رواية اهداب والماضي الفصل التاسع 9 – بقلم سيلا محمد

رواية اهداب والماضي – الفصل التاسع

— الفصـل التــــاسـع « مصـادفـة عجيبـة »

‏و إن سُئلت عن أجمل مشاعر الدنيا …سأجيب :
_ وإن أخطأت فأنت بمأمن ، و إن خانتك الظروف فأنت مُصان ، و إن تلاعبت بك الأقدار فلا تُغادر ….. و إن رحل القطار ….. فأنت بالقلب تحيا …. ولا تـَزل ….

— لأ بقى … ده مش عدل …كل يوم كده ، و الآخِـر لما أتأخر … أسمع محاضرة طويله عريضة عن قوانين العمل ، و قيمة الوقت …. طيب ما يراعونا شويه أكتر من كده … أعمل إيه …؟! …. أعمل إيه ….؟! … يلا مَبِدهَـاش بقى … والله لَـدخلاه و اللي يِحصل يِحصل ….

ثم دلفت الفتاة إلى مصعد رئيس مجلس الإدارة ، غير عابئة لما يمكن أن يحدث من جراء تلك الفعله …
و فى الداخل … ارتطمت بأحدهم لتزفر فى سخط :
— ما تحاسب إنت كمان … عاجبك كده …. أهو الـزُرَار إتقطع …. يعنى تأخير ، و بهـدله كمان … ده ايه النحس اللي راكبني من الصبح ده …. يا منجي الوحـش من الجحـش يارب …..

على مدار الثلث ساعه منذ أن ارتطمت بفاجعة صعود مصعد الموظفين إلى دلوفها للآخر … و حديثها لم يتعدى حدود لغتها الأم _اللغة العربية_ لتُنفث عن حنقها السافِـر ، مستغلة جهل سكان تلك الدولة الأوروبية بلغتها …لتتمادى فوق المعقول ، هاتفه :
— و إنت كمان يا خويا …. شكلك كده متأخر زيي ، بس القيافـه حلوه برضه… هى البدلة دي ماركة ….؟! … أكيد تقليـد …. ده إحنا عندنا فـ العتبه سوق كده إنما إيه …. بيجيب كل الأوروبي ، ويعمل زيه بالتفصيل …..
إحنا شعب ملوش كتالوج ….بابا…

طوال حديثها لم يتحدث …. بل إلتزم الصمت ، ثابت النظرات ، يقتات من ملامحها التى حار فيها فى البداية ، فهى المزيج من جمال الغرب ، و سحر الشرق … ولكن حديثها الساخط أجاب على تساؤلاته.

توقف المصعد عند الطابق المطلوب ، لتترجل الفتاة إلى الخارج دون اكتراث ، غير مباليه لمـن فرض هيمنته على المكان .
ورغم توغلها الى تلك القاعه المتسعه المرتشقه بالمكاتب ، إلا أنه ظل يتابعها فى غموض يحفه الإعجاب ، ثم ضغط على زر المصعد ليواصل صعوده إلى الأعلى .

تسللت الفتاة كما اللصوص ، لتقترب من مكتبها خشية انتباه مديرها المباشر ، إلا أنها بمجرد جلوسها على المقعد ..التفت اليها صائحا فى حده ، بلغته الإنجليزية المميزه :
— كالعادة …. تأخير … تأخير … أَلـم أُنبِهـك بالأمس على ضرورة الالتزام بمواعيد العمل … ألا تعرفين قانون الشركات …؟!

أجابت الفتاة فى إسفاف:
— أعلم ….”اليوم كالذهب ، و الساعه كاللؤلؤ ، و الدقيقة كالياقوت … إن ضاعوا فلا عوده “…. أحفظها عن ظهر قلب ، ولكن سيدي صدقني …. أنا أصل إلى الشركة قبل موعد العمل بعشر دقائق أقضيها كاملة أمام المصعد ، وفى النهاية كما ترى ، أتعرض للتعنيف كل يوم .

