رواية اهداب والماضي الفصل السابع 7 – بقلم سيلا محمد

رواية اهداب والماضي – الفصل السابع

— الفصل الســابـع « هــــروب »

…. مِن القسوة أن يُلام من فاض كأسه فسكب ما فيه…… أو يُعاب من أثقلته جراحه فطلب أن يُخفف عن نفسه بحـقٍ ليس له ، ومن غير الإنصاف أن يُؤمَـر المتألم بالصمت والتجاوز….. فالأيام كالمحاكم حين يتأتى الوقت المناسب …. تُسنـد القضيه إلى أهلها ، وبعد نُطق الحكم ….. تُرفع الجلسة …..

فى بادئة الأمر ، كان التواصل بين “فريد” و شقيقه المرافق لخاله “رأفت” أمـرًا اعتياديا ، يحدث بصباح و مساء كل يوم …..ثم اختل الميزان ، و حدثت الفجوه ….

دلف “فريد” إلى الشركة يشتاظ غيظًا من شدة انفعاله ، لا يكاد يحتمل رباط عُنقِـه ليخلعه عنه فى إهمال ، ولا زيه الرسمي ، تتصاعد أبخرة الغضب من عينيه كما الحمم الملتهبه .
ليُطالب سكرتيرة مكتبه الحضور بنبرة صارمة :
—” سها ” … تعالي المكتب حالا ….

ارتجفت “سها” من حِدة رئيس مجلس الإدارة “فريد” ، ثم ركضت إلى مكتبه بعد أن تأكدت من هندمة ثيابها :
— تحت أمرك يا فندم .

دون أن يلتفت صاح فى حده :
— عايزك تلغي كل مواعيد النهارده…. أجليها لبكره …. ومش عايزك تحوليلي أي مكالمات إلا من مدام “فريده” بس …. مفهوم …

أماءت سها برأسها فى طاعه ، لتتردد قليلا هامسة بصوت لا يكاد يُسمع :
— بس يا فندم …. بالنسبة لاجتماع حضرتك النهارده مع مدير البنك … أأجـــ…….

قاطعها “فريد “فى عنف :
— هو إنت مبتفهميش ولا أنا بتكلم صيني …. قولت أجِّلي كل الزفت النهارده …. مش عايز حد …. إنت فاهمه …. يلا على مكتبك …..

زفر أنفاسه الحارة الداله على قمة اشتعاله ، فى نفس الوقت الذى رحلت فيه السكرتيرة إلى مكتبها فى رعب …
بعد دقائق معدودة …. وصلت “فريدة” إلى المكتب ، لتقرر الدخول إلى شقيقها ، تحمل ملامح الارهاق و القلق ، ثم قالت :
— كده يا “فريد” ….. تسبقنى عـ الشركة مع إني اتفقت معاك نروح سوا .

لم يبالي “فريد” لحديث شقيقته ، لشدة انهماكه فى التفكير ، ليقرر السفر الى الاسكندريه ، ثم أجاب أثناء استعداده للسفر :
—” فريده “… خليكي إنت فـ الشركة النهارده مكاني…. أنا مسافر اسكندريه …. لازم أتأكد من الشكوك اللي جوايا …. ولو طلعت صح ، يا ويله مني ….
ثم رحل فى سرعه تُشيعه شقيقته بعيون دامعه يكسوها القلق …. فالرحيل لا يزال الخنجر الذى لا يفتىء عن إصابتها دون أن يكِل أو يتعب .

انطلق” فريد” بسيارته الى الاسكندريه ، حابسًا أنفاسه ، ينصَب چُـل تفكيره فيما حدث من ثلاث أيام على التوالي ، ليعود بذاكرته إلى الوراء قليلا ……..

اعتاد الاتصال بشقيقه للاطمئنان عليه ، حتى يصفو ذهنه ، ويهدأ قلبه الذى لم يعتاد الغياب بعد … ولكن صِفير الهاتف المعتاد لا يزال على وتيرته يُنبىء بعدم الرد …
ظن “فريد” أن عدم الرد لانشغال خاله بالعمل …ربما يُصادف الأمر عدم تواجد زوجته بالبيت … ليقرر التواصل معه لاحقًا ….
ولكن ما حدث تكرر لمرات لا عد لها … مرات لا تُحصى على مدار ثلاث أيام ، حاول” فريد” الاتصال بشقيقه الصغير على هاتفه الخاص ، أو هاتف خاله ، أو هاتف زوجته …… او حتى هاتف المنزل … إلا أن الجواب القاتل …. كان” عدم الرد” …
لينشب القلق جدران قلبه ، و تعصف الحيرة بحروف التساؤل …
وفى النهاية ….. هَداه تفكيره الاتصال بجاره العجوز الحاج “شوقي” ، الذى كثيرا ما غمـره بالحنان والعطف ….
وكان الجواب مُجحفًـا لعقله … يتآكل فى غيظ
— ألــو …. ازيك يا حاج شوقي …. طمنى عليك أخبار صحتك إيه يا رجل يا طيب … الحمد لله والله كلنا بخير … خالي … ماله خير. …. انا كنت لسه هسأله عنه … كَلِّمُته كتير مردش ….. بتقول إيه …. ؟!…. إنت متأكد يا حاج شوقي …..؟! …… طيب أنا جاي اسكندريه أشوف المهزله دي …..

و انتهى الاتصال بإبلاغ الحاج” شوقي” ، رؤيته للأستاذ “رأفت” بصحبة “لـؤي” حاملا حقيبتي سفر ، ليرحل معه فى توتر و قلق بالصباح الباكر لهذا اليوم….
فى بداية الأمر ، تصور “فريد” أن خاله سيرحل فى جولة سياحية مع بعض الأفواج كما اعتاد بعمله ، ففي السابق سافر مع الصغير إلى أسوان ….ربما تلك المرة الرحله الى احدى محافظات الحدود ….إلا أن حديث الحاج “شوقى” عن زوجة خاله قد أصاب قلبه بالرعب …
— والله يا بني …. أنا مكنتش عايز أشغِلك ولا أقلِقك …..لكن لما شوفت مرات خالك دموعها على خدها ، و خارجة من بيتها من خمس أيام ، بعد ما سلمِت مفاتيح البيت لخالك قُدام عيني … ده اللي خلاني أقول جوايا …. إن فيه حاجه مش طبيعيه …. فكان لازم أتصل بيك و أبلغك …. يجوز حصل حاجه لا قدر الله ، و دول برضه أهلك وناسك ….

اتصال كان من شأنه قلب الأمور رأسًا على عقب ، ليسقط “فريد” فى دوامة الشك ، لذا قرر السفر الى الاسكندريه لمعرفة ما يحدث خلف الستار من أمور يجهل بها….
وصل “فريد” إلى منزل خاله بعد رحلة استغرقت أربع ساعات متواصله … ثم ترجل من سيارته ، ليفتح الباب بمفتاحه الذى أقرضه إياه خاله حرصًا منه على العوده ، منذ أن رحل عنه ليرافق شقيقته و أبنائها فى منزلها …

دلف إلى المنزل ليجد الأثاث مغطى بكِساء أبيض اللون ، يُفيد برحيل قاطِـنيه ..
انطلق “فريد” فى كل الحجرات ، يُـفتش عن شقيقه دون جدوى …
ليهبط إلى الأسفل حاملاً إحدى التحف ، و محطمًا إياها فى عنف ….
ربما الصوت الصادر عن التحطيم كان قويًا ، إلا أنه قد لا يزعِج من سواه …. إلا أن المفاجُآت لم تقتصر عند ذلك الحد …. و إنما تعدت إلى ما هو أسوء ….
فقد دلف إلى المنزل أحد الأشخاص مجهول الهويه ، تفرس بملامح “فريد” فى دهشة ، ليهتف فى رعونه :
— إنت مين يا رجل إنت ، و دخلت البيت إزاي … و إيه اللى إنت كسرته ده …. أنا هبلغ البوليس …

جذبه “فريد” من ياقة قميصه ، ليهتف فى غضب :
— هو مين اللي يجيب البوليس لمين … ؟! … أنا اللي عايز أعرف إنت مين ، وبتتكلم كده على أي أساس و كأن البيت مِلكك ….!!

صرخ الرجل فى وجه “فريد” قائلاً :
— أيوة بيتي ….. بيتي و ملكي ….. إنت بقى واقف فيه بأي صفه ….؟!

اشتد غيظ “فريد” ، ليقبض على عنق الرجل فى شده مُردفًا :
— إنت مجنون …. ؟! …. جاي تتهجم عـ البيت من غير خوف ، و لا كأنك فارق معاك …. البيت ده له صاحب … ولو عرف باللى عملته هيوديك فـ داهيه …

حاول الرجل إلتقاط أنفاسه ليهمس :
— يبقى أنا اللي هوديك فـ داهيه لأن أنا صاحب البيت ، و اشتريته من شهر ، و دلوقتي ناوي أنقل فيه أنا و مراتي

اختل توازن “فريد” ، ليستند على الجدار من هَـول ما سَمِع ، ليُخفف الضغط عن الرجل…. ثم تساءل فى ريبه :
— بتقول اشتريته من شهر …. !!….. مين اللي باعهولك …؟!

لاحظ الرجل الذى تحسس عنقه بأنامله ، الخيبه على ملامح “فريد “، ليشعر ببعض الشفقه تجاهه ، ثم تحدث إليه فى لين :
— أنا اشتريت البيت مفروش من الأستاذ “رأفت” ، بعد ما عرف إني بَـدور على شقه …
الشركة اللي بشتغل فيها فتحت فرع جديد هنا ، و أنا من أسوان …. ومكنش قدامى حل غير إني أدوَّر على شقه عشان أنفذ النقل …. كلنا فاتحين بيوت يا أستاذ زي ما إنت عارف … ولو ضاعت الوظيفه مش سهل عليا ألاقي غيرها زي ما إنت شايف .

إلتمعت الدموع فى عيني “فريد” ، ليسأل الرجل :
— و إنت تعرف الأستاذ “رأفت” منين ؟!

أجاب الرجل فى صدق :
— ما هو أنا اتنقلت هنا مكان الأستاذ رأفت ، لأنه قدم استقالته من الشركة …. و عرفت منه إنه ناوي يبيع بيته
….قولت خير وبركه … و فرصة ؛ و جت لغايت عندى..
أنا دفعت له نص المبلغ و الباقي اتفقت معاه ، يكون تقسيط على ٣ سنين …. أكيد إنت تقرب له …. و مكنش عندك علم باللى حصل …
على فكره أنا أقدر أوريك عقد البيع ، علشان تتأكد ..

لم يكن فريد بحاجه الى إثبات فقد تخلل الشك بقلبه ، ليثبُت بما حدث … لذا اعتذر للرجل … ثم رحل قاصدًا منزل زوجة خاله المُخـادع ..

و فى منزل أسرتها ، قابل والديها اللذان أكدا عدم رؤيتهم لابنتهم منذ عودتهم من بيت الله الحرام بعد آدائهم لفريضة العمره ….
كانت ملامح كليهما صادقه توحي بالذهول من غياب ابنتهم ، فكيف لها السفر دون علمهم بذلك ….
تــيه … وصدمه تجاوزت قدرته ، ليتبين لـ “فريد” كذب خاله ، و خداعه ..
ليعـي أن زياره “رأفت” له فى القاهرة دون زوجته …ما كان إلا خطة حقيرة رسم بُنودهـا منذ زمن ، ليحققها فى الواقع مستغلاً محبة “فريد” له ، و ثقته الكبيرة برعايته لـ لـؤي …..
و أن حديثه عن تواجد زوجته بمنزل والدها بحجة سفر الوالد لإتمام أركان الدين .. والعناية بوالدتها لحين عودة الأب ما كان إلا مشهد من مشاهد تلك المسرحية المبتذله عنوانها ” ثقة على المحك ”

رحل “فريد” منكس الرأس ، ليُحدِث فريدة عما علِم ، و التى أشارت عليه بإبلاغ الشرطة …
وقد استحسن هذا العـرض ، و وثَّقـهُ بالتنفيذ دون جدوى .
أيام تمـر عَلِم خلالها “فريد” برحيل خاله إلى تركيا …. ليجثم الأمر على صدره …. ويضيع أمله الأخير فى الاجتماع بشقيقه الصغير إلى الأبد …..

مرت الشهور …. شهر يلى الآخر ….
تقبل خلالها “فريد” الواقع المرير ، ليعود إلى دنياه التى شكَّلـها مع شقيقته ، و العمل الذى غُرس فيه حد النخاج

أما فى الصعيد …. تلك البلدة الشامخة بهامات أبناءها … فالأمور اختلفت إلى أقصى الحدود ….
يومٌ يعبر …. يَلحق به الآخر …. أظهر الترابط الحميم بين أفراد عائلة الحمزاوي …. ليتعمق “مدحت” بتلك الأسرة ، و يلتمس فى جوارهم أُلفـه لم يحياها من قبل
ورغم أنها ليست جذوره … إلا أنه تعايش معهم كما لو كان ابنها الأصيل ….
انتهت أيام الإجازة التى قصدها الدكتور “مصطفى” ، ليقرر تجديدها من جديد … فى حين كان يتحدث مع الدكتور “سمير ” و يبلغه بمُجريات الأمور بإنتظام دون تردُد ….

وفى غضون ذاك الرحاب ، اتسعت ابتسامة الحاجه “أنهار”_ والدة كـاشف _لعودة وليدها إلى قلبها ، فى حين استقرت حالة الحاج “زكـريا” الصحية من بعد العوده ….
هدوء خارجي يعكس نشاط غير عادي بذاك المنزل الشامخ الذى يشبه القلعه …. ليهبط الحاج “زكريا “الدرج فى هيبة ، ثم هتف بصوته الشجي :
— يا چَبـل ….

دلف إلى المنزل أحد الرجال مفتول العضلات ، صلب الملامح ، ليقف أمام” زكـريا “فى احترام :
— أوامرك يا حاج …

حدجـه’ زكريا” بنظرات ثاقبه قائلاً :
— چَهزلي “أدهم” …. وثبت عليه السَرچ چـامد …. ولدي “كـاشف” رايد يركبه بعد شوي …و خرج “عزيزة “كمان عشان هركبها …. يلا … نفذ اللى جولتلك عليه …. يلا ….

……العمل فى ذاك المنزل يسير على قدمٍ وساق ، لإعداد المائده بفطور صعيدى أصيل … فى حين هبط “كـاشف” يصحبه الدكتور” مصطفى “فى رضا ، لتتأمله والدته الحنونه فى عذوبه يرافقها دفء الحنان :
— يا صباح الورد يا ولدي …. يا صباح الهنا … يا صباح البركه …. الدنيا كلياتها عـتصبح عليك يا نضري .

استكمل مصطفى التحية بخفة ظله :
— يا صباح اللي بتغني ….

انطلقت الضحكات من الجميع ، ليتعمد “مصطفى” العبوس ، فـمطَّ شفتيه كما الاطفال قائلا بتبرم :
— والله أني ما عارف كيف هفُـوتكُم وأمشى إكده…. ده أني خلاص اتعودت عليكم ، و على أكلُـكم ، و لهچتكم … و الله ما عاد ناجصني إلا العروسه …. ما تچوَزني يا حاج “زكريا” ، و أهي تُبجى فرصة و سبب إني معاودش البندر ….. جولت إيه ؟!

تهللت ملامح الحاج” زكريا ” لما يحمله من مشاعر لـ “مصطفى” جعلته فى منزلة الابن ، ليقول فى حماس :
— بس إكده …. غالي و الطلب من الغالي أغلى …. شاور إنت بس عـ العروس و أني أچوزهالك النهارده …. و دِلوك لو حبيت ….

ابتسم “مصطفى” ، ليُربت على صدر الحاج” زكريا “فى امتنان ، و محبة صادقة تكونت خلال الأيام المنقضيه ، ليقول :
— أد القول يا حاج والله … و ده طبعا شىء يشرفني …بس زي ما حضرتك عارف أنا عندي شغل ، و أجازتي خلصت ولازم أرجع …. والحمد لله اطمنت على “كـاشف” وبقى زي الفل أهو .

اقتربت الحاجة” أنهار “من ابنها الوحيد “كـاشف” تحتويه داخل صدرها فى عشق أم قائله :
— إنت تمد أچازتك يا دكتور …. و نخطب لك عروسه زينة من عندنا إهنه …. جِريب جَوي فرح ولدي ، و أملي إنك تشرفنا بوچودك …. حاكم أني خلفت ولدين إسم الله عليهم … “كـاشف و مصطفى “…..

جفت الدماء فى عروق “مدحت” حين سمع نبأ زواجه من والدته ، ليقول فى هدوء مصطنع :
— الله يبارك لي فيكي يا حاچه …. و يديك طويلة العمر … بس موضوع الچواز ده لسه بعيد …. و أوانه لسه مچاش … وان كان على الدكتور ، لو عايز يتجوز حدانا …. يُبجى يا زين ما اختار ….

تسلل شىء من العبوس إلى ملامح أنهار ، لتهتف فى دهشه :
— ليش يا ولدي تجول إكده…. ده لولا إصابتك الفتره اللى فاتت ، كنت دلوك فـ حضن مرتك … كانك تغيرت ، ولا غيرت كلمتك ….. لاه ….. ابن الحاچ “زكريا” لا يمكن يرجع فـ كلمته … و إنت خابـِر زين …..
إحنا وجفنا عند كتب الكتاب …. و دلوك ما شاء الله يخزي العين بجيت كيف الوتد ما تنحني ، عشان إكده يا حاچ “زكريا” اللي اتجفنا عليه من أربعين يوم ، نتممه ، والفرح يِعـاود دارنا من تانى …..”

مأزِق …. لا مَناص من الفكاك منه … ليطالب “مصطفى” “مدحت” بالتمهل ، وعدم الجِـدال … فقط بنظره احتوى الموقف …. إلا أن الحاج “زكريا” انتبه كما الصقر للإشارات المتبادله بين ابنه و الطبيب ، ليصمت دون حديث يُذكر ….
تقدمت إحدى السيدات من المجلس للابلاغ بإفتراش الطعام على المائدة الكبيرة ..ليتربعوا جميعا على مقاعدها .
تخلل ذاك الاجتماع الصباحي أطراف الحديث ، لينهض الحاج “زكريا” إلى مزرعة الخيول متسائلاً:
— إلا صحيح يا دكتور… ليك فى ركوب الخيل ، ولا تهابـه ؟!

ابتسم “مصطفى” فى حرج ، لعدم قدرته على امتطاء أي دابة قائلا :
— والله يا حاج … أنا فارس ابن فارس … بس فـ أحلامي بس ….إنما الواقع بيقول إني بخاف أركب حتى الحمار لا مؤاخذة ..

بِـثغر تملكته بسمة غامضة ، أجاب الحاج “زكريا” فى قوة :
— يُبجى خلاص يا دكتور …. خليك حدانا لحد ما تُبجى فارس كيف ولدي “كـاشف ‘… يلا يا ولدي … أني عارف إنك اتوحشت” أدهم “…. بينا نشوفه ….

انطلق ثلاثتهم لرؤية” أدهم “، فى حين انحن” مصطفى” على “مدحت” قائلاً :
— مين “أدهم” ده …. إبنك ؟!

صفعه “مدحت” بنظرة استنكار قائلاً :
— و أني إيش عرفني … ما إنت اللي ورطتني الورطه داي …..

لم يبالي” مصطفى” بحنق” مدحت “، ليردف فى مرح :
— لا ….بس حقيقي متنكرش إنك استفدت من القعده هنا جو نضيف ، و أهل بيحبوك ، و هيبه ، ومكانه ، و لا لهجتك … ده إنت بقيت صعيدي صرف يا جدع

بنظره فاترة ، و ابتسامة صفراء أجاب” مدحت” :
— سَمِـج ….

لم يكن “مدحت “على علم بهوية” أدهم “، يتساءل بنفسه … تُرى من يكون أدهم ، و إلى أي درجة تصل علاقتهم ….
وفى الطريق …. حاول “مدحت” أن يكشف أغوار “زكريا “…. ليقول :
— حَجيجي يا بوي” أدهم “وحشني جوي …. ليه يا حاچ مجولتلوش ياجي حدانا لحاله ….أهو نشرب الشاي ، و نتحدت وياه ….

أطرق الحاج “زكريا” رأسه فى صمت ، ثم أجاب فى بطء يقصده :
— دلوجيت اتشوفه و تتحدت وياه لحالك … و خلي العتاب عـ جَـدر المحبة يا …. يا ولدي …

اصطف السائق السياره جوار المدخل الرئيس للإسطبل ،
فى حين هبط الجميع من السياره ، قاصدين المدخل
ليرحل الحاج’ زكريا “بالدكتور “مصطفى “موجِهًا حديثه إلى ” كـاشف ” : :
— إتفضل يا دكتور …. يا أهلاً و سهلاً …. نورت …
إهنه راح تشوف” أدهم “… تعالى يا ولدي … ده اتوحشك جوي جوي ….

وداخل الإسطبل … تطلع “مدحت” إلى جميع زوايا ، وجُنبات المكان فى محاوله منه للبحث عن صديقه المجهول ، إلا أنه لم يجد سوى الخيول المصطفه إلى جوار بعضها فى انتظام منمق ينم عن عبقرية المسئول ….. ليهتف مدحت بصوته الرخيم قائلا :
— هو فين” أدهم” ده يا بوي…. إلا ماني شايف إلا الخيل إهنـه …. ده أني فكرت إنه بيأكل الفرس إياك ….

لم يستجب زكريا إلى حديث ابنه ببنت شِفه ، ليقترب من أكبر الخيول ، و أكثرهم قوة …. ممسكًا لجامه قائلا :
— أعرفك يا دكتور …. الفرس اللي جدامك ده يُبجى “أدهم” ….. فرس ولدي “كـاشف” اللي دايما يركبه ، و يتحدت وياه …. ما تاجي يا ولدي تسلم عليه و تشرب الشاي

انفلتت ضحكة ساخره من” مصطفى” ، حاول مرارًا أن يتكتمها بداخله ، لتتجهم ملامح “مدحت” فى عبوس متلعثمًا :
— ما تأخذنيش يا بوي … الأمر اختلط عليا …. مكنتش فاكر إنك تجصد بكلامك الفرس …. أصل أني حدايا واحد صاحبي اسمه” أدهم “، و استغربت إنه چِـه إهنه من دون ما يجُول …. عشان إكده كنت مستغرب إنه يطلبني أچيه ، وهو عارف البيت الكبير….

صمت …. و نظرات غير معلومه …. و حيره …
تلك المشاعر التى سيطرت على الموقف ، ليتخطى” زكريا” كليهما ، آخذًا بزمام الفرس إلى الخارج …
وما إن وطأت قدماه الساحة الواسعة المقابله للإسطبل ….حتى نادي على ابنه كـاشف ، الذى كان تائهًا ما بين الخوف و القلق ……عيناه الزائغة ما بين والده و الدكتور “مصطفى” ثم همس أثناء خروجه :
— ده باينه هيُبجى مرار طافح .. …چايلك يا بوي ….

