رواية اهداب والماضي – الفصل الأول
— الفصل الأول « رســــــالـة »
صباح مُشْـرِق ، يتخللـه نور الصباح …يبُـث فى النفـوس عبقًـا ترتوِي منه الصدور .
و ها هي تنهض من فِراشها فى نشاط اعتادته منذ أن تفتحت عيناها على دنياها ، و خطت بقدميها الصغيرتين أولى خُطواتِـها المتعثرة .. لينفرِج ثغرها عن إبتسامةٍ رقيقه ، انحنى لها الجمال قائلاً :
— ما أسعدنا بكِ فاتِنـةً تُنافِس شمس السمـاء !!
اتجهت إلى المرحاض لتنعم بحمامها المنعش ، غير مُتناسيه ما عليها من مهام مدرسيه كلَّفتها بها معلمتها بالمدرسـة .
وبعد أن انتهت …. تقدمت تستقبل القِبلة….تؤدي فرضها فى خشوع ..ذاكرةً الله عز وجل بالدعـاء لوالديها ، و شقيقها الأكبر دوام الصحة والعافيه ..
ثم ارتدت ثيابها على عجل ، لتهبط الدرج فى سرعة ، بملامح يتجلى عليها السعادة ، قائله فى حماس :
— صباح الخير يا بابـي …صباح الخير يا مامـي .
إلتفتَت إلى شقيقها الأكبر ” عماد ” تتأمله بنظرة مشاكِسه، فى حين اعتلت ملامح الضيق وجـه الأخير مُردِفًـا بنبرة تكاد تُشابِـه نبرة شقيقته إلى حدٍ كبير :
— صباح الخير يا مامي ….صباح الخير يا بابي…. مفيش صباح الخير يا ” عُمده “….؟!
انطلقت الضحكات صادحة من الجميع ، تَنُـمْ عن ذاك الرباط المقدس الذى يغلُف تلك الأسرة المصرية الصغيرة السعيدة التى تتألف من أربع أفراد …يترأسها الأب
” مدحت الصواف ” ؛ وهو رجل فى منتصف الأربعينات ، يمتلك إحدى دور النشر لإصدار وطباعة الكتب ، وسيم الملامح ، أنيق الثياب ، يتميز ببشرة سمراء أكسبته خفة ظل يسعد بها البعيد و الداني …
تزوج من السيدة ” فريـدة واصِـل ” التى تصغُره بعشر سنوات كامله ، إلا أنـها لم تشعر بالندم ولو للحظة بفارِق العمر بينهما .
كانت “فريدة” تعمل صحفية بإحدى المجلات ، إلتقت بزوجها للمرة الأولى فى مكتب رئيس التحرير ، لينعقِـد اللسان عن الحديث ، و تتولى النظـرات قيادة الحوار ..
أيام ، و ليالٍ مضت ، لينقُـش الغرام قلبَيْ الحبيـبين ، وحين أيقن ” مدحت ” بإكتمالِه ، و إرتواء فؤاده مِمَـن كانت له النبض ، والشعور … قرر إرساء دعائم الوِصال لتتم الزيجة السعيدة ، و تصل قافلة الغرام إلى وجهتها ….. ” مملكة الزوجية ” .
لتمر الأيام و الشهور ، كسِلسال من المحبة التى عبقـت بأجواء الهيام ، ويُتوَج الحب بطفلين أحدهما ” عماد ” البالغ من العمر أحد عشر عامًا ، و الذى أشرق على تلك الأسرة بعد عامٍ فقط من الزواج .. و زيَّـن سماء والديه بسعادة لا إكتفاء منها …
والأخرى هى الجميلة ” أهـداب ” التى تصغُر أخيها بسبع سنواتٍ فقط …على إثر ولادتِها أنهت ” فريدة ” تعاقُدها مع تلك المجلة ، للتفرغ الكامل لأسرتها الحبيبة … وتكتفي بِـدورَيْ الأم ، و الزوجـة المُحبـة ….
— ” يلا يا حبيبتي ….. مش هنفطر النهارده ولا إيه ..؟! …. أنا كده هتأخر عــ الشغل … تِحبي آجي أساعدِك …. أنا مستعد والله….. معنديش مشكله …. ”
كانت تلك الكلمات الأنيقة الدافئة التى ألقاها ” مدحت ” على مسامِع زوجته ، بداية الشرارة لحلقًات متواصِلة من الشغف ، لينهض عن مقعده على الطاولة ، و يتسلل فى هدوء إليها داخل حَـرمِـها المقدس ” المطبخ ” ..
انتبهت إليه ” فريدة ” ، لتعلو وجنتيها إبتسامة جميلة ، مُدعِية الإنشغال …… ثم انتفضت على لمسات زوجهـا الخبيرة ، يحتويها بين ضلوعه ، هامِسًا فى أذنها اليمنى :
— ما تسِيبك مـِـ الفطار ، و تيجي نِحَلَّي …. حاكِم أنا مشبعتش النهارده منك ، ولا أخدت كِفايتي …..
قبلات شغوفة ، و أنفاس حارة يحرقها الشوق صاحبت هَمسِه ، لتنتفِض ” فريدة ” بإطلاق العنان لمشاعرها الأسيرة ، و إلتفتت إليه فى عشق فاق حدود الهيام ….
لحظات ….. ثوانٍ …… دقائق …. لا يمكن الجزم ….
فحين تظمأ الروح ، تنبـُش الجسد للبحث عن الارتِـواء
و ها هو يحيا معها ، بسيمفونية ملحمية …ربما لها بداية ، ولكن النهاية غير واضحة المعالم ……
إلتحام …. ليس فقط فى الأجساد ، بل الأنفاس التى تتابعت ، ليصرخ الحنين :
— ” كفى ….. فلتتبدل ساحة النِـزال ”
لذا شَمَّـر عن ساعديه ، و أوصم أذنيه عن أجراس الإنتظار …. ها قد حانت ساعة العمل فى محراب عشقهما ” سكنهما الدافىء ” ، و لا تزال أمامهما جولات من عشق …
حملها بين ذراعيه فى رفق ، و انطلق بها إلى غرفته ، ليجد_ عَـدُوَيْ اللذة _جالسين على الفراش ..
تحمحم ” مدحت ” ليبتلع ريقه الجاف من هول المفاجأة ، ثم أردف فى ضيق :
— إنتوا بتعملوا إيه هنا ……؟! ….الفطار عــ السفرة ، مش على السرير ….!!
بنظرات ماكرة ، أجاب ” عماد ” فى تملُـص :
— و هو فين الفطار ده يا سي بابا …. ما إحنا قاعدين عـ السفره بقالنا ساعه ، لما العصافير اللى فـ بطننا بطلت زقزقة ، و خرجت تشوفلها حد يِأكلها …..
هنفطر ….. ولا نروح المدرسة خفيف …خفيف …. !!
اكتست ملامح ” فريدة ” بأمارات الخجل ، لتدفن وجنتيها داخل عُنق زوجها ، قاضمة شفتيها الناعمتين
فى إحراج ، فى حين ظهر العبوس على ملامح ” مدحت ” ، كاظِمًـا غيظه من خسارة لحظاته الدافئة مع فريدته التى لا يمكن التعويض بعد ضياعها …. ثم هتف فى حِـده :
— ما كان مِــ الأول …. كنت أخدت أختك معاك ، و روحتوا المدرسة … لازم يعني تعطلني بالشكل ده عـ الصبح
تساءل ” عماد ” عن ضيق والده الذى أصبح يعتاده منه فى الآونة الأخيرة ، ليُتمتم والده قائلا :
— كان معايا مأمورية مهمه ….. مهمه جدًا ….. مهمه خالص ….. بس للأسف فشلت فيها بسببك .
عاود ” عماد ” السؤال فى إصرار قائلاً :
— مهمة إيه يا بابي …..؟! …. هو حضرتك مش رايح المؤسسة النهارده …؟! ….. أقولك يا بابي يا حبيبى ؛ أنا عندي حل …. أنا كمان أغيب عن المدرسة ، و أقعد معاك هنا …. و أساعدك فى المأمورية دي ….. إيه رأيك ؟!