امتعضت ملامح الرجل الذى إعتاد الجدية فى العمل ، يُحاسِب نفسه كما يفعل مع الجميع ، ثم هتف :
—ذاك الإنذار الأخير ، وبعد ذلك أنتِ تعلمين …. هيا … عودي الى العمل ، لا راحة اليوم ، ولا عودة إلى منزلك إلا بعد الانتهاء من تلك الملفات …مفهوم ” أهـداب ” …

ارتدت نظارتها الطبية ، لتُباشِـر عملها فى نشاط و إتقان … تستوعب كم المسئوليات دون إرهاق أو تململ … لا تعي معنى التباطؤ فقد ألزمت نفسها بالتميز ….
ساعات العمل تتسارع دون توقف ، و النشيطة ” أهداب” على وضعها دون تكاسل … حتى أتى موعد الإنصراف لينفَـضْ الجمع من حولها ، ويرحل الزملاء و تهدأ الأصوات إلا من صوت أناملها على شاشة الحاسوب…..

استمرت “أهـداب” على وتيرتها الصامته دون كـلل إلى أن انتهت من المطلوب ، لتُفكر فيما عليها فعله …. و تتساءل :
— هل ترحل من الشركة مُصطحبه الملفات معها ، و إن فعلت …فـلِمَ أرهقت نفسها بعمل كانت تستطيع استكماله بمنزلها ….. أم تصعد إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة لتسليمه إياه ، فى حال تواجده بهذا الوقت المتأخر ..؟!

ظلت على حيرتها لثوان معدوده ، ثم أفاقت على صوت هاتفها الخليوي يصدح ، لتُفاجَىء بأنه رقم عمها “أمين” … أمسكت بهاتفها فى سرعة خِشية التسبب فى قلقِه لتبتسم من القلب ، هاتفه :
— ألو .. أيوه يا عمو . .. لأ أنا خلاص فى الطريق … معلش كان فيه زحمة …. بس خلاص قربت .. نص ساعه و هوصل …. حاضر يا حبيبى … مع السلامة .

وما إن انتهت من تلك المكالمه ، حتى ابتسمت فى سُخرية مريرة قائله :
— قال نص ساعه قال ….. ده أنا على ما أوصل لمكتب رئيس مجلس الإدارة تكون النص ساعه خِلصت … يلا … بجِملـة التأخير ….
ونهضت من مجلسها ، بعد أن اتخذت قرار تسليم الملفات إلى رئيس مجلس الإدارة ، طالما فى النهاية سينتهي مآلها إليه .

دلفت إلى المصعد قائله :
— يا ترى مكتبه الدور الكام ….؟! … أكيد الأخير…. و أدي الدور الــ ١٨ … يارب ألاقيه ، أقله تأخيري يكون بفايدة ….

توقف المصعد عند الطابق المنشود ، لتترجل منه فى استعلاء ، و زهو ..تحول إلى دهشة واعجاب معًا … فما وجدته أمامها فاق التصور …لتتطلع إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة الذى احتل نصف الطابق كاملاً…
ارتعشت أوصالها ، ثم اقترب فى شجاعه زائفه هامسة :
— انتوا يا جماعة يا اللى هنا …. يا قوم … نِيلـة عليا .. أنا بقول إيه …..
هل من أحدٍ هنا ؟… سيدي المدير….هل من أحدٍ هنا …؟

تأمُلهـا لذاك الإبداع ، والرقي المصحوب بالفخامه ، شغلها عن ذاك الجالِـس خلف مكتبه يتطلع إلى حاسوبه المحمول الذى يكشف كل مكاتب الشركة من خلال كاميرات المراقبه الموزعـه بإتقان …
ثم انحنى إلى الأمام ، ليجعل من الصعب رؤيته ، و يترك لها المجال إلى تأمل مكتبه بأريحيه .
دقائق ….. ربما تعدت الثلاثون و لازالت “أهـداب” على ذهولها من فخامة المكتب ، وحُسن ديكوره …
وما إن شعرت ببعض التعب ، جلست على إحدى الأرائك المُـريحة ، لتقول بصوت مرتفع :
— أما أعيش الدور شويه …. أَسَمِّـي السكرتيره إيه أسميكي إيه …؟!…. “چينا” …. إنتِ يا چـــينا … تعالي هنا … بقالي ساعه بنادي عليكي … قال يعنى إحنا فـ قهوة …. ابعتيلي القهوة بتاعتي ، و هاتيها بنفسك … و تاني مره انتبهي ، يا إما هخصم من مرتبك شهر … أنا اخترتك بنت عربيه ، علشان أعرف أتعامل معاكي براحتي …. يلا…. ”

ثم أطلقت” أهـداب “ضحكاتها الرنانه المميزة لتهتف :
_ أنا شكلي باين عليها اتجننت …. أما أقوم بقى بدل ما ” أمين ” يقلق ، و أنا من أد محاضرات بالليل … ”

…. لتنظر إلى الملفات التى لازالت بيدها قائله :
— طيب … أنا اعمل فيكوا إيه … أنا كنت جايه مخصوص أسلمكم لرئيس مجلس الإدارة اللى محدش يعرف شكله ده …. أكيد رجل عجوز ، مغرور ، أصلع أو أشيب ..مش هتِفـرق ، و عابس ، و مستبد ، و بيحب الفلوس … و صوته خشن …. أكيد … كلهم كده ….

امتعضت ملامح الجالس أسفل مكتبه ، لتظهر على وجهه مزيج متناقض من أمارات الغيظ ، و الضحك ، ليفكر فيما عليه فعله ، قبل رحيل الفتاة ….إلا أنه تفاجىء بخروجها المفاجىء الشبيه بالركض ..

اهتدى الأخير إلى فكرته ، ليضعها محل التنفيذ ، ثم ضغط على زر التواصل مع مكتب سكرتيرته المباشره ليصدح صوته بنبرة غليظه قائلا :
— چينا …. يمكنك الرحيل الآن ، ولكن لا تنسي تجهيز ملفات صفقـة الشركة السويديه على مكتبك ، و سوف ألتقطها أثناء رحيلي …. چينـــا … أين أنتِ ..؟!

استمعت ” أهـداب” إلى صوت رئيس مجلس الإدارة صاحب النبرة الغليظة ، لتحتار فيما عليها فعله ، و خاصة أن الملفات المطلوبه بين يديها ، ثم اتجهت فى جُـرأة تُحسد عليها إلى زر الاستقبال ، لتجيب بلغة انجليزيه :
— حسنا سيدي …. سأتركها على المكتب إلى جانب ، ملفات الدوائر الإلكترونية ، و عقود البنوك … سأرحل الآن ، فقد حان موعد نومي ….
ثم عدلت من نبرة صوتها لتهمس فى خفة و نعومه بلهجتها المصرية العاميه :
— تصبح على خير يا خـويا … يا خرابي … دي البت طلعت اسمها چينا …. لأ .. ده أنا طِلعت بركة ، وأنا مش واخده بالي … أما أروح قبل ما يخرج و يعلقني … ”
……ثم تركت الملفات ، لتستقل المصعد إلى الأسفل ، ومنه إلى منزلها …..

نهش القلق قلب “أمين” ، خوفًا على “أهـداب” ابنة شقيقه “مدحت” ليقرر الذهاب إليها ، و مرافقتها بنفسه ، هامسًا بقلب ملتاع :
— يا ترى إيه اللي أخَّـرِك كده يا بنتي … استر يارب ….

ولكنه لم يجد الفرصة للخروج ، فقد عادت “أهـداب” بعد يوم حافل من العمل ، تحيط عنق زوجة عمها فى رفق ، و تلحق به إلى غرفته ليحتويها داخل صدره فى حنان جارف :
— قلقتيني عليكي يا بنتي …. إيه التأخير ده كله ….؟! … اسمعيني ، لو التأخير ده اتكرر ، يبقى كفايه كده ، قدمي استقالتك ، وأنا هشوفلِك شركة أحسن منها يا حبيبتى .

ابتسمت “أهـداب” لعلمها برغبة عمها الصادقه فى إسعادها ، لتُحقق مزيد من الخبرة قبل عودتها إلى بلدها الأم _مصر _ ثم هتفت فى رقة :
— متقلقش عليا يا حبيبى … أوعدك إنها تكون آخر مرة أتأخر فيها …. كان عندي شغل إضافي ، فاضطريت أعمله ، و أسلمه لرئيس مجلس الإدارة….. سماح بقى عشان خاطر حبيبك النبي …

هتف ” أمين” فى خشوع :
— عليه أفضل الصلاة والسلام …. طيب يلا غيَّـرِي هدومِك وتعالي نتعشى … أكيد جعانه ….!!

هتفت “أهـداب” بمشاكستها المعتادة :
— ميته ….. مــ الجوع …. حالاً …. أنا قاعده عـ السفره أصلا … شايفني يا “أمين” … شايف …..

أردف” أمين” بضحكه وديعه قائلاً :
— يا بنت …بطلي تقوليلي يا “أمين “…. بقى كل الشيبة دي و لسه “أمين” فـ نظـرِك ….

افتعلت “أهـداب “الانفعال لتقول فى عتاب مصطنع :
— هو إنت ناوي تخونني يا ” أمين” … قول… إعترف …

حرر “أمين” ذراعيه من احتوائه لها ، ليقول فى أسف :
— عليه العوض ومنه العوض … حالة ميؤوس منها …

اتسعت ابتسامه “أهـداب” ليعلو صوتها تدريجيا :
— يعني مش هينفع حتى التدخل الجراحي …. خسارة كانت فـ عز شبابها ….

استمعت السيدة ” ربـاب ” زوجة “أمين” إلى المقوله الأخيره ، لتتساءل فى قلق :
— هى مين دي اللى مش هينفع فيها تدخل جراحي … مين تعبان يا حبيبتى ؟!

قهقهت “أهـداب” من فرط حبورها لتقول :
— دي الحالة الميؤوس منها … أقصد حالتي حسب رأي عمي طبعا ..

تنهدت “ربـاب” لترفع عينيها إلى السماء مُعلنه الاستسلام أمام العلاقة المرحة العابثة بين زوجها و ابنة أخيه ، ثم جلسوا جميعا على الطاوله لتناول طعام العشاء .
بعد ما يُقارب الساعه أو يزيد بعض الشيء ، تسللت “أهـداب” الى الفراش ، لتنل ما يكفيها من النوم والراحة استعدادًا لبدء يومٍ جديد …. ولكن الحال اختلف على النقيض لدى الطرف الآخر …

ما إن عاد رئيس مجلس الإدارة إلى الفيلا وهو شارد ، عيناه تتربع على ذكرى ملامحها التى لم تخلو من الفتنه والأنوثة …. ساحرة صغيره غلبت فى دهائها الذئاب ، إلا أن زُمْـرة الليوث لا تكتنف عن افتراسها …و هو حاكم الليوث الخبير فى الاقتناص بلا منازع ….
ظل الليل بأكمله ، يفكر فى فريسته التى شغلت تفكيره ، لا يتخطى ولو تصرف أو ايماءة صدرت بعفويتها و مرحها …. حقًا مميزة …..

فى الصباح الباكر … استيقظت “أهـداب” تتألق بنشاطها المعتاد ، لترتدي ثوب خريفي أسود اللون ، يتخلله بعض الخيوط الذهبيه ، و أسدلت خصلات شعرها الذهبيه لتتموج على كتفيها فى جاذبيه ألهبت جمهور الرجال ….
تناولت القليل من عصير التفاح المنعش ، لتركض إلى الشركة ، داعية الله وصولها قبل الموعد .

و أمام المصعد واجهت ” أهـداب”نفس المعاناه اليوميه ، لتقرر التسلل إلى مصعد رئيس مجلس الإدارة كما العـادة ، وما إن دلفت إليه حتى استمعت إلى صوت أحدهم من خلفها يهمس :
— اضغطي عــ الزُرار بسرعه قبل ما حَـد ياخد باله ، ننطرد كلنا …

ضغطت” أهـداب” على الطابق السابع ، تلتفت إلى مصدر الصوت ، الذى ما إن رأته حتى دُهِشت قائله :
— أنا شوفتك قبل كده …. ؟!

ارتفع إحدى حاجبي الشاب فى دهشه حقيقيه ، قائلاً :
— إنتِ لِحقني تنسيني … إحنا اتقابلنا هنا بنفس الطريقه امبارح …. واضح إن ذاكرتك ضعيفه أوي ….

أجابت “أهـداب” ببعض الامتعاض :
— إسمها شوفتِـك بالصدفه … مش اتقابلنا … هو أنا أعرفك أصلاً … إلا صحيح ، هو إنت بتعمل إيه فـ أسانسير رئيس مجلس الإدارة …؟! .

أجاب الشاب :
— أصلي بحب فيه …. قولت أجي أزوره ، و أطمـن عليه …

تساءلت “أهـداب” فى انتباه :
— هو إيه ده اللي بتحب فيه ، و جاي تزوره ؟!

— الأسانسير …

ابتسمت “أهداب” لعثورها على من يُشبههـا فى فنون المرح الساخر ، قائله :
— لأ … حلوه …. إنت بتشتغل هنا من إمتى ؟!

أجاب الرجل :
_ من شهرين …. يعنى لسه طازه بالسوليفان …. و لو حد خد باله إني بركب أسانسير الملِك ، هَـيِرمُوني فـ الشارع ، و أرجع تانى لصفوف العاطلين ….. و إنتِ ..؟!

همست فى سرعة حين وصل المصعد إلى الطابق السابع :
— لأ … أنا خبرة عنك …. بقالي سبع شهور …. يعنى تقولي يا ريِّسَـه … سلام يا كبيــر ..

تساءل الشاب بصوت مرتفع ، متجنبًا انتباه البعض إليه :
— لكن مقولتليش …. اسمِك ايه يا ريِّسـه ؟!

— ” أهـداب” …. و إنتَ …؟!

صمت قليلا ثم أجاب :
— أدهم ….

لحظات و كانت ” أهـداب” أمام مكتبها ، فقد وصلت اليوم فى موعدها المحدد ، لتبلغ مديرها المباشر بتسليم الملفات إلى سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة ، بعد أن طالبتها بها …. مُخفيه سرها الدفين بـمغامرة الأمس و صعودها إليه ….

فى مكتب رئيس مجلس الإدارة
دلفت السكرتيرة الخاصة إليه فى عمليه ، لتهمس برقة :
— تفضل سيدي … تلك هى الأجندة الخاصة بمواعيد اليوم …

وضعها على مكتبه بإهمال ، ثم هتف بلهجة آمره مشيرًا إلى شاشة حاسوبه :
— أرأيتي تلك الفتاة … أريد ملفها بالكامل أمامي خلال نصف ساعه .

اومأت الفتاة برأسها علامه الطاعه ، ثم رحلت فى هدوء … ليهمس بعد رحيلها قائلا :
— أما أشوف بقى إيه حكايتك يا “فتاة المصعد” …

فى غضون دقائق كان الملف الوظيفي لـ ” أهـداب ” بين أنامل رئيس مجلس الإدارة ، الذى تصفحه فى إمعان واهتمام ، لتلتهم عيناه سطوره فى إعجاب ، نظرًا لما لفت انتباهه من تفـوق الفتاة بمجال إدارة الأعمال ، وحصولها على المستوى الأول على جامعة سيدني ، لتفوق جميع أقرانها فى براعه ، ناهيك عن فتنتها ، و جاذبيتها الفائقه ….. ليقرر ما عليه فعله دون هوادة أو تأخير …

انتهت ساعات العمل على خير ما يرام … لتستعد
” أهـداب” لرحلة العودة إلى المنزل ، فى حين اقترب منها مديرها المباشر قائلاً فى رفق :
— أديتِ اليوم عملكِ بنجاح مُلفِت للإنتباه … حقًـا أنا فخور بكِ “أهـداب” … أرجو ألا تُضمِـرِي لي السوء … من تعنيفي لكِ بعض الأحيان ….

ابتسمت “أهـداب” فى مودة تعود إلى احترامها له ، قائله :
— أشكرك كثيرًا سيدي …. لا داعي للإعتذار … فأنا أتفهم موقِفَـك جيدًا …. و أعدك بالحضور فى الموعد الأيام القادمه كاليوم …. الى اللقاء .

استقلت “أهـداب” مصعد الموظفين إلى الطابق الأسفل ، لتنتظر وصول أحد سيارات الأجره ، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه …. ففي الانتظار صبرٌ قد يطول ….
تأففت بشدة ، لتزفر فى حنق :
— يعنى لا بدري نافع ، ولا متأخر نافع ….فينك يا “عمدة” .. تشوف أختك وهى متبهدله ، و البرستيج بتاعها ضايع خالص .

اقترب “أدهم” الذى كان يُراقبها منذ أن أنهت عملها ، ليتسلل خلفها ، هامسًا بالقرب من أذنها :
— و ايه اللى ضيع بريستِـيجك يا “أهداب “…؟!

انتفضت “أهداب” حين شعرت بأنفاسه الحارة تُداعب عُنقهـا فى حرارة ، ثم التفتت فى بطء هامسة :
— يعنى مش شايف وقفتي دي … يصح برضه آنسة رقيقة زيي تقف تِستنى تاكسي ، و حتى الظروف متساعِدهاش ….

ابتسم “أدهم” فى رجوله ، تتألق زرقاويتيه فى جاذبيه قائلا :
— لأ….ميصحش طبعا … مدموازيل ” أهداب ” تتعامل معاملة البرنسيسات ، و مش مقامها تاكسي … إنتِ مقامِك أكبر بكتير ….

تركزت عينيها فى خاصته لتردف :
— و تفتكر يا “أدهم” …. أنا مقامي إيه “فولفو ولا لانسر” ؟!

أشار” أدهم ” إلى ما خلفها قائلا بفخر :
— هو ده مقامك …. ليموزين …. تفضلي ….

اقتربت “أهداب” من السيارة ، لتلتف حولها فى إعجاب من تصميمها الأنيق قائله :
— هو إنت بتشتغل إيه بالضبط ؟!

أجاب “أدهم” باسـمًا :
— موظف زيي زيك …. و إوعي تصدقي إنها بتاعتي فعلاً …. أنا أصل طموحي كبير أوى ، و كنت بفكر أتجنن و أركبها بدل رئيس مجلس الإدارة…. زي الأسانسير كده ….

تراجعت “أهداب” قائله فى ارتياب :
— ده على اعتبار إن سواق رئيس مجلس الإدارة لا يرى ..لا يسمع .. لا يتكلم … أهبل هو عشان تركب ببساطة كده ….؟!

أجاب “أدهم” فى سعادة لم يشعر بها من قبل :
— يا ستي خلينا نحلم … هو الحلم ببلاش …. يلا يا مُحبِطه معنوياتي … خلينا زي الشعب ….”
ثم جذبها من أناملها فى رفق لاستكمال المسير إلى الجانب الآخر من الطريق ، آملاً وجود سيارة أجرة تقُلهما كلٌ إلى منزله .

استجابت “أهـداب” إلى صُحبتِـه فى حيرة ، فلم تكن تعتاد مرافقه الغير ، و خاصة الرجال ، إلا أنها وجدت فى ” أدهم” خير صديق ؛ لتسأل :
— هو إنت بتشتغل فى قسم إيه ؟!

أجاب “أدهم”فى تلقائيه :
— المبيعات و التسويق …. محسوبـِك أحسن واحد فى مصر يبيع الهوا ف أزايز …

ضحكت “أهـداب” لتهتف فى مرح :
— نصاب يعنى ….

حملق “أدهم” فى ملامحها ، يتصنع العبوس قائلا :
— لسانِـك ده هيوديكي فـ داهيه …. لو حد سِمعك من الشركة هيقولوا إن الشركة نصابه ، و بتشغيل نصابين …. يعنى إنتِ كمان زينا يا جميل …

توقفت إحدى سيارات الأجرة أمامهما ليستقلها الإثنان ، فى حين أجابت “أهداب” :
— بترُدهَـالي بالذوق يا “أدهم ” بيه … ماشى … لِـعِلمك بقى … أنا قاعده في الشركة دي أكتسب خبرة ، مش أكتر …. كلها كام شهر و أرجع مصر ، بعد ما أكون مؤهله كفايه …

انقبض صدر “أدهم” للحظات ، حين استمع إلى حديثها عن العودة لمصر ليقول فى حزن :
— و ليه ترجعي مصر …. مستقبلك هنا مضمون ، و شركة Fulton Group من أكبر الشركات اللى تقدري تحققي فيها نجاح مضمون فى أسرع وقت … هنا امتيازات كتير عن مصر … عايزه ترجعي ليه …؟!

أجابت” أهداب” فى رَويه :
— لأن حياتي كلها فـ مصر… أنا وجودي هنا كان الدراسة ، ومن بعدها لاكتساب الخبره … لكن أسرتي كلها هناك …
و بعدين إنت زعلان ليه كده …..!! ….. هو أنا كنت حبيبتك ، و خايف إني أمشي و أسِيبَك …!!

جملة بسيطة ، ربما تساؤل بسيط أتى منها بلهجة ساخره ، إلا أن وقع تأثيرها أصاب قلب ” أدهم” فى مقتل ، ليقول :
— لأ … طبعا … حبيبتى إزاي … ده يدوب مرتين بس شوفتِك فيهم … و عموما ربنا يوفقك …

انتبهت “أهـداب” إلى ملامح الوجوم التى حُفِـرَت على وجه ” أدهم ” وثغره ، لتحاول التخفيف من وطأة حديثها العابث ، قائله :
— على فكره بقى … أنا كنت بهزر معاك … متزعلش أوى كده ، و إلا و الله ما عدت راكبه معاك الأسانسير و لا منولاك شرف صحبتي من تاني …

ابتسم ” أدهم” ، ليتخبط قلبه فى أمواج من المشاعر … أحقًا يأتي الحب بتلك السرعه ، و يسرق العقل من اتزانه !!…. إهدأ يا قلبي ….

تساءلت “أهداب” فى مرح :
— إنتَ عايش فين ؟! … و مع مين ….؟! …. و إيه اللي جابك استراليا بالذات..؟! …. و كمان إنتَ منين فـ مصر …. ؟!

ضحك ” أدهم” فى رجوله ، قائلاً :
— كل دي أسئلة … ده استجواب بقى …. يا حضرة وكيلة النيابه …. بقولِك إيه …. ما تيجي أعزمك عـ العشا ؛ و نتكلم براحتنا …. قولتي إيه ؟!

نظرت “أهداب” إلى الطريق طويلاً من زجاج النافذة ، ثم قالت :
— آسفه يا “أدهم”… أنا مبخرجش مع رجل غريب لوحدنا ، ولا بتعشى مع حد إلا أهلي ، و مش معنى إن أنا فـ أوروبا ، فإنى أكون نسيت تقاليد بلدي اللي اتربيت عليها ….. إنتَ زميل ف الشركة …. علاقتنا فـ حدود العمل ، لا أكثر ولا أقل …..

من داخله ، كانت السعاده تتطاير كما فراشات البساتين ، ليطمئن قلبه عمن هداه ، ثم أردف فى بؤس :
— حِيلِـك …حِيلِـك …. إيه ده كله …!! … كل ده عشان عزمتِك عـ العشا … يا بنتي .. أنا كنت أقصد ناكل سوا كام ساندويتش برجر زي الفول والطعميه فـ مصر … مش أكتر من كده …هو أنا برضه أد مطاعم سيدني … دي عايزه مرتب شهر بحاله ….

تفهمت “أهـداب” حديثه ، لتعتذر للمرة الثانيه رافضه فى رقي :
— معلش يا “أدهم” مش هقدر …. وبعدين هو مش فيه بريك نص ساعه كل يوم … أنا بنزل كافيه الشركه أحيانًا … ابقَي إعزمني براحتك … إنما خارج الشركه معرفكش ….
ثم طالبت السائق بالتوقف ، قائله :
— أنا هدفع الأجرة مقابل عزومة الغداء فى الشركة … و كده نبقى خالصين … سلام بقى يا كبير …

ورحلت ” أهـداب” فى سرعه ، لتلتفت إلى الشارع الخلفي ، وتنحدر منه إلى مسكن عمها ، فى حين أُصيب ” أدهم” بالذهول من سِحر تلك الفتاة التى أشعلت مشاعره للمرة الأولى منذ أن وطأت قدماها تلك الدولة الساحره….

عادت ” أهـداب” إلى منزل عمها ، لتتفاجىء بوجود والدتها الجميله” فريدة ” ، التى أقبلت عليها فى فرحة ، سانحة لدموعها لتنسال على وجنتيها اللامعتان كحبات اللؤلؤ …وقد أحاطت والدتها بذراعيها فى شوق و لهفة هامسة:
— وحشتينى أوى يا مامي … وحشتينى أوى …. إيه المفاجأة الحلوه دي … مقولتليش ليه إنك جاية النهارده ، كنت أخدت أجازه من الشغل ، وقضينا اليوم كله سوا …

أجابت “فريدة” بدموع الفرح ، و لوعة الاشتياق :
— حبيت أعملهالِك مفاجأة …. وحشتينى أوى يا قلبي … طمنيني عنِك … عامله إيه فـ الشغل … ؟! …. مش ناوية بقى ترجعي معايا مصر ؟!

أجابت ” أهداب” فى طمأنينة ، لتتمسح بصدر والدتها كما الهرة الصغيره :
— قريب أوى يا مامى …. صدقيني وجودي فـ الشركة دي ساعدني كتير ، و أكسبني خبره كبيرة …. عشان لما أرجع مصر أكون أد المسئوليه ، و أخفف الحِمل عن “عُمده “، و خالو …. ولا إنت عايزاه يقول عليا فاشله ، رجعت زي ما روحت ….

ابتسمت والدتها متمنية لها دوام التوفيق و التألق ، ثم دار بينهما حديث طويل حول أحوال أسرتها، و الشركة ، لتُفاجئها والدتها بقرار خشيت إستحالة حدوثه …. حيث قرر خالها فريد الزواج أخيرًا بعد أن عَـزف عنه لسنوات طويله …
فرحت “أهداب” كثيرًا لذاك الخبر الرائع ، لتسأل والدتها حول هوية العروس ، ثم أجابتها فى حبور :
— اسمها ” خيلاء “… دكتوره …. والدها بيشتغل محامي معروف ، ووالدتها مديرة مدرسة …. هى من أسرة محترمه ، و أنا قابلتها وحبيتها جدا …. و كمان خالك سأل عليها ، وحسِّيته مبسوط … أخيرًا هفرح بيه … ياما طلبت منه يعيش حياته ، لكن هو رفض ، و صمم يتحمل الأمانة و ميفرطش فيها …. الحمد لله إجى اليوم اللى أفرح بيه .. ”

تساءلت “أهداب” عن موعد الزواج ، لتُجيبها والدتها فى هدوء :
— خالك مصمم ميحددش ميعاد الفرح إلا لما ترجعي …. شدِّي حِيلك بقى …. كلنا موقفيـن حياتنا عشانِك ..

تساءلت “أهداب ” فى مشاكسة :
— ليه هو حضرتِك عايزه تتجوزي إنتِ كمان يا مامي ؟!

جذبتها والدتها من خصلات شعرها فى رفق قائله :
— عيب يا بنت … جواز إيه اللى هفكر فيه بعد أبوكي الله يرحمه …. ده أنا بفكر إمتى هجـوِزِك إنتِ… أخوكي و الحمد لله ربنا كرمه بزوجة بنت حلال ، و خلِّـف كمان … فاضل أطمن عليكي إنتِ كمان ….

أجابت ” أهداب” فى رقة :
— يــاه يا مامي …. أنا لسه بدري عليا …. لما أطمِّـن على مستقبلـِي ، و أثبت ذاتِـي … أبقى أفكر فى الجواز
…… وانتهت الأمسية … ليأتى يومٌ جديد …..

تكررت مصادفات “أدهم ” مع “أهداب” ، ليصبح المصعد هو نقطة التلاقي ، فى حين إلتزم كل منهما عمله بإتقان ، ليأتي موعد الاستراحة اليومية ..
هبطت “أهداب” إلى الأسفل ، لتبحث بعيونها عن “أدهم” ، ولكن لم يحالفها الحظ ، لتظُن أن عدم حضوره سبب له ضيق فى صدره ، من رفضها المتكرر عزيمته لها خارج الشركة …

قررت “فريدة” العوده إلى مصر ، بعد أن اطمأنت على ابنتها بصحبة شقيق زوجها الراحل ” أمين ” ، لتودعها مع عمها و زوجته فى المطار .
انقطعت مقابلات المصعد الوجيزة بين ” أهداب،و أدهم ” لينال الحزن من قلبها دون تفسير .
لم تكن تتخيل أن “أدهم” بشخصيته المرحة ، و حضوره الواثق قد امتلك من قلبها مساحة جعلتها ترفض عبورِه العابِـر ، لذا قررت السؤال عن تغيبه ، ربما قد أصابه مكروه ….
استقلت المصعد للطابق العاشر ، قسم التسويق والمبيعات ، للبحث عنه ….وبمجرد هبوطها إلى تلك القاعة الواسعه التى تجمع مكاتب الموظفين … شعرت
” أهداب” بالقليل من الحِكه نظرًا لرائحة العطور الرجالية المميزة ، لتُحاول قدر استطاعتها كتـم نوبة العُطاس التى تُراودها بين الحين والآخر …. إلا أنها لم تستطع ….

حالة من الصمت سيطرت على المكان بكل من فيه ، ثم لحِقَـهُ موجه من الضحك نظرًا لنوبـة العُطاس المُتهيجة لـ ” أهـداب ” ، فى حين توقف أحدهم قائلاً بلغة انجليزيه مُتقنه :
— إيه يا آنسة …. كل ده عطـس …. واضح إن عندِك حساسية … نصيحة بلاش تتعرضي للروائح أيًـا كان نوعها … و القِسم ده بالذات مش هيفيدك …..

لم تنتبه ” أهداب ” إليه ، فقد كانت تستعيد وعيها ، بعد أن هدأت قليلا ، لترفع مقلتيها إلى ذاك الرجل فارع الطول ، مفتول العضلات كما المصارعين قائله :
— أنا فعلا وجودي هنا أكبر غلط …. زيك كده بالظبط … أنا كمان شايفه إن ملكش مكان هنا ….

ضيق الرجل ما بين حاجبيه بمظهر ينم عن خبرته ، ليقول فى حده :
— زيي إزاي يعني ….!! مش فاهم؟

أجابت أهداب فى وقاحة :
— بص فـ المراية و إنت تعرف …..
……ثم رحلت تاركة إياه بين الدهشه و الضيق ….

الفصل التالي اضغط هنا

يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق