رواية اهداب والماضي – الفصل الثاني عشر
— الفصـل الثـانـي عشـر « عُــذرًا أيهــا المـاضـي ..!! »
« حقًـا بارعة فى محبة الأشياء كأنها خُلقت لها ….. وجريئة فى إفلات الأشياء كأنها لم تمسَّهــا أبــدًا ….لكن تلك القاعدة الأزلية التى تربعت على أذهان السابقين ، قد انمحت بفعل ماضيها المؤلم لمن أهدته أطنان الثقة ، و خاب به الظن …. ومن جعلت من ضلوعها جسرًا واثق الخُطى بأقدامه حتى وطأ بها القلب ، و أدهس ….
ليتني أمحي الماضي و كأنه لم يكن …..!! »
عاد “صداح” إلى الشركة ، يكاد جسده ينفجر من رصاصات الغضب ، ليستدعي “لـؤي” ، و المستشار القانوني ، ثم أخبرهم عن نيته بالسفر العاجل إلى مصر لظروف طارئه حلت على أسرته ، على أن يتولى كليهما إدارة الشركة فى غيابه .
وبعد ثلاث ساعات ، كان يركض مهرولاً فى اتجاه الطائرة التى ستحلق به فى سماء استراليا ، للعودة إلى بلده الحبيبة و معشوقته الوحيدة “أهداب” القلب .
وما أسرع عجلات الزمن … تنتهي إلى غير رجعه …
هبطت الطائرة فى مطار القاهرة الدولي ، ليستقل “صداح” أحد السيارات فى الطريق إلى شركة” الصواف” ، و طلب الزواج من فاتنته ، و إلا فـحربٌ بِـحرب …
وأمام الشركة ، هبط “صداح” من السيارة يتأمل بُنيان الشركة فى ثبات ، ثم ترجل إلى الداخل ، ليتساءل حول مكتب رئيس مجلس الإدارة
صعد المصعد ، ليئن قلبه فى عشق … فتلك شركة حبيبته ، و ذاك مصعد الشركة الذى من المفترض تربعه على عرش قلبيهما ..
اقترب بخطواته الواثِقه من سكرتيرة صاحب الشركة ، ليقدم لها بطاقة فاخرة تسطر حروفها اسمه الفخم و هوية شركته ، و طالبها بلقاء عاجل .
اتسعت مُقلتي الفتاة ، لتفغـر ثغرها فى بلاهة ، من شدة إعجابها بـ “صداح”ورجولته الصارخة ، هاتفه بلا اتزان :
— بتقول عايز تقابل مين ..؟! …و هو أنا منفعش ….؟!
استنكر “صداح” حديثها السافِـر ، ليقول :
— إنتِ بتقولي إيه ؟! … بقولِك أنا عايز أقابل رئيس مجلس الإدارة من فضلك …بلغيه إني مُنتظِرُه .. و عايزُه ضروري… ياريت تتفضلي ، و إلا هدخله بنفسي…
نهضت الفتاة على مضض ، لا تريد أن ترحل من أمامه ، لتتلفت عن يمينها و يسارها إلى أن اختفت بداخل مكتب
رئيسها … و فى لحظات عادت تُبلغه بانتظار صاحب الشركة
نهض “صداح” فى هيبه ، ليسير بشموخ و ثقة ، ثم دلف إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة قائلاً :
— مساء الخير يا أفندم
تقدم “فريد” ليصافح “صداح” ، الذى كان في انتظاره بعد أن علم من “أمين” قرار “صداح” بالعودة ، ثم طالبه بالجلوس
— أهلا وسهلا “صداح” باشا … تحب تشرب إيه ؟!
أجاب الشاب فى جديه أكسبته غموض زاد من وسامته ، ليردف :
— متشكر جدًا … أحب أعرفك بنفسي :
« صداح الوليد » رئيس مجلس إدارة شركة Fulton” Group “، أكيد سيادتك سمعت عنها ، وعن ريادتها فى مجال الأعمال والبورصة ..
أجاب” فريد” بفخر :
— أكيد طبعًا … اسمك و اسم شركتك غني عن التعريف … وأنا “فريد مصطفى” رئيس مجلس إدارة شركة الصواف ، و خال ” أهداب” ..
إلتمعت مُقلتي “صداح” حين استمع إلى حروف إسمها ، لينتهز الفرصة ، و يبدأ حديثه من نهايته :
— أنا نزلت مصر مخصوص لهدف واحد .. إني أطلب إيد الآنسة ” أهداب” للجواز … أنا بحبها من زمان ، وسبق و اتقدمت بعدها للأستاذ ” أمين” ، و “أهداب” نفسها تعرف و طلبت مني فرصة تفكر ….
شوف يا “فريد” باشا … مسألة إن” أهداب” تتجوز رجل غيري ، ده من رابع المستحيلات حتى لو اضطريت أخطفها .. صدقني أعملها بكل بساطة … أنا مش جاي أهدِد … أنا جاي و بدخل البيت من بابه … بحبها يا عالم … هو الحب الطاهر بقى حرام ، ويتقابل بالرفض … طب ليه …!! … صدقني لو حضرتك لفيت الدنيا كلها مش هتلاقي حد يحبها ويخاف عليها أدي …
…ليستعيد صلابته من جديد قائلاً :
— موافق ولا ناوي تدخل معايا فـ عداوة إنت مش أدها ….”
تهللت نواجز “فريد” ، لتتسع ابتسامته التى تحولت إلى ضحكات صاخبه.. قائلاً :
— لأ …. ده إنت حالتك طلعت أخطر مما كنت متصور … هو الحب جنون بالشكل ده …؟! … طيب إهدى يا عريس و اسمعني …
إن كان عليا أنا موافق ، مش عشان خايف منك، ولا من الكلام الفارغ اللي إنت قولته … لأ … أنا موافق لسبب واحد بس …
تساءل “صداح”فى حيرة :
— سبب إيه يا “فريد” باشا ؟!
أجاب “فريد” فى هدوء باسم :
— إنك حقيقي شاب مسئول ، وشهم ، ومن عيلة محترمة … و بتحب بنت أختي فعلا ، و إلا إيه اللي هيفرِض عليك تسافر و تيجي من المطار على هنا ،. وتنفعل بالشكل ده …
صـدَّق صداح ليؤكد كلماته ، هامسًا :
— والله يا أفندم … أنا مش بس بحبها … أنا تعديت حدود العشق … مقدرش أعيش من غيرها … “أهداب” كل حياتي ، وأنا مستعد لكل طلباتها ، بس هى تؤمر و أنا عليا التنفيذ .
تنحنح “فريد”، ليردف فى شىء من الجديه :
— تمام يا عم الحبيب … خلينا بقى نتكلم فـ الجد … يا ترى أهلك فـ الصعيد يعرفوا بموضوعنا … يعنى هل إنت بلغتهم برغبتك فى الجواز من بنتنا ، ولا كلامك معانا بشكل مبدئي …
أجاب “صداح” فى ثقة :
— موضوع عيلتي متشغلش بالك بيه إطلاقًا … همَّا يتمنوا أتجوز النهارده قبل بكره … وبمجرد ما أبلغهم إني بحب بنوته زي القمر و بنت ناس و من عيلة هيوافقوا على طول. .. ومش بعيد يطلبوا يتعرفوا عليكم النهارده كمان …
و بعدين أنا طول عمري سيد نفسي ، و قراري باخده ، ومش برجع فيه أيا كانت الأسباب أو الظروف ..
زفر “فريد” فى ارتياح قائلا :
— يبقى على بركة الله … بلغ أسرتك و شوف رأيهم ، و بعدين كلمني و نحدد ميعاد …
فيه نقطة بقى مهمة جدًا ، و والدة العروسة مش هتتنازل عنها … دلوقتي إنت ناوي تستقر فى استراليا ولا هتنقل شغلك مصر ، ولا إيه مُخططك لبعد الجواز ؟!
ابتسم “صداح” فى جاذبيه ، ليردف :
— أنا فاهم كويس إن والدتها صعب تنحرم منها بشكل كامل ، عشان كده عايز حضرتك تطمنها … أنا حياتي ما بين مصر و استراليا … يعنى منين ما أكون مراتي معايا … أهلى كلهم هنا ، وكل سنه برجع مصر أربع وخمس مرات ، و مقدرش أستغنى عنهم … و ساعات كتيرة والدي بيسافر مكانى …يعني مفيش داعي لأي قلق … وقت ما حماتي تشتاق لبنتها ، تاني يوم نكون عندها ..
أصر “صداح” على قراءة الفاتحة تمهيدًا مؤقتا ليرتاح قلبه ، بامتلاك “أهدابه” ملكة لفؤاده ، و وتينًا لا يكتفي …
ثم عاد “صداح” إلى ربوع الصعيد ، ليزف إليهم الخبر السار …
بعد ساعات متواصله ما بين رحلة الطائرة ، إلى رحلة الذهاب إلى شركة “أهداب” ، ثم العودة ثانيه إلى الصعيد. … خـَّر جسد “صداح” من شدة التعب … ليستريح قليلاً ، ثم استكمل طريقه إلى منزله
و عندما وصل ، صعد إلى غرفته دون كلمة ….
حينما أقبل على الفراش ، سقط على وجهه من شدة التعب ، ليغرق فى نومٍ عميق .
دلفت والدته الحنونه “حميدة ” إلى حجرة ابنها البكري ، تتأمل ملامحه فى اشتياق ، لتتخلل بأناملها الرفيعة خُصلات شعره الحريريه ، ثم قبلته قُبلات متفرقة ، لتسدل عليه الغطاء ، ثم تركت الغرفة ليستمتع بنومه الهادىء .
بعد أربع ساعات متواصله ، استيقظ مُتثائبًا ، و قد استعاد نشاطه ، لينهض من فراشه .. ثم دلف إلى المرحاض ليحصل على حمامه المنعش .
بعد أن انتهى … ارتدي ثيابه على عجل ، ليهبط الدرج ، ينتوي لقاء الجميع و الحديث معهم بشأن زواجه ..
اجتمع جميع أفراد أسرة الحاج “زكريا الحمزاوي ” ، يتحدثون فى أمورٍ عِده ، لحين استيقاظ “صداح” ، فقد اشتاقه الجميع ، ولا سيما جده و والده …
لطالما اعتبره الحاج زكريا أحد أحفاده ، بل و الأغلى إلى قلبه ، و الأقرب على الاطلاق … لذا لم يفرق فى المعاملة بينه و بين صغار بناته … و قد زادت محبته له حين حذا صداح نهج جده ، ليُثبِت للجميع أنه امتداده ، و صورته المصغرة ، و إن لم يكن من نسلِه ..
هدأت الأصوات حين سمع الجميع وقع خُطاه الثابت على الدرج ، لتتسع ابتسامة “كاشف” و والده” زكريا ”
فى حين انضم إليهم “صداح”، ملقيا بكامل جسده ، ليحتويه جده الحبيب فى محبة صادقه ، و شوق لا ينضُب ..
بعد أن ارتوى من جده ، انتقل إلى والده التى ظل
يُربت على ظهره فى لين و عطف هامسه :
— اتوحشتك جوي يا ولدي …. طولت الغيبة يا غالي ، و جلبي اللي ما يهاب الوحوش ، صار يهاب البُعد يا غالي … إرچع بَجَى لأهلك وناسك … الكل هيتوحشوك جوي جوي …
دمعت مقلتي “صداح” من مشاعر والده صادقة دافئة وأمان لا يقاوم ، ليردف فى تأثر :
— والله يا بوي أني اللي اتوحشتك ، و اتوحشتكم كِلياتكم ، و دِلوك عندي ليكم خبر بكنوز الدنيا كلاتها … خبر بجالكم سنين هتتحدتوا وياي عليه … يا چدي …يا بوي … ياما … أني رايد أتچوز …
انطلقت الزغاريد من نساء البيت الكبير ، تتردد صداها فى أرجاء المكان ، لـتُكبر الجده قائله :
— الله أكبر .. الله أكبر… يا ألف نهار أبيض .. يا ألف نهار مبروك … يا جمال سيدنا النبي … أخيرا يا ولدي .. هتتچوز وتريح جلب سيتك ، و تراضيني فيك … ياما إنت كريم يارب
أطرق الجد بعصاه بكل قوته ، يلتزم الجميع الصمت …فى حين تحدث كبير العائله :
— و ياتري يا غالي عينك على مين على إكده … ولا إنت وافجت عـ المبدأ و جدك يختار لك بنفسه .
أجاب “صداح” فى احترام :
— مع احترامي ليك يا چدي … ربنا يخليك لينا … بس فـ الموضوع ده بالذات ، القرار قراري ، و أني خلاص اخترت زينة البنات كلاتهم…. صبيه تجول للجمر جوم ، و أني أقعد لحالي …. من يوم ما شوفتها جلبي اتحرك من مكانه … بنت ناس ومن عيله كبيرة ، ومحترمه يا جدي … و بتحب الصعيد وناسه …. أني رايدها يا جدي ، ومش رايد غيرها
تساءل “كاشف” عن هوية تلك الفتاة سارقه قلب ابنه الوحيد :
— ومين دي يجى يا ولدي اللي خطفتك إكده ؟!
أجاب “صداح” فى عشق :
— اسمها “أهداب مدحت الصواف” يا بوي
انقبض صدر “كاشف” حين سمع اسم عروس ابنه ، ليتخبو الدماء من ملامحه ، ثم تراجع إلى الخلف ، متسائلا فى هلع :
— بتجول إسمها إيه ؟!
أجاب “صداح” دون أن ينتبه إلى ما ظهر جليا على ملامح أبيه :
— بجولك يا بوي … إسمها “أهداب مدحت الصواف” ، أبوها الله يرحمه ، و أمها ست اللهم صل عـ النبي تشوفيها يامَّا تجولي أختها الكبيره .
تساءل “كاشف” فى سرعة بنبرة صارمة ، و أنفاس متلاحقه :
— أمها إسمها إيه !!
فى تلك الأثناء … اجتمعت الأنظار لتستقر على ملامح “كاشف” الذى كرر السؤال على أذهان الجميع :
— ما تنطج … بجولك أمها إسمها إيه ؟!
أجاب “صداح” فى هيبه :
— مالك يا بوي … فيه حاجه … إنت تعبان ولا إيه … ؟! ..
كرر “كاشف” السؤال للمرة الثالثه ، ولكن تلك المره صاحَبَ سؤاله ، بسلوك لم يطرأ منه من قبل ، فقد جذب ابنه من ذراعه فى حِده و قوة ، ليصرخ :
— جولتِلك إنطج …. إسمها إيه ؟!
— إسمها “فريدة” يا بوي… هو إنت تعرفها .. ؟!
استقام “كاشف ” فى انكسار ، شاعرًا أن حصونه القوية قد إنهارت على رأسه ، ليتراجع إلى الخلف دون أن ينتبه ، فتعثرت قدماه و سقط على ظهره فاقدًا للوعي .
ركض الجميع فى اتجاه “كـاشف” ، يرتسم الرعب والقلق ملامحهم ، ليحمله ولده “صداح” ، ثم صعد به إلى غرفته بالأعلى .
فى حين اتصلت “حميدة” بزوج شقيقتها الدكتور “مصطفى” الذى حضر بعد دقائق وجيزة للاطمئنان على “كاشف”
فحص “مصطفى” ذاك المُثجي على فِـراشه ،ثم حقنه بمهدىء بسيط ، ليستكين قليلا … ليقول :
— هو بصراحة الضغط مرتفع ، ودي أول مرة تحصل معاه … و كمان ضربات القلب سريعه … أكيد انفعل أو فيه حاجه ضايقته …. أنا إعطيته حقنة مهدئة ، و شايف إننا نسِيبه دلوقتي يرتاح … ولما يفوق أنا هاجي أتكلم معاه وأشوف إيه اللي زعله …. صحيح … حمدا لله على سلامتك الغاليه يا “صداح” يا بني ….
نهض الجميع فى طريقهم إلى الخارج إلا من اثنين ، والده و زوجته … التى طالبها الجد بالرحيل ليرتاح جسد ابنه قليلاً ..
وما إن خرجت “حميدة” ، و فرغت الغرفة إلا من “كاشف” و والده الحاج “زكريا” ، حتى اقترب من ابنه ، مُربِتًـا على صدره فى حنان جارف ، هامسًا :
— أني عارف يا ولدي سر وچعك … عارف إن بعد العمر الطويل ده كُـلاته ، و حياتك اللي إخترتها وسطِينا ، و تضحياتك الكبيرة لأچلي و لأچل أمك و عيلتك و البيت الكَبير كُلاته …. رِچِـع الماضي يِدُج بابك من چديد …. فِكرك أني مصدج من يوم ما چيت البيت أول مره ؛ إنك ولدي “كاشف “…. لاه يا ولدي … أني عارف زين إن ولدي الله يرحمه … و إنك واحد تانى غريب عَنِّينَا ، لكن يِعلم ربي أنِي حبيتك كيف ما حبيت ولدي ، و أكتر كمان.
إلى تلك النقطة ، إسْتَلَّ “مدحت” سيف الشجاعه ، ليجلس على فِـراشه ، بعيون دامعه مُتسائلا” :
— يعني كُنت عارف ياحاچ إني مش ولدك ، وجِبِلْت جُعادي فى البيت وسط بناتك ، وسلَّمتِني كل مالك و ممتلكاتك ، و اتعاملت معايا و كأني “كاشف” … وطول السنين دي صابر على خِداعِي ليك وساكت …. طب ليه يا بوي ؟! … إيه سِرَّك …؟!
ابتسم الحاج زكريا فى شجن ، هاتفًا :
— مستغرب ليه …؟! … مَنكرِش فى البدايه إني اتخدعت فيك ، وصَدَّجْت حَجِيجِي إنك ولدي ، لكن لما رچِعت الصعيد ، انتبهت لحَاچات كتير كانت مختلفه بينك وبين ولدي … ولما اتأكَدت بعد أكتر من مَوجَف ، و الحَجَايِج الكَتير اللي إنت مش عارفها ، بِحِچة إنك ناسيها ، بَـعَتْ أخوي چابر _حماك _ و طلبت منه يسأل ، و يعرف الحَجِيجه و عرفت إن ولدي “كاشف” الله يرحمه مات فـ العمليات ، وإنه كان عنده المرض الوحش …
سلمت أمري لله ، لكن إنت چيت و أثبت لي إنك راچِل صُـح ، وأمين وصَادِج ، حبيتك أكتر من ولدي اللى كان دايمًا چايِبْلِي المشاكل … رضيت عليك ، ولما إنت أخدت جَرَارَك تعيش إهنِه ، جُولت أكيد أهلك وناسك باعُوك ، و أني اشتريتك يا ولدي بعمري كله….
أسند “مدحت” رأسه بِكفيه فى يأس قائلاً :
— طيب جُولي يا حاچ أعمل إيه دِلوك … أهَمَـل بيتي ، ومَرَتِـي كيف … و “حميدة” ذنبها إيه … و “صداح” لما يِعرِف هَـيْجُول عليا إيه …؟!
بنظره ثاقبه ، و حِنكة ولَّدتها حكمة سنوات ماضِيه … أردف “زكريا” :
— السؤال إكده مش مظبوط يا ولدي … السؤال الصُح هو .. هل إنت جَفَلْت صفحة الماضي ، و على استعداد تواجِه مَرتك المصراويه ، و لا حبك ليها لسه مِعشِش چُواك …؟!
بلاش تبعد عيونك عني يا ولدي .. أني أبوك و فاهمك زين ، و عارف إنك لسه عَـتحبها ؛ و شوفتك كَتير بِتتطلع بِـصورها اللي معاك عـ التَلفون ؛ وياما دموعك نزلت من الجَهْـر …. الشيء الوحيد اللي چاهل فيه ، ليه تركت مرتك طالما عَـتحبها إكده ؟!
صرخ “مدحت” بقهر :
— لإنها خانتني ، وعرفت راچل غيري … كانت بتستغل غيابي فى الشغل ، وتروح تِجَابله .. ومش بعيد الولاد كمان يكونوا مش و…….
وضع “زكريا” كفه على ثغر “مدحت” ينهاه عن ظن السوء ، مُستغفرًا ربه فى خشوع قائلاً :
— لاه يا ولدي … كله إلا الظن … لو الشك دخل جَلبك ، إجْطَع طريجُه بالمواچهه … كنت واچهها و إسالها … يا ترى عملت إكده ولا طاوعت شيطانك ، وهربت …؟!
طأطا “مدحت” رأسه للأسفل فى عجز هامسًا بلسان يرتجف :
— لا يا بوي … أني كنت چبان ، مجدرتش أسمعها مِنيها ، نِزلت فيها ضرب لما وَجَعِت جُدام عيني غرجانه بدمها ، ولما “أهداب” … بِتي رچعت من المدرسه فضلت تبكي ، و نادت السَوَّاجْ و خدوها ع المستشفى… أني مجدرتش أتحمل أكمل وياها ، ولا حتى أطلِجها عشان إكده ضربت حالي بالنار و انتحرت … لكن الأجل لسه مچاش ، و أديني أها جاعد وياك ….
هز الحاج “زكريا” رأسه فى أسف مردفًا :
— أستغفر الله العظيم من كل ذنب .. يعنى يا ولدي مكفاكش ذنب واحد ، تجُوم تنتحر ، تعمل اللي ربك حرَّمه على عباده … وده كله ليه…. عشان ضعيف … كنت اصبر لما تتوكد ، و يا إما تستمروا و ينصلح عُودها ، يا تفارجُوا بالمعروف …
مبسوط دِلوك من حرمانك من بيتك ، ومرتك ، و مالك، و عيالك … أدي آخرت التسرع يا “كاشف”
إلتقت أنظار كِلا الرجلين ، ليؤكد “زكريا” أبوته قائلاً :
— هتفضل طول عمرك “كاشف” ولدي …. دِلوك لازم تفكر هتعمل إيه … “صداح” بيحب بِـتك ، واضح إن أمها مجَصَرِتش معاها ، و ربتها أحسن تربيه … و شكلها كمان زينة و بدر كيف أمها و لا إنت إيه رأيك ؟!
ابتسم “مدحت” بحالميه ، يستعيد ذكريات عشقه لـ “فريدة” قائلاً :
— يـــــاه يا بوي … “فريدة” دي صبيه كيف البدر ، غزال ماشي عـ الأرض ، نجمة سَجَطِت من سماها ووجِعِت على حِجري … يا بـــوي ..اتوحشتها جوي جوي ، بس …. بس أني طلجتها .. رميت عليها اليمين بعد ما غابت عني … جلبي وچعني جوي يا بوي …. و خايف من اللي جاي …
ربت “زكريا” على كتفه فى حنان مُردفًـا :
— رَوَجْ إكده ، و صلِ عـ النبي … أني معاك ضهرك وسندك ، ولا يمكن أخذلك واصل … إحنا الأول نجول الحجِيجة لـ “صداح” ، وهو حكيم كيف چده ، هيعرف يتصرف زين .
و فى الحال ، نادى الحاج “زكريا” على حفيده “صداح” ، الذى كان ينتظر فى الخارج :
— تعالي يا ولدي … اجعُد و إسمع أبوك زين …
…. ثم ألقى “مدحت” على مسامع “صداح” حقيقة الماضي الأليم كامله ، ليشهق “صداح” من تأثير الصدمه التى زلزلت كيانه ليهتف فى حنق :
— يعنى جصدك إن “أهداب” تُبجَى بتك يا بوي … ليه يا بوي ظلمتها و ظلمت مرتك … كل السنين اللى عدت داي ، مفكرتش فـ يوم تطمن عليهم ، ولا تعرف أخبارهم …. و كأن ماضيك انمحى … طيب أهو الماضي رِچع يُدج بابك من تاني .. هنعمل إيه دلوك ..؟!
لم يقوى “مدحت” على الرد ، و كيف يفعل ..؟! .. وماذا عليه أن يتفوه ؟! … لقد سبق السيف العزل …
فى حين تحدث الجد بنبرة منخفضة ، للتخفيف من حِـدة الموقف ، قائلا :
— “صداح” … اجفِل خاشْمَك … چنِّـيت ياك ده مهما كان أبوك اللي شالك و انت لسه عيل صغير ، ورباك أحسن تربيه ، و لا عمره جصَّر وياك ، ولا فَرَجْ بينك وبين اخواتك .. ده يُبجى چزاته … حِـبْ على رأسه ، و اطلب منه يسامحك.
شعر “صداح” بالذنب و الخجل من انفعاله الحانق على والده ، ليقترب منه فى احترام ويُقبل رأسه فى تبجيل ، و امتنان هامسًا فى ترجي :
— حَجَك عليّ يا بوي … سامحني الله يرضى عنِّيك … و الله ما كنت أچصُد ، أني بس انفعلت من خوفي عليك … الموجَف صعب ، و المواچهة أصعب …
طيب بجولك ايه … أني لو حكيت مع أمها ولا أخوها أو حد من جرايِبها .. أخشى إنهم يحرموني مِنيها … أنِي شايف إن المفاچأة أفضل للكل ….
إنت تتصل بيهم يا چدي ، و تعزمهم عـ الغدا إهنه بالبيت ، و لما أمها تشوف أبوي ساعتها هتتفاچىء ، و يمكن وَجْتَها تِجدَر تسألها يا بوي ، و تعرف مين الراجل اللي كان معاها و يجربلها إيه .. ؟!
أني كل اللي أعرفه إنها متجوزتش بعد ما إنت بعد الشر بعدت عنيها .. و لو كانت حَجِيجي عتخونك ، كنت اتچوزته ، و الفرصة كانت جـدامها سنين طويله ، خصوصًا إنها حلوه جوي
عبست ملامح “مدحت” بأمارات الغيرة والغضب هاتفًا:
— اتحشم يا وِلْـد …لَـطُخَك عيارين … إنت هتتغزل فـ مرتي جُدامي … مش مكفيك البت ، طمعان فـ أمها كمان.
انطلقت الضحكات من ثلاثتهم لتهدأ عواصف الغضب قليلاً ، ثم أردف “مدحت” قائلاً :
— جَبْـل ما تعزمهم يا حاچ ، أني لازم أتحدت مع “حميدة”، و أحكيلها كل حاچه … لازم تعرف أني مين ، و إيه اللي چابني إهنه … وربنا يهديها و تستوعب اللي هَـجُوله
احتوى “زكريا” ولده قائلاً بإطمئنان :
— متجلجش …. “حميدة” عاجْله ، و عتحبك ، و متجدرش على بُعدك واصِل …المهم تفكر زين هتعمل إيه وَيَّـا أم العروسه ، ولو طلعت بريئة من اتهامك وشكك فيها ، هيكون إيه مَوْجَفَك يا ولدي … فكر ، و خُد جَرَار النهاردة جَبْـل بُكره .
أجاب “صداح” فى لهفه :
_ آه و غلاوتي عندك يا بوي … “أهداب” وحشتني جوي جوي ، و أني عشمان فـ ربنا و فيك نتمم الچوازه بأسرع وجت .
تساءل “مدحت” فى حنان و شوق :
— إوصفهالي يا ولدي …. شكلها كيف ، طبعها كيف ، جولتلها ايه لما اتجابِـلتوا … احكيلي على كل حاچه …”
…. و جلسوا سويا ، يخبرهم “صداح” بكل صغيرة وكبيرة ، أشعلت قلب “مدحت” من فرط اشتياقه ، و عقل “زكريا”من حنينه إلى امتداد ولده “مدحت أو كاشف “.
مضى النهار سريعًا بجلساته المُغلقه ما بين “مدحت” ووالده وولده ، لتشعر “حميدة” بالقلق و التوتر ، ثم أطرقت باب الغرفة مستأذنة بالدخول :
— العواف يا حاچ … العشا جاهز … العيلة كلاتها مستنظراكم عـ العشا … هتفضلوا اهنه …بزياداكم عاد … أني جَلجَانِه ، وانتوا عمالين تتحدتوا ، وأول ما أدخل عليكم تسكتوا … مخبراش إيه اللي بيحصل من وراي …. فيه إيه يا أبو “صداح “… أني مرتك … احكيلي … إنت مخبي عني حاچه … لا تكون عيان و مخبي عليّ …!!
انتهز “مدحت” الفرصة ليُطالب زوجته بالجلوس ، ثم قال :
— اجعدي يا حميدة .. أني عايزِك فـ موضوع مهم .. لكن جَبْـل ما أتكلَم ، عايزِك تسمعي كلامي زين …و إوعك صوتك يِعلا ولا حد يسمعه …..”
… وسرد عليها ما خفي عنها طوال السنوات الماضيه ، لتوَلوِل فى حسرة هاتفه :
— يا ألف حسرة عليك يا “كاشف” …. يعنى أني اتچوزت واحد تاني غير ابن عمي … و جَسِيمة الچواز مزوره على إكده … ؟! …. يعني چوازنا باطِل .؟!
نهض “مدحت” من مجلسه يطوي الغرفة ذهابًا و إيابًا ، ثم قال :
— أدي اللي كنت فاكرها عاجْله ، و هتفهم زين …. لاه يا أم البنات … چوازنا شرعي وبحلال ربنا ، و الجَسِيمة بإسمي “مدحت الصواف” ، و المأذون من طرف الدكتور “مصطفى” صاحبي اللي كان بيعالچني ، و عرض عليا الموضوع من بدايته ، و أجدر أفرجك عليها علشان تصدجي … و بعدين عتتحسِري على وِلْـد عمك جُدامي … جُـدام چوزك يا مرتي …يا عشرة العمر …
هتفت “حميدة” بقلة صبر :
— وه صعبان عليك خَلعِـتْ جَلبي على ابن عمي ، و عمال تحاسبني … و أني أعمل إيه دِلوك ، و إنت عتجول إن ليك مرتك اللي فـ البندر …لاه وكمان ابني هيتجوز بِتَّـها …. شايفها سهله عليّ يا چوزي ، يا أبو عيالي …
جولي دِلوك … إنت ناوي على ايه ….؟! … هتطلجني ، ولا هتردها ؟!
أصاب الجزع قلب “مدحت” ليزفر فى ضيق :
— طَـلاَجْ إيه يا وليه اللي عتحكي عنيه … ده بعينك إني أفارجِك إلا لما رب العباد ياخد أمانته.
انخلع قلب “زكريا و صداح” ، لتصرخ “حميدة” هاتفه :
— ألف بعد الشر عنيك يا غالي … الله ياخد من عمري و يِدِيك ، لما تشيل أحفاد أحفادك …
ابتسم “مدحت” قائلاً :
— أصيله يا “حميدة” … أني عايزك تعرفي إني عـحِبك أكتر من روحي ، ولا يمكن استغني عنك واصل … لكن موضوع حياتي السابجة ده مش سهل ، و “فريدة” دِلوك تعتبر طليجتي … ولسه معرفش إيه اللي حصل بغيابي طول السنين اللي فاتت …
خلينا نتعامل بالهداوة ، وخطوه خطوه ، و أهم حاچه دِلوك إنِك عَرفتي ، و مفيش أي حاچه هتتغير … إحنا كيف ما كنا ، و أجْرَب كمان .
تنفس “زكريا” الصعداء ، ليتبادل النظرات مع “حفيده” الذى قال :
— ممكن بجي ننزل نتعشى ، عشان تلحق تكلم حماتي يا چدي و تعزمهم عـ الغدا ..”
وفى لحظات اصطف الجميع على المائدة يتشاركون طعام العشاء ، إلى أن دلف الجد إلى مكتبه ، يمهد للخطوة الثانيه فى إحياء ماضي لم تندمل جراحه بعد ..
كانت فريدة تتجول بحديقة الفيلا ، مغمضة العينين ، تحيا ذكريات الماضي ، لتهمس بلا وعي :
— الله يرحمك يا “مدحت”… كنت نفسي تفرح معايا … “أهداب بنتنا كبرت ، وبقت عروسه .. و خلاص هتتجوز .
إلا أن سيل حديثها الصامت لم يكتمل ، حيث إلتفتت إلى نداء حفيدها الصغير “مدحت” ، لتقترب منه و تحمله فى حنان و حب قائله :
— حبيب تيتا و روحها و عقلها … كنت بتنادي عليا ليه بقى ؟!
أجاب الصغير صاحب السنوات الثلاث بتلعثم :
— تيتا فون تاعك رن …
ضحكت فريدة بسعاده و ارتياح :
— الفون تاعي رن … و مجيبتوش ليه ؟!
أجاب الفتي فى براءة :
— سَان بابي إزعل من دوحه .. و إس كلمه .
دلفت فريدة إلى الداخل ، لتلتقط الهاتف ، مجيبة :
— ألــو …. مساء النور … أيوه أنا “فريدة” … آه أهلاً وسهلاً يا حاج “زكريا” …. لا أبدًا ..مفيش إزعاج ولا حاجه … الحمد لله كلنا بخير … و “أهداب” تمام … إيه عزومـة .. معلش مش هقدر … الشغل واحد معظم وقتي …. و زيارة الصعيد محتاجة على الأقل يومين … طيب إيه رأيك … نعمل تعديل بسيط ، و العزومة تكون عندنا إحنا كده أفضل للجميع … بس أصل … اسمعني بس …. مش عارفه أقولك إيه … طيب حاضر ، و أنا ميرضنيش إن حضرتك تزعل …. لأ ..بلاش بكره …خليها بعده ، أكون رتبت أموري و كمان عشان الشغل و أسرتي كمان … بإذن الله … “صداح” … أكيد طبعًا يشرفني … فرصة سعيدة .. أنا اللي اتشرفت بحضرتك والله … مع السلامة .
و انطلقت “فريدة ” تبلغ شقيقها و جميع من بالفيلا بالخبر المفاجىء ، لعزومة تحمل أطنان من المفاجآت…
مرت الأيام سريعة ، ليأتي اليوم الموعود بوصول “صداح” إلى فيلا والدة عروسه ، ليُلقي عليها نظرات اختلفت كُليا عن مثيلتها بالمرة السابقه … و لكن ما لم يكن بالحسبان ، أن الفيلا السابقه التى ضمت كلاً من “مدحت”و “فريدة” ، تم بيعها منذ ذلك الحين ، وأن تلك الأخرى هى التى سطرت الحاضر الخالي من والده .
استقبلت” فريدة ” “صداح” فى ترحاب شديد ، تُزين ثغرها الباسم ضحكه راقيه ، لتتحدث :
— حمدًا لله عـ السلامة يا “صداح” … اتفضل يا حبيبى … اشرب قهوتك معانا لغايت ما ” أهداب” تجهز … إنت عارف بقى البنات و تجهيزاتهم ، عشان تتعود من هنا ورايح ….
ابتسم “صداح” فى سعادة ، يتأمل “فريدة” بنظرات حنونه ، ليردف :
— على أقل من مِـهلها … أنا أستناها العمر كله … “أهداب” هى النفس اللي عايش بيه …. تؤمر و أنا عليا التنفيذ …
شعرت فريدة بسعادة فاقت الحدود ، ليتبادل “عماد” النظرات مع خاله العزيز “فريد” ، فى نفس الوقت الذى هبطت فيه “أهداب” الدرج كالفراشة الرقيقة ، وَقْـعْ خطواتها كما عزف الناي ..
تتدلل فى ثوبها الفضي اللامع الذى عكس بريق عينيها الزرقاوين ، و خصلات شعرها الحريرية المموجة ، كما أمواج المحيط … ثم اقتربت ، تسحر الأذهان بصوتها الناعم مرحبه :
— حمدا لله عـ السلامة يا “أدهم” … نورت مصر و أهلها
رفع “صداح” أحد حاجبيه بشكل مسرحي مازحًـا :
— برضه ” أدهم “… مُصمِمه ؟!
أجابت “أهداب” فى مشاكسة :
_ عشان تفضل فاكر إنك خدعتني ، وكدبت عليا .
اتسعت ابتسامة “صداح” ، ليقترب منها فى عشق :
— ما أنا طلبت السماح من الباشا … وهو طيب وحنين ، و مهونتِـش عليه … أعمل إيه تاني يرضيك يا باشا … قول وأنا راضي … لو يكفيكي عمري ، أنا رهن اشارتِك..
نهض كلا من “فريد و عماد” ، ليجذبا “صداح” بعيدًا عن “أهداب” قائلين بصوت واحد :
— لأ…. روق كده وإلا هرجع فى كلامي .
ارتفعت ضحكات الجميع ، ليبدأوا رحلة الذهاب إلى الصعيد ….. و إلى الماضي …
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.