رواية اهداب والماضي – الفصل الثاني
« مكالمـة منتصـف الليـل »
« نحن لا نبكي … بل نبتسم … لنختلِـق السعادة …
تُـلاحِقُنـا الذكريات الوضيعة ، تتكىء على أكتافِنا التى إنحنت من فرط الأسى ……
و نختطِـف من المستقبل …لحظات
فكيف نغفل عن الجِراح …. وداخلنا مسئوليات إن تحدثنا قد يشوبها الشوائب ….»
تبتسم …. و لكن لَـهـوِها لم يعُد ذات مغزى …
تُجالِسهُـم الطاولة ، فتُلَوِك الطعام بين فكَّيـها ، و تتجاذب أطراف الحديث ، و تساند الزوج و الولد …. ولكنها فى أمَسْ الحاجه للمساعده …
تُعانِق ابنتها ، و تتلقى منها الدُعابـات ، ولكنها تبدو حائِرة
لينتهي النهار بطيئًـا مُهمَـلاً ….. و يأتي الليـل ساكِنًا متلذِذًا .
استعدت إلى التسلل لِفِـراشها ، قبل إنتهاء زوجها الحنون من حمامه الدافىء ، كيلا ينتبه على ذبول عينيها….
إلا أن قلب المُحب دليله فى الظُلمة ……
فقد ارتدى منامته الليلية ، ليُقبِل عليها فى حنو ، و سُهاد .. قائلاً :
— مالِك يا روحي ….!! ….. فيه حاجه تعباكي …. أنا زعلتِك فــ حاجه ….. طمنيني …… عيونك فيها حزن مش عارف سببه ….!!
أجابت “فريدة” وهى تُصِر على إنكار الحقيقة العاريـة ، ثم أجابت بقليل من الحماس :
— لا يا حبيبى ….. مفيش حاجه… أنا كويسه جدًا ، كل ما فى الأمر ، إني حسيت بشوية ملل ، قولت أقعد شويه ، ومحبيتش أقلِقك ……
لامس “مدحت” وجنتي “فريدة” فى ولــه :
— بقى تحسي بالملل ، وأنا عايش على وش الأرض ….طب إزاي ، و أنا أبقى كده لازمِتي إيه فــ الدنيا …. أنا عايـش علشانِـك إنتِ و الولاد …… و خليكي فاكره ، أنا من غيركم ولا حاجه ….
خصوصًا إنتِ يا “فريدة “…… إنتِ كل دنيتي ، ولو بعدتي عني …. هتبقى نهايتي…..
تركوها فى محبسِها طويلاً …. و أوصدت عليها ألف بابٍ و باب …..
لا تتذكر كم الآهـات ، و التساؤلات التى تعصف بعقلِـها ….
لذا قررت أن تبكي ، ومع بكائها … و عِناقِـه ….. تهدأ
ليهمس جوار عُنقها …..
—مالك يا حبيبتى …بتعيطي ليه ، بس …!!
أجابت “فريدة” فى انكسار :
— افتكرت ماما …. و إزاي عانت ، و تألمت من غير ما تفكر تتكلم أو تحكي ..
إحتواها زوجها بأحضانه الدافئة ، هامسًا لها :
— وحشني حضنك الدافئ يا ” فريدة ” ..أنا عارف إن وفاة والدِتِك لسه مش قادرة تتخطيها ، لكن يا حبيبتي الموت علينا حـق ، و الدنيا دي كلها إلى زوال .. لازم تفكري فى نفسِك ، و صِحتِك ، و فى الولاد … وجوزِك برضه له حق عليكي ، و لا إنتِ ليكي رأي تاني ..!!
ابتسمت ” فريدة ” رغمًـا عنها ، تتحسـس ضلوعه التى هى وسادتها الحانية ، ثم همست :
— يا حبيبى أنا كُلي ليك …. إنت كل حياتي يا
” مدحت” …أنا عشت الحب معاك ، و حسيت بكياني جوه مملكتك …لكن الفراق صعب … صعب أوي … ليه بابا عمل كده ..؟! … ليه عمل فيها كده … ؟!
دي ماما كانت بتحبه … لكن هو كان … كان …. الله يسامحه … الله يسامحك يا بابا …
ظلت ” فريدة ” عالقة ما بين مطرقة الحيرة ، و سِندان الرغبة … داخلها يُطالب بالاعتراف لزوجها الحبيب عما تراءى بِمحيطها العابر ، و الرسالة المجهولة التى تلقتها دون وازِع من يقين …
و لكن القلب … تلك المُضغة التى تتوسد الصدر تُصر على نَهْـرِها عن ذلك …
من أين لها بِـرِدود أفعاله ؟! … ربما يتقبل … و ربما لا يفعل …
أتُخبره بأوجاع نهشت جيوب الغدر ، فيأتى من غاب ربيعه ، ليرسم على مشوارها المقسوم لحظات من خطر ..
لقد رحل منذ سنوات لا تجد لها عـدًا … ما الذى أتى به الآن ؟!
و كيف تستوعب وجود إخوةً لها من إمرأة ، تسللت إلى مِحراب أمها ، و اقتنصت والدها إلى غير رجعة …
أليست هى من تلاعبت به ، حتى أنشأ بقلبه بيتًا لها ، لتتجرع والدتها الإهمال ، و الغيرة …
وها هى تزيد من النيران إشتعالا بأبناء لها من سِلسالِها القاتِم …
يكفي …. لا يمكنني كشف أغوار عائلتي المُخزيه أكثر من ذلك … يكفيه ما يعرف … و لندع للأقدار تُسطِّر ما عليها فعله ..
بعد معاناة طويلة مع التفكير … استسلمت ” فريدة ” إلى النوم الذى سلبها الراحة ، لينثر على ربوع وعيها كوابيس من غَدْر .
و فى الصباح ….
أحيت أشعة الشمس بداخلها … قبس من أمل …. و تراكمات من يأس .. إلا أن ” فريدة ” التى اعتادت أن تُقدم الكثير لأسرتها الصغيرة ، لن تدع للأفكار السيئة مجالاً للهيمنـة …
اتجهت ” فريدة ” إلى غرفة ابنتها الجميلة ” أهداب ” توقِظها لتنتعش قليلاً قبل بدء يومٍ دراسِي جديد …
اجتمع أفراد الأسرة على طاولة الطعام ، فى حين أعدت ” فريدة” وجبات من الطعام اللذيذ المُحبب إلى قلوب ثلاثتهم ..
لتلتهِم “أهداب ” الطعام فى شغف ، تتلاعب نظراتها ، و تتبادلها مع شقيقها فى مكر ، هاتفة :
— بابي … هو حضرتك هتروح الشغل على طول ، ولا فيه مشاريع متأخره عليك … أنا المرة اللي فاتت اتأخرت عن الطابور ….
تلقي ” عماد” الحديث من شقيقته الصُغرى ، ليضع لمسته المشاكسه :
— آه والله يا بابي … أنا كمان الـ مِـس وقفتي عـ البوابه و سألتني … اتأخرت ليه يا عماد …؟! … قولتلها أصل بابي كان عنده مشاريع مهمه و كان لازم يلخصها مع مامي ، قبل ما يروح الشغل …
احمرت وجنتي ” مدحت ” من الغيظ ، لتكتِم ” فريدة ” ضحكة عابثه تحررت فور رؤيتها لزوجها الغاضب ، لتتساءل بين ضحكاتها :
— و يا ترى الـ مِـس بعد ما عرفت طبيعة المشاريع ، قالت لك إيه يا عمده ؟!
أجاب” عماد” فى خبث :
— وشها إحمر أوي يا مامي ، وبعدين إضايقت وقالت : ناس ليها مشاريع ، و ناس عايشه مع الجرابيع…. إلا قوليلي يا مامي ….يعني إيه جرابيع ؟!
نهض ” مدحت ” من كرسيه ، ليركض خلف ابنه البِكرِي ، قائلاً:
— أنا اللي هجاوبك ، و أعرفك مين هم الجرابيع بس مش بالكلام … بالفِعل ….
ظلت حَلبَـة السباق مستمرة ، لتتعدى العشر دقائق … إلى أن انطلقت صافرة الحَكَم من ” فريدة “، مازحة :
— إنت كده هتِوصل المدرسة على جرس الخروج … يلا يا عمده …هتتأخر …
إلتفت الصبي إلى والده ، يتساءل فى كَـيْد :
— و بابي … مش ناوي يروح شغله …؟!
اتسعت مقلتي ” مدحت ” فى ضيق ، ليزفر قائلاً :
— وإنت مالك إنت … طب بالعِند فيك مش رايح … و هقضي اليوم كله مشاريع … إذا كان عاجبك …
افتر ثغر “عماد ” عن ابتسامة مرِحة ، ليُلقي بتحية الرحيل ، إلا أن والده لم ينتبه إليه ، فقد كانت عيناه ترتكز على مشهد آخر ، خَـرَّ له قلبه صرِيعًا …
“فريـدة ” … زينة النساء ولا شك … ليست بالأميرة ولا بالملكة …. بل تتوجت على عرش هؤلاء .. تتلاعب بقلبه العاشق ، كما يتلاعب الذئب بفريسته …
و ها هو يقف أمامها يُعلِن خضوعِه … فمن تذوق الشهد لا يبرح موضعه إلا إن اكتفى … وكيف يفعل ..؟!
بعد أن ارتوى من ثغرِها العذب ، أقبل على طفليه يحتويهما فى دفء ، و أبوه ، ثم أوسعهما من القبلات الكثير …. لتنتهي جرعة العشق بوداع مؤقت ….
رحل ” مدحت ” إلى عمله ، مصطحبًا ابنته و ابنه إلى مدرستيهما …. فى حين عادت ” فريدة ” إلى مملكتها ، لتؤدي واجباتها فى إتقان وشغف ….
احتلت الواجبات المنزليه الجزء الأكبر من التفكير ، لتندمج فيه بنشاطها المعتاد ، فها قد أعدت طعام العشاء ، و أتمت ما عليها فعله ، لتجلس قليلاً ، تنشد من الراحة بضع دقائق ، إلا أن صوت الهاتف لم يُمهِلها كثيرًا ، لتستجيب له هاتفه :
— ألــو …. مساء الخير… مين يا فندم….؟!
جاوبها الصمت للحظات قليلة ، استمعت فيه ” فريدة ” لتنهيدات حارة ، يُرافقها نبرة حزينة مُردفـًا :
— مستنيكي بكره الساعة ٣ فى جنينة” الشروق” … ياريت متتأخريش ….أنا متعودتش أستنى كتير…
شعرت ” فريدة ” بالريبة لتهتف فى تردد :
— مين حضرتك ؟!
ابتسم الآخر فى سخرية تسللت إلى مسامعها :
— معقول مش عارفه مين …. هعمل نفسي مصدقِك …. أنا ” فريد ” أخوكي يا “فريدة “.. “فريد مصطفى واصل ”
ارتعشت أوصال ” فريدة ” لتهمس :
— إنت…. إنت عرفت رقمي منين ..؟!
أجاب ” فريد ” فى تهكم :
— هى أسئِلتِك كلها كده … ساذجه …!! …عرفت من المحامي طبعًا … مش عايز تأخير ، وإلا هضطر أجيلِك البيت …سلام.
انتهى الإتصال فى دقائق معدودة ، سكب بداخل ” فريدة ” أمارات الخوف ، و التراجع عن نيتها فى اللقاء ، إلا أنها خَشِيت أن يُنفِذ تهديده … و يطرق على أبواب عالمها الهادىء الكامن بزوجها و الأبناء .. لذا انتظرت الغد على أحر من نيران الجمر …
عاد الطفلين بعد يومٍ دراسيٍ مُتعَب ، لترافقهم إلى الأعلى ، والحصول على حمامهما المنعش الذى يُزيل عن كاهلهِما لمحات الإرهاق و التعب …
أعدت لهما وجبات الطعام السريعه ، ليعودوا إلى أداء الوظائف المدرسيه ، لحين عودة الزوج المُحِب من عمله …
عاد ” مدحت ” تلك الليلة ، مُثقل الجسد ، فاتر الثغر …مُكلل بـتِلال الإنهاك الذى يفرضه عليه العمل ..
و ما إن لمح بسوداويتيه زوجته الفاتنة ، حتى دب فى جسده النشاط المُفاجِىء ، ليحتويها بين ذراعيه فى لهفة عاشق ، هامِسًـا جوار عنقها ، مُقبِّـلاً إياه :
— وحشتيني يا ” فريدتي ” … تخيلي بَـكُون فى قمة التعب ، و بس أشوفِك أنسى روحي … مش معقول الحب يعمل فيا كده …أنا مبقيتش أتحمل غيابك عني …. أعمل إيه ، و إنتِ كل دنيتي ..”
اتسعت ابتسامة ” فريدة ” لتحيطـه بذراعيها النابضان بعشقه :
— أقولك أنا تعمِل إيه … إنت تيجي معايا كده بهدوء ، و بدون مقاومة .. تاخد الشاور بتاعك ، و تتفضل عـ السرير … و أنا فى لحظه أكون قدامك بصينية العشا ، تاكل و تشبع ..
ابتسم ” فريد ” لإدراك زوجته ما يريد ، ثم تساءل فى اهتمام :
— و الولاد … ناموا ؟!
أجابت فريدة فى تودد :
— من بدري …
تهللت نواجزه ، ليحملها كما طفلته ، هامِسًا :
— جميل … أهو كده بقى نعرف نشتغل بدون ازعاج …
إلا أن صوتًـا ما أصـرَّ على وَأْد أمنياته فى مهدِها ، ليبرز العابثان فى حبور :
— إتأخرت ليه يا بابي … ينفع كده … قعدنا مستنيينك كتير كتير ، و إنت اتأخرت … فـمامي جهزت لنا العشا لوحدنا …. عاجبك كده ..؟!
شعر ” مدحت ” بالقليل من الراحة ، ليهمس :
— طيب طالما اتعشيتوا ….لسه صاحيين ليه ؟!
أجاب عماد فى شجاعة :
— نِسَلِّيك يا بابي … لغايت ما تنام ..
أوشك ” مدحت ” على الصراخ بوجهه ، إلا أن الهاتف كان له السبق …. ليصدح صوته فى إلحاح …
اتجه ” عماد” للإجابة ، مردفًا :
— ألــو ….. ألــو …. مين معايا … ألو …
هتف مدحت فى تساؤل :
— مين يا ” عماد ” ؟!
أجاب ” عماد ” فى حيرة :
— مش عارف يا بابي .. محدش بيـرد …
لم يعبأ ” مدحت ” بذاك الأمر البالي ، فَـچُل تفكيره ، هو قضاء ليلة سعيدة مع زوجته ، و أبناءه
إلا أن الهاتف ، أصـر على تعكير صفو تلك الليلة ، ليقرر
” مدحت ” الإجابة هذه المره
— ألــو … ألــو …. ما ترد يا جبان ….رد يا حقير ….. قسمًا بالله لو كررتها ، لأمحيك من الوجود …. ثم أغلق الهاتف …
صعد الجميع إلى الطابق العلوي ، إلا أن ” مدحت ” لم يعد كما كان ، فقد تخلل القلق ، والتوتر قلبه ، لـيَشرُد طويلاً .
حاولت ” فريدة ” أن تَصرِف عن خاطِره ما حل منذ لحظات ، لتهمس جوار أذنيه :
— واضح إن حبيبى فَقَـدْ نشاطه ، ومش ناوي يجتهد معايا النهارده … و أنا اللي مستنياك من بدري … و مجهزالك ليلـة من ليالينا الــ…..
— “يلا …يا بنتي … شكلنا كده لا هناكل ، ولا هنلعب … تعالي ننام أحسن … بدل ما يضيع علينا النوم كمان
…”
كانت تلك الكلمات من ذاك العمده الذى كثيرًا ما إعتاد مشاكسة أبيه ، ليحمل ” مدحت ” عدوه الحبيب” عماد ” على ظهره ، و يريحه فى فراشه ، مُقبِلاً إياه ، ثم أسدل عليه الغطاء فى اهتمام ، و أخفض إضاءة الغرفة ..
أقبلت ” فريدة ” على غاليتها ” أهداب ” تحملها فى حنان جارف ، لوضعها على فراشها الوثير ، إلى أن استسلمت إلى النوم فى هدوء ، و أمام باب الغرفة ، تألقت نظرات عابثة من “مدحت”الذى خطط لقضاء ليلة دافِئة بين العشق ، و الجنون ….
فى اليوم التالي
قررت “فريدة” الذهاب للقاء شقيقها “فريد” حتى تقطع الشك باليقين ، وتضع حدًا لوساوِس الريبة التى قلَّمَا عصفت بها ، لتنتظر رحيل زوجها الغالي ، و طفليها فى سكون .
أنهت “فريدة” ما تراكم عليها من شئون المنزل ، لتستعد و تتأنق كعادتها ، ثم رحلت بسيارتها إلى موعدها المجهول مع “فريد” .
وما إن وصلت إلى تلك الروضة المشعة بعطور الأزهار المختلفه، حارت فيما تفعل ..كيف ستلتقيه وهى ليست على عِلم بشخصِه ؟
هل سيفِي بوعده حقًا أم أنها ضحية تلاعُب البعض !!
أفكار مشتته، و تساؤلات متشابِكة تصُول ، وتجُول بعقلها اليقِظ ، تخلله صوت شجي حزين يهمس :
— ازيِك يا “فريدة” …أخبارِك ايه ؟!
إنتبهت “فريدة”إلى صاحب الصوت ، لتتملكها الدهشة فى غرابة ، فمن تراه أمامها الآن ، و قد كانت تظنه أصغر مما اعتقدت .. إلا أن من يقف أمامها الآن صورة مُعاكِسة تماما لمن أوقد مُخيلتها …
جلس “فريد” بإبتسامة مِرهقه، يتألق بوسامته التى لفتت انتباه جميع رواد الحديقة ، فمن ذا الذى يراه ولا ينجذب إليه .
وسيم الملامح ، لطيف المُحيا ، غامض النظرات ، قوي الشكيمة و…. أنيق الثياب … يتراوح عمره ما بين أواخر العشرينات و أوائل الثلاثينات … ليجلس فى هدوء ، قائلاً:
— قرأتي الرسالة كويس ؟!
أجابت “فريدة” فى تلعثُم :
— أكيد … بس اللي عايزه أعرفه … إنت كنت فين طوال السنين اللي فاتت ؟… وإشمعنى دلوقتي قررت تتواصِل معايا …؟ …و بعدين أنا كنت متخيلة إن إنت يعني …..”
لم تجد “فريدة” من الكلمات ما يُعبر عن مقصِدها، لتصمت … فى حين استكمل “فريد” الحوار فى وداعه:
— تقصدي إني شاب كبير … مش كده .!! … كنتي فاكراني أصغر من كده … أنا عارف .. لكن اللي إنت متعرفيهوش إن والدي اتجوز أمي بعد والدِتِك بـ ٣ سنين … يعني إنت أكبر مني بـ ٥ سنين بس .
عاودت “فريدة” سؤالِه قائله :
— مجاوبتِش على سؤالي … إنت كنت فين طوال السنين اللي فاتت؟!
أجاب “فريد” فى ثبات :
— فى اسكندرية ….. عايش مع خالي ” رأفت” اللي لولاه كنت بقيت فى الشارع أنا وأخويا.
تهدجت أنفاس تلك البريئة ، لتردف فى وجع :
— إزاي ده …!! … أومال بيتكم فين … و بابا كان فين …و والدِتك ..؟!
ابتسم “فريد” فى سُخرية مريرة ، محدثًا إياها فى شجن :
— بكل بساطة … إحنا إتحكم علينا بالضياع بسبب والدك ، و والدتك …
اتسعت مُقلتي “فريدة” من الضيق ، و الغضب ، فلم تكن لتحتمل مِساس والدتها بكلمة ، و إن رحلت … لتصرخ فى وجهِه :
— إنت بتقول إيه….!! … آه أنا فهمت … إنت جاي تزيِّف الحقائق ، وتضحك على عقلي بكلمتين …. إنسى يا “فريد” … أنا اللي غلطانه إني صدقتك ، و وافقت أقابلك .
استمع إليها “فريد” بآذان مُصغِية ، ليردف :
— خلصتي كلامِك …. اسمعيني بقى … أنا جاي النهارده عشان تسمعي … مش عشان حاجه تانيه … و لازم تسمعي … معندكيش حرية الرفض …
أمي عاشت فى حرمان بسببها … ضحت كتير ، واتحملت أكتر … بعد ما كان بابا هو اللي بيطاردها عشان توافق تتجوزه ، بقت زيارته لينا مرة كل كام شهر ، و ده كله بسببها …
صمت “فريد” يلتقِط أنفاسه ، ثم أكمل :
— عايزه تعرفي إيه اللي حصل … عايزة تعرفي اللي كان غايب عنك …. أقولك يا “فريدة” هانم
من البداية و أنا و أمي على هامش السيرة .. أول ما بابا شاف والدتي ، كانت بتشتغل فى المطار ، قسم الجوازات .. إنبهر بيها ، وبجمالها اللي كان سِـر نكبِتها … مش دايمًا الجمال مِنحة و نعمة .. لأ .. ده ساعات بيكون نِقمة على صاحبه …
و ده اللي حصل مع أمي …. بابا اللي ألَـح عليها شهور إنه يتجوزها ،لدرجة إن كل زملائها فى المطار انتبهوا على تردده عليها ، و طبعا أمي البريئة وسط مشاعره دي ، صَدقِت ، و وافقِت …
ثم رحل ” فريد” بأنظاره ، و عقله بعيدًا … يبكي والِدته سيئة الطالع ، التى تحملت ما لا يحتمله بشر ..
لتُطالبه “فريدة ” بالاستمرار فى الحديث :
— الحق ينقال بالبداية كان بابا بيعشقها ، عاشت معاه أجمل أيام حياتها ، كان حنون ، رقيق … عرف إزاي يملُكها … لغايت ما بلغِته إنها حامل ..
والدِتك وقتها عرفت بجوازه ، وطلبت منه يا إما يطلق أمي ، يا إما هتبعد عنه نهائي وتسيـب البيت … و فـ عز تعب والدتي ببدايات الحمل ، بابا كان رافض يكون ليه طفل تاني غيرِك …
إنتِ كنتِ كل حياته ، و أولوياته ليكي و لوالدتِك …. وبعد ما كان بيقضي مع ماما بالأيام … اتغير و ظهر على حقيقته ، وطلب منها تتخلص من الجنين … ومش بس كده .. ده حرمها من المصاريف ، وهجرها ، و ساب البيت
كان بيغيب بالشهرين … من غير جنيه واحد ، و رغم كل ده كانت بتحبه … حرمت نفسها من أبسط حقوقها عشان تحميني وأنا لسه جواها …
باعت دهب جدتي ، و صرفت على نفسها منه ، و يوم ما كان يرجع ينزل فيها ضرب و إهانة و تجريح … لدرجة إنه ضغط عليها تروح للدكتور و تعمل اجهاض فى الشهر السادس …
وقتها والدتي بَطِّلت تطالبه بأي حقوق ، و لما الفلوس اللي معاها خلصت ، نزلت تدور على شغل …
مفيش حاجه إلا و عملتها … اشتغلت فى مطعم ، و عاملة فى المستشفى ، حتى خدمة البيوت فى سبيل إنها تحافظ عليا ….
و رغم غياب والدك عنها ، إلا إن والدتك فضلت مصممة على قرارها ، و بالفعل سابت البيت …
وقتها بابا بكل أنانيه ، و جحود رجع لماما عشان يطلقها ، وياخد الشقة ويرميها فـ الشارع …
لكن اتفاجىء إنها فى المستشفى بتولد … و لما عرف الخبر من الجيران راح على هناك…
يمكن ساعتها ، حس بشوية عطف ناحيتي ، ضمِّني لصدره ، و سمَّـاني على اسمِك … و بعد ما ماما قامت بالسلامة ، كان بيزورنا كل وقت والتاني …
ماما مكانتش طماعة …. اكتفت بالكام زيارة كل شهر ، و جواها كانت لسه بتحبه ..
كان بابا فهِّم والدتك أنه طلَّـق أمي ، لكن لما عرفت إنها لسه على ذمته ، قررت تعمل اللي ميجيش فى ذهن ابليس نفسه … قررت تتخلص من أمى ،ومني ، و من بابا إذا أمكن … و فضلت تراقب بيتنا كتير لـحد ما تلاقي الفرصة المناسبه ، و تلدغ لدغتها ….
أمك مش زي ما إنت متخيلة ، ولا انظلمت زي ما فَهمتِك ….. اللي انظلمت بجد هي والدتي ، و أنا النهارده لازم أبرَّأها قُدامِك….
أمي اللي ماتت فى غمضة عين من شدة القهر ، والوجع
…اللي الشقا ضيع جمالها ، و طفَّى بريقها …. أبسط واجب أعمله عشانها إني أعرفِك الحقيقة عشان روحها ترتاح فـ قبرها ….
عرفتي دلوقتي … أنا جاي ليه …؟! .. ناوية تسمعي الباقي ، ولا هتكتِفي بِكده .. و نكمل بعدين …؟!
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.