رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السابع والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون (حنو غاب طويلاً ثم حضر أخيراً)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
–
إذا كان الأبُ في عينيكَ ظلماً
فلا تظنّ أن الزمان سيغفرُ
.
”
إيليا أبو ماضي
”
____________
نزل برفقتها من العيادة،يحيطها بنظراته القلقة ثم اتجها معًا نحو سيارتها المركونة على جانب الطريق بخطوات كانت هادئة لكن ثقيلة بما يكفي لتحمل بين طياتها ما لم يُقال.
فتح باب السيارة وصعد إلى مقعد السائق،بينما جلست هي إلى جواره دون كلمة
.
مدّت يدها بصمت نحو زجاجة الماء الموضوعة بجوار المقعد،وأخذت منها رشفات صغيرة كمن يحاول تهدئة اضطراب داخلي.
أما هو فلم يُقاطعها،ظل ينظر أمامه صامتًا حتى أعادت الغطاء وأراحت يدها أمامها.
عندها فقط تحدث بصوت هادئ فيه دفء مَن يخشى أن يكسر شيئًا هشًا:
“أنا سمعت من الدكتورة…قالتلي إن في استجابة، بس حابب أسمع منك يا لينا…شايفة إنك فعلاً بتتحسني؟ حتى لو خطوة صغيرة؟”
نظرت إليه،في صمتٍ لوهلة،كأنها تحاول أن تختار كلماتها بعناية ثم أومأت بخفة وهمست:
“آه…مش هقدر أقول إني بطلت،بس…”
توقفت وكأن الكلمات تخونها ثم ابتلعت ريقها وتابعت بنبرة أقرب إلى اعتراف:
“بس ما بقيتش زي الأول…بقيت أقدر أتحكم في نفسي أكتر…يمكن عشان التمارين والتعليمات اللي قالتلي عليها الدكتورة.”
ابتسم وارتخت عضلات وجهه، ثم زفر بخفوت وقال بلطف:
“الحمد لله…كده أقدر أبدأ أطمن، بس أوعي تتراجعي حتى للحظة،خليكِ قوية زي ما أنتِ ونفذي اللي تقولك عليه الدكتورة،و…على فكرة سمعت كده طراطيش كلام من أمي وأمك…بيقولوا إنك رجعتي تصلي.”
أومأت برأسها مرة أخرى،بعينين منخفضتين نحو يديها المتشابكتين في حجرها ثم قالت بصوت خافت يشبه الندم:
“آه…كانت خطوة لازم أخدها من زمان.”
رفعت عينيها إليه، ونظرت إليه ثم قالت بصدق وصراحة:
“مش هكدب عليك…أنا بقالي تلات سنين مقصّرة في صلاتي، وكل مرة أقول من بكره هبدأ،من بكره هلتزم…نفس الجمل اللي بنقولها علشان نُسَكّت بيها ضميرنا،بس ضميري ما سكتش…كان دايمًا بيصحى يأنبني وأنا بتجاهله…وكل مرة كنت أردد نفس الكلمتين علشان أُسكّته.”
توقفت قليلًا،ثم زفرت بقوة وتابعت:
“ماما دايمًا كانت بتزعقلي وتنصحني،بس ماكنتش بتأثر فيّا…مش عارفة ليه، كنت آه بصلي وقت ما تطلب،وبعدين أرجع أكسّل في باقي الصلوات،وبقى ده الطبيعي…الكسل بقى عادة.”
استمع لها في صمت قبل أن يسألها بنبرة هادئة،تحمل في طيّاتها سخرية خفيفة أقرب للعتاب الخفي:
“طب إيه اللي اتغيّر؟ الضمير صحى امتى؟”
رمقته بنظرة ضيق خفيفة لم تدم طويلاً،ثم تنهدت كمن يزيح ثقلًا عن صدره وقالت:
“في واحد…نصحني، قالي لازم أرجع أصلّي وأقرب من ربنا علشان ربنا يكرمني ويحميني.”
سكتت لحظة،ثم أضافت وهي تبتسم ابتسامة خجلة كأنها تعترف بسرّ:
“بصراحة،اتكسفت من نفسي أوي إنه عرف إني ما بصلّيش،من غير ما حد يقوله…تخيلت ساعتها لو الناس كلها شافتني بعينه…حسيت بالخجل وبالخوف، وقلت خلاص كفاية لازم أرجع حتى لو خطوة بخطوة…وبدأت فعلاً أحاول،على قد ما أقدر.”
نظر إليها لحظة ثم همس بدعاء صادق خرج من القلب:
“ربنا يثبتك…بس لازم تكوني عارفة إنك بتصلي لربنا علشانك،مش علشان الناس…فاهمه قصدي؟؟”
“فاهماك.”
أومأ بخفوت مع ابتسامة، ثم
ضيّق عينيه قليلًا،وسألها بفضول بدا عليه رغم محاولته التخفّي وراء اللا مبالاة:
“بس…أنا أعرف الشخص ده؟”
نظرت إليه بنصف ابتسامة مائلة الرأس، وقالت بنبرة خفيفة تحمل مزيجًا من الغموض والاستفزاز اللطيف:
“يهمك في حاجة؟”
رفع حاجبيه وقال بابتسامة جانبية:
“لا، فضول بس.”
رمقته بنظرة جانبية ثم هزّت كتفيها بخفة كمن يحاول التملص،وقالت بنبرة تجمع بين الخجل والعناد:
“طب معلش…مش هعرف أقولك وأرضي فضولك،علشان هتكسف أقول هو مين.”
اتسعت ابتسامته تدريجياً، وشقّت طريقها بهدوء إلى ملامحه ثم التفت نحو المقود وبدأ بتشغيل السيارة،قبل أن يهمس بصوت ينساب بدهاء خافت،كمن كشف السرّ دون أن يُقال:
“مش مهم…عرفته أصلاً.”
رفعت حاجبيها ببطء وهي تلتفت إليه في صمت،لكن لم يُخفِ وجهها ارتباكها،ولا تلك اللمحة الصغيرة من الذهول التي حاولت إخفاءها خلف ملامح ثابتة.
أما موسى، فضحك بخفة ضحكة صافية لكن بها سخرية خفيفة،ثم مدّ يده براحة على المقود، وحرّكه بسلاسة وهو يدور بعجلة القيادة،لتنطلق السيارة بانسيابية هادئة…لكنها كانت بالنسبة لها أقرب إلى سرعة دقّات قلبها المضطربة في تلك اللحظة،بعدما أحرجها بجملته الأخيرة تلك.
_________________
بعد نصف ساعة…
فوجئت بالسيارة تتوقف فجأة على جانب الطريق،فالتفتت إليه بدهشة لم تستطع إخفاءها،وسألته وهي تراه يمدّ يده نحو مقبض الباب ويتهيأ للنزول:
“وقفنا هنا ليه؟”
أشار بعينيه نحو أحد المحلات خلفها،ثم قال ببساطة وهو يفتح الباب:
“هنجيب حاجة من المحل ده…تعالي علشان تختاري معايا.”
لم ينتظر ردّها،وترجل من السيارة بخفّته المعتادة،بينما بقيت هي لحظة في مكانها كأن عقلها يحاول اللحاق بوقع الأحداث، ثم نزعت حذامها بسرعة وخرجت،وهي تلحق به متسائلة:
“نختار إيه؟”
أجابها دون أن يتوقف،وصوته يحمل تلك النبرة التي تجمع بين التذكير والابتسام:
“تورتة لفيروز…ناسية إن النهاردة عيد ميلادها؟”
قطبت حاجبيها لحظة ثم قالت:
“لا مش ناسية…بس إحنا جبنا لها امبارح!”
ابتسم دون أن يلتفت،ثم قال بنبرة واثقة وهو يفتح باب المحل:
“أنتم جبتلها…أما أنا لسه، يلا تعالي نختار سوا.”
ولجا إلى المحل أولًا،وهي تسير خلفه بخطوات هادئة،ألقى التحية بصوت خافت دافئ:
“السلام عليكم.”
ظهرت فتاة شابة من خلف المكتب،رفعت عينيها عن الشاشة وردّت بهدوء مهذب:
“وعليكم السلام ورحمة الله.”
تقدم موسى نحوها بثقة ولينا إلى جواره،يتشاركان الوقوف أمام طاولة العرض وكأنهما شريكان في مهمة صغيرة،لكن بدفءٍ عميق.
سألته الفتاة بابتسامة مهنية لم تخلُ من الود:
“تؤمروا بإيه يا فندم؟”
مدّ موسى يده ليضعها على طرف الطاولة وقال:
“عايزين…”
توقف فجأة والتفت نحو لينا و سألها بخفة:
“نجيب إيه؟”
رمقته لينا بنظرة تحمل شيئًا من العبث وقالت:
“مش أنت اللي قلت هتجيب تورتة؟”
“آه…بس مش عارف أجيبها بطعم إيه، هي كانت بتحب الفراولة وهي صغيرة، بس مش متأكد لو لسه ذوقها زي ما هو.”
ابتسمت لينا وهي تسترجع ذكرى الأمس:
“لأ…ما اتغيرش، احنا امبارح جبنّا تورتة نص فراولة ونص فانيليا،وهي أكلت من الفراولة بس.”
ضيق عينيه بنصف ابتسامة وقال بنبرة مازحة:
“يعني أتوكل على الله وأجيب؟”
أومأت بخفوت،وابتسامة صغيرة تشق طريقها لوجهها دون إذن ثم قالت بلطف:
“توكل على الله…”
التفتت هي سريعًا نحو الفتاة وسألتها باهتمام:
“ممكن تورينا تورتات الفراولة اللي عندكم؟”
أشارت الفتاة بيدها نحو رف زجاجي بزاوية المحل،وقالت:
“في الثلاثة دول بالفراولة يا فندم.”
توجهت نظراتهما معًا نحو الرف الزجاجي،وكلٌّ منهما يُقيّم الخيارات بعينيه، كأنهما يختاران شيئًا أثمن من مجرد حلوى.
اقتربت لينا بخطوات هادئة،وعيناها تنتقلان بين الكعكات بتأمل دقيق حتى توقّفت أمام الكعكة التي تتوسط الرف وأشارت إليها بثقة:
“هناخد اللي في النص دي.”
ابتسمت لها الفتاة بلطف ثم أومأت بخفوت، وفي اللحظة ذاتها خرجت فتاة أخرى من الداخل وأخذت الكعكة برفق لتبدأ تعبئتها بعناية.
عادت لينا إلى جوار موسى،الذي كان قد انشغل بالنظر إلى مجموعة الحلوى الصغيرة تحت زجاج الطاولة، لفت انتباهه صفٌ من “التشيز كيك” الملون،فرفع عينيه للفتاة خلف المكتب وقال:
“ممكن آخد اتنين تشيز كيك فراولة…وواحدة لوتس؟”
ردت بسرعة وبابتسامة:
“أكيد يا فندم.”
لكن قبل أن تتحرك،رفع يده كمن تذكر شيئًا وقال:
“ولا بقولك ثانية واحدة…خَليهم اتنين فراولة،وواحدة لوتس،وواحدة شوكولاتة.”
أومأت له مجددًا، لكنه لم يكتفِ كأن شيئًا داخله لم يُحسم بعد، نظر في الرفّ الزجاجية ثم سأل بتردد:
“ثانية…هما كام بالشوكولاتة بس؟”
سألته الفتاة باستغراب بسيط:
“أعدهم؟”
رد وهو يحدق فيهم:
“آه.”
بدأت الفتاة بالعد،لكنه أوقفها عندما لوّح لها بسرعة وهو يقول بوجه متهكم:
“خلاص خلاص،ما تعديش…هاخدهم كلهم، مع اتنين فراولة وواحدة لوتس…هي خربانة كده كده!”
تعجبت الفتاة من الكمية الكبيرة التي طلبها،لكنّها اكتفت بإيماءة خفيفة،تحركت بعدها لتبدأ بتحضير الطلبات.
أما لينا فكانت دهشتها أكبر من أن تخفيها،نظرت إليه بعينين متسعتين ثم تمتمت بسخرية خفيفة وهي تراه يخرج محفظته:
“عيشت وشوفتك بتدفع مبلغ محترم يا موسى.”
رفع حاجبيه وهو يخرج بعض الأوراق النقدية من فئة المائتين،ثم قال بنبرة فيها شيء من التمثيل المصطنع للغضب:
“يعني إيه؟ فلوسي كانت قليلة الأدب قبل كده ولا إيه؟”
نظرت إليه بنصف ابتسامة،ثم قطبت حاجبيها تمثيلاً للضيق وقالت:
“ثقيل.”
ضحك بخفة ثم التفت إليها وقال بنبرة متوعدة مازحة:
“اسكتي بدل ما أخليكي تدفعي تمنهم…وأنا بتلكك!”
أطلقت ضحكة قصيرة رغماً عنها، في تلك اللحظة كان هو يناول النقود للفتاة،وما إن التفتت لينا عنه قليلاً حتى تمتمت بسخرية خافتة،لكنها لم تكن حريصة على كتمانها تمامًا:
“ربنا يسترها على اللي هيأكل.”
علّق بسرعة وهو يُسلِّم النقود وكأن أذنه التقطت الهمسة من الهواء:
“سمعتك.”
جاء رده هادئًا ساخرًا، وفيه ما يكفي من التهديد اللطيف ليجعلها تضحك بخفوت،فيما التفت هو نحوها بعد أن تسلم حقائب الحلوى من الفتاة، ونظر إليها بنظرة متعمدة الحنق ثم قال بنبرة مزيفة الغضب:
“قدّامي بقى،علشان أحاسبك على الحاجات دي.”
رمقته بنظرة حانقة،زائفة بدورها، ثم أدارت وجهها وتقدّمت قبله بخطوات شبه متعجّلة وخرجت من المحل،بينما هو سار خلفها يتصنّع الجديّة،حتى رفع الحقائب أمامه ونظر إليها نظرة درامية ثقيلة،وقال بنبرة تخلط بين الحسرة والمبالغة:
“يلا، بألف هنا وشفا…على قلبكم.”
_________________
مع مرور الوقت…
ولج إلى المطبخ بخطوات هادئة،تقدم نحو الثلاجة وأخذ زجاجة ماء بارد،احتسى منها القليل وهو يستمتع بالبرودة التي تسللت إلى حلقه، لكن فجأة وقع نظره على قطعة حلوى _المزينة بالشيكولاته_موضوعة على أحد الرفوف.
رفع داود حاجبيه،حدق بها بفضول ومدّ يده ليأخذها لكن فجأة دخلت عبير من الباب،فالتفت إليها بسرعة وسألها بهدوء:
“إيه ده يا عبير؟”
ابتسمت عبير بهدوء،واقتربت منه لتجيب بينما عيونها تلمع ببريق غامض:
“ده تشيز كيك.”
نظر إليها بتساؤل ثم سألها ببساطة:
“وده أنت عملاه يعني؟”
أجابته بابتسامة هادئة إلا أن نظرتها كانت تحمل شيئًا من الخفاء:
“لأ..في حد من الولاد جابه.”
سألها بفضول متزايد:
“مين؟”
اتسعت ابتسامتها قليلاً،وأصبحت أكثر غموضًا،بينما تشنج وجهه للحظات قبل أن يواجهها بذهول:
“لأ…هو؟”
أومأت عبير برأسها،وابتسامتها لا تزال تزين وجهها،فأجابها داود وهو يضحك بخفة من المفاجأة:
“طب إيه المناسبة؟”
“لما سألته قالي مفيش مناسبة، أنا جبته للكل وخلاص، بس ماتتعودوش.”
ضحك داود من جديد، لكن عبير أكملت بابتسامة دافئة:
“ادّاني علبة مليانة،وقاللي وزعي على كل اللي في العمارة،وأنا هدّي لجدي.”
نظر داود إلى قطعة التشيز كيك في يده،وهو يبتسم بخفوت ثم قال بمرح ساخر:
“ده أنا المفروض أحنتها،دي حاجة صعب تتكرر تاني.”
أضافت عبير بنبرة مرحة:
“أو مستحيل تتكرر تاني.”
ضحك داود من جديد ثم توقف فجأة ونظر إليها بعينين تحملان فضولًا خفيفًا، وقال بنبرة تشير إلى اهتمامه:
“طب هو فين دلوقتي صحيح؟”
ابتسمت في هدوء ثم أجابت ثم أجابت:
“أنت ناسي إن نادية عزماه النهاردة على الأكل.”
“آه صح،معاش راح عن بالي.”
سكت لبرهة ثم فجأة اقترب منها وهو يقول بحماس:
“المهم دلوقتي،حضرلي الأكل لحد ما أغير هدومي علشان أكل بسرعة وأقعد أتمزج مع الكيكة اللي ابنك جابها دي…ده حدث لازم أستمتع بيه.”
ضحكت بصوت خفيف، ثم أجابت بابتسامة دافئة:
“عيوني حاضر.”
أعاد داود قطعة الحلوى إلى مكانها داخل الثلاجة،بحركة حريصة وكأنه يودّع كنزًا صغيرًا مؤقتًا ثم أغلق الباب برفق وخرج من المطبخ بخطوات خفيفة، يحمل على وجهه ابتسامة عريضة لا تُخطئها العين، وحماسة غريبة كأنّه على وشك حضور احتفال طال انتظاره.
كل هذا فقط من أجل قطعة حلوى…
قطعة بسيطة، لكنها محمّلة بما هو أكثر من الطعم؛ محمّلة بنية طيبة ولفتة نادرة من ابنه الذي لا يُعبّر بالكلمات بل بالأفعال…
أفعال كان سابقاً يفعلها في الخفاء،لكن الأن أصبح يفعلها علناً أمام أعين الجميع.
_________________
في جهة أخرى…
ولج إلى شقته بهدوء،أدخل المفتاح خاصته في الباب وأداره برفق، وما إن خطى إلى الداخل حتى لمح زوجته تجلس في الصالة،ترفع ملعقة صغيرة إلى فمها،تتذوّق منها قطعة حلوى بنهم طفولي لم يره فيها من قبل.
عقد طارق حاجبيه بخفة ثم ألقى التحية:
“السلام عليكم.”
رفعت دلال رأسها فورًا،وابتسمت له بودٍّ صادق وقالت:
“وعليكم السلام…صليت؟”
أومأ وهو يخلع حذاءه:
“آه الحمد لله…أُمال إيه ده؟ تشيز كيك ده ولا إيه؟”
ازدادت ابتسامتها اتساعًا وكأنها فخورة بما بين يديها:
“آه، موسى هو اللي جايبه.”
ارتفع حاجباه بدهشة خفيفة،وأردف بغير تصديق:
“موسى بتاعنا؟؟”
هزّت رأسها بسعادة وهي تتابع:
“آه، عدى عليّا في الصيدلية من شوية وادّاهالي…بتاعتك في التلاجة،هقوم أجيبها لك.”
همّت لتنهض،لكنه مدّ يده بلطف يوقفها وقال:
“لا خليكِ…إنتِ طول اليوم واقفة في الصيدلية،خليكِ مرتاحة.”
أطلق جملته بنبرة حانية فيها من الحرص والامتنان ما جعل ابتسامتها تزداد هدوءًا، بينما تقدم هو واختفى داخل المطبخ،وما لبث أن عاد بعد لحظات حاملاً قطعة حلوى مزينة بالشيكولاته كباقي القطع غيرها ،باستثناء أن قطعة دلال كانت مزينة بالـ “لوتس” – مذاقها المفضل.
اقترب منها وجلس،فمالت بجسدها نحوه تلقائيًا؛ فابتسم وهو يضمّها إليه،رافعًا ذراعه ليطوّقها برفق ثم تناول أول لقمة من الحلوى، وقال بسخرية مرحة:
“أنا سمعت إن الست بتغير الراجل، بس أول مرة أصدّق.”
ضحكت وهي تضع رأسها على كتفه،لكن سرعان ما دافعت عن حبيب روحها بنبرة محبّة: “موسى طول عمره نفسه حلوة،بس هو اللي بيحب يتبارد مش أكتر.”
التفت إليها بنظرة جانبية وهو يقول:
“هستنى منك إيه؟ ما إنتِ حبيبته بقى؟”
رفعت رأسها ونظرت إليه بحنان،ثم همست:
“أنا حبيبته آه،بس إنت وهو…حبايب قلبي.”
وفي تلك اللحظة،لم يكن في الجو سوى دفء خافت ينساب بين الكلمات، وهدوء يُشبه سكون البحر ليلاً، وكلمة خرجت من قلب امرأة،صادقة، دافئة، خفيفة كنسمة،لكنها حين استقرت،فعلت في قلبه ما لا تفعله آلاف القصائد.
استقرت في قلب رجل يحبها…
ويعضّ على هذا الحب بنواجذه،
يفتخر به، يعيشه بكل رجولة ورضا،
حتى لو كان يعلم،
أن هناك من يتقاسمها معه في مساحة ما من قلبها،
إلا أنه لم يكن يومًا خائفًا من المشاركة،
فهي لم تكن له وحده،لكنها كانت له بصدق،
يكفى أنها له، وهنا، بجواره،
وبجوار قلبه.
_________________
على جهة أخرى…
كان يجلس في بهو المنزل، متكئًا براحته على الأريكة، وإلى جانبه سامي الذي يتولى حمل “يزيد” على ركبتيه بمهارة وحرص.
وعلى الجانب المقابل،جلست فيروز وليلى ونادية،وقد انفرجت وجوههن بابتسامات هادئة بعد وجبة عشاء دافئة جمعتهم جميعًا.
على الطاولة أمامهم،تجمّعت الأكواب الصغيرة التي تعبق منها رائحة الشاي الساخن، تنبعث منها سكينة تشبه تلك التي تسبق النوم مباشرة، وفي المنتصف كعكة الفراولة تلمع بطبقة الجيلاتين،تحيط بها قطع الحلوى التي أحضرها موسى،ولا تزال كلمات الإطراء من نادية تتردد في أذنه عن ذوقه الرائع.
كان هو حينها منغمسًا في مداعبة الصغير بمرحٍ صافٍ، يُشبه دفء الأمسيات العائلية حين تخلو من أي تصنّع،مدّ وجهه ليقترب من يزيد وهمس له بنبرة مفعمة بالحماس الطفولي:
“يلا قول اسمي تاني؟ أنا سمعتك لما ناديتلي وأنا داخل…”
ظلّ صامتاً صامتًا، يحدّق في عينيه بعفوية كأن لسانه عقده الخجل، رفع موسى حاجبه بأسلوب تمثيلي وهو يقول برجاء طفولي لا يخلو من الدلال:
“يلا قول موسى…تاني، قولها مرة واحدة بس، مرة بس كده وأنا أرضى”
ضجّ المكان بضحكات خفيفة من الجالسين، وكان أولهم سامي الذي هتف متظاهرًا بالضيق:
“ماكفاية بقى، هتخلّيه يقوله بالعافية!”
لوّح موسى بيده نحو الصغير وقال بإصرار، وهو لا يزال يُثبت نظره عليه:
“هو بيعرف يقوله،أنا متأكد إني سمعته…أكيد قاله”
رد سامي بسخرية وهو ينظر لفيروز التي كانت تُخفي ضحكتها بكفّها:
“أكيد هتسمعه،ما الأنسة كل ما تقعد معاه تحفظه اسمك”
نقل موسى نظره مباشرة إلى فيروز،ثم أشار لها بسبابته باتهام مشاكس وقال بغمزة عابثة ولهجة نصف جادّة:
“شقيّة!”
أطرقت فيروز برأسها وهي تضحك في خجل حلو المذاق، بينما لم يتمالك سامي نفسه، فلكز موسى بمرفقه وهمس له بنبرة متأففة فيها مسحة مرحة:
“اتلم بقى…واحترم إننا قاعدين”
طالعَه موسى بطرف عينه بنظرة ضيق خفيف،لكنها لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما أبعد نظره عنه وتظاهر بتجاهله ثم التفت إلى يزيد ومدّ يده بقطعة كعكة صغيرة وهو يقول بنبرة حنونة:
“ما أكلتش ليه من التورتة يا يزيدو؟ مش عاجباك؟”
جاء صوت سامي هادئًا، محمّلًا بلطفٍ وحرص خفي:
“يزيد عنده حساسية جامدة من الفراولة.”
اتسعت عينا موسى بذهول خفيف، ثم تمتم بصوت خافت يشوبه ندم حقيقي:
“بجد؟! أنا ماكنتش أعرف…آسف يا يزيدو،كنت هبوظ الدنيا…حقك عليّا يا بطل.”
انحنى قليلًا وقبّل جبين الطفل برقة، ثم ابتسم بنبرة صادقة محمّلة بوعد صامت:
“بس أوعدك،هعوضك وهجيبلك تورتة شوكولاتة مخصوص ليك لوحدك….”
أشار على فيروز بإبهامه ضاحكًا:
“أنت وفيروز.”
ضحكت النساء عليه، فيما طالعه سامي بضيق حتى فقط نهض بحذر وهو يحمل يزيد على ذراعه كمن يخشى على قطعة من روحه أن تنكسر.
ثم أشار للأخير وقال بنبرة مقتضبة:
“قوم.”
رمقه موسى باستغراب وقال ببلاهة خفيفة:
“هتطردني ولا إيه؟”
لم يجب سامي بل تحرّك نحو ليلى التي كانت قد نهضت لتستلم يزيد،ومدّ الطفل إليها بهدوء حريص، ثم التفت إلى موسى وقال بنبرة هادئة:
“تعالَ نتكلم في البلكونة…عايزك في حاجة.”
صمت موسى للحظة،ثم وضع الطبق على المنضدة بهدوء،ونهض وهو يومأ بخفوت مردداً:
“ماشي.”
سار خلف سامي بخطوات متزنة،وخرج الاثنان إلى الشرفة التي لفّها هواء الليل، ونسماته الباردة لكنها لا تلسع بل توقظ الوعي.
وقف سامي عند السور،وراح ينظر إلى الشارع أسفلهم بصمت،بينما وقف موسى بجواره منتظرًا أن يبدأ.
مرّت ثوانٍ من الصمت قبل أن يتحدث موسى بصوت هادئ:
“هو عزت كلمك؟؟”
أومأ سامي وعيناه مثبتة نحو الأسفل:
“آه…قالي إن تقرير الطب النفسي طلع، وأثبت إن الكلب اللي اسمه خالد مسؤول عن أفعاله…وبكده هيتحاسب زيه زي أي مجرم…واتجدد حبسه لـ١٥ يوم على ذمة التحقيق.”
هز موسى رأسه برفق،وكأنه يؤكد لنفسه ما يعرفه ثم قال بنبرة أكثر حذرًا:
“مظبوط،وأنا قلت لفيروز…علشان تبقى عارفة.”
“كويس.”
ساد صمت قصير،ننظر خلاله موسى إلي الأخير وقرأ في ملامحه شيء لم يفهمه أولًا، ثم سأله بصوت مائل للقلق:
“كنت فاكرك عايز تكلمنى بخصوص الموضوع ده، بس واضح أنك مضايق من حاجة تانية…في إيه؟”
تردد سامي ثم نطق أخيرًا:
“هيسافر.”
قطب موسى حاجبيه،وامتلأت ملامحه بالتساؤل:
“مين؟”
“بابا…”
رفع موسى حاحبيه بدهشة خفيفة قبل أن يسأل:
“وأنت عرفت منين؟”
تنهد سامي وعيناه لا تزالان معلقتين بشيء في الفراغ:
“هو اللي قالي…شافني النهاردة وقالي إنه هيسافر بعد بكره.”
سكت لبرهة ثم أضاف بنبرة لا تخلو من الثقل:
“ودلوقتي…أنا عايز أقول لفيروز علشان تشوف هتعمل إيه؟ هتسلم عليه وتودعه قبل ما يمشي ولا لأ.”
سكت موسى للحظة،ثم سأله دون التفاف:
“طيب…أنت عايزها تعمل إيه؟”
نظر له سامي أخيرًا،وأجابت بصوته خرج منخفضًا يحمل بين طبقاته ثقلًا من الحيرة والحرص:
“أنا عايزها تعمل اللي تشوفه صح…اللي ترتاح له،علشان ما تندمش بعدين…أنا متأكد إنها لو ما ودّعتهوش هتندم أوي.”
رمقه موسى بنظرة عميقة ثم سأله بهدوء فيه شيء من التحدي:
“وأنت؟ مش هتندم؟”
تجمدت ملامح سامي للحظة، ثم حرّك رأسه نافيًا،كأنه يهرب من الجواب لكنه قال أخيرًا:
“إحنا دلوقتي في فيروز،مش فيا.”
أومأ موسى بخفة، لكنه لم يتركه ينسحب من مواجهة نفسه، فأردف بنبرة أهدأ أقرب إلى النصح منه إلى الجدال:
“فيروز قلبها هيقرر عنها،وهتعمل اللي أنت عايزه ماتخفش.”
توقف لوهلة، قبل أن يتابع بنفس العمق:
“بس دلوقتي أنا فيك أنت…هتسيب قلبك يقرر؟ ولا هتفضل مكمل بعقلك؟”
كان الصمت بعدها أبلغ من الكلام…ظل سامي واقفًا،لكن ظل السؤال معلقًا بينهما،ينتظر جوابًا لا يُقال بسهولة.
ولأنه لم يكن يملك إجابة حاسمة بعد،ولأن قلبه وعقله يتنازعان المسألة دون أن يظفر أحدهما بالحسم، قرر سامي أن يغلق الباب مؤقتًا.
زفر ببطء كأنما يطرد التردد من صدره ثم قال بنبرة أقرب إلى الإرهاق:
“محتاج أفكر لسه…بس المهم دلوقتي،عايزك أنت اللي تقول لفيروز.”
نظر إليه موسى بصمت عميق، ثم أومأ بخفوت وقال بصوت هادئ، لكنه ثابت:
“حاضر،هقولها…وأنت خُد وقتك،بس يا ريت تفكر بقلبك.”
ثبتت عينا سامي على موسى للحظات، ثم أومأ له مرة أخرى، وتمتم بنبرة أكثر خفة كمن يحاول كسر ثقل اللحظة:
“حاضر… قولي بقى،هتروح تقابل الراجل ده بكرة؟”
ابتسم موسى بخفة وهو يهز رأسه:
“آه إن شاء الله…أهي تجربةمحاولة هنخوضها،مش هنخسر حاجة.”
أومأ سامي بدعاء خافت:
“إن شاء الله خير.”
“يارب…”
رد موسى ثم سكت قليلًا قبل أن يقول بنبرة شبه مرحة:
“يلا بقى، ادخل وابعتلي أختك.”
انقبضت ملامح سامي بوضوح،وانعكس الضيق في نبرة صوته وهو يردف بحنقٍ كاد أن يتحول إلى غضب:
“يا بني اتلم بدل ما أرميك من هنا وأخلص منك.”
رد موسى مبتسمًا ببراءة مصطنعة:
“هو أنا قلت حاجة غلط؟ أنا بس بقولك ابعتلي مراتي.”
حدق فيه سامي لحظة ثم قال بنبرة حازمة بعض الشيء:
“ما هي مراتك دي تبقى أختي…فتحترم ألفاظك شوية،
فضلاً
.”
أومأ سريعًا وقال بنبرة أقل مرحًا،وفيها شيء من الجدية:
“حاضر…هحترم نفسي المرة الجاية، يلا ادخل بقى وابعتها، عايز أتكلم معاها.”
سكت سامي لحظة كأنما يحاول ابتلاع ما تبقى من انزعاجه، ثم أغمض عينيه وزفر زفرة طويلة قبل أن يتمتم على مضض:
“حاضر.”
استدار سامي ودلف إلى الداخل، فيما تبعه موسى بنظراته التي لم تخلُ من ابتسامة هادئة.
وما إن اختفى سامي خلف الباب،حتى تنفس موسى بعمق، ثم استدار برفق وارتكز بمرفقيه على سور الشرفة،ورفع رأسه إلى السماء.
كان الليل ساكنًا،ونسماته باردة تحمل شيئًا من الهدوء اللطيف، والنجوم كانت هناك تلمع بهدوء كأنها تنصت لما لا يُقال.
لم تمضِ ثوانٍ،حتى سمع وقع خطوات خفيفة،فالتفت قليلاً،لتدخل هي…
تقدمت ووقفت بجواره،لا على مسافة بعيدة ولا على مقربة مربكة…فقط في مكانٍ يسمح للسكوت أن يكون لغة، وللوجود أن يكون إجابة.
نظرت إلى الأعلى تمامًا كما كان يفعل، وتابعت النجوم بعينيها بصمت، كان المشهد أمامها بسيطًا لكنه مغمورٌ بجمال نادر جمال اللحظة التي لا تُفتعل.
أخذت نفسًا هادئًا وكأنها تريد أن تحتفظ بكل هذا الهدوء داخل صدرها، ثم همست بصوت خافت لكنه دافئ:
“الجو حلو أوي.”
جاء رده عفويًا، صادقًا، خاليًا من التكلّف، وكأنه خرج من أعماقه دون أن يمر على أي تفكير:
“أنتِ أحلى.”
لم يلتفت نحوها بل ظل ينظر إلى السماء وكأن كلماته لا تحتاج نظرة لتُثبتها، كأنها صارت حقيقة بمجرد أن نُطقت.
لكنها التفتت إليه…بعينين خجولتين، وابتسامة تسلّلت من دون أن تستأذن، ابتسامة خفيفة تحمل ألف معنى.
حينها حرّك عينيه ببطء نحوها، كانت نظرة واحدة لكنها كانت كافية لتشعر بها، لأنه ابتسم لها أولًا بعينيه قبل أن تتبعها شفتاه.
ثم قال بصوت خفيض يحمل مزيجًا من الجد والمشاكسة:
“إيه؟… أنتِ والله أحلى من أي حد، ومن أي حاجة.”
ابتسمت مجددًا،لكن هذه المرة لم تكن ابتسامة خجل بل ابتسامة حب وهيام، متدفقة من قلب ممتلئ به ثم همست بصوت ينساب كالموسيقى:
“وأنت أحلى وألطف وألذ راجل شوفته في حياتي..”
تجمّدت نظراته عليها، مذهولًا لكن ذهولًا محببًا، فيما تابعت هي بنفس النبرة، بنفس الإحساس الصافي:
“وبحمد ربنا إنك كنت من نصيبي وبقيت شريك حياتي،لأن أيامي معاك بقت أحلى…والنهاردة كان أحلى عيد ميلاد ليا،بفضلك…أنا بجد بحبك يا موسى”
مرت لحظة قصيرة لكنها أثقل من كل الكلمات،لحظة صمت تحدثت فيها نظراته عن دهشة، وامتنان، ودفء لم يكن بحاجة لتفسير.
ثم رفع يده ببطء ولمس وجهها برفق كأنها كنز يخاف أن يوقظه من حلم جميل، وقال بصوت واهن لكنه صادق:
“وموسى بيحبك..وبيعشقك وقلبه بيموت فيكِ.”
تبادلا النظرات طويلاً،نظرات مشبعة بالحب والسكينة،تتداخل فيها الابتسامات الهائمة كأنها لغة صامتة لا يتقنها سواهما، الجو كان مثاليًا، الهواء العليل يداعب وجهيهما، والنجوم تعكس فوقهما صمت السماء، وكأن الكون كله منح تلك اللحظة لهما فقط.
لكن كما تفعل الحياة دائمًا، كان لا بد أن يتسلل شيء من الواقع إلى هذا الصفاء.
تذكر موسى ما طلبه سامي، ورغم أنه لم يكن يرغب في أن يكسر هذا الصفو،ولا أن يعكر تلك الدقائق التي شعرت بأنها نُحتت من حلم…لكنه يعلم أن هناك كلمات يجب أن تُقال وأمانة يجب أن تُسلَّم.
أنزل يده التي كانت لا تزال معلقة قرب وجهها بهدوء،واختفت ابتسامته تدريجيًا، ونظر إلى الأرض للحظة وكأنه يختار كلماته بعناية، ثم همس بصوت خفيض لكنه واضح:
“عايز أقولك حاجة؟”
نظرت له في صمت،وعيناها تسأله بلطف عمّا يريد قوله، دون أن تقطع خيوط الهدوء التي نسجت بينهما.
ضم هو شفتيه قليلاً،ثم رفع نظره إليها وقال بهدوء ثقيل:
“عمي يحيى…هيسافر بعد بكره.”
تبدلت ملامحها شيئًا فشيئًا،كأن الغيم مرّ فجأة على سماء وجهها لا صدمة واضحة ولا حتى اعتراض، فقط سكون غريب تملّكها، كما لو أن الكلمات لم تُفهم فورًا بل تسللت بهدوء ثم غرزت أنيابها في قلبها على مهل.
أكمل هو بنبرة حاول أن يجعلها هادئة بقدر ما يستطيع:
“شاف سامي وقاله…وساني طلب مني أقولك،علشان لو حابة تشوفيه أو تودّعيه،يبقى عندك فرصة.”
نظرت نحو الأمام، لم تتكلم ولم تتحرك، بينما هو همس من جديد:
“بس مافيش ضغط…اعملي اللي يريحك واللي يريح قلبك.”
حينها فقط نظرت إليه،وفي عينيها شيء يشبه الألم القديم،شيء لم يُشفى بعد…ثم همست:
“لو كنت مكاني كنت هتعمل ايه؟؟”
أجابها دون تردد:
“هسمع كلام قلبي…وأنا عارف إن قلبك مش هيدّلك غير عالصح.”
طالعته في صمت للحظة ثم ابتسمت ابتسامة باهتة، لا تُشبه تلك التي سبقتها وهمست:
“محتاجة وقت أفكر.”
رد
بنبرة هادئة تحمل ثقة صادقة، ثقة لا تحاول دفعها لاتجاه بل تمنحها المساحة الكافية لتفكر، لتشعر، لتختار:
“خدي وقتك، أنا واثق إنك هتاخدي القرار الصح.”
ابتسمت له بامتنان، امتنان عميق لرجل لم يفرض عليها رأيًا، لكن سرعان ما تلاشت ابتسامتها وحل محلها الصمت، ذاك الصمت الذي يثقله التفكير،ويزدحم بالذكريات.
عيناها تاهتا في السماء مجددًا،لا تطالع النجوم هذه المرة بل تبحث عن إجابة هناك…
هل تقدر على تجاوز الألم؟ هل تستمع لقلبها وتذهب؟
هل تعانق ذاك الأب الذي تسبّب في وجعها الأكبر،فقط لأنها تعلم أنه ستندم إن لم تفعل؟
هل تتجاوز الماضي لأجل الحاضر؟ لأجل راحة نفسها لاحقًا؟
أم تُبقي المسافة وتحتفظ بكرامتها كأنها تحمي جرحًا لم يُشفَ تمامًا؟
تدافعت الأسئلة داخلها بلا صوت،لكنها شعرت بيده تلامس يدها بخفة،وتلتها ابتسامته الصافية،كأنها تذكير بأنه يدعمها مهما كان قرارها.
أغمضت عينيها للحظة ثم فتحتها على تنهيدة خافتة،دون أن تنطق بكلمة.
كانت تعلم أن الساعات القادمة ستحمل الإجابة.
وأن قرارها_مهما كان_سيكون نقطة فاصلة لا رجعة فيها.
_________________
أُزيح ستار الليل، وأطلّ الصباح بخجل على المدينة التي بدأت تتثاءب من سباتها، تخرج من صمتها رويدًا رويدًا، تصافح أشعة الشمس بشيء من التوجّس، كأنها لا تزال عالقة بين حلم لم يكتمل ويقظة لا ترحم، بدأت السيارات بدأت تسير، الأبواب تُفتح، والوجوه تُغادر بيوتها مثقلة أو متفائلة، لكن الجميع يتوجه نحو روتين ينتظرهم، ليبدأ يوم جديد.
وكانت هي من بين أولئك السائرين في صمت…
كانت تجلس على مكتبها،تمسك بالقلم بين أصابعها وتحركه بعشوائية على ورقة بيضاء أمامها كأنه وسيلة لتفريغ توترها، تُحرّكه على الورقة دون هدى، ترسم دوائر متداخلة، خطوطاً ملتوية لا تنتهي، رسومات لا تشبه شيئًا سوى التيه.
أسندت كفّها إلى خدها،ومال رأسها تعبًا من كثرة التفكير.
وعيناها ظلّتا معلّقتين بذلك الممر الطويل المؤدي إلى قسمهم، تُحدّق فيه دون رمش، تنتظر…كأنها تترقّب معجزة.
لكن في الحقيقة،كانت تنتظره هو،كانت تنتظر قدومه،أن تره وأنا يأتي ويطل عليها كما تتتمنى وتأمل.
نظرت إلى ساعة يدها بنفاد صبر،ثم زفرت بضيقٍ خافت كأن عقارب الوقت تثقل على صدرها بدل أن تُحرّكه للأمام.
تركت القلم من يدها بتراخٍ مستسلم،كأنها أخيرًا أذعنت لليأس، ثم دفنت وجهها بين كفيها، تتنهدت بعمق تنهيدة ثقيلة كأنها تخرج من أعماق قلبها لا من رئتيها.
كا
نت
تلك اللحظة بمثابة اعترافٍ داخلي بأنها فقدت الأمل،بأن انتظاره قد طال، وقد لا يأتي بالفعل.
لكن…فجأة، قطعت ارتطامة خفيفة على سطح المكتب خيط أفكارها،تلاها صوت مألوف، يحمل رنّة من الجدية التي تميز حضوره، لكن خلفها دفء لا تخطئه أذنها:
“عايز الملفات دي تتراجع وتجيبهالي على مكتبي تاني…يا آنسة ميرنا.”
تجمّدت كأن الزمن توقف للحظة…
فتحت عينيها ببطء،تردّدت ثم أبعدت كفيها عن وجهها ورفعت رأسها.
وهناك…
كان واقفًا أمامها…
بكامل هيئته، بثباته المعتاد، بابتسامة خفيفة تزين ملامحه،وبتلك النظرة التي لا تُشبه سوى الاطمئنان لها.
فرغ فمها من الكلمات،كل الحروف التي كانت تدور في ذهنها تبعثرت فجأة، ولم تستطع سوى أن تهمس بدهشة وهي تنهض من مجلسها:
“أنــ… أنت جيت؟ جيت إمتى؟ أنا كنت…”
قاطعها بهدوء وصدق، دون أن تغيب الابتسامة من عينيه:
“أنا هنا من بدري…من قبل ما تيجي كمان، جيت وملقتكيش على مكتبك،فقلت أحايلك بعدين.”
رمشت عدة مرات كأنها تحاول التأكد من واقعيته،ثم سألته باستنكار لا يخلو من ذهول: “من بدري؟!”
أومأ برأسه دون أن يغيّر من نظرته:
“آه، واضح إنك كنت فاكرة إني مش هاجي”
حرّكت رأسها نفيًا بسرعة،كأنها ترفض أن يظن ولو للحظة أنها لم تكن بانتظاره ثم قالت بصوت خافت يحمل بقايا خيبة مضت:
“لأ…أنا مستنياك بقالي كتير،بس لما الوقت اتأخر، فكرت إنك مش هتيجي.”
رمقها بنظرة هادئة،تشوبها لمسة جادة، ثم قال بنبرة منخفضة لكنها تحمل من الثبات الكثير:
“ماينفعش ماكنتش أجي…أنتِ تعبتِ علشان تقنعي باباك إنه يخصم لي بدل ما يطردني،ماكنش ينفع أسيب تعبك ده يضيع كده.”
رفعت حاجبيها بدهشة حقيقية، كأنها لم تكن تتوقع أن يعرف بشئ كهذا،وسألته بصوت يعلوه الذهول:
“أنت…أنت عرفت إزاي إني اتكلمت مع بابا؟!”
لم يجبها في الحال،فقط اكتفى بابتسامة جانبية خفيفة تحمل في طياتها امتنانًا عميقًا، ثم قال بهمسة بالكاد وصلت إليها:
“خمنت…ومن رد فعلك، اتأكدت إن تخميني كان صح.”
ظلت تنظر إليه بدهشة حقيقية،وذهول صامت يفضح أنها مازالت تجهل بعض تفاصيله…لقد أيقنت الآن أنه ليس فقط ذكيًا بل أيضًا ماكرٌ بأسلوب يُخفيه تحت قناع الدعابة وأحياناً الجدية.
أما هو فزفر بخفوت كأنما يُبعد توترًا ما، ثم مد يده بهدوء إلى الملف الموضوع أمامها وقال بنبرة جادة، لم تخلُ من لمحة المرح المعتادة في صوته:
“ماتنسيش تراجعي الملف ده…وياريت كمان تجيبلي تقارير بالأيام اللي كنت مطرود فيها، علشان أقدر أواكب الإنجازات العظيمة اللي فاتتني.”
لم تتمالك نفسها من الابتسام، كانت ابتسامة هادئة لكنها مشبعة بالامتنان، بالارتياح، وبشيء لم تسميه بعد.
ضحك هو بخفة ثم التفت نحو الزملاء الموزعين هنا وهناك،وكأنهم لم يكونوا يتلصصون عليهم بنظرات فضول بريء لكنه كان يشعر بهم تمامًا.
رفع يده بخفة وصفّق تصفيقة قصيرة ثم قال بصوتٍ مرحٍ تسمّرت عنده الآذان:
“يلا يا شباب، كله يرجع لشغله، ننجز كده علشات نخلي الإدارة ترضى عننا…وأنا كمان هرجع لشغلي وهجتهد…رغم إني حاليًا بشتغل ببلاش…بس أعمل إيه؟ ضميري محترم بقى..على عكسي!”
ضحك البعض والبعض الآخر اكتفى بابتسامة عابرة، أما هي فبقيت تطالعه ببسمة هادئة، وعيون لا تخفي امتنانها وبهجتها برؤيته، كأن رؤيته وحدها كانت كافية لتضيء صباحها الرمادي.
التفت فجأة نحوها، بنظرته تلك التي تجمع بين الجدية واللعب، ثم أشار بعينه نحو الملف أمامها وقال بنبرة مصطنعة مكسوّة بالصرامة:
“يلا متتأخريش!”
ثم لم يلبث أن غمز لها في النهاية بمشاكسة خفيفة خفّت من وقع كلماته وأثارت بسمة عريضة على وجهها، قبل أن يدير ظهره ويمضي بخطى واثقة نحو مكتبه.
رافقت خطواته بنظراتها،تراقبه كمن تخشى أن يغيب مرة أخرى، وظلت ابتسامتها تلازمه حتى اختفى عن مجال رؤيتها.
لكنها وسط كل هذا، لم تكن تعلم أن هناك عينًا أخرى كانت تراقب المشهد في صمت…عدسة كاميرا هاتف،التُقطت من زاوية لا تُلفت الانتباه،سجّلت اللحظة بصورها…وبحركاتهم، ونظراتهم، وبغفلتهم كذلك.
_________________
مع مرور الوقت…
ترجل من سيارته أمام إحدى الكافيهات الراقية المطلة على كورنيش النيل، فتنفّس الهواء النقي الذي يحمله النهر في سكون كأنما يهيئ نفسه لما هو مقبل.
أغلق باب السيارة خلفه بهدوء ثم رفع يده ليضبط وضع قبعة رأسه السوداء التي انسجمت تمامًا مع قميصه الأسود وحذائه اللامع، بينما كسر رتابة اللون الداكن بنطال جينز أزرق قاتم وساعة يد أنيقة بنفس اللون،أضفت عليه لمسة من العصرية رغم جديّة مظهره.
سار بخطى واثقة نحو مدخل الكافيه،يحمل في ملامحه مزيجًا من التركيز والحذر، حنى توقّف عند المدخل لثوانٍ وأخذ يمسح المكان بعينيه، يفتّش بين الوجوه والجلوس حتى وقعت عيناه على رجل أربعيني أنيق يقف بجوار إحدى الطاولات المنزوية في الركن، يراقبه مباشرة كأنما ينتظره منذ لحظة دخوله.
اقترب موسى بخطوات متزنة، لا عجلة فيها ولا ارتباك، حتى وقف قبالته، ابتسم الرجل الأربعيني ومد يده بمودّة مصطنعة ومهنية واضحة قائلًا بنبرة مهذبة:
“أهلاً بحضرتك يا أستاذ موسى،اسمحلي أعرّفك بنفسي…أنا مرتضى الجندي،مساعد المدير التنفيذي لشركة **** للبرمجة والتطوير.”
أشار بيده إلى الكرسي المقابل له مردفًا:
“اتفضل…إحنا مبسوطين إنك قبلت الدعوة ووافقت تقابلنا،وهنبسط أكتر لما توافق تشتغل معانا وتكن جزء من شركتنا”
لبّى موسى الطلب وجلس على الكرسي بثقة هادئة، ثم أجاب بنبرة رصينة امتزج فيها الهدوء ببعض الجدية:
“مش شايف إن لسه بدري على الكلام ده شوية؟ أنا لسه ماسمعتش منك حاجة غير اسمك واسم شركة.”
ابتسم مرتضى ابتسامة احترافية، كأنما معتاد على التحفظات الأولية ثم قال:
“أكيد،هوضحلك كل التفاصيل حالًا… اسمحلي الأول أسألك تحب تشرب إيه؟”
رد موسى بتلقائية لا تخلو من طبيعة شخصيته المباشرة:
“جوافة.”
رفع مرتضى حاجبيه بدهشة خفيفة ثم رد الكلمة بنبرة استنكار مرحة:
“جوافة؟!”
أومأ موسى بخفوت، وأعاد تأكيد طلبه:
“آه.”
أومأ مرتضى بالمثل، وتلك الابتسامة المهنية لا تفارق وجهه ثم التفت يمينًا برأسه وأشار لأحد العاملين القريبين الذي اقترب منهم سريعًا، فطلب منه:
“فنجان قهوة سادة، وعصير جوافة لو سمحت.”
أضاف موسى سريعاَ وهو ينظر للنادل:
“ساقع…عصير جوافة يبقى ساقع.”
ابتسم النادل وأومأ برأسه قبل أن يغادر،فيما التفت مرتضى مجددًا نحو موسى وقد ارتسمت على ملامحه تلك الابتسامة المهنية المتحفظة التي لا تكشف سوى ما يريد أن يُرى.
أما موسى فبقي كما هو، هادئ النظرات، متزن الجلسة، ينظر له في صمت،وينتظر أن يبدأ.
وأخيرًا، كسر مرتضى حاجز الصمت بنبرة حاول أن يغزل فيها بعض الدفء، وكأنّه يفرش طريق الحديث بأريج الثقة:
“أحب أقولك إننا سمعنا عنك كتير، وفي آخر فترة كنا متابعينك ومركزين معاك، والحقيقة إنك شخص يستاهل إننا نركز معاه، ويستاهل يكون معانا ضمن فريقنا…الشباب المجتهد اللي زيك بقى قليل.”
رفع موسى حاجبيه بخفة،ثم أجاب ببساطة لكنها مشبعة بالواقعية:
“بالعكس،الشباب اللي مجتهد زيي موجودين كتير، بس هما محتاجين فرصة، حتى يدور عليهم ويكتشفهم، بس إحنا للأسف مش بنشوف غير الظاهر.”
أومأ مرتضى بتفهمٍ،وقد بدا على وجهه أثر كلمات موسى التي حملت صدقًا وواقعية واضحة، ثم قال مؤيدًا:
“صح،معاك حق…وإحنا فعلاً شفناك وركزنا معاك لما لقينا العيون والاهتمام عليك.”
وصل النادل في تلك اللحظة،ليقطع هذا الحديث مؤقتاً،فوضع فنجان القهوة أمام مرتضى بحركة محسوبة ثم وضع كوب العصير البارد أمام موسى بعناية، وانصرف بعدها في هدوء.
راقب موسى سطح العصير للحظة،وكأن دوامات رغوة الجوافة تحكي له عن حيرته كما لو كانت مرآة لعقله المزدحم بالأفكار. رفع بصره ببطء نحو الرجل الجالس أمامه، وقد بدا عليه الثبات والتمكن.
تناول رشفة هادئة من فنجان القهوة ثم وضعه بتؤدة، وقال بصوت يحمل مزيجًا من المديح والتحليل:
“أنت عملت ضجة واضحة في الفترة الأخيرة،وخليت الناس كلها تركز معاك…مش عارف إذا كنت قاصد ده علشان تزود شهرتك ولا لأ، بس عمومًا لو كان عن قصد فأنا أحييك على ده.”
أجابه موسى بصوت ثابت لكن هادئ، يشوبه ظل مرارة:
“لا، ماكنتش قاصد، وماكنتش ناوي حتى أعلن عن هويتي…لولا إن حد سبقني ونشر صوري، وفضحني قبل ما أكون مستعد.”
تأمل مرتضى انعكاس القهوة في فنجانه للحظة،ثم قال دون أن يرفع عينيه:
“أنا بصراحة مااعتبرش ده فضيحة…ده كان شئ عظيم، لأنه ببساطة، لولاه ماكنّاش عرفنا نوصل ليك،ولا كنا قدرنا نطلب نقعد معاك، أعتقد لو كنّا حاولنا نتواصل قبل الفيديو، كنت هترفض، صح؟”
أومأ موسى دون تردد:
“مظبوط.”
ابتسم مرتضى ابتسامة خفيفة،كمن كسب أولى خطوات التفاوض،ثم وضع الفنجان على الطاولة برفق،وانحنى قليلاً إلى الأمام، مشبكًا يديه بنمط رجل يدخل الآن صلب الموضوع:
“خليني دلوقتي أدخل في المهم…إحنا شركة متخصصة في البرمجة والتطوير،وأكيد سمعت عننا قبل كده، وبصراحة هيكون شرف لينا إنك تكون ضمن الفريق، بس مش كعضو عادي… العرض المقدم ليك هو منصب مدير قسم البرمجة بالكامل.”
تغيرت ملامح موسى للحظات، تجمد شيء ما في نظرته وهو يسمع الكلمات الأخيرة، إذ لم يتوقع أن يأتي العرض بهذا الثقل، انتقلت دهشته إلى وجهه دون أن ينطق،ولاحظ مرتضى ذلك فتابع بنبرة مدروسة:
“حد زيك قدر يجذب كل الأنظار ويثبت نفسه في زمن قصير…رغم إنك ماكملتش تعليمك،ومش معاك شهادات عالية زي غيرك،لكن قدرتك اللافتة خلتنا ننتبه…ده مش موهبة وبس ده فكر،ونادراً لما الفكر ده يتولد من العدم…علشان كده من الخسارة فعلاً إنك تحصر نفسك في زوايا الإعلانات وفرقعة السوشيال ميديا….إحنا شايفين إن مكانك الحقيقي،بين العقول اللي بتصنع الفرق…مش اللي بتستعرضه.”
ثم صمت، صمت بدا لموسى كنافذة تُفتح على حافة الاختيار…
وفِي هذا الفراغ الهادئ، دخل موسى إلى نفسه، استمع لها تتصارع داخله..لم يكن القرار سهلاً ألبتة؛ لذا فرك رقبته ببطء كمن يحاول تخفيف التوتر عن فِكر أثقله المفاجأة،وقال بصوت متزن لكن مُرتبك بعض الشيء:
“الحقيقة…أنت فعلاً فجأتني،العرض كبير وماتوقعتهوش…ف هاأكون ممتن لو خدت وقت أفكر فيه.”
هزّ مرتضى رأسه بتفهم،وابتسامته ما زالت تحتفظ بذلك القدر من المهنية المختلطة بالود:
“طبعاً،خد وقتك..بس متتأخرش علينا كتير،إحنا مستنيينك.”
أومأ له موسى بامتنان،وعيناه ما تزالان عالقتين في فراغ التأمل،حين أشار مرتضى نحو كوب العصير على الطاولة،قائلاً بنبرة خفيفة لكسر ثقل اللحظة:
“اتفضل… اشرب عصيرك قبل ما يسخن.”
ابتسم موسى ابتسامة صغيرة،ولمس الكوب أخيرًا بينما عينات مثبتة على الفراغ أمامه،وعقله تتصارع فيه الأفكار لإتخاذ القرار المناسب.
_________________
كان الليل قد أرخى ستائره على المنطقة،والسكون بدأ يزحف ببطء بين الأزقة،لكنه لم يجد له مكانًا داخل ذلك السايبر الصغير،حيث اجتمع الستة بعد يوم طويل،يلفهم التعب كما يلفهم الدفء الذي يجمعهم.
“قعد يزعق ويعلى صوته ويتهمها بالتقصير علشان جوازها،وشوية يعمل نفسه مسكين وبيعيط…وإحنا والقاضي قاعدين بنتفرج على حلقة درامية من مسلسل مش مُنتَج لسه! تقريبًا لما حس إنه خسر كل حاجة قرر يتمسكن كحل أخير.”
كانت تلك كلمات سامي التي ختم بها سرده لما حدث اليوم في جلسة المحكمة،ف انفجر كارم ومحسن ضاحكين على سخريته،في حين ظل حسن محافظًا على هدوئه،ونظر نحو سامي وسأله بصوت خافت لكن عينيه كانتا مليئتين بالترقب:
“والقاضي حكم بإيه؟”
نظر سامي نحوه وأجاب بهدوء:
“لأ،أجّل تاني…بس المرة دي قال إنها الجلسة الأخيرة وهينطق بالحكم فيها.”
تدخل موسى وسأل بنبرة فيها جدية:
“وامتى الجلسة دي؟”
أدار سامي رأسه إليه وقال ببساطة:
“الاثنين اللي بعد الجاي.”
سأله كارم بصوت أجش بلا مواربة:
“يعني مفيش أمل يكسب خلاص،صح ياسيمو؟”
تنهد سامي وأجاب وهو يمد يده لزجاجة ماء موضوعة أمامه:
“ماعتقدش…المحامي بتاعه كان بيردد نفس الكلام اللي قاله قبل كده،مفيش ولا حُجة جديدة،وعاصم نفس الحكاية، وكان باين على القاضي إنه مش مقتنع بكلامهم، فإنشاء الله يكون الحكم من نصيبنا.”
رد الخمسة معاً بصوت خافت به رجاء صادق:
“إن شاء الله”
احتسى سامي قليلاً من الماء،ثم أعاد الزجاجة إلى طرف الطاولة، لكن فجأة مدّ يده ووضعها على ركبة موسى،ناظراً إليه بعينين تفيض فضولاً حقيقياً وسأله بنبرة لا تخلو من الحماسة:
“صحيح…إيه اللي حصل في المقابلة النهاردة؟ عملت إيه؟”
أجاب موسى بصوت هادئ كمن لا يزال يحمل ثقل أفكاره على كتفيه:
“روحت،وقابلته…وسمعت عرضه،وحالياً بفكر فيه.”
رفع سامي حاجبيه وسأله مباشرة:
“عرض عليك إيه بقى؟”
نظر في وجوههم جميعًا، عينًا تلو الأخرى، ثم قال أخيرًا بصوت متزن لكن فيه صدى لما أحدثه الخبر من ارتجاج داخله:
“مدير قسم البرمجة في الشركة.”
ساد صمت مفاجئ كأن أحدهم قد ضغط زر الإيقاف فجأة،وتعلّقت الأنظار بموسى كأنهم ينتظرون منه أن يُكمل ما لم يُقال.
فيما ارتفعت عقد محسن حاجبيه وقال:
“مدير قسم؟! مش موظف عادي ولا حتى مبرمج وسط الفريق؟ لا…مدير على طول؟”
أومأ موسى بخفة، بنظرة هادئة تحمل شيئًا من التردد،فقال حسن بنبرة تميل للواقعية:
“واضح إنهم مركزين معاك بجد…بس السؤال هنا ناوي تقبل؟”
لم يُجب على الفور بل تنهد ببطء أولاً كأنه يزن الكلمات بميزان داخلي دقيق ثم قال:
“لسه…محتاج أفكر كويس، العرض مغري جدًا،بس في نفس الوقت…مش عايز أسيب اللي بنيته من البداية،كل حاجة هنا بدأت بتعبي وتعبكم حتى لو كانت صغيرة.”
وضع سامي يده على كتف موسى،وهز رأسه بتفهم وقال:
“أهم حاجة إنك تفكر براحتك،خد وقتك وخلّي القرار يكون نابع من جواك.”
ابتسم موسى ابتسامة خفيفة،لكن ظلت في عينيه ظلت الحيرة قائمة،متأرجحة بين الحلم الجديد…والرحلة التي تعب حتى صنع أولى خطواتها.
عاد علي إلى واقعه على إثر تربيتة خفيفة من سامي على كتفه،كأنها انتشلته من غرقٍ داخلي لا يُرى، زفر بقوة ومسح وجهه بكفّه كما لو أنه يحاول طرد كل ما علق به من أفكار.
التفت سامي نحو كارم وسأله بنبرة مرحة:
“وأنت إيه الجديد في يومك يا كارم باشا؟”
رد كارم ببسمة هادئة وهو يستعد لإشعال السيجار بين أصابعه:
“رجعت الشغل.”
جاء تعليق موسى سريعًا، بنبرة تجمع بين الواقعية والسخرية :
“هتسيبه تاني، ماتقلقش.”
انفجروا جميعًا في ضحك تلقائي،تعبيرًا عن حقيقة يعلمونها ويشاركونها دون تصريح، أما كارم فرد ببرود وهو يشاركهم الضحك:
“ما أنا عارف.”
هدأ الجو تدريجيًا من الضحك بينما نقل سامي عينيه إلى حسن وسأله بنغمة مائلة للفضول:
“وأنت يا شيخنا؟ إيه الجديد في يومك؟”
رد حسن بصوت ثابت، رتيب كعادته:
“مفيش…كان يوم روتيني خالص.”
دارت عينا سامي حتى استقرتا على حسين،المستلقي على الأريكة بجسد مستسلم وعينين نصف مغمضتين، ولم يكن لا يبدو واعيًا تمامًا لما يدور حوله فسأله ساخرًا: “وأنت يا سحس؟”
لوّح لهم حسين بيده كمن يطرد ذبابة،ثم استدار ليعطيهم ظهره دون أن يتكلم.
رمقه سامي حينها بنظرة ضيق مملوءة بالتنهيدات وقال مستنكرًا:
“مين اللي جابه ده؟ والله ماليه لازمة في القعدة دي.”
ضحكوا مرة أخرى،فيما حرّك سامي رأسه بيأس قبل أن يتوجه نحو محسن قائلًا:
“وأنت يا محسن؟ في جديد في يومك؟”
رد محسن مباشرة وبنبرة عادية:
“مفيش حاجة جديدة.”
رفع كارم إصبعيه فجأة وقال بمكرٍ،والسيجار يعلو ويهبط بين شفتيه:
“في حاجتين.”
تجمّدت ملامح محسن فورًا،كأن تيار كهربائي قد صعقه،ونظر إليه الجميع بدهشة وعدم فهم، وسأل حسن بنبرة شك:
“تقصد إيه؟”
سارع محسن بالرد وهو يلوح بيده بسرعة:
“مايقصدش حاجة…بيهزر بس.”
طالعه حسن بريبة حقيقية،كأن داخله قرأ أن وراء الجملة شيئًا لم يُقال، بينما ضحك كارم بسخرية لا تخلو من غموض،تسارع محسن لتغيير مجرى الحديث،كأنه يُطفئ حريقًا لا يراه سواه:
“صحيح يا سامي،موسى قالنا قبل ما تيجي إن عمي يحيى هيسافر بكرة.”
اختفت ابتسامة سامي تدريجيًا كأنها أُطفئت على مهل، وتبدّل وجهه في لحظة إلى شيء أكثر سكونًا…وأكثر وجعًا.
ألقى نظرة خاطفة نحو موسى، نظرة لم تحمل عتابًا ولا لومًا،بل فقط ذلك الإدراك الصامت بأن الوقت يمضي،والاختيارات تقترب من أن تكون نهائية،ثم أومأ بخفوت وقال بصوت منخفض يكاد لا يُسمع:
“آه..”
لم يمر صمته دون أن يُلاحظ،فسأله محسن باهتمامٍ بدا عليه القلق:
“طب وهتعمل إيه؟”
نقل سامي نظره إليهم جميعًا ثم قال بهدوء فيه من التسليم بقدر ما فيه من الإيمان:
“العمل عمل ربنا.”
كانت كلماته قليلة،لكنها قالت الكثير، وعلى الفور فهم الجميع أن القرار لم يُتخذ بعد، وأن الحديث أكثر مما قيل قد يُثقل كاهله في لحظة هو أحوج ما يكون فيها إلى المساحة.
تبادلوا النظرات بينهم ثم بصمتٍ جماعي ناضج،أغلقوا باب الحديث من دون اتفاق، كأنهم جميعًا شعروا أن الصمت في هذه اللحظة كان أصدق من أي جملة…وتركوا لسامي حرية اتخاذ القرار بطريقته، وفي وقته.
_________________
في صباح اليوم التالي….
خرج من الشقة بخطوات بطيئة،ثم أغلق الباب خلفه برفق، كما لو كان يودع ما لا يُودَّع.
أخرج المفتاح من جيبه وأدار القفل بهدوء، ثم تراجع خطوة للخلف ونظر إلى الأعلى… نحو الدرج بعينين ممتلئتين برجاءٍ خفيّ، ربما ينزل أحدهم…ربما يسمع اسمه يُنادى…ربما تُفتح الأبواب فجأة…لكن لا شيء حدث…لا صوت…لا طيف…لا وداع.
تنهد بقلبٍ مثقل ثم مد يده إلى حقائبه،وبدأ يهبط الدرج ببطء، لكن فجأة_عند منتصف الطريق_اخترق السكون صوتٌ يعرفه أكثر مما يعرف نفسه،صوت لا يحتاج إلى إذن ليصل…لأنه يسكن القلب قبل الأذن.
“بابا!”
توقف مكانه،كما لو أن الحياة عادت لتنبض فيه من جديد، الصوت لم يكن مجرد نداء…كان دفئًا، كان غفرانًا، كان احتضانًا في كلمة واحدة.
استدار ببطء، وقلبه يسبق جسده شوقًا، وعيناه تبحثان عن مصدر الأمل الذي عاد لينبت وسط الركام.
استدار بسرعة، وعيناه تفتّشان المكان بقلب خافق، حتى وقعت نظرته عليها…صغيرته، زهرة عمره، تقف عند رأس الدرج، وعينيها تبكيان قبله، وبسمة خجولة تناضل لتشق طريقها عبر الدموع.
لم ينتظر،ولم تنتظر…
في أقل من ثانية، كانت قد ألقت نفسها في حضنه، تلفه بذراعيها بقوةٍ، احتضنها هو الآخر بذراعيه المرتجفتين،وكأنهما وحدهما قادران على حماية العالم، على منع الزمن من المضي، على أن يعيد كل شيء لمكانه.
أغمض عينيه، دفن وجهه في كتفها، وترك تنهيدة ثقيلة تنفلت من صدره، بينما قالت هي بصوتٍ مخنوق خافت، لكنه طعن قلبه برقةٍ لا تُحتمل:
“هتوحشني.”
شعر كأن هذه الكلمة وحدها كانت كافية لتعيد الحياة فيه، فابتسم بسعادة وربّت على ظهرها بهدوء وهمس:
“وإنتي كمان…إنتي كمان هتوحشيني يا نور عيني.”
ابتعد عنها بعد ثوانٍ قليلة، ثم أمسك وجهها الصغير بكفّيه، ومسح دموعها بإبهامه في بحنوّ أبوي،ثم نظر في عينيها وقال بنبرة مكسورة يعلوها الندم:
“حقك عليا…أنا آسف على كل اللي حصلك بسببي…سامحيني يا فيروز.”
رمشت بعينيها، واختلطت دموعها بأنفاسها المرتجفة ثم ردّت بصوت باكٍ خرج من أعماق قلبها:
“مسمحاك يا بابا…مسمحاك.”
كسرت كلمتها شيئاً في داخله، شيئاً ظلّ واقفاً بصلابة رغم الألم، فانهارت ابتسامته في موجة بكاءٍ صامتة، سقطت دموعه في صمتٍ موجع ثم ابتسم من بين الدموع وكأنه يشكر الله على هذه اللحظة، وعلى هذا الغفران.
لم يتمالك نفسه،فعاد ليضمّها من جديد،أقوى من قبل وكأنّه يحاول تعويض كل لحظة غاب فيها،كل حضنٍ افتقدته وكل مرة نادته فيها ولم يكن حاضراً ليسمعها.
ففي النهاية، مهما أخطأ الأب ومهما باعدتنا عنه الظروف أو الآلام،يبقى هو الأمان الأول والحب الفطري الذي لا ينقطع…ومهما قسى، يظل قلبه معلقًا بأبنائه، وقلوبهم تظل تعرف طريق الغفران، لأن في أعماقهم يعلمون: هو والدهم، ويحبهم.
_________________
مع مرور الوقت…
كان يجلس في مكتبه بالبنك، الأوراق مبعثرة أمامه وجهاز الحاسوب مفتوح على صفحة لم يقرأ منها شيئًا منذ نصف ساعة.
لم يكن حاضرًا بين الملفات ولا بين الأرقام…كان هناك،عالقًا بين قرارين،ينظر تارةً إلى صورة تجمعه بوالده في حفل زفافه على الهاتف، وتارة أخرى يحدّق في السقف وكأن الإجابة ستُكتب هناك.
رغم الضجيج الخافت في البنك وحركة الموظفين والعملاء، كان هو في صمت داخلي عميق، لا يسمع إلا صوت قلبه الذي يطالبه بالذهاب،وصوت عقله الذي يمعنه من ذلك.
مرت الدقائق وهو غارق في صراعه إلى أن تنهد بقوة ثم دفن وجهه بين كفيه وأغمض عينيه بقهر.
مرت لحظة صمت وكأن الزمن توقف، قبل أن يزفر بشدة،ويمسح وجهه بكفيه كمن يزيح عن صدره كل التردد دفعة واحدة.
وقف فجأة ودفع الكرسي خلفه دون تفكير، التقط هاتفه من على المكتب بسرعة،وخرج من البنك بخطى سريعة…كأن قلبه يسبق جسده في الوصول،وكأن قراره أخيرًا قد حُسم.
خرج سامي من البنك بخطى متسارعة، وقلبه يخبط في صدره بقوة، وقف على الرصيف وأشار بيده لأقرب تاكسي،لكن قبل أن يرفع يده،وقفت سيارة مألوفة أمامه،فاندهش للحظة حتى رأى وجه موسى يطل من خلف الزجاج الجانبي.
سأله سامي بتعجب وصدمة واضحة:
” إنت بتعمل إيه هنا؟”
ابتسم موسى ببساطة وهو يشير برأسه إلى الباب المجاور:
“مستنيك علشان أوصلك.”
تجمد سامي مكانه،وعينيه معلقتين بعيني الأخير، قبل أن يُكمل موسى بنبرة دافئة،فيها لمحة من الدعم واليقين:
“يلا اركب…مافضلش كتير.”
طالعه سامي بامتنان شديد ثم فتَح باب السيارة وجلس بجانبه بصمت،ليتحرك موسى بالسيارة كأنه في سباق مع الوقت.
_________________
بعد انقضاء مدة الطريق…
وصلوا إلى المطار،ودخلوا بسرعة، وأخذ سامي يلتفت حوله بعينيه الواسعتين،يبحث عن وجهه والده، وفي صدره رجاء خافت ألا يكون قد فات الأوان.
حاول أن يظل هادئًا،لكنه شعر بتسارع نبضات قلبه، وكأن الوقت يمر ببطء رغم كل شيء، دارت عيناه بين الركاب والمسافرين لكنه لم يجد شيئًا غير الوجوه المألوفة والحقائب المتناثرة.
أخذ نفسًا عميقًا ثم زفره،وتابع التفحص باحثًا عن أي أثرٍ له…
لكن بحث طويل استسلم في النهاية،فوقف بقلة حيلة بين الأناس،وفجأة بيدٍ توضع على كتفه،فقال بدون تفكير بصوت مختنق:
“فات الأوان يا موسى.”
لكن لم تكن تلك اليد لموسى الذي كان يقف على بعد خطوات خلفه ويبتسم،بل كانت يد أخرى، يد قوية ومتعبة في ذات الوقت،يطغى عليها شيء من الزمن والألم، التي تملكها شخصٌ آخر، الشخص الذي كان يبحث عنه والذي قال:
“ما فاتش.”
رفع سامي عينيه ببطء ليرى وجهه،وجه والده الذي تمنى أن يراه ولو مرة أخيرة.
وقف لثوانٍ، شاردًا في النظرة التي التقت بعيني والده،ثم دون سابق إنذار، شعر بشيء غريب يدفعه إلى الأمام، فاقترب منه، وفي لحظة ودون أن يفكر، جمعهما عناقٌ طويل.
كان عناق مليئًا بكل الكلمات التي لم تقال، بكل الألم والعتاب الذي ظل عالق في الهواء، والذي قرروا الاختفاء من تلك اللحظة.
أحس سامي حينها بشيء من الراحة العميقة،وكأنه كان يحتاج هذا العناق من قبل،فشدد عناقه لوالده الذي كان يربت على ظهره بحنوٍ والعبرات تتساقط من عينيه.
ابتعد الاثنان بعد العناق بصعوبة،وكأن الجسد يرفض ما تمليه عليه اللحظة،وكأن المشاعر لم تشبع بعد.
نظر يحيى إلى سامي،وكانت دموعه تكاد تسبق كلماته، بينما عيناه محملتان بالحب والندم والثقة جالت في وجه ابنه بتفاصيله كلها، كأنه يحاول أن يحفظ ملامحه في قلبه إلى الأبد.
ثم قال بصوت خفيض،خرج من القلب مباشرة:
“عارف إنك قد المسؤولية وزيادة…ومش محتاج أوصيك، بس…”
توقف قليلاً، ثم تابع بنبرة أكثر دفئًا وصدقًا:
“خلي بالك من نفسك يا بني…ومن أمك وأختك…ومن مراتك وابنك.”
لم يرد سامي بكلمات،فقط ابتسم وسط دموعه،ثم اندفع نحوه مجددًا واحتضنه كأن العناق طريقة التواصل الوحيدة الباقية، عناق صامت، عميق، يشبه الاعتذار والغفران والوداع في آنٍ واحد.
وحين ابتعدا أخيرًا، التفت يحيى إلى موسى، الذي ظل واقفًا بجانبهم بصمتٍ محترمٍ وملامح حنونة.
رمقه بنظرة فيها مزاح الأب ومحبته، ثم قال بنبرة خفيفة خلت من الهموم للحظة:
“خلي بالك من فيروز، ولما تحدد معاد فرحكم ما تنساش تقولي…عشان أجي أرقصلكم.”
ضحك موسى بخفة وهو يهز رأسه، ورد بثقة ودعة:
“فيروز في عينيا،واوعدك إنك أول واحد هيعرف.”
أومأ له يحيى بابتسامة ممتنة،ثم التفت مجددًا إلى سامي، وربت على كتفه ربتة أبوية أخيرة، فيها كل ما لا يقال:
“أشوف وشك بخير… مع السلامة.”
أجابه سامي بصوت مبحوح:
“مع السلامة يا بابا.”
بدأ يحيى في الابتعاد، بخطوات بطيئة كأن الوداع يثقل قدميه، بينما ظل الاثنان يراقبانه حتى ابتلعه الممر.
في تلك اللحظة،اقترب موسى بهدوء وربت على كتف سامي، لم ينطق بشيء، فقط ترك له المساحة الكافية ليبقى في صمته مستسلماً لأثر ما جرى.
ظل سامي يراقب المكان الذي اختفى فيه والده عن أنظاره،وكأن عينيه تبحثان عما تبقى منه في الأرجاء، كانت لحظة هادئة لكنها مشبعة بما يكفي ليُفهم دون كلام.
شيء ما في صدره انفرج…شيء ظل معقودًا لسنوات،تشابك بين العتاب والخذلان، كنه اليوم انحلّ بلقاء صادق ونظرة حملت كل ما لم يُقال.
ولأول مرة منذ زمن طويل اعترف لنفسه دون مقاومة…
هو سامحه…
سامحه من قلبه…
لأن ما رآه في عينيه لم يكن ادعاءً بل ندم حقيقي، وحنو غاب طويلاً ثم حضر أخيرًا.
_________________
كتابة/أمل بشر.
فصل أحداثه خفيفه خالص،بس يعتبر تمهيد لكل الأحداث اللي جايه.😉
توقعاتكم؟؟
ورأيكم؟؟
دمتم بخير…سلام.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.