رواية اهداب والماضي – الفصل الثامن
الفصـل الثــامــن « لا بــــأس »
تبًّــا للثِقـة ….. و سُحقًـا لمتصنعي الاهتمام ….
اعتاد على استيعاب المقولة ..” كل شيءٍ قابل للتعويض ” …. وما لم يتم تعويضه … يمكن استبداله …
وما لا يُستبدل ، يمكن الاستغناء عنه ، والتأقلم على غيابه …مهما بلغت حجم الخسائر ….. فهى هيِّنـة ….
إلا أن خسارته تلك المرة عظيمة …. فكيف يتقبل “فريد” ضياع من كان له ، ولا يزال شقيقه و ابن دمه …
لذا لم يستطع النسيان …. بل ترك الأيام كفيله بتراكم موجات الغضب …. وعليه …. سيأتي اليوم الذى يُنفِث فيه جَـم غضبه ……
حياة هادئة … و سكون احتل قلب “فريدة” مع ابنها “عماد” ، و خاصة بعد عودة شقيقها “فريد” إلى سابق عهده …
العمل فى الشركة يتم على قدمٍ و ساق ….وقد حققت الشركة بعد تحالف كلا الشقيقين أرباحًا هائلة؛ عما كانت عليه بالتواجد السابق لـ “مدحت” كـمالك لها …
اهتم “عماد “بدراسته ؛ إلى جانب التدريب فى النادي ..ليصل إلى مرحلة متقدمه تُنبأه بفوزه بالمركز الأول على مستوى الجمهوريه فى رياضة الهوكي …
و لا تزال الصغيرة “أهـداب” بصحبة عمها “أمين” فى استراليا … لاستكمال دراستها بعد أن حققت نبوغـًا فاق أقرانها من الزملاء …..
استمر التواصل بين الأسرتين ، ليتناوب كلٍ منهما زيارة الآخر …..إحتِفاءً بغـدٍ أفضل …..
خلال أشهر ثلاث …. استطاع “مدحت” اكتساب محبة الجميع ، و أولهم الحاج “زكريا”، و الحاجه” أنهار” اللذان تعاملا معه كما ابنهما الوحيد ….
فى حين استغل “مدحت” چُـل خبراته ، و حنكته فى النهوض بالشركة ، و المصانع إلى جانب الأراضي المتسعة الأُفـق ….
لم يكن “مدحت” يكِـل أو يتعب ، فقد تحمل الأمانه بكل صدق ، و راعى نقاء الضمير بكل تصرف … حتى حققت الشركة ما فاق التوقعات ….
و بداخله …. تأقلم على وضعه ، ليغفل عن كونه “مدحت الصواف” ، و يحيا بهوية “كـاشف الحمزاوي ” ….
اعتاد الجلوس مع والديه ….. و الحديث مع أعمامه ، و ذويهم …… لم يعد يتذكر ماضيه ، و صار بواقعه ابن الصعيد الأصيل ….
ومع الألفه ، و المحبة ، و المشاعر الوطيدة بينهم … قرر “زكريا” اقتناص الفرص ، و وضع حجر الأساس فى زيجـة ابنه التى تأجلت طويلا …
…..و فى المساء .
اجتمع أفراد أسرة الحاج “زكريا” على مائدة العشاء ، فى ترابط ومحبة ، ليُصرِح فى حزم :
— أني فخور بيك جَـوي يا ولدي … الشركة فـ ايديك بَجَـت شركتين ، و المستثمرين فرحانين جَـوي بخط الإنتاچ الچديد …. عفارم عليك …. ولدِي صُح…
لتهتف الحاجة “أنهار” فى سعادة غامرة :
— اللهم صلِ على كامل النور …. اسم الله عليك يا نضري….. يسعدك ربنا ، ويفرح جـَلبك ، و يهديك ….
أمَّـن الجميع على دعائها فى حبور ، لتهتف “فتون” _ الشقيقة الصغرى لكـاشف _ فى مرح :
— و غلاوتك يا أبوي … محمود چوزي بيجُولِي دايما :
” و عسى أن تكرهوا شيئًا و هو خيرٌ لكم … وعسى أن تحبوا شيئًا و هو شرٌ لكم” …. يُجصُد يعنى إن “كـاشف” أخوي من يوم ما ربنا كرمه ، و جَـام بالسلامة ، وربنا نصفنا من عنده بـِجَتْل “محمدين” وِلْد” الصاوي” ، اللي سَرَجْ البهايم ، و الشونة …. والحمد لله بجى يهتم بشغله أكتر من الأول….. ده إنت مطلعتش هين أبدًا يا خـوي ….چيبت الخبرة دي كُلاتها منين …؟!!
أسرعت “نهلة” الشقيقة الوسطى لأخواتها بوضع أصابعها الخمس فى وجه “فتون ” لتقول :
— “ومن شر النفاثات فى العقد . ومن شر حاسدٍ إذا حسد” …. الله أكبر… الله أكبر….. كبَّـري يا ختي … أخوكي مناجِصش ….
زمت ” فتون” شفتيها ، لتصدح ضحكات الجميع بمن فيهم “مصطفى” الذى قرر البقاء فى الصعيد ، بإلحاجه على مدير المشفى الانتقال الى مشفى سوهاج العام ….. ليظل ضيفًـا على الحاج” زكريا” مقيمًا فى الاستراحة المرافقه للبيت الكبير .
ثم أردفت ” فتون ” فى حنق :
— هو أني يعنى هحسد أخوي يا ” نهلة ” ده “كـاشف “عندي أغلى من روحي … ولا يمكن أتحمل عليه كلمة واصل .
قرر “كـاشف” مشاكسة شقيقته الصغرى قليلاً ، ليهتف :
— ولما أكون أني أغلى من رُوحِك … أومال “محمود” چوزِك يُبجى إيه ….؟!
تضرج وجه “فنون ” بحمرة الخجل ، لتهمس بنبرة تزينت بالحياء :
— وه يا خوي …. أني بستِحي …. خصيمك النبي تعفيني من الچواب …
ضحك الحاچ “زكريا ” قائلاً :
_ بجالها تسع شهور متچَوزه ، و حِبْـلَه ولسه بتخچل من جوزها …. لكن جوليلي يا بتي … هو چوزك جالك هيعاود السُبوع الچاي فـ أوله ..و لا آخره …؟!
أجابت ” فتون ” فى رقة :
— فى أوله يا بوي … يوم الأحد باذن الله … أهو يرتاح شويه من الشغل ، جَبْـل ما يرچع المصلحة …
تحلى “زكريا” ببعض الجديه ، ليُلقي على مسامع الجميع ما خطط له ، ثم اختص “كـاشف”بحديثه :
— دلوجيت يا ولدي … الشغل بسم الله ماشاء الله .. زين و عال العال … و بدل الشهر اللى طلبته … بَجُـو تلاته … أني اتفجْـت مع خالك “چابر” …بكره باذن الله بعد صلاة العشا… أني و إنت و كل رچالة العيلة نتچمعوا عند خالك عشان كتب الكتاب …. كفاية تأخير لحد إكده … بنت عمك و ما جَصرت أهي موافجه …. و ولدها اللهم بارك عمره عدى السنتين ، و فطمته …يعني لا هيعطلك ولا عـيوجع راسك …. چهز حالك بَجى ، و متنساش نفسك فى الشغل زي عوايدك….
تجهمت ملامح “كـاشف” ، لتختفي ابتسامته الجذابه رويدًا رويدا … فهـا قد آن الأوان ، ولم يعد للتأجيل من مفـر ، ثم قال :
— أوامرك يا حاچ …
انطلقت الزغاريد التى ميزت أجواء الفرح ببيت الحاج “زكريا” ، تصف سعادة كانت على المحك ، وها هي الآن محل الواقع … لتتجاوب معها كافة سيدات المنزل من مسئولي المطبخ ، و غيرهن ….
ثم نهض “مصطفى” من مجلسه ، لتهنئة “كـاشف” بعقد قرانه حيث احتواه فى صداقة وطيدة :
— مبـــارك يا “كـاشف “….. مبـــارك يا صاحبي …. ربنا يتمم لك بخير … ويسعدك …. عقبالي يارب
استعاد “كـاشف” ابتسامته من خفة ظِل “مصطفى” ليقول :
— مستعچل جوي إكده…. ماشى يا خويا …. هچوزك إنت كمان .. هو يعني أني بس اللي هدخل الجَفَـصْ لحالي …. ودي تاچي برضه …. !!
…… لتعلو صيحات الفرح ، و الهتافات من الجميع ، بفرحة على وشك الوصول .
انتهى العشاء ليختلي “كـاشف” بنفسه …يفكر فيما هو قادم ، وهل هو على صواب إلى الآن ..؟! .أم أن ما يفعله سيجعل من أشواك خِـداعه سيوف من لهب ؟! …. لهب أبناء الصعيد …. لهب عائلة “الحمزاوي” …
قاطع سيل أفكاره ، و مخاوفه الدكتور” مصطفى” لينضم إليه قائلا :
— أنا عارف إنت بتفكر فى إيه … و إيه اللى قالقك … لكن تفتكر أن لسه قدامك اختيار ، أو حتى رفاهية الرفض …
أجاب” كـاشف” فى ثبات :
— رفض إيه بقى … ما خلاص …. و بعدين ، هرفض ليه ….!! … أنا الحمد لله اتعودت على البيت ده ، و العيلة دي بقوا أهلي …. ومش مقصر لا فى الشركة ولا المصانع … حتى الأرض براعيها بكل طاقتي …
الكل محتضنني .. إنت نفسك ، طلبت نقل عشان تكمل معايا …. يبقى إيه اللي يخليني أرفض …
أنا صحيح معرفش شكل العروسه ، بس إنت قابلت أختها و بتقول إنها قمر .. فأكيد شبهها ، و إن كان على الولد ، فهو يتيم … وأنا هعامله زي ابني ، و عمري ما هقصر فـ حقه …
صمت “مصطفى” هنيهه ثم أردف فى دهشه :
— يا اخى إنت اتكلمت عن كل حاجه … العيله ، والشغل ، والعروسه …. لكن مش واخد بالك إنك ناسي حاجه مهمه ؟!
تساءل “كـاشف” بحيرة و دهشه :
— حاجة إيه اللي نسيتها ؟!
استنكر “مصطفى” تناسي “مدحت” لأسرته الحقيقية و أبناءه ، ثم هتف فى ثِقـل :
— نسيت عيلتك يا بيه … بيتك …مراتك …ولادك ….. إيه …؟! خلاص مبقوش فـ حِسبِتك ، و لا هي قعدتك هنا نَسَّتك إن وجودك مؤقت ، مش على طول ….
شعر “مدحت” بالضيق من نفسه ، ربما حاول كثيرًا خلال الشهور الماضية أن يغُـض البصر عن ماضيه … رغم كونه قد عقد العزم على تكليف أحد الرجال بمراقبه زوجته ، لمعرفة ما الذى يحدث فى غيابه …. إلا أنه لشدة خوفه من الحقيقة ، قرر التغافل ، و حجب أسرار لتوضع فى طي الكتمان
— لا …مش ناسي …. بس إنت متعرفش المعاناه اللي كنت فيها من قبل ما آجى هنا … إنت متعرفش أنا ليه حاولت أنتحر …. صدقنى غيابي عنهم فى صالحهم ، لإني لو صدقت شكوكي …. المرة الجاية هقتلهم ، و أقتل نفسي .
اتسعت مقلتي “مصطفى” ، و شهق شهقه تصلبت لها الدماء فى عروقه ، ليحاول ابتلاع ريقه دون جدوى ….لذا صمت ….فـفي النهاية …تلك حياته الخاصه ، يفعل بها ما يشاء ..
انفرج الليل عن نهار مشرق ، بدأ كما المعتاد باجتماع على مائدة الإفطار ثم الرحيل للعمل …لينتهي سريعا و يأتي الليل ..
بعد أداء صلاة العِشاء ، اجتمع الحاج ” زكريا ” بأشقائه ، و أنسباءه… وولده “كـاشف” لزيارة شقيق زوجته “جابر” لاتمام عقد قران ابنته …
وبعد جلسة الترحاب ، و التهنئة …. حضر المأذون ليتمم الرباط المقدس خاتمًا حديثه بالجملة الشهيرة التى تسمو لها النفوس :
« بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير »
ثم انطلقت الزغاريد معلنه فرحة عائلة ” الحمزاوي” العريقة فى الصعيد …
تضرجت ملامح العروس “حميده” فى خجل وحياء ، فالآن فقط أصبحت مُوثقه على اسم ابن عمتها “كـاشف ”
لتشعر بالحنين الجارف إليه هامسة :
— والله و بَجالي نصيب وياك يا “كـاشف” …. لو كنت بس حسيت باللي فـ جلبي نِحيتك …مكنتش ضيعت من عمرنا تمن سنين وجع و ألم …. لكن ولا يهمك يا جَلبي … أني حفظتك چواته ، و هسعدك برموش عنيا يا جَلب “حميده ”
دلفت والدتها و شقيقتها الصغرى إلى الغرفه لتهنئتها ، فى حين ضمتها أمها إلى صدرها فى حنانٍ جارف هامسه:
— مبــارك يا بنت عمري … مبارك يا سعدي فـ الدنيا ….. شوفتي يا بتي …. مش أنا جولتِلك جَبْـل سابِج إن ربنا هيعوض صبرك خير… و أهـا بجِيتي على اسم زينة شباب الصعيد كُـلاته …. خلي بالك مِنيه ، وحُطيه فـ حبابي عنيكي ، و إوعك تجصرِي وياه عمرك …. فاهماني يا بتي …. وربنا يِهدِّي سِـرك و يچعله چوز الدنيا والآخرة ….
فى حين شرعت “حبيبة” فى الصياح بأعلى صوتها :
— عُجْبَــــالي يارب ….
لطمتها والدتها فى خِفـه على وجنتها اليمنى هاتفه :
— عيب يا بت … إنت لسه بدري عنيكي …. أطمن على أختك بالأول….
مطت “حبيبة” شفتيها فى دلال طفولي :
— وه يامَّـا ما انتوا اطمنتوا أهـا ، و كتب كتابها لسه كان من شـوي …. شوفيني أني بـَجَى ….
تململت والدتهما فى جزع قائله :
— يا مُــرِّي منك ابْنِتِـه ….. يارب أچوزها هى كمان و أخلص منيها ….
فى تلك الأثناء … طلب “كـاشف” رؤية عروسه لتهنئتها ، و الانفراد بها قليلا … فهـا قد تملكها ، و احتلت قلبه…. تنحنح بصوتـه الشجي قائلاً فى هيبـه :
— مـرت عمي ….. يارب يا ساتِـر …. أجدر أشوف “حميـدة ” و أتحدت وياها شويه ….
وافقت والـدة العروس فى سعاده قائله :
— طبعا يا ولدي … اتفضل ….. مبارك عليك يا ولدي …. دير بالك عليها … “حميدة” بتي زينة البنات كُـلاتها ، حنينة و طيبه ، و أني موصياها عليك يا ولدي ….و لو جَصرت … جوللي وأني أعرف شغلي وياها …..
أقبل “كـاشف” بهيئته الرجوليه الجذابه ، التى يرتجف لها قلوب النساء ، ليبتسم فى وسامة بجلبابه الصعيدي الأنيق … و لِحيته المُهندمه القصيرة ، و عيونه البارزه كما عيني الصقر ، ثم تحدث بنبرةٍ رخيمه :
— مُبارك يا عروسه ….. واجفه بعيد ليه ….مكسوفه مِني ياك …. ده أني چوزك دِلـوك ، و واد عمتك كمان …. چربِـي ….
سحبت الأم ابنتها “حبيبة” من ذراعيها بصعوبه ، وما إن خرجت كلاهما من الغرفه حتى زفرت “حبيبة” قائله :
— وه ياما … كنتي سيبينى أتفرچ …. شوفتي نظرة “كـاشف” لـ “حميده ” كلها حُـب كيف …. ولا حلاوته و شياكته .. أني أول مره أشوفه بالوسامه داي ..
نظرت الأم إلى ابنتها فى سخط هاتفه بغضب :
— اتحشمي يا بت …. بدل ما اشيِعلِـك أبوكي يشوف صرفه معاكي …. وِلْـد عمك اسم الله زينة الرچال ..طول عمره كيف البدر ، و أشيك راچل بالصعيد كُـلاته … وبعدين يا ختي … مستعچله على إيه … مش لما تُبجي تنفعي فـ العَلام أول …
أردفت “حبيبة” فى تحدي قائله :
— هنفع ياما … وهبجى دكتوره جد الدنيا ، و هتشوفي
وفى الداخل ، اقترب “كاشف” من “حميده” ، يتحسس وجنتيها الناعمتين ، ثم كشف الحجاب عن خصلاتها التى تحررت فى انتعاش ، لتتسع ابتسامته قائلا :
— تبارك الخالق فيما خلق ….. هو إنت “حميده” صُح ولا حوريه من الچنة …. چميلة لدرجة إن جلبي اللي عمره ما دج فـ حياته إلا مره ….. ليتذكر زوجته “فريدة” فى تلك اللحظه الفارقة حينما رآها مع غيره ، ثم نفض أفكاره البائسه ليحيا الواقع ، و يُنهي الماضي وما فيه
انتبهت “حميدة” إلى شروده ، لتهمس فى شجن :
— هو إنت لسه عـتحبها يا “كـاشف” ؟!
أجاب “كـاشف” فى تساؤل :
— هى مين داي ؟!
— “ضُحى” يا كاشف ..مرتك الأولانيه
أمسك “كـاشف” بكفي حميدة ، يضغط عليهما فى شغف ، ثم همس بجوار أذنيها :
— أني مش هچاوبك بالكلام …. أني هچاوبك بالفعل ….و إلتهم شفتيها الناعمتين فى قُبلـة حطمت جدار الغيـرة فى قلبها …. ليتوغل طويلاً ، يتشرب من خمر شهدها العذب الذى لا ارتواء منه ولا مفر….
دقائق عشر …. مضت و تلك الصورة الدافئة للحبيبين ثابته لا تتغير ، حتى شعر “كـاشف” بضيق أنفاس “حميدة” … ليبتعد قليلاً على مضض ….
أنفاسهما المحترقة بلـذة الوصال ، و الرغبة التى إلتهبت بجسديهما …كانت أدق الأدله على عشق “الكاشف” لعروسـِه … ثم همس بصدر يعلو ويهبط :
— عرفتي الچواب على سؤالك … ولا الچواب مش كفاية …. إن كان عَليْ أني أتمنى تجولي لاه …. و أني سدَّاد بعون الله ….
من فرط خجلها ، تمنت “حميده” لو تركض من أمامه و تختبىء فى معزلٍ عن نظراته ، إلا أنها فى حضوره لا يحق لها الرحيل ….
و ها هى تحيا السعادة التى لطالما تمنت أن يشاركها كاشفها من جديد …
أيام تمضى …. ليأتي يوم الزفاف … وما أجملها من طقوس …فقد تزينت البلدة بأكملها بالزينات احتفاءً بعُرس ابن عائله “الحمزاوي ”
و على أنغام المزمار الصعيدي ، و اهتزازات الطبل … تراقصت الخيول العربية الأصيلة بفرسانها ، وعلى رأسهم العريس الوسيم “كـاشف “….
فى حين تزينت “حميدة ” ، لتتفوق على القمر فى بهائها و تألقها …..
اكتملت الفرحة بإجتماع العروسين ، بعد ليلة شهد فيها القدر سعادة بعد طول شقاء ….
وها هو “كـاشف” يُسطِّـر بنقوش من مشاعر تمام الزواج ، وملكيته لزوجته …..
لحظات سعيدة ….و راحة تكللت بعشق ، ليؤكد القدر أن “كـاشف” يحيا مع “حميدة” أسعد أيام حياته … صفحات الماضي المغلقه سقطت عنه سهوًا …. وها هو لا يبالي ، و لن يتراجع ..
وفى إحدى الليالي …
قرر “مصطفى” اغتنام الفرصه ، و الحديث مع “حبيبة”، فقد ملكت مشاعره بخفتها ، و عذوبتها البريئة ليتذكر لقائه الثاني بها للحظات وجيزة يوم زفاف شقيقتها الكبرى “حميدة ”
قرر خلالها ألا يدعها تضيع من بين أنامله … ليُقرر التحدث معها قبل التصريح لوالدها بما يُكنُـه القلب ، وما ينتوي عليه ..
و فى اليوم التالي …. اعتذر عن الذهاب إلى المشفى ، ليجلس جوار المنزل ، ينتظر فى لهفه خروجها المعتاد …
و لحُسن الحظ …. لم يطل الإنتظار طويلاً ، فهـا هي تتهادى كما الريم الصغير فى رشاقه ، أقسم الجمال فى حضورها على أن ينحني …
ثم اقترب منها “مصطفى” فى لهفه مازحًا :
— يا ترى الغزال الشارد رايح على فين كده …؟!
شهقت “حبيبة” من الذعر ، لتهمس :
— وه …. بسم الله الرحمن الرحيم …. جرى إيه يا فندي … هو إنت هتفضل إكده لازِجلِي فـ الرايحه والچايه …. يكون فـ معلومك إنت لو مبطلتِـش تلاحِجني بالشكل ده ، أني هجول لأبوي … و هو يشوف شغله وياك ..
ابتسم “مصطفى” من جمالها الفاتن ، ليستكمل مشاكستها قائلا :
— ولو قولتِلك إني بحبك و عايز أتجوزِك … تقولي إيه ؟!
اتسع فاه “حبيبة” من جُـرأة “مصطفى” ، ثم هرولت فى حياء ؛ إلا أن “مصطفى” اعترض طريقها قائلاً :
— لأ … ما هو متحاوليش … أنا مش هسِيبك النهارده ، إلا لو رديتي عليا … وجاوبتيني ….
بقولك بحبِك وعايز اتجوزِك … قولتي إيه … موافقه صح ..!!
أجابت “حبيبة” فى دلال :
— ده إيه الغرور بتاعك ده …. فِـكرك إنك لما تجولي أني بحبِك ، و عايز أتچوَزِك … هَـجوم أتنطط من الفرحه … ليه يعنى …؟!…. هو اللي خَلجَك مخلجش غيرك …. طب أني مش موافجه … إيه جُولك بجى ….!!
عض “مصطفى”على شفتيه من شدة غيظه ، و ارتسمت ملامح الضيق على وجنتيه ليردف فى حده :
— هعتبر نفسي مسمعتش منك حاجه …. والنهارده هكلم أبوكي … ولما ييجي يسألك ..تقولي موافقه … فاهمه … تقولي له موافقه يا بابا …. و يوم ما يتقفل علينا باب هنتحاسب على كلامك اللى قولتيه ، و شفايفك دي اللى مستقويه بيها ، أنا هقطعهم من البـــ……
كتمت “حبيبة” أنفاس “مصطفى” بكفيها الرقيقتين قائلة فى حرج :
_ اسكت… إجفل خاشمك ده خالص … ده إنت طلعت جَلِيل الحيا …. وربنا أطُخك عيارين .
عض “مصطفى” على شفتيه فى وقاحة لم يعتاد التعامل بها ، ليجد فى نفسه تصرفات ظهرت حين أحيت الحسناء “حبيبة” بحسنها قلبه ؛ ثم همس بنبرة خفق لها قلبها :
— عيارين إيه ….؟! … ما تنطقي … ساكته ليه … لسانك كَلِته القطـة …. قولي .. أنا …بحبك …يا “مصطفى”…. يلا …
بِـتيـه كما لو كانت تحت تأثير خمر عينيه ، فاهت بما أراد ، ليقسِم “مصطفى” بـربه ألا يدع سواه ينل منها كزوجة أمام الله ، و أمام الناس
ابتسم من داخله ، ثم ربت على وجنتيها فى حنان قائلاً :
— إنتِ كنتي رايحة فين ؟!
أجابت حبيبة فى خجل :
— مش عارفه ….
— خلاص إرجعي البيت ، وأنا هكلم أبوكي النهارده و أطلب إيدك منه رسمي … إوعي ترفضي يا حبيبتى .. حبيبك يزعل … مش أنا حبيبك برضه يا حبيبتي ….؟!
تخلت عن كافة أسلحتها ، أسلمت القلب ، والروح لتتفوه بثغر باسم يتمناه :
— أني موافجة يا حبيبى …روح لأبوي دلوك …و جُـوله إنك عايز تتچوزني السبوع الچاي ..
حلَّـق فى السماء بفرحة لا يسعها محيطه ، ليفرد جناحيه كما الملاك الهائم فى بحور عشقها … و كيلا تنتصر الرغبه طالبها بالعودة إلى منزلها ، ليهرول إلى والدها و يُفاتِحَـه بأمله الذى لم يتبقى لـتحقيقه سوى لحظات …
وافق الحاج “جابر “….. لتكتمل ينابيع الهيام بزيجة “مصطفى و حبيبته “… و تُمطـر السعادة من قطراتها ما يسحر القلب و يرتضيه …
سُئل طبيب الغرام عن دواء العليل … فقال :
— قليل من صوته …. وسيزول التعب … و جرعة من الأمان …. وسينتهي الحزن إلى غير رجعه ….
و إن خيروك بين كافة المشاعر …. فلتختر الأمان سبيلا …..
لذا اصطفى الامان على الجميع … و أشرقت دنياهم ببدايات ، و استكمال البعض مما مضى .
مرت السنوات سريعة كما فتاة تقف على المنحدر ، لا هى تعود ولا هى تتراجع … إلا أنها حين سمعت صيحة الليث … دبت فى أوصالها القوة والعتاد ..
سنه تلو الأخرى …. سنة تودع سابقتها …. و السعادة مُقيمة فى رحاب الجميع… حتى أتمت دورتها عشرين دورة بعشرين سنه ….
وما أسرع عداد الزمن ….. و مرور الأيام ..!!
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.