ثم لحق بوالده الذى طالبه بإمتطاء” أدهم” قائلاً:
— تحت أمرك يا بوي ….. يلا يا “أدهم” … خلينا نصطبح ، و نلف شويه فـ تكعيبة العنب

إلا أن” أدهم” صهل صهيلاً عاليًا ينُـم عن رفضه لفارسه ، ليحك الأرض بقدميه فى غضب ، مرتكزًا على خلفيتيه ، فى حين هجم على “مدحت” ، الذى تراجع إلى الخلف تجنُّبًـا لذاك الهجوم العدائي
انتبه الحاج” زكريا” لذلك التصرف ، أو ربما توقعه ليهتف فى” أدهم” مُحذرًا :
— إوعاك يا” أدهم ” …. إرجع مطرحك ….
ثم اقترب من ابنه ليطمئن عليه فى حنان جارف :
— إنت زين يا ولدي….؟!…. طمني عليك …..

أجاب “مدحت “بنبرة مرتجفه :
— أني زين يا بوي …. متخافِش …. الله ستر الحمد لله ، لكن هو ليه أدهم عمل إكده ؟!

أجاب” زكريا ” بحكمة رجل تعدى عمره الستون بقليل :
— يمكن زعلان منيك لغيابك عنيه …. ولا تزعل حالك … هيرُوج و يِصفى … تعالوا نشوف الأرض و الفلاحين ، ولا تحب ترچع الدار الكبير …!!

أجاب “مدحت” فى سرعه برغبته رفقة والده ، فى حين استأذن “مصطفى” العوده ، لضرورة إجراء مكالمه هاتفيه إلى القاهرة ، وخاصه بعد تناسيه لهاتفه فى غرفته ….

نظرات متبادله بين الحاج “زكريا “، و “مدحت” تشف عن مشاعر غريبة تسللت إلى قلبيهما ، ليربت” زكريا” على كتفه قائلا :
— متشكر جَـوي يا ولدي …. ربنا يراضيك ….

تملكت الدهشه ملامح “مدحت” لجهله عن سبب عبارات الشكر ليردف :
— بتشكرني على إيه يا بوي …؟!

أجاب” زكريا ” فى حنان :
— بشكرك على رچوعك لينا من چديد ….. دخلتك الدار فرَّحِت جَلب أمك ، وكل أعمامك … والعيله و البلد كُلاتها
… عايزين نتحدت فـ موضوع چوازك …. إنت ايه صرفت نظر …..؟! ….. “حميدة” زينة الحريم يا كـاشف ….عروسة تِشرِح الجَلب ….. و لا يعنى إكمِنها أرملة ، تجُوم تبيع و تشتري فيها ….. لاه يا ولدي …. الحديت ده إحنا اتكلمنا فيه جَبْـل سابج ، و إنت بنفسك وافَجْت ، و قولت إنه مش فارِج معاك …. يُبجَى ملوش عَازه نِمـاطل من غير سبب ….

تفكر “مدحت” قليلاً ، ليحاور نفسه بين تلافيف عقله ، إذن فتلك العروس أرملة ، و لابد أن ذاك” الكـاشف” لم يُمانع تلك الزيجة …. لكن كيف يتزوج ، و فى نيته البقاء بين أفراد تلك العائله لفترة محدوده ، ثم العوده الى أسرته، بعد كشف غموض عشيق زوجته فريده ، لينتبه الى والده الذى لا يزال يتحدث …ثم جاوبه :
— أني شايف يا بوي بعد رأيك طبعا… إننا نأچِل موضوع الچوازه داي شويه … ونركز على شغل المصنع الچديد …. أوعدك يا بوي إن الربح يعوض التكلفه فـ أجل من سنة ….

تهللت أسارير زكريا لنشاط ابنه الغير معتاد ثم قال :
— شايفك يا ولدي بجيت اللهم بارك نشيط ، و داخل عـ الشغل بجلب چامد … و ده مفرحني ، لكن موضوع “حميده” لازمن يخلص كيف الشغل … أني اتفجت مع أبوها ، و ده مهما كان خالك ، و ميصحش العالم تاكل وشنا …. يجولوا ايه…. الحاچ” زكريا” ، و ولده ملهمش كلمه ….. ترضاها لأبوك يا “كـاشف “….؟!

أجاب “مدحت” بإحترام صادق :
— لاه يا بوي …. لا عاش ولا كان اللي يجَصِر رجَبْتك … أني تحت أمرك ….. بس يعنى لو استنينا شهر واحد بس مش هيُحصل حاچه … نكون وجَّفنا المصنع على رچليه ، عشان كمان أكون متفرغ للچواز …. مهما كان برضه مسئوليه ، و محتاچ بال رايِج ….

وانتهى الحديث إلى ذلك الحد ، ليذهب” مدحت” إلى المصنع ، وينغمس فى عمله حتى النُخاع … فى حين اتخذ الحاج” زكريا “طريقه الى أراضيه الشائعه يُشرف على الفلاحين ..

عاد الدكتور” مصطفى” إلى البيت الكبير ، ليصطدم بإحدى الفتيات تتلفت حولها يمينًا و يسارًا فى مشهد مُريب ، ليقف “مصطفى “حائِلاً بينها وبين باب الخروج متسائلا :
— إنتِ مين يا آنسة …؟! … ومالك كده بتتلفتي يمين و شمال … ؟! …. لا تكوني عامله مصيبة ولا هربانه من حاجه ….؟!

رفعت الفتاة هامتها ، بعينيها السوداء التى تزينت بالأثمد العربي الأصيل ، قائلة فى شجاعه :
— حيلك …حيلك …يافندي…. هي مين داي اللي هربانه و بتتلفت حواليها ….. و بعدين مصيبة إيه اللي بتتكلم عنها ….. مصيبه لما تبجى تشيلك …. باعد عن طريجي أحسنلك …. أني بجولك أهو …. راچل غَتِيت صحيح ….
ثم رحلت راكضه فى لمح البصر ، تُطلق ضحكاتها العذبه فى المكان قائله :
— إبجى جُول لعمتي إنك إنت اللي كسرت مزهرية “لويس التاسع” اللي فَلجـانا بيها ….. أني مليش دخل ، ولا ليا يد … الغريب هو اللي عملها ”

و اختفت بين المروج …. ليقابل “مصطفى” كفيه فى دهشة حائرة من تلك المجنونه الشقيه التى ظهرت كما عفريت المصباح لتتلاشى كما الضباب بلا أدنى أثر …

انطلق “مصطفى” إلى الداخل … صافرًا بشفتيه فى مرح …ليلتقي بسيدة المنزل الحاچه” أنهار “، التى رحبت به كما اعتادت ، ثم بادرها بسؤاله قائلا :
— بقولك يا ست الكل …. كنت عايز أسأل سؤال …. وأنا داخل القصر …. قابلت بنت عماله تتلفت حواليها ، و مره واحده طلعت تجري كده …. حضرتك تعرفيها …؟!

ابتسمت” أنهار “فى طيبة دافئه ، قائله :
— دي “حبيبة” بنت أخوي “چابر” …. هى طول عمرنا إكده هبله ، و عجْلها طاير مِنيها ..بس والله طيبه وبنت حلال … هو بس لسانها فالت حبتين ….

ابتسم “مصطفى” قائلا بتصحيح :
— حبتين بس …. !! … قولى عشرة.. عشرين … ثلاثين حبه قبل الاكل ، و بعده …

انطلقت ضحكات” أنهار” مُجلجله فى أرجاء المنزل ، تنم عن سعادتها الكبيرة ، لتردف :
— يسعد جلبك يا ولدي ….. دمك شربات …من يوم ما چيت و أنى والله بعتبرك كيف ولدي “كـاشف” ، عشان إكده كنت عايزه أتحدت وياك فـ موضوع …لو يعنى مش هَتَجِل عليك ….!!

ابتسم” مصطفى” ليُطالب السيدة” أنهار” بالجلوس ، ثم قال :
— اتفضلي يا ست الكل …. أنا سامعك ….

تنفست السيدة” أنهار “الصعداء ، ثم تحدثت بقلب أم تتمنى سعادة ولدها الوحيد :
— إنت عارف يا ولدي … أني مليش إلا ولدي “كـاشف” … على إخواته البنات ….هو نور عيني اللي عـشوف بيها ، عشان إكده نفسي أفرح بيه ….
مش كل البنات زي “ضُحى “…. و الموضوع ده إِتْجَفل من سنين ، وهي راحت لحالها …. يُبجى ليه يفضل إكده …. جَبْٕل الحادثه … كنت خلاص اتكلمنا مع خاله ، و اتفجنا … و هو كان موافج على “حميدة ” ، و جَرِينا الفاتحة …. يوم لما ربنا يجومه بالسلامة ، بدل ما يجبُر بخاطر البُنَيه … عايز بكسرها و يجصر رجبتنا …و يفضحنا وسط الخلج…..كلمه يا ولدي … إنت مهما كان الدكتور بتاعه ، و صاحبه …. هو هيسمعلك …. أني مش رايداه يدخل فـ خلاف مع أبوه ….

إلتزم “مصطفى”الصمت التام ، لحين إنتهاء “أنهار ” من حديثها ، ثم تساءل :
— هى مين “ضحى” يا حاجه ..؟!

أجابت “أنهار “فى هدوء :
— مرت كاشف الأولانيه …. حاكم “كـاشف” كان متچوز بنت عمه” عسران” … وكان يحبها جوي … بس هى كانت مدلعه ، و سايْجَـه الكِبر و الغرور …. مَلدِش عليها تعيش وسطينا … معلوم … هى بنت بلاد بره ، هتجدر برضه تسيب أَروبا ، وتعيش حدانا كيف …..

تساءل” مصطفى” للمرة الثانيه :
— هى كانت عايشة فـ أوروبا ….؟!

أجابت” أنهار “بنبرة حزينه :
— إيوه يا ولدي …. كانت عايشه مع أبوها و أمها فـ أمريكا …. ولما رجعوا يِجْضوا الأچازه بتاعتهم إهنـه ، وشافها “كـاشف” عچبته ، و إتْعلـج بيها …
على طول كلم أبوه ، وطلب يدها لكن عسران رفض …. أمها اللي وافَجت طمعانه فـ ولدي …. واللي هيُبجى بتاعها لما تتچوزه ….. أني يعلم ربنا مكنتش راضيه عن الچوازه دَاي …. وياما كلمت الحاچ” زكريا “و حذرته ، ورغم إن عمره ما رفض لي طلب ، ولا كسرلي كلمه ….وافَج ….و حاول يقنع أخوه ، و هدده إن رفضه ده مش هيسبب إلا جطيعه بيناتهم ….
و البنت أمها فضلت تزن فـ ودانها ..لما وافَجت …
الشهادة لله ….. أول سنه كانوا مبسوطين زي السمن عـ العسل …. لكن بعد إكده بدأت المشاكل … و خلَّـت حياته چحيم ، و لما فاض بيه ، ومن العنـد مره ، و المسايسة مره …. طلجها و عاودت أروبا من تاني… ومن وقتها وهو جافل الموضوع ده خالص ….

أومأ “مصطفى” برأسه علامة التفهم ، ثم أردف :
— وهو طلقها بقاله أد إيه ؟!

أجابت السيده” أنهار “فى رحابة صدر وتمنـِي :
—سبع سنين …. وچع جَلبي عليه … أبوه تعب وياه … يكلمه ، و يترچاه … لكن مفيش رچا …. إلا من سنة …. لما “حميدة” بنت خاله چوزها مات….
البنِـته زينة ، ولِـساتها صغيره ….. وملحجِـتش تفرح ، لأن چوزها مات بعد چوازهم بشهرين …. وحرام تعيش إكده بجالها ٣ سنين زاهدة الرچاله ، ورافضة تتچوز ….
أبوها جلبه واچعه عليها ، ونَفسه يطمن عليها ، ولما كلمني …جولت ده يُبجى يوم المُنى … و طوالي حددت الحاچ عنيها ، و رحب جوي … ولما جولنا لـ “كـاشف “….. هو كمان وافج … و جبل الحادثه بيومين كنا متفجين على كتب الكتاب …..

تخطى “مصطفى” الهواجس التى باتت تؤرقه بإنغماسهم فى تلك البلدة ، بعد أن كان على عزم ونيـه بالعودة إلى حياته السابقه إلا أنه الآن لا يتمنى أن يبرح محله …ثم ابتسم الى تلك المرأة الحانيه :
— هى العروسة عندها كام سنه ؟!

— ٢٥ سنه

استنكر” مصطفى ” ما سمع ليقول :
— بس يا حاجه ….كده حرام و ظلم للبنت … فرق السن مش قليل بينهم …. بلاش تستعجلوا …..

ضيقت” أنهار “ما بين حاجبيها ، لتقول فى دهشه :
— فرق سن إيه يا ولدي اللى كبير…. “كـاشف ” ولدي أكبر منيها بسبع سنين بس …. يعنى هو عنده ٣٢ ….و أني مش عايزاه يتأخر فـ الجواز أكثر من إكده…. نفسي أشيل عياله جَبل ما أموت ….

عنَّـف “مصطفي” حديثها السابق لمحبته لتلك السيدة الحنونه ثم قال :
— بعد الشر يا ست الكل …. ربنا يديكي الصحة و طولة العمر …. أنا هكلمه ، و أشوف ماله …. بس اعذريه …أي نعم هو اتحسن جسديًـا ، لكن نفسيًا لسه شويه برضه …. و أوعدِك هقنعه .. ويتجوز ، و تشيلي أحفادك باذن الله قريب ….

شعرت” أنهار “بالارتياح ، لتهتف فى سعاده :
— يسمع من بُجَّـك ربنا يا ولدي …. ربنا يهديه و يسعده ، و أفرح بيه و بيك إنت كمان … ثم غمزت عينيها فى مكر هامسة :
— على فكره …..”حبيبة ” تُبجى أخت”حميدة” الصغيره …. وياسعده ياهناه اللي تكون من نصيبه … عروسه كيف الجمر …..
……. لتتركه بين أفكاره ، و تأملاته .

الفصل التالي اضغط هنا

يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق