رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثامن والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون(فراغ قاتل!)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
–
علِّميني حُبَّكِ يا سيدتي
فأنا لا أملك في الحُبِّ ثقافة
وكلُّ ما أعرفهُ عن الحُبِّ
أنني أحبُّكِ… وأموتُ إذا لم أُحبّكِ
وأنني كلّما رأيتكِ شعرتُ بأن الدنيا بدأت
”
نزار قباني
”
_____________
خرج برفقتها من باب الشركة،يسبقها بخطوتين وكأنه يقودها نحو مغامرة صغيرة في يوم روتيني
، بعدما استغل انتهائهم من العمل في وقت أبكر من المعتاد.
حرارة الشمس تنكسر على الأرصفة المصطفة،والضوء يلمع على سطح سيارتها المركونة بجانب دراجته النارية، وما إن اقتربا حتى توقف واستدار نحوها بنصف جسده، نزع نظارته الشمسية ببطء وكأن اللحظة تتطلب انكشاف العينين،ثم قال ببسمة عابثة ترتسم على وجهه بسخرية دافئة:
“قبل ما نطلع كده…تحبي ناكل مشاوي؟ ولا كبدة؟ ولا حمام محشي؟”
ضمت ميرنا شفتيها بتفكيرٍ هادئ،ثم رفعت عينيها إليه وقالت بصوت خافت فيه لمحة من التحدي الطفولي:
“أنا عايزة أجرب حاجة مجربتهاش قبل كده…زي ما وعدتني.”
رفع حاجبيه بدهشة مصطنعة،وقال بنبرة تمزج الجدية بالمزاح:
“يعني إنتِ أكلتِ حاجة من دول قبل كده؟”
هزّت رأسها بخفة ثم أضافت بابتسامة دقيقة:
“آه…بس for sure مش في الشارع.”
ضحك بخفوت تلك الضحكة التي تخبئ بين طياتها سخرية لينة ودفئًا لا يُقال،بينما هي كانت لا تزال تحتفظ بنظرتها الهادئة التي تخفي خلفها شيئًا من الحماس الطفولي، ثم أضافت بنفس النبرة التي تحمل مزيجًا من الدعابة والجدّ:
“دي عزومة بمناسبة مرور أسبوع على رجوعي للشغل…فأنا عايزة حاجة
special
.
”
أمال رأسه قليلًاثم قال بنبرة خفيفة مشبعة بسخرية مرحة،وغمز بعين واحدة:
“أقعدك على قهوة وأطلبلك حجرين مثلاً؟”
ضحكت بخجل خافت،بينما تداري ابتسامتها بيدها ثم قالت:
“مش للدرجادي؟”
ضحك هو الآخر، بينما عينيه بقيتا معلقتين على ملامحها، يراقب تفاصيل ابتسامتها، وتلك الرقّة التي تسحره بدون مجهود.
وفجأة،في تلك اللحظة، توقف عن اللعب بالكلمات وفكر للحظة، ثم قال بثقة وكأن فكرةً لمعت في ذهنه فجأة:
“لقيتها…اركبي يلا.”
وقبل أن يعطيها فرصة للرد،تحرك نحو دراجته النارية بخفةٍ واندفاع،كأن الحماسة تقوده.
بينما وقفت هي في مكانها للحظة،و نظرت إليه بدهشة امتزجت بشيء من الفضول، ثم سألته بصوت هادئ:
“على فين؟”
أشار بيده لها أن تصعد إلى سيارتها، ثم جلس على دراجته وهو يردد بنبرة واثقة:
“اركبي بس وخليكِ ورايا…علشان ما تهويش.”
طالعته مطولًا دون أن تتحرك،ونظراتها معلّقة به وكأنها تحاول قراءة ما لم يُقل، أن تفهم ما وراء الحماسة في صوته.
أما هو، قد شعر بترددها فأشار برأسه برفق كمن يدعو لا يأمر،ثم ارتدى خوذته في حركة سلسة لإعتياده على ذلك.
أفاقت من ترددها على وقع تلك الإيماءة الصامتة،فتحركت بخفة وصعدت إلى سيارتها،واعتدلت على المقعد وتنفست بعمق كأنها على وشك الدخول في تجربة لا تشبه ما اعتادته.
ثواني فقط، وكان قد أدار هو المحرك، وانطلقت دراجته في هدوء محسوب حتى أصبح بمحاذاة نافذتها،التفت إليها بعينيه أولًا،ثم بابتسامة لم تخلُ من الدفأ والثقة، وقال:
“خليكِ ورايا.”
وبلمح البصر كان قد انطلق بدراجته النارية،تاركًا خلفه غبارًا خفيفًا من الطريق ورجفةً غامضة في قلبها، لم تسمع منه بعد ذلك شيئًا فقط صوت الريح ورائحة الظهيرة وضجيج قلبها وهي تسرع خلفه.
انطلقت هي أيضًا في محاولة للحاق به…
لم تكن قيادته سريعة كما توقعت بل أبطأ قليلًا من العادة وكأنه يُراعيها أو يمنحها وقتًا لتستوعب الرحلة لا الوجهة.
_________________
في جهة أخرى من المدينة، كانت السيارة تشق طريقها بهدوء بين طرقات بدأت تخلُ من صخب الزحام.
جلس هو خلف المقود وعيناه تتنقلان ما بين الطريق وملامح فيروز التي جلست إلى جواره، تسرد له تفاصيل يومها بحماسة طفولية لم تفقد بريقها رغم إرهاق اليوم.
كانت تحرك يديها أثناء الحديث كأنها ترسم بالكلمات، وعيناها تلمعان بفرح بسيط:
“كنت قاعدة فاضية لحد الضهر، فقعدت أقرأ في الكتب اللي جيبهالي… وفجأة لقيت أختين جايين ومعاهم تلات أولاد، بس زي العسل، بنتين وولد، قمامير يا موسى، يتاكلوا أكل كده…”
ضحكت
بخفة، ثم أكملت وهي تلتفت نحوه بعفوية:
“كان عندهم ميعاد مع دكتور تاني بس ماجاش ففضلوا يدوروا على حد قريب،لحد ما لقوا عيادتي بالصدفة! دخلوا، فكشفت على الأولاد، وكتبتلهم دوا…واتعرفت عليهم،وأخدوا رقمي ورقم العيادة كمان.”
ألقى موسى نظرة جانبية سريعة نحوها، وراقب تلك السعادة الصادقة التي تملأ ملامحها، ثم عاد بنظره للطريق وهو يبتسم ابتسامة خفيفة تحمل مزيجًا من الفخر والحرص:
“فرحان علشانك…بس زي ما قلتلك قبل كده،مش عايزك تتحبّطي،أنتِ لسه يدوب بقالك أسبوع شغالة…فاحنا لسه بنسمي الله.”
هزّت رأسها برفق ثم قالت بصوت ناعم فيه سكينة:
“أنا مش مضايقة خالص…أنا سايبة كل حاجة على ربنا،وعارفة إنه التوفيق عليه.”
رد موسى فورًا،وابتسامته الدافئة لاتزال تزين ثغره:
“ونِعم بالله.”
ابتسمت له، ونظرة امتنان خفيفة في عينيها، ثم سألت بصوت مفعم بالاهتمام:
“طب وأنتَ بقى، عملت إيه في يومك؟”
عقد حاجبيه قليلًا، كأنه يسترجع تفاصيل اليوم دون أن يُبعد عينيه عن الطريق، ثم أجاب بنبرة هادئة:
“ولا حاجة مهمة…بعد ما وصلتك، روحت اشتريت شوية طلبات لست الكل،وبعدين نزلت قعدت مع جدي شوية، شربنا شاي واتكلمنا،ولما دخل ينام خلصت شوية شغل…وبس بعدها جيتلك.”
هزّت رأسها برفق،مستمتعة بتلك البساطة التي يروي بها يومه،ثم قالت وقد لمعت فكرة في رأسها:
“على سيرة الشغل…اتصلت بالراجل؟”
ألقى نظرة سريعة نحوها ثم عاد للطريق وهو يومئ برأسه ويقول:
“آه، كلمته وقلت له إنه موافق…قال إن العقد جاهز،وهنتقابل بكرة إن شاء الله علشان أمضيه.”
مدت يدها بهدوء ووضعت يدها فوق يده المستقرة على المقود، كأنها تبارك الخطوة دون كلمات.
التفت هو نحوها قليلًا، يراقب تلك النظرة التي تجمع بين الدعاء والتفاؤل،وابتسمت هي وهمست:
“على خير…إن شاء الله تبقى بداية خير كبيرة ليك.”
نظر إليها للحظة بصمت،ثم قال بغمزة مشاكسة،وابتسامته تتسع:
“وليكِ.”
ضحكت هي بخجل،تلك الضحكة التي تشبه حركة ظل على جدار،خفيفة لكنّها تبقى.
أما هو، فابتسم دون أن ينظر إليها، ثم أعاد عينيه للطريق أمامه ثم أشار برأسه نحو جهاز المذياع وقال بنبرة خفيفة:
“ماتشغلينا حاجة لعبده…نسمعها كده على الطريق.”
رفعت حاجبيها باستغراب، ثم رمقته بنظرة مستنكرة:
“عبده؟!”
قالها بثقة كمن يستحضر اسمًا عزيزًا:
“عبد الحليم حافظ.”
ضحكت بصوت خافت، وقالت بسخرية حنونة:
“ماحسسني إنه صاحبك!”
رد وهو لا يزال يثبت نظره في الأمام، لكن نبرته حملت شيئًا من الصدق الدافئ:
“والله كان نفسي يبقى صاحبي…يعلم ربنا إنه بحبه زي مابحب صحابي.”
ابتسمت وعاد بها الزمن فجأة، فتابعت بنبرة مرحة يغلفها الحنين:
“من وإنت صغير وإنت بتحبه…لما كنا احنا بنتابع سبيستون،كنت انت تسمعه مع جدك في الراديو،والأغنية اللي تحفظها تيجي تغنّهالنا وتحاول تقلد طريقته.”
ضحك بخفة،كأنه سمع صدى صوته القديم يغني في شرفة شقة جده، ثم التفت نحوها وسألها بنبرة فيها شيء من التحدي:
“طب تعرفي إيه أكتر أغنية بحبها له؟”
هزت كتفيها وقالت وهي تنظر إليه في نصف تحدٍ:
“أظن بتحبهم كلهم.”
رد فورًا وكأنه ينتظر هذا الجواب:
“أنا فعلًا بحب كل أغانيه…بس في اتنين بالذات بعشقهم،هغششك واحدة منهم…
سواح
،
التانية إيه بقى؟”
صمتت للحظة، ونظرت إلى وجهه وتبحث فيه عن تلميح، عن ابتسامة خافتة تكشف السر، لكنه لم يمنحها شيئًا، فقط استمر في القيادة،وعيناه تخطف النظر إليها بين الثانية والأخرى.
أما هي،فغرقت في التفكير كأنها تحاول حلّ لغز قد يغيّر مصيرها، بدا التركيز على وجهها جادًا أكثر مما ينبغي، وكأن الإجابة التي تبحث عنها لا تتعلق بمجرد أغنية، بل بسر خطير قد يغير العالم.
راقبها موسى من طرف عينيه وابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه،فيها مزيج من العبث والحنان، ثم قال ممازحًا:
“أديكِ تلميح؟”
انتبهت له فورًا وكأنها استفاقت من عمق تأملها، وقالت بلهفة:
“ياريت!”
ضحك بخفوت ثم التفت نحوها قليلاً، ونظر في عينيها مباشرة وقال بصوته العميق الواثق:
“أغنية شبهي أنا…بتوصف حالتي…وحبي ليكِ.”
اخترقت كلماته قلبها دون استئذان،مثل نسمة باردة في عز الصيف، تنعش الصدر وتربك النبض، تسللت ابتسامة خجولة إلى شفتيها، لكنها كانت أعمق من مجرد
ابتسامة
…
أما هو،فعاد بنظره إلى الطريق، لكنه لم يترك المساحة بينهما تفرغ،فسألها دون أن ينظر:
“ها؟ عرفتــ؟”
لم تدعه يُكمل، ف بصوت خافت، يحمل وفرحة خالصة تُقال بهمس لا بضجيج،نطقت بالكلمات كأنها تخرج من قلبها لا من لسانها:
“على حسب وداد قلبي يا بوي…”
توقفت عند آخر كلمة،وكأنها تنتظر منه تأكيدًا، لكنه لم يقل شيئًا،فقط ابتسم…ابتسامة كبيرة، دافئة،تشبه الاعترافات التي لا تحتاج إلى شرح
،
ثم أومأ برأسه وقال برقة:
“صح…”
نظر لها نظرة مختلفة هذه المرة،نظرة لا تحمل مزاحًا ولا تعليقات عابثة، بل فقط حب وعشق لها، ثم بدأ يردد الكلمات بصوته المنخفض،وكأنه يغني لها وحدها وكأن العالم كله اختفى:
“على حسب وداد قلبي يا بوي
راح أقول للزين سلامات…
سلامات، سلامات، سلامات
على حسب وداد قلبي يا بوي…”
كان صوته أهدأ من الأغنية الأصلية،لكنه كان أصدق… أعمق، كأن كل نغمة تخرج من قلبه قبل حنجرته،وكل كلمة تنزف من ماضيه وتُسكب في حاضرها.
وحين سكن صوته للحظة،وجدها تكمل بصوتٍ أكثر هدوءًا،لكنه مُحمّل بدهشةٍ عميقة وحنينٍ ناعم:
“ضيعت عليه العمر يا بوي
ده أنا ليّا معاه حكايات…”
قالتها كمن يعترف لنفسه قبل أن يعترف له، ضحك هو بسعادة خفية، تلك التي تفلت من القلب دون حذر، ثم دفع عجلة القيادة نحو جانب الطريق،وأوقف السيارة كأن اللحظة أثقل من أن تتحملها حركة.
استدار نحوها قليلًا،عينيه لا تفارقان عينيها، ثم ردد بنفس تلك اللمعة التي تليق بالمحبين:
“حكايات، حكايات، حكايات
على حسب وداد قلبي يا بوي…”
وهنا…سكن كل شيء…
سكت لسانهما للحظة،وسكن العالم كله،كأن الزمن توقف احترامًا لما بينهما،قبل أن يعود ليتحرك بهدوء على إيقاع مشاعر لا تُرى.
ردّدا سويًا،ولكن هذه المرة لم يكن صوتاهما من لسانيهما فقط،بل من قلبيهما معًا:
“موال الصبر أهو داب
من يوم الحب ما غاب
ولا عمري يا عين يا ليل
يا ليل يا عين يا ليل
ما ترجع لي أحباب…”
امتزجا صوتا هما كأنهما خلقا ليكتمل أحدهما بالآخر،حتى بدا صوتًا واحدًا،من قلبٍ واحد، يُنشد الحنين ويتلو الأمل:
“وأنا صابر ع المقسوم
يمكن يرجع لي في يوم
وتكون لي معاه تاني يا بوي
أيام حلوة وحكايات
حكايات، حكايات، حكايات
على حسب وداد قلبي يا بوي…”
وفي اللحظة التالية،لم يتمالك نفسه، فرفع صوته تدريجيًا وتشربت نبرته بحماسة طفل، أما هي فضحكت من قلبها تلك الضحكة النادرة التي لا يراها سوى مَن يسكن القلب.
ومعًا رددّا، وقد امتلأ الجو بالفرحة والدفء، بينما
كفه تضرب على قدمه بخفة وهو يُنشد، بينما هي كانت تراه، فقط تراه…وتبتسم كأنها ترى الوطن
:
“على حسب الريح ما يودي
وياه أنا ماشي، ماشي، ماشي
ماشي ولا بيدي
معرفش إن كنت مروح
ولا إمتى الهوى حيهدّي
وأهي دنيا بتلعب بينا
يمكن ترجع غناوينا
وتكون لي معاه تاني يا بوي
أيام حلوة وحكايات
حكايات، حكايات، حكايات
على حسب وداد قلبي يا بوي
لا حسلم بالمكتوب
ولا حرضى أبات مغلوب
وحقول للدنيا يا دنيا
أنا راجع، أنا راجع
أنا راجع للمحبوب
ونغني أغاني جديدة
مليانة حكاوي سعيدة
وحنغزل توب الفرحة يا بوي
وأقول يا حبيبي سلامات
سلامات، سلامات، سلامات
على حسب وداد قلبي يا بوي…”
توقف الزمن للحظة، لا بسبب الصمت بل بسبب نظراتهما التي اشتعلت بحنين لا يحتاج إلى كلمات…
توقفت الألسنة نعم، لكن العيون ظلت تتكلم، تحكي، وتهمس بما لم يُقال…
ثم زفر هو بخفة كأن قلبه ضاق بكل ما لم يعترف به،وقال بنبرة مرحة لكنها تحمل صدقًا لا تخطئه:
“بحب الأغنية دي زي مابحبك بالظبط.”
ابتسمت هي، تلك الابتسامة التي تمزج الخجل بالفرح، وارتعشت نظرتها للحظة، لكنها سرعان ما استجمعت خفتها، وردّت بمشاكسة تشبه طريقته:
“وأنا كمان في أغنية بحبها زي مابحبك بالظبط.”
في لحظة اختفت ابتسامته وحل محلها شغف ولهفة،كأنها أمسكت بقلبه دون أن تدري فسألها بصوت أقرب إلى الرجاء:
“إيه هي؟؟”
أدارت وجهها صوب الأمام، وقالت بهدوء مدروس:
“بعدين هاقولك.”
أمال رأسه وهو يكرر بإلحاح يشوبه الدلال:
“وليه نستنى بعدين؟ خليها دلوقتي…مش هقدر أستنى.”
أجابت بنبرة خفيفة كأنها تتهرب من الإجابة عمداً:
“بعدين…علشان لازم نتحرك دلوقتي،قبل ماينزلوا يضربونا.”
عقد حاجبيه ولم يفهم ما تعنيه،إلى أن رفعت يدها بهدوء وأشارت نحو المرآة الأمامية؛ فالتفت ليجد طابورًا من السيارات خلفه،وأبواق تزمجر مطالبة بالتحرك.
ضحك حينها عندما استوعب
الأمر
، ثم
أدار المحرك وأعاد يده إلى المقود، لكن قبل أن ينطلق، التفت نحوها بنظرة جادة وسأل:
“هتقوليلي اسمها بعدين؟”
ردّت بهدوء وابتسامة خفيفة:
“حاضر…هاقولك.”
انطلقت السيارة هنا، لكنها لم تنطلق وحدها…
بل انطلقت برفقة دفئها الذي تسلل إلى قلبه دون استئذان…
وبرفقة حبّها الذي نضج بصمت بين تفاصيلهما الصغيرة…
وبرفقة سعادتهما التي تشبه فرحة اللقاء الأول بعد غياب طويل…
وبرفقة براءة الطفولة التي لم تفارقهما يومًا…
_________________
على الجهة الأخرى…
توقفت دراجته النارية أولًا تلتها سيارتها بلحظات…
نزل هو بخفة من فوق دراجته،بينما أوقفت هي المحرك وترجلت بتساؤل صامت في عينيها.
لم تحتج لأن تسأله فقد سبقها بالإجابة دون كلمات، فقط بعينيه اللتين أشارتا نحو الأمام بضحكة هادئة،وضع يده في جيب بنطاله وقال بنبرة واثقة:
“وصلنا.”
تبعت نظره باستغراب،لتجد نفسها أمام عربة مأكولات شعبية تقليدية،تنبعث منها رائحة الفول الطهو والطعمية الساخنة،يتصاعد منها دخان خفيف يُعلن عن دفء المكان رغم بساطته.
رفعت حاجبيها بدهشة خافتة،محاولة أن تربط بين الصورة والواقع،بينما هو ابتسم ثم قال:
“عم صبحي،أحلى واحد بيعمل سندوتشات فول وطعمية في منطقتنا…وفي مصر كلها.”
نظرت إليه وقد اختلط في نظرتها الاستغراب بشيء من الفضول الطفولي،لكنه أكمل حديثه وكأنه كان يعلم ما يدور برأسها:
“أظن ماجربتيش تاكلي فول وطعمية على عربية في الشارع قبل كده، صح؟”
حركت رأسها ببطء نافية،فارتسمت على وجهه ابتسامة انتصار ناعم،كأنما كسب جولة صغيرة في معركةٍ لطيفة، ثم تقدم بخطوات واثقة نحو العربة،ورفع صوته بنداء مفعم بالود:
“عمي صبحي!”
رفع الرجل رأسه من خلف العربة، وجهه مغطى ببخار الزيت، لكنه ما إن رآه حتى أشرق وجهه ترحيبًا:
“أهلاً بالباشا…جاي سريع ولا قاعد؟”
التفت كارم إلى ميرنا نظرة قصيرة ثم عاد بعينيه إلى العجوز وقال بابتسامة:
“لا قاعد…وعايزك تتوصّى،علشان معايا ناس أول مرة يجربوا حكاياتك…انزللي باتنين من كل اللي موجود، وطبق فول بالزيت الحار، وقرصين طعمية سخنة.”
ضحك الرجل بحماسة وهو يردّ:
“من عينيّا يا كارم باشا.”
“تسلملي عيونك يا عم صبحي.”
في الخلف،وقفت ميرنا وكأنها خارجة للتو من عالمها المألوف، تنظر إليه بدهشة خفيفة، تلك الدهشة التي تحمل في طياتها بذور إعجابٍ لم تستطع أن تخفيها.
وما إن التفت نحوها ورآها واقفة،حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة دافئة صادقة، تخلو من التصنع، ثم قال بلطف وهو يشير بيده:
“تعالي…”
كان صوته يشبه المكان،بسيطاً لكنه قادر على أن يُحدث فرقاً.
تقدمت هي بخطوات هادئة، خطوات لم تكن فقط نحو العربة بل نحو تجربة جديدة،وربما نحو شخص لم تعرف أنها تودّ اكتشافه بهذا العمق.
وقفت بجواره،تاركة بينهما مسافة صغيرة لابأس…
لم يتحدثا ولم تكن هناك حاجة إلى الكلام…فالنظرات بينهما كانت كافية،كانت تقول كل شيء بلغة لا تُسمع.
ولم يقطع ذلك الصمت الخفيف إلا صوت عم صبحي،وهو يمد يده بالأطباق قائلاً بحماسة مخلصة:
“اتفضل يا باشا.”
نظر كارم إلى الأطباق التي أمامه، فمد يده وأخذها ثم وضعها على قطعة خشبية بارزة من العربة، تلك القطعة التي كانت تحمل أكثر من مجرد أطباقٍ من الطعام، كانت تحمل جزءًا من تقاليد وأصوات تلك اللحظات.
بعد أن وضع الأطباق، نظر إليها بعينيه التي كانت تتسع لتأخذ في داخلها كل شيء، ثم دعاها، لكن هذه المرة لم يكن بالكلمات فقط، بل بعينيه وبتلك النظرة التي تحمل دعوتها الصادقة، مرددًا:
“يلا…”
كانت كلماته كإشارة لمغامرة صغيرة في عالم جديد، فأخذ رغيفًا من الخبز وقطعه بيديه المهارتين، ثم غمسه في طبق الفول، وبدأ يقلبه بحركات دائرية، ثم وضعه أمامها، ونظراته لا تفارق وجهها بينما قال:
“دوقي وقوليلي رأيك.”
ابتسمت له ابتسامة رقيقة، تلك التي تختصر كل شيء في بساطتها، ثم أومأت بخفوت، وأمسكت برغيف الخبز الذي قدمه لها وتناولته برفق، وهو يراقبها بشغف منتظرًا أن ترى ردة فعلها.
تناولت أول قضمة،ومضت لحظة صمت قصيرة، قبل أن تعود إليه بنظرة هادئة، وقالت:
“حلو.”
“لأ،حار…”
عقدت حاجبيه ولم نفهم ما يقصده بجملته،بينما هو فضحك بسخرية وهو يفسر جملته:
“ده فول بالزيت الحار.”
ضحكت هي برقة،وضحك قلبه هو…
غرق هو في تفاصيلها،في تلك اللحظة التي كانت أبسط من أن تُنطق،لكنه شعر أنه يغرق فيها بكل ما له من قلب وعقل.
وبلا وعي منه، ردد بصوت خافت بالكاد سمعه هو نفسه،لكنه كان مليئًا بالشعور الذي لا يمكن تجاهله:
“بسكوتاية…والنعمة بسكوتاية.”
وصل همسه إليها بشكل غير واضح،ولكنه كان كافياً لجذب انتباهها؛ فالتفتت إليه وسألته بفضول:
“قلت حاجة؟”
أجابها بسرعة، كما لو أنه أراد أن يغير مجرى التفكير بسرعة،دون أن يفكر في كلماتته:
“بقولك جربي البتنجان هيعجبك هو كمان.”
أومأت له بخفوت ثم التفتت للطعام أمامها، أخذت قضمة أخرى من طعامها،ولكن هذه المرة لم يكن الأمر مجرد تجربة طعام جديدة فقد كانت تجربتها مختلفة تمامًا.
هي قد تناولت هذه المأكولات من قبل،ولكن ليس في مثل هذا الوضع، لم يكن عن الطعام فقط بل عن الموقف، عن الأجواء، عن اللحظة التي كانت تحمل معها أشياء أكثر من مجرد طعم.
كانت تأكل هنا، في مكان لا يشبه أي مكان آخر، من يدٍ رجل بسيط، يحمل وجهًا بشوشًا وأنيقًا بطريقته الخاصة، رجل يملك قدرة عجيبة على أن يجبرك على الابتسام بمجرد أن تراه.
كانت تأكل برفقة شخص جعل اللحظة تصبح أكثر إشراقًا، شخص بات جزءًا من تفاصيل يومها التي لا تستطيع التخلي عنها…ولسبب ما،أصبح قلبها يفرح عندما تراه كما لو أن هناك شيئًا مميزًا بينهما لا يستطيع أحد أن يراه سوى قلبها.
أما هو، فقد كان يسرق النظر إليها بين الحين والآخر،ليأمل في تفاصيل لم يكن ليشبع منها أبدًا،وعيناه كانت تلاحقها بدقة
، و
كان يكاد يقسم أنه لم يرَ فتاة في حياته تضاهي رقتها، فتحة في قلبه كانت لا تزال مفتوحة لهذا الشيء النادر، هذا الشخص الذي يدخل قلبك دون أن تدرك، ولكنك تبدأ في الشعور أنك لا تستطيع العيش بدونه.
وكانت أصدق ماينطبق عليه وعلى مايشعر به الأن:
“بدأتُ أرى وجهكِ في كل الوجوه،
وفي عينيكِ بدأت الحياة تُشرقُ.”
–
محمود درويش.
________________
_
في جهة أخرى…
دخل إلى الصيدلية بخطوات بطيئة، يعلوها شيء من الترقب وشيء من الخيبة، وهناك خلف الرفوف، كانت هي تكدّس عبوات الأدوية واحدة تلو الأخرى،منشغلة بما بين يديها.
“السلام عليكم.”
تعرفت على صوته، فالتفت له وقلبها سبق ملامحها، فهتف به باسمٍ محمّل بالشوق والاعتذار:
“طارق.”
ابتسم لها ابتسامة دافئة فيها من التقدير أكثر مما فيها من العتاب،ثم اقترب منها وهو يقول بصوتٍ خافت يحمل ودًا كثيرًا:
“لقيتك اتأخرتِ…قلت أجيلك.”
تقلّصت ابتسامتها بخفة وبدت ملامحها متأثرة بالذنب،فأجابت وهي تضم شفتيها:
“آسفة…عارفة إنك كنت ناوي نخرج النهاردة،بس ماكنتش عاملة حسابي على الشغل ده كله.”
هز رأسه بنفيٍ خفيف، وكأنما يحاول كتم خيبة صغيرة ثم قال:
“أنتِ كنتِ قايلالي إن ساعة وهترجعي،ولما اتصلتِ قلتي نص ساعة.”
“وفعلًا خلصت بعد نص ساعة…”
قالتها محاولة الدفاع، ثم أردفت بتنهيدة خفيفة:
“بس المندوب كان لسه واصل،وكنت مضطرة أرتب الدوا…علشان البنت الجديدة هتوصل المغرب ومش هتعرف تعمل ده…حقك عليا، خليتك تستنى على الفاضي، أنا آسفة.”
تأملها طارق للحظة،وكأنه يحاول أن يوازن بين خيبته وحنانه، ثم قال بنبرة صافية:
“أنا مش زعلان…الخروجة تتعوض.”
نظرت إليه بامتنان، لكنها همست بأسى:
“بس أنت مسافر بكره.”
ابتسم طارق وهو ينظر إليها، كمن يطبطب بكلمة:
“خلاص بقى…نخرج لما أرجع، بس قوليلي، ليه ماقولتيش إن في شغل كتير؟ كنت أجي أساعدك.”
هزّت رأسها بخفة وقالت بابتسامة فيها مزيج من العرفان والحياء:
“ماحبيتش أتعبك معايا بصراحة…وبعدين أنت في إجازة، حرام أجرّك معايا للشغل.”
أخفض طارق عينيه للحظة، ثم عاد ونظر إليها بعينين تلمعان بالصدق وهمس بصوت خفيض لكنه نافذ:
“أنا إجازتي وراحتي معاكي…مش برتاح غير لما أكون جنبك يا دلال، ممكن المرة الجاية تقوليلي لو في شغل كتير…علشان أجي أساعدك.”
ابتسمت بخجل لطيف وهمست:
“حاضر.”
اقترب أكثر وقال بنبرة حنونة:
“طب دلوقتي خليني أساعدك…قوليلي أعمل إيه؟”
هزّت رأسها بابتسامة صغيرة وهي ترفع بضع عبوات أمامه:
“خلاص، مافضلش غير دول.”
استدارت بخطوات تلقائية لتضعها في الرفوف،ثم اتجهت نحو الطاولة الزجاجية و أغلقت الدفتر وسحبت حقيبة يدها وهاتفها قائلة بنبرة مفعمة بالراحة:
“خلصت…يلا نمشي؟ نص ساعة والبنت تيجي تستلم الشيفت.”
أومأ برأسه بهدوء وهو يراقبها بحب صامت،فاقتربت منه وأمسكت بيده بتلقائية،وسارت إلى جانبه، لكن ما لبثت أن توقفت فجأة واتسعت عيناها بصدمة:
“أنا نسيت أعمل أكل!”
ضحك بخفة وهو يربت على يدها:
“ولا يهمك…نطلب أكل من بره.”
نظرت له بدهاء مشاكس وقالت بابتسامة واسعة:
“طب إيه رأيك نطلع نتعشّى بره؟”
“موافق…وبكل رضا كمان.”
ابتسمت بسعادة حقيقية،تلك السعادة التي لا تحتاج إلى كلمات لتُفهم،ثم غادرت الصيدلية برفقته بخطوات خفيفة تشبه نسيم المساء.
أغلق طارق الباب الزجاجي بهدوء مستخدمًا المفتاح الذي أعطته إياه،ثم أعاده إليها وهو يمسك بيدها برفق،كأنها امتداد له لا يكتمل من دونها.
سارا سويًا في صمت جميل،قطعته نبرته الهادئة حين قال وهو ينظر إلى الطريق:
“هنروح البيت أغير هدومي ونمشي على طول…تحبي ناكل إيه؟”
رفعت إصبعها إلى خدّها كأنها تبحث عن إجابة تليق باللحظة،ثم التفتت إليه وقالت بابتسامة طفولية:
“جاي على بالي شاورما.”
أومأ برأسه بهدوء، ونظرة دفء في عينيه وهو يجيب:
“يبقى شاورما.”
ضحكت بخفة وأضافت بحماس:
“ونكتر تومية.”
ضحك بدوره وأجاب:
“ونكتر تومية.”
تابعت وكأنها ترسم خطة صغيرة لعشاء أحلامها:
“وبعدين نحلي بأيس كريم.”
“ونحلي بأيس كريم.”
“ونجيب لب وفشار واحنا راجعين…ونتفرج على فيلم ونقعد ناكلهم.”
ابتسم وهو يكرر وراءها كطفل يُردد أمنيات رفيقة روحه:
“ونجيب لب وفشار…”
توقف فجأة وحدق فيها بحب لا يُخفى،وأردف بمزاح ناعم:
“في أي طلبات تانية للأميرة؟”
هزّت رأسها نفيًا،وعيناها تلمعان:
“لأ… دول بس.”
“تمام،طلباتك أوامر.”
أمالت رأسها بخفة على كتفها،في حركة طفولية تُشبه نسمة دافئة في آخر النهار ثم نظرت إليه بعينين تلمعان بالفضول وسألته بنبرة عفوية:
“وأنت…مالكش طلبات؟”
طال النظر إليها، وكأن الزمن توقف بين رموش عينيها، ثم ارتسمت على شفتيه بسمة هادئة لا تنتمي إلا لمن أحب بقلبه لا بعينيه،وقال بصوت خافت مُغلف بشجن لا يخلو من الدهاء:
“كان ليا طلب واحد…وأخدته،حتى دلوقتي ماسك في إيدي.”
نظرت إلى يدهما المتشابكتين،فارتجفت ابتسامتها من فرط السعادة،واشتعلت وجنتاها بحمرة الخجل،قبل أن تهمس برقة مداعبة:
“بقيت شقي أوي.”
رد مباشرة بصوت ثابت،صادق:
“لأ…بقيت مُغرم أوي.”
لم ترد…فالكلمات خانتها، وتلاشت الحروف على طرف شفتيها أمام زخم ما شعرت به في تلك اللحظة..فقط نظرت إليه طويلاً نظرة امتنان صامتة مغموسة بحب لا يحتاج إلى تفسير.
ثم وبدون مقدمات، شدّت قبضتها على يده،واحتضنت ذراعه بذات العفوية التي تحتضن بها طفلة صغيرة ذراع أبيها،لا خوفًا بل طمأنينة.
ابتسم هو، ابتسامة رجل وجد في لمستها عمرًا جديدًا ثم شدّ على يدها بلطف،وكأنما يؤكد لها أنه هنا ولن يتركها أبدًا.
وسارا معًا…لا يسمعان ضجيج العالم ولا يريان الزحام،كأن الزمن أزاح الناس عن الطريق ليُخليه لهما فقط.
في تلك اللحظة،لم يكن في العالم سوى اثنين…هي وهو،وطمأنينة تسير بخطى هادئة بين قلبيهما.
_________________
في المساء…
على حسب وداد قلبي يا بوي
راح أقول للزين سلامات
سلامات، سلامات، سلامات
على حسب وداد قلبي يا بوي
ضيعت عليه العمر يا بوي
ده أنا ليّا معاه حكايات
حكايات، حكايات، حكايات
على حسب وداد قلبي يا بوي
كان يسير جهة الشرفة بخطوات ثابتة،يردد كلمات الأغنية التي علقت في ذهنه منذ أن رددها معها، تلك الأغنية التي احتلت تفكيره وأضأت أيامه كما تضيئها هي.
دخل إلى الشرفة بخطوات تحمل نوعًا من الطمأنينة،وابتسامة صافية كانت تعكس سعادته التي لا تخفى على أحد.
كان الضوء الخافت من الداخل ينساب على ملامحه لتبدو ابتسامته أكثر إشراقًا، وكأن كل شيء في محيطه يتناغم مع مزاجه الرائق.
توقف خلف السور الأسمنتي للشرفة،وضع كفيه عليه و نظر نحو باب الشرفة المغلق،ثم رفع صوته بهدوء،محاولًا إيصال كلماته إليها:
“فيروز! فيروز!”
لكن بعد لحظات من الانتظار التي امتدت وكأنها ساعات،زم شفتيه باستياء وقال بضجر:
“طب أخليها تطلع ازاي دي بقا،وتلفونها فاصل شحن!”
زفر بقوة ثم وضع يده على رقبته،وهو يحاول التفكير في طريقة
لجعلها
تخرج،
وفيما هو غارق في تفكيره،جاءه صوت فجأة، قريبًا منه تمامًا،يقول بهدوء:
“خد حصا من الزرع وراك،وارميه على الشباك.”
ابتسم موسى بشيء من الرضا،وأخذ يفكر في الفكرة التي بدت له بسيطة،ثم قال وهو يلتفت ليأخذ الحصا:
“فكرة حلوة،ازاي ماجتش علــ..”
لكن فجأة توقف عن الكلام، ليشعر بشيء غريب يمر عبر عقله، توقف عندما استوعب أخيرًا حقيقة ما يحدث
، فسأل بصوت خافت
:
“ثانية، مين اللي اتكلم؟
”
استدار موسى بتوجس نحو مصدر الصوت، وتحديدًا إلى الجهة اليمنى من الشرفة، ليقع بصره فجأة على جسد جده، جالسًا بهدوء تام على مقعد خشبي قديم، يعبث بأصابعه بين حبات السُبحة في سكون رزين كعادته، وكأن وجوده هناك طبيعي منذ الأزل.
تجمدت أطراف موسى للحظة، قبل أن ينتفض جسده كمن لسعته الكهرباء، قافزًا في مكانه وقلبه يخبط في صدره بجنون، وصرخة مكتومة أفلتت منه دون تحكم.
لم يتحرك محمد ولم يبدُ عليه أي اندهاش،بل قال ببرود تام ونظرة جانبية هادئة: “شوفت عفريت؟”
ازدرد موسى ريقه،يحاول أن يلملم ارتباكه، ثم تمتم:
“حضرتك…هنا من إمتى؟”
رد محمد ببساطة ونبرة لاتخلو من البرود:
“من قبل ما تدخل.”
قطب موسى حاجبيه بدهشة ورفع صوته قليلًا:
“وإزاي ما خدتش بالي منك؟!”
رد مباشرة بنبرة ساخرة لاذعة:
“جايز علشان كنت مشغول في توزيع السلامات.”
ابتسم موسى رغمًا عنه،ثم رفع حاجبيه بدهشة خفيفة وقال ضاحكًا:
“يعني حضرتك سمعتني وأنا بغني؟”
أجابه محمد بنفس البرود، لكن بشيء من التهكم اللطيف:
“آه…ويا ريتني ما سمعت، حسيت ودني اتخرمت.”
رد موسى ببساطة وابتسامة لا تخلو من العفوية:
“أنا عارف إن صوتي وحش…بس بحب أغني،أعمل إيه يعني؟”
هز محمد رأسه ببطء ثم نهض من مجلسه بتثاقل وهدوء، وقال ببرود وهو يشير إلى أذنه كأنها ضحية:
“غني في سرك…ولا هتعالجلي وداني لما تتأذي؟”
ضحك موسى ثم سأله وهو يراقبه يتحرك نحو الداخل:
“رايح فين؟”
“هروح أسمع المسلسل…زمانه بيقول.”
رد موسى بخفة ظل لاتخلو من الدهاء، وهو يرفع حاجبيه مازحًا:
“آه خليك مع ليالي الحلمية…وخليني أنا مع ليالي القمرية.”
حرك محمد عكازه بخفة غير متوقعة،وضربه به ضربة مفاجئة على ساقه،فشهق موسى وتأوه عاليًا:
“آااه! ليه كده؟!”
أجابه محمد دون أن يلتفت،بصوته العجوز الصارم:
“علشان تتلم!”
أكمل طريقه داخل المنزل،تاركًا حفيده يقف في مكانه مذهولًا، يرمقه بصمت ممزوج بالذهول والألم والضحك المكبوت، ثم همس لنفسه باستسلام ساخر:
“والله العظيم دي مراتي يا جماعة.”
هز كتفيه بلامبالاة ثم التفت وانحنى قليلًا ليلتقط حصاة من تربة الزرع بجواره،نظر لها برهة كأنها وسيلته الأخيرة،ثم تقدم نحو السور ووقف بثبات،وألقى بها بخفة نحو باب شرفتها المغلق،منتظرًا أن تطل منه…
ثوانٍ مرت ببطء،كأن الزمن قد تثاقل عليه عن قصد، وكأن الشرفة تُخفي خلف بابها كل ما يُلهبه شوقًا…انتظر وانتظر، حتى بدأ صبره يتآكل؛ فمال بجسده مجددًا ليلتقط حصاة أخرى،مستعدًا لرميها، لكن فجأة وقبل أن تمتد يده ليقذفها،انفتح الباب على مهل وخرجت هي.
توقفت لحظة عند العتبة،وعلى وجهها ارتسمت تلك الملامح الهادئة التي يعرفها جيدًا، تسبقها نظراتها الوادعة،وبسمة صغيرة تنافس دفأ المساء.
ألقى الحصاة بلامبالاة من يده،كما لو أنها لم تعد صالحة للمهمة ثم سألها بنبرة ممتزجة بالعِتاب الطفولي:
“اتأخرتِ كده ليه؟”
ردت ببساطة وهي تسحب طرف الإسدال لتعدّله على كتفها:
“كنت بلبس الإسدال…معلش.”
ابتسم وهزّ رأسه برضا خفي ثم قال بصوته المنخفض الذي يحمل في نبراته دِفء المساء ولهفة الانتظار:
“المهم إنك طلعتي…يلا بقى،قوليلي إيه اسم الأغنية؟”
خطت بخفة واقتربت من السور، ارتكزت عليه بمرفقيها، تتمايل ضحكتها على شفتيها برقة، ثم ردّت بنغمة مرحة تخفي خلفها لذعة من المداعبة:
“إنت لسه بتفكر في الموضوع ده؟”
رفع حاجبيه بنظرة تحمل إصرارًا ممزوجًا بتسلية طفولية،وقال وكأنه يعتب على غموضها:
“ومش هبطل أفكر…يلا ريّحي قلبي وقوليلي،إنتِ قولتي إنك هتقوليلي بعدين.”
أبعدت عينيها عنه،كأنها تخبّئ سراً صغيراً بين الرموش،وقالت بمكر ناعم:
“بس ماقولتش بعدين إمتى.”
اتسعت عينيه في صدمة مصطنعة،وبدا وكأنه تلقّى خيانة كبرى،فصاح متظاهراً بالخذلان:
“يعني أنا…انضحك عليّا؟!”
ضحكت دون أن تُنكر،فاكتفى هو بالتحديق بها بجمود ساخر،حتى قال بعناد طريف كمن يُخطط لانتقام طفولي:
“يلا قولي يا فيروز اسم الأغنية…قوليها بدل ما أجيب السلم وأطلعلك.”
نظرت له وهي تحاول كتم ضحكتها،ثم قالت بنبرة ماكرة:
“ليه ما تدخلش من الباب؟”
ردّ بجدية درامية ووجه لا يزال يقطر بالمزاح:
“علشان أعمل فضيحة.”
ضحكت بخفة،تلك الضحكة التي دومًا ما تُربك قلبه وتُخمد بداخله أي غضب متصنع،ثم ردت وهي ترفع حاجبيها باستفزاز طفولي محبب:
“فضيحة؟ عشان أغنية يعني؟”
قال بجدية مصطنعة وهو يومئ برأسه:
“آه.. يلا بقى، قولي.”
سكتت للحظة،وأفكارها تتنقل بين الكلمات قبل أن تستقر على شرط غريب،ثم قالت بصوت خافت مع لمحة من التحدي في عينيها:
“هقول بس بشرط.”
“أؤمري.”
ابتسمت في داخلها وهي ترى ملامحه تتحول إلى فضول،فتابعت بشيء من السخرية الناعمة:
“غنيلي الأغنية تاني.”
“تاني؟!”
أومأت بخفوت وهى تقول بابتسامة رقيقة:
“آه…صوتك حلو وأنتَ بتغني.”
“أنتِ أول واحدة تقول على صوتي حلو… ده أنا حتى عارف إن صوتي مايتسمعش.”
نظرت إليه بثبات، ثم قالت برقة وإصرار:
“بس أنا شايفاه حلو…يلا بقى غنيلي.”
ظل صامتًا لثوانٍ،كأنه يوازن بين خجله وفرحه ثم قال وهو يتنهد:
“ماشي…بس هتقولي اسمها المرة دي.”
ضحكت وقالت بلطف:
“حاضر.”
تنحنح قليلًا،وحاول أن يضبط نبرته وبدأ في الغناء، بصوت خفيض لكنه يحمل مشاعر حقيقية، غنى وكأن الكلمات تخرج من قلبه لا من حنجرته، بينما كانت هي تنظر إليه بعيون تشع بالفرح والدهشة وكأنها تسمعه أول مرة:
“على حسب وداد قلبي يا بوي
راح أقول للزين سلامات
سلامات، سلامات، سلامات
على حسب وداد قلبي يا بوي…”
كانت تتابعه وهي تبتسم وملامحها يغمرها دفء اللحظة،فيما كانت النسمات تداعب طرف حجابها كأنه يرقص على نغم صوته.
“موال الصبر أهو داب
من يوم الحب ما غاب…”
لكن اللحظة كما كل لحظة ساحرة،لم تدم…
إذ قُطع الغناء فجأة بصوت مرتفع يشوبه السخط:
“نشاذ!”
ارتفعت أعينهما نحو مصدر الصوت في أعلى الشرفة،وإذا بسامي يقف هناك،حاملاً يزيد على ذراعه، ينظر إليهما بملامح مستنكرة وكأنه ضبطهما متلبسين بجريمة.
تابع سامي بنفس النبرة الغاضبة،ساخطة:
“نفسي أعرف ليه مش مقتنع إن صوتك وحش؟!”
رد موسى بخفة وتلقائية:
“أنا مقتنع، بس أختك مش مقتنعة.”
خفض سامي نظره نحو فيروز،وكذلك فعل يزيد في حركة طفولية مقلِّدة،فابتسمت له فيروز برقة، ما جعل سامي يحرك رأسه بيأس كأن لا أمل يُرجى.
ثم عاد ونظر نحو موسى،ويزيد يكرر ذات الحركة ببراءة مدهشة،قبل أن يقول سامي بوجه جامد ونبرة ساخرة:
“أقولك على سر…البنت دي وقعت على ودانها وهي صغيرة،واحنا كنا مخبيين عليك.”
ضحك موسى من تعليق سامي،بينما كانت فيروز تحدّق في شقيقها بفمٍ مفتوح وصدمة طفولية في ملامحها، فالتفتت لها وقال بنبرة جادة لكنها لاتخلو من المرح:
“ماتبصليش كده! إحنا كنا مخبيين عليكِ أنتَ كمان؟!”
رفعت حاجبيها وقالت:
“والله؟؟”
رفع كتفيه وقال بحزمٍ لطيف:
“مش هحلف…ويلا بقى،ادخلي جوا.”
توسلت فيروز بصوت خافت وهي تمسك بالسور:
“طب شوية بس…”
هز سامي رأسه بإصرار وأضاف وهو يشير إلى موسى:
“يلا ادخلي…هتشوفيه بكرة،وهو هيطير.”
سارع موسى بالرد ونبرة ساخرة تملأ صوته:
“أيوه هطير… فاضلي ساعة وجناحاتي تطلع.”
رمقه سامي بنظرة جانبية وقال بضيق:
“اسكت إنت…”
عاد ينظر إلى فيروز،وقال بنبرة أكثر لينًا:
“يلا فيروز…”
ضمّت فيروز شفتيها بأسى طفولي،كأنها لا تزال تتشبث بلحظة دافئة لا تريد لها أن تنتهي…لكن ذلك الحزن اللطيف ما لبث أن تبدّد حين جاءها صوت ناعم،نطقه يزيد من على ذراع شقيقها،بصوته الطفولي يتسلل كعطر بين ضوضاء المساء:
“فيوز…تصبحي عيا خير.”
نظرت إليه فيروز،وملامحها تذوب حنانًا،فابتسمت له من قلبها،وأجابت بنفس الرقّة وهي تلقى له قبلة في الهواء:
“وإنت من أهله يا حبيبي.”
علّق موسى برجاء طفولي سريع،وهو يرفع حاجبيه ويرتسم على وجهه ملامح التوسّل الخفيف:
“طب مفيش واحدة ليا؟”
التفتت إليه فيروز،وابتسامة خجلة نبتت على ثغرها، أما سامي فقد قاطع هذا الهدوء بنبرة سخط لا تخطئها الأذن:
“يلا فيروز!”
أومأت فيروز بخفوت،ونبرتها تفيض بالحنان وهي تهمس لموسى:
“تصبح على خير.”
أجابها فورًا بصوت منخفض كأنه يتمنى أن تطول لحظة الوداع:
“وأنتِ من أهله.”
اختفت وأُغلق باب الشرفة خلفها برفق،وكأنها تحمل معها سكونًا خاصًا لا يُعوّض،وتركت موسى واقفًا وحده،عيناه تتعلقان بالفراغ الذي كان يشغله وجهها قبل لحظات.
رفع رأسه ببطء نحو سامي،فقط ليجده يحدق فيه بنظرة تحمل مزيجًا من الإنهاك والإحباط،قبل أن ينفث كلماته ساخطة:
“هو أنا كل ما أطلع أشم هوا أظبطك أنت وهيا؟!”
رد موسى باستنكار صاخب،وهو يلوّح بيده كأنّه يحاول دفع التهمة بعيدًا:
“هو أنت بتظبطنا في وضع مخل؟! أنا جوزها، أقسم بالله جوزها! عايز إيه يعني؟ أجيبلكم قسيمة الجواز وألزقها على راسي علشان ما تنساش؟!”
ظل سامي يحدق فيه لثوانٍ بصمت،بنظرات خاوية لا تحمل سوى اللامبالاة التي تُثقل الهواء من حولهما،ثم قال بنبرة محايدة ظهرت بارة للأخير:
“ادخل نام…تصبح على خير.”
قالها ومضى بخطواته عادية كأنها لا تترك أثرًا،لكنه ترك خلفه موسى واقفًا في الشرفة،يحملق في الفراغ الذي انسحب منه وكأن عقله لم يستوعب بعد هذا الانسحاب البارد من مسرح اللحظة.
أخذ موسى نفسًا حائرًا ثم أشار إلى صدره بحركة درامية،وهو يقطّب حاجبيه ويهتف بصوت متهكم يملأه الأسى المصطنع:
“قلبي غضبان عليك يا سامي…يا ابن خالتي نادية.”
_________________
ولج سامي إلى الداخل بخطوات هادئة وهو يحمل يزيد على ذراعه،يحادثه بصوتٍ يختلط فيه المزاج بالسخرية الحانية، وكأن كلماته موجهة لطفلٍ وبالغ في آنٍ واحد:
“اوعى تطلع زيه…الواد ده عايز يتربى من جديد، لولا إنه صاحبي وجوز أختي وجاري ويعتبر ابن خالتي،لكنت قطعت علاقتي بيه وارتحت!”
ضحك يزيد بصوت ناعم،ضحكة طفولية صغيرة لا تعي فحوى الكلمات لكنها استجابت لنغمتها، فابتسم سامي على إثرها وقال بسخرية خفيفة:
“بتضحك؟ أكيد مافهمتش ولا كلمة من اللي قولتها يا عم يزيد.”
لكن نطق الصغير بكلمته التي أربكت المعنى،وقال بنبرة جادة كما لو كان يضيف للحوار ما لا يتوقعه أحد:
“موسى…ميل.”
رفع سامي حاجبيه في دهشة خالصة،وانحنى برأسه مقتربًا من الصغير وهو يكرر متسائلًا:
“إيه؟ موسى إيه؟”
وقبل أن ينطق يزيد مجددًا،ظهرت ليلى من خلفهما،تمشي بخفة نحوهم وهي تضحك وتفسّر بهدوء:
“بيقولك جميل.”
نظر لها سامي ثم إلى يزيد الذي كان ينظر إليه ببراءة،فهز رأسه بيأس وقال ضاحكًا:
“طب اوعى تقوله كده،علشان هو لما يصدق حد يمدحه.”
ضحكت ليلى على تعليقه الساخر،ضحكة عفوية وصافية،لكنها سرعان ما تلاشت عندما شعرت بنظرة سامي التي كانت تراقبها.
شعرت بارتباك خفيف، فمشت عيناها بعيدًا عن نظرته وكأنها تبحث عن مكان آخر لتلتقط فيه أنفاسها.
فجأة كسر هو الصمت بابتسامة ثم قال وهو ينظر إليها بحب خفيف:
“اضحكي…ضحكتك نغم أحب أدمنه.”
أصابها كلامه بلمسة من الخجل،شعرت وكأن الكلمات التي نطق بها خرجت من مكان بعيد في قلبه، كلمات ناعمة ولكنها ثقيلة بما تحمله من معاني دفينة.
ابتسمت بدورها، ابتسامة خفيفة لكنها مليئة بالارتباك،ثم خفضت عينيها في محاولة للهروب من تأثير كلماته عليها،وأضافت بارتباك:
“واضح إنك رايق النهاردة.”
نظر إليها سامي برقة،لكن في عينيه كان هناك شيء أكثر من مجرد راحة،كان هناك تقدير عميق،وكأن اللحظات التي تجمعهما كانت تعني له أكثر مما يراه الجميع.
ودون تردد أجاب بسرعة،بصدق خالص:
“هو حد يشوفك ومايروقش.”
تجمدت ليلى للحظة،ثم نظرت له وابتسمت ابتسامة صغيرة لكن من قلبها،فهذه الكلمات كانت لها أثر أكبر من مجرد مدح عابر، بل كانت هناك حقيقة عميقة اعترف بها لها.
تبادلا النظرات في صمت عميق،كان الصمت بينهما يحمل معاني لا تجرؤ الكلمات على التعبير عنها، كان الحب والشغف يملأ كل زاوية من أجوائهما،حتى جاء تثاءب يزيد ليقطع تلك اللحظة الدافئة بينهما، فانتبها له في الحال وأسرعتهما العناية به.
اقتربت ليلى بخفة، ونظرت إلى يزيد بحنان، ثم قالت له بلطف:
“عايز تنام؟”
أجاب سامي بسرعة وهو يبتسم بهدوء:
“سيبه، سيبه، أنا هدخل أنيمه.”
أومأت ليلى برأسها بخفوت،ثم تحرك سامي باتجاه غرفة الصغير، لكن قبل أن يدخل، توقف للحظة ونظر إليها بعينين تحملان أسئلة غير مُعلنة، وسألها بهدوء:
“صحيح،هتروحي بكرة مع فيروز عند بال في المعرض؟”
أجابته ليلى بصوت هادئ:
“آه.”
أضاف سامي وهو يراقبها بعينين مليئتين بالاهتمام:
“وطب ويزيد؟”
“هاخده معايا…فيروز قالتلي إن يمنى ونورهان هيجوا معانا وهيكون معاهم الأولاد، فأطمن.”
“تمام،على خير إن شاء الله.”
نظرت إليه ليلى بابتسامة خفيفة،فأومأ لها سامي بابتسامة مشابهة لابتسامتها،ثم ولج الغرفة بخطوات هادئة،بينما كانت هي تتابعه بنظراتها الصامتة،وتشعر بشيء من السكينة يشغل قلبها.
لكن تلك اللحظات لم تدم طويلاً، فقد بدأ قلبها يرقص بفرح صغير حتى اتسعت ابتسامتها تدريجياً ثم انفجرت ضاحكة بسعادة خالصة بصوت خافت،وكأنها تعبر عن فرحتها بكلماته وغزله بها.
لكن قلبها،رغم كل الضحكات التي ملأت المكان،كان يدرك جيدًا أن تلك الضحكات لن تبقى كما هي…بل ستزداد،وستعلو أكثر وأكثر، ستتحول إلى لحن متكرر في حياتها، لحن لا يُمكنه الخفوت أو التلاشي…وكلما مرّ الوقت، كان قلبها يعي أن الفضل في ذلك يعود إليه،هو الذي زرع السعادة في أيامها وملأ فضاء روحها بالنور.
_________________
في اليوم التالي…
كان يجلس على الطاولة نفسها التي جمعته بمرتضى من قبل،في ذلك الكافيه الهادئ المخبأ وسط الزحام،كأن الزمن أراد أن يعيد المشهد،لكن بتفاصيل مختلفة هذه المرة.
دفع مرتضى باتجاهه ورقة مطوية بعناية وهو يقول بنبرة رتيبة:
“ده العقد…لو حابب تقراه على مهل قبل ما تمضي،خد وقتك.”
تناول موسى العقد دون تردد،وألقى عليه نظرة أولى سريعة،ثم بدأ يقرأه بتأنٍ أكبر وعيناه تمشطان الكلمات بعناية كعدسة تبحث عن شائبة صغيرة في مرآة مصقولة.
على الجانب الآخر،كان مرتضى يرفع فنجان القهوة إلى شفتيه،يحتسي الرشفة تلو الأخرى،بينما كان يراقب موسى بترقب.
وفجأة أزاح موسى الورقة قليلاً من أمام وجهه،ورفع عينيه نحوه بنظرة جامدة متماسكة،لكن اشتعل داخلها شيء ما،وسأله بنبرة ثقيلة لم تخلو من الحدة:
“إيه ده؟!”
_________________
في جهة أخرى…
كان ضجيج المعرض مكتومًا خلف جدران زجاجية سميكة،يعجّ بالأنوار المنعكسة من أسطح الأجهزة الكهربائية اللامعة التي تصطف على الرفوف كجنود في عرضٍ أنيق.
بين هذا الصخب المرتب والمكان المتسع، تحركت خطوات أربع نساء بصحبة الصغار، تتوقف أنظارهن على الغسالات والثلاجات والمكانس الكهربائية.
كانت فيروز تقود المجموعة بنظرات دقيقة تفحص كل جهاز،بينما ليلى تمشي إلى جانبها تلتفت بين الحين والآخر نحو الصغار لتتأكد أنهم لا يبتعدون كثيرًا، أما نورهان فكانت منشغلة بمقارنة الماركات،ويمنى كعادتها تتحدث وتعلق بطريقتها الساخرة فتخفف من وطأة التفكير الجاد.
وسط هذا التوازن الهش بين الجدية والمرح،اقترب زياد من والدته نورهان، وعيناه تلمعان بحماسة طفولية،وقال وهو يشير نحو زاوية بعيدة:
“ماما…إحنا هنروح نلعب هناك شوية،لحد ما تخلصوا، ماشي؟”
رفعت نورهان رأسها بسرعة وحدقت فيه بشيء من القلق،وقالت بنبرة تحاول أن تكون حازمة رغم الحيرة:
“هتروحوا فين بالضبط يا زياد؟”
أشار مجددًا إلى إحدى الزوايا التي تحوي بعض الألعاب المعروضة للأطفال،ورد بحماس:
“هنا…جوه المعرض،متخافيش مش هنطلع برا.”
تدخلت يمنى مبتسمة، وأشاحت بيدها كأنها تطمئنها بثقة:
“سيبيهم يا نورهان، هما جوه المكان ولو فكروا يخرجوا الأمن هيشدهم من قفاهم ويجيبهم جري.”
ضحكت فيروز على تعليقها،بينما تنهدت نورهان وأومأت بخفوت،مستسلمة لتلك الطاقة التي لا تهدأ وقالت أخيرًا:
“ماشي…روحوا،بس خليكوا في المكان اللي قولتوا عليه.”
أومأ زياد برأسه شاكرًا، قبل أن يلتفت صوب ليلى بعينين لامعتين فيها رجاء طفولي صادق، وقال:
“ممكن ناخد يزيد يلعب معانا يا خالتو ليلى؟”
نظرت له ليلى بتردد واضح،ثم نظرت إلى يزيد الذي وقف بجوارها ينزر إلى الأرض بخجل،وعيناه تتنقلان بين زياد ومنذر في لهفة صامتة، ثم ألقت نظرة خاطفة نحو فيروز ويمنى ونورهان،ثم عادت بنظرها إلى زياد وقد حسمت قرارها أخيرًا، فأومأت بخفة وقالت بابتسامة حذرة:
“ماشي…بس خدوا بالكم من نفسكم.”
“حاضر!”
أجاب زياد بحماس،قبل أن ينحني قليلًا ويمد كفيه الصغيرتين ليزيد الذي لم يتردد بل مدّ يده نحوه في ثقة، وأمسك زياد بكفه وقبض عليه بثبات،ثم هتف مشيرًا لمنذر:
“يلا يا يزيدو! يلا يا منذر!”
انطلق الثلاثة كخيوط ضوء تهرول وسط المعرض،تتقافز أرجلهم الصغيرة بين الممرات المبلطة،تقودهم الضحكات ودهشة الاكتشاف،تاركين خلفهم أثرًا من البراءة الصافية.
أما الأمهات،فبقين في أماكنهن،عيونهن تتبع الصغار كظل لا يُرى،وقلوبهن تخبئ القلق خلف ابتسامات الأمان المؤقت.
حتى قطعت يمنى ذلك الصمت بعبارة خفيفة علّقت بها وكأنها تُنهي قلق الأمومة المؤقت:
“يلا سيبوهم بقى يعملوا اللي بيحبوه، وخلينا إحنا كمان نعمل اللي بنحبه!”
استدارت الثلاثة نحوها في آن، بنظرات امتزج فيها التعجب بعدم الفهم،فابتسمت يمنى بخبث محبب ورفعت حاجبيها وهي تقول:
“نبعزق فلوس أزواجنا!”
انفجر الثلاثة بالضحك، ضحكة صادقة، مفعمة بالعفوية، وضحكت يمنى هي الأخرى ثم وضعت يدها على خاصرتها وقالت بحماس خافت:
“يلا تعالوا نشوف الغسالات…بلال قالي إنه جاب نوع حلو أوي، يلا تعالو نشوفه، علشان بفكر أغير غسالتي،مابقتش بتشغتل زي الأول.”
تمتمت نورهان بسهرية واضحة:
“والله لو الغسالة بتتكلم،كانت طالبت بالطلاق من زمان،علشان مفيش واحدة بتشغل الغسالة أكتر منم يايمنى.”
ضحكت كل من فيروز وليلى على تعليقها الساخر، فيما رمقتها يمنى بنظرة سخطٍ مصطنعة ثم لوّحت بيدها وكأنها تُبعد سحاب المزاح وقالت بنبرة عملية:
“سيبكم منها، ويلا تعالوا بقى.”
تحركن بالفعل، متجولات بين الممرات الفسيحة للمعرض،يتنقلن من جهاز إلى آخر، أحيانًا يتوقفن بإمعان لتفحّص جهاز، وأحيانًا يمررن بنظرات سريعة محملة بالحكم والخبرة.
كان الحديث عابرًا…ضحكة هنا، تعليق هناك، همسات عن الماركات والأسعار…إلى أن قُطعت الأجواء بصوت راكض اخترق أذانهن.
التفتت رؤوسهن جميعًا في آنٍ واحد،لتقع أعينهن على منذر وهو يركض نحوهّن،وجهه الصغير متجهم وعيناه اللامعتان تنذران بشيء غير اعتيادي.
توقف بالقرب من ليلى،وصوته يلهث بينما يمد يده المرتجفة مشيرًا إلى الخلف:
“الحقي يا خالتو ليلى…يزيد وقع ومش بيتحرك!”
توقف الزمن للحظة،وتوقف قلب الأم معه…
لحظة واحدة،كانت كافية لتعصر قلبها،وتشعر وكأن شيئًا ما اقتُلع من أعماقها فجأة،وحلَّ مكانه فراغ قاتل.
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.