رواية اهداب والماضي – الفصل الرابع
« لقـاء ……… و فــراق »
وأنـا التـى لم أعِـي السلامَ يومًـا ، إلا حين إختارني القدر عزيزةً فى مِحرابِك …..
فأيقنت أن بين عَـضُديْك …الأمـان والسكـن …
و كأن العالم قد توقف عن الإستدارة حين أحنيت رأسِك ، و أرحْتَـهُ على صدري …..
و لم يبقَ لِي من وجودي سوى أنفاس …مُتقطعه لا تكتمل سوى بوصالك ….
تتابعت الأيام من حَسَن …..لأحسن …
لتُشرق سماء الكون بفجر يومٍ جديد … ومع وتيرة العمل التى لا تنتهي .. عاد “مدحت” إلى منزله باكرًا على غير عادته …ليُفاجِىء “فريدة ” برحلةٍ شيقة إلى ألمانيا يصحب فيها عائلته الصغيرة المكونه من أفرادِها الأربع إضافةً اليه …..
ولأن “فريدته” لم تُخلق عبثًا…. بـل اتزن الوجود بأكمله على كتفيها …..قرر “مدحت” استرجاع ذكريات أيامٍ شهدت أن مذاق الشهد يُعادل الثلاثين يومـا …ولكنه عندما عاد إلى منزله ، لم يجد زوجته ….. ذاك الأمر الذى سبب له قليل من الضيق ، لرجاءه رؤية تأثير المفاجأة المرتقبه على ملامح وجهها ….
لذا إلتقط ” مدحت ” الهاتف ، للتواصل معها ، و مُطالبتها بالعودة على عجل ..إلا أن هاتف “فريدة ” التى حرصت على إغلاقه أثناء لقاءها بشقيقيها …كان لمحة القلق التى نبتت بتلافيف عقله …..
انطلق “مدحت” مُسرعًا إلى الخارج ….للبحث عن زوجته ، أثناء محاولات اتصالاته الكثيرة برفيقاتها اللائي يعلمهُـن جيدًا ….
و أثناء انشغاله بأحد تلك الاتصالات الهاتفية ، لمح سيارة فريدة الخاصه يقودها السائق فى حنكة ، دالِفًـا إلى الداخل .
على الفور ، أغلق “مدحت” الهاتف ، و اتجه إليه لسؤاله عن مكمن زوجته فى حيرة :
— “فريدة” هانم فين يا “عزت” …. وليه راجع لوحدك ؟!
أجاب “عزت” فى هدوء :
— “فريدة” هانم طلبت مني أوصلها لمنتزه الشروق ، و طلبت مني أرجعلها الساعه ٣ .
ازدادت دهشة “مدحت” ، كونها المرة الأولى التى تسلك فيها زوجته سبيل الغموض ، ليُعاود التساؤل :
— وهى بتعمل إيه هناك ؟!
نفى عزت ” السائق ” معرفته بِـسر أفعال “فريدة ” التى تكررت كثيرا فى الآونة الأخيرة ، ليُجيب إجابة مقتضبه :
— والله يا أفندم …. أنا معنديش عِلم ….. أنا بنفذ أوامرها مش أكتر …..
لم ينتبه “مدحت” إلى بقية حديث “عزت” ؛ فيكفيه ما قد سمع من أمر غير اعتيادي على زوجته ، ليقرر قيادة سيادته والذهاب إلى المنتزه ، باصِـقًا بفمه على بذور الشك ….
ربما اعتاد بسنوات عمره التى تجاوزت الأربعين …الحفاظ على القوانين ، خاصة قواعد المرور ، إلا أنه اليوم لا يهتم ، وبالأحرى لا يُطالب من حوله بإلتماس الأعذار والمبررات …..
فإن رضيت أم لم ترض …… لن أنتظر ، و لن أتمهل ……
وفى وقتٍ وجيز ….. كان “مدحت” على مشارف المنتزه ، يُقلب أنظاره فى الجالسين ….. فـالواقفين …… الجميع فى حالة من السعادة والهيام …..و الأطفال يركضون هنا … وهناك …..
بأنفاس مضطربة …. أسرع “مدحت” الخُطى ، يحاول التمسُك بسِـلاح كاظِمِـي الغيظ …. حتى لا تتوقد داخله أمارات الوساوس …
وسؤال يتردد على مَسمعِه فى إلحاح …..
— ما هو سر غياب زوجته عن منزلها لأربع ساعات متواصله ، دون عِـلمه ؟!
بعيون ثاقبه كالصقور ….. جعلت الأفكار “مدحت” من نبراس الخطر…. جرسًـا يُهدد عرش قلبه …. ليُقلِّـب
أنظاره بين الوجوه ، علَّـه يجدها …. حتى لمحها من بعيد …
لم تتملك الراحة من قلب مدحت ….. بل جفت الدماء فى أورِدته ….حين وجد بجانبها شاب ، واسِدًا ذراعيه حول كتفيها ، يتحدثان فى سعادة ، و أصوات المرح تنتعش فى المكان .
أحقًا فعلت “فريدة” ذاك الإثم ، و هو الذى قرر مفاجئتها لاستعادة شارات العشق بينهما …..!!
ارتعشت ساقيه ، فلم تعد تحتملانه كما السابق … بل قررت خيانته هى الأخرى ليسقط على عُقْـر خيانتها ….. حتى ظن أنه على وشك فقدان الوعي …..
انهمرت الدموع من عينيه كالنهر الجارف ، يجرف فى طريقه كل ما يطاله ….
أين أخطأ ؟! …. ومتى شاهدتْ منه تقصيرًا ؟!
لقد كانت لقلبه أقرب من الوتين ….
هى الدفء الذى سطره له القدر … المرأة التى لم ير لها مثيلاً ولا بديلاً …..
وبدلا من أن يواجِههـا ، أو يُمسكها بجُرمها المشهود …رحل إلى سيارته يقودها فى انهيار ….
لم يعد يعبأ بما أمامه ، ومن أمامه ….. و لولا رعاية القدير .. لكان الآن بين عداد الموتى ….
مرت الساعات بطيئة كالسلاحف …. مُتثاقله كحيوان الكسلان …..دون عودة “فريدة ” ….
لتتوقد عيونه لهيب الجمْر ، فى حين أطلق ضحكته الساخره الأليمه :
— لسه مشبعتيش من عشيقك يا خاينه ؟!
مش مِكفِيكي خمس ساعات ….!! ……. أما أنا صحيح طِلعت مغفل ….”
ينتظر زوجته بجسد يشتعل كالجحيم … وعندما رأى تذاكر الرحلة ، مزقها بين أنامله .. ثم أمسك بصورتِـها التى توجهـا على عرش قلبه زوجةً عاشقه ؛ ليُلقيها تحت قدميه محطمة ….مبعثرة ….
عادت “فريدة ” إلى منزلها …. بعد أن قضت الساعات الخمس ، بصحبة شقيقيها سعيدة ، مشرقه …. جاهله لما تحمله لها الساعات القادمة …
وما إن وقع بصرها على زوجها ، و انتبهت إلى نظرات الغل فى عينيه … وصورتها المحطمة التى تطأها قدميه….. حدثته فى ترقب ، و قلق :
— “مدحت “…. إيه اللى حصل….؟! …. مالك يا حبيبى ….. إنت كويس ؟!
أجاب “مدحت”، و كأن تساؤلها هو ما كان ينشده منذ ساعات :
— ليه تعملي فيا كده … أنا عمري قصَّرت معاكي ، أو مع الولاد …؟!…. إيه الذنب اللي أنا عملته فـ حقِك ، عشان تأذيني و تحطميني كده …. مش شايفاني رجل بعد كل السنين دي ….؟؟…. من إمتى و إنتِ بتقابليه ….؟! ….. و مين هو …. ؟…. انطقي …..
ارتعشت شِفاه “فريدة” التى حارت فيما ستُصرح ، إلا أنها لم تقوى على الحديث …. فقررت إسـتِفتاء عقلها علَّـه يُفتيها بالصواب ….. إلا أن تلك المُهلة البسيطه التى لم تتعدى الثوانِ العشر ….كانت كما الدهر على نفس “مدحت” … ليقرر إخماد نار قلبه ، و إستيفاء الحساب من زوجة عمره ….
صفعة على وجهها …. زلزلت كيانها كورقة فى مهب رياح الخريف ؛ لتسقط على إثرها فى قسوة بعد أن انسالت دمائها الحارة من بين شفتيها ….
لم ينتظر “مدحت” اعتراف إمرأته التى وجدها أمامه خاطِيـه … كريهة …. خائنة ….. لا تستحق سوى الموت …. لينهال على كامل جسدها بصفعات ، و لكمات مُوجِعه كادت أن تصيبها فى مقتل …
ظلت صرخات “فريدة” ما بين الإستغاثه و الرجاء لذاك الغافِل المُتسرِع عَلَّـه ينتظر لحين سماع كلماتها … لكنه ظل على جنونِـه ؛ حتى فقدت الوعي …
من شدة القهر ، و ذاك الشيطان الذى يجثم على صدره ، و احتل عقله و فكره ….. استمر “مدحت” فى إتيان عقاب لا يحتمله بشر ، دون الإنتباه إلى تلك الغيبوبه التى سقطت فيها “فريدته” من شدة الألم …..
إلا أن مشيئة القدير قد تجلت بعودة ” أهداب” الصغيره إلى منزلها.
و بدلاً من أن ترتمي بأحضانها كما المعتاد ، و تقص على مسامعها ما حدث فى يومها من أحداث شابهت بوصفها المغامرات ….. وجدت أمها مُتكومه على الأرض …. الدماء تنزف من كافة أنحاء جسدها ، و لا يزال أباها ينهال عليها بالضربات المبرحة ….
ركضت ” أهداب ” فى خوف نحو والدتها ، جاذبة والدها الذى ظهر كما الوحش الكاسر يفترس فريسته …. ثم صاحت فى غضب و كُـره :
— إبعد عن ماما …. حرام عليك …. إنت عايز تموتها …. ابعد يا بابي … أنا بكرهك …مش بحبك …..
أمام تلك اللطيفة الصغيره ، كان “مدحت” فيما مضى أسِير جمالها و رقتها …. إلا أنها فى تلك اللحظه لم تعد سوى ابنة تلك الخائِنـه التى استغلت غيابه لساعات… ربما أيام …. أو سنوات …. أو حياتهما كلها … من يدري !!
وعند تلك النقطة ، جذب ” مدحت ” ابنته من ذراعيها فى خشونه ، و قسوة …ثم ألقاها بعيدًا كما الخُرقة الباليه المُهمله ….. ثم عاد إلى زوجته لإستكمال ما بدأ ، ليجعل من خصلاتها الناعمة كما السوط الذى ينهال به رجل القانون على من افتعل الجرائم ….
نهضت ” أهداب ” فى وجع ، راكضه إلى الخارج فى محاولةً منها لطلب النجده ….. لتجد عزت ” السائق ” الذى ارتمت أمام قدميه ، باكيه ، تُطالبه بنجدة ، و إنقاذ والدتها
— إلحقني يا عمو “عزت” …. بابا بيضرب ماما وهيموتها …. إلحقها إعمل معروف …..
حين استمع “عزت” إلى ما صرحت به “أهداب” ….ركض إلى الداخل ، هاجمًا على “مدحت” الذى كان كما الوحش الكاسر ، فما كان من “عزت” إلا أن كال له اللكمات واحده تلو الأخري ، مُستغِلاً جسده القوي ، و عضلاته المفتوله …..
حتى سقط على الارض ….
ثم اقترب “عزت” من “فريدة” التى كانت كما الجثة الهامده ، غير واضحة الملامح من الدماء التى إكتسحت بلونها القانِـي وجهها البرىء ….
ركض “عزت” إلى السيارة حاملاً سيدته ، لترافقه” أهداب” إلى المشفى ؛ فى حين طالبت الصغيرة السائق ، بالاتصال على شقيقها الأكبر “عماد ” ، مُحذرًا إياه بعدم العودة إلى المنزل ، بل و اللحاق بهما الى المشفى .
لم يحاول عزت سؤال الصغيرة عن سبب الشجار الغريب الكائن بين “مدحت” وزوجته التى يعشقها عشق تعدى حد الجنون …. و إنما إتصل بِـعماد ، و أبلغه بالإنطلاق الى المشفى ، لظهور بوادر خفيفه من التعب على والدته
و قاد السيارة فى غضب سيطر على داخله ……
وصل إلى المشفى صارِخّا فى الجميع ، بطلب النجده …. بينما تجمع عدد من الأطباء حول جسد تلك المسكينة التى ما إن رأوها حتى ارتعشت اوصالهم قائلين :
— إيه الإفترا ده … مين الظالم اللى عمل فيها كده …؟!
تردد عزت فيما يقول ، وما عليه أن يفعل ، ليهمس فى ضغوط :
— دى ….دى حادثـ……….
قاطعه أحد الأطباء الذى حمل جسد “فريدة” إلى غرفة الفحص :
— لأ … استحاله ده يكون حادث … دي أثار تعذيب … و واضح جدًا علامات أصابع على رقبتها و وشها …. ربنا ينتقم منه ….
ثم طالبوا بخروج “عزت” مع الصغيرة للقيام باللازم .
أثبت الفحص الظاهري عن كسور متعدده فى الحوض ، و الذراعين ، و الكاحل الأيسر … و اشتباه فى وجود نزيف بالمخ …. ليقـرروا إيداعها غرفة العمليات فى الحال .
بعد ما يقارب النصف ساعة ، وصل “عماد” الى المشفى ، ومنها إلى الطابق الرابع بعد أن أخبرته العامله فى الاستقبال عن وجهته … ليركض صائحًا فى قلق:
— فيه ايه يا أسطى “عزت” …. ماما مالها ….. جرالها إيه ….؟!
انطلقت ” أهداب” تُـردِد على مسامع أخيها ما فعله والدِها المُتجبر من عذاب لوالدتِـها ، ليجن جنون عماد ، و يركض فى محاوله منه الذهاب إلى والده و تلقينه درس لا يُنسى ..
إلا أن عزت استوقفه قائلا فى نُصح :
— لا يا “عماد” …. سيبك من أبوك دلوقتي … المهم والدتك و أختك …. و أوعدك حق والدتك مش هيروح…
و أنا ليا تصرف تانى معاه ….بس نطمن عليها الاول ….
الانتظار ….. ما أسوأه ….!! … و ما أقساه !!
الانتظار … هو اللغة التى لا يقرأها القارىء ، ولا يحتويها الصمت …. و إنما يعاني منها المعذَبـون ….
هو مدرسة القلوب التى عليها أن تحتمي بالصبر واللين … هو الفراغ الذى تملأه الوساوس ….. من مخاوف القادم …..
وما عليهم من سبيل إلا أن ينتظروا ….
طال الانتظار ….. و طال …. إلا أن ما له بداية ….لابد له من نهاية ….. و إن أوجعت…..
خرج الأطباء بعد مجهود مُضنِـي … ليردف أكبرهما سنًا و خبرة :
— بصراحة المدام حالتها سيئه جدًا …. عندها كسور متعددة في الحوض والكاحل و الذراعين … و كمان فيه شرخ في العمود الفقري ….
كان عندنا خوف ، و قلق أن الحالة تتعدى الإصابات دي ، و توصل لنزيف فـ المخ …. بس الحمد لله لِحقناه ….
هى دلوقتي فـ العناية المركزة ، و هتحتاج على الأقل ٤ ساعات عشان تفوق ….. ادعولها ……
بس أحب أقولك إني بلغت البوليس … حالة المدام لا يمكن اسكت عليها… دي جريمـة شروع فى قتل …..
عن اذنكم …
ما سمعه ” عماد “كان نذير الخطر ، ليقرر إشباع والده من الآلام كما فعل بوالدته .. إلا أن “عزت” نحَّـى عنه تلك الفكره ، ليؤكد له القيام بالمطلوب ..
أوصى “عزت” “عماد” الاهتمام بشقيقته، ومحاولة تهدئتها ….
و المكوث فى تلك الاستراحة المواجهه لغرفة العنايه المركزه ….
ثم رحل السائق عزت إلى منزل “مدحت” ، لمعرفة ما أصابه من جنون !!..
أفاق “مدحت” على انكسار قلبه الذى عشق إمرأة حد الإدمان …..
لم يكن يهتم ، أو يشعر بأوجاعه من شِجـاره السابق مع “عزت” ….. و لكن قلبه المحطم هو الذى ينزف .
استقام لينظر إلى مأساته ….. بمعاناه لا سابق لها ….
فماذا جنى من مشاعر تفردت بها “فريدته” ، و لم تكافئه سوى بالخيانة و ما أبشعها ؟!
لم يعد يحتمل الحياة مع ذنوب زوجته …و لا يحتمل الخلاص منها أو الإنفصال عنها ….
لذا اتجه بقلب أصابه اليأس و الإنهيار ، و اقترب من أحد أدراج مكتبه …. ليفتحه فى بطء كاشِفًا عن مسدس كان قد وضعه بإهمال ، ظانًــا منه استحاله استخدامه …
إلتقطـه مدحت بأنامل مرتعشه ، ولسان يرتجف، همس :
— مكنتش متخيل ييجي اليوم اللى أفكر أستخدمك فيه …. أنا هصبر و أستنى لما ترجع البيت …. أيوه ….
هقولها إني سامحتها ، ولما ترجع تقابله من تاني … أخلص منهم …… هي متستاهلش تعيش …. متستاهلش قلبي اللى عشقها. …..
ده جزائي إني اختارتها بعمري …. إني بعشق التراب اللي بتمشي عليه …. تبقى دي مكافأتي …. لكن أنا مش ضعيف. …. لأ …مش ضعيف …أنا لازم أنتقم منها ..و مِنه …. منهم هم الاثنين ..
ثم وضع إحدى الرصاصات فى ماسورة المسدس ، ليُعيد سحب الزناد مرة أخرى تتلاعب به الوساوس هامسًا :
— هتقدر تصبر يا مدحت ….. !!……والولاد…. مش يمكن مش ولادك ….و انخدعت فيهم هم كمان ….. طيب هتقدر تنتقم منها إزاي ….؟… ده إنتَ قلبك بيتقطع من اللى عملته فيها …..
لأ …… أنا مش هقتلها ….. أنا اللي لازم أموت ،و أعيِّشها بقية عمرها بذنبي …. أيوه لازم أموت ….. و إنتِ يا “فريدة” كل لحظه لازم تتمني الموت من عذاب الضمير …
و فى لحظات توقفت خلالها عقارب الساعة ، رفع “مدحت” المسدس إلى موضع قلبه بأصابع تهتز من فرط انفعاله…..
فى تلك اللحظه كان “عزت” قد وصل إلى المنزل ، ليدلف إلى الداخل ، للقاء مدحت الذى لطالما اعتز به واحترمه ….
…….. و على حين غرة أطلق مدحت الرصاصة فى نفس اللحظه التى صرخ عزت بعلو صوته :
— لااااااااااااااااااا ……..
ولكن ذلك التحذير لم يعد له جدوى ، فقد أتى بعد فوات الأوان
سقط “مدحت” بين قدمي “عزت” وسط بركة من الدماء …. ليبكي السائق دموعه الحارة ، ثم أسرع بهتاف رجال الإسعاف …
فى حين شلَّـت المفاجأة قدميه ، يصرخ عقله عما عليه أن يفعل ….
كيف سيُبلِّـغ تلك المسكينة راقدة المشفى بما حدث لزوجها ؟!
و أولئك الطفلين …. كيف سيحتملا مرارة اليُتم ؟!
ما أظلمَكِ أيتها الدنيا …!!
أتلك تدابير القدر ….!! ….بين ليلة وضحاها ….. موت …و فقد ….. رحماك يا ربي !!
رحمــــــــــاك …..
وصلت عربات الإسعاف ، بأصواتها المدويه التى يوفرها الكثير…. ليحملا جسد “مدحت” إلى المشفى ، فى حين لم ينتبه “عزت” لمجيئهم ، ليقترب منه أحد الأطباء سائلاً:
— إنت تِقرب للحالة ايه …؟!
أجاب عزت بعد أن آفاق قليلا :
— أنا السواق بتاعه ، و مراته كمان فى المستشفى تعبانه ….. هيعيش يا دكتور ….؟!
أجاب الطبيب بعمليه :
— مظنش …. الرصاصة إجت تقريبا فـ القلب ، و فقد دم كتير ….. و النبض ضعيف جدًا …. إستعد لأي خبر حتى لو كان هيوجعك .. . عن إذنك ….. و خُد بالك البوليس جاي ف الطريق لأننا بلغنا ….. دي حالة انتحار
بين السبابة والوسطى ….. وقف “عزت” بجسد منحني … عيونه تحُـول بين ذاك المشهد القاتل لمشاعره ، حين أطلق مدحت “الرصاص” على قلبه ، وبين بركة الدماء التى لطخت الأرض..
لتتحول تلك الفيلا الصغيرة إلى ساحة للجريمة ….و استجوابات كثيرة شددت من اوجاعه ….
ساعات لا طائل منها إلا الاتصال المتكرر ، بـ” عماد” و شقيقته الكبري …. الذى حرص فيها عزت ألا يُخبرهما عما حدث لوالدهما المسكين …
فى حين ألح “عزت” على أفراد الأمن بضرورة كِتمان ذاك الخبر المفجع عن وسائل الإعلام ، حتى لا تجد منها ذريعة لإصابة شركة” مدحت ” و أعماله فى مقتل
و خاصة بعد مرض زوجته و رقودها بالمشفى بين الحياة والموت .
انقضَت ساعات النهار ، ليصل أفراد البحث الجنائي الذى أكد أن ” مدحت” قد فقد عقله ، و أتى على الانتحار بِملء إرادته دون ضغط أو ترقب من أحد ..
لينفض ، و ينتقل أفراد الأمن الى المشفى للإطمئنان على تلك الحالة الخطرة ، ربما لم تحن لحظة نهايته بعد …..
حرص “عزت” على تنظيف المكان مما لطخه من دماء ، تحسبًا لعودة فريدة مع أبنائها ربما بالمستقبل القريب ….. من يدري …!!
جدران مظلمة ….. هدوء عميق موحِش ….. تلك هى الأجواء بالوقت الحاضر . …
ومن يسترجع يومًا مضى لا يجد سوى الفرحة و ضحكات الاطفال الصارخة ، تؤكد للجميع ….. هنا تسكن السعادة …… هنا يسكن السلام والحب …!!
نظر “فريد” فى ساعة يده ، تشير عقاربها إلى الحادية بعد منتصف الليل ، ليؤنب حاله على ترك الصغيرين طوال اليوم بلا طعام أو رعاية … ثم قاد السيارة ، قاصدًا المشفى …
وعند وصوله ….. وجد” عمـاد ” يحيط كتف شقيقته الصغرى بذراعيه … و تتكئ تلك البريئة على صدر أخيها غافيه …. لا تعي ولا تعلم ما قد ينتظرها بمستقبل غير واضح المعالم ……
جلس “عزت” بجوار “عماد” ، ليحتويه بنظرات العطف قائلاً :
— طمني يا حبيبى ….. ماما فاقت ولا لسه ….؟.. أنا دلوقتي هروح للدكتور اطمن منه ….
على فكره أنا جيبت معايا عشا إنما إيه …. بيتزا و كباب و شاورما …. كل الأكلات اللي بتحبوها …. هروح أطمـــ……..
قاطعه “عماد” فى صرامة رجل بالغ ، و ليس طفل بريعان الزهور :
— ده مش وقت أكل ، ولا شرب يا عم “عزت” …. إنت شوفت بابا …؟.. حصل إيه …؟.. و قالك ايه ..؟… إزاي قدر يعمل فـ ماما كده ….. ما تقول ايه اللي حصل ….
بتيه ، و انقباضة صدر أجاب “عزت” :
— هو والدك بس عنده مشاكل في البيت ، و عليه ديون للشركة و البنوك …. و والدتك كانت محتاجة فلوس ، وهو مِتنرفِز ….. فمقدرِتش تحتويه ….. قام اتعصب عليها شويه ….
معلش كل حاجه هتبقى أحسن … صدقني …..
أنا هقوم أكلم الدكتور… وإنتَ خليك هنا …. مش هتأخر …
لم يكن “عماد” رغم صغر عمره ، بالسذاجة التي تجعله يُصدق ما قد سمع …. إلا أنه لم يُـرِدْ صب الوقود على جمر من لهب …. لذا اكتفى بما سمع ، و إن لم يصدِق ..فقد صمت ….
توالت الأيام و تتابعت بِـمُـرِ العلقم ، ليُشدد “عزت” التركيز على الطفلين ، بعد أن طلب من زوجته رعايتهما فى بيته المتواضع ، في حين استمر بزيارته المتكررة ” لفريدة” التى أفاقت ، و تحسنت حالتها الصحية بشكل ملحوظ …
فى تلك الأثناء ، تمكن القلق من قلب “فريد” ، بعد تغيُب شقيقته الكبرى عن موعد لقاءهما ثلاث مرات متتاليه ، ليقرر المخاطرة ، و الذهاب إلى منزلها للإطمئنان ، والسؤال عنها …..
كان المنزل خاويًا كما الخلية الجوفاء …. بجدران صلبه يابسة ، ولا شى يدعو للحياة فيها …
ترجل “فريد” من سيارته ، يُقلب أنظاره على باب الفيلا الصغيرة ، لينتبه إلى غياب حارس الأمن ، و بلا تردد أكمل المسير إلى الداخل ليلتقي بالجنايني الذى سأله عن السيد “مدحت” صاحب الفيلا
تأمل الجنايني ملامح “فريد” قليلا ، يحاول اعتصار بنات أفكاره فى محاولة منه لمعرفة هويته ، لكن دون جدوى
لذا أيقن أنه أمام شخص غريب عن تلك المنطقه
و بفطنته أجاب :
— لا والله “مدحت” بيه مسافر ، و هيرجع كمان يومين
اطمأن قلب “فريد” قليلا ، ليعاود سؤاله من جديد :
— طيب …أقدر أقابل الهانم …. بلغها أن “فريد” ابن عمها عايز يقابلها ..
لم تكن ملامح “فريد” تُنبىء بالعدوانيه أو المكر … وإنما تسلب الوجدان من حيويته و دفئه ….. لذا أيقن ذاك الرجل الأشيب بخبرته الطويله فى معاملة الآخرين ، حُسن نيـة “فريد” …. ليُفكر قليلاً هامسًا لنفسه :
— والله الشاب شكله محترم ، و ابن حلال … يمكن قريبها فعلا …. أي نعم أنا معاهم من سنين و عمري ما شوفت أي حد من قرايبها ، لكن أكيد هى لسه هتقابله النهارده لأول مره ، ويمكن مكنتش تعرف إن ليها عم أصلا ….
…….. ثم أردف ببسمة هادئه :
— والله يا بني …. هى الست “فريدة “هانم تعبانه شويه ، و فـــ………..
لم ينتظر “فريد” سماع باقي الرد من الجنايني ، ليختلج قلبه من الوجع والقلق ، ثم صاح فى سرعة :
— تعبانه …. تعبانه مالها ….. يا حبيبتى يا “فريدة” …. هى فين …؟! … فى أي مستشفى… ؟!
أجاب الجنايني براحة قلب بعد أن شاهد بِـأُُم عينيه قلق ابن العم على من هى من دمه :
— فى مستشفى الهلال الدولي ..
انطلق “فريد” بسيارته ، يقودها بجنون السرعه ، غير عابىء بصفارات الانذار من السائرين بجواره …إلى أن وصل إلى المشفى ومنها إلى غرفة فريدة ..
توقف أمام باب الغرفة ، يلتقط أنفاسه قليلاً ، وحين تمسك بمقبض الباب ، اقترب منه أحد الأطباء قائلا :
— سيادتك تقرب لمدام “فريدة “…؟!
أجاب فريدة بصدق ، دون انتباه لضرورة إخفاءه لهويته :
— أيوه …أنا أخوها …. بس … بس كنت مسافر ، و لسه راجعه مــ السفر من ساعه
تفهم الطبيب صدق قوله ، قائلا :
— حمدا لله عـ السلامة … متقلقش … مدام “فريدة” دلوقتي أحسن …. أي نعم هى كانت جاية فـ حاله سيئه جدًا…. لكن الحمد دلوقتي أحسن كتير .
تساءل “فريد” بدهشة :
— هى عندها إيه ؟!
تدارك الطبيب الموقف ، ليقرر عدم الافصاح عن وضع الحالة ، خوفا من زرع بذور الكراهيه بقلب الشقيق تجاه زوج أخته ، ليقول :
— واضح إنها عملت حادث ، اتسبب لها فى كسور متفرقة بجميع انحاء جسدها … لكن كلها شهر وترجع أحسن من الاول…
استنكر “فريد” ما سمع ، فكيف لشقيقته بتلك الإصابة ، و ذاك الحادث دون علمه :
— يعنى هتفضل فـ المستشفى شهر ؟!
أجاب الطبيب بعمليه :
— لأ … حوالي أسبوعين بس ، و باقي فتره العلاج تقدر تستكملها فى البيت
بعد أن اطمأن “فريد” على وضع شقيقته الصحى ، دلف مع الطبيب إلى الداخل ، لتتسع مقلتي “فريدة” حين أبصرته :
— “فريد “… إنت عرفت منين إن أنا هنا ….؟! …. إنت روحت البيت ….؟! …. “مدحت “شافك …. ؟!
ابتسم الطبيب موجِهًا حديثه إلى “فريدة “:
— ممكن نأجل وصلة الترحاب دي لبعد الفحص …. وبلاش انفعال أرجوكي … احنا ما صدقنا حالتِك تستقر .
أنهى الطبيب الفحص ، ثم رحل فى هدوء بعد أن اطمئن الجميع لإمتثال “فريدة” للتعافي ، فى حين تبادل كلا الشقيقين أطراف الحديث طويلا .
لم تُرد” فريدة ” إخبار أخيها بالخلاف الدائر بين الطرفين ، لذا صممت عن الحقيقة وتعللت تعرضها لحادث مرور أودى بها إلى المشفى
خلال الأيام السابقة. ، أنهى أفراد الفحص الجنائي جمع الأدله ، ليذهب الضابط المكلف بالتحقيق الى المشفى والاطمئنان عن حالة “مدحت” ، لاستكمال الإجراءات … لكنه تفاجىء بكارثة لم تخطر له على بال ….
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.