رواية اشتد قيد الهوى الفصل الثامن 8 – بقلم دهب عطية

رواية اشتد قيد الهوى – الفصل الثامن

عندما كُتب علينا اللقاء لم أُحصّن نفسي من عيناكِ ولم تدركِ أنتِ مدى خطورة اقترابنا.. ظننتُ أنا أنها رحلة عابرة،.لكنها كانت نقطة تحول يصعب العودة بعدها !…

وقفت صفية أمامه تحدق فيه بعدم رضا والغضب يتطاير من عينيها كشررٍ مشتعل….

“انت عايز تموت نفسك؟…عايز تحرق قلبي
عليك؟….”

تحدث أيوب بنبرة هادئه موضحًا….

“فين حرقة الدم دي ياصفصف دي مصلحة حلوة وهناكل من وراها عيش…. قدريني سفرت مانا كنت قايلك اني عايز أسافر….”

لم تستطع كبح جماحها أكثر وهي تصيح في
وجهه….

“وانا كنت موافقة على سفرك لما اوفق على
موتك وانت بتحمي بنت الاكابر…. لا…. لا
وألف لا…..”

هتف أيوب بعدم اكتراث……

“انتي ليه محسساني اني رايح احارب…. شغلانه زي اي شغلانه….”

أشارت إلى بناتها الواقفات بجوارها يستمعن للحديث بملامح باهتة وعلامات القلق تعلو وجوههن….

“اللي سمعته انا واخواتك من الراجل وبنته ميقولش انها شغلانه دا بيشتري روحك…. بيشتري روحك بالمبلغ اللي تطلبه….. وانا فلوس الدنيا كلها عندي متسواش ضفرك….”

ثم صاحت في التوأمين بانفعال شديد….

“ما تكلموا…. ولا موافقين نخسره زي ما خسرنا ابوكم….”

قالت نهاد بـرزانة……

“اسمع كلام ماما يا أيوب…. احنا مش عايزين
حاجة….. لو على مصارفنا احنا نشتغل جمب
جامعتنا ونساعدك…”

أطلق زفرة سأمٍ وهو يصيح بملامح مكفهرة…

“بس انا مطلبتش من حد فيكم يشتغل ولا يساعدني في حاجة…ولا عمري اشتكيت
انتوا ليه مش عايزين تفهموني….هما كام شهر والقضية تخلص ويطلعلي من الحوار ده مبلغ
كويس افتح محل وارتاح من وقفت الشارع والبلاديه اللي قرفني…..”

استبد الغضب من صفية أكثر فقالت بكراهية..

“مش عايزين يغورو بفلوسهم….خليك زي ما انت وربنا هيكرمك…..ياما ارجع اشتغل في مصنع صالح الشافعي…..”

رفض الأمر رفضًا قاطعًا، بملامح متصلبة ونظرة حانقة مشتعلة.

“مش هقعد على مكن خياطه تاني لو السماء انطبقت على الأرض مش هيحصل…”

اقتربت منه والدته تهون عليه مربته على
صدره لتقول بنبرة حانية…..

“ليه….ليه يابني….. انت عملت اللي عليك وقتها لكن عمره كده…..مش انت سبب موته يابني كله مقدر ومكتوب…..”

أغمض عينيه بقوة يخفي ألمًا وصراعًا يتفاقم
داخله يومًا بعد يوم حتى أصبح لا يحتمل.

وكأنه يحمل ثقل العالم بأسره على عاتقه !…

“ارحميني يامه…. مش هرجع للصنعه دي لو اخر نفس في عمري مش هرجع….”

قالت والدته بترجي ملتاعة القلب عليه…..

“خلاص اشتغل حاجة تانيه… بس ابعد عن الراجل ده وبنته مش عايزين حاجة من وشهم…يغورو بمصايبهم…..ابعد يابني دا
قتل ودم… واحنا طول عمرنا ماشيين جمب الحيط….”

قالت نهاد كذلك وهي تقترب منه على الجهة
الاخرى…

“اسمع كلام ماما يا أيوب عشان خاطرنا….”

وفعلت ندى وهي تقف بالقرب من أختها…..

“ايوا يابوب لو بتحبنا بلاش توافق على الشغل
ده…..”

قالت والدته والدموع تسيل من عينيها
بقلق……

“من خاف سلم ياحبيبي….واحنا عايزينك
جمبنا….عشان خاطري….ورحمة أبوك ما
توجع قلبي عليك….”

نظر إليهن بعجز وقد ضاق صدره وثقل بعدة
مشاعر متضاربة متخبطة . لذا لم يجد سوى الرضوخ جوابًا لإنهاء هذا الجدل بينهن.

“حاضر هبلغهم اني مش موافق…..”
………………………………………………………..
في اليوم الثاني كان يجلس على الأريكة في غرفة مكتب كمال الموجي.. ينتظر نزوله بعد أن أوصلته الخادمة إلى هنا.

غرفة شاسعة أنيقة بألوان محايدة. مكتبه تحتوي على عدد كبير من الكتب…. ومكتب لامع من الخشب الأبنوس مع مقعد وثير ضخم…

يُضع على سطح المكتب لافته صغيرة ذهبية مكتوب عليها (مصمم الأزياء /كمال الموجي)

على الحائط علق بعض اللوحات الخاصة بأشهر التصاميم التي قام بها، بالإضافة إلى بعض الشهادات والجوائز الذهبية التي حصل عليها على مدار سنوات عمله.

التوى فك أيوب لم يتوقع يومًا ولا حتى في أحلامه أن يجلس في مكتب أستاذه وملهمه، وأن تدور الأيام بشكل مريع ليكره المجال
الذي كان يبني عليه أهدافًا وطموحًا يسعى لتحقيقها. حتى وجوده هنا لم يشكل فارقًا داخله… وكأنه قتل هذا الحلم وانتهى منه للأبد !.

حانت منه نظرة على الخزانة المغلقة تلك التي أراد سلامة نهبها وتحقيق أحلامه بالخطفة الكبرى كما اخبره حينها…

هو هنا الآن بينه وبين أحلامه خطوة لكنه لن ينهب كـسلامة ويجري. سيضع حياته في كفه وحياة ابنة الذوات في الكفة الأخرى وعندها سيحصل على ما يريد !….

“لما بلغوني انك هنا مصدقتش افتكرت انك هتبلغني ردك في التلفون…..”

قالها كمال الموجي وهو يدلف اليه على مقعده المتحرك وقف أيوب احترامًا له وهو يرد بحيرة

“حسيت ان الأحسن اجي لحد هنا وبلغك ردي…”

اشار له كمال بالجلوس مجددًا بينما قال
عابسًا…

“لسه محدش قدملك حاجة تشربها ده كلام…

رفض أيوب بملامح جافية….

“انا مش جاي اضايف ياكمال بيه….انا عايزك
تسمع ردي……”

نظر له كمال قليلاً وقد رأى الرفض مسطرًا في عينيه القاتمتين فقال باستفاضة مقنعة….

“قبل ما ترفض يا أيوب….تأكد اني لما اختارتك تشتغل معايا….اختارت حد يكون عين تانيه ليا
يحمي بنتي لو بروحه….استجدعتك..وحطيت
ثقتي فيك ودي حاجة كانت من رابع المستحيلات اعملها مع اي حد…لكن الظروف اللي جمعتنا….كانت كفيلة تخليني أعرض عليك الطلب ده…وواثق إنك قد الأمانة دي….”

أبعد أيوب عينيه عن كمال مفكرًا بصمت مبهم
بينما أضاف كمال بخوف يستوطن قلبه….

“والفلوس اللي عرضتها عليك نقطة في بحر قصاد حيات بنتي وانها تكون في امان طول الوقت معاك….”

تابع كمال بصوت خافت…يملأه الألم…..

“محدش يحب يعيش الوضع اللي انا عايشة ده يا أيوب….لكن دي حكمة ربنا…وانا متأكد انها أزمة وهتعدي على خير…..”

قال أيوب بتردد وحرج من الإفصاح عن
سبب رفضه…..

“انا…..انا كنت ناوي اوفق بس….بس للأسف امي سمعتنا واحنا بنتكلم….و….وانا مش عايز
اعيشها في قلق عليا طول الوقت…..”

نظر له كمال وقال بنبرة حاسمة….

“لو انت موافق مبدائيا على الشغل…. فطمنها وقولها انك رفضت….ومع الوقت نبقا نمهد لها الموضوع لما تتأكد ان مفيش حاجة تستاهل قلقها…..”

ثم عاد مستأنف بهدوء……

“هي فترة قصيرة وكل واحد فينا هيرجع لحياته..لكن ساعتها هتكون امنت مستقبلك ومستقبلهم هما كمان ولا إيه ؟!….”

أومأ أيوب بعينين شاردتين يحاول أن يقنع نفسه وهو يردد الجملة بتيه….

“صح….هي فترة قصيرة…..”

تفاوض كمال معه بنبرة هادئه…..

“الضمانات اللي انت عايزها انا هعملهالك….
والمبلغ اللي تطلبه انا موافق عليه….اي
رأيك… ”

اكتفى ايوب بايماءة قبول…..

“مفيش راي بعد رأيك…نتوكل على الله وان شاء الله اكون قد الثقة….”

ابتسم كمال قائلا دون مواربة…..

“قدها وقدود انا عملت تحرياتي عنك وكل اللي عرفته طمني وكان في صالحك….”

اقترب كمال بمقعده المتحرك إلى درج المكتب أخرج رزمة من الأموال وقدمها إلى أيوب.

“خد دول يا أيوب..”

سأله أيوب وهو ينهض من مكانه ناظرًا إلى
المال….

“اي دول يا باشا….”

رد عليه كمال بعملية……

“مبلغ بسيط تجبلك كام بدلة كده لزوم الشغل..”

ظل أيوب صامتًا لبضع لحظات….. ينتقل بين
المال وعينا كمال المنتظرة ثم قال بخشونة…

“بس دول كتير….”

“مفيش حاجة تكتر عليك…..”

ثم سأله بتذكر….

“عندك حساب في البنك؟…..”

اجاب أيوب….”لا…..”

قال كمال بنبرة جادة……

“تفتح حساب عشان احولك مرتبك عليه….اتفقنا…”

تجهم وجه أيوب وهو يقول بصلابة…..

“لما اشتغل الأول ابقى اخد مرتبي…..”

“زي ما تحب….”قالها كمال ثم اخرج تنهيدة طويل قبل ان يقول بجدية…..

“خلينا نتفق اتفاق يا أيوب…..بما انك وافقت
تشتغل معايا…. ”

أومأ أيوب برأسه متأهبًا في وقفته.. منتظرًا ما سيأتي منه…

فقال كمال بتوجية حازم……

“نغم.. عايزك تكون معاها زي ضلها….نغم عنيدة ومش بتحب تكون تحت عين حد
طول الوقت…..فحاول تتعامل مع النقطة دي بذكاء….كمان عايزك تبلغني بكل حاجة تقرير مفصل وكامل عن يومكم….ولو في يوم اعترض طريقكم شكري العزبي بنتي….”

هتف أيوب بجسارة قوية دون أدنى تردد….

“روحي قبل بنتك….أطمن مفيش حد يقدر يلمس شعره منها طالما معايا…..”

علت ابتسامة الرضا وجه كمال ليقول….

“دا اللي انا منتظره منك يا أيوب……”
……………………………………………………
وقفت أمامه في بهو الفيلا بكامل أناقتها عاقدةً ذراعيها أمام صدرها بضيق… ترفع حاجبها للأعلى بضجر وعيناها تحدقان فيه بغضب وعدم تصديق…

“جيت ليه يا أيوب ؟!…”

نظر إليها قليلا ثم اجاب مبتسمًا…..

“مش محتاجه سؤال جيت استلم شغلي الجديد ولا انتوا جبتوا حد غيري….”

رمشت بعينيها مرتبكة أمام ابتسامته الجذابة ثم غلّظت صوتها وقالت بجفاء…

“انا افتكرتك رجعت لعقلك وحسبتها صح….”

ضيّق عينيه بدهاء متحدثًا بجدية…

“انا فعلا حسبتها صح وطلع الدولار بـ٥٢…
فمين الغبي اللي يرفض وظيفة مرتبها بالدولار….”

جزت نغم على اسنانها بغيظ وهي تنظر إليه
باحتقار…..

“يعني برضو الماديات اللي جبتك؟….”

“أمال عنيكي مثلا ؟!…..”

قالها وعيناه تنظران في عينيها بقوة وكأنها خارطة الوصول للضفّة الأخرى…العالم الآخر…

وفي عينيكِ دليلي وبداية المعرفة همسة منكِ تكفيني…فلا تسألي عن أيّ سحرٍ حلّ بي فلا
سحر أشد من الهوى !….

أسبلت نغم عينيها تبتلع ريقها بتوتر فما يحدث لقلبها الآن أمرٌ عجيب إذ يقرع بقوة متفاعلًا مع كلمة ساخرة قالها غريب… غريب كُلف بحمايتها من قِبل والدها !…..

“كلمت بابا وعرفته؟….”

غيّرت مجرى الحديث بسرعة بديهة… فردّ عليها أيوب بهدوء…

“إمبارح كنت عنده واتفقنا على كل حاجة….”

علت الدهشة وجهها لتقول…..

“امتى ده؟….وازاي مشوفتكش……”

رد بإبتسامة باردة واعتداد بالنفس….

“كنتي في الشركة وقتها…ومتقلقيش هتشوفيني كتير بعد كده….”

انكمشت ملامح نغم باستهجان.. ثم انتفخ أنفها ورفعته بإباء لتقول بصلف.

“ومين قالك اني مهتمه اصلا….زيك زي اي حد
من الحرس..وطالما وافقت على الشغل معايا
يبقا بشروطي انا….وبلاش تتخطى حدودك
معايا…..اتفقنا ؟ ”

التوى فك أيوب منفعلاً لكنه أخفى الغضب خلف قناع هزلي…

“هدي اعضاءك ياشابة دا لسه أول يوم شغل لعملنا حسنة ولا سيئة…..”

اتسعت عينا نـغـم بذهول قائلة بحدة….

“نـعـم…..شابة؟…..انا مبحبش الاسلوب ده في الكلام…..”

جادلها بنظرة محذرة…..

“وانا زيك محبش عوجة اللسان….”

سالته عابسة….. “يعني إيه؟….”

مسك ربطة العنق وبعصبية طفيفة قال بازدراء…

“يعني بلاش تشوفي نفسك عليا يـا نـغـم انا ممكن أقلع الجرفته دي وقولكم مع سلامة…..”

“واشمعنا الجرفته؟…..”

“عشان خنقاني من ساعة ما لبستها….”

قالها وهو يدير وجهه الحانق للناحية الأخرى
بنفاد صبر…
“مش يلا بينا.. ولا لسه في كلام تاني مقولتهوش….”

ردت عليها نغم بتعالٍ وتسلط……

“اللي لازم تعرفه ان زيك زي اي حد شغال عندي..وبلاش تتعدى حدودك معايا في الشغل أو برا الشغل..”

رد عليها أيوب بنبرة خشنة مسننه الوقع….

“مفيش تعامل بينا برا الشغل…وفي الشغل هعملك بالمثل…..يعني احترام قصاد إحترام….هتتعوجي عليا من غير سبب
يبقا ليا حق الرد….”

سالته مصدومة من مدى جرأته معها وكأنها
هي من تعمل لديه وليس العكس….

“اتعوج ؟!…..يعني إيه مش فاهمه…..”

رد بصبرٍ…..

“يعني تشوفي نفسك عليا…”

مطت شفتيها الجميلة قائلة ببرود….

“انا مش بشوف نفسي على حد كله في
حدود الشغل…..”

اكتفى بايماءة قائلا برصانة…..

“طالما في حدود الشغل يبقا متقلقيش مش هقصر وهتشوفي ده بعنيكي…..”

فتح أيوب لها باب السيارة فجلست في المقعد الخلفي واستقل هو مقعد القيادة وبجواره قائد الحرس الذي تعرّف عليه للتو… انطلقت السيارة إلى شركة الموجي للأزياء.
……..

وعندما نزهد الأحلام ونتناسى وجودها داخلنا تأتينا هي في موعد متأخر وتُوقظ بنا الحنين إليها لكنها تعجز عن إيقاظ مسعانا نحوها… فما أتى متأخرًا لن يجد العنوان كما هو فقد تغيّرنا وتغيّر داخلنا الكثير !…

ترجلت نغم من السيارة ولحق بها أيوب على الفور ليسير خلفها مباشرة ويحيط بها باقي رجال الحرس. رفع أيوب عينيه إلى اللافتة العريضة شاشة عرض منيرة كبيرة كُتب عليها….(الموجي للأزياء)
ثم يختفي الاسم وتظهر أبرز وأنجح التصاميم التي رسمها ونفذها كمال الموجي صاحب هذا الصرح العملاق…

سارت نغم على الأرضية اللامعة وخلفها الحرس الشخصي… وما إن دخلت حتى عمّ الصمت المكان وقد صنعت هالة من الهيبة والثقة حولها مما جعل الموظفين يقفون احترامًا لها مؤدين تحية موحدة…

ثم تابعت نغم سيرها إلى المصعد بخطى أنيقة واثقة وقد تبعها أيوب بدقة خطوة بخطوة لكن اعترض طريقه يد قائد الحرس المدعو حسام مانعًا إياه من المتابعة….

“انت رايح فين يا أيوب…نغم هانم مانعه
اي حد فينا يطلع المكتب معاها…اخرنا هنا…”

رد أيوب وعيناه تتابعان دخولها إلى المصعد دون أن تلتفت لأيٍّ منهم…

“اخرك انت….لكن انا وضعي يختلف….”

عقد حسام حاجبيه متعجبًا….

“يعني إيه ؟!….”

“دي أوامر كمال بيه…..وانا بنفذها…”

ثم تركه أيوب متوجهًا إلى المصعد وقبل أن تُغلق أبوابه عليها دلف إليه في لمح البصر…

فارتفع حاجبا نغم شزرًا.. وهي تقول بضجر وتعالٍ..

“انت إيه اللي جابك ورايا…انت اخرك تحت مع الحرس….”

“دا في المشمش…..”

قالها أيوب بملامح مسترخية هادئة وهو يدس يده في جيبه متكئًا بظهره على مرآة المصعد اللامعة من شدة النظافة والفخامة ككل شيء في هذا المكان المذهل…

يعترف أن المكان لَمس شيئًا من الحنين…
فمن كان يتوقّع أن تدور به الأيام ويكون
هنا لكن رغمًا عنه في مهمة محددة حماية
هذا العنيدة المتعالية !…

“نعم ؟!…بتقول ايه….”

رد أيوب عليها بنبرة مهيمنة…..

“اللي سمعتيه……ياريت متدخليش في
شغلي….”

خطوط من لهيب طالت رمادياتها… وهي
تقول باستعلاء…

“شغل إيه بظبط…..مين شاغل عند مين ياجدع انت….اسمع الكلام وانزل…..”

مالت تضغط على زر النزول للأسفل بعصبية فامتقع وجه أيوب قائلاً بحدة…

“انتي بدوسي على الزرار ليه…هنطلع فوق على المكتب سوا….”

عاد يضغط هو أيضًا للطابق العلوي فجن جنونها وهي تقول بتشنج…

“سوا مين انت اتجننت مالك انت ومال شغل
المكاتب…..”

رد أيوب بثبات ونظرة شاخصة عليها…

“كمال بيه موصيني ابقى معاكي زي ضلك..وانا بنفذ اللي اطلب مني…وانا مش شغال عندك..
انا شغال عنده هو….”

قربت وجهها المحتقن منه رغم فارق الطول بينهما وقالت باهتياج…. بينما كانت الحرب الشعواء بينهما تزداد حدة.

“يعني ايه تبقى معايا زي ضلي…انت اتجننت
انا نغم الموجي انا…..”

توسعت عينيها بصدمة وهي تراه يوليها ظهره ناظرًا إلى مرآة المصعد باهتمام… ينظر إلى البذلة الرسمية بينما أصابعه تلامس خصلات شعره الغزير بحرص وشفتاه تطلقان صفيرة متواصلة من لحن قديم…

علت أنفاس نغم حادة واستشاطت غضبًا وهي ترى لأول مرة هذا التجاهل المستفز من شخصٍ أكثر استفزازًا..

“انت بتعمل إيه؟….انا بكلمك يـا أستاذ انت….”

بنظرة جانبية جافة كالصقيع رمقها أيوب
ثم عقب مستهجنًا…

“ما تهدي اعضاءك يـا نـغـم هـانـم…خلي اليوم
يعدي على خير…..”

تجمدت ملامحها للحظة ثم علقت بازدراء

“برضو هتقول اعضاءك….انت بتجيب الكلام
ده منين؟….”

رد بنظرة متفاخرة…..

“من الشارع……اصل دا بيتي التاني….”

زمت نغم فمها بقرف قائلة بتهكم…..

“ما واضح….ومن حظي بعيدا عن الناس كلها
اتبلي بيك انت….”

عدل ياقة قميصه وبعيناه الامعة بالعبث الفطري غمز مع بسمة باردة لم تلامس
عينيه قال…..

“بذمتك في ابتلاء احلى من كده….”

اشاحت بوجهها بتوتر عاقدة ذراعيها امام صدرها وقالت بنبرة غاضبة….

“انت بتهزر….اتفضل أنزل استنى تحت زيك زيهم…..”

فتح المصعد أبوابه فاشار لها أيوب بالخروج قائلاً بثبات وثقة لا تهتز… وعناد يفوقها بمراحل.

“أنا مش زي أي حد… ووضعي يختلف
عنهم واسألي كمال بيه لو مش مصدقة.”

أطبقت نغم على أسنانها تكتم ثورة بركانية تكاد تنفجر في وجهه المستفز…

لذلك خرجت من المصعد دون التفوه بحرف تسير بخطوات متشنجة وملامح مربدة غضبًا وغيظًا…

وقفت جيداء عند رؤيتها تلقي التحية لكن الأخرى كانت تسير نحو المكتب كقطار بلا مكابح وخلفها أيوب يسير بهدوء وملامح وجهه صخرية لا تعبر عن شيء…

عقدت جيداء حاجبيها بعدم فهم ولم تجد سوى الذهاب خلفها بالتقرير…

“هي نغم غيرت طقم الحراسة تاني ولا إيه؟..”

قالتها جيداء سرًا وهي تنظر إلى هذا الشاب ذي الوجه الجديد عليها… والذي يقف خلف مقعد المكتب الجالسة عليه نغم الصامتة الغاضبة والتي تغمغم بعدة كلمات غير
مفهومة…

“هو في إيه بظبط؟!…”

قالت جيداء بصوت عالٍ دون أن تدرك ذلك فنظر كلاهما إليها بجفاء…

بلعت ريقها وهي تقترب من المكتب قائلةً بعملية…

“صباح الخير يا نغم… أنا جبتلك التقرير…”

اخذت نغم منها الملف محاولة ضبط أعصابها
قدر المستطاع وهي تنظر الى محتواه…..

“صباح النور ياچيدا….عندنا إيه النهاردة؟….”

قالت جيداء بأسلوب عملي متمكن…..

“عندنا meeting كمان ساعة مع المصممين….عشان تشوفي الكولكشن
الجديد…”

سالتها جيداء بفضول….

“هو انتي غيرتي طقم الحرس؟….”

“لا…..بتسألي ليه…..”

رفعت نغم عينيها إليها فاشارت جيداء بأهدابها نحو أيوب الذي لم ينظر إليهما….فكان يقف كإنسان ألي أو تمثال من الشمع…

قالت نغم وهي تعطيها الملف….

“هبقا احكيلك بعدين…..اطلبي ليا فنجان قهوة
دماغي مصدعه أوي…..”

ثم سألته نغم دون النظر إليه….

“تحب تشرب حاجة ؟….”

نظرت اليه جيداء لتراه يهز راسه نفيا….

عندما أغلقت جيداء الباب خلفها لفّت نغم بمقعدها نحوه مشيرةً بنفاد صبر نحو الأريكة التي تبعد قليلا عن المكتب.

“ممكن تقعد و بلاش تقف على دماغي كده… عملت اللي عايزوا…. ودخلت لحد مكتبي…
عايز إيه تاني…. اتفضل قعد لو سمحت…”

جلس أيوب على الاريكة ثم قال بنبرة هادئة
وديعة….

“هدي اعضاءك….”

انفجرت نـغـم في وجهه حانقة…..

“ان شاء الله ما هديت اعضائي….ملكش دعوة
باعضائي…خليك في حالك لو سمحت….”

اشار لها أيوب بحزم محذرًا…..

“على فكرو احنا كده مش هننفع مع بعض..”

لوحت بيدها متمنية….

“ياريت….ياريت بجد تاخدها من قصرها…
وترجع مكان ما جيت….”

رد أيوب وهو يرمق أنحاء المكتب الفخم بنظرة شاملة قبل أن يعود إليها….

“فات اوان الكلام ده….انتي هتشربي قهوة كده على الصبح؟….”

تغضنت زاوية عينيها بترقب…..

“حضرتك عندك مانع كمان؟….”

اخبرها بصوت أجش…..

“لا بس شرب القهوة الصبح بيعمل قرحة…”

اجابته دون اكتراث…..

“وانا عايزة يجيلي قرحة ياسيدي….”

رد بسخرية لاذعه….

“براحتك…..كل قرحة وانتي طيبة….”

أطلقت زفرة طويلة وهي تحدق في الأوراق وهمست في سرها….. “حقيقي مستفز…'”

في الطابق العلوي حيث يُقام الاجتماع حول طاولة طويلة لامعة يوجد عليها أكواب القهوة ودفاتر الاسكتشات أمام كل مصمم… يجلس أربعة مصممين يتبادلون الحديث بجدية يشرح كلٌ منهم رؤيته الخاصة لتصاميمه.

بينما تجلس نغم على رأس الطاولة تنظر إليهم بتركيز واهتمام شديد وعيناها على شاشة الحاسوب على الـمود بورد الذي يجمع التصاميم التي عمل عليها الفريق خلال الأيام الماضية. تتنقل بين الصور بتمعن…. بينما تستمع بعناية لكل مداخلة منهم

تحدث تيم احد اعضاء الفريق…..

“ان من رايي نجرب نمزج بين الصوف الخفيف مع ليكرا بنسبة ١٥٪…. هيدي ملمس طبيعي وفي نفس الوقت مرونه في الحركة…. وممكن نبدأ بالعينات اللي عندنا على التصاميم … ”

قالت ليان وهي تدوّن شيئًا في دفترها الصغير..

“كمان انا شايفه ان الفاشن هاوسز الكبار رايحين في الاتجاه ده تصاميم انثوية فيها بساطه واناقة في نفس الوقت…. ”

اقترحت نغم بعد لحظات…..

“كل ده شيء جميل بس انا شايفه ان إحنا محتاجين نخلي التصاميم فيها لمسة تراثية
أكتر…. وفي نفس الوقت يواكب نظرة العصر…. ”

وافقها تيم الرأي قائلا…..

“في مجموعة من التصاميم اشتغلنا عليها بنفس النمط ده تقدري تشوفيها…… ”

قالت نغم وهي تنظر الى الشاشة أمامها….

“مش كل ده على المود بورد…. يبقا نبعت الفكرة والتصاميم لكمال بيه وهو يقول رأيه النهائي فيهم….”

ثم اشارت لهم بالرحيل قائلة بعملية….

“المتنج خلص…..ان شاء الله المتنج الجاي نبدأ التنفيذ….”

عندما رحل الجميع مع غرفة الاجتماع وبقيت هي وحدها على الطاولة تعيد النظر في بعض التصاميم، وأيوب يقف بالقرب منها من بداية الاجتماع لم ينطق بحرف و لم يتحرك خطوة واحدة ظل ثابتًا كـصخرٍ لا يتزحزح…

زمت نغم فمها وعينيها على لوحة المود بورد ثم سألته دون مقدمات..

“اي رأيك في التصاميم دي؟…..”

رد بايجاز غليظ…..

“انا مبفهمش في الحاجات دي….”

ضاقت عيناها بلؤم وهي تدور بمقعدها نحوه في مناورة خبيثة عقبت

“غريبة مع ان شغلك كله في الملابس….”

رد بصوتٍ عميق لا يعبر عن شيء….

“بيع وشرى….وملابس جاهزة مش انا اللي مصنعها يعني…..”

نظرة إليه بعينين شاخصتين تودّ لو تجرده من هذا الستار وتكتشف حقيقة أمره… لعلّ هذا الفضول نحوه ينتهي داخلها وللأبد…قالت نغم بعد لحظات بانسيابية

“عادي يعني مفيش مشكلة لو قولت رأيك…حد قالك اني هسمعه من هنا وهعمل بيه…في الأول وفي الاخر الكلمة الاخيرة لصاحب الشركة…”

وجدت الردّ منه صمتًا وتجاهلًا… على التذمر وجهها مع ارتفاع حاجبيها بدهشة…

“انا بكلمك على فكرة…..”

أعطاها نظرة جانبية وهو يقول دون اكتراث..

“وانا رديت وقولتلك اني مبفهمش في الحاجات دي….”

تأفّفت باستياء وهي تعود بعينيها الى شاشة الحاسوب قائلة بتلاعب…..

“بفكر استبعد التصميم ده….دا اسواء
تصميم فيهم…..”

اندفع أيوب معترضًا…..

“دا احسن تصميم فيهم هو واللي قبله….”

عادت إليه بعينين تلمعان بالنصر وقالت بسخرية…..

“دا انت مركز بقا ؟!…لا وشكلك بتفهم في شغلنا… ”

بملامح جامدة ونظرة جافة…. قال بنفي

“عيني وقعت عليهم بالغلط…وبعدين دا مجرد رأي ممكن ترميه في الزبالة عادي…”

“نرمي رأيك في الزبالة……مش لدرجادي….”

عادت نغم لتتأمل التصميم الذي أبدى رأيه فيه وكذلك التصميم الآخر. ومع خبرتها الواسعة
في مجال الأزياء مع والدها كانت متاكدة أن هذه التصاميم هي الأفضل من بين المجموعة بأكملها. لذلك خرج عن صمته عندما أرادت استبعادهما…

عاد الفضول يعصف داخلها….. والشك والقلق نحوه يلتهمانها كالنار في الهشيم….

………………………………………………….
على سفرة الطعام تبادلت أبرار النظرات مع ياسين بتساؤل حول أبيها وجدتها اللذين يجلسان بجوار بعضهما بصمت وملامح مقتضبة. لم يتحدثا معًا كلمة واحدة منذ
أمس وهذا على غير عادتهما معًا…

غمزت أبرار إلى ياسين وبنظرة قرأ معناها بنباهة فتنحنح بعدها قائلًا باستفسار…

“غريبة ياتيته…..عامله صنية بطاطس يعني…”

رمقته الجدة بوجوم معقبة…..

“ومالها بقا البطاطس….”

اندفعت أبرار تقول بنظرة شقية تنقلها
بين ابيها وجدتها بلؤم…..

“ما انتي عارفه ياتيته ان بابا مش بيحب البطاطس….”

امتقع وجه الجدة قائلة بتبرم….

“مليش دعوة باللي ابوكي بيحبو…انا اعمل الأكل اللي يجي في بالي وخلاص…”

تحدث صالح بنبرة هادئة كالبلسم….

“كله رضا يا أمي…..طالما من إيدك…..”

لم تنظر إليه الجدة لكن قلبها يلين مع حديثه.
لطالما كان الأقرب إلى قلبها بطبعه الهادئ، المُهاود…

أنهت أبرار الصمت مجددًا وهي تمد يدها إلى جدتها…

“تيته… هاتي طبق السلطة اللي جنبك ده…”

أعطت الجدة طبق السلطة إلى صالح حتى يوصله إلى ابنته ومجددًا تحاشت النظر
إليه…

صاحت فيهما أبرار بنفاد صبر

“هو إنتوا زعلانين ولا إيه؟.. ”

ردت الجدة بضيق ممتنعه…..

“ملكوش دعوة…..كملوا اكلكم وانتوا ساكتين…”

هزت ابرار راسها بحنق شديد محتدة….

“احنا مبقناش صغيرين على فكرة عشان تسكتين بالكلمتين دول….في إيه بظبط من إمبارح..وانا شمه ريحة غم….. مش كده يابني؟….”

لكزت ياسين في كتفه فتوقف عن الأكل
مجيبًا بتاكيد…..

“كده يابنتي….”

أخرجت الجدة زفرةً ثقيلة وهي تعطي ابنها نظرة جانبية يشوبها العتاب…

“اقولهم ولا تقولهم انت…..”

ترك صالح المعلقة وقال بصبر… “يـا امـي……”

شحب وجه ابرار وهي تسأله بريبة وعيناها
تنطقان بمخاوفها…..

“انت هتجوز ولا إيه يابابا ؟…”

نظر لها صالح بدهشة ونفى الامر سريعًا…

“مفيش الكلام ده ياحبيبتي….مين ياخد مكان امـك في قـلـبـي….”

بينما وجهة الجدة غضبها نحوها قائلة
ببغض…..

“وفيها إيه ياست أبرار لما يتجوز… دا بدل ما تشجعيه….”

قالت أبرار بمقت…..

“اشجعه يجيب ليا مرات اب؟!…..”

علت امارات الإزعاج وجه الجدة فقالت
باستنكار…..

“مرات اب دي لو انتي لسه صغيرة مستنيه حد يرعيكي لكن انتي ما شاء الله عروسة كلها كام سنة وتتخرجي ويجيلك ابن الحلال….”

ثم أشارت إلى ابنها بعينيها بقلبِ أمٍّ يحترق على سنوات العمر التي تذهب من ابنها هباءً…

“لكن هو…..هو مين يراعيه وقتها….”

قالت ابرار بعناد…..

“اطمني مش هتجوز وهفضل جمبه..ارعيه….”

زم ياسين فمه عابسًا…بينما قالت الجدة
بتقريع مغتاظة منها…..

“تراعي مين ياموكوسة دا انتي عايزة اللي يراعيكي…..”

اتسعت عينا أبرار بصدمة…. “الله بقا…..”

لوحت الجدة بيداها… “الله يهديكي ياختي….”

تدخل صالح ينهي الأمر بخشونة….

“لا اله إلا الله…..ما خلاص يا أمي….مفيش جواز يا أبرار….الموضوع مش جواز…..اللي مزعلها مني حاجة تانية…..”

هتفت أبرار مصممة…..

“مانا عايزة افهم بقا اي الحاجة التانية اللي مخليه تيته قلبا علينا كلنا….”

بعد أن رأت نظرة الانتظار والفضول في عيون أحفادها وصمت ابنها بملامح جافية قالت بدفاع إنساني…

“عايزة أأجر الشقة اللي تحت لحد معرفه مؤقتا يعني..
وبعد ما ديت لناس كلمة ابوكي مش موافق وعايز يطلعني عيلة قدامهم….بحجة ان البيت بتاعكم وانا مليش حاجة فيه…”

هتف ياسين مصححًا بحمائيه….

“إزاي الكلام ده دا بيتك قبل ما يكون بيتنا…..اي المشكلة ياعمي…لو سكناهم في الشقة اللي تحت مؤقتا….لحد ما يلاقوا مكان تاني…”

زمجر صالح بغضب…..

“فيها اني مش عايز ادخل حد غريب البيت…”

بهت وجه ياسين سائلا بتريث….

“هما عيلة مع بعض؟… ولا حد لوحده؟..
شاب يعني؟….”

تولت الجدة الرد قائلة…..

“لا شاب ولا عيلة….دي واحده غلبانه امها كانت صاحبتي الروح بروح….كنت بعزيها
من قريب صاحب البيت عايز الشقة اللي سكنه فيها…وهي ملهاش حد ومش لاقيه مكان قريب من مدرسة بنتها…

“فكلمتني اشوفلها حد أو اكلم صالح….
فقولتلها تيجي تقعد في الشقة هي وبنتها
لحد ما تلاقي مكان…”

قالت أبرار ممتعضة…..

“وجوزها فين ما يشوف هو مكان يقعدوا فيه…”

ردت عليها الجدة بتململ..

“مطلقة من تلات سنين……وبتشتغل عشان تصرف على نفسها وعلى بنتها…وقبلها كانت متكفله بامها العيانه يعني بت بمية راجل وجدعه….لا بتاعت مشاكل ولا ليه في حاجة….”

ازدادت ملامح صالح تعقيدًا وهو يرد
عليها بتهكم…..

“بلاش تقوليني كلام مقولتهوش انا معبتش في اخلاقها لكن انا حُر مش عايز حد غريب وسطنا..”

قالت الجدة بدفاع…..

“هي مش غريبة ياصالح…..”

على صوت صالح محتدٍ……

“انتي لا عشرتيها ولا تعرفي عنها حاجة غير انها بنت صاحبتك….مش كفاية يا أمي….”

احتد الجدال بينهما وهي تصيح بحرقة…

“كفاية بنسبة ليا انا كفاية…..انا مش عارفه مفيش في قلوبكم رحمة ليه بقولكم ملهاش حد ولما الدنيا ضاقت بيها جت ليا….إيه ابقى انا والايام عليها حرام عليكم….”

قال صالح بسعة صدر…..

“نشوفلها مكان قريب منها حاضر…..”

رفضت الجدة مصممة….

“مش هنشوفلها هتسكن عندنا الأول
وبعدين نشوفلها…..”

تافف صالح بانفعال ونهض عن مقعده قائلا وهو يبتعد عنهم…..

“اعملي اللي تعملي يا أمي طالما ده اللي يرضيكي…انا تعبت من الكلام في الموضوع ده…..نقول تور تقولوا احلبوه… ”

قالت الجدة بتأكيد دون تردد….

“هعمل اللي في دماغي ياصالح….كبرتوا عليا ولا إيه….”

ثم عادت تنظر الى حفيدتها التي رمقتها
بشك متسائلة…..

“انتي بتخططي لايه بظبط ياتيته؟…”

زمت الجدة فمها ولم ترد عليها ثم انسحبت هي الأخرى مبتعدة عنهما في إتجاه المطبخ…..

تمتمت أبرار بشرود وعدم ارتياح….

“يعني إيه تسكن معانا واحده مطلقه ومعاها بنتها….بابا عنده حق…..”

تابع ياسين تناول طعامه متحدثًا بهدوء
أقرب للوحة ثلج…..

“انا مش فاهم انتوا قلقين من إيه…عادي يعني هي مش هتعضكم…. هتبقا في شقتها ملهاش دعوة بحد… ”

اهتاج صدرها بالغيظ وهي ترمقه
شزرًا…..

“تعرفها منين انت كمان عشان تدافع عنها؟..”

نظر لها مبتسمًا بوداعة…..

“دا مش دفاع دا المنطق يابرتي…..”

سالته بتبرم….
“وبيقول إيه بقا المنطق ده….”

واجهها بنظرة حازمة ولهجة صريحة…..

“المنطق بيقول انك خايفة من حاجة معينة….
مع انها ممكن تطلع ست وحشه وكبيرة
ممكن تبقى أكبر من ابوكي كمان…..”

نظرة الى طبقها تخفي نظرة عينيها وهي
تقول بضجر….

“اديك قولت ممكن….وبعدين مين قالك اني خايفه….بابا لو كان عايز يتجوز كان عملها من زمان…..بس هو بيحب ماما ولسه بيحبها…..”

رفع ياسين المعلقة الى فمه وقال بفطنةً
قبل ان يأكل…..

“ملهاش دعوة بالتوقيت يابرتي…..ليها دعوة بالست اللي هتقلب الموازين…..”

جزت على اسنانها بغيظ…..

“انت قاصد تضايقني….وبعدين اسمي بيري…
لا برتي ولا أبرار…..”

ضحك ياسين باستهزاء معلق…

“مفيش حد من اللي كان قاعد نداكي بـ بيري…
هتحكمي عليا انا اناديكي بيه…..”

اكدت بنظرة سفاح….

“آه…..اذا كان عجبك…..”

رد غير مبالي….. “مش عاجبني…..”

قالت بصفاقة….

“ان شاءلله ما عجبك….”

غمغم بقرف….. “حلوفة…..”

هاجت مراجلها فقالت بمعايرة….

“ماشي يابتاع ميار…..ياسونة…..ياسونسون.. ”

عض ياسين على شفتيه قائلا بشرٍ يتطاير
في عيناه…

“طب اسكتي بقا عشان ملبسكيش طبق البطاطس ده في وشك…”

فتحت ثغرها في ابتسامة مصدومة غاضبة
وهي ترد عليه بشراسة…

“ساعتها هحميك انا بطبق الشوربة ده…..”

قارعها بنظرة مخيفة…..

“طب وريني عشان اكسر الاطباق دي
فوق دماغك..”

احمر وجهها بضيق وهي تقول بوعيد…

“ساعتها بابا هيفشفش عضمك حته حته….”

ابتسم بجاذبية امام عينيها الحانقة وقال
بنبرة عذبة….

“واهون عليكي يـا بـرتـي….”

خفق قلبها فجأة بخفقات سريعة ومتلاحقة مما جعلها تبتلع ريقها مرتبكة أمامه فقالت بكراهية محتدة…

“تهون يابتاع ميار…..الا ميار عامله إيه دلوقتي..”

ضحك ياسين بعد ان قرأ ارتباكها الملحوظ
فجاراها في الحديث وهو يبعد المقعد ناهضًا

“فكرتيني هروح اكلمها…..اصلها وحشتني
اوي في النص ساعة دول…..”

“اعمليلي شاي بقا معاكي…..”

صاحت من خلف ظهرها بغيظ….

“طفحته….خلي ميار تعملهولك……”
………………………………………………………
ترجلت شروق من السيارة النصف نقل ومعها ابنتها ملك. بدأ الرجلان اللذان جاءا لنقل الأثاث في تنزيله ودخوله إلى الطابق الأرضي.

استقبلتها الجدة في حوش البيت الصغير حوش بسيط زُرع فيه بعض الأشجار العملاقة العتيقة التي تحيط بالبيت من الجهتين.

البيت يحتوي على ثلاثة طوابق وسطح بسورٍ عالي لضمان الخصوصية أكثر. وعلى السطح ترى برجًا للحمام !

ابتسمت وهي تخمن أنه ملك لصاحب عطر العود…

“اهلا وسهلا نورتينا ياشروق….تعالي ياحبيبتي واقفه لها….”

استقبلتها الجدة بحفاوة في عناق حار ثم أشارت لها بالتقدم نحو الطابق الثاني حيث شقة ياسين التي تقيم فيها الجدة أغلب الأوقات.

“طب خليني هنا… أدخل معاهم العفش…”

قالتها شروق وهي تصعد على الدرج برفقة السيدة أبرار التي اعترضت قائلة..

“سبيهم يدخلوا على مهلهم… وأنا وأبرار نظبطه معاكي…”

شهقة شروق قائلة بحرج شديد…

“ميصحش يا خالتي… أشغلكم كمان؟ كفاية اللي عملتيه معايا…”

“أنا عملت إيه يعني… ما الشقة بقالها سنين مقفولة… اطلعي بس…”

دفعتها بخفة للصعود أمامها ثم قالت مبتسمة وهي ترى ملك تصعد خلف أمها…

“يوه… الكلام خدنا ونسيتني ملوكة… عاملة إيه يا ملوكة…. اي رأيك هتقعدي معايا مبسوطة؟… ”

أومات ملك برأسها مبتسمة بسعادة

“أوي… أوي يا تيته…”

“اتفضلي يا شروق… اتفضلي يا حبيبتي…”

دلفت شروق إلى الشقة في الطابق الثاني برفقة الجدة التي أشارت على أحفادها
الاثنين بفخر قائلة…

“دي بقى يا شروق… أبرار بنت صالح اللي كلمتك عنها…”

اقتربت شروق بتمعن تنظر إلى تلك الشابة الجميلة بثوبها الطويل وحجابها المحيط وجهها الصغير في لفة عصرية….

كانت جميلة الشكل بيضاء البشرة بعيون واسعة سوداء بقامة قصيرة وجسد نحيف بشكل ملحوظ…

أيضًا كانت أبرار تنظر إليها بتمعن وغيرة وكأنها غريمة لا يستهان بها… امرأة فارعة الطول بجسد ملتف كالمسطرة متكاملة
الأنوثة يظهر هذا من خلال عباءتها.

خمرية البشرة مكتظة الشفاه عيونها واسعة كالغزلان وبنية اللون كـقهوة الصباح… شعرها أملس أسود يتدلى على ظهرها تظهر أطراف الخصل من أسفل وشاح الرأس التي تضعه فوق رأسها بعشوائية مغيظة وكأنه مضاف إليها !…

قالت شروق بابتسامة ودودة….

“ماشاء الله زي القمر…. عروسة…..أهلا يا أبرار… ”

“وسهلا…..”لوت أبرار فمها بقرف فاتت عينيها في عينا جدتها فجزت على اسنانها وهي تمد
يدها على مضض قائلة….

“نورتينا ياشروق….”

قالت الجدة بحزم…. “إسمها ام ملك……”

ابتسمت شروق قائلة بعذوبة…

“خليها على راحتها ياخالتي….هتكبريني ليه
دا هما ٣٢سنة عُمي…..”

قالت ابرار بصفاقة….. “كبيرة برضو…..”

وضع ياسين يده على فمه يكتم ضحكته بينما لم تفارق البسمة وجه شروق وهي تسألها..

“يعني إنتي شايفه كده؟… ”

أومات أبرار ببسالة وهي تنظر إليها بعداء فتدخلت الجدة مشيرة إلى ياسين

“ده بقى ياسين… ابن فاروق الله يرحمه…”

مدت شروق يدها مرحبة بوئام..

“ما شاء الله…. زينة الشباب والله…”

تبادل ياسين معها السلام باليد قائلاً
بمشاكسة

“آه والله… بس اللي يفهم…”

أعطى نظرة عابرة نحو أبرار المكفهرة بينما ضحكت شروق بعد ان فهمت قصده.

امتقع وجه صالح وهو يرى هذه اللمسات والضحكات المتبادلة بين ابن أخيه وتلك
المرأة الجريئة….

لم تَرق له هذه المرأة أبدًا… ومزال غير راضٍ عن تواجدها بينهما.

“تعالي ياصالح واقف ليه…..”

اشارت امه اليه بالتقدم فاقترب على مضض
مرحبًا بها باقتضاب….

“اهلا وسهلا يام ملك…..نورتينا…..”

قالت شروق بحياء وهي ترفع يدها في
الهواء إليه……

“بنورك ياشيخ صالح…..”

نظر الى يدها الممدودة ثم الى عينيها الكحيلتين وقال بصلابة جمدتها كليًا…

“مش بسلم بالايد…..”

رمشت شروق بأهدابها بارتباك متبادلة معه النظرات فلم يعتذر ولم يرفق بحالها ببسمة عابرة حتى… مما جعلها تبعد يدها إلى جانبها بوجهٍ أحمر دون تعليق.

ضحكت الجدة رافعة عنها الحرج وهي تسحبها من أمامهم إلى أحد المقاعد.

سألت أبرار ياسين الواقف بجوارها هامسة
بخفوت….

“هي ليه بتقوله يا شيخ صالح؟….”

اجابها ياسين بسخرية…..

“الهيئة بتقول كده….عايزها تقوله إيه بنورك
ياصلوحتي…..”

نظرت اليه شزرًا قائلة…..

“ياسين….بلاش تستفزني….”

ابتسم ياسين بوقاحة وهو ينظر نحو
شروق….

“بس طلعت غزالة….”

جزت على اسنانها وهي تميل بوجهها
نحوه….

“عشان كده سلمت عليها بالايد…..”

أكد بنظرة عابثة وقحة…..

“حد قالك اني صالح الشافعي….لا انا بسلم بالايد وباخد بالحضن كمان….”

“قليل الأدب…..”

“اوي….مش قادر أقولك قد إيه….”

ثم عاد يشعل نيران قلبها قائلا بمزاح….

“كمان بنتها قمورة….شكلي هحجزها ليا..”

قالت بصدمة….

“دي عيلة صغيرة ياشحط….”

ضحك باسلوب مستفز مجيبًا…

“ومالوا بكرة تكبر…..اكون انا كمان كونت نفسي….”

على تنفسها حدة وهي تقول
بغضب….

“انت مستفز…..و…..ورخم…..”

قال بسخرية سوداء….

“وانتي عرق الحربئه طفح عليكي…
ومحسساني انها جايه تسرق ابوكي
منك وتمشي….”

سألته بحنق….

“وانت مش شايف كده؟…..”

اجابها بعقلانية….

“انا مش شايف غير واحده غلبانه مع
بنتها…. بتقول ياحيطه داريني….لا جايه تخطط ولا تسرق حد…. ”

عقدت ابرار ذراعيها امام صدرها
بتشكيك….

“بكرة نشوف وبطل تدافع عنها….”

غمز لها بمناكفة قائلا….

“لازم ادافع عنها ما خلاص هتبقا حماتي…”

أثار حفيظتها أكثر من اللازم مما جعلها تلكم صدره بقبضتها الصغيرة ثم ابتعدت عنه
بينما هو يضحك باستمتاع من خلفها…

انتبه ياسين إلى تلك الصغيرة الجميلة الواقفة جانبًا كانت تراقبهم مبتسمة ببراءة وحرمان وكأنها تود أن تكون جزءًا من هذا التجمع وتشاركهما الحديث والمزاح…

أقترب ياسين منها ثم جثا على ركبتيه أمامها مرحبًا بابتسامة ودودة…

“متعرفناش يا حلوة ؟.. ”

ضحكت ملك ولمعت عيناها بعد أن حصلت على حلواها المفضلة… الاهتمام !..

“اسمي ملك… جايه مع ماما…”

أشارت إلى شروق التي انتبهت إلى حديثهما هي والجدة كذلك أبرار الواقفة على بُعد تراقب الوضع بغيرة طفولية…

“أهلاً ملك… أنا ياسين…”

قالت ملك ببراءة وصراحة..

“شكلك حلو أوي… شبه شاروخان.”

عدل ياسين ياقة قميصه بعنجهية قائلاً..

“شاروخان مرة واحدة؟.. دا أنا عديت بقى.”

قالت ملك بجذل…

“أنا بحبه أوي… أنا وماما.”

قال ياسين بملاطفة..

“وانا بقى حبيتك… إنتي جميلة أوي.”

سألته ملك بلهفة…

“طب أنا شبه مين من الممثلين؟”

ضاقت عينا ياسين بتفكير للحظة ثم قال بعذوبة…

“شبه القمر… ومش أقل من كده.”

زمّت أبرار شفتيها مغتاظة بملامح مقتضبة بينما ابتسمت شروق بمحبة قائلة بامتنان..

“ربنا يجبر بخاطرك يا ياسين.”

“مش بجبر بخاطرها… هي جميلة والله.”

“قوليلي…. إنتي مرتبطة؟”

سألها ياسين مدعيًا اللهفة فهزت ملك رأسها نفيًا. فقال بنبرة حالمة:

“يا بختي…خلاص أنا حجزتك… بقتي خطبتي من دلوقتي.”

صاحت ملك بسرعة…. “موافقة !”

فغرّت أبرار فمها بصدمة وقرف بينما سمعت شروق تضحك وهي توبخ ابنتها بمزاح…

“مش تاخدي رأيي الأول يا بنت…. ”

نظر لها ياسين هازلًا بمزاح…

“إنتي ناوية ترفضيني ولا إيه يا حماتي؟.. ”

هزت شروق رأسها ضاحكة…

“أنا أقدر برضو يا بشمهندس.”

قالت ملك باستفاضة..

“تعرف شعري كان طويل.. بس أنا اللي
قصيته كده.”

اندهش ياسين من حديثها فجاراها في الحديث وهو ينظر إلى شعرها الأملس
القصير..

“القصة حلوة… بس أنا بحب الشعر الطويل. بلاش تقصيه تاني… اتفقنا؟”

أومأت ملك برأسها مذعنة، فسألها ياسين بفضول..

“قوليلي… إنتي بتحبي الموسيقى؟”

“أوي… أوي ونفسي أتعلمها.”

هتف ياسين بتشجيع..

“طب كويس أنا عندي جيتار… أبقى أعلمك عليه بس في الإجازة… عشان دروسك… ”

أومأت ملك برأسها بحماس…

“اتفقنا يا ياسين…”

هتفت شروق بحزم…

“يا بنت… عمو ياسين…”

رفض ياسين بأسلوب وديع…

“لا عمو إيه ياسين… ياسين حلو أوي.”

تدخلت أبرار قائلة بوجه محمر بالغيظ…

“قوليله يا سونا يا حبيبتي… أصله بيحب الدلع ده أوي….”

نهض ياسين يواجهها بالنظرات الخبيثة قائلاً باستفزاز…

“شامم ريحة شياط…أجيب المطافي ولا
لسه شوية؟ ”

رفعت رأسها بكبرياء وهي تبتعد عنه نهائيًا نحو غرفة جدتها.

اتسعت البسمة على محياه وهو يغمز إلى
ملك هامسًا سرًا…

“هحتاجك كتير الأيام الجاية يا ملوكة.”
……………………………………………………..
دلفت شروق إلى الشقة بعد أن أنهى العمّال نقل

تكملة الفصل

دلفت شروق إلى الشقة بعد أن أنهى العمّال نقل الأثاث إليها…

كانت شقة واسعة نظيفة ومقسّمة الغرف بعناية. في هذه الأيام أقل شقة بهذه
المساحة يتخطى إيجارها الأربعة آلاف.

كان بها بعض الأثاث وقد أخبرتها السيدة أبرار أن تستعمله مع أغراضها فهم ليسوا بحاجة إليه الآن.

أخرجت شروق تنهيدة مثقلة بالهموم والحيرة.
تبعثرت داخلها… أفكارها تتصارع وقلبها
مرهق كروحها وجسدها تمامًا.

إلى متى ستظل تركض في سباق الحياة؟
ألم يحن الوقت لأخذ قسطٍ من الراحة؟
هل إن توقفت… ستموت؟!

نعم كل من توقف عن الركض مات فقرًا وجوعًا…. وذلًا…..

لن تتوقف… فهي بحاجة للمتابعة وابنتها
كذلك بحاجة إليها…. لن تتوقف حتى لا
تموت !….

“الشقة حلوة اوي ياماما…وواسعة هو إحنا
هنقعد هنا علطول؟….”

سالتها ملك وهي تتفقد الغرف الشاسعة
بسعادة وإعجاب….

هزت شروق رأسها نفيًا….

“لا طبعا ياملك….شوية بس لحد ما نلاقي
مكان تاني….”

قالت ملك ببراءة…..

“ليه بس ياماما….دي المكان هنا حلو أوي
كمان ياسين وتيته أبرار بيحبونا….”

التوى فم شروق بإبتسامة جانبية مقتضبة
مغمغمة بحزن….

“عارفه…..بس ابنها وحفيدتها ليهم رأي تاني…..”

“بتقولي إيه ياماما؟….”

نظرت الى ابنتها قليلا ثم اجابتها…

“بقولك انها إيجار ومصيرنا هنسيبها….”

اطلقت ملك زفرة استياء وهي تقول
باعتراض……

“طب ليه هنفضل نتنقل من مكان لتاني..
ليه معندناش بيت زي صحابي نفضل
قعدين فيه علطول….”

غامت عينا شروق في حزن وهي تنظر
الى ابنتها ثم حاولت ان تخفي انكسارها
بنبرة راضية…..

“قدرنا ياملك…..قولي الحمدلله….”

زمت فمها حانقة…..

“الحمدلله…..بس انا جعانه….”

ابتسمت شروق بوله وهي تقول…..

“هنزل أجيب أكل بس تعالي ساعديني نفرش
حتى اوضة النوم…. عشان لو عوزتي تنامي..”

سارت مع امها نحو أحد الغرف…..

“حاضر ياماما…..بس مش هشيل تقيل… ”

قرصة وجنتها قائلة بعطف…

“انا أقدر يانور عيني اشيلك…دي مساعدة
خفيفه خالص يالوكا….”

ابتسمت ملك وهي تعانق خصر امها بذراعيها
الصغيرتين ملقيةً نفسها عليها في عناق سريع يحمل الكثير من الحب والطمأنينة….
……………………………………………………. وضعت الجدة آخر الأطباق على السفرة وخلفها أبرار أتت بالخبز الساخن فوالدها يفضل تناول عدة لقمات مع السلطة.

صاحت أبرار تنادي

“يلا يا أبو الكباتن… الأكل جاهز… ”

ثم نظرت إلى جدتها بحاجب معقود…

“هو فين ياسين يا تيته؟ مش هيتغدى معانا؟”

أجابتها الجدة وهي تتفقد السفرة بعناية..

“نزل من شوية.. قال هيتغدى برّا مع صحابه.”

امتقع وجهها بالحقد وقالت…

“يا سلام !… عادي أهوه يتغدى برّا مع صحابه… لكن أنا ممنوعة من كل حاجة ”

زمت الجدة فمها باستياء…

“تاني يا أبرار؟ ما قولتلك… البنت غير الولد انتي كبرتي على الغيرة دي منه… ”

زاد عبوس وجهها ولم تعقّب على الأمر
فأمرتها الجدة برفق

“بلاش قلبة الوش دي…. ويلا انزلي تحت نادي شروق وبنتها يتغدوا معانا…. ”

شهقت بصدمة وقالت بعصيان:

“نعم؟… مين دي اللي تتغدى معانا؟… هو
إحنا فاتحينها لوكندة ولا إيه؟”

هتفت الجدة باستنكار…

“انتي مالك يا بت انتي…. هما هيأكلوا من لحمك؟…. اسمعي الكلام وانزلي.”

هتفت أبرار بتمرد…

“مش نازلة يا تيته…ومش عايزة آكل معاهم”

أومأت الجدة برأسها بضيق…

“خلاص… أنزل أنا آكل معاهم وابقى كُلي
انتي وأبوكي لوحدكم.”

خرج صالح من الغرفة بطاقم بيتي أنيق مصففًا شعره الغزير إلى الخلف وفي يده السبحة السوداء. وقد سمع لتوّه شجارهما
معًا… فقال بدهشة معترضًا..

“وده كلام يا أمي؟ من إمتى وإحنا بناكل من غيرك؟”

قالت الجدة بنبرة مؤنبة..

“من ساعة ما قلبكم قوي عليا.. وبقيتوا تردوا عليا الكلمة بعشرة.”

اقترب صالح منها يقبّل رأسها قائلًا بمحبة..

“لا عشنا ولا كنا يا حاجة… استهدي بالله.”

ثم أمر ابنته بنظرة حازمة…

“انزلي يا أبرار نادي عليهم يتغدوا معانا.”

اتسعت عينا أبرار بصدمة..

“يعني انت موافق يا بابا؟!”

تأفّفت الجدة بضيق من تلك الفتاة العنيدة بينما قال صالح بتأكيد…

“مافيهاش حاجة يا أبرار دول يعتبروا جايين علينا ضيوف لحد ما يفرشوا عفشهم ويستقروا. ”

قالت أبرار بتعنّت…

“طب ما ننزل لهم الأكل تحت وخلاص؟ لازم ياكلوا معانا ؟!… ”

ابتعدت الجدة عنهما بعصبية ودلفت إلى المطبخ دون أن تتفوه بكلمة أخرى….

فأمرها صالح بصوت حازم…

“روحي يا أبرار… واسمعي الكلام.”

سألته ببغض…

“واشمعنا أنا اللي أنزل ؟”

بصبر أخبرها بهدوء…

“محدش ينفع ينزلها غيرك… اخلصي الأكل هيبرد….”

“يووووووووه…”

دبّت الأرض بقدميها بغضب وهي تهبط على الدرج بخطوات غاضبة عنيفة.

ثم عندما وصلت أمام باب الشقة القانطة بها الجارة غير المرغوب بها وضعت إصبعها على جرس الباب تضغط عليه لفترة طويلة بينما يدها الأخرى تضرب بقوة على الباب بصورة مزعجة مفزعة تشبه رجال الشرطة عندما يقتحمون بيوت الخارجين على القانون.

كانت أبرار تبتسم بشيطنة وهي تسمع صوت شروق المفزوع تسأل من خلف الباب بخوف

“مين؟ مين بيخبط كده؟”

وعندما لم تجد ردًّا وما زال الوضع المفجع
كما هو فتحت الباب بوجهٍ شاحب وأطراف مرتجفة فكل ما أتى في عقلها الآن هو مهاجمة (حنش) لها زوجها السابق أو والدته عنايات… فهي قد ذهبت دون أن تخبر أحدًا هربت هي وابنتها من تحت أعينهما مؤقتًا !…

اتسعت عينا شروق بصدمة وهي ترى أبرار أمامها بملامح وديعة تقف بمنامة بيتي وشعرها الأسود منسدل على ظهرها…

ابتسمت أبرار فظهرت غمازاتها كنجمتين منقوشتين على خديها وهي تقول بوداعة

“تيته بتقولك الغدا جاهز… ”

وضعت شروق يدها على صدرها تأخذ أنفاسها المسلوبة من شدة الخوف بينما تنظر إليها أبرار بتشفٍّ….

ردّت شروق بصبر بعد برهة من الصمت…

“كتر خيرها… قولي لها إن إحنا كلنا… ”

التوى فم أبرار بصلف وهي توليها ظهرها على وشك الصعود للأعلى قائلة

“اطلعي قولي لها ده بنفسك… مش هفضل طالعة نازلة أنا ”

وقبل أن تبتعد نادتها شروق بنبرة معاتبة..

“أبرار… هو في حد عاقل بيخبط على الناس كده؟… ”

وقفت على أول درجة من السلم ساندة على السور بكلتا يديها مجيبة بمشاغبة….

“أنا دا تخبيطي… حاولي تتعودي عليه عشان هبقى أزورك كتير.”

سألتها بحاجب مرفوع…

“بمناسبة إيه؟”

“من غير مناسبة… أهو نتعرف !”

قالت شروق بوجوم…

“تنوري… بس ابقي خفّي إيدك على الباب والجرس شوية…. ”

“أفكّر يـا… يـا شـروق…” صعدت للأعلى وهي تعطيها هذا الجواب المتعالي المستفز..

أغلقت شروق الباب خلفها وسندت عليه وهي تطلق زفرة سأم… مغمغمة بتهكم..

“أسيب عنايات وحنش… تطلعلي الست أبرار في البخت !…. ”

بعد لحظات صعدت شروق وابنتها بعد إلحاح كبير من الجدة أبرار عبر الهاتف…

حول السفرة جلست شروق وبجوارها ابنتها وفي الجهة الأخرى صالح وابنته والجدة كذلك…

بدأ الجميع يتناول الطعام بصمت وشعور الحرج وعدم الارتياح للوضع ينتاب الجميع باستثناء الجدة والصغيرة ملك.. التي أشادت بمذاق الطعام الشهي…

“الأكل حلو اوي ياتيته….”

غمغمت أبرار على الفور بصدمة….

“تيته ؟!…..”

إنار وجه الجدة بعد مدح الصغيرة العفوي
لها… فقالت بمحبة….

“بالف هنا ياحبيبة تيته…..كُلي على قد
ما تقدري كل يوم هتتغدي معايا هنا…”

قالت شروق بابتسامة محرجة…

“مش لدرجادي ياخالتي…..خيرك سابق…كفاية
كده احنا تقلنا عليكي….”

قالت الجدة بحنوًا….

“لو انتي محرجة تتغدي معايا طلعي ملك…
طالما اكلي عجبها…. شكلك مقضياها عيش
وجبنه مع البت….”

فغرت شروق فمها بصدمة وهي تنظر الى
ابنتها….

“شايفه ياست ملك اهم افتكروني مبعرفش
اطبخ….”

ضحكت ملك وهي تصحح الأمر….

“لا ماما بتطبخ حلو أوي دي عليها طبق ملوخية ياتيته ريحته بتجيب لحد اخر
الشارع…..”

ارتفع حاجبي الجدة بدهشة ثم قالت
بابتهاج….

“والله يبقا لازم ادوق…..صالح كمان بيحب الملوخيه أوي…ومش بياكلها غير من ايدي..”

أشارت على ابنها بابتسامة ودودة… شعر صالح بعدم الرضا لإقحامه في حديث نسائي حول ما يفضل أكله !….

“اي رأيك ياصالح نخلي شروق تعملنا بكرة ملوخية….”

عبس وجه صالح مثل ابنته الجالسة بجواره تلتزم الصمت بوجه محتقن غضبًا… تحدث بخشونة ممتعضًا…

“بلاش تتعبيها يا أمي….”

قالت شروق بلهفة تود أن تقدم أي شيءٍ
ولو بسيطًا لهما بعد ما فعلاه معها…

“تعبك راحه ياشيخ….تحب تاكلها مع إيه
فراخ ولا ارانب؟…..”

رد صالح بامتناع متجهمًا…

“شكرًا يا ام ملك…..مش عايز…..”

انطفأت ملامحها فجأة بإحباط….ثم نظرت
الى طبقها في صمت….

بينما مالى هو على والدته بحنق…..

“ممكن يا امي بلاش الحركات دي….”

سالته والدته بدهشة…. “حركات إيه؟….”

تحدث من بين أسنانه بنفاد صبر…..

“انتي عارفه رايي مش هيتغير…لا دي ولا غيرها هيغيروا….”

على صوت ملك الصغير دون مقدمات
قائلة باعجاب….

“ريحة البرفان بتاعك جميل أوي ياعمو….”

انتبه لها صالح وأمام وجهها الصغير وعينيها البراقتين نحوه ابتسم ابتسامة بشوشة فأضافت الصغيرة بعفوية…

“دي ريحة العود…..ماما بتحبها أوي…..”

بهت وجه صالح فجأة وتلاشت البسمة عن محياه ببطء بينما زاد عبوس وضيق أبرار وقد فقدت الشهية أمام هذا الحديث المبتذل…

قالت شروق باستحياء….. “ملك بتهزر…..”

قالت ملك باستفاضة…..

“مش بهزر….جدو كان بيحطها لما بيروح يصلي الفجر….وانا وماما بنحب ريحة
العود أوي عشان بتفكرنا بيه….”

اطلقت شروق نفسًا عميقًا من بين شفتيها…
بينما سمعت ابنتها تقول بنبرة حنين….

“وحشني اوي جدو.. هو وتيته…”

هتف صالح بمواساة حانية….

“ربنا يرحمهم ويغفرلهم….ويجعل قبرهم
روضة من رياض الجنة…..”

ابتسمت شروق بامتنان….

“اللهم آمين……تسلم ياشيخ صالح….”

ثم قالت والدموع تترقرق في عينيها
الكحيلة…..

“تعرف اني نفسي اعملهم صدقة جارية….”

رد صالح بصوت عذبٍ…..

“جزاكي الله خير…..منين ما تنوي كلميني
وانا معاكي…وربنا يقدرنا على فعل الخير…”

“عشت ياشيخ….ربنا يكتر من أمثالك….”

قالتها شروق وعيناها تجريان على ملامحه لحية كثيفة مشذبة وعيناه الخضراوان الحادتان.. وملامحه الرجولية الجذابة. وتلك الشعيرات البيضاء التي تخط لحيته وشعره تضفي عليه وقارًا وشكيمة وتزيده هيبة لا تخطئها العيون !….

كذلك تبادل صالح معها النظرات لأقل من
ثوانٍ ثم أسدل عينيه عنها وقد لاحظ شيئًا واحدًا فيها…

عينيها !…

عينيها بُنية تشبه عيون الغزلان ناعمة وصافية لهما سحر الغابات…وعمق المحيطات…وظلمة المغارات وأسرارها ؟!…

رفع عيناه مجددًا ينظر إليها ليراها ما زالت على حالها تطلع عليه محتارة كحال حيرته منذ أن رآها !…

أوغر صدر أبرار بالغضب وهي ترى تلك النظرات المتبادلة بينهما….. فوقفت فجأة صارخة باهتياج…

“تيته…….الااااااكل ناااااقص مــلــح…..”

انتفض الجميع مفزوعين… فقالت الجدة بصيحة استنكار…

“الله في اي يابت…. صرعتيني ما تروحي تجيبي ملح وحطي قدامك….”

وقبل أن تبتعد أبرار ألقت نظرة ازدراء نحو شروق وابنتها…

سالت دموع أبرار وهي تغلق باب الحمّام وضعت يديها على صدرها تتألم من وخزة انتابتها فجأة. بدأت تربت على صدرها وهي تهمس بمرارة..

“مستحيل بابا يعمل كده… ده بيحبني وبيحب ماما أوي… مش معقول هيستبدلنا بالست دي هي وبنتها…”

مسحت دموعها فجأة بعنف عازمة النية على إبعاد هذه المرأة عن أبيها قبل أن يحدث ما تخشاه….
…………………………………………………….
يستلقي على الفراش بجسدٍ مُجهَد والجرح يشتد ألمًا منذ الأمس… كان يجب أن يذهب ليُغيّر عليه ويشتري علاجًا يساعد على الالتئام والتعافي من هذا الوجع لكنه لم يفعل شيئًا.

تجاهل الوجيعة بقسوة على نفسه مثلما عاش طوال حياته يُقسى عليه من الغرباء حتى أصبح يقسو على نفسه هو الآخر… وكأن الرعاية والحنان لا يليقان بمنبوذٍ مثلُه.

ابن حرام… كما يناديه الجميع منذ أن وعي على هذه الحياة واعتاد على السبّة كأنها
صفة من صفاتُ الرجسة..

أصبح لديه يقين بأن اقترانه بالحرام يتيح له بكل سهولة أن يتجرّع رشفةً تلو الأخرى منه… وقد كان.

ليصبح كما هو الآن… وحيدًا، منبوذًا، جائعًا مريضًا، بلا رعاية، ولا أحد لديه.

فهل نفعه الحرام الآن؟.. وهل كان الاستسلام لما تهوى النفس قد أتى بثماره؟

التوى فكّه في ابتسامة ساخرة. سوداوية ونظرة مُرهَقة نادمة تطل من عينيه اللتين يجاهد لفتحهما… هل سيُصاب بالإغماء؟
لم يحدث ذلك له يومًا.

حتى في صغره كان ينام في البرد على أرضية مبللة تفوح منها روائح كريهة تزكم أنفه بينما معدته تستغيث بأصواتٍ عالية من شدة الجوع.

وأحيانًا كثيرة كان مجروحًا ينزف دماءً من كل مكان بسبب معاركه مع أولاد الإصلاحية أو بسبب عناده ولسانه السليط مع العاملين هناك.
ومع كل هذا لم يُصَب بالإغماء ولو لمرة واحدة.

حتى الإغماء… اتّضح له أنه مُرفَّهٌ جدًا ولا يناسب رجلاً مثله صارع الحياة وناسها ولا يزال في صراعٍ معها لم ينتهِ بعد !…

سمع صوت طرقات على الباب… زمّ فمه بضجر فهو لا يقدر على النهوض.

من الذي تذكّره الآن؟

فمنذ خروجه من المشفى ولمدة ثلاثة أيام لم يطرق أحدٌ بابه… ولو من باب الإنسانية !

من يعرفك كي يطرق بابك؟

كان هناك صديق… لكنه فقده بسبب غبائه.

إلى متى سيظل يفكر بأيوب؟ يشبه المرأة التي تندب حظها حين يهجرها زوجها !

فليذهب الجميع فهو لا يريد أحدًا…
إنه بخير وحده.

لكن متى كان بخير وحده؟!

لماذا الطرقات لا تتوقف؟

ألم يملّ الطارق ويغادر؟

ألا يتركه غارقًا في فراشه حتى تأتي ساعته ويرحل عن هذا العالم اللعين؟

حتى الموت يختار الصالحين !

والمفسدون أعمارهم أطول، وشقاؤهم
أثقل !…

لماذا اختارتني الحياة سيئًا ؟

لم أرد أن أكون مجهول النسب…

لكنك أردت أن تكون كما أنت عليه الآن… أليس كذلك؟..

صراع بين النفس والمنطق… بين العناد والندم…وطرقات الباب تتوقف ثم تعود
وكأن الطارق لحوح لا يملّ…

فما كان منه إلا أن نهض بتكاسل.. وكان يرتدي بنطالًا بيتيًا مهترئًا.. عاريَ الصدر يلتف الشاش حول خصره…

فتح الباب بملامح شاحبة مُجهدة ليراها أمامه. اتسعت عيناه بصدمة وتحشرجت أنفاسه…

هل يتوهم؟…مستحيل أن تأتي إلى هنا… لا تفعلها الدكتورة… مستحيل…

لكن المستحيل أصبح حقيقة.. عندما أشرقت ابتسامتها على وجهها… وهي تقول بشق
الأنفس….

“كنت قربت أيأس انك تفتح الباب…افتكرتك
خرجت وانت بوضعك ده….”

“دكتورة نهاد ؟!…..”

لفظ اسمها وهو يعي تمامًا وجودها الفعلي أمامه…
بجمالها الذي يبهر حواسه… كانت ترتدي ثوبًا رقيقًا محتشمًا، وحجابًا ينسدل بلفة تليق بوجهها المليح…

مليحة الشكل والروح…

قريبة من القلب جدًا… لكنها أيضًا بعيدة…
بعيدة كأُمنية مستحيلة لا تقترن بالواقع
مهما حاولنا !

قالت نهاد بنفس البسمة الفاتنة…..

“دكتورة !….رسمي أوي…. بس مش هكسفك يسمع من بؤك ربنا…هي مسألة وقت وابقى
دكتورة رسمي فعلا… مش مجرد طالبة….”

تبادل معها النظرات بصمت فقالت نهاد
بحيرة….

“هتسبني واقفة على الباب كتير؟….”

لم يرد عليها ولم يُبادر بالإشارة إليها بالدخول…ففعلت بمنتهى الجرأة تخطّته ودلفت إلى الغرفة التي يمكث بها. للمرة
الثانية تفعلها…

جريئة نهاد…جرأة تجعل منه أبله.

وهو يكره أن يظهر بهذه الصورة… معها هي.

هي… المرأة التي تشبه الأمنية المستحيلة !

حتى وإن كانت مشاعرها تهفو إليه فالمنطق والقدر لهما رأيٌ آخر….. لن يتوهّم.

فلا مجال للّون الوردي في هذه القصة
الأسود هو بداية ونهاية كل شيءٍ معه.
ولأجل الدكتورة.. لن يلطّخ لوحتها الوردية بالسواد…… فهذا ليس عدلًا !

وضعت الأكياس التي كانت بين يديها جانبًا وقالت..

“جبتلك العلاج… وأكل معايا… غيرت على الجرح…”

احمرّ وجهها قليلًا باستحياء حين انتبهت إلى صدره العاري والشاش الملتفّ حول خصره
وقالت بصوتٍ متزن يخفي خلف طيّاته ارتباكها وحياؤها الأنثوي من رجلٍ تهواه
سرًّا !….

“واضح إنك ماغيرتش عليه من ساعة ما خرجت من المستشفى…عمتًا أنا عاملة حسابي…”

وحين لم تجد منه ردًّا… سألته بقلق..

“ساكت ليه؟!”

اغلق الباب عليهما جيدًا خوفًا من ان يراهم أحد ثم اقترب منها دون ان يلمسها وقال بحدة..

“انتي إيه اللي جابك هنا….”

رغم خوفها من ملامحه المتجهمة ونظرات عينيه المرعبة قالت بمرح طفيف….

“هقول تاني جايه في مهمة محددة العلاج والاكل…واغيرلك على الجرح…عندك مانع؟…”

أكد اعتراضه بلهجة صارمة….

“اه عندي مانع….ازاي تيجي لحد هنا…لراجل غريب….”

زمت فمها مستنكرة…..

“كأني جيت لحد تاني غيرك….. انت شايف نفسك غريب؟….”

بشق الانفس حدثها والغضب يتفاقم
داخله…..

“بتهيألي اننا لا اخوات ولا قرايب…. عشان تيجي لحد هنا….”

مالت بوجهها للناحية الاخرى متبرمة
بعيدًا عن عيناه…..

“العشم خدني معلش…. ومعتبراك واحد من عيلتي…. وجايه اطمن عليك واشوفك لو محتاج حاجة…..”

رد بنزق…. “انا مش محتاج حاجة….”

نظرت إلى الغرفة وحالة الفوضى الغارقة بها تتعب النفس والعين… فوضى تدل على أنها غرفة أعزب فعلًا.

فقالت وهي تميل أرضًا تلمّلم قطعة من ملابسه الملقاة بإهمال

“كل حاجة حواليّا بتقول إنك محتاج… بس بتقاوح… وبعدين إيه الكركبة دي؟! قاعد
إزاي كده؟.. ”

أخذ قطعة الملابس من بين يديها بعنف قائلًا بأنفاس عالية بانفعال

“روحي يادكتورة….. وبلاش تتعبي نفسك.. وتوسخي إيدك…..”

نظرت إليه نهاد بصدمة وعدم تصديق للحظات ثم في اللحظة التالية كانت تضحك… تضحك بملء شدقيها.

تأمّلها سلامة بعينين هائمتين يتتبع ضحكتها ملامح وجهها كيف تغلق عيناها تلقائيًا وكيف تتّسع شفتيها بجمالٍ شهي…

شهي ؟!

بلع ريقه متوجسًا من سيل أفكاره… ومن شيطان يتلاعب به دون رحمة…

أخيرًا توقفت عن الضحك وهي تقول باستخفاف…

“ضحكتني بجد….مش عشان بدرس طب يبقا مش بنضف وبطبخ في بيتنا… انا بنادمة زي زيك على فكرة…..”

رد مقتضبًا متحاشيًا النظر إليها
الآن…

“مفيش حد زيي…..”

سالته بتوله…

“دا غرور…. ولا بتنكر كلامي….”

رد مختصرًا….. “الإتنين….”

ثم أمرها بحزم….. “روحي يادكتورة…..”

قالت بوجوم…..

“بلاش الرسميات دي…..يـا سلامة…..”

رفع عيناه عليها قائلا بتعب….

“نـهـاد روحي….”

رفضت وهي تشير على الجرح بتعنت…

“مش قبل ما أغير على الجرح والم الكركبة
دي…..واغديك واديك علاجك كمان…ساعتها
هتكون مهمتي انتهت….فروح البيت وانا
مطمنه….”

رفض بلهجة حازمة….

“مش هتعملي حاجة وهتروحي بالحاجات اللي انتي جيباها…..”

جفلت سائلة بدهشة….

“إزاي يعني هعمل بيها إيه؟….دي عشانك… ”

رد بتشنج واضح…..

“بس انا مطلبتش حاجة….ومش هاخد
حاجة غير لما ادفع تمنها….”

سألته بصدمة…. “إزاي يعني….”

رد بنفاد صبر…. “اللي وصلك…..تختاري…..”

قالت بقلة حيلة……

“هاخد تمنها بس اغيرلك على الجرح…و..”

بتر حديثها بلهجة مسننة….

“مفيش و….كفاية ده أوي هستغلك في انك
تغيري على الجرح…..وبعدها تروحي وبلاش
تيجي هنا تاني…..”

أولتْه ظهرها موافِقة وهي تدّعي أنها تبحث في الأكياس عمّا ستحتاجه لتغيير الجرح…

بينما في الحقيقة كانت تُخفي نفسها عن عينيه فقد أصبحت مكشوفة جدًا أمامه
بعد أن ساقها قلبها إلى هنا… خوفًا عليه.

أضناها الحب حين وقعت في هوى رجلٍ مثله…لكنها لا تملك زمام قلبها… ليتها….. ما كانت هنا الآن !

جلس على الفراش مستلقيًا نصف استلقاء
بينما هي تجلس على الحافة قبالته تبدأ في عملها بيدين ماهرتين خفيفتين وعينيها مركزتين على الجرح دون غيره…

أخرج سلامة تنهيدة ثقيلة طويلة بين
طياتها الكثير مما يصعب ترجمته بالكلمات
هناك أشياء لغتها الأفعال… الأفعال فقط.
فهل تتحمل الدكتورة هذه الأفعال؟!

يبدو أن ضجيج أفكاره الوقحة أزعجها
فسألته دون أن تنظر إلى عينَيه الهائمتَين بمشاعر مختلطة نحوها…

“بتوجعك؟… قرّبنا نخلّص، إدّيني دقايق…”

هناك أشياء تؤلم أكثر…هو وجودك المستحيل هنا واقترابك من فاسقٍ مثلي…

لماذا تختبرين صبري وأنا لا أملك منه ذرة؟!

هتف سلامة يقتل الصمت بغلظة..

“تعرفي… أنا فيا العِبَر يا نهاد… بس عمري ما خونت واحد صاحبي…”

توقفت يداها للحظة مضطربة ثم تابعت
بثبات وسألت بصلابة…

“ومين جاب سيرة الخيانه ياسلامة…
وجودي هنا عـ…”

قاطعها بشراسة مبالغ فيها وهو يهتف
من بين أسنانه…..

“وجودك هنا اكبر غلط وعيب…..عيب يادكتورة….لا يصح ولا ينفع….لو أيوب
عرف…. وضعي هيبقا إيه؟…..”

ثم أضاف بقلق عليها…

“ولو حد وانتي طالعه شافك أو وانتي نازلة
هيقول إيه….”

رمشت بعينيها بخفر وهي تعرف أنها تخاطر بسببه بشيءٍ ثمين…

سمعتها…

سمعتها كانت أهم من الحب فلماذا وضعت الحب في المرتبة الأولى؟!

أَيكون الحب أولًا، فنرتكب الحمقات؟!

هتف سلامة بثورة عارمة من الغضب…

“انا لو حد بس بصلك بصه معجبتنيش…انا
ممكن اعمل جناية….ما بالك لو حد مسك
بكلمة بسببي ساعتها هعمل إيه…..”

رفعت عينيها تسأله بجسارة…..

“هتعمل إيه ؟…..”

بلع ريقه امام عيناها المحدقتين به فقال
بحمية…..

“عايزة تعرفي يعني…..أكيد هعمل حاجة تخليكي تندمي على عمري اللي هيروح بسببك…”

ابتسمت وهي تهز راسها نفيًا قائلة
برقة…..

“بعد الشر وانا مرضاش ليك الأذى…”

ثم قالت بين خفقات قلبها العالية بين
اضلعها…..

“وعد مش هاجي هنا تاني بس للضرورة
أحكام….خلصنا…..”

نهضت وهي تخلع القفازات الطبية عن يديها
ببطء…..

بينما نهض سلامة مثلها قائلا بامتنان….

“تسلم إيدك يادكتورة….”

قالت بنظرة حازمة….

“بلاش تنسى تاخد علاجك وتتغدى…”

سألها سلامة وهو يخرج عدة أوراق
مالية من الدرج….

“لسه معرفتش الحاجات دي بكام ؟…”

“مش وقتها….”

اتجهت نحو الباب تنوي المغادرة فأوقفها وهو يضع يده على المقبض……

“وقتها ياما هتاخديهم معاكي وانتي نازلة…”

نظرت إليه بدهشة وارتباك من قرب وجهه منها بهذا الشكل وأنفاسه تضرب صفحة
وجهها فقالت على إثر هذا بتلعثم…..

“انت…انت ليه بتعمل كده؟ أنا وانت إيه….”

هتف بقسوة…..

“اتنين…… اتنين يا دكتورة…..”

توترت وظهر هذا بوضوح مع أنفاسها العالية
فقالت بتهدّج…..

“أنا قصدي إن انت صاحب أخويا…. و… ويعتبر متربين سوا…..”

قست ملامحه وهو يخبرها بسخط…

“محصلش… إحنا متربناش سوا…. وكنت صاحب أخوكي…. دلوقتي لأ…..”

طلّ الحزن والمخاوف من عينيها وهي تسأله بحاجب معقود…..

“كلامك اتغير عن لما كنا في المستشفى…”

ردّ عليها بصفاقة…

“كل يوم ببقى في حال…. دا طبعي…”

همست نهاد برقة كالبلسم……

“بلاش تقسى على نفسك… ولا عليا…. نتكلم في موضوع الفلوس ده بعدين….”

زجرها بنفاد صبر…..

“يبقى هتاخدي الحاجة معاكي….”

تبادلت معه النظرات بصدمة فهالها التعبير القاسي في عينيه إنه يحارب..يحاربها قبل أن يحارب نفسه يُبعدها عن هذا المستنقع الغارق فيه بشتى الطرق….

لكنها لن تقدر على التنائي عنه حاولت كثيرًا وفشلت تريد مساعدته على الخروج من هذا المستنقع….

توقّف سيل الأفكار والنظرات بينهما عندما
طُرِق الباب وهم خلفه….

اتسعت عيناها بصدمة وهي تنظر إلى الباب المغلق وفعل سلامة بارتياع وهو يسأل عن هوية الطارق…

“مين؟!….”

“افتح يالا…..”

وضعت نهاد يدها على فمها بارتعاب وتجمدت كليًا بعد أن عرفت هوية الصوت همست بصعوبة…..

“أيـوب !…”.

الفصل التالي اضغط هنا

يتبع.. (رواية اشتد قيد الهوى) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق