:
“وقبلها اتغزيت في بطنك برده بسببي.”
اقترب منها قليلاً، ومد يديه ليأخذ يديها برقة، وقال لها بصوت دافئ، يحتويه الحنان والحب:
“أنا اتأذى بجد لما تتأذي أنتِ…لما حد يلمس شعرا منك بس ،ساعتها روحي تطلع يا فيروز، أما شوية الجروح دي…لعب عيال،مش أول مرة أتغز ولا أخيط على فكرة.”
ابتسم بخفة،ثم أشار إلى جبهته وهو يسترسل:
“مش فاكرة لما وقعت وأنا صغير لما كنت بلعب كورة؟ راسي اتفتحت…هنا ٤ غرز، وكمان في رجلي هنا.”
أشار إلى ساقه اليمنى،ثم تابع بحركاته البسيطة المليئة بالفخر:
“٦ غرز…ما حضرتيش أنتِ الحادثة دي، حصلتلي من كام سنة في خناقة…أنا عيل شقي من صغري وبحب أخيط كل فترة،دي حاجة مالكيش ذنب فيها”
“بس أنا حاسة بالذنب أوي،ومضايقة من نفسي أوي يا موسى.”
أمسك بكف يدها برقة،ليبث لها بعض الأمان، ثم قال بصوت دافئ، خالي من أي تردد:
“يا حبيبتي أنتِ مالكيش ذنب خالص في كل اللي حصل…أنتِ كنت مجرد ضحية،والحمد لله ربنا نجَّاكِ،وجبر بخاطرنا كلنا.”
رفع يده بلطف،ووضعها على وجنتها بحذر،ثم تابع بنبرة مشبعة بالعزم والحب:
“أنا مش عايزك تحسي بالذنب يا فيروز ولا تضايقي نفسك…حاولي تنسي كل اللي حصل،اعتبريه وكابوس وخلص…وأنتِ مش لوحدك..أنا معاكِ،مش هسيبك، هفضل جانبك،وهنتخطى ده سوا.”
كان كلامه وكأنما يشدها إليه أكثر، يُزيل كل عبء كان يثقل قلبها، ويجعلها تشعر بأنها ستكون قوية طالما هو معها. لكن هناك شيء آخر مازالت تريد التأكد منه.
قالت بصوت مضطرب، وكأنها تتساءل عن قلبه:
“طب أنت بجد مش زعلان مني…علشان خبيت عنك موضوع خالد؟”
أبعد يده عنها بلطف ثم تنهد، وكأن هواء صدره يحمل ثقل السؤال، ثم قال بجدية واضحة في صوته:
“لما عرفت بالموضوع أصلاً، ما كانش في حاجة وقتها تهمني غيرك…بس بعد كده لما فكرت، ما خطرش في بالي غير سؤال واحد بس…لو ما كنتش لحقتك في المطار،واتشجعت واعترفت،كنتِ بقيتِ لواحد غيري دلوقت؟”
ابتلع ريقه بصعوبة، وكأن السؤال حمل في طياته الكثير من المعاناة، ثم قال بنبرة حاول أن يصبغها بالمرح فقط لأجلها:
“أول ما خطر على بالي ده…حسيت إن هيغمي عليا من مجرد بس التفكير…تخيلي لو كان حصل،كان إيه اللي هيحصل فيا؟”
سكت لبرهة، ثم تنهد مجددًا، وأكمل بصوت هادئ خافت،وهو ينظر في عينيها:
“وايه اللي كان هيحصل فيكِ…”
ابتسم بخفوت، ثم استرسل بصوت دافئ، كأن كلماته تشع منها الطمأنينة:
“بس عامةً، بحمد ربي في كل ثانية إن عقدة لساني اتحلت واعترفتلك…كان حياتي هتقف لو حصل ده…من الآخر،أنا مش زعلان يا فيروز، ومش هاممني أي حاجة في الدنيا غيرك وبس، ومش بفكر غير فيكِ وبس…اطمني، وطمني قلبك، موسى لسه بيحبك وعمره ما حب حد قدك.”
كانت كلماته كالعهد الذي لا ينكسر، تسري في عروقها كموجات دافئة تملأ قلبها بالأمان. شعرت بأنها أخيرًا قد حصلت على كل الإجابات التي كانت تبحث عنها، أضحت تعرف أن كل مُرّ سيمر،وأن كل شيء في حياتها_مهما كانت تفاصيله_له معنى طالما هو بجانبها.
حدقت به بكل ما يحمله الحب من معنى،ثم همست بشجنٍ وصوت مبحوح:
“أنا بحبك أوي يا موسى.”
رفع يده برفق ومسح عبراتها المتساقطة، وقال بنبرة مليئة بالعاطفة:
“وموسى بيموت فيكِ.”
كان صوته خافتًا،لكنه يحمل في طياته قوة الحب الذي لا يمكن وصفه بالكلمات…
ظل الصمت سائداً في الغرفة،ولم يتبادل فيها سوى النظرات، كانت العيون تتحدث بلغتها الخاصة،مليئة بكل ما عجزت الكلمات عن التعبير عنه، لكن فجأة،قرر هو قطع هذا الصمت وقال بنبرة هادئة ولكن جادة:
“دلوقتي،أنا عايز أسألك سؤال.”
توقف الزمن للحظة،وكأن الهواء نفسه توقّف عن الحركة، بدأ قلبها ينبض أسرع قليلاً،كما لو أن ثقل اللحظة قد أثر عليها،وجعلها تتنفس بصعوبة. تأملته، وبدأت تترقب ما سيقوله،بينما عيونها مثبتة على ملامحه التي تحمل بين طياتها الحيرة والقلق.
أما هو، فقد تنهد بعمقٍ، وكأن الكلمات التي كان يخبئها في قلبه تقاوم الخروج، ثم ابتلع ريقه،وبدأ في الكلام بنبرة متقطعة، كما لو كان يبحث عن الكلمات المناسبة ليقول ما في قلبه:
“يومها…لما كان ماسكك، وقتها، سألك سؤال…قال ليه ماحبــ”
قاطعته بلطف، ثم أكملت حديثه بنبرة حانية،بصوت
خافت ولكنه يحمل عاطفة عميقة
:
“ليه ماحبتنيش وحبتيه هو؟”
أومأ لها بخفوت، وكأن الذكريات قد سلبت منه القدرة على التعبير،ثم قال بصوت خافت:
“آه…أنتِ وقتها قلت لي إنك لما بتبصي في عينيه…”
أكملت هي مجدداً، وعيناها تتأملان في عينيه مباشرة،وكأن الحديث كان يخرج من مكان عميق في قلبها:
“لما ببص في عينه بشوف.. بابا.”
قالتها ببساطة،لكنها كانت تحمل وزنًا ثقيلًا، نظر إليها بدهشة خفيفة،كما لو أن الإجابة كانت تصطدم بأعماقه كل مرة.
أما هي فسكت قليلاً، وكأنها تستجمع شجاعتها، قبل أن تتابع بصوت متهدج:
“دي الحقيقة.”
توقفت للحظة، وحاولت تهدئة نفسها قبل أن تتابع، لتكتمل الصورة التي حملتها كلماتها:
“الحقيقة إني عمري ما حسيت بالأمان مع بابا، كان نفسي أبص في عينه وأطمن، لكن ده ما حصلش…الشخص الوحيد اللي خلاني أحس بالأمان بعد أخويا سامي كان أنت يا موسى.”
سكتت للحظة، ثم خفضت عيونها، وهي تترك كل مشاعرها تتراكم داخل قلبها، قبل أن تتابع بصوت أقل من همس:
“أما بابا، فأنا مش عارفة أوصف مشاعري ناحيته…الأكيد إني بحبه…لكن لو كان في إيديا خيار إني أختار والدي بنفسي،للأسف ماكنتش هختاره…علشان ببساطة، أنا ماشفتش منه حنية قد ما شفت منه قسوة.”
التقتا عيناهما مرة أخرى، بينما تابعت حديثها بصوت منخفض، لكنها لم تتمكن من إخفاء الألم الذي كان يتسرب من بين كلماتها:
“هو شخصيته قيادية، بيحب يتحكم في كل حاجة، حتى في الأشخاص اللي حواليه…مش مهم هم عايزين إيه، المهم هو عايز إيه…خلال الـ 23 سنة اللي عشتهم معاه، عمره ما سألني أنا عايزة إيه؟ حتى في الأكل تخيل؟ كان دايمًا بيختار لي أكل ايه…كان بيختار صحابي،والأماكن اللي أخرج فيها،وكان دايمًا بيحدد لي ساعات المذاكرة.”
ابتلعت ريقها، وكأن كلماتها قد أثقلت قلبها، ثم تابعت بنبرة مثقلة بالألم:
“كان بيختار لي كل حاجة في حياتي،
وأخيرًا… كان عايز يختار لي شريك حياتي.”
زفرت ببطء،وكأن كل هذه الذكريات قد استنفدت كل طاقتها، ثم رفعت عيونها له وقالت بحزن:
“فعشان كل ده…أنا قلت اللي قلته وقتها…يمكن ندمت إني قلته،لكن دي حاجة حقيقة ومش هقدر أنكرها للأسف.”
كانت كلماتها تتدفق من قلبها كما لو كانت تدفقًا من نهرٍ طويلٍ عميقٍ، مليء بالآلام التي خزنها قلبها طوال السنوات.
أما موسى فكان يستمع إليها في صمتٍ تام، يراقب عيونها التي لم تستطع إخفاء الندم والألم، ولكنه في نفس الوقت رأى فيها الشجاعة التي تحتاجها لمواجهة الحقيقة التي كانت تؤلمها.
تنهد بعمق،كما لو أن السؤال كان يثقل عليه هو أيضًا، ثم نظر إليها بتفهم، وكأن قلبه يشاركها تلك الحيرة التي تسكن قلبها.
وبعد لحظة من الصمت،قال بصوت هادئ لكنه يحمل في طياته بعض القلق:
“طب هتقدري تسامحيه عن اللي حصل؟؟”
كانت الكلمات كالسيف الذي يقطع الصمت الثقيل بينهما،لكنها لم ترد عليه فورًا، فقط سكتت للحظة،كما لو أن سؤالًا كهذا يحتاج منها إلى الكثير من التفكير، وكل لحظة تمر كانت تترك في قلبها أثرًا أعمق.
رفعت عيونها إليه، ثم نظرت بعيدًا، كما لو كانت تبحث عن الإجابة في زاوية ما داخل نفسها. وأخيرًا قالت بصوت يحمل بعض الارتباك، وعينها تهرب من مواجهته:
“مش عارفة…اللي أعرفه دلوقتي إني…زعلانة منه ومش عايزة أشوفه ولا أتكلم معاه،وبالذات كل ما أفتكر إنه السبب في اللي حصل.”
كان هناك ألمٌ واضح في نبرة صوتها، وكأن تلك الذكرى تخنقها…
كانت الكلمات تخرج منها ثقيلة،والألم الذي حملته سنوات من الانزعاج والمرارة كان يبرز بوضوح.
احتضن كف يدها بلطف، ثم نظر في عينيها بحنان، وقال بصوت دافئ، كما لو كان يحاول أن يخفف عنها الألم الذي يشعر به قلبها:
“أنا مش هقولك سامحيه…بس هقولك…واجهيه.”
رفعت حاجبيها بدهشة،وكأن الكلمات لم تكن متوقعة،لكن نظراته كانت تحمل فيها إصرارًا وحبًا غامرًا.
تابع هو بهدوء:
“أيوا لازم تواجهيه…قوليله كل اللي جواكِ..عارفيه أنتِ مضايقة وزعلانة منه قد إيه..عارفيه إنه ماكنش أحسن أب ليكِ…جايز يفوق بعدها ويفتّح عينيه عن الحقيقة ويدرك إن فعلاً غِلط…أنا بقولك الكلام ده عن تجربة.”
سكت لحظة، وكأن تلك الذكريات كانت تعود إليه، ثم بلل شفته السفلى بلسانه وكأن الكلمات كانت تصدر من عمق قلبه:
“أنا مريت بتجربة زي دي مع بابا…ماكانش بيسمعني وكان عايزني بس أسمعه…بس لما خليته يسمعني، وقولت له كل اللي جوايا، أدرك إن قصر في حقي…وأنا كمان أدركت إنه بيحبني وإن كمان كنت مقصر معاه…أدركت إننا بعدنا عن بعض علشان ماكناش بنسمع بعض..فلما سمعنا بعض،قربنا… وقربنا أوي…جربي ده مع عمي يحيى،يمكن كل حاجة تتغير للأحسن بعدها.”
ابتسمت في محاولة لتخفيف القلق الذي بدأ يظهر على وجهها، لكن عيونها كانت تحمل عبئًا ثقيلًا من مشاعر متضاربة، ثم أجابت، وهي تحاول أن تتمالك نفسها:
“جربنا…أنا وسامي جربنا ده ياموسى، قبل كتب كتابنا لما ماكنش موافق وكان مصر إننا نسافر…وقتها انفجرت وقلتله كل اللي جوايا وسامي كمان…لكن مع ذلك هو ما تغيرش…لسه زي ما هو…للأسف.”
كانت نبرة صوتها تحمل في طياتها الكثير من الإحباط،وكأنها شعرت بأن كل محاولاتها السابقة لم تجدِ نفعًا.
بيننا موسى،فكان يستمع لها بتركيز كامل،وبمجرد أن أنهت كلماتها شد على يدها بحنان،وابتسم برقة،محاولة منه أن يعيد لها بعضًا من الأمل المفقود، ثم قال بصوت هادئ مليء بالحب والإصرار:
“نحاول تاني…مش هنخسر حاجة، ماتعمليش زي وتستسلمي بسرعة،لأني ندمت بعدها… حاولي تاني يافيروز…علشانك قبل كل حاجة،وبعدين علشانه.”
ابتسمت له بخفوت، ثم أومأت بالإيجاب، وكأن كلماته أعادت إليها بعض القوة. ابتسم هو كذلك،ثم رفع يده ولثم كف يدها برقة، وكأنما يضع فيها كل ما لا يستطيع قوله، نظر في عينيها وقال بصوت مليء بالعاطفة:
“بحبك.”
ابتسمت هي،وكأن قلبها يرقص مع وقع الكلمة، ثم أجابت بصوت دافئ، يكاد يهمس في أذنه:
“وأنا كمان.”
عاد الصمت ليخيم على الغرفة من جديد، لكن هذه المرة كان صمتًا مليئًا بالمشاعر العميقة التي لا تحتاج إلى كلمات، كانت النظرات المتبادلة بينهما تكفي لتروي قصة الحب الذي جمعهما، وكأن كل واحد منهما يقرأ الآخر في لحظة من الفهم المتبادل، الذي يفوق كل تعبير لفظي، كانت الأعين تتحدث بصمت،تحمل بين طياتها كل ما عجزت الكلمات عن قوله.
لكن انقطع الصمت فجأة،ليحل محله صوت طرقات خفيفة على باب الغرفة. رفع كل منهما نظره في نفس اللحظة، وتلاقت عيونهما في لحظة من الترقب.
وبدا موسى وكأنه قد استشعر شيئًا ما،فهتف بنبرة غامضة، مليئة بالترقب:
“وصلوا.”
نظرت فيروز إلى موسى بعينيها المليئتين بالحيرة،وكأنها تتساءل عن سبب نطقه لتلك الكلمة. كان كل شيء ينساب في لحظة واحدة،من الكلمة التي قالها إلى تعبيراته التي كانت مليئة بالغموض، اقترب من الباب وفتحه ببطء،ليفاجئها بمشهدٍ غير متوقع.
عند الباب…
اصطفّت مجموعة من الوجوه المألوفة بالنسبة لفيروز،تلك الوجوه التي ارتبطت بعواطفها ومشاعرها، ولكن لم تتوقع رؤيتهم هنا في هذا الوقت.كانوا “الكائنات الناعمة”، كما يطلق عليهم، من بينهم ليلى، وبنات عمومته: نورهان، ومريم ،ويمنى، وفريدة، ولينا، وتينا، كما كان هناك ضحى وسلمى_زوجة فادي_،وبالطبع دلال التي كانت في المقدمة.
اتسعت عيون فيروز بدهشة من رؤيتهم جميعًا أمامها، كان المشهد أكبر من أن تستوعبه في لحظتها. تقدمت الفتيات داخل الغرفة، وهنّ يثرن ضجيجًا من الفرح، بينما كانت بعضهن يندفع نحو فيروز لتحتضنها وتشاركها تلك اللحظة السعيدة.
فيما كانت دلال واقفة عند الباب،تراقب المشهد بصمت،حينها أدار موسى نظره إليها وقال بصوت خفيض،وكأن الكلمات كانت تخرج بتأنٍ:
“أنا كده خلصت دوري مؤقتًا..جه دورك بقى.”
أومأت دلال برأسها بثقة، ربتت على كتفه وقالت بصوت حازم:
“ثق فيا وسيب بقى عليا…يلا رافقتك السلامة.”
ضحك موسى بخفة، وأجابها بابتسامة شكرٍ وتقدير، ثم التفت ليرى فيروز والفتيات وقد انغمست في عناقهن، نظر إليهن ثم قال بشيء من المرح:
“أنا همشي بقى علشان أصلي المغرب،سهرة ممتعة يابنات…عن إذنكم.”
لم يعيرهنّ سوى ليلى ولينا اهتمامًا،حين ابتسمت له الثانية، بينما أعطته الأولى إماءة بسيطة،وكذلك فيروز التي كانت في وسط عناق الفتيات، تتبادل معه ابتسامة مليئة بالامتنان والحب.
غمز موسى لها بمشاكسة،وابتسم لها مجددًا، ثم التفت وأعطى غمزة أخرى لدلال قبل أن يتقدم ويغادر الغرفة، عندما خرج من الغرفة،واجه نادية التي كانت تقف في
البهو،وتحمل بين يديها كعكة كبيرة،أعدتها خصيصاً لابنتها.
حينها قال لها بصوت مرح:
“عايز حاجة يا خالتي؟”
أجابته نادية بابتسامة دافئة:
“عايزة سلامتك يا روح خالتك، ربنا يفرح قلبك زي ما فرحت قلبها يا بني.”
ابتسم موسى لها وقال بصوت صادق:
“قلبي بيفرح لما قلبها يفرح يا خالتي…عن إذنك.”
راقبته نادية وهو يخرج من الشقة،ثم التفتت لتتقدم نحو الفتيات اللواتي التفوا حول ابنتها.
فيما اقتربت دلال منهن وهي تضحك:
“وسعوا لي كده بقى،خلوني أحضنها أنا كمان…نصيبي فيها أكبر منكم.”
كان الجو مليئًا بالفرح والضحكات،وكل وجه كان يحمل في طياته حبًا غير مشروط، يملأ الأجواء ويبعث فيها الحياة.
في الخارج…
كان هو يترجل من على السلم بخطوات سريعة،يركّز على المكالمة الهاتفية، التي يجريها.
“أنا نازل أهو، وكلمت بلال والشباب وهيحصلونا على هناك، وبلغت سامي برضه علشان يكون عنده علم، هو مش هيعرف ييحي علشان يزيد… تمام سلام.”
كان صوته يعبّر عن جدية،وكأنه في مهمة جادة وعاجلة، وعلى الرغم من السرعة التي كان يتحرك بها، إلا أن حديثه كان هادئًا ومرتّبًا،وكأن كل شيء تحت سيطرته.
لكن ما يحضّره…لايزال مجهول.
_________________
مع
انسدال ستار الليل فوق المنطقة،بدت السماء وكأنها تلتحف بثوبٍ من السكون العميق، لكن داخل الغرفة، كانت الأجواء مختلفة تمامًا؛ اجتمعوا معًا على شكل دائرة فوق الأرض، تتناثر حولهم بقايا ضحكات خافتة ودفء لا تخطئه العين.
في منتصف الغرفة، جلست نادية على الفراش تراقبهم بسعادة غامرة، بعينان تلمعان بحب وهي ترى ابنتها محاطة بكل هذا الدفء.
كانوا قد انتهوا للتو من تناول الكعكة الخاصة بعيد الميلاد،واحتسوا معًا بعض المشروبات الباردة، وهاهم يتناولون بعض المقرمشات التي احضرتها دلال معها.
فجأة، نهضت نادية من موضعها،وكأنها تحاول مقاومة ذلك النعاس الذي بدأ يثقل أجفانها، وقالت وهي تربت على ركبتيها:
“أنا هدخل أنام بقى، وكملوا أنتم سهرتكم براحتكم.”
التفت الجميع نحوها في ذات اللحظة، وعاجلتها دلال بقولها السريع، محاولة استبقائها: “ليه ما تخلّيكي قاعدة معانا؟”
ابتسمت نادية برقة وهي تلوّح بيدها:
“لا خلاص كده، أنا فوّت معاد نومي…لو قعدت ثانية زيادة،هتلاقوني ممددة على السرير هنا.”
انطلقت ضحكات خفيفة بين الحاضرين،مزجت بين المرح والمودة، فيما تابعت نادية وهي تهمّ بالمغادرة:
“يلا تصبحوا على خير.”
“وأنتِ من أهله”
ردوا عليها جميعًا بنبرة واحدة مليئة بالحب والامتنان، بينما مالت هي نحو فيروز،قبل أن ترحل، وانحنت عليها ولثمت جبينها بلطف بالغ، في لمسة أمومة تحمل كل الكلمات التي قد تعجز الحروف عن وصفها، ابتسمت لها فيروز بدفء عميق وسعادة رقيقة.
وبهدوء، انسحبت نادية من الغرفة بعدها، تاركة خلفها رائحة طمأنينة ونسيمًا خفيفًا من الحنان، فيما عاد الفتيات لاستكمال سهرتهم التي لا تزال في بدايتها، سهرةٌ اتسمت بالدفء والمرح الممزوجين بلمسة من الجنون الطفولي الجميل.
نظرت دلال نحو تينا بملامح تجمع بين الحنق والدعابة،قبل أن تردف بحدة مصطنعة: “سيبي المحروق اللي في إيدك أحسنلك.”
رفعت تينا عينيها عن الهاتف بتثاقل،ونظرت نحو دلال بضجر ظاهر وهي ترد:
“ما لينا ماسكة هي كمان!”
أجابتها دلال بسلاسة لا تخلو من نبرة ضيق:
“لينا ماسكاه علشان تنزل الـapp اللي هنلعب بيه، إنما إنتِ ماسكاه ليه بقا؟”
زفرت تينا بحدة، وقالت وهي تلوح بالهاتف:
“بذاكر.”
ضحكت دلال ساخرة وهي ترد:
“بتذاكري! طب بعد إذنك تسيبيه وتبطلي دحّ الليلة دي بس.”
زمّت تينا شفتيها في استسلام درامي، ثم أغلقت هاتفها ببطء كأنما تودع جزءًا منها، ووضعته جانبًا، تمامًا مع اللحظة التي صدح فيها صوت لينا بهدوء:
“نزلته…وسجلت أسامينا كمان.”
ابتسمت دلال برضا، ثم أشارت إلى منتصف الدائرة قائلة:
“طب حطيه هنا يلا.”
أطاعتها لينا فورًا، ووضعت الهاتف في المنتصف، فاستغلت يمنى اللحظة وسألت بحماس:
“مين اللي هيبدأ؟”
نظرت لينا إليها ثم شرحت بحماسة:
“واحدة فينا هتدوس هنا، والتطبيق هيختار اتنين مننا..واحدة هتسأل، وواحدة هتجاوب…مين بقا هتدوس الأول؟”
لم تترك دلال المجال طويلاً، فرفعت يدها بحماس طفولي وتقدمت فورًا وضغطت على الزر؛ دار المؤشر بشكل عشوائي لبضع ثوانٍ وسط ترقب الجميع، قبل أن يتوقف أخيرًا ليختار كل من دلال وتينا.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه لينا وهي تقول:
“هتسألي تينا ياخالتو.”
ارتسمت السعادة والدهاء على ملامح دلال، وضحكت بسعادة ممزوجة بمكر واضح قبل أن تقول وهي تفرك يديها بحماس:
“أحلى اختيار والله!”
ضيّقت تينا عينيها بخفة وضمت ذراعيها إلى صدرها، ثم تنفست بثقة مصطنعة قبل أن تقول متحدية:
“جاهزة..اتفضلي يا خالتو.”
لم ترد دلال فورًا، بل ساد صمت قصير كأنها كانت تغوص في بحر أفكارها تنتقي منه السؤال الأشد مكرًا، ثم زفرت ببطء وقالت بنبرة هادئة لكنها تنذر بالمشاكسة:
“إيه أقل درجة جبتيها في امتحان وماقلتيش لحد عليها؟”
طالعتها تينا للحظة، صامتة، متصلبة الملامح، كأنها تفكر في الفرار..وفعلًا، نهضت فجأة وهي تعلن بجدية مصطنعة:
“أنا منسحبة.”
لم تكد تخطو خطوتين حتى أمسكت يمنى بذراعها وهي تضحك قائلة:
“اقعدي هنا يابنتي..دي مش محكمة،ده مجرد سؤال! وسؤال بسيط كمان”
أشارت لها دلال أن تعود للجلوس وهي تبتسم بمكر وقالت:
“ماينفعش تنسحبي يا حبيبتي، اقعدي…اقعدي.”
زفرت تينا بعمق، كأنها تستجمع شجاعتها،ثم جلست مرة أخرى متصالحة مع مصيرها،حدّقت في دلال بعيون متوجسة وقالت بنبرة مشاكسة:
“هجاوب،بس بشرط..توعديني ماتقليش لماما.”
ابتسمت دلال بثقة وردت مطمئنة:
“وعد…مش هقولها،يلا جاوبي.”
ترددت تينا للحظة،وحدقت فيها بشك قبل أن تلتقط أنفاسها وتقول، كأنها تعترف بجريمة:
“أقل درجة كانت في درس الفلسفة بتاع تانية ثانوي…جبت ٢٦.”
اتسعت عينا دلال في صدمة وهي تهتف بدهشة:
“من خمسين؟!”
هزّت تينا رأسها ببساطة تامة وردت:
“لأ…من تلاتين.”
ساد الصمت لثانية، كانت كافية ليتشنج وجه الجميع بدهشة خالصة، قبل أن ينفذ صبر دلال وهي تلتقط الوسادة الموضوعة أمامها وتقذفها نحو تينا قائلة:
“يا شيخة ده انتي دحيحة جدًا!”
أمسكت تينا بالوسادة بذهول مصحوب بابتسامة محرجة،بينما انفجر الجميع ضاحكين على الموقف،تداخلت أصوات ضحكاتهم،فيما تابعت دلال بحنقٍ:
“يلا بينا نكمل…”
سكتت دلال لوهلة، ثم التفتت نحو فيروز وقالت بابتسامة دافئة:
“دوسي أنتِ يا فيروز.”
أومأت لها فيروز بخفة، ثم مدت يدها وضغطت بلطف على شاشة الهاتف الموضوع في المنتصف.
دارت الأسماء على الهاتف للحظات،تشبه دوران الأحلام حين تبحث عن مستقر،حتى توقفت أخيرًا، ليقع الاختيار على ضحى
وفريدة.
ابتسمت دلال بمرح وهي تقول بحماس مشوب بالتحفز:
“ضحى…هتسألي فريدة.”
ضحكت فريدة بخفة وهي تحاول تعديل جلستها برقة،تحسبًا لثقل حملها الذي بات واضحًا على ملامحها وحركاتها.
بينما زفرت ضحى بهدوء، كمن يتهيأ لمهمة خفيفة لكنها لا تخلو من الحذر،ثم سألت بصوت رتيب لكنه يحمل نغمة فضولية خفية:
“امتى آخر مرة غيرتي فيها على حد كريم؟”
وقبل أن تأخذ فريدة حتى لحظة للتفكير،أجابت ببساطة:
“النهارده الصبح.”
تبادلت الفتيات النظرات المندهشة، بعضهن رفع حاجبيه بدهشة، والبعض الآخر انفجر ضاحكًا دون مقاومة.
أما ضحى، فقد نظرت نحو فريدة باستغراب مشوب بابتسامة وهي تقول:
“طب فكري شوية بس، خدي ثانية مثلاً.”
هزّت فريدة رأسها بإصرار، وقالت بثقة لا تقبل الجدال:
“وأفكر ليه! والله لسه غيرانة عليه الصبح.”
توقف نورهان عن الضحك قبل أن تسألها مازحة:
“غيرتي عليه من مين بالظبط؟”
رفعت فريدة يدها لتستقر على بطنها المنتفخة، ومسحت عليها بحنان قبل أن تجيب ببراءة أثارت ضحك الجميع:
“من بنته…كان قاعد يدلع فيها وسايبني أنا زي اللوح الخشب.”
تعالت الضحكات بينهن جميعًا، ضحكات نقية تشبه خرير ماء عذب وسط صحراء من التعب، ضحكات بعثت الحياة في أجواء السهرة وأزاحت أي بقايا للهم أو الحزن.
أما فريدة، فابتسمت بحياء مصطنع، وأردفت بتذمر لطيف وهي تلاعب أطراف خصلاتها:
“والله بجد…قعد يدلع فيها وأنا قاعدة محدش عبرني…ويوم مايعبرني بكلمة كل يقول لي خدي بالك من صحتك يا أم البنوتة.”
ضحكت نورهان وقالت ممازحة: “وأنتِ مش كنتي عايزة بنت،يلا بقا ادفعي التمن.”
أجابت فريدة بعبوس متصنع، يخالطه لمعة ساخرة في عينيها:
“آه، كنت عايزة بنت…بس ماكنتش أعرف إنها هتسرقه مني قبل حتى ما تيجي.”
ضحكت الفتيات بخفة، بينما اقتربت سلمى منها بروح أمومية دافئة وربتت على كتفها برفق، قائلة بنبرة يملؤها الحنو:
“الغيرة دي طبيعية جدًا، وهتزيد كمان لما تيجي وتكبر، بس صدقيني…أول ما تشيليها بين إيدك، وتحسي بحرارة نفسها، هتحبيها لدرجة إنك هتبقي عايزة تشاركيها كل حاجة…حتى روحك، اسألي مجرب.”
تسربت ابتسامة خفيفة إلى ملامح فريدة، امتنانًا لذلك الدعم الخفي الذي وصلها دون جهد، وربتت بدورها على يد سلمى برقة، وكأنها تقول لها دون كلمات:
شكرًا لكِ.
ساد بينهن لحظة من السكون الرقيق، تخللته نظرات دافئة وابتسامات صادقة، قبل أن يقطعن خيط المشاعر برقة، ويعدن إلى لعبتهن من جديد، والضحكات الخفيفة تتطاير بينهن، كنجوم صغيرة تملأ ليلتهن بنور خاص لا يراه سواهن.
تقدمت تينا بخفة وضغطت على الزر،فالتفت الجميع نحوها، وعلى وجوههم ملامح الفضول والتوقع، حينها هتفت قائلة بحماسة:
“مريم هتسأل يمنى!”
نظرت يمنى إلى مريم بابتسامة هادئة،كانت قد استعدت لهذا السؤال، كأنها كانت تعلم أنه سيكون على الأغلب أحد الأسئلة الصعبة، في حين زفرت مريم بملامح تتخفى وراءها نية شقية وقالت بخبث:
“إيه الصفة اللي مكانتيش عايزاها في شريك حياتك ولقيتها في عزت أخويا؟”
ابتسمت يمنى قليلاً، ثم قالت ببراءة ظاهرية في حين كانت تراقب كل الأنظار التي اتجهت نحوها:
“سؤال خبيث…بس الجواب عندي.”
توقف الجميع عن الحركة قليلاً، كأنهم في انتظار تلك الإجابة التي لا تخلو من المفاجآت،بينما تابعت يمنى دون تردد، وهي تعبر عن كل ما يختلج داخلها:
“الصفة اللي ماكنتش عايزاها في شريك حياتي، كانت النسيان…كنت عايزاه يبقى عنده ذاكرة قوية وماينساش أي حاجة تخصنا..بس ييجي الحظ بقى إن عزت يكون ذاكرته قوية في كل حاجة إلا يخصنا، يعني لو تسأليه عن قضية مسكها من خمس سنين،هتلاقيه فاكر أدق التفاصيل فيها، أما لو سألتيه عن تاريخ عيد جوازنا مثلاً، هتلاقيه بيخمن تاريخ من عنده ويمكن يطلع اليوم العالمي للمرأة مثلاً.”
انفجر الجميع بالضحك على الجواب الذي حمل في طياته من الدقة ما يبعث على السرور والدهشة في آنٍ واحد.
توقفت نورهان أولاً عن الضحك، ثم سألتها من بين الضحكات التي لم تتوقف:
“يعني بجد هو ممكن يبقى ناسي عيد جوازكم؟”
أجابت يمنى بابتسامة مرحة:
“آه،أقولك مثلاً، عيد جوازنا اللي فات كان ناسيه…فضلت مستنياه طول اليوم، وطبعاً كنت محضرة جو رومانسي وأكل لذيذ، ووزعت العيال عند ماما، وفي الآخر الأستاذ ييجي الساعة 11، وأكتشف إنه مش فاكر أصلاً إيه اليوم.”
ضحكت مريم بخفة، ثم سألتها بفضول:
“طب عملتي له إيه؟”
أجابتها يمنى ببساطة تامةٍ:
“ولا حاجة، خليته ينام على الكنبة ليلتها.”
كانت تلك الإجابة،كغيمة مرحة تعبر في سماء سهرتهم، تتناثر الضحكات بين الجميع، بينما كانوا يراقبون يمنى وقد أضأت الليل بذكرياتها وحكاياتها الطريفة عن حياتها مع عزت،وكيف أنها تعلم كيف تسرد الحكاية بابتسامة لا تخلو من السخرية المحببة.
توقف الجميع عن الضحك فجأة، حيث عمَّ الصمت للحظة قصيرة، ثم تقدمت ضحى بثقة وضغطت على الزر.
كانت أعين الجميع متجهة نحو الشاشة في انتظار النتائج، وبمجرد أن توقفت، ظهر الاختيار ليقع على كل من فيروز وليلى.
التفت الجميع بسرعة نحو ليلى التي بدت وكأنها تحس بتوترها في تلك اللحظة، لكنها سرعان ما ابتسمت بحنان، وكأنها تطمئن نفسها، ثم قالت لفيروز التي كانت تراقبها عن كثب:
“جاهزة؟”
ابتسمت فيروز برقة ثم فكرت قليلًا، وكأنها تحاول اختيار السؤال الأنسب، ثم قالت:
“إيه أكتر صفة عجبتك في سامي بعد الجواز؟”
سكتت ليلى للحظة، وكأنها تغرق في ذكرياتها مع سامي، ثم أجابت بخجل، وعينيها تنظران إلى الأرض وكأنها تتخيله أمامها:
“حنيّته…سامي حنين أوي…لو وزعنا حنيته على الناس كلها هيكفي ويفيض منها.”
رفعت رأسها ببطء ونظرت إلى جميع الحاضرين ثم أكملت بتواضع واضح:
“غير إنه عاقل وهادي…وأي حد يقدر يعتمد عليه.”
أعجب الجميع بإجابتها البسيطة والصادقة، كانت كلماتها تحمل في طياتها حبًا صادقًا،يعكس عمق العلاقة بينها وبين سامي بعد زواجهما.
أما فيروز، فقد شعرت بفرحة كبيرة لمدحها في أخيها بهذه الطريقة الجميلة،وعينيها تلمعان لها بالامتنان.
فيما علقت ضحى بمرح،قائلة:
“هو هادي وعاقل طول ما هو بعيد عن أخويا وباقي العصابة، علشان أول ما يبقى معاهم،بيتشّرس.”
ضحك الجميع على تعليق ضحى،بينما أيدت يمنى كلامها سريعًا وقالت بابتسامة مازحة:
“والله دي حقيقة، من واحنا صغيرين وهما كده، لما يبقى كل واحد فيهم لوحده، الدنيا هادية وتمام، لكن أول ما يتجمعوا مع بعض، مصايب الدنيا كلها تجري وراهم.”
توقفت قليلاً ونظرت نحو ضحى وفيروز، ثم أضافت بنبرة مرحة:
“باستثناء كارم وموسى، دول المصايب بتجري وراهم طول الوقت، حتى لو كانوا في بطن الحوت.”
هزت ضحى كتفيها ببساطة وقالت:
“كارم أخويا هو المصيبة بذات نفسها.”
تبادلوا الضحكات الخفيفة، بينما علقت فيروز مدافعة عن زوجها ،وقالت بحزم خفيف:
“بس معلش، موسى مش بتاع مشاكل.”
نظر إليها الجميع بابتسامات خفيفة،ثم علقت نورهان سريعًا بحماس:
“طبعًا، ماهو حبيب القلب بقا.”
ابتسمت فيروز بخجل، ثم قالت بنعومة:
“أنا بقول الحقيقة، موسى مش بتاع مشاكل. هو ممكن يبقى مستفز شوية… بس طيب وغلبان أوي.”
لم تفوت تينا الفرصة لتعلق بسخرية، فقالت بابتسامة مستفزة:
“والله أنتِ اللي غلبانة.”
ضحك الجميع على تعليقها، لكن تدخلت دلال سريعًا للدفاع عن موسى قائلة:
“لا معلش، هي ما قالتش حاجة غلط…موسى فعلاً طيب وغلبان،وتحس إن فيه طفل جواه…هو فعلاً مستفز شوية بس.”
لم تتمالك يمنى نفسها وردت بضجر:
“هنستنى إيه منكم، واحدة مراته وحبيبته، والتانية أخته اللي أمه مخلفتهاش.”
ما إن انتهت يمنى من كلامها،حتى تدخلت سلمى ضاحكة وقالت:
“تصدقوا إن لحد يوم خطوبتي أنا وفادي كنت فاكرة دلال أخت موسى.”
أيدت ليلى حديث سلمى بابتسامة هادئة وقالت:
“وأنا كمان كنت فاكرة زيك، لحد ما سامي وضحلي القصة كويس.”
ضحكت دلال بخفة وأردفت بمزاح خفيف:
“تقريبًا كل اللي كان بيشوفنا كان يفتكرنا أخوات وساعات توأم كمان!”
ابتسمت سلمى وهي تهز رأسها قائلة بخفة:
“أكيد عدّيتوا بمواقف كتير مضحكة بسبب الحكاية دي.”
ضحكت دلال وقالت بحيوية:
“أوه…كتير أوي! وأكترهم كانوا مواقف محرجة.”
تقدمت فيروز بحماسة وكأنها تتذكر شيئًا ممتعًا وقالت:
“احكيلهم عن موقف المدرسة.”
تساءلت دلال وهي ترفع حاجبها بابتسامة مشاكسة:
“بتاع المدرسة الابتدائي؟؟”
أومأت فيروز برأسها تأكيدًا، فيما بدأت دلال تعدل من جلستها وكأنها تستعد لسرد قصة ثمينة من زمن بعيد.
ساد الصمت بينهم للحظة، وكل واحدة منهن التفتت نحوها بانتباه وترقب،وكأنهن ينتظرن لحظة انفتاح صندوق ذكريات قديم يحمل بين طياته حكاية مفعمة بالطفولة والمواقف العفوية.
تألقت عينا دلال ببريق الذكرى وهي تبدأ بسرد القصة:
“وقتها كنا في سادسة ابتدائي، وفي السنة دي تحديدًا، اتنقلنا لمدرسة تانية عشان مدرستنا القديمة كان فيها تصليحات، وكان كل واحد فينا بقى في فصل لوحده…المهم، في يوم اتأخرنا عن المدرسة، وموسى ساعتها نسي ياخد أكله معاه…وأنا بقى ماقدرتش أسيبه جعان،فقلت هاأقسم أكلي معاه.”
ابتسمت وهي تتذكر ثم تابعت:
“استنيت لما ضرب جرس الفسحة، وروحت له وهو واقف مع صحابه…وطبعًا لما شاف الأكل في إيدي عمل نفسه مش شايفني، فا أنا اتعصبت، وروحت ماسكها من دراعه وأخدته لورا الكانتين، كلمة مني على كلمة منه… شدينا مع بعض،لأنه ماكانش راضي ياكل خالص.”
ضحكت بخفة وأضافت:
“قلت خلاص بقى،استنيت لما فتح بقه،وروحت داسة الساندويتش فيه بنفسي…ويا ريت اللي حصل وقف على كده.”
رفعت حاجبيها بطرافة ثم أكملت:
“ييجي الحظ بقى، يكون في أستاذ واقف ورانا بالظبط، وكان بيكلم حد في التلفون، غالبًا مراته علشان كان شكله مخنوق جدًا…المهم أول ما شافنا، ومن غير ما يفكر ثانية، راح ماسكنا من قفانا وعلى أوضة المديرة طيران.”
انفجرت الفتيات بالضحك عند هذا الجزء، فيما كانت دلال تتابع بسخرية مرحة، كأنها تعيش تلك اللحظة بكل تفاصيلها من جديد:
“مش فاهمه،ازاي فكروا إن أطفال زينا وقتها ممكن يكونوا في علاقة؟! ومش فاهمة كمان إزاي صنفوا وضعنا إنه وضع مخل!”
انفجر الجميع بالضحك من تعبيراتها الحماسية، فيما استمرت هي في حديثها بنبرة أخف ولكن مليئة بالذكريات:
“المهم بقى، قعدت المديرة تهزأنا، وبدأت تلومنا وتقول محاضرة على الأخلاق من النوع اللي قلبكم يحبها، وأنا وموسى قاعدين نحلف لها إن مفيش حاجة من اللي هي فاكرها، وموسى يقول لها ‘دي عمتي!’، وأنا أقول لها ‘ده ابن أخويا!’، وهي مش مصدقة، حالفة إنها ما تصدقنا.”
ضحكت الفتيات مجددًا من الحماسة في حديثها، ثم تابعت هي بنفس النبرة:
“وفي الآخر، عملت لنا استدعاء ولي أمر، وجه داود نيابة عننا احنا الاتنين، وقف بيني وبين موسى وقال بكل بساطة ‘دي ابني ودي أختي’ وطبعاً الصوت الوحيد اللي سمعناه في الأوضة وقتها كان صوت صرصور الحقل اللي دخل يرقص في الزاوية من كثر الصمت!”
أضافت دلال ضحكتها الهادئة، وكأنها قد نجحت في أن تتخطى ذلك الموقف بالكامل، بينما كان الجميع لا يزال يضحك على ما قالته، وكأنهم كانوا جميعاً جزءاً من تلك اللحظات الطريفة التي روتها.
نظرت هي إليهم جميعاً ورفعت حاجبها بسخرية واضحة، قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا يخرج معها زفرة طويلة، كما لو أنها قد أفرغت كل ما كان يكبلها من ضحك وحماسة، ثم قالت بصوت يحمل في طياته قليلًا من الارتياح والتهكم:
“الحمد لله، الفضحية اتلمت بأقل الخسائر، أي نعم اتشهرنا بالواد وعمته بعدها ،بس على الأقل، ده كان أهون من حاجات تانية، استغفر الله.”
ضحك الجميع مرة أخرى على كلامها، وكأنها استطاعت أن تحول ذلك الموقف المحرج إلى ذكرى عابرة تحمل طابعًا من الفكاهة التي لا يمكن تجاهله.
فهذه هي الحياة بحق، مليئة بالمواقف المحرجة التي تشعرنا بثقلها في لحظاتها، لكن مع مرور الوقت وتراكم التجارب، نجد أن هذه اللحظات تصبح جزءًا من الذكريات التي نضحك عليها. فعندما ننظر إليها من بعيد، نراها كما لو كانت مشهدًا كوميديًا، ونكتشف أن الضحك هو العلاج الأفضل لجعل هذه المواقف الطارئة تذهب أدراج الرياح.
ولأن أيضاً الضحك هو العلاج الذي يعيد الحياة إلى القلب المجروح، وهو القادر على شفاء الروح من ألامها، كانت تلك الضحكة التي خرجت من أعماق فيروز أكثر من مجرد صوت، كانت تعبيرًا عن شفاءٍ مما مر.
في تلك اللحظة، اختلطت ضحكاتهم معًا لتشكل نغمة تزيل كل ما تراكم من حزن،وتُعيد الروح إلى حالتها الطبيعية كما لو أن الزمن قد عاد بها إلى لحظات سعيدة كانت قد ضاعت تحت وطأة الأيام القاسية.
بفضل أحبابها،و تلك اللحظات البسيطة والمليئة بالصدق،استطاعت أن تجد السلام داخل قلبها…ليس فقط من خلال حديثهم، بل من خلال الحضور الفعلي لهم،الذي كان أكثر شفاءً من أي دواء.
وكانت على علم أن الفضل في كل شيء يعود إلى شخصين لطالما كانا روح واحدة… موسى، زوجها،وحبيبها الذي أسكن قلبها أمانًا وحبًا، وأصبح أسيرًا لعشقها ولقلبها.
ودلال، صديقتها الأعز والأقرب، فقد كانت أكثر من مجرد صديقة، كانت بمثابة مرآة لروحها، تحدق بها وكأنها تستطيع قراءة أفكارها قبل أن تخرج عن لسانها، كانت نصف روح في جسد آخر، منبع الأمل والراحة في الأوقات العصيبة.
في تلك اللحظات،كان قلبها يرفرف سعادة، وهي تمرر عيونها على من يجلسون حولها، وعقلها يضع صورته أمام عينيها، حتى يكون حاضراً في هذه اللحظة الدافئة.
كانت ابتسامتها تشع نوراً، وكأنها تعرف أن لحظات كهذه هي التي تعيد للروح قوتها،وأن الحب الذي يحيط بها هو العلاج لكل جروحها. وكلما نظرت حولها إلى هؤلاء الذين يشكلون عائلتها وأصدقائها، تذكرت أن الحياة تستحق أن تُعاش بكل ما فيها من ضحك وألم، وأن ما يجمعها بهم أقوى من أي تحديات واجهتها أو قد تواجهها في المستقبل.
_________________
في صباح اليوم التالي،كان الهواء البارد ينساب من النوافذ المفتوحة، وكانت الشمس قد بدأت تشرق خجولة، تنثر ضوءها على الأرض بحذر، كأنها تستعد ليوم جديد.
ترجلت من على السلم خطوات هادئة وحذرة،تحمل صينية الفطور التي تحمل أصناف الطعام بعناية، تحملها بيديها بينما تتجه للأسفل.
اقتربت من باب الشقة المخصصة للطابق الأرضي،وقفت للحظة، ثم طرقت الباب بيظه بحذرٍ.
بعد ثوانٍ قليلة،فتح الباب ببطء من قبل يحيى الذي أخفض نظره فور رؤيته لها، خجلًا من نفسه وليس منها.
فتح الباب على مصراعيه،ليتيح لها الدخول، فخطت ليلى بضع خطوات إلى الداخل، ووضعت الصينية على المنضدة الخشبية في صمت.
فمنذ ذلك اليوم،أصبحت هي التي تأتي إليه يوميًا بالطعام،وقد أضحت تفعل ذلك من دون علم أحدهم، بعدما أشفقت عليه بعد امتناع نادية عن تخضير الطعام له لغضبها منه.
التفتت ليلى دون أن تنتظر لحظة إضافية،مغادرة المكان بهدوء، لكن حينما عبرت الباب، فوجئت برؤية سامي وهو يصعد السلم، والذي بمجرد أن رآها تخرج من الشقة، حدق بها للحظة، ثم ألقى نظرة سريعة على والده، والتي كانت تفتقر إلى أي اهتمام أو عاطفة واضحة. ثم عاد بنظره إليها، وقال بنبرة هادئة، كما لو أنه لم يتفاجأ برؤيتها:
“نسيت محفظتي، فرجعت علشان أخدها.”
تفاجأت من رده الهادئ وعدم تفاجأه لرؤيتها،فعلمت أنه كان يعلم مسبقا بما تفعلع لواده، فقالت له بهدوء:
“آه..تمام، هطلع أجيبهالك.”
أومأ لها سامي بخفوت،فيما صعدت ليلى للأعلى لتجد الحافظة،تاركة سامي في مواجهة والده الذي نظر إليه مطولاً،وفي عينيه كلمات كثيرة لكنها تتردد في الخروج.
مرت لحظات من الصمت،حتى قرر سامي أن يواصل صعوده،لكن يحيى أوقفه فجأة قائلاً:
“أنا هسافر.”
توقف سامي في مكانه،وبدت ملامحه متصلبة، بينما لم يلتفت له أو يبد أي رد فعل واضح، فتابع يحيى حديثه قائلاً بنبرة حاسمة:
“أنا حجزت التذكرة،وخلاص هسافر بعد بكره…زي ما طلبت.”
ظل سامي صامتا،وهو يقف هناك،وعيناه تبتعدان عن والده، حتى تنهد بهدوء ثم أخيرًا التفت إليه وقال بصوت بارد ومتوتر بعض الشيء، كأنما يحاول أن يظهر اللامبالاة تجاه الموقف:
“أحسن قرار تاخده.”
ثم ودون أن ينتظر رده أو يضيف شيئًا،أدار ظهره ليصعد السلم، لكن قبل أن يخطو خطوة أخرى، أبصر ليلى وهي تقترب منه حاملة حافظة النقود.
توقفت عنده، وسلمته إياها بلطف، مرددة:
“اتفضل.”
ابتسم لها سامي ابتسامة صغيرة، كانت تكاد تكون غير مرئية، وقال:
“شكراً…مع السلامة”
ابتسمت له برقة وقالت:
“مع السلامة”
التفت سامي مغادرًا المكان بعد كلماته الأخيرة،ولم يلقِ سوى نظرة سريعة على والده، كانت نظرة باردة، لا تحمل أي مشاعر أو تعبيرات..كانت بمثابة رد فعل متقاطع مع ما قاله، كما لو أنه يرفض الدخول في أي نقاش آخر أو حتى إظهار أي نوع من الضعف أمامه.
أما ليلى فوقفت هناك، وراقبت الصمت الذي خلفه وراءه، ثم تنهدت بثقل والتفتت وبدأت الصعود لشقتها.
أما يحيى فبقى في مكانه، محدقًا في أثر ابنه الذي تلاشى عن مرمى بصره،وكأن الزمن توقف للحظة. كان قلبه يعصره القهر والوجع،وتلاطمته مشاعر الحزن التي لا تُحتمل، وقد تأكد في تلك اللحظة أنه خسر ابنه إلى الأبد.
_________________
على الجهة الأخرى…
كان الطريق مفتوحًا أمامهم،بينما كان الهواء يداعب نافذة السيارة. كان هو يقود السيارة ببسمة صافية على وجهه، يكاد نور السعادة يضيء ملامحه، وفي المقعد بجواره، كانت هي، مغمضة العينين بقطعة قماش رقيقة على عينيها، تمنعها من الرؤية تمامًا، متكئة على المقعد وفي قلبها مزيج من الترقب والقلق.
تمكن منها الفضول فرفعت يدها وهمّت بإزالة القماش من على عينيها، لكن قبل أن تلمسها،توقفت في حركتها عندما شعرت بيده تمسك بها برفق، رفع عينيه عن الطريق للحظة، موجهًا إليها ابتسامة صغيرة بينما ظل يتكلم بنبرة مضطربة:
“لأ…”
اقترب ولثم يدها بقبلة سريعة، وهو يستكمل حديثه:
“أبوس إيدك لأ، احنا قربنا نوصل خلاص، ماتبوظيش كل اللي عملته دلوقتي…ده أنا ماصدقتي نوصل من غير ما نتمسك في كمين، والحمد لله إني عامل حسابي وجايب قسيمة جوازنا معايا…اصبري بس دقيقة علشان خاطري.”
كانت تلك الكلمات سببًا في أن تغرق في صمت خافت، تنفست بعمق ثم زفرت بهدوء، كأنها لا تملك إلا الاستسلام لطلبه، أنزلت يديها ثم قالت بصوت هادئ رغم تعبيرات وجهها المطمئنة:
“حاضر.”
عاد هو للتركيز على الطريق،وعيناه تتنقلان بين الازدحام أمامه وحركات السيارة في انسيابية، وبالكاد مرت ثوانٍ معدودة، حتى توقفت السيارة فجأة، فابتسم بحماس ثم التفت إليها قائلاً:
“وصلنا..خليكِ زي ما أنتِ.”
أنهى جملته بتلك البسمة التي كانت دائمًا تضيء أجواء اللحظات، ثم خرج من السيارة بسرعة، متجهًا إلى جانبها. فتح الباب بحذر، مساعدًا إياها على النزول بهدوء، وكأن كل خطوة معها كانت أغلى من أي شيء آخر.
وضع يديه على عينيها برفق، وبدأ يسير بها إلى الأمام، موجهًا إياها بعناية وحرص:
“خليكِ ماشية براحة…أيوه،اقفي هنا بقى.”
توقف فجأة،فتوقف هو أيضًا، ثم رفع يديه عن عينيها برقة، وأخذ خطوات قليلة للأمام، ليقف أمامها، فاتحًا ذراعيه بحماس وكأنما يدعوها للاكتشاف.
“إيه رأيك؟؟”
أجابته بنبرة خفيفة ومرحة، رغم التردد:
“أنا مش شايفة حاجة.”
تذكر حينها القماشة التي كانت على عينيها، فقال بابتسامة:
“آه صح!”
اقترب منها بسرعة، وهو يسرع في فك العقدة، ثم أزال القماشة بلطف، وهتف بحماسة وهو يحدق في عينيها:
“ودلوقتي إيه رأيك؟؟”
فتحت عينيها ببطء، وكأنها تستعد لصدمة جديدة، لكن بمجرد أن نظرت أمامها، تجمدت ملامحها، عندما أبصرت تلك اللافتة الكبيرة أمامها، التي حملت اسمها بخط بديع،
إلى جانب اسم طبيب آخر اتفق موسى وسامي معه ليكون الترخيص باسمه مؤقتًا حتى يكتمل ترخيصها الخاص.
ذهلت تمامًا،وبدأ قلبها ينبض بسرعة، وعينيها امتلأت بالدهشة، والشعور بالتأثر كاد أن يغمرها بالكامل، لكن قبل أن تتمكن من قول شيء، التفت هو إليها مبتسمًا، ثم أشار إلى اللافتة وقال بفخر:
“أنا اللي مصمّمها بنفسي…’دكتورة فيروز يحيى الشافعي’… طبيبة أطفال، كان نفسي أكتب بين قوسين ‘مراتي’،بس سامي منعني…
المهم، دي مؤقتة لحد ما الترخيص بتاعك يطلع، وساعتها اسمك هيبقى لوحده، كبير قد الدنيا.
”
و
عندما أرادت أن تُعبّر عن السعادة التي تغمر قلبها، ظهر هو أمامها كأنه يعرف تمامًا بما يدور في ذهنها.
اقترب منها بخطوات واثقة، وأمسك بيدها برقة، وكأن يده كانت أمانًا وسندًا لعواطفها المتأججة، وقال بصوت هادئ، لكن يحمل في طياته تلك اللمسة المميزة التي اعتادت عليها منها:
“يلا بينا، أنتِ فاكرة إننا جايين علشان نتفرج على اليافطة ولا إيه؟!”
قطعت كلماتُه تلك أفكارها تمامًا، لكن دون أن تترك لها مجالًا لترد، بدأ هو في التقدم نحو المدخل بخطوات ثابتة وواثقة، وهو يقودها معه.
بينما كانت هي خلفه، تسير وكأنها تتبع نجمًا مضيئًا يقودها إلى عالمها الخاص، عالم مليء بالأحلام التي بدأت تتشكل حقيقة أمام عينيها. شعرت وكأن كل شيء حولها في تلك اللحظة صار منسجمًا معها، وكأنها أميرته التي يسعى دائمًا لإرضائها، مع كل خطوة يتخذها.
ما إن عبرت قدماها من باب المصعد حتى شعرت بشيء غير تقليدي في الأجواء المحيطة، فالتفاصيل الدقيقة التي كانت تلف المكان جعلت قلبها ينبض بشدة، وخاصة الزهور التي وضعت أمام الباب،والتي كان تبعث رائحة طيبة في الأجواء.
وقف هو أمام الباب لفترة قصيرة، وأخرج المفتاح بهدوء، ثم أدار القفل برفق ليفتحه، تاركًا المجال لها للتقدم أولًا. وما إن وطئت قدماها الأرض حتى وقع بصرها على ما كان يفاجئها للمرة الثالثة.
كانت العيادة قد تم ترتيبها بشكل مثالي، كل زاوية فيها تحمل لمسة من الفخامة والذوق الرفيع.
الجدران مزينة بلوحات أنيقة وراقية،تعكس شعورًا بالهدوء والطمأنينة، والأثاث كان أنيقًا للغاية، وكأن كل قطعة كانت تحمل قصة وحكاية، الأرائك الجلدية كانت موضوعة بعناية حول طاولة صغيرة مزخرفة.
إلى جانب ذلك،كان الأثاث يوحي بالراحة التامة، وقطع الزهور الطبيعية التي تزين الطاولات أضفت لمسة من الحياة والبهجة على المكان. وبينما كانت تتأمل المكان الذي تم تجهيزه بعناية، لاحظت أيضًا التفاصيل الصغيرة مثل الإضاءة الدافئة التي تنعكس على الجدران، وكأن المكان يهمس بالأمان والراحة.
لكن المفاجأة الأكبر كانت في الغرفة الجانبية حيث كان هناك رفوف مملوءة بالكتب الطبية وأدوات العناية التي أرادت أن تستخدمها في العيادة التي طالما حلمت بإدارتها. وكان في منتصف الغرفة مكتب فاخر، عليه جهاز كمبيوتر حديث، وبجواره زهرّية ورود باللون الأبيض.
تجمدت هي في مكانها، تتأمل ما أمامها، بدا كل شيء في المكان وكأنه مصمم بعناية، وكأن قلبه وضع فيها كل أمل وتطلعاته لحلمها، لتصبح هذه العيادة أكثر من مجرد مكان عمل، بل مساحة تحقق فيها كل آمالها.
وقف موسى أمامها ببضع خطوات،وعينيه مليئتين بترقب، يراقب عن كثب تعبير وجهها الذي كان مزيجًا من الدهشة العميقة والفرح الذي بدأ يظهر تدريجيًا في عينيها. كانت لحظة لا توصف، كما لو أن الزمان قد توقف لحظة لتشهد على هذه المفاجأة التي أعدها لها من قلبه.
ظل هو صامتًا للحظات، يحترم ذلك التفاعل العاطفي في قلبها، حتى قرر أن يقطع هذا الصمت، فتقدم قليلاً وقال بنبرة هادئة، ولكن تحمل خلفها عمق العمل الشاق الذي بذله: “جيبت الرجالة امبارح ولفينا على المحلات علشان نلاقي الحاجات دي، وبعدين جينا على هنا وجهزنا المكان…كنت أنا وطارق وصحابي وولاد عمي، وروؤف وتامر كمان، حملنا الحاجات من على العربيات ورتبناها زي ما أنتِ شايفة كده، ولأن عددنا كان كبير كان الموضوع سهل نسبياً وخلصنا بسرعة،يعني تقريباً على الساعة ٣ الفجر كده… أي نعم حسين في النص وقع من التعب بس كله يهون علشان خاطر هذه العيون.”
كانت كل كلمة يقولها يظهر فيها ذلك العشق والتفاني في تقديم كل ما يستطيع من أجل أن يراها سعيدة، كأن المكان نفسه كان يمثل قطعة من قلبه.
أما هي فشعرت بأنها غارقة في المشاعر، وكأن المكان حولها تحوّل إلى ترجمة ملموسة للحب والاهتمام العميق.
ابتسمت له ابتسامة لم تكن مجرد تعبير عن الفرح، بل كانت تفيض بكل معاني الحب والتقدير، وعينيها تتلألأ كأمواج البحر تحت ضوء الشمس، ثم تحدثت بصوت متهدج، لكن كلماتها كانت كالموسيقى في أذنه، مليئة بالامتنان والتأثر العميق:
“هو أنا قلتلك إني بحبك قبل كده؟؟”
أجابها موسى على الفور، بصوت مليء بالحنان والدفء، كمن يتمنى أن يكرر تلك الكلمات إلى الأبد:
“آه…بس أحب جداً أسمعها تاني.”
في تلك اللحظة، بدا وكأن العالم كله يتوقف عند تلك الكلمات،وبينما كانت نظراتها تتوهج بالحب، لم تتمالك نفسها وأخذت خطوة سريعة نحوه، تلقي بنفسها في أحضانه، وكان هو قد فتح ذراعيه في انتظارها، ليحتويها بكل ما يملك من حب وحنان، وكأنهما كانا في عالم آخر لا يعرف سواه.
استكانت في أحضانه، كأن كل شيء في الوجود قد استقر في تلك اللحظة، ثم همست له، وكان صوتها يحمل كل معاني العشق والألم والأمل:
“أنا بموت فيك.”
شعر هو بتلك الكلمات تتسرب في قلبه، وكان كل شيء فيه يعبر عن شدة الحب الذي يكنه لها. شدّ على عناقها بحب أكثر، وكأن الحياة كلها تنحني أمامهما، ثم قال بصوت مليء بالحب والعاطفة وهو يلثم جبينها:
“وأنا قلبي بيعشق قلبك…”
مرّت لحظات من الصمت الدافئ بينهما،وكأن الزمن قد تجمّد في تلك اللحظة، كل شيء حولهما يغرق في سكون مشبع بالمشاعر المتبادلة. ولكن فجأة، قطع هذا الهدوء صوت رنين هاتفه،فأغمض عينيه بضيق، وكأن ذلك الصوت جاء ليكسر سحر اللحظة، وقال بحنق:
“مين الرخم ده؟؟”
ابتعدت فيروز عن موسى بتلقائية لتمنحه مساحة للرد على المكالمة، بينما أخرج هو هاتفه من جيب بنطاله،وعيناه لا تزالان على فيروز، وبمجرد أن رأى اسم المتصل،رفع نظره إليها بابتسامة خفيفة، وقال:
“ده أخوكِ.”
ابتسمت فيروز بابتسامة خجولة، بينما ضحك موسى بخفة،ثم بدأ المكالمة، وهو يقول بمرح:
“أيوه يا سامي.”
جاءه صوت سامي من الجهة الأخرى،هادئًا كما هو معتاد:
“خلصتوا؟”
أجاب موسى وهو لا يزال يبتسم وينظر إلى فيروز:
“لا لسه…أصل في واحد قطع علينا الجو وإحنا في نص الحضن.”
رد سامي سريعًا بنبرة جادة لكن فيها خفة:
“ده أنا كده أحب مواعيد اتصالتي جداً.”
ضحك موسى بسخرية وهو يهز رأسه، ثم قال:
“طب أنت بتتصل ليه؟؟ أتمنى يبقى حاجة مهمة تتساهل اللحظة اللي ضاعت.”
سمع موسى ضحكة خفيفة من سامي، ثم تلتها نبرته الجادة التي بدأت تأخذ منحى أكثر جدية:
“من ناحية إنها مهمة فهي مهمة، في واحد لسه متصل بيا وبيقول إنه مدير في شركة ***** وإنهم سمعوا عنك وحابين تشتغل معاهم.”
عقد موسى حاجبيه، وقال مستنكراً:
“أشتغل معاهم؟؟”
“آه، وعايز يقابلك بكره كمان.”
صمت موسى لبرهة،وفكر في الأمر بعناية، ثم سأل بصوت جاد:
“طب أنت إيه رأيك، أقابله؟”
أجاب سامي بهدوء،وكأن قراره قد أصبح محسوماً:
“بصراحة أنا شايفها فرصة حلوة..يعني فرصة زي دي هتضمنلك الاستقرار في الشغل،ومن رأيي تروح تقابله…اشتريت منه أهلاً وسهلاً، ما اشتريتش سلام عليكم ولا كأن حاجة حصلت.”
فكر موسى قليلاً،وظهر عليه أنه بدأ يقتنع بالفكرة، ثم قال:
“اقتنعـت…تمام، هتيحي معايا؟”
أجاب سامي بنبرة آسفة:
“لا، أنا للأسف مش هقدر…علشان جلسة المحكمة بكره.”
“خلاص،ولا يهمك…المعاد إمتى؟”
“الساعة 2 بإذن الله في كافيه *** اللي على النيل.”
“تمام.”
“ماشي، أنا هقفل بقى علشان عندي شغل…سلام.”
“سلام.”
أنهى موسى المكالمة وأعاد هاتفه إلى جيبه،لكنه لم يستطع أن يبعد تفكيره عن اللقاء الذي سيتوجه إليه غداً.
خرج من شروده على صوتها الذي كان يحمل في طياته قلقاً ظاهراً،وسألته برقة: “خير؟؟”
طال الصمت بينهما، وكان هو يحدق بها، وعينيه تائهتين في تأملها، ثم أخيرًا، أجابها وقال بصوت خفيض جاد:
“أتمنى يكون خير فعلاً.”
حمل صوته بعض التردد،كما لو أن حروفه لا تستطيع أن تعكس تمامًا ما يشعر به، بدا وكأن هذه اللحظة كانت محورية بالنسبة له، وأنه لا يستطيع أن يحدد حتى الآن ما إذا كانت هذه الفرصة التي أتيحت له ستكون بداية جديدة أو مجرد خطوة أخرى في مسار مليء بالتحديات.
_________________
كتابة/أمل بشر.
فصل طويل أتمنى يبقى عجبكم وقولولي رأيكم.
وتوقعاتكم بخصوص شغل موسى؟؟
وسفر يحيى؟؟
وقولولي ايه أكتر مشهد عجبكم في الفصل؟؟
وادعولي فضلاً علشان عندي امتحان يوم الثلاثاء.
دمتم بخير…سلام.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.