تهللت أسارير ” أهـداب ” لتُصافِح شقيقها فى مرح ، هاتفه فى سعادة :
— ” براڤــو عليك يا ” عُمده ” ….. أنا كمان أغيب ، و نقعد كلنا نساعد بابي ….. شوفتي يا مامي ، أنا و ” عمده ” شاطرين إزاي ، و بنسمع الكلام ….يلا بينا ، نغير هدومنا ، ونيجي نساعد بابي ….بسرعة يلا . ”
اتسعت مُقلتي ” مدحت ” من تصرفات صغِيريه ، لتهمس ” فريدة ” فى عبث :
— عاجبَك كده …. قولتلك استنى لما ترجع من الشغل ، لكن إنت راسك و ألف سيف تعمل اللى فـ دماغك ….. حِلَّهـا بقى .
اضطر ” مدحت ” للتخلي عن رغبته ، ليهمس إلى زوجته فى شوق :
— هو إنتِ قولتي حاجه …. أنا اللي بقول ، و بَنفـِذ كمان …. لولا المفعوصين دول ، كان زماني مسيطر دلوقتي ، و الإشتباك على آخره ، و………
قاطع ” عماد ” والده عابِسًـا :
— يلا يا بابي ….. هو إحنا هنفضل كده فـ أوضة النوم …. لا مِنها خلصت المأموريه ، ولا منها روحنا المدرسة …. ما تِـرْسَالك على بر….. و هات من الآخر ، ناوي على إيه دلوقتي ؟!
إكفهرت ملامح ” مدحت ” الذى إعتاد الشغب من ابنه البِكرِيْ ، ثم أجاب :
— البركة فيك إنت و أختك …. يلا قدامي عـ السفره ، نعمل كام سندويتش ، ناكلهم فى العربية …. يلا ..
وبعد قليل ، استعد ثلاثتهم للرحيل ، كلٌ إلى وِجهتِه …. حاملين قلوب سعيدة ، و نفوس مشرقة …
إلا أن ” مدحت ” ترجل من سيارته قبل الانطلاق بها للحظات ، مُعلِلاً لصغيريه نسيـان هاتِفه بالداخل
هبط من سيارته سريعا ، فى تجاه منزله ، ليهتف ” عماد ” عابثًـا :
— بليـز يا بابي و حياتك …بلاش مأموريات تانيه ، إحنا كده هنوصل المدرسة على جرس الفسحة .
شعور بالغيظ ، و الغضب يحمله لذاك الفتى الفَطِـن الذى لا يتأنى عن إفقادِه فرص من ذهب ، لكنه يملُك مع شقيقته الصغرى كامل نياط قلبه .
ظل يُتمتم بكلمات غير مسموعه ، وما إن دلف إلى بيته ، حتى ركض إلى زوجته ، ليتوغل فى محيطها الساحر الذى أفقده الصواب …هامسًا وسط قُبلاته الجنونيه فياضة المشاعر التى حرص على توزيعها على ملامحها بسخاء :
— ماهُـو أنا مكنتش هقدر أروح الشغل كده ، بدون ما أعوض خسارتي فيكي بسبب ابنك …. متعمليش عشا النهارده ، هاخدك ونتعشى كلنا بره ، و بعد ما نرجع … أفترسِك …
وَخَـزات خفيفة تألم لها ” مدحت ” حين وجد صغيرته المشاكسة ” أهداب ” صاحبة السنوات الأربع ، راكِلـه أبيها فى مُؤخِرة قدميه :
— يلا يا بابي …. عايزه أبوس مامي زيك …. يلا بقى سـيبها شويه …..
اقترب ” مدحت من ابنته ليضمها مع أخيها ، و زوجته إلى صدره ، داعِيًـا المولى عز و جل لهم بدوام السعادة ، و المحبة ….
و بعد قليل ….. رحل الجميع ، مودعين ” فريدة ” ببسمة حنونه ، و قُبْلات مشتاقه ..
تسلل النهار سريعـا …. ما بين واجبات ، ومسئوليات غلّفـها الاخلاص ، و الصدق ..
لتنتهي ” فريدة ” من إلتزامات المنزل ، و تقرر الذهاب الى أحد المتاجر ، و إتيان ما ينقُصها من احتياجات ، ثم دلفت إلى غرفتها الأقرب إلى قلبها بعد عودة سريعه .
تملكتها رغبة غريبه فى النوم ، إلا أنها نفضت عن كاهليها الكسل ، ثم أبدلت ثيابها على عجل ، للبدء بإعداد طعام الغداء .
عاد الطفلين إلى منزلهما بالأتوبيس المخصص للطلاب ، على مُحيَّاهم أمارات الفخر .
فقد حصلت ” أهداب ” على علامات تامة فى اللغات الأجنبيه ، التى أصر والدها على ثِـقَل حصيلتها اللغويه بها منذ الصِغر .
فى حين تألقت مُقلتي ” عماد ” ، ليقرر إلقاء مفاجأته على والديه حين عودة أبيه من عمله ، فقد وعده بإهدائه بعض الألعاب الإلكترونيه التى تنمي الذكاء إن حصل على المركز الأول فى رياضة ” الهوكي ” .
استقبلتهما الأم فى سعادة ، لترتوي من أحضانهما الدافئه ، ثم همست قائله :
— يلا ….عـ الحمام … ناخد دش سريع ، و نتغدى علشان نعمل الواجبات و الوظايف المدرسيه قبل ….إيه يا حلوين …..؟!
أجاب الإثنان دون سابِق إتفاق :
_ قبل ما بابي يرجع من الشغل .
تصفيق حار من الجميع ، مُهللين ، لسعادتهم بفكرة خروجهم للعشاء تلك الليلة ، ثم ركضا إلى الأعلى لتبديل الثياب ، و التمتع بحمامهما الدافىء .
لحظات نختطفها من الزمن ، تتجلى خلالها السعادة على مرأى ومسمع من طالبيـها ، إلا أنها قد لا تدوم طويـــــلاً …
وبعد وجبة غداء شهية ، اتجه الجميع لإنهاء واجباتهم المدرسيه ، و مراجعة ما هو مطلوب من معلميهم .
انتهى النهار سريعًا ، ليطأ الليل فى موعده ، دون تأخير ..
فى تلك الأثناء ،أنهى ” مدحت ” أعماله ، ليعود سريعا إلى منزله ، و أسرته الغاليه .. ينهل من شهد قُربهم ما يُزيل عنه أعباء يوم مزدحم من العمل …
و فى غضون ساعة عاد إلى منزله ، يحتوى أسرته الصغيرة بين ذراعيه … ليطالبهم بالإستعداد والتأنق ، فَـهُمْ على موعد مع سهرة لطيفه ، و عشاء فاخِر .
اختارت ” فريدة ” ثوب بلون الزمرد ، أنيق ..ينسدل على زوايا خصرِها الممشوق فى وداعة ، كما لو أن الثياب تحتضن جسدها فى هيام ..
ثم أتمت زينة شعرها الحريري الذى يصل إلى مؤخرة عُنقها ، لتُقرر استرساله ..
لم تضع مساحيق التجميل ، فزوجها العاشق تفتك به الغيرة حتى المصب .. ليدنو منها فى تودد قائلاً :
— حبيبتي ….. مش ناوية بقى تلبسي الحجاب … إحنا اتكلمنا فى الموضوع ده كتير ، و إنت وعدتيني إنك هتنفذي طلبي .
أجابت ” فريدة ” فى ارتياح :
— و أنا عند وعدي يا حبيبى … بكره باذن الله قبل ما ترجع من الشغل ، أكون عملت شوبينج ، و اشتريت كل اللى يناسبني …. هو أنا أقدر أرفضلك طلب .
يحتويها بقلبه ، قبل عينيه …. يعشقها بصدره قبل لمسات يديه ، إلا أنه لو ترك لرغباته العنان فلن يبرح فراشهما ؛ لذا أجاب بأنفاس متلاحقه :
— تحبي نأجل العشا لبكره ، و نطلب دليفري ..؟!
تملصت ” فريدة ” من بين ذراعيه ، قائله فى دلال ضاحك :
— لا …. و غلاوتك ، لو فكرت تِعملها …. الهُكسـوس اللى بره هيهجموا عليك … و أنا بصراحة هساعدهم …
ارتفع أحد حاجبيه فى استنكار ليتساءل فى دهشه :
— نعم …. تساعديـهم !!
أجابت فى دلال ، مُصطحبه إياه إلى الخارج ، قبل أن يتراجع عن موعده :
— أيوه …. وحشنى الخروج معاك .. إنت و الولاد… يلا بقى يا دوحه ….
سهـرة ممتعـة تألقت فيها فريدة ، ليُقْـبِل عليها زوجها ، مُقبِلاً أناملها الرقيقة فى نـهم ، ثم انحنى فى رُقي طالبًا إياها لِتتناغم معه برقصـة ناعمة على أوتار ألحان هادئة وثَّـقت معانِ الغرام … و ياله من مشهد … !!
غيـداء رشيقـة كالريـم الشارد …تتهادى بين ساعديه ، و قد أسكنها الضلوع ، و تربعت على عرش الفؤاد .
تناست من حولها ، لا ترى سواه لها رفيقًا …. و كيف لا و هو حبيب العمر .
أحاطها كما يُحيط السِـوار بالساعِد فى تَملُك …. يتأمل ملامحها فى لهفة …
ذاك الوجه ، و تلك الملامح الفاتنه ليست محض تأمُل أو شعور بالحنين ……
هى الأقوى من ذلك ، و الأعمق…..
يراهـا قَـبَسْ من نور أشرق أعماقه…. فأضاءت العالم من حَولِـه ….
لذا فإن اللحظات بجوارها ….. هى العمر بأكملِـه ….
و فى نهاية تلك الأُمسيـة الرائعه ، أهداهـا ” مدحت ” قلادة من الذهب الأبيض ، إلتمعت لها مُقلتيها حتى نافست ضوء القمر ….
و انتهى الوقت سريعا ، ليعودوا إلى عُشِّهِـم الدافىء ، هائمين فى بحر الرضا ، و السعادة .
تسللت ” أهداب ” الى فراشها الدافىء ، كذلك فعل شقيقها الأكبر ، فى حين اتجهت فريدة إلى زوجها سعيدة ، مُصغِية ….إلى أنفاسه المنتظمة ….. و انتهت تلك الليلة على وفـاق كباقي سابقيها .
فى الصباح الباكر
تجدد العهـد بين الزوجين ، ليجتمعا على الطاوله ، فذاك اليوم هو يوم العُطلة الأسبوعي ، الذى يصبو اليه الجميع ، للتمتع بذلك اللقاء الأسري الحميمي الدافىء .
و فى خِضم حديثهم الممتع ، صدح رنين جرس المنزل ، ليقطع وصال الحديث ، ومـا إن قرر “مدحث ” النهوض لمعرفة هوية الطارق ، حتى طالبته زوجته بدلال استكمال طعامه .
تقدمت “فريدة ” من باب المنزل ، شاعرة بإنقباض غريب فى صدرها ، إلا أنها نفضت عن كاهليها توتر لا سبب له ثم نادت :
— ” من الطارق ؟! ”
الصمت ..كان هو المُجيب لسؤالها البسيط …. فتحت الباب على مصراعيه ، تُـعاوِد السؤال ، ثم إلتفتت يمينًا ويسارًا ….. لكن لا إجابة إلا من المجهول …
استعادت سكونها من جديد ، لتقرر الدلوف إلى الداخل ، لمشاركة أفراد أسرتها لحظاتهم الصباحية ، إلا أن الجواب لم يُقْـرِضها الحيرة طويلاً ، فقد استمعت إلى خطوات ثقيله تقترب ….
خطوات لرجل غامض النظرات ، مفتول العضلات ، عابس الوجه ، يعلو جبهته جُـرح غائر ، زاد من قسوة نظراته …. ثم توقف أمامها ، يكاد لا يفصل بينهما سوى سنتيمترات قليلة ….
وضع يده فى جيب بنطاله ، لتستقر فى راحته رسالة مجهولة الهوية …قدمها إياها ، ثم انطلق دون كلمة أو بصيص من إشارة ……
بِتِيـه ، و حيرة ، و تجهم ….. اعتلت الدهشة ملامح فريدة ، فقد أوشكت على سؤال ذاك المجهول عن مكنون الرساله ، و عن هوية مرسِلهـا ، إلا أنها لم تفعل ….بل لاذت بالصمت ، ليرحل عنها كأدراج الرياح ..
تحسست ” فريدة ” الرسالة ، لتجد أنها فارغة من الخارج ، بلا عنوان أو دليل ينُـم عن مـُرسِلها ، خاوية تماما …
وجدت فريدة نفسها ، دون سبب مُقنِع ، أو هدف مُحايد تُخفي الرسالة عن زوجها داخل سُترتِـها ، لتتساءل :
— لِمَ فَعلْتْ ما فَعلْتْ ؟!
شعر مدحت بأشواك القلق غائِرة ، لينهض عن الطاولة ، متجهًا إلى زوجته الغاليه ، هامسًا جـوار أذنيها :
— اتأخرتي ليه كده ….؟! ….. ومين الضيف الرِزِل اللى قطع وصلة غرامنا عــ الصبح كده ؟!
ارتعشت “فريدة” بين يديه ، لتُحاول تمالك شتات أمرها ، ثم اكتفت بإبتسامة …لحق بها جواب أشبع فضولـه :
— ده عم “جلال ” ….كنت طلبت منه امبارح يجيلي الصبح بدري…. محتاجة شوية طلبات ، و فرصه …. النهارده أجازة نقضيها كلنا سوا .
اكتفى “مدحت” من ردها البسيط ، ليرافقها إلى الطاوله ، و التمتع بوجبة شهيه ….. لكن شتَّـان بين الآن ، وما سبق الآن بلحظات …..
ساعات تمر على الجميع ، إفترش خلالها مدحت حديقة منزله الصغيره المُرتبة فى إبداع يدل على لمسات فنيه خبيرة ، يُلاعِب أطفاله ، و يُعوض معهم ساعات غيابه بالعمل ….
وفى تلك الأثناء ، انتهزت “فريدة ” فرصة انشغاله ، لتصعد إلى غرفتها التى أحكمت وثاق إغلاقها جيدا ، ثم أسدلت
ستائر النوافذ و أخرجت الرسالة….
كانت تعلم أنها ربما تُبالِـغ فى ردة فِعلها ، إلا أن استجابتها تنم على قلق غير مفهوم ، لذا إلتهمت عينيها الكلمات على عجل ، و تفوه اللسان بمكنون أصابها فى مقتل :
— « ابنتي الحبيبة ..
فى اللحظة التى تتسلمين فيها تلك الرساله ، أكون قد فارقت الحياة …
أعلم جيدًا أنني لم أكن يومًا الأب الذى تفخرين به ، و قد سببت ما يكفى من الآلام للجميع ، إلا أن مشيئة القدير جعلت من قلبي الصلب ، ونفسي الأنانية الطامعة سلاحًا لهلاكي …
أتوسل إليكِ بإسم الأبوة التى لم أعيها إلا بعد أن ابتعدت عنكِ ، بإسم الدماء التى تجري فى عروقِك أن تغفري لي ، و تذكري أنه مهما فعلت من آثـام ، فأنا لازلت بالواقِـع والِدك ..
أُدرِك خيبتي ، و رحيلي عن والدتِك لسنوات طويله ، تحمَلتْ فيها المسكينة الكثير فى سبيل تعويضك دوري الغائب ، ولكن انتقام الله قد طال أباكِ ، و ها أنا صريع الموت بلا أنيس ولا جليس …
إغضبي ما شئتِ ، فلتُدرِكني اللعنات ، لكن لا تحيدي عن أخويْكِ ….
أعلم أن زواجي من امرأة أخرى كان الجريمه التى لا تُغتفر ، و لكنها أثمرت عن طفلين ظللتُ أُخفي أمرهما لأكثر من ثلاثون عامًا ..
عديني ابنتي ألا تتركيهم للضياع …. إخوتِك فى أمَسْ الحاجه إليكِ..و دعِي الأمر طي الكتمان …
لقد أعطيت أخاكِ ” فريد ” عنوان منزلك ،و ألحَـحْت عليه التواصل معكِ بعد أن تتسلمي هذا الخِطاب ..
……. عديني ابنتي …. و اغفري لي … عسى الله أن يتقبلني فى ظل رحمته .
والِدِك
مصطفى واصِـل »
و ما أبشع المأسـاة حين تأتي الضربة من أقرب الأقربين
انهمرت الدموع من عينيها ، بعد أن أفلتت تلك الرسالة التى شقت قلبها نصفين ….
قبضة بارده من جليد أحكمت حولهـا الوِثـاق ،
كلّ ما حولها صار فَخـًَـا للبكاء……
الأرضُ لم تَعُد تضيق بها فقط ….. بل صار الثرى كما المدافن قاتمة …….
وها هى السماءُ أطبقتْ على رأسها ؛ حتى أوشك الصمتُ على تحطيم قلبها ….
ظلت تتذكر ، وتعود إلى الماضي المُلطخ بالمآسي ….
ماضي جمعها بوالدتها المسكينة ، التى تحملت الكثير فى سبيل تربيتها …
التى لم تخلو عينيها يومًا من دموعها الحارة الموجعه ….
لم تكِل … لم تُعاتِب …. لم تشكو …. و إن وجدت من ملاذ الصمت قارب …
و خَفَـتَ صوتها حتى صارت ذكرى بإحدى المصحات العقليه ، لتتجرع الألم بعمرها البائس مرتين …. فأيُّ وجع تَحملتِ يا أمي !!
مرت الدقائق بطيئة مُتثاقله ، ولا تزال فريدة على حالتها التى يتقهقر لها قلوب الرجال ..تبكي فى ألم ، و عندما أيقنت أن زوجها قد ينتبه إلى ما تعاني ….. نهضت من مجلسها لإعداد طعام الغداء ، وهى فى حيرةٍ من أمرها
…. ماذا تفعل ؟! … أتُخبر زوجها بتلك الرسالة ، و فحواها ؟! ….أم تتكتم الأمر …؟!
وبعد تفكير عميق ، اهتدت فريدة إلى إخفاء أمر الرساله ، وصاحبها ، لقد أوصاها أباها بالكتمان …و عليها أن تفعل ….فمهما فعل ، لا يزال والدها ، و أولئك أشقائها …
ثم تحدثت إلى نفسها فى خفوت :
— لو أنا قولت ” لمدحت ” …هيكره بابا ويحتقره ، وأنا مقدرش أتحمل النظرات دي أبدا …
عشان كده لازم أسكت ، و أتحمل لوحدي السر ده ….. لازم …
ثم نهضت إلى غرفة إعداد الطعام ، لتتفنن فى طهي أشهى الوجبات ، و عقلها فى مكانٍ آخر :
— يا ترى هم فين ؟!… و عايشين إزاي ؟!…. و هيقبلوني فى وسطهم …و السؤال الأهم :
كانوا فين كل السنين دي ، و ليه دلوقتي بالذات طلبوا يتواصلوا معايا ……
طيب هقابلهم إزاي …؟! …..ولو قابلتهم ، هيحبوني …؟!
يا ترى مدحت ممكن يعرف ؟! ….
« إبْـكِ يا قلبي على فِـراق الأحبة ، و احزن على من ضاعت حياته بِكِـذبه…… إبـْـكِ يا قلبي …. »
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.