رواية اشتد قيد الهوى الفصل التاسع 9 – بقلم دهب عطية

رواية اشتد قيد الهوى – الفصل التاسع

تختنق وكأنها داخل صندوقٍ محكم الغلق هربت الدماء من عروقها ووجهها شحب شحوب الأموات وهي تنظر إليه بعيون
تمتلئ بدموع الخوف والعجز.

بادلها النظرات مشوَّشًا الفكر وضعهما صعب… إن رآها أخوها هنا سيرتكب جناية وهو لا يخشى على نفسه بقدر ما يخشى عليها…. يخشى عليها من نظرةٍ تخدشها… ما بال
القادم إذا رآها أخيها ؟…

أرجع شعره للخلف بتشتت ناظرًا حوله يبحث عن مخرجٍ يبعدها عن عيني أيوب… تجمّد فجأة متصلبًا الملامح وهو ينظر إلى كفها الصغير الذي تعلّق في ذراعه تستجدي به همسًا…

“سلامة بلاش تفتح الباب… مش هينفع يشوفني بالله عليك…”

بث الطمأنينة في قلبها المرتعب وهو يُبعد يدها عن ذراعه ثم أمسك كفّها بين قبضة يده بتملّك هامسًا بخفوت…

“متخافيش يا نهاد… هخرجك من غير ما يشوفك.”

سألته بشفاهٍ ترتجف كحال جسدها المنتفض منذ أن سمعت صوت أيوب…

“إزاي؟…”

“تعالي…”

سحبها إلى أحد الزوايا عند الحائط نافذة توصل للجزء الخلفي من السطح… ساعدها في الوصول للجهة الأخرى من خلال النافذة ثم أمرها همسًا…

“لما أيوب يدخل وأقفل الباب… لفي وانزلي على طول… أوعي حد يشوفك…”

تركها سلامة ودخل مغلقًا الشباك خلفه بإحكام بينما هي جلست أرضًا مستندة على الحائط تحتضن حقيبتها بين ذراعيها تستمدّ منها القوة والطمأنينة وهي تأخذ أنفاسها الهادرة وقلبها ما زال في سباقٍ حاد مرتعب من جريمةٍ لم ترتكبها…

لكنها ارتكبت جريمة شنيعة عندما أتت إلى عقر دار أعزب وكأنها تسلّم نفسها له وللشيطان عن طيب خاطر…

وصلها صوت أيوب من داخل الغرفة وكان عليها التحرك الآن كما أخبرها لكن ساقيها تجمّدتا ككل شيءٍ بها ففضّلت الاستسلام لهذا المكان الآمن لدقائق فقط وسترحل ولن تكرر حماقتها مجددًا… لن تكرّرها…

“ساعة عشان تفتح….انت معاك واحده ولا إيه؟…”

هتف أيوب بعبارته بقرف بعد ان دلف الى الغرفة ووضع الأشياء التي اتى بها الى هذا الفاسق….

نظر أيوب الى الفراش الغير مرتب وكأن أحدهم نهض للتو !….

“هي في الحمام ولا إيه؟….”

هتف سلامة بغضب….

“هي مين ياجدع مفيش الكلام ده….”

التوى فك ايوب بازرداء متشدقًا….

“مفيش الكلام ده؟!….ليه ياحلاوة هي أول مرة اقفشك مع واحده….”

أغمضت نهاد عينيها بألمٍ يفتك بصدرها وكلمات أيوب تتسرّب إليها كألسنةٍ من لهب تحرقها وتعذّب فؤادها العقيم في حب شخصٍ يلهو مع الساقطات.

تمعّن أيوب في النظر إليه فرآه شاحب الوجه يتصبّب عرقًا من كل مكان عيناه زائغتان وكأنه يتوارى عن النظر إليه مما جعله يسأل بريبةٍ ومزاحٍ ثقيل…

“مالك يالا وشك مخطوف كدا ليه…..وعرقان
كدا ليه…هي المُزة كانت شديدة عليك ولا إيه…”

هتف سلامة من بين أسنانه بعنف وتوتر…

“أخرس يا أيوب……أخرس…..”

ارتفع حاجب أيوب بصدمة…

“أخرس…هو الجرح قوى قلبك ولا إيه….”

صاح سلامة بنزق…

“يووه…مش هنخلص…انت جاي ليه….”

جلس على احد المقاعد المتهالكة قائلا
بضجر….

“مقابلتك زي وشك….هكون جاي ليه جايبلك
علاجك واكلك…..”

هتف سلامة بصفاقة….

“تشكر….. انا جبت لنفسي علاج وأكل…خدهم
معاك وانت نازل… ”

أشار له أيوب على المقعد المجاور وهو يلقي عليه نظرة حانقة…

“وعلى اي زيادة الخير خيرين….أترزع واحكيلي اي اللي حصل….”

تشنج سلامة في وقفته مزمجرًا….

“احكيلك ليه ياجدع…انت مش قولت كل واحد من طريق….”

أومأ ايوب ببرود قائلا بصرامة….

“حصل وانا مبرجعش في كلامي…انا لحد دلوقتي مش عايز أعرفك…..بس اللي حصلك انا طرف فيه فجيت أفهم….مين عمل فيك كده….”

أبتسم سلامة باستهزاء قائلا….

“إزاي انت طرف فيه؟…. وازاي بتسألني مين
عمل كده؟…..”

رد عليه بأسلوب سمج…..

“قلة عقل معلش جاوبني على سؤالي خليني
اتكل على الله…..”

زفر سلامة بشق الأنفس….

“اتكل على الله من دلوقتي…..اللي حصلي ميخصكش…..”

تعنت أيوب بنظرة حادة…

“لا يخصني…. انطق ياسلامة.. ذكي مش كده؟…”

زفر بانزعاج وهو يجيبه على مضض…

“آه…. ومش عايزك تدخل انا هاخد حقي بأيدي
المهم تاخد بالك من نفسك لا يكون مرقدلك
على حاجة….”

لمعة الشراسة في عينا أيوب قائلا بتوعد….

“خلي يوريني وشه وساعتها الحساب يجمع…”

ثم سأله بقلق لا يخلو من الإهتمام….

“خيط كام غرزة ؟…”

رد دون ان ينظر إليه…. “تمانية…..”

عض على شفتيه كاظم الغيظ وهو
يقول بضجر…..

“أبن الـ…. وانت مدفعتش عن نفسك ليه سايب نفسك…أفرد كنت موت فيها ياحمار….”

حرك سلامة راسه مستهينًا…..

“ياريت دا عز الطلب….”

صاح أيوب بحنق….. “بطل تخلف……”

على تعبير الاسى وجه سلامة وهو يقول
بكراهية….

“هعيش لمين انا وهعيش عشان إيه….”

القى أيوب العتب عليه…..

“ايوا ابدا ولول بقا زي الحريم….وانت الغلط ركبك من ساسك لراسك….”

تبرم سلامة معقبة….

“انت مش جاي لحد هنا تعاتبني ؟…”

ضرب على ركبتيه وهو يسأله بخشونة…

“فات وقت العتاب…..ومبقاش يجي منه… هتعمل إيه في الجاي…هتفضل على وضعك ده…”

أومأ بصلابة….. “ايوا هفضل كده….”

صاح أيوب باستهجان….

“يعني هتسرق تاني؟…”

تشنج سلامة في الرد…..

“مش عايز اتزفت…..”

عاد يساله بصبرٍ…..

“امال هتصرف على نفسك منين ؟…”

تافف سلامة في الرد عليه بمناورة….

“انت شاغل بالك ليه بيا… اصرف ولا مصرفش
مش خصك…..”

قال أيوب بجدية….

“خصصني….انا كلمت صالح الشافعي وهيشوفلك شغل عنده في المصنع….”

هتف سلامة بنزق….

“مش رايح مبشتغلش في مصانع انا…كنت عملتها انت…..”

أجابه أيوب بعقلانية…..

“انت بطولك عادي لو خدتها شغلانه مؤقته لحد ما ربنا يسهل ونرجع نشتغل تاني سوا….”

نظر له سلامة بضيق كطفلٍ يعاتب أخاه على تخلّيه عنه بعد خطئه !…

“مش فاهم وليه مانشتغلش تاني سوا….”

لاحت بسمة استهانه على محياه وهو
يعقب باستهزاء…..

“ما كانت الفرشة في السوق مش جايه معاك…
دلوقتي عايز ترجع….”

قال سلامة بنظرة مستجدية…..

“عرفت قيمتها ارتاحت…..خليني إرجع اشتغل
تاني معاك…. ”

مط ايوب فمه مجيبًا….

“بس انا مبقتش شغال في السوق…..”

انعقد حاجبي سلامة مستفسرًا…..

“امال شغال فين؟….”

رد أيوب بمواربة…

“مش لازم تعرف كل حاجة في سعتها كده..”

اتسعت عينا سلامة بصدمة….

“انت خايف احسدك ولا إيه ؟…..”

فلتة الضحكة من أيوب قائلا بسخرية….

“لا ياغشيم….اصلك مش هتستوعب الشغلة الجديدة…”

عاد الفضول يلوح في وجه سلامة….

“اللي هي يعني ؟…..”

اجابه أيوب بعد تنهيدة طويلة…..

“هبقا أقولك بعدين…..بس أخلصها وساعتها هنرجع نشتغل تاني بس مش على فرشة في السوق…محل هفتح محل كبير في السوق..
والخير يعم عليا وعليك…..”

قطب سلامة جبينه بحيرة أكبر…..

“انا مش فاهم حاجة…اي الشغلانه السريعة اللي هتخليك تتملك محل كبير وفي السوق كمان…”

تافف أيوب بازدراء وهو يغير مجرى
الحديث بذكاء…..

“بعدين هقولك… هو انت بقيت دني كدا ليه
مفيش شاي قهوة….طفحني حتى من الأكل اللي جيبهولك….”
……………………………………………………
كان يقف أسفل ظل شجرة عيناه تبحثان عنها بين الوجوه الخارجة من باب الجامعة. الجميع يحمل على ذراعه المعطف الأبيض والبعض يحمل بعض الكتب الثقيلة…

طلاب نظيفون مرتبون رغم الإجهاد البادي عليهما إلا أن بسمة الأمل في مستقبل أفضل تراها من خلال أعينهما… إنه السعي في الوصول التفاني في كل خطوة يخطوها…

بدا شارد الذهن بينما يده تحوي عملة معدنية تتحرك بخفة بين أصابعه متمرس. يمررها بين الإبهام والسبابة ثم يدحرجها على ظهر أصابعه بخفة حركة تخفف من وتيرة القلق وتزيد من الصبر الذي يفتقده…

عادة قديمة اكتسبها مع الأيام تخفف من جماح مشاعره !…

أخيرًا رآها تخرج من باب الجامعة تشبه الطلاب جدًا لكنها الأجمل بينهم… جميلة الطلة والروح وعيناها تلمعان بالذكاء والشغف… المعطف الأبيض على معصمها يتأرجح مع حركات خطواتها الهادئة. تودّع أصدقاءها ببسمة رقيقة ثم تغيّر اتجاهها.

تسير مستقيمة عيناها تنظران للأمام دون الالتفات لأي من حولها. كانت ترتدي طاقمًا أنيقًا، وحجابًا يماثلها رقة…

لطالما أبهرته بذوقها الرفيع.. وأسلوبها الجريء وكونها “الدكتورة”… الدكتورة نهاد…

وضع العملة في جيبه ثم استقام في وقفته أكثر يظهر نفسه عندما اقتربت من مكانه وهمس مناديًا….

“دكتورة نهاد…”

اتسعت عيناها وهي تستدير بعد أن تخطّت مكانه خطوتين فعادت وهي تدقق النظر فيه بدهشة

“سلامة؟!…. إيه اللي جابك هنا؟…”

تمعّن سلامة بالنظر إليها فرأى تورمًا طفيفًا أسفل عينيها الجميلتين… وخطوطًا من الحزن على ملامحها ما كانت موجودة أمس عندما أتت إليه !…

بلع ريقه وهو يشعر بالغصّة تتجمع في
حلقه…وهو يجيب بحرج…..

“كنت معدي من هنا صدفة….فـ…..شوفتك…
عاملة إيه….”

ردت نهاد باقتضاب….

“الحمدلله…..انت جارحك عامل إيه….”

إرجع شعره للخلف بتوتر ملحوظ سائلا…

“بخير….هو….هو انتي مشيتي علطول صح….”

بنظرة قاتلة اجابت ببرود….

“لا…..بتسأل ليه…..”

هتف بصعوبة….

“يعني…..اللي أيوب قاله….”

قست ملامحها عندما لمح للأمر بمنتهى
قلة الحياء مما جعلها تقول بمقت….

“اللي اتقال حاجة تخصك…..انا مالي…..”

بلع ريقه وهو يقول بتململ…..

“انا عارف انها تخصني بس انا مش عايزك تاخدي عني فكرة وحشة…..انا اتغيرت
وناوي امشي عدل…..”

عقدت ذراعيها أمام صدرها بضجر….

“كويس…دا في الاخر لنفسك مش ليا….”

تضايق من ردها فقال…

“انتي بتكلمي كده ليه زي أيوب؟…..”

قالت متجهمة….

“طبيعي ما احنا أخوات….”

اختلج صدره بمشاعر عدة وهو
يسالها بعذاب…

“بس انتي مكنتيش كده معايا إمبارح؟….”

خفق قلبها وتحاشت النظر إليه باشمئزاز
قائلة بوجع….

“إمبارح حاجة والنهاردة حاجة….تقدر تقول اني رجعت لعقلي…..”

هتف سلامة بقهرٍ….

“نهاد بلاش البصة دي….بالله عليكي….”

لمعة عينيها بالدموع وهي تركل شيءٍ وهمي
تحت قدمها قائلة باختناق…..

“مكنش لازم تظهر قدامي دلوقتي… انا مخنوقة مخنوقة ومش طايقة نفسي…..”

“بسببي صح؟….”عندما كان الصمت ردًا للسؤال استرسل بنبرة متحشرجة….

“نهاد اقسم بالله الكلام ده كان من كام شهر….
بس انا بطلت….بطلت كل حاجة حرام….وناوي
ابدأ من جديد….وحياتك.. وحياتك يادكتورة عندي….ناوي ابدأ صح…..”

نظرت إليه بحزن والدموع تسيل من عينيها الجميلتين…

وحتى في الحزن حبيبتي عيناكِ تفيضان بفتنة لا تُحتمل !…..

تابع سلامة بلهفة أكبر….

“مش مصدقاني صح….طب انا ناوي استلم شغلي الجديد النهاردة…هشتغل في مصنع الأبرار عند صالح الشافعي…..أيوب اللي جبلي الشغلانه دي.ووعدني انه مسافة ما يخلص الشغلانة اللي في إيده هنفتح محل في السوق….ويكون تمليك…..”

عقدة حاجبيها فجأة سائلة….

“وإيه هي الشغلانة اللي هتجيب محل تمليك؟…هو أيوب مش شغال في السوق ؟…”

علت الدهشة وجهه هو ايضًا متشدقًا…

“معرفش…انا افتكرتك عارفه هو شغال إيه فكنت لسه هسألك…..”

هزت كتفيها وقالت بتهدج قلقة….

“لا معرفش حاجة….مستحيل يكون راح أشتغل عند الناس دي….”

سألها بعدم فهم…… “اي ناس؟…..”

وقبل ان ترد عليه اتت احد زملاؤها وسالتها
بدهشة وهي تنقل النظرات بينهما…..

“واقفه كده ليه يـانـهـاد؟….مش ناويه تروحي….”

ثم إشارة بعينيها على سلامة….

“هو انت تاني ؟!…..”

توتر سلامة من نظراتها المتفحصة وهو يتعرف عليها تلك الفتاة كانت بصحبة نهاد
عندما راته في غرفة الطوارئ….

همست لها أبرار بذهول…..

“اي الحكاية يانهاد….. مين ده.؟….”

“بعدين يا أبرار…. يلا عشان نروح…..”ثم سحبت يد صديقتها وهي تلقي عليه نظرة
أخيرة قائلة….

“انا همشي ياسلامة…. عايز حاجة….”

هتف قبل ان تصعد للحافلة…. “والفلوس…..”

“مرة تانيه هاخدها منك…”

قالتها ثم في اللحظة التالية صعدت الحافلة. جلست هي وصديقتها بجوار بعضهما ثم انطلقت الحافلة فألقت عليه نظرة وداع.
من قلبٍ مجروح إلى قلبٍ يغرق في
الخزي !…

لكزتها أبرار هامسة بتهكم….

“مين ده يامجنونة….اوعي تقولي ان هو
ده اللي بتحبيه؟!…..”

اومات براسها مع تنهيدة ثقيلة مؤلمة….

شهقة أبرار مصعوقة من الإجابة ثم
قالت بتقريع…..

“ياخبتك…حبتيه إزاي دا شكله مسجل خطر…احييه عليكي….انتي معتوها؟…..”

لفظت اسمها بتحذير….. “أبرار…..”

قالت أبرار بنبرة مؤنبة….

“ابرار إيه ماهو مش طبيعي تحبي واحد
زي ده مش طبيعي خالص…..”

تململت نهاد قائلة باقتضاب….

“اللي حصل بقا….. اياكي تقول كلمة قدام
ندى انا وعدتها اني هنساه وهبعد عنه…..”

سالتها بحاجب مرفوع…..

“طب وليه معملتيش كده؟…..”

نظرت إلى النافذة المجاورة لها إلى الرصيف المُطلّ على البحر وسحبت أكبر قدر من الهواء البارد وهي تقول بوهنٍ مرير

“مش عارفه….حتى بعد ما نويت أنساه بعد اللي عرفته لقيته في وشي…..”

زجرتها أبرار بقسوة قائلة…..

“في وشك ولا في قفاكي دا يتمسح باستيكا مش ده ياماما اللي يتحب…فوقي يادكتورة..
ياللي المستقبل مستنيكي….هتدفني نفسك مع ده ودمري حياتك ومستقبلك..مش مصدقاكي بجد؟!……”

فتحت فمها لتُخرج الهواء وانسابت من بين شفتيها همسة (يا ليتني قادرة) خرجت سرًّا كالهواء لا تُرى حتى لا تُلام… كما تُلام على حبّها المعطوب !…
……………………………………………………..
طرق الباب ثلاث طرقات ثم دلف بعد أن سُمِح له بالدخول…

“صباح الخير يا كمال بيه…”

قالها أيوب وهو يستعد ليومٍ جديد في العمل.

كان كمال قد هاتفه صباح اليوم وطلب منه أن يصعد إليه وها هو الآن يقف أمامه ببذلة العمل السوداء الأنيقة متأنقًا كواجهة تليق بآل الموجي.

“صباح النور… تعالى يا أيوب واقف ليه؟”

وأشار له إلى مقعد مجاور للفراش فجلس أيوب سائلاً باحترام…

“اخبار حضرتك إيه…..”

رد كمال ببسمة حانية….

“بخير….طالما نغم بخير…..”

تنحنح أيوب قائلا بتفانٍ……

“هتفضل بخير ان شاء الله.. أطمن انا معاها….”

أومأ كمال برضا تام قائلا….

“مطمن عشان انت فعلا معاها…وربنا الحامي
قبل اي شيء….”

سأله أيوب بتردد….

“طلبت تشوفني…في حاجة حصلت….”

“كنت عايز اعرف رأيك في الشغل معانا… مرتاح؟….والاهم مرتاح في الشغل مع نغم؟…”

رد أيوب بصراحة مطلقة…..

“بصراحة….بصراحة بنتك يتفات لها بلاد…..”

ضحك كمال فجاة مندهشًا من الرد فأوما أيوب وهو يشاركه الضحك قائلا….

“والله العظيم ما بهزر….بتعامل الكل من تحت ضرسها….مع ان حضرتك يعني مش كده…”

أثناء الضحك سعل كمال بقوة فنظر أيوب حوله ليرى كوب ماء قريبًا منهما فأخذه وأعطاه له.

أخذه كمال وارتشف رشفة ثم أعاده إليه شاكرًا
ثم قال بنبرة هادئة..

“نغم طيبه اوي بس عنيدة….طول عمرها طلباتها مجابه واللي مش عيزاها بيتنفذ ولو على رقبتي اتربت على كده…..

ثم استرسل مع تنهيدة حزينة مهمومة….

“عشان كده لما حصل موضوع القضية وتهديدات شكري ليها بقت عاملة زي الطير المدبوح تايهه وممكن توهتها دي تضيعها مني….”

قال أيوب بمؤازرة…..

“بعد الشر عليها…ان شاء الله القضية تخلص…
وترجع كل حاجه احسن من الأول….”

هتف كمال عازم النية…..

“مسافة ما القضية تخلص هخليها تسافر…
سفرها أحسن من قعدتها هنا مهدده في اي لحظة انها تروح مني…”

قال أيوب بترفق……

“تفائلوا بالخير تلقوه….بكرة كل الحوارات دي
تكون في خبر كان….قصة محدش هيفتكرها لا انت ولا هي….”

تمعن كمال في النظر إليه قليلا ثم قال دون
مواربة…..

“تعرف اني مستجدعك من اول يوم شوفتك فيه..”

ابتسم أيوب بسمة جانبية قائلا باعتداد….

“عارف محبش اتكلم عن نفسي كتير….”

ضحك كمال مجددًا ثم ساد الصمت للحظة قطعه أيوب بسؤال حذر…..

“هو….انا اسف في السؤال بس دي حادثة…ولا…”

انطفأت الابتسامة في عينا كمال وهو يرد
بشجن مرير…..

“نفسية….بعد موت أم نغم حصلي كده….بيقوله انها فترة وهرجع اقف على
رجلي تاني…بس انا شايف عكس كده….”

قال أيوب بايجابية…..

“مفيش حاجة بعيدة عن ربنا…..”

أكد كمال بنظرة كسيرة…..

“صح رغم كل الفلوس والثروة اللي املكها مقدرتش اعالج نفسي وارجع اقف تاني على رجلي…”

ثم اضاف ساخرًا….

“طلعت الفلوس مش كل حاجة…”

رد عليه أيوب بغصة ثقيلة….

“ساعات بتكون كل حاجة للي محروم منها…وبتبقى ولا حاجة للي شبع منها….أصله بيبقى بيدور على حاجات تانيه محروم منها غير الفلوس….الإنسان طماع وعايز كل حاجة…..”

سأله كمال بفضول…..

“طب وانت بقا يا أيوب عايز إيه؟…..”

رد عليه مباشرةً…… “أكيد الفلوس…..”

ضحك كمال ضحكة قصيرة ثم قال…..

“كلنا بنحب الفلوس وعايزنها…بس غير الفلوس مكنش عندك حلم؟….”

مط أيوب فمه قائلا بواقعية…

“ماهو حتى الأحلام ليها عملة…..عشان تتحقق محتاجة الفلوس…..”

عاد كمال يسأل بصبرٍ….

“طب ولو معاك الفلوس إيه هو حلمك….”

رد أيوب بجدية بعد تنهيدة….

“خلينا متفقين ان كل مرحلة ليها احلامها…
يعني لو سالتني من عشر سنين كده حلمك إيه…ردي هيختلف عن دلوقتي…..”

ابتسم كمال باعجاب….

“وحلمك إيه دلوقتي؟…..”

لمعة عينا أيوب بظفر قائلا بتمني…..

“محل ملابس تمليك بدل الواقفة على الرصيف…أشوف اخواتي البنات متخرجين وربنا يقدرني واجوزهم لولاد حلال…وبعدين اتجوز انا واحده بنت حلال واعيش مع أمي…..اصل انا مقدرش اسيب امي لوحدها…..”

انهى أيوب الحديث بإبتسامة واسعة فاوما كمال موافقة الرأي…

سأله كمال وقد وصل الى النقطة الأهم…..

“طب حلمك دلوقتي وعرفناه… حلمك بقا
من عشر سنين…..”

أشاح أيوب بنظره بعيدًا وكأن السؤال قد فتح جرح قديم تلوث من كثرة الإهمال !…

“مش لازم خلينا في النهاردة…..”

نظر إليه كمال بعينٍ متفرسة وسأله….

“ليه مكملتش في مجال التصميم؟…..انا أعرف انك فتحت برند صغير كده بأسمك؟…..”

ارتبك أيوب للحظة…..ثم سأله بتعابير وجهٍ مشدودة….

“انت عرفت منين؟….”

اجابه كمال بثقة….

“قولتلك اني عرفت عنك كل حاجة قبل ما أعرض عليك عرضي…..اي اللي وراك يا أيوب؟….”

رد ايوب بنبرة ميته كـتعبير وجهه الآن….

“ولا حاجة مشروع صغير واتقفل من قبل ما يطلع للنور…..تقدر تقول فشلت…. ”

رمقه كمال بنفس النظرة الثابته….

“بس نظرتي ليك بتقول انك مش من الناس اللي بتستسلم للفشل….أكيد في حاجة تانية..”

رفع أيوب حاجبه وقال بنبرة شبه ساخرة…

“وتحرياتك عني معرفتكش الحاجة دي؟!…”

رد عليه كمال بهدوء متيقن…..

“احب اسمع منك….بس مش دلوقتي لما اعرفك أكتر….وتطمن ليا واطمنلك….”

ثم خيم بعضها الصمت بشعورٍ معقد وحقائق مبهمة !…
……………………………………………………
يضع يده على عجلة القيادة بينما باليد الأخرى يسحب سيجارة ويضعها في فمه. عيناه مركزة على الطريق أمامه لكن فكره في مكان آخر…

الحديث مع كمال الموجي فتح صندوقًا مظلمًا من الذكريات كان يظن أنه تخلص منها. ولمدة ثماني سنوات تأكد أنها ظلت في جعبته لم تغادر يومًا.

كانت تجلس في المقعد الخلفي بينما يحتل أيوب مقعد القيادة… وباقي الحرس في السيارة الأخرى خلفهما…

بدت تنظر إليه بين الحين والآخر. كان بعيدًا عنها بأفكاره العاصفة ويدخن بشراهة لدرجة أنه أشعل السيجارة الثالثة في دقائق قليلة !…

“مش كفاية تدخين بقا……خنقتني…..”

قالت عبارتها بانزعاج واضح فألقى أيوب السيجارة من النافذة المفتوحة بجواره ثم
قال معتذرًا…

“معلش… مخدتش بالي…”

على تعبير الحيرة وجهها سائلة بشك…

“مخدتش بالك إني معاك في العربية؟ انت مش طبيعي على الصبح.”

ردّ أيوب بوجوم

“أصلي نايم متأخر وصاحي بدري كده يعني…”

“وليه نايم متأخر؟”

سألته نغم بتطفل عجيب منها ليس من شيماتها نحو أحد خصوصًا الرجال. لطالما كانت هي من تثير التساؤلات والفضول
نحوها وليس العكس !

التوى فم أيوب في ابتسامة جانبية وأراد أن يلهو قليلاً معها فقال…

“كنت بكلم الحته…..”

سألته نغم بعدم فهم….

“حته ؟!…..يعني إيه؟….”

اتسعت الابتسامة على محياه وهو يقول
بتسلية…..

“البوي فريند يعني عندكم…..عندنا إسمها.. الحته…المُزة…بنت القلب… بنت الحُب……”

برمت نغم ثغرة مشمئزة..معقبة….

“بيئة أوي…..”

“كلك ذوق والله ياهانم….”

قالها بملامح خالية من التعبير فقالت معتذرة…

“مش قصدي بس يعني…. مش لطيفه الأسامي دي….”

رد أيوب عليها بدهاء…..

“لطيفة بنسابلنا أوي….عندنا لو الشاب مقالش للحته بتاعته كده تبدأ تقلق من ناحيته….”

رفعت حاجبيها في استغراب…. “ليه تقلق منه؟…..”

رد أيوب بأسلوب وقح مراوغ….

“معروفة ان اللي ملوش في الكلام الحلو…ملوش في حاجة خالص….”

لوت نغم فمها سائلة بلؤم…..

“وياترى الحته بتاعتك….جارتكم اللي طلبت
أيدك ….”

تجهم أيوب مزمجرًا……

“وليه السيرة الغم دي…..اكيد لا…..”

ضحكت سائلة بفضول…

“حد تاني يعني….وهتجوزا إمتى؟…..”

رد أيوب بعد تنهيدة طويلة…..

“لما الدنيا تحلو معايا……ادعيلي…..”

“ربنا يوفقك يا ايوب….انت و…والحته…..””

قالتها نغم ثم أشاحت بوجهها نحو النافذة
تضحك بخفوت.

بينما نظر لها أيوب عبر المرآة الأمامية
وقال عابسًا…

“مش شايف فيها حاجة تضحك….”

قالت من بين ضحكاتها الناعمة…..

“خالص…..دي في منتهى الرومانسية…..”

ابتسم أيوب وهو يسمع رنة ضحكتها الرقيقة.
كانت ضحكتها نغمة تتناغم مع كل شيء من
حولها…

ترجلت نغم من السيارة كعادتها بكامل أناقتها مرتدية طاقمًا أبيض أنيقًا وشعرها ينساب على ظهرها. كانت تخفي عينيها وجزءًا كبيرًا من ملامح وجهها خلف نظارة سوداء.

دلفت إلى ردهة الشركة برفقة الحرس ثم توقفت عند المصعد ومعها أيوب.. نظرت إليه نغم وقالت فجأة…

“أوف…نسيت تلفوني ممكن يا أيوب تروح تجيبه من العربية…..”

سألها أيوب بنظرة جادة….

“انتي نسيتي في العربية ؟…..”

اكتفت بايماءة تأكيد……

“تحت أمرك ياهانم…..”

ابتسمت بتشفٍ وهي تراه ينفذ أوامرها على مضض.فتحت أبواب المصعد، فدخلت نغم في قمة سعادتها شاعرةً بانتصارٍ طفوليّ من صعودها وحدها دون أن يرافقها أحد.

خرجت من المصعد وسارت في الممر الممتد ثم مرّت على مكتب جيداء فألقت عليها تحية الصباح.ردّت عليها جيداء بملامح مندهشة وكانت ستقول شيئًا اخر لها ، لكن نغم دلفت إلى مكتبها وأغلقت الباب خلفها متنهدةً بارتياح….

صرخت بفزع وقد اتسعت عيناها وهي تراه يقف على بُعد خطوات منها يلوّح بالهاتف بين يديه قائلًا ببرود…

“التلفون ياهانم…..”

قطبة جبينها بصدمة سائلة…..

“انت طلعت إمتى ؟….انت لحقت؟…..”

فصل الخطوات القليلة بينهما ووقَفَ أمامها.
رفعت عينيها إليه لفارق الطول بينهما. التقط
هو عيناها الرماديتين شتاءً يأتي في كل الفصول..

وقد طالت النظرات بينهما وعلى أثرها ارتبكت نغم بشدة وعلى هدير قلبها ونظراتها تنجرف نحو الندبة العميقة في جانب عنقه… ثم تنتقل إلى عينيه السوداوين اللامعتين باللهو… لتراه في اللحظة التالية يميل إليها قليلاً قائلاً كمن يفشي سرًا خطيرًا….

“اصل أنا…….اصل انا مخاوي….عليا تلاته….”

ثم اضاف بصوت عميق….. “وبيكي أربعة…..”

بلعت ريقها بخجلا مبتعده خطوة للخلف…..

“انت ظريف أوي….”

أكد الأمر بعنجهية ……

“أوي… أوي….الحته بتاعتي بتقولي كده برضو….”

زمت نغم شفتيها بقرف قائلة…..

“بجد ربنا يصبرها على واحد سمج زيك….”

عقب ايوب مصدومًا…

“سمج ؟!… طب دي متعرفش الضحك غير لما تكلمني….”

نهرته باستهزاء…..

“ليه مهرج حضرتك…..”

بإبتسامة تحمل كل سمات الجاذبية كـعينيه
قال بصوتٍ أجش…..

“لا ساحر…..واعرف اضحك الحلوين…الحلوين بس…”

احتقن وجهها متجهمًا عند النظر إليه……

“تقصد إيه بكلامك ده؟…..”

عقد ايوب حاجباه بخبث….

“هو اللي على راسه بطحه بقا ولا إيه؟…”

أحمر وجهها غضبًا فـرفعت سبابتها امام عينيه
قائلة بحدة……

“انت بتتعدى حدودك…..”

رد ببرود كالصقيع يكاد يجمدها بأسلوبه الغير مبالي بها وبمن تكون….

“انا واقف على حدودي ومبعديش حدود حد…”

اتكات نغم على اسنانها بنفاد صبر قائلة وهي
تشير على باب الخروج…..

“ممكن تطلع برا…مش عيزاك في مكتبي….”

تشدق أيوب مستهجنًا……

“كان ممكن تقوليها ببساطه مش عايزاك في مكتبي واستناني برا المكتب كنت هعمل كده مش لازم نسيت تلفوني وروح هاته…..والفيلم الهندي ده كله…..خليكي بسيطه…..”

“قولي مش عيزاكي يا أيوب في مكتبي وانا هخرج…..”

قالت نغم بازدراء….

“مش عيزاك في مكتبي فعلا….اتفصل أخرج….”

رد باستهانه……. “أفكر….”

برقت عينيها غاضبة……. “نعم…..”

تحرك أيوب نحو باب المكتب للخروج منه
قائلا بمزاح…..

“هفكر في كلامك برا….يمكن…..يمكن اوفق
وأخرج…يمكن…”

عندما أغلق الباب نظرت نغم لأثره بملامح عابسة. ثم بعد لحظات داعبت الإبتسامة ثغرها حتى شملته ثم تمتمت باستياء…

“مش طبيعي بجد…….”

أنهت الاجتماع وسارت في الممر المؤدي إلى مكتبها. أوقفتها جيداء وفي يدها أحد الملفات، أخذتها منها وبدأت في تفحصها بتركيز شديد…

سمعت صوت همسات متبادلة خلفها وبعض الضحكات المرحة…

نظرت نغم بطرف عينيها لتراه يقف مع إحدى الموظفات يتبادل معها الحديث بنبرة عالية، بينما هي تفتح فمها باتساع كدولفين ضاحك يتغذى على الدعابات !

اشتعل صدرها فجأة بنيران مستعرة، وتغضنت زوايا عينيها بانفعال ملحوظ بينما الغضب تصاعد داخلها أكثر حتى فقدت التركيز فيما بين يديها مما جعلها تعطي الملف لجيداء قائلة بوجوم..

“بعدين….. ابعتيه على مكتبي…”

ثم استدارت تنظر إليه نظرة حادة قاتلة…

حينها شعر أيوب أنه عرضة للمراقبة فرفع عيناه نحوها ففاجأته بنظرة عنيفة مزدرية ثم في اللحظة التالية رآها تشير له بأصابعها الأربعة في حركة متغطرسة كي يلحق بها إلى المكتب…

فعل أيوب على مضض وهو يشعر بالمهانة بعد تلك الحركة المتعالية…

دخل إلى المكتب وأغلق الباب خلفه ثم اقترب منها واقفًا يفصلهما المكتب الضخم الذي تجلس خلفه بمنتهى الغرور الأنثوي
الـ….. الجميل من ينكر؟…

قالت نغم بصوت محتد كـعينيها الآن في النظر
إليه..

“انت جاي هنا تشتغل ولا جاي تضحك وتهزر مع موظفات الشركة؟…..”

سالها بملامح متعجبة….

“حصل إيه لده كله يانغم هانم….”

اندفعت كلماتها بشراسة….

“حصل ان انا مبحبش المسخرة والكلام الفارغ
اللي كنت بتعمله من شوية….”

رد أيوب بصبرٍ……

“مفيش كلام فارغ ولا حاجة…. زميلة في الشغل بتسألني على حاجة فرديت اي المشكلة….”

انتفخ انفها غضبًا وارتفع بإباء قائلة
بسخط…

“أولا انت مش شغال في الشركة عشان تقولي زميلة ثانيا انت شغلك معايا انا ممنوع تكلم مع دي أو وتضحك مع دي….”

ثم اشارت على الباب خلفه بتهكم….

“ولو مش عاجبك الباب يفوت جملين مش جمل واحد….”

هاجت مراجل ايوب فرد عليها منفعلا….

“والله مش انتي اللي تقوليلي يفوت كام جمل اللي ليه يمشيني والد حضرتك هو اللي مشغلني في الأول مش انتي….”

توهج صدرها كأتون حارق وهي ترمقه
بمقت..
“والله عال كأن انا اللي شغاله عندك….”

خفف من حدته قائلا بقتامة….

“هنفضل نعيد ونزيد في مين شغال عند مين…
مع انها معروفة احترام زائد احترام يساوي
تقدير…..”

علت الدهشة وجهها بتساؤل……

“وانا مش محترمة معاك؟….”

“لا…. لا سمح الله انتي مفيش غبار على احترامك بس لسانك بينقط…بينقط سُـكـر……”

انهى حديثه بابتسامة صفراء نحوها بينما عينيه تأكد نفاق كلماته الأخيرة….

تململت نغم بانزعاج واضح…..

“تعرف انك مستفز…..”

“وتعرفي انك…ولا بلاش…..لحسان تطرديني
من الجنة…..”

امتنع أيوب عن قول انطباعه نحوها…..

كبحت جماح غضبها وهي تسأل بهدوء زائف….

“لا قول….قول احب اسمع….”

“بلاش هتزعلي…..”

اصرت نغم بإبتسامة باردة….

“احب اعرف رأيك فيا يابشمهندس أيوب….”

كان يرنو إليها في صمتٍ مُبهم وقد سُطّرت في عينيه اعترافاتٌ عجز لسانه عن قولها…
ثم تحدّث بنظرةٍ عابثة يُخبرها بغلاظةِ الرجال تلك الغلاظة التي يقفون خلفها حين يريدون إخفاء مشاعر تهفو إلى امرأةٍ مستحيلة !…

“هو انتي كويسه وكل حاجة….بس لما بتقلبي بتبقي زي امنا الغول…..”

“الغولة ؟!…. أطلع برا يا أيوب….”

عندها خرج أيوب دون أن يجادلها في شيء
بينما وضعت هي رأسها على سطح المكتب بينما ضربت بقبضتها سطحه تكتم تأوّهات الضيق وقد تملّكها الغيظ من تشبيهه لها..
…………………………………………………….
كانت تجلس على المقعد في قلب مقهى يُطلّ على البحر مباشرة. سحبت نغم نفسًا عميقًا ملأت به صدرها من رائحة البحر المالحة والهواء البارد..

كانت عيناها تلتقطان المراكب البعيدة مصطفةً جنبًا إلى جنب تنتظر تصريحًا للأبحار.

وهي أيضًا… تنتظر تصريحًا للأبحار…

منذ ذلك الحادث المشؤوم انقلبت حياتها رأسًا على عقب… باتت كالمركب في عرض البحر بلا حول ولا قوة ساكنة في مكانها تشدّها مرساة ثقيلة إلى القاع تكبّل خطواتها وتمنعها من المضيّ !..

تحدث المحامي يقطع الصمت المشحونه
داخلها……

“النيابة صنفت القضية مبدئيا انتحار مشبوه..”

نظرت إليه نغم بعلامة استفهام…..

“مش فاهمه ياستاذ عزيز وضح أكتر؟….”

اخذ عزيز رشفة من كوب العصير أمامه بينما
هي اخذت رشفة من قهوتها الساخنة تحرق
معدتها بها وعيناها تطلان على محاميها
بملامح متوترة…..

“افهمك فيه في القانون حاجة إسمها التحريض الغير مباشر على الانتحار… وده وضعك حاليا بعد موت اسر العزبي والرسالة اللي سبها…”

قالت نغم بوهن مرير…..

“بس انا محرضتش حد…. وما قولتلوش ينتحر…”

اوما عزيز بملامح رصينة متفهمة….

“انا عارف ومبدئيا مفيش اتهام مباشر ناحيتك.. لكن والد المنتحر هو اللي مخلي وضعك صعب..”

زمت شفتيها وهي تنظر الى فنجان القهوة بتيه ثم سألته بصوت مهموم…..

“وانت شايف إيه يامتر…..”

رد المحامي عليها باسلوب عملي واثق…

“انا شايف انها مسألت وقت والقضية تتقفل نهائي وزي ماقولتلك قبل كده انتي مش عليكي مُسألة قانونية وانا ان شاء الله هبدأ أجهز مذكرة قانونية مبدئية لو النيابة قررت استدعاء رسمي… ”

نظرت اليه نغم وقالت بامتنان….

“شكرا ياستاذ عزيز…. مش عارفه أقولك إيه…”

نهض المحامي مودعها بمصافحة ودودة
مساندًا اياها بالقول…..

“متقوليش حاجة ان شاء الله خير… سلامي
للوالد وطمنيه من ناحية القانونية إحنا واقفين
على أرض صلبه….”

رحل المحامي من أمامها بينما بَقِيَت هي مكانها ساكنة. لم ترحل وجيعتها بل زادت وخزة الألم في صدرها لتبدأ عيناها تترقرقان بالدموع وتهبط واحدة تلو الأخرى وهي تنظر إلى امتداد البحر والمراكب المصطفة من بعيد ربما لديهم فرصة للإبحار أما هي ففرصتها في العيش بصورة طبيعية كالسابق أصبحت معدومة !…

“انتي كويسة؟…”

انساب صوته من بين ظلام أفكارها لترفع رماديتيها إليه لتراه قد جلس مكان المحامي قبالتها ينظر إليها باهتمام لا يخلو من العطف…

لم أكن يومًا أحتاج ذريعة في حياتي لكن وجودك ذريعة تهدد سلام قلبي فـ….فرفقًا بقلبي أرجوك…

“بتعيطي ليه المحامي قالك حاجة؟…”

سحب منديلاً ورقيًا من أمامهما وناوله لها. أخذته منه متحاشية النظر إليه بينما تردّ عليه بهدوء…

“مقالش حاجة زي كل مرة بيطمني ان مفيش
حاجة تدني….”

سالها بصوتٍ أجش حاني….

“ودي حاجة تخليكي تعيطي….”

على نشيج صدرها وهي تخبرها بارتياع..

“انت مش فاهم حاجة انا حاسه اني في سجن خايفه طول الوقت ومش عارفه أطمن…وشكه في كل اللي حوليا….”

تسأل أيوب بحذر وعيناه تداهم عينيها الامعتين بالحزن……

“حتى انا من ضمن الناس اللي شكه فيهم؟….”

قالت دون تقهقر…… “انت اولهم….”

وكانه تلقى صفعة على حين غرة فقال
على أثرها بصدمة….”صراحتك توجع….”

قالت بتبرم….. “اخدعك يعني…..”

ابعد عيناه عنها ناظرًا الى البحر…..

“ساعات الخداع بيبقا أهون من الحقيقه…”

وافقتْه الرأي وهي تنظر إلى امتداد البحر أمامها وقد تناسَت قهوتها فبردت ومع ذلك كان إصبعها يسير على حواف الفنجان بتروٍ وهي تقول بعينين نادمتين….

“عندك حق لو كنت خدعت نفسي ووهمتها بحب اسر مكنتش هنا دلوقتي…وهو كان
زمانه عايش بينا..”

“كله مقدر ومكتوب عمره كده….”ثم أضاف وهو يسالها بحذر…

“هو انتي ليه مقدرتيش تحبيه انا سمعت انه ابن رجل اعمال كبير….”

التوى ثغرها في إبتسامة باهته وهي تعلق…

“ودي حاجة كفاية تخليني أحبه…..وبعدين الحب ده مش بادينا دي حاجة بتحصل من غير تخطيط..”

“حصلت فعلا ومن غير تخطيط…..”

عادت بعينيها إليه فرأت عينَيه تجريان على ملامحها وعيناها بتروٍ أربكها مما جعلها تُسبل
عينيها وهدير قلبها يعلو مجددًا في حضوره القريب…

“نـغـم…”

رفعت عينيها بوجنتين حمراوين بغباءٍ أنثوي لذيذ فرأته يعود إلى أسلوبه الفكاهي الغليظ قائلاً بمرح…

“تيجي أعزمك عند عبده تلوث… بيبيع سندوتشات تكليها من هنا وتهو هوي من هنا…”

انقشعت غمامة الحزن من فوقها وضحكت ضحكتها الرنّانة برقةٍ وجمال فأشرق صدره بشعورٍ خاص وهو يتأملها هائم النظرات بينما هي تسايره بالقول….

“كلاب بلدي… بلدي؟…”

“بلدي أصلي…..تعالي بنفسك شوفي….”

أومأ مؤكدًا وهو يحثها على النهوض معه
إلى أقرب مطعم شعبي أكلاته الشهية كفيلة بتسكين وجيعة قلبها ومخاوفها ولو لفترة قصيرة….

لكنها رفضت وهي تعود بعينيها الى البحر
قائلة….

“أفكر…..خليها مرة تانية…..”

…………………………………………………..
خرجت ملك من الغرفة بزيّها المدرسي واتجهت إلى باب الحمّام الموارب وصاحت

“ماما أنا خلصت… يلا عشان هنتأخر كده !”

تكملة الفصل

خرجت ملك من الغرفة بزيّها المدرسي واتجهت إلى باب الحمّام الموارب وصاحت

“ماما أنا خلصت… يلا عشان هنتأخر كده !”

خرجت شروق وهي تحمل سلة الغسيل بين يديها ثم ألقت عليها نظرة متفحّصة قبل أن تقول..

“طب استني أطلع أنشر الغسيل ده فوق…”

قالت ملك بتذمّر

“يا ماما هنتأخر…”

أشارت شروق إلى سفرة الطعام الصغيرة

“لسّه بدري يا ملك… مستعجلة كده ليه؟ روحي افطري واشربي اللبن…”

رفضت الصغيرة بحنق

“مش عايزة…”

ألقت شروق عليها نظرة جادّة…

“اسمعي الكلام…”

سألتها ملك وهي تقترب من الطعام على مضض…

“هتنشريهم فين طيب؟”

اجابتها شروق بهدوء وهي تضع الوشاح على رأسها….

“فوق السطح… استأذنت خالتي أبرار وقالتلي أنشر في البلكونة اللي فوق… بس لسه عايزة أربط الحبال.”

قالت الصغيرة برقة….

“أساعدك يا ماما؟”

“لا يا قلب ماما… نص ساعة وهانزل أودّيكي المدرسة.”

حملت شروق سلة الغسيل على رأسها وأغلقت باب الشقّة خلفها ثم صعدت إلى الطابق العلوي حيث السطح.

وصلت إلى السطح وكان شاسعًا لا يحوي إلا غرفة مغلقة وبرجًا كبيرًا للحمام في إحدى الزوايا.

وقفت أمام سور الشرفة وضعت السلة وأخذت كرة الحبل وبدأت تحلّها.

سمعت هديل الحمام يعلو فتركت ما بيدها واقتربت من البرج شكله يشبه الكوخ بفتحات صغيرة وتحيط به أسراب من الحمام تُحلّق وتدور ثم تهبط برفق تعرف طريقها إلى البيت فهنا بيتها… مهما ذهبت تعود إليه مطالبة بالأمان والسكينة…

لاحَت البسمة على شفتيها وهي تتأمّل جمال الطير عندما يحلّق مبتعدًا عن الأرض وناسها المؤذين.ليتها كانت قادرة على أن تكون مثله.

سحبت شروق أكبر قدر من نسيم الصباح وهي تخطو أكثر نحو البرج ثم توقفت مشدوهة وهي تراه يقف بجواره بعباءته البيضاء وملامحه المنيرة تشعّ بشاشة وقبول بينما عيناه تلمعان بوداعة تداعب القلب دون استئذان !….

كان يمد يده ببطء ينثر الحَبّ أمامه بحركة متأنية…

بينما تتسابق الطيور نحوه دون خوف تأكل مما يعطيها ترفرف بأجنحة ملوّنة وتهدل بصوت خافت وهو يبتسم هامسًا بشيءٍ لها… كأن بينه وبينها أسرار تُروى فقط بعد صلاة الفجر قبل الشروق كالآن تمامًا…

ظلّت تحدق في هذا المشهد مأخوذة بجمال هذا الرجل والجاذبية التي يحظى بها دون تكلّف..يعبث في قناعتك ونظرتك للحياة
دون استئذان….

خطر صاحب عطر العود خطر عليها !…

عفوًا… لماذا لا تستنشق عطر العود كما اعتادت؟! كان عطره يسبقه قبل أن تراه حتى…

هل توقف عن وضعه بسبب كلام ملك عن حبّها للعطر ؟!..

عضّت على شفتيها بحرج عند وصولها إلى تلك النقطة ولحظة توتّرها أمامهم كانت
كمن يخفي شيئًا !..

بلّلت شفتيها وقالت بصوتٍ خافت متردد قليلًا…
“صباح الخير يا شيخ صالح…”

ليتها ما ألقت تحية الصباح… إنه لم يلاحظ وجودها لذلك تفاجأ حين رفع عينيه الخضراوين نحوها عابسًا.

بلعت ريقها وهي تشعر بالخطر من تلك النظرة والتجهّم البادي على وجهه. ردّ صالح وهو يغضّ بصره عنها..

“صباح النور يا أمّ ملك… إنتي إيه اللي مصحيكي دلوقتي؟ وطالعة هنا ليه؟.. ”

لم تكن أسئلة هادئة بل كانت تحمل كل أنواع الاتهام الصريح…

هل ظنّ أنها ستسرق الحمام؟!

لماذا هو متجهّم بهذا الشكل؟… هل الصعود إلى هنا بعد الفجر ممنوع؟!… أم أنه ممنوع نهائيًا؟!

“كنت هنشر الغسيل وسمعت صوت الحمام
فافتكرت في حاجة….”

ارتفع حاجبيه ولم يحبذ ردها فعقب…

“تنشري هنا ازاي يعني…خدتي الاذن من مين قبل ما تطلعي…..”

امتقع وجهها من فظاظة رده….

“هي فيها حاجة لو طلعت فوق السطح…”

سألها بغلاظة….”بمناسبة إيه….”

تخصرت في غضب….

“تقدر تقول بشم هوا….حرام….”

قال بصلابة كعيناه الثابته نحوها
في نفور….

“عندك الشباك تقدري تشمي الهوا اللي انتي
عيزاه…..لكن السطح ممنوع تطلعيه….”

قالت بنظرة مبهوته….

“طب والغسيل ممنوع انشره هنا….اسيبه يكمكم…..”

أطلق تنهيدة وهو يبعد عيناه عنها…

“لا إله إلا الله…..”

قالت شروق بوجوم…..

“محمد رسول الله…..اعصابك ياشيخ صالح
انت مش طايقني كدا ليه ولا قابلي كلمة
هو انت مش حابب وجودي هنا….”

لاح الاستهجان عليه معقبًا….

“وانا احب وجودك او اكرهه ليه….انا معرفكيش وده سبب أساسي يخليني
أقولك بلاش تطلعي هنا وبذات في
الوقت ده…..لاني بكون هنا من بعد
الفجر لحد الشروق….”

سطر الحزن في عينيها بعد حديثه بينما
صدرها كأتون يحترق…..

“اوامرك…..انا مش هطلع هنا غير عشان انشر الغسيل مش أكتر…..”

انهت الحديث ثم استدارت فاوقفها صالح
قائلا بنبرة بها لمحة من الإعتذار….

“ام ملك….انزلي انشري غسيلك تحت…البلكونه
دي مفهاش حبال…..”

“انا جايبه وهربطهم دلوقتي… كتر خيرك…..”

عندما ابتعدت شروق جزَّ صالح على أسنانه بغيظ وهو يغض بصره بعد أن رأى عباءتها ترسم قَدَّها بوضوح بينما الوشاح الذي تضعه فوق رأسها كان ينزلق ليكشف عن نصف شعرها المنسدل على ظهرها…

جاشت مراجل صدره بغضب وهو يكتشف أنه يطيل النظر إليها أكثر مما ينبغي كلّما تلاقى بعينيها البرية… عيون صافية جامحة لا
تخضع لأحد !

بدأت شروق تحلّ الحبال بعصبيةٍ ملحوظة مما جعلها تفقد تركيزها وتُحدث أكثر من عقدة تعيق عملها…

“ينعل ميتـ …..”

“ربنا سبحانه وتعالى نهانا عن سب الأموات…”

قالها صالح بنبرة حازمة وهو يقترب منها ويقف أمامها…

احمرّ وجهها وهي تلفظ اسمه ببلاهة… فلم يسعفها لسانها الآن بعد أن سمعها تسبّ؟!

“شيخ صالح….”

أخذ منها الحبال وبدأ في حلّ العُقد بتأنٍّ وهدوء وهو يتابع دون أن ينظر إليها بصوتٍ حانٍ سلس…

“ونبي صلى الله عليه وسلم…..”

رفع عيناه الخضراء اليها عندما لم يسمع
صوتها….

“قولي عليه افضل الصلاة والسلام….”

ارتبكت وتوهجت وجنتيها بحرج شديد وهي تردد خلفه بهمسًا غير مسموع….

فتابع وهو يعود إلى العُقد يحلّها بتأنٍ وخفة تُثير إعجابها وكانت تنقل عينيها بينه وبين العُقد التي أحدثتها بغباءٍ منقطع النظير !…

“قال….لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا الى ما قدموا…..”

سألته كـطفلة تستفسر من شيخها الوقور بصوت خافت تردد فيه خجلا وانبهار…

“يعني إيه افضوا ؟….”

رفع عينيه إليها للحظة ثم عاد بنظره إلى الحبال وابتسامة خفيفة ارتسمت محياه
ببشاشة….

“يعني انتقلوا…. عملوا اللي عليهم وبقوا بين
ايد ربنا….”

قالت شروق بحرج متلعثمة…

“انا مكنتش أقصد… هي كلمة معلقه معايا ساعة الغضب….”

قال صالح بتوجيه….

“خلي لسانك طيب حتى في الغضب… لان الكلمة اللي بتطلع على لسانك بتكتب
عليكي…”

ثم أشار على الحبل قائلًا ببساطه…

“الحبل اتفك…..”

تركها واتجه الى الشرفة وبدا بربط الحبال
بين دعامتين حديديتين مثبتتًا….

سالته شروق بصدمة…..

“هتعمل إيه ياشيخ؟….”

رد عليها بإيجاز….

“زي ما انتي شايفه هعملك المنشر….”

اقتربت منه معترضة…. “لا ميصحش….”

رد عليها بصوتٍ عادي…..

“لا يصح الا الصحيح….واللي بعمله مفهوش
حاجة غلط…..اعتبريه اعتذار عن كلامي معاكي من شوية….”

تراجعت خطوة للخلف وكسى الحزن وجهها
وهي تقول دون مواربة…..

“انت قولت اللي في قلبك…وجودي مضايقك
وانا ناوية أدور على مكان تاني….ومش هطول
ان شاء الله في القعدة هنا….”

رد صالح بمنتهى الصراحة المطلقة….

“اعذريني…بس انا اب ومسئول عن البيت ده واللي فيه ومحبش أدخل عليا انا أو ولادي
حد معرفوش…حتى لو الحاجة صاحبة والدتك هي برضو مفيش بينها وبينك عشرة…”

اشارت على نفسها مصعوقة……

“انت شاكك في اخلاقي؟….”

رد صالح باسلوب حكيم….

“انا حريص مع الغرب مش شكاك….ومش انا اللي هرمي الناس بالباطل دون بينه…مش طبعي….”

اطرقت براسها ارضًا وهي تشعر بمرارة
الضيم وهي تقول…

“أنا مش هطول في القعدة هنا….أطمن على
بنتك وابن أخوك….”

قال صالح بثبات….

“انا عارف ولادي إيه…ومطمن…..”

صفعها بالكلمات مما جعلها تبتلع المهانة
قائلة ببسمة ملتوية بتهكم…..

“عارفهم هما على إيه….بس انا اللي مشكوك
في أمري….”

دافع عن نفسه قائلا….

“قولتلك اني مش بشك بس انا….”

قاطعته شروق بصوت مثخن بالجراح….

“حريص…..فهمت… وهعيد تاني على كلامي
انا مش هطول في القعدة هنا وهبعد عن
أهل بيتك…..”

اكتفى بايماءة وهو يقول بغلاظة…

“يكون أحسن….وياريت بلاش تطلعي هنا غير
للضرورة القصوى…..زي دلوقتي كده….كمان لازم تمشي على قوانين البيت ده….”

انه يستفز كل عصب داخلها يختبر صبرٍ
ليست اهلا له….سألته بشفاه مرفوعه…

“كمان؟!….اللي هو إزاي بقا ان شاء الله….”

القى اوامره بمنتهي التسلط….

“يعني لبسك يكون أكثر احتشامًا…وحجابك
يغطي شعرك للأخر….بلاش صوت عالي.. ولا ضحك بصوت عالي….”

سالته بذهول ومزالت تحت تأثير صدمة
اوامره…..

“إمتى شوفتني بضحك وبتكلم بصوت عالي؟…”

رد صالح مكفهرًا….

“شوفتك ومش هقول إمتى….”

لوحت بيدها بازدراء….

“على فكرة زمن العُبديه ده إنتهى….”

جادلها بنظرة حازمة مهيبة…..

“الأخلاق والإحترام ملهمش صلاحية ولا
زمن معين….”

اتسعت عينيها بقوة وكأنها ستخرج من محجرها الآن من صدمة ما يُلقى على مسامعها من إهانة مبطنة تتلقاها من رجل يدعي العلم…

اشارة على نفسها بنفس الصدمة السابقة..

“قصدك اني مش محترمه؟….”

هز رأسه محتقنًا….

“لا اله إلا الله….ليه سوء الظن….”

صاحت شروق بنظرة شرسة…

“محمد رسول الله….حقيقي انت أغرب راجل
قبلته في حياتي….”

انعقد حاجبيه بعدم رضا عن ردها وسأل
بخشونة….

“وياترى قابلتي كام راجل عشان اتحط في التصنيف الاغرب؟….اظن اني سمعت انك متجوزة ومطلقة مرة واحده بس…ولا فيه
معلومات تانيه غير كده….”

تاففت وهي تضرب يديها ببعضهما بعصبية….

“انت بتغلط فيا بالادب….”

رد بصوت أجش…..

“انا بستفسر منك بمنتهى الأدب…من حقي أعرف طالما قعده في بيتي…”

قالت بعناد تستفزه كما يفعل معها….

“انا مأجره الشقة…يعني كل اللي ليك عندي ايجار آخر الشهر…..”

أشار على نفسه ثم عليها دون لمسها
وقال بصوتٍ عميق…..

“مفيش الكلام ده….وضعنا يختلف….”

خفق قلبها فجأة وابتلعت ريقها وهي تنظر إلى مكانٍ آخر حيث الأفق الواسع يمتد أمامها..

لترى خيطَ ضوءٍ ذهبي يتسلل من خلف المباني…

كانت الشمس لا تزال بعيدة لكن الضوء بدأ يغزو السماء بهدوء يمسح الظلام ويُلوّن كل شيءٍ حولها بألوانٍ دافئةٍ ومريحة. بينما كانت الطيور تحلّق عاليًا تغرّد بصوتٍ عذبٍ يليق بصباح يومٍ جديد وبدايةٍ جديدة مع كل
شروقٍ يأتي…

فإنّ الشروق هو بداية كل شيء عندما يظهر يشبه وردةً تتفتح في الربيع تُسِرُّ الناظرين شكلًا بينما يعمّ عطرها الأجواء ويملأ الأنوف…

سمعته يهمس وهو يعقد الحبال جيدًا حول الدعامة الحديدية…

“اللهم إني أسألك خير هذا اليوم فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده…..”

لان قلبها وعينيها في النظر إليه فتابع صالح وهو يرفع عينيه عليها…

“كده المنشر خلص….تقدري تخلصي وتاخدي بعدك وتنزلي….”

امتقع وجهها مجددًا وهي تقول بتذمر
طفولي….

“أكيد مش هبات هنا… متخفش مش هسرق الحمام…..”

فلتة من بين شفتيه ضحكة عالية فتوسعت عينيها وهي تنظر اليه بدهشة….انه يضحك كالبشر أخيرًا !….

رد صالح بلطف والبسمة معلقة على محياه..

“اللي يعجبك خديه الخير كتير والحمدلله…”

ثم ابتعد عنها فعادت هي الى سلة الغسيل تميل عليها وتأخذ أول قطعة مغمغمة بحنق…

“كريم بجد…..كتر خيرك….”
………………………………………………………
“اتأخرت بسببك…..المدير مش هيرضا
يدخلني….”

قالتها ملك متذمرة وهي تجلس بجوار أمها
في الحافلة….

قرصة شروق وجنة ابنتها وهي تقول معتذرة…..

“حقك عليا….غصب عني ان شاءالله هيرضا
يدخلك…..”

ثم صاحت شروق بانتباه…..

“الشارع الجاي ياسطا….”

قالت لابنتها وهي تساعدها في ارتداء حقيبة
الظهر….

“اخر الشارع المدرسة….هتعرفي ولا انزل
معاكي….”

رفضت ملك وهي تسير في ممر الحافلة
نحو باب الخروج….

“هي أول مرة ياماما مانا علطول بروح لوحدي
روحي انتي على شغلك….”

نزلت ملك من الحافلة ولوّحت لأمها مودّعةً إياها ثم أكملت الحافلة طريقها نحو المحطة الأخيرة التي ستنزل منها شروق حيث عملها.

وقبل أن تصل ملك إلى باب المدرسة سمعت صوتًا مألوفًا ينادي عليها…

استدارت بحاجبٍ مرفوع ثم تهلّلت أساريرها وركضت صائحة بسعادة..

“تيته… إيه اللي جابك هنا؟!”

عانقتها عنايات بقوة وقبّلت وجنتيها بحرارة قائلة…

“وحشتيني فقولت اجي أشوفك…..انتوا روحت فين ياملك… الجيران بيقولوا انكم سبتوا الشقة….

ثم سالتها بلؤم يلمع في نظراتها الخبيثة
بالفطرة…..

مجتيش ليه عندي انتي وأمك مش انا قولتلك تقوللها…. وتخليكي وراها لحد ما توافق….”

قالت الصغيرة باسهاب بريء…..

“مش راضية ياتيته حاولت كتير مش عايزة.. بس احنا نقلنا في شقة حلوة اوي ووسعة..
ومش بعيدة أوي عن المدرسة….”

ثم نظرت الى مدرستها من الخارج
واضافت…

“كنت خايفه انقل من المدرسة واسيب صحابي….”

هتفت عنايات بحقد…..

“استني بس متخدنيش في دوكه دا فين الشقة الواسعة دي…. وعند مين….”

اخبرتها ملك بعينان تنطقان بالسعادة…

“عند واحده صاحبة تيته وجيهة.. اسمها أبرار
تيته أبرار…. طيبة اوي وبتحبني أوي….”

سألتها عنايات متوجسة والشك يلتهم صبرها….

“وابرار دي عندها ولاد…..”

اومات الصغيرة مجيبة…..

“اه عندها عمو صالح وعمو ياسين….وطنط
أبرار حفيدتها….”

اشتعل صدر عنايات بالغل وهي تُجبر نفسها على التبسم في وجه الطفلة.. التي ترغب
الان وبشدة في صفعها مرارًا كي تتخلى عن دلالها المقيت وتعطيها المعلومة كاملة… دون مماطلة مزعجة….

تشبه أمها في كل شيء… حتى إن عنايات لم تعد تطيق النظر إليها لثانية واحدة. ومع ذلك كان عليها أن تتقن التمثيل بقدر ما تأمل أن تنتزع شيئًا مفيدًا من هذه الصغيرة المدللة.
تمامًا كما تفعل أمها اللعينة….

“انا توهت منك ياملك انتي تيجي معايا وتحكيلي كل حاجة شوفتيها وعرفتيها
عن الناس دي….”

بدت الحيرة على وجه الصغيرة وهي تنقل
عينيها بين جدتها المنتظرة وباب المدرسة…

“طب والمدرسة ياتيته؟…”

اغرتها بحديث ناعم وعرض لا يُقاوم….

“غيبي منها….. ونطلع دلوقتي على البحر اجبلك البيتزا اللي بتحبيها… تحكيلي كل حاجة وانتي بتاكليها….”

وافقت الصغيرة بسرعة بابتسامة واسعة…
……………………………………………………
كان جالسًا في الشرفة مسترخيًا على المقعد الخشبي يمدّ ساقيه فوق المقعد المقابل. يحتضن الجيتار بين ذراعيه كمن يحتضن جزءًا من روحه… يداعب أوتاره بأنامله بخفة تشبه الهمس… بينما عيناه تتعلّقان في امتداد السماء الصافية أمامه والأشجار العالية التي تحيط بالبيت…

أغمض عينيه لبرهة.. وغاص في تلك اللحظة العذبة. تذكر وجهًا ما وضحكةً حلوة بغمازات كنجمتين منقوشتين بعناية على خديها تهادي بها الناظر شيئًا من الدفء والبهجة..

عينيها متسعة كمجرة الليل بلمعان ألف نجمة ونجمة لا تقارنها جمالًا…

“سيدي ياسيدي على الحب…دا يابختها اللي واكله عقلك وابتسمتك بسببها من الودن للودن…..”

فتح عينيه نصف فتحة وقد تجهم وجهه عندما سمع كلمات تدل على غباء أنثوي
منقطع النظير…

كانت تقف أبرار أمامه بإسدال الصلاة تحمل بين يديها صينية عليها كوبان من العصير الأحمر… عاد بعينيه إليها فرآها تبتسم مشيرة إلى اكواب العصير…

“جبتلك عصير الرمان….عصير الحب يليق على الجو الشاعري اللي انت عملهولنا ده….”

مشروبهما المفضل منذ الصغر… مشروبهما السحري هناك من وقع عليه سحر الحب
وآخر نجى منه بسهولة….

“نزل رجلك ياحبيبي….”

ابعد ياسين ساقيه واعتدل في جلسته بينما
جلست هي أمامه تعطيه كوب العصير الأحمر
قائلة بمناكفة….

” على فكرة انت ضيف هنا….شقتك
تحت….”

زم شفتيه متهكمًا في الرد…..

“لما بتبقي تحت بتعملي ما بدلك ومحدش بيقولك حاجة….هنبدأ بقا شقتي وشقتكم..”

اخذ رشفة من العصير ثم قال بعدم رضا
وهو ينظر الى الكوب..

“اي ده حطه كيلو سكر…..”

قالت مبتسمة وهي تاخذ رشفة من الكوب
باستمتاع…

“انا بحبه حلو بزيادة….وبعدين من واحنا صغيرين وماما كانت بتعملو عشانك سكره
مظبوك وكنت بضحي وبشربه…ضحي انت
كمان واشربه حلو عشاني….”

عاد يرتشف قائلا بسخرية….

“ما انتي مدوقاني المُر جت على الحلو…”

نظرت اليه متوجسة وسألت….

“تقصد إيه بكلامك ده هو انا جيت جمبك…”

زجرها ياسين ممتعضًا…..

“ما المشكلة انك مجتيش جمبي….”

سألت ببلاهة….

“انا مش فاهمه حاجة…”

وبخها ياسين بنظرة متجهمة……

“من امتى بتفهمي يادكتورة…. دخلتي طب
إزاي بمستوى ذكائك ده….”

اتسعت عينيها بحدة فمدت يدها تاخذ الكوب
التي صنعته بنفسها….

“هات العصير خسارة فيك….”

رفض وهو يبعد الكوب عن مرمى يدها
قائلا بمناكفة….

“بعينك دا انا ما صدقتك شوفت منك حاجة”

زمت أبرار فمها بضيق…

“بتلمح لي إيه….. اني خايبه؟….”

أومأ براسه مؤكدًا…..

“انك كسلية..وبتعملي كل حاجة بطلوع
الروح….”

رفعت راسها للأعلى بإباء وهتفت بصلف….

“صح لاني دكتورة والمفروض اتعامل معاملة
تختلف عن اي حد في البيت ده…”

ثم استرسلت باقتضاب…

“انتوا بتتعاملوا معايا كاني مصدر كبير للمعلومات…محدش فاهم معاناتي بجد…”

نظرت الى باب الشرفة المفتوح عليهما
ثم عادت إليه وقالت بخفوت….

“طب اقولك تيته من كام يوم دخلت جارتنا اللي في العمارة اللي في وشنا ليا وكانت جايبه اشاعه لابنها وتقولي شوفيلي بتقول إيه….”

سألها بفضول…. “وقولتلها ؟….”

صاحت فيه بغيظ شديد…..

“يابني أقولها إيه انت مفكرني ذكاء اصطناعيّ
انا لسه باخد الهيستولوجي….”

سألها مستمتعًا بجلستها ومذاق الرمان الحلو..

“و دا يطلع إيه؟…”

التوى ثغرها في إبتسامة تنز سخرية
لاذعة….

“دا كلام كبير محتاج شرح ودراسه مش هيستوعبه بشمهندس إنتاج خليك في
القماش بتاعك….”

قطب جبينه عابسًا من ردها…

“ونعمة التربية والله…القماش دا اللي
دخلك طب…..”

قالت أبرار بأسلوب مستفز….

“مجهودي وسهر الليالي كان السبب الرئيسي للوصول….فبلاش تنكر ده….”

امتقع وجهه هازئًا وقال ببرود…

“لنفسك على فكرة دكتورة… مدرسة…بتاعت
قماش لنفسك مش ليا….”

القت عليه أبرار نظرة متوعدة وقالت…

“ماهو لنفسي فعلا…. بس والله لادفعك تمن الكشف يا ياسين انت وعيالك وعيال عيالك كمان….”

ضحك ضحكة قاتمة وهو يرد لها الصاع
صاعين…..

“كده كدا مبروحش لحد هوائيّ….”

اتسعت عينيها بالغضب وهي تصيح
بصوتٍ عالٍ…..

“هوائي مين ياحبيبي…دا انت مش عارف الهيستولوجي…..مش مكسوف من نفسك..”

تمتم دون اكتراث….

“ماهي لو درستي هعرفها… انتي بقا متعرفيش
غيرها….”

قالت بعنف…… “تعرف تعد لحد كام…..”

سألها بفتور….

“انتي حافظه لحد كام؟….”

نظرت إليه بضيق ولم ترد فضحك ياسين
واخيرًا قد نال منها فقال باستهزاء….

“شوفتي مش حافظة غيرها…. والله فلوس التعليم بتصرف على الأرض….”

قالت أبرار بعصبية…..

“كنت بتكبش من جيبك وتديني…”

ادعى الاسى قائلا ببراءة….

“انا زعلان على عمي اللي مضيع فلوسه على
الهيستولوجي بس….مخدتيش غيرها يادكتورة…”

ثم استرسلت بتقريع….

“وعايزاني اكشف عندك…أحلى نكته والله…”

اوغر صدر أبرار بالغيظ فـنهضت من مكانها
تنوي شن عراك معه وقالت…

“انت…..”

“أبرار…..”

توقفت أبرار وهي تنظر إلى باب الشرفة لترى جدتها تأتي نحوها وبين يديها الهاتف… ثم قالت عندما وصلت إليهما..

“في واحدة عايزة تكلمك…”

سألتها أبرار وهي تقترب من جدتها
“مين يا تيتة؟…”

أعطتها الجدة الهاتف فأخذته منها ثم وضعته على أذنها بتساؤل للمتصلة..

“ألو أيوه مين؟… مين أم بطة؟… أم بطة مين؟… النمرة غلط…”

لكزتها جدتها قائلة بحزم…

“غلط إيه يخربيتك… دي اللي ساكنة في العمارة اللي جمبنا…”

أبعدت الهاتف عن أذنها وهمست لجدتها

“طب ومدياني التليفون ليه طالما إنتي عارفاها؟…”

عادت تدفعها بخفة لتعيد الهاتف إلى أذنها

“اسمعي بس هتقولك إيه…”

انصاعت أبرار لأمرها وهي تضع الهاتف مجددًا وتستمع للمتصلة ثم قالت بدهشة…

“مين بتولد عندك….. بطة…..”

استرسلت أبرار بغباء….

“بس انا اعرف ان البط بيبيض مش بيولد..”

لكزتها جدتها بحنق شديد….

“بيض إيه…. بنتها إسمها بطة…. بتولد….”

نظرت الى جدتها ببلاهة وسألت….

“الف مبروك…. انا مالي برضو؟….”

صاحت الجدة بنبرة مؤنبة….

“مالك إزاي الشارع كله عارف انك دكتورة.. وام بطة طيبة وغلبانه عايزة إستشارة بنتها
بتتوجع وهي في السابع…..دا معاد ولادتها؟
ولا وجع عادي؟….”

انفجر ياسين ضاحكًا بينما نظرت أبرار الى
جدتها مصعوقة…..

“ياتيته معرفش انا في تانيه طب ياجماعة حرام عليكم….”

قالت الجدة بتعنيف…

“يبقا انتي خايبه والفلوس اللي بتسحبيها
من أبوكي دي بتصرفيها على الفاضي مش
كده….”

تململت أبرار في مكانها بغضب هادرة
باحتقان…

“انتي وابن ابنك مستقصدني صح… دا انتوا لو لقيني على باب جامع مش هتعملوا كده..”

اتسعت عينا أبرار وهي تسمع كلمات المتصلة
عبر الهاتف…..

“يام بطة أسمعي… يعني إيه شكل القرن طش؟…”

نظرت لها جدتها بضيق تحملها المسئوليّة
كاملة بينما بهت وجه أبرار بصدمة أكبر
من السابقة….

“تجبيها عندي نعمل سونار إيه…حد قالك
اني فاتحه عيادة في البيت….”

صاحت أبرار بحنق بالغ وهي تبعد عينيها
عن جدتها التي ترمقها بخيبة أمل !…..

“عايزة إستشارة…طب خدي إستشارة…..”

“ودي بنتك المستشفى أو كلمي الدكتورة
اللي متابعة معاها….اي الروقان بتاعك ده
الحقي بنتك بدال ما أنتي مسلطه تيته
عليا كده وعملين ليا اختبار مفاجئ….”

عندما انهت المكالمة بوجوم رأت جدتها
ترمقها بنظرة مملؤه بالخذلان فقالت
أبرار بتشنج….

“هو انا لازم اولد بنتها عشان تتاكدي اني في كلية طب….”

صاحت الجدة بغضب….

“امال دكتورة إزاي اسم كده مفيش فعل..”

نظرت أبرار بحدة الى ياسين الغارق في موجات من الضحك منذ بدء المكالمة فقالت بحرقة اختلطت بالغضب…

“أضحك أضحك اللهي تشرق وتموت…”

تعثّر ياسين في ضحكةٍ قوية فسعل فجأة وبقوة… اقتربت منه الجدة بقلق.

“يا ساتر يا رب… الواد هيموت…”

لم تهتم أبرار بل خرجت من الشرفة بوجهٍ مربد وأوداجٍ منتفخة من شدة الغضب بينما صاحت الجدة من خلفها بهلع…

“رايحة فين؟….. تعالي يا بت عالجيه من الشرقة… انتي مش دكتورة.؟! ”

ضحك ياسين مجددًا من بين السعال…
………………………………………………………
كانت تسير في الشارع تحدّث نفسها بلا وعي وعيناها تنطقان بالخوف والقلق يتغذّى على روحها.

فتحت البوابة الحديدية الصغيرة ووقفت في وسط حوش البيت عاجزة ضائعة عقلها يدور في دهاليز تطبق على أنفاسها…

عادت الدموع تتجمع في عينيها ثم انهمرت بغزارة وقلبها مفطور على ابنتها…

لم تذهب إلى المدرسة صباحًا… كيف؟! وهي نزلت من الحافلة أمام عينيها وودّعتها.. أكان ذاك الوداع الأخير ؟! يا إلهي…

لا تختبر صبري فيها يا الله ليس لي أحدٌ سواها. قلبي يحترق وعقلي يكاد يجنّ من التشتّت… أين ذهبت؟!

بحثت عنها عند كل من تعرفهم ويعرفونها ولم تجدها…ذهبت إلى بيت عنايات فأخبروها الجيران أنها خرجت منذ الصباح الباكر…

هل عنايات خطفتها؟!… لتحرق قلبي على ابنتي ؟! عقابًا لي على عدم الرضوخ لها ورفضي للانتقال والعيش عندها…

أرادت أن تستعبدني مجددًا… أرادت أن تقهرني…وحين لم أرضخ لعبت على نقطة ضعفي الوحيدة

ابنتي المتبقية لي في هذه الحياة القاسية…
التي أركض فيها حافية على الجمر من أجل عينيها…

“روحتي فين يا ملك؟… روحتي فين يا بنتي؟…”

“يا رب…يا رب رجّعها سالمة… يا رب مليش غيرك…”

“خير يام ملك…. بتعيطي ليه؟…”

رفعت عينيها نحو الصوت الرجولي المتساءل فرأته…كان يقف مرتدي حُلّة أنيقة أتى لتوّه من الخارج بسيارته المصطفّة خلف الباب الحديدي…

هل وصل الآن؟ لم تشعر به…هي لا تشعر بأحد حتى ساقاها تحملانها بأعجوبة تستحق جائزة تقدير…

اقترب صالح منها يسألها باهتمام وهو يرى وجهها غائمًا بالحزن والدموع…

“مالك؟… في حاجة حصلت معاكي؟… بنتك
كويسة؟.. ”

عند هذا السؤال انخرطت في بكاء حاد
وكأنّه ضغط على زر التشغيل لمأساة لا تنتهي
ولا تفهم متى بدأت حتى؟!…

ظل ينظر إليها بعدم فهم يقف أمامها لكن بينهما مسافة…وكأنّه يخشى الاقتراب منها !

“فهميني بس… بتعيطي ليه ؟!.. ”

قالت من بين بكائها المرير العالي…

“مـلـك……”

سألها صالح بعينين حائرتين….

“مالها ملك إيه اللي حصلها…..”

قالت بانهيار….

“مش عارفة حاجة…..”

بنظرة مرتابة وملامح متوترة عاد يسألها بنفاد
صبر….

“انا مش فاهم حاجة فاهميني عشان نقدر نتصرف…..مالها بنتك؟…”

قالت بصوت متهدج مخنوق بالبكاء…..

“محضرتش النهاردة في المدرسة مع اني موصلاها بنفسي ونزله قدامي من الاتوبيس وانا طلعت على الشغل…..بعدها روحت في معاد الخروج قالوا مجتش وخدوها غياب….”

رق قلبه اليها فقال بلطف….

“طب كنتي اسألي عليها حد من معارفكم…..”

اجابته شروق بوهن….

“سألت….سالت كل اللي يعرفونا ونعرفهم محدش شافها….حتى روحت بيت جدتها ام ابوها مش موجوده….”

حدثت نفسها وهي تنظر الى الأرض وصدرها يعلو ويهبط من شدة الانفعال…..

“يمكن تكون خطفتها…هي عايزة تحرق قلبي على بنتي مش مكفيها اللي عملته فيها الست سنين جايه تكمل…..”

“انا هبلغ البوليس لازم يجبولي بنتي….”

منعها صالح قائلا بتعقل….

“أهدي يام ملك….مش هيعملوا حاجة لازم يعدي على غيابها اربعة وعشرين ساعة…..”

نظرت اليه بشراسة هادرة بحمائية….

“انت عايزني استنى لحد اربعة وعشرين ساعة
دا انا أموت…..”

هز صالح راسه مشفقًا عليها ليقول….

“مقولتش كده انا هاجي معاكي وندور عليها
في اي مكان تعوزيه….”

رفضت بكبرياء مجروح……

“كتر خيرك انا هتصرف….”

سحب صالح نفسًا طويلا وهو يقول بصبرٍ
ومهاودة…..

“لا إله إلا الله…..النبي وصى على سابع جار…
مابالك انتي ساكنة في نفس البيت…روحي اغسلي وشك وانا هستناكي في العربية….”

جحظت عينا شروق بعدم تصديق وهي تنظر إلى نقطة خلفه وقالت وهي تهرول نحوها…

“مــلــك…”

استدار صالح ينظر إلى ما يحدث ليرى ملك أمامهما حاملة على ظهرها حقيبة المدرسة وقد دلفت للتو إلى الحوش وهي ترمقهما بريبة….

ضمتها شروق إلى صدرها وهي تنفرط من البكاء هامسة من بين قبلاتها المتلاحقة بلهفة وحرقة على ابنتها…

“الحمد لله… الحمد لله إنك بخير… أنا كنت هموت…كنت هموت في الساعة دي…”

نظرت لها ملك بعدم فهم مستفسرة بتوجس

“في إيه يا ماما… أنا متأخرتش كتير… يدوبك
خرجت من المدرسة وجيت على طول…”

أخرجتها شروق من حضنها وقد توقفت عن البكاء ناظرة إليها بشك وسألتها…

“انتي كنتي فين يا ملك؟…أنا روحت المدرسة
وقالوا إنك كنتي غايبة النهاردة…”

ارتبكت الصغيرة وهي تُبعد عينيها عن
أمها…قائلة

“وليه روحتي المدرسة؟.. ما قولتلك هعرف أجي لوحدي…”

أمسكت شروق كتفيها وهزّتها بعنف…

“انطقي كنتي فين؟ من إمتى بتكدبي عليا؟ انتي مكنتيش كده…”

لمعت عيون ملك بالدموع وقالت بخوف…

“عشان لو عرفتي هتضربيني…”

عيل صبر شروق فصاحت في وجه ابنتها
بشراسة…

“انطقي بقولك كنتي فين؟!”

قالت الصغيرة بارتعاد..

“كنت مع تيته عنايات… كنا بنتمشى على البحر…”

لم تشعر شروق بنفسها إلا وهي ترفع كفها وتنزل به على وجنة ابنتها في صفعة قوية مهينة تتلقّاها ملك لأول مرة من أمها !..

وضعت ملك يدها على خدها ونقلت عينيها المليئة بالدموع بين أمها وصالح الواقف خلفهما يتابع ما يحدث بصمت دون تدخل
لكن ظهرت علامات الرفض على وجهه عندما تلاقى بعيني ملك الكسيرة بعد هذه الصفعة…

ركضت ملك إلى الداخل دون كلمة وصوت بكاؤها يعلو بأنين يوجع القلب بينما تعلقت يد شروق في الهواء على إثر ابنتها وشعور الندم غصة حادة نشبت في قلبها قبل حلقها..

الفصل التالي اضغط هنا

يتبع.. (رواية اشتد قيد الهوى) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق