رواية اهداب والماضي – الفصل الثالث عشر
« يا قلــب لا تغفِــر »
« انتهى ما بيننا…كما تنطفئ الشموع ..
ولا شىء يواسي الوصال المنقطع … فما مضى قد مضى..
ظننت أن الحب العظيم الذى وسِع صدري هو حامي الحما ، و نوري بظلمات الوجع …
و إذا به قمة الإنهاك ، و الإنتهاك …
أيا صلب الفؤاد .. كفاك عُذرًا …!
و ممن تنشد سُهد الوِداد …!!
إذا الليل تألق بشمس الضيا…
فلا سكن ولا وليف فقد المحيا الممات .. !!
فسلامٌ على ما لم يكتمل …!!
و سلامٌ على قلبي حين نطق جهرًا … انتهى..! »
تزين البيت الكبير ، فى ربوع الصعيد للقاء الماضي و المستقبل ، لتشرع حميدة فى الإشراف مع الحاجه أنهار على أصناف المأكولات بِـهمة و اهتمام
الكل فى حالة ترقب ، و ابتسامة تشارك فيها أفراد عائلة الحمزاوي … فى حين تسلل التوتر إلى أوصال مدحت ، يراجع مع والده … ما عليه فعله .
و قد اتفق كليهما على عدم ظهوره ببداية اللقاء ، على أن تسطع المفاجأة بين زوايا المائدة .
الجميع على عِلم .. وكلٍ منهم يعي جيدًا دوره و يحفظه عن ظهر قلب ..
انتهت ساعات النهار ، ليأتي الليل خجلا ، فها هو بيت الحاج زكريا يتلألأ بأنوار عكست فرحة الجميع ، فى حين أبلغ صداح جده بقرب الوصول
و أمام بوابة البيت الكبيرة .. وقف الحاج زكريا فى شرف وصول أنسبائه ، يرافقه إخوته بشموخ و هيبه لا يُنكرها القلم .
اقتربت السيارات الثلاث من البهو الخارجي ، لتتوقف فى هدوء
ترجل صداح فى سعادة إلتمعت بناظريه ، ليشتاق إلى فاتنته التى فضلت رفقة خالها فريد بسيارته
و ما إن هبطت من السيارة فى دلال ، حتى اشتعل قلبه من سحرها الأخاذ الذى يُذهِب العقول .
تقدم الحاج زكريا مع إخوته للترحيب الحار بالجميع ، ليدقق النظر فى فريدة و ابنتها أهداب ثم ابتسم قائلا :
— يا أهلاً وسهلاً…. يا ألف مرحب … يا نور النبي الزين .. اللهم بارك … تفضلوا … تفضلوا …. الصعيد كلاته نور بتشريفكم … حمدا لله ع السلامة …
اتسعت ابتسامة فريدة لترد تحيه الحاج زكريا ، الذى أغدقها بعبارات الترحيب الحارة بما فاق التوقع ، لتهتف فى خجل :
_ ميرسي جدا يا حاج زكريا… حضرتك ذوق أوي … كلنا والله اتشرفنا بحضرتك و أسرتك الكريمه .
دلف الجميع إلى الداخل ، فى حين إختبأ مدحت خلف إحدى الشراشف يتأمل أسرته .. زوجته … ابنته … و ابنه الغالي عماد …
وما إن وقعت أنظاره على غالية روحه فريدة ، حتى خفق قلبه من شدة الاشتياق
لا زالت على نضارتها ، وسحرها الجذاب … ابتسامتها التى أشرقت قلبه ، لينسي بعذوبتها ما قد مضى ..
يا إلهي .. كم اشتاقها حد الجنون … يتمنى لو يوصمها بنقوش قلبه ، و ألا يسمح لها بالرحيل … فهى أسيرته ما دامت الحياة قائمة .. ثم همس :
— وحشتينى يا فريدة … يـــاه … كنت فاكر إن نسيتك و قفلت باب عشقك جوايا ، لكن بعد ما شوفتك مش هقدر أبعد تاني ، أنا مسامحك حتى لو خونتيني … مسامحك مهما تعملي … يارب رد لي روحي ..يارب
أتقنت حميدة رسم البسمة على شفتيها ، إلا أن داخلها يتعذب …. قلبها يئن من الغيرة ، و خاصة بعد رؤيتها لفريدة و ما لمسته من جمالها الأخاذ … تقبض على قلبها بمطرقة الصبر ، و تلتمس من ربها التحمل .
جلس الجميع فى الأرائك التى تتوسط المنزل ، لتتركز نظرات الجميع على أهداب ، و أمها فى حين حار مدحت فى هوية فريد … يتساءل :
— تُرى متى رآه ، و أين … و من هو ؟!
أطرق فريد رأسه قليلا ، ثم تحدث بنبرةٍ ثابته :
— فرصة سعيدة يا حاج زكريا .. و الله رغم انشغالنا فى الشركة ، إلا إني سيبت الدنيا كلها ، و جيت عشان خاطر نن عنيا أهداب …
شعور بالألفة ارتسم على قلوب الجميع قبل وجوههم ، ليسأل زكريا فى فضول :
— يا أهلاً وسهلاً …. ده إحنا زادنا الشرف يا باشا … أعرفكم بعيلة الحمزاوي … أكبر عائلات الصعيد … أخوي الحاچ چابر ، والد حميدة مرت ولدي كاشف …. و ده أخوي الحاچ واصل … و ده أخوي الحاج ضرغام … وده أخوي الحاج فضل …
و لسه لما تجعدوا معانا يومين تلاته هتتعرفوا على باجي العيلة .
تفوهت فريدة بصوتها العذب :
— أهلا وسهلا بيكم … طبعا عيلة الحمزاوي لا غبار عليها … و سمعتكم الطيبه وصلت عندنا فى القاهرة … حقيقي إحنا محظوظين بالتعارف الجميل ده .
أجاب الحاج جابر بإعجاب صارخ :
— والله ما چميل إلا إنت يا جمر …. ده إحنا عندنا غفر.
اتسعت ابتسامة فريدة ، لتهتف :
— ميرسي جدًا على ذوقك … و بعدين سحر و رقة بنات الصعيد مش موجود فى أي محافظه تانيه .. ليكم جمالكم الخاص …
أردفت حميدة قائله فى غيرة قاتلة ، حاولت أن تخفيها بصعوبه :
— تشكري يا بنت الاصول … ده بس من ذوجِك و لسانك اللى هينجط عسل .
قلب عماد أنظاره بين الحاضرين ، ليتساءل :
— يا ترى والدك يا صداح … يبقى مين فى البهوات ؟!
أجاب الحاج زكريا فى غموض :
— ولدي كاشف چاي فى الطريج …. أصل حصلت مشكله بسيطة إكده فى الشونه ، وهو الوحيد اللي يجدر يحلها … متجلجوش .. هيكون اهنه جبل العشا …
تبادل الجميع أطراف الحديث ، بمواضيع عده إلى أن ارتفع صوت الهاتف ، ليُسرع مدحت الصغير إليه ، فى حين نهضت فريدة لاحتواءه قبل الوصول ،إلا أن الحاج زكريا نهاها عن ذلك :
— اجعدي يا بتي … اتركيه يتحرك ويجري براحته .. ده بيته ، و بيت جده … اللهم صل عـ النبي ذكي و نشيط كيف أبوه …. ثم التفت إلى فريد متسائلا :
— ولدك ده يا … هو حضرتك تبجي مين ؟!
قاطع الفتى الصغير حديثهم ، ليركض تجاه والده قائلاً :
— بابي … سوف كاسف عايز كلمك .
التقط عماد الهاتف من طفله ، ليقدمه إلى الحاج زكريا ، ملتمِسًا العذر :
— معلش يا حاج زكريا … مدحت كده على طول شقي و ملوعنا كلنا .
ارتجف قلب مدحت الذى صار يترقب انضمامه إليهم ، خاصة حين علم بوجود حفيد من صلبه امتداد لوجوده ،سُمي تيمُنًا بجده مدحت
أجاب الحاج زكريا فى هدوء :
— ألو … فينك يا ولدي …الحبايب وصلوا … يلا .. تعالى بجى ، وسيبك من الشونة و أصحابها … ليه إكده … و عملت كيف ..؟! … عفارم عليك يا ولدي …. طول عمرك راچل ابن راچل … ربنا يبارك لي فيك … ماشي يا ولدي … متتأخرش …. فى رعاية الله..
ثم استقام واقفا فى شموخ ؛ قائلا :
— اتفضلوا …. العشا جاهز … ولدي هيتأخر شويه …. هيبجى ياجي بعدين …
أردف فريد فى حرج :
— خلينا نستناه … إحنا لسه مش جعانين .. المهم إننا نتجمع كلنا على سفرة واحده …
إلا أن الحاج زكريا صمم على حديثه لحاجة فى نفسه
اصطف الجميع على المائدة ، نظرات صداح تتبع حبيبته أينما ذهبت ، لا يكاد يهتم بكل من حوله ، إلا من سواها … يعشقها حد الفناء فى روحها … فهو الهائم حد الجنون …
كانت المائدة زاخرة بأشهى المأكولات ، التى أبهرت الجميع ، لتشاطر الحاجه أنهار الجميع فى البدء بتناول الطعام قائله :
— أني بجى مش هعزم عليكم … الدار داركم … و احنا خلاص بجينا عيله واحده .. ومفيش بيناتنا أغراب … مد يدك يا ولدي … مدي يدك يا بتي … بسم الله …
بدأ الجميع فى تناول الطعام فى متعه و تلذذ ، أصوات ضحكاتهم تُسعد القلوب … و رغم شعور أهداب ببعض الخجل ، إلا أنها أحست بالألفه بين أفراد تلك الأسرة الجميلة الطيبه.
و فى خضم سعادتهم ، و شعور اللذة بالترابط الأسري الذى غمر العائلتين ، دوي صوت أجش فى المكان ، لتلتفت فريدة إلى صاحبه ، لتحتلها الصدمة و الوجوم ، فإذا بالطعام يتوقف فى حلقها حتى كادت تزهق أنفاسها ، ليركض إليها مدحت فى حب فشلت السنوات فى اضمحلاله
إلا أن فريدة لفظت ذاك الرجل كما لفظت قطعة اللحم العالقه بجوفها ، لتنعته بالحقارة ، و تدفعه بكامل قوتها إلى الخلف هاتفه بسعال متواصل :
— حقير …
ظلت فريدة على سعالها المتواصل ، ليقدم إليها الجميع بلا استثناء عدد من أكواب الماء ، إلا أنها لم تقبل الارتواء إلا من أخيها …. وما إن هدأت قليلا ، حتى صرخت قائله :
— بينا من هنا …. حاسة إني مخنوقه .
أدرك فريد أن شقيقته تعانى من خطبٍ ما ، ليقرر الصمت قليلا ، ثم أجاب :
— حصل حاجه يا حبيبتي … احنا لسه متكلمناش …
وبدلا من أن تُجيبه ، نظرت إلى مدحت نظرات الكره ، لتقول :
— معلش … المكان بقى مكتوم…. أصلي خلاص فهمت سبب تمسك البيه المحترم ببنتي … لكن يا ترى إنت بقى يا صداح بيه دورك إيه فى القصة دي ..؟!
يقربلَك إيه المحترم اللي واقف ده …. شريكك … ؟! … أكيد شريكه …. مكنتش متخيله إن حقارتك توصل للدرجة دي … بينا يا فريد .. يلا يا عماد .. أما إنت يا أهداب … أنا حسابي معاكي بعدين ….
تاهت نظرات الجميع ما بين صداح و ذاك الغامض الأخير … الذى لم ينتبه لشخصه سواها … سوى فريدة
و حين سحبت ابنتها و ابنها من أيديهم إلى الخارج ، لم يقاوم عماد ، بل كانت المقاومة من أهداب التى أصرت على فهم ذاك المشهد البالي بلا تفسير ..
لتُصر فريدة على الهرب ، دون تفسير لماضٍ أوجع قلبها حتى تحطم … إلا أن إصرار أهداب كان كما الشوكة التى قصمت ظهر البعير ….
محاولات من فريدة لا تنتهي ، لتهرب من تلك الورطة الشنيعة ، ومواجهة لن تحقق سوى الأهوال ، إلا أن فريد تجسد ثبات المنطق ، و زهو العناد … ليتساءل :
— أنا عايز أعرف هو إيه اللي بيحصل بالضبط …مين ده يا فريده ..؟! … و لسه نظرات الكره دي اللى شايفها فـ عنيكي …؟! … هو إنت تعرفي الرجل ده ….؟!
وجوم أصاب أسرة زكريا الحمزاوي ، رغم علمهم جميعا بما سيحدث ، إلا أن وقع الفعل ليس كما القول … ليختار جميعهم الصمت والتخاذل .. و خاصة مدحت أو كما ينادوه كاشف .
بينما فاض الكيل بفريدة لتصرخ ، بعد أن فقدت اتزانها :
— عايزين تعرفوا فيه ايه …؟! .. نفسكوا تفهموا إيه الحكاية …؟! … ما تنطق يا بيه …ساكت ليه
… ثم اقتربت من مدحت ، حتى صارت بمواجهته ، هاتفة بغضب يملؤه الكراهيه :
— إيه لسانك انقطع ، و لا إيدك اتشلت …. فاكر آخر مرة عملت فيا إيه …؟! … فاكر …ولا أفكرك ….؟! … لأ .. أنا هفكرهم هما …. عايزين تعرفوا مين البيـه … ده مدحت باشا الصواف … أبوك يا عماد …. أبوكي يا أهداب …. ويبقى جوزي السابق يا فريد …. مدحت الصواف اللي طعنني فـ شرفي ، و إتهمني بالخيانه ، و آخر مرة شوفته نزل فيا ضرب لما كنت هموت فـ ايده ، و دخلت بسببه المستشفى شهر كامل ..
مدحت الصواف اللي صورلي مشهد هزلي إنه انتحر ، ومات .. و عملناله جنازه ، و فضلت عمري كله زعلانه عليه …. ومن شدة إخلاصي رفضت أتجوز من بعده …
ثم اقتربت من ابنتها ، مردفه بحسرة :
— هو ده مدحت أبوكي … اللي لما رجعتي من المدرسة ، و شوفتيه بيخنقني ، ناديتي على السواق يلحقنى و يبعده عني …. معقول يا بنتي … نسيتي شكله… آه سوري … أصل الموضوع ده قديم أوي … من أكتر من ٢٠ سنه بس ….
لتعود إلى مدحت ثانيه :
— سيبت بنتك عندها أربع سنين ، ورجعت بتمثيليه جديدة ، مع أبطال جداد و هى عندها ٢٤ سنه …. إنت لا يمكن تكون بني آدم …. إنت شيطان …. أنا بكرهك …
راجع تاني ليه ….؟! … عايز إيه …؟! … لسه فيه حاجه معملتهاش عايز تعملها … مش مكفيك اللي عيشته بسببك ، و العذاب اللي فضل ملازمني طول السنين اللي فاتت ، راجع تحيي الماضي ليه …؟! ..
إذا كنت فاكر ، إن ولادي أطفال زي زمان ، و تقدر تلعب بيهم … لأ … فوق لنفسك يا بيه …. أنا معايا رجلين يودوك ورا الشمس…. و زي ما ربنا خلصني منك … بعتلي أخويا فريد … سندي و عزوتي و الصدر الحنين اللي ياما مسح دموعي …. منك لله يا مدحت … ربنا ينتقم لي منك..
إلى هنا … لم يحتمل مدحت الصمت ، ليقترب من فريد الذى جمدت المفاجأة حركته ، ليهتف :
— أيوه … أنا عرفتك …. هو …. إنت … إنت اللي أنا شوفتك مع فريدة فـ الجنينه … يعني .. قصدِك .. إن اللي واقف ده أخوكي … ؟!
طب إزاي … إنت مكنش ليكي إخوات … من يوم ما اتجوزتك ، و أنا عارف إنك وحيدة أمك و أبوكي … يبقى إزاي ده أخوكي …؟! …. ما تنطقي ولا شاطره بس ترمي اتهامات وخلاص ..!!
بقلب صلب ، و وجه مكفهر ، و أنفاس حارة من شدة الغضب ، اقتربت فريدة من مدحت حتى لامست صدره ، ثم رفعت كفها اليمنى لتلطمه على خده لـطمه قويه زلزلت كيانه صارخة :
— لسه زي ما إنت قذر و حقير … راجع بعد كل ده تستجوب و تشك و تتهمني من تاني … فريد فعلا أخويا … أخويا من أب بس .. وده اللي أنا عرفته قبل عملتك السوده بأيام …. مكنتش أقدر أحكيلك و أقولك إن أمي اللي فضلت طول عمري موجوعه إنها انظلمت و اتوجعت ، و اتبهدلت … تكون فى الحقيقة هى الجانية … و إنها من شدة غيرتها ، و طمعها كانت هتقتل طفل صغير لمجرد إنه طلع أخويا ، وإنها دخلت مستشفى الامراض العقليه بإرادتها عشان تهرب من السجن …
احتفظت لنفسي بالسر جوايا علشان ما أصغرش فـ نظرك ، و تستقل بيا ….. وقولت لما ظروف أخواتي تستقر ، أبقى أحكيلك وإنت أكيد هتعذرني ، ومش هتحمل أمي الذنب …
لكن إنت اتسرعت … وبدل ما تديني فرصة أتكلم و أشرحلك ، و أبرأ نفسي ، قررت تقتلني … و راجع تاني تعيد الكره ..يا خيبة أملي فيك ….
فى تلك اللحظه العصيبة ، أفاق فريد ليلتقط أحد الأسلحة المثبته على الجدار ، ليرفعه فى وجه مدحت وسط موجة من الرعب أصابت حميدة ، و صداح، و الحاج زكريا ، و كل رجال الصعيد …
صرخت فريده ، تحاول أن تكف أخيها عن فكره انتقامه ، من مُعذب شقيقته لتهمس فى نبرة ترجي :
— لا ….يا فريد … عشان خاطري بلاش …. بلاش تضيع نفسك عشان ندل …ما يسواش … إنت أنقى من إنك تلوث إيدك بدمه …. أنا سايباه لربنا …يجيب لي حقي منه … و إنت كمان … سيب المسدس عشان خاطري … أنا محتاجالك ، و مراتك و ولادك محتاجينك … طب بلاش أنا … بنت أختك محتاجالك … أهداب حبيبتك .. يهون عليك تضيع نفسك ، و نخسرك … سيبه لربنا …. يلا … هات المسدس .. ربنا يهديك …
كلماتها كالسحر … جعلت من قلبه المشتعل بنار الغضب و الانتقام … ماء زلال يروي قلبها العطش إليه ، ليلقي المسدس باحتقار ، قائلا بإشمئزاز :
— أنا هسيبك بس ، عشان خاطر أختي و أولادها … لكن قسمّا بالله … لو فكرت تقرب منهم تاني … ليكون آخر يوم فـ عمرك ….
إنت ميت من زمان فـ نظر الكل ، و طالما اخترت بيت وعيله ، و نصابين زيك …. خليك عايش وسطهم ، و مارس ألاعيبك براحتك… يلا يا فريدة … عماد … أهداب … يلا كلنا …
بأجساد مثقله … سار الجميع إلى الخارج ما عدا أهداب التى حولت أنظارها ما بين والدها ، وصداح ، تنسال من عينيها الدموع كما الشلال ؛ لتئن هامسة :
— للدرجة دي كنت لعبه فـ ايديك عشان خاطره … قدرت تأذيني و توجعني بالشكل ده ، وأنا وثقت فيك ، و سلمتك قلبي …. ربنا يبعتلك اللي يكسر قلبك ، وينتقم لي منك …. ثم ركضت إلى الخارج …..
نظر صداح إلى والده بقهر ، و خيبة قائلا :
— ارتحت دلوقتي… ضيعت مني حب عمري ، و الأمنية الوحيدة اللى تمنيتها … مبسوط بعد ما سوءت سمعتنا ؛ و بقينا فـ نظرهم نصابين … و كل ده بسبب غباءك … و أنانيتك ….
لم يحتمل زكريا إهانة ابنه كاشف ، لينهر صداح صارخًا :
— صــــــداح ….. وجف عندك … كلمة تانيه ، هتبرا منك ، و أرميك بره البلد كلاتها …. بتغلط فـ أبوك بدل ما تواسيه بمصيبته …. هي داي آخرت تربيته فيك يا ناجص … عشان حرمه تغلط فـ أبوك …. خيبت أملي فيك …. يا خسارة تربيتنا فيك يا ولد وليد الضَوْ …
تحدث مدحت بإنكسار :
— سيبه يا بوي …. سيبه … هو عنده حج …. أني فعلا كنت غبي … و أناني …. من كتر حبي فيها ، متحملتش أشوفها مع راچل غيري … انكسرت والشيطان وسوس لي ….. خسرت بيتي بسبب الشك … اتحرمت من مراتي و ولادي … و دلوك بيدفعوا تمن غلطي …
أني اللي أستاهل ضرب النار … والله يا بوي … أني فعلا مستحقش أعيش …
احتواه الحاج زكريا فى حب جارف قائلا :
— ألف بعد الشر عليك يا ولدي … أيوه إنت ولدي … إنت كاشف ، واللي يجول غير إكده ، أني اللي هطخه بالنار …
أني عارف الحقيقة من الأول ، و قلبي و ربي راضي عنك يا مدحت ….و عمري مهنسالك چميلك اللي برجبتي طول العمر … والفرحة اللي رسمتها على وچوه كل نفر
فـ العيلة …. بموت كاشف ولدي ، راحت كل أحلامي ، و ضهري انكسر … و عودي انخلع ، لكن مدحت اللي واقف جدامكم ده هو اللي رجعلي روحي من تاني …
حرم نفسه من بيته ، ومراته ، و ولاده اللي ياما كان نفسه يرچعلهم ، لكن كان خايف عليا ، و عليكم من الصدمه … أمنته على بيتي وفلوسي و حالي كله ، و صان الأمانة ، و كبرها … و اشتغل ، و شِقى لما بجى العشرة مليون …ميه و مِتين …. لما جولت له اتچوز يا مدحت …. وافج بدون ما يعارضني ، وجاب مرته و ابنها ، و حطهم فـ عنيه ، و رباك أحسن تربيه ، ولما ربنا كرمه بخواتك البنات … عمره ما فرج فـ المعامله ولا جصر مع أمك … وهي واجفه و تشهد ….
ارتمت حميدة تحت قدمي مدحت تقبلهما فى عشق لا ينتهي ، تنسال دموعها الحزينة كما السيول ؛ لتهتف فى رجاء :
_ أحب على رچلك يا أبو صداح ما تزعل ، حجك عليا أني …. و غلاوتك عندي أني لو عشت عمري كله تحت رجليك ما يكفيك اللي عملته عشان أني و ولدي …. إنت جوزي ، وحبيبي ، و أبو ولادي ، و عمري كله يا مدحت … أني عيشت معاك أسعد سنين عمري ، بعد ما كنت دفنت نفسي بالحياة جبل ما أتچوزك ….
أحِب على يدك ما تزعل …. كلنا محتاچينك ، و أني عحبك جوي يا مدحت … إنت النفس اللي عتنفسه ….”
رفعها مدحت فى رفق ، ليحيط كتفيها بذراعيه فى حب :
— طول ما أني عايش ، و فيا النفس …. حِسك عينك تنحني لمخلوج …. أني لا يمكن أتخلى عنك يا شريكة عمري… إنت حتة مني يا حميدة …. و متخافيش أني مش زعلان من صداح … فيه أب يزعل من وَلده …..
شعر صداح بأشواك الندم ، ليُقبل قبضة والده ، ومقدمة رأسه و صدره ، ثم ارتمي بين ذراعيه قائلا فى ندم :
— حجك علي يا بوي …. سامحني و غلاوتي عندك … و الله يا بوي ما كنت أجصد ، هو أني بس من الانفعال ، جولت كلام من ورا جلبي …. سامحني يا بوي …. و وجف جار ولدك …. أني عحب أهداب بتك ، و عـهشجها ، مجادرش أعيش من غيرها … دي حياتي يا بوي … حياتي نَفسيها …. خلينا نجعد ، ونشوف هنصلح الموجف ده كيف.
حمد الحاج زكريا ربه ، على زوال لحظات الغضب ، و وسواس الشيطان ، ليطالب الجميع بالوضوء و صلاة ركعتين ، ليستعيد كل منهم نفسه .
وبالفعل كان الجميع مصطفين فى ترتيب ونظام يؤمهم مدحت … إلى أن انتهوا من الصلاه ..ليجلسوا فى هدوء..
هتف زكريا قائلا فى جديه :
— لو عايز ترچع لمرتك من چديد يا ولدي …. يبجى لازم ترجع تكسبها ، وتراضيها ،كمان عشان ولدك … والحَج ينقال ، العروسة جمر كيف أمها … ذوجك حلو يا صداح كيف أبوك …
ظل مدحت يتبادل أطراف الحديث مع أسرته ، ليفكر فى أي الطرق التى يمكن بها تعويض فريدة ، و العودة بها إلى رحابه … حتى يتسنى لابنه الفرحة و السعادة بمحيط ابنته ….
رحلت فريدة مع شقيقها و أسرته ، و أبناءها و الأحفاد ، لتبكي أهداب فى مرارة ، فى حين ارتفع صوت فريدة تواسيها فى رفق :
— بس يا حبيبتى … متعمليش فـ نفسك كده … الحمد لله ربنا كشفهم في الوقت المناسب … إنت تنسيه خالص ، و تركزي فـ شغلك … هو ده المهم دلوقتي ، ومع الوقت ، هيتلاشى ولا كأنه موجود …. وأنا متأكده إن ربنا هيعوض صبرك خير … يلا يا حبيبتى إرجعي بضهرك لورا … و حاولي ترتاحي …
واستكملت فريد رحلة العودة التى اختلفت كليا عن سابقتها ، ليعود الجميع بقلوب منكسرة .. و صدور يكسوها الخيبه .
ساعه تلو الأخري ، إلى أن وصل الجميع إلى فيلتهم بالقاهرة ، لتركض أهداب على الدرج فى انهيار ، ثم دلفت إلى حجرتها فى أنين ..
سقطت أهداب على فراشها تبكى والدها الذى حرمها من وجوده عشرون عاما ، و تبكي عمرها الضائع و هى التى عاشت يتيمة الأب سنواتها العضال ، و تبكي حبها المزيف ، و فارسها الذى ما كان إلا صداحًـا للباطل بدلا من الحـق .. إلى أن شعرت بأنامل والدتها التي ظلت إلى جوارها …تواسيها بقلب يتجرع الحزن .
ترى والدتها من شدة الصدمات كما الغيوم التى تسبق المطر ، لذا كظمت أهداب حزنها بالأعماق ، لتطوي تلك الصفحة إلى غير رجعة دون خفقة قلب …
ثم همست :
— سامحيني يا مامي … أنا السبب فـ اللي حصل… يا ريتني ما حبيته ولا قابلته … ولا إديته الفرصة اللى آلاف يتمنوها … أنا اللي حطيتك فـ الموقف ده .. أرجوكي سامحينى .
ربتت والدتها على وجنتيها فى شجن هاتفه :
— وإنت ذنبك إيه يا بنتي … أبوكي هو اللي ندل وجبان … عشت معاه ١٢ سنه مخدوعة فيه … و يمكن ربنا أراد إنك تقابلي صداح أو الله أعلم اسمه إيه ، عشان يكشف لنا ستر أبوكي ، اللي بقالنا ٢٠ سنه فاكرينه ميت … أنا مش ندمانه للزيارة دي ، أد ما ندمانه على عمري اللي راح معاه … لكن الحمد لله وسط كل الشوك ، ربنا كرمني بيكي إنت وأخوكي و خالك …. وأنا مش طمعانه فـ أكتر من كده … إنسي و لا كأن حصل حاجه …. واللي يرشك بالميا …أنا أرشه بالنار …. إضحكي و فرفشي للدنيا ، و الشركة مستنياكي .. أنا هقوم أحضر العشاء عشان نتعشى كلنا ….
و انصرفت فريدة بعد أن شيدت بقلبها قبر لزوج لايزال على قيد الحياة …
انتهى العشاء فى صمت ، لا يحفُـه إلا أصوات الأحفاد ، ليهتف عماد محاولا رسم علامات المرح :
— أهداب هانم سيدة الأعمال المتألقه ناوية تيجي الشركة إمتى ، عشان تقطع علينا .. ؟! … خدي بالك إحنا صحيح متعلمناش فى أوروبا ، لكن خبره برضه.
انفلتت ابتسامة معصومة من الخطأ ، تحررت من شفتيها لتقول :
— خد بالك أنا فـ الشغل ، معرفش أخويا …. ثم إلتفتت إلى فريد مستكمله :
— ولا خالي
تسلل شىء من الألفه بين أفراد الأسرة الصغيرة ، حاملين الأمل من جديد .
ثلاث أيام مضت على تلك الواقعه ، لتعود أهداب إلى شركتها ، و تنشغل كليا فى أمور العمل
و فى ليلة اختفى فيها القمر ، عادت أهداب إلى الفيلا يصحبها خالها و شقيقها ، لتعتذر عن تناول وجبه العشاء من شدة الإرهاق ، فى حين فضلت أن تأوى إلى الفراش لتنال قسط من الراحة
وبعد أن تسللت إليه، انطلق رنين هاتفها فى إلحاح ، لتتثاءب فى تعب ، و بعيون نصف مغلقه ، أجابت :
— ألـــو … ميـــن ؟!
تسلل إلى سمعها صوته المشتاق ، ليهمس فى ترجي :
— أهداب …. و غلاوة والدتك عندك اسمعيني ، و متقفليش الفون …. أنا بحبك بجنون يا حبيبى ، بابا غِلط … أنا عارف ، ومستعد يصلح غلطه بأي طريقه ، لكن والله اللي حصل كان غصب عنه ، من حبه فـ والدتك مقدرش يتحمل …
الرجل لما بيعشق ، الغضب بيغشي عنيه ، مبيبقاش شايف قدامه ، و فـ لحظة انفعال ممكن يغلط الغلطه اللي يفضل طول عمره ندمان عليها … و ده اللي حصل مع بابا ..
على فكره أبوكي هو اللي رباني، و أنا بعتبره أبويا ، و عمره ما فرق بيني وبين إخواتي …
هو ندمان صدقيني ، و مستعد يتنازل عن كل ما يملك ، بس والدتك تقبل تسمعه ..
سنين وأنا بشوفه مهموم ، قاعد لوحده و شارد ، و ياما سألته ، كان يرد عليا إن فيه حاجات بتضيع مننا ، ولما بنفكر ندور عليها ، نلاقي نفسها بنرجع لورا ، مش بنطلع لقدام … أنا مكنتش ببقى فاهمُه ، بس مكنتش بضغط عليه …. بابا مدحت أحن و أطيب أب أنا شوفته فـ حياتى … إتحمل الأمانه على أكمل وجه …
إديني فرصة أقابلك و أتكلم معاكي … خليني أوضح لك اللي غايب عنك … بلاش تقفلي فـ وشي الباب فـ لحظه ضيق …. أرجوكي ..
شعرت أهداب بقلبها يئن من تأثير كلماته ، إلا أن صوت العقل فرض كلمته ، فأغلقت الاتصال فى وجهه ..
ليومين كاملين … تعددت محاولات التواصل بين صداح و أهداب ، لعدد قد تجاوز المائه و يزيد …
و رغم رفض أهداب المتكرر إلا أن صداح لم يمل أو يستسلم …
بعد أن فاض الكيل بأهداب قررت الإجابة لتكيل له من الإهانات الكثير ، إلا أن سماعها لصوته العذب المتيم ، قد ارتجف له الفؤاد الساكن بالصدر
لتجيب :
— مش معقول اللي إنت بتعمله ده …. إفهم بقى إني مش طايقاك … ولا عايزه أسمعك ، ولا أسمع غيرك …. سيبني فـ حالي بقى …
تأجج الاشتياق بقلب صداح الذى حُرم من سماع صوتها لأيام عديدة ليهتف :
— وحشتيني … وحشتيني أوى .. هونت عليكي كده يا بنت قلبي … نسيتي قوام أسانسير حبنا… ده أنا هاين عليا أسافر استراليا مخصوص أبوس الحديد قدام كل الموظفين ، حتى لو هيقولوا عليا مجنون … هأكدلهم إنك إنتِ اللي جننتيني فـ حبك ….. إديني فرصة ، أنا هنا فـ القاهره بقالي خمس أيام ، نفسي أشوفِك …اعتبريه لقاء عمل …. أنا عايز أشارك شركتك … إيه رأيك ..؟! …. وافقي و ارحمي قلبي المجروح من يوم ما بعدتي عنه …. إيه رأيك نتقابل النهارده فـ المكان اللي يعجبك ، نتكلم … ولو كلامي معجبكيش ، أوعدك إني هبعد … بس هرجعلك من تاني …. لحد آخر يوم فـ عمري ، هفضل مستنيكي …
تملكت الدهشة من قلب أهداب ، تسأل نفسها عن سبب رغبة صداح فى الفوز بها ، رغم وجود الملايين من الاختيارات ، فـفي النهاية هو الرجل الذى يمتلك كافة المقومات ، و المؤهلات التى تجعله فارس الأحلام بلا منازع … لتجد لسانها الثائر يجيب :
_ أشوفك كمان ساعه فـ كازينو النهر …
تهللت أسارير صداح ، ليركض إلى كازينو النهر ينتظرها قبل الموعد بساعة كامله
انصرفت أهداب من الشركة ، مُتعلله بموعد عمل هام ، لتذهب إلى الكازينو ، وحين لمحت صداح من بعيد يجلس على إحدى الطاولات ، ارتجف قلبها من مكمنه
ولكنها إدعت البرود ، و اللامبالاة ، لتجلس دون أن تبادله التحيه ، هاتفه بلهجة حانقة :
— خير… كنت عايزني فـ إيه ؟!
ابتسم صداح ابتسامته الجذابه التى قهرت جدران قلبها ، ليهمس :
— طيب… مش ترتاحي خمس دقائق من المشوار على الأقل .
ابتسمت أهداب بسخرية هاتفه :
_ ليه …؟! … حد قالك إني جاية من الشركة لهنا على رجلي …. ياريت تنجز ، و تقول كنت عايزني في إيه
… أنا ورايا مواعيد مهمه ..
اتسعت ابتسامة صداح هائمًا :
— برضه ..بعشقك … ومهما تقولي…. عارف إنه من ورا قلبك ..
حاولت أهداب التمرد ، لترحل من أمامه ، إلا أن ذاك العاشق المتيم لم يدع لها فرصة الهرب ، ليمسك أناملها فى هيام قائلا :
— متحاوليش تهربي مني ، لأنى مش هسيبك ، ولا هضيعك من إيدي … حتى لو اضطريت أتجوزك غصب … أنا بعشقك ،و عارف إنك بتحبيني … بطلي مكابرة .. و اسمعينى …. أو …. إسمعيه هو …..
و التفت إلى مدحت الذى انضم إليهم ، بحنان أبوي جارف ، ليهمس :
— بقيتي نسخة من والدِتك … طول عمرك بتشبهيها ، و طول عمري بفتخر بيكي … اسمعيني يا بنت عمري ، و إحكمي على أبوكي ولو بالاعدام ….أنا راضي .. المهم تسمعي …
و سرد على مسامعها ما حدث بماضٍ تجاوز العشرون عاما ، ليئن قلبها ، هامسه فى تيه :
— بس ماما مش هتقدر تسامحك … مهما كان اللي حصل ، فـ ده ميمحيش الحقيقه .. إنك اتخليت عننا ….
أردف مدحت فى وجع :
— سامحيني يا بنتي … غصب عني …. كل يوم عدى عليا بعيد عنكم ، و أنا بموووت ألف مره … كنت بكدب على نفسي و أقول نسيت …لكن الماضي عمره ما يتنسى … أنا مش عايزك تشغلي بالك باللي بيني و بين والدتك … كل اللي يهمني دلوقتي إنك تصدقي صداح … ابني بيحبك فعلا ، و كل أمنيته يتجوزك .. وأنا مش هآمن عليكي إلا معاه .
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.