رواية اشتد قيد الهوى – الفصل العاشر
أُحب مشاهدة الشروق لطالما رأيت في أول خطوط الضوء بداية جديدة وفرصة أخرى للعيش. يُقال في علم الفلسفة إن الإنسان يولد مع كل شروق…
أنهى صلاة الفجر وبعد نصف ساعة كان يصعد إلى السطح وبين يديه الحبوب لإطعام رفاقه الصغار… الحمام…
سمع نحيبًا خافتًا بالقرب من برج الحمام عقد حاجبيه واقترب من مصدر الصوت فرآها جالسة هناك تضم ساقيها إلى صدرها بكلتا ذراعيها وتدفن وجهها بينهما…
“صباح الخير…”
لم يجد سوى تلك الكلمات كي يشد انتباهها.
رفعت شروق رأسها وظهر وجهها الباكي الحزين رمشت بأهدابها المبللة عدة مرات
ثم قالت معتذرة..
“معلش أنا طلعت هنا وأنت قولت…”
توقفت ثم استرسلت وغصّة البكاء تخنقها..
“بس أنا كنت مخنوقة ومش طايقة أقعد في الشقة فجيت هنا… أنا هنزل…”
منعها صالح برفق…
“خليكي يا أم ملك… طالما مخنوقة…”
ثم دلف إلى الغرفة المغلقة أمام عينيها، وأخرج بساطًا صغيرًا أشار لها أن تجلس عليه ففعلت دون تعليق…
شاركها الجلسة على الطرف الآخر من البساط بينما اقترب الحمام منه فبدأ ينثر الحبّ أمامهما على بعد خطوات.
فتجمّع الحمام وبدأ يأكل ويُخرج الهديل الناعم فَضفَى على المكان شعورٌ من الراحة والسكينة فبدأت دموعها تجف وتهدأ تدريجيًا.
“استعيذي بالله… هَوّني على قلبك…”
قالها صالح بنبرة هادئة حانية…
قالت شروق بوجع وعيناها مُثبتتان على الطير الذي يأكل بنهم مستمتعًا بكل حبّة…
“مكنتش عايزة امد ايدي عليها…انا اول مرة
اضربها….بس كدبها….كدبها عليا….ملك بتحاول
تغرقني ومفكره انها كده بتنجدني…”
قال صالح بحسن نية….
“يمكن البنت متعلقة بابوها وجدتها..مفهاش حاجه لو شافتهم….أكيد كدبها ورا سبب…”
قالت شروق بوهن مرير….
“انت متعرفش حاجة ياشيخ…دول عالم وحشة…وحشة أوي…انا ماصدقت بعدت
عنهم….”
رد صالح عليها بصوتٍ هادئ كالبلسم….
“لا حول ولا قوة إلا بالله….ادعلهم بالهدايا.. وادعي لبنتك ان ربنا ينور بصيرتها….”
قالت شروق فجأة، كمن تملّكها مَسٌّ…
“انا مش هخرجها من البيت تاني هروح معاها
في كل حته…دروس ومدارس مش هسيبها..”
اجابها صالح وهو ينثر المزيد من الحب….
“دا مش حل…..”
نظرت إليه بحدة قائلة….
“امال إيه الحل اني اسيبهم ياخدوها….”
نظر لها صالح ايضًا وقال بتعقل….
“هما في الأول وفي الاخر أهلها مش حد غريب عنها….”
قالت شروق بتهدج وصدرها يحترق على
جمار الخوف….
“بس هما مش فارق معاهم ملك…انا اللي
فارقه معاهم بيدوروا على اي حاجة توجعني وتكسرني ومفيش غير بنتي اللي بيني وبينهم….”
رد عليها صالح برجاحة عقل….
“بنتك لسه في حضنك….حاولي تغيري اسلوبك معاها…وبلاش تمدي ايدك تاني عليها…خديها بلين هتكسبيها في صفك ومحدش هيقدر يأثر عليها بعد كده…”
نظرت امامها وقالت بصوت باهت…..
“هحاول حاضر…….”
عاد صالح ينظر الى الحمام ثم قال فجاة
دون مقدمات….
“الحمام دا ناقص كام واحده….”
فغرت فمها مصدومة وهي تنظر إليه…
“هااا…..”
“هي القطة كلتهم ولا…..”بنظرة مشاكسة
نظر اليها سائلا بشك يضفي عليه المزاح
“انتي كنتي طبخه إيه النهاردة ؟….”
ردت متوجسة….. “ملوخية…..”
سالها وعينيه الخضراء تلمع بمناغشة….
“جمبها حمام؟……”
زمت شفتيها الجميلة بضيق قائلة بتذمر…
“لا جمبها فراخ…..الحمام مش ناقص عد كويس….. انا مسرقتش حاجة….”
ابتسم صالح بوجهٍ بشوش وهو يقول
بمناورة….
“بس انا مجبتش سيرة سرقة…”
قالت بحنق شديد…..
“انت بتلمح اني خدت الحمام بتاعك….”
قال ببراء…..
“لأ طبعا…… ان بعد الظن اثم…..”
قالت شروق عابسة….
“قول لنفسك الكلام ده….وبعدين انا مبحبش
الحمام….”
نظر الى الحمام وقال بنظرة ذئب جائع….
“انا بحبه جدًا وطمعان في الكام حمامة دول….اي رأيك… ”
سيطرة على ابتسامتها وهي تسأله
بحياء….
“بالف هنا…..بس في إيه… ”
قال صالح بنبرة عذبة…
“تتغدي عندنا النهاردة انتي وملك… واحاول
اصلحكم على بعض….”
تهللت اسريرها كـطفلة تنتظر مصالحة أمها وليس العكس……”بجد ياشيخ……”
اوما برأسه بألفة في الحديث معها غريبة
جدًا بنسبة له….
“بجد ياشيخ….. بس هتاكلي حمام إجباري…”
قالت باعتراض…. “مش بحب أكله….”
سالها بفضول….
“انتي جربتيه قبل كده….”
هزت راسها نفيًا فقال بصوتٍ أجش…
“يبقا بلاش تحكمي على الجواب من عنوانه
اتفقنا….”
إبتسمت لعينيه قائلة برقة….. “اتفقنا…..”
نظر الى ابتسامتها المتسعة بافتتان وعينيها الشبية بالغزلان جمال البرية واسرارها…..
فعلق وهو هائم النظرات لأول مرة في
وجه أمرأه لا تحل له…..
“وطلع الشروق…..”
ارتبكت ورمشت بعينيها عدة مرات فتنحنح بخشونة وهو يمسد على لحيته الكثيفة المشذّبة، قائلاً وهو يشير خلفها حيث أول خيطٍ ذهبي من الضوء ينتشر في السماء الرمادية….
تمتم صالح وهو ينظر الى هذا المشهد
الخرافي…..
“اللهم إني أسالك في هذا اليوم كما أشرقت الشمس أن تشرق في قلبي نورك وتملأه بسلامك وبركتك ورحمتك. اللهم اجعل هذا اليوم خيرًا لي واجعلني من أهل الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة….”
تسرب شعور الراحة والسكينة الى قلبها عند
سماع دعائه….فحثها صالح قائلا….
“قولي اللهم آمين….”
قالت مبتسمة له…… “اللهم آمين…..”
قابل عينيها مجددًا في حوارٍ طويلٍ صامت يحمل بين طياته مشاعر عدة وفي كل مرة يتأكّد كلاهما أنها لن تكون نظراتٍ عابرة…
هناك شيءٌ يحدث ولن يعترفا به.
سيظل الإنكار الأجمل… على الإطلاق….
…………………………………………………….
في الظهيرة..في الطابق الثاني في شقة ياسين…
كان يقف صالح في الشرفة يجري مكالمة هاتفية فاقتربت منه والدته ووقفت إلى جواره.
حانت منه نظرة نحوها وما إن رأى الفضول يلمع في عينيها حتى أنهى الاتصال في ثوانٍ قائلاً…
“خير يا أمي بتبصيلي كده ليه….”
سألته بلؤم….
“انت عازم شروق على الغدى؟…”
رد صالح بايماءة جادة…..
“ايوا مانا قولتلك الصبح قبل ما اروح الشغل…”
قالت والدته بتبرم….
“قولت قبل ما تنزل بدقيقة…. ملحقتش افهم ولا اسأل….”
قطب جبينه بحيرة…..
“تسألي على إيه…..”
ضاقت عينيها بدهاء….
“على العزومة اللي جت على غفلة دي….”
هتف صالح بتساؤل….
“هي في حاجة ناقصة في البيت؟..”
اطلقت الام تنهيدة استياء قائلة….
“الخير كتير والحمدلله….. انت عارف قصدي
كويس… ”
ارجع رأسه للخلف بعد ان قراء الاجابة على
وجهها فقال بهدوء….
“مفيش حاجه من اللي دارت في دماغك دي.. عزومة عادية….اتعركت مع بنتها وضربتها
قدامي فقولت اعزمها النهاردة وارضيهم
على بعض….”
عقبت والدته باستنكار…..
“بنتها صغيرة وامها تراضيه بكلمة مش محتاجة وسيط…..”
قال صالح بصبر موضحًا…..
“اللي فهمته انها محتاجة وسيط وان أمها طفلة أكتر منها…. وعصبيتها وتسرعها خلى بنتها تكدب عليها…”
سندت والدته على سور الشرفة وهي تحثه
على المتابعة بإبتسامة واسعة…..
“عصبيتها وتسرعها…. وطفلة….. وإيه كمان يابن بطني….”
عبس صالح قائلا بوجوم….
“مش اللي جه في دماغك ياحاجة….”
ضربت يداها ببعضهما وهي تقول بحسرة…
“ياريت يكون اللي في دماغي…. دا محبة على قلبي تفكر وتبص على عمرك اللي بيضيع دا انت تلاته واربعين سنة إيه هتفكر على الخمسين….”
ثم ربتت على صدره مسترسلة بحنو….
“شروق جدعه وبنت حلال ومنكسرة…. ولو اجوزتها وربيت بنتها هتكسب ثواب فيهم….”
اتسعت عينا صالح بصدمة قائلا برفض
قاطع….
“اجوزها وربي بنتها؟!…كل ده عشان عزمتهم على الغدى جرالك إيه يا أمي مش كده… قولتك اني مش هتجوز لا دلوقتي ولا بعدين…”
هتفت والدته بقلب ملتاع….
“يابني العمر بيعدي أسمع مني عشر سنين وانت دافن نفسك بالحيا….وبكرة بنتك يجيلها ابن الحلال وتجوز…..وانا مش هعيش معاك العمر كله ليا ساعة هروح فيها….”
قال صالح بنبرة حانية….
“ربنا يباركلي في عمرك ويخليكي لينا…كفاية كلام في الموضوع ده عشان خاطري….”
ثم سألها بتذكر….
“أبرار ما نزلتش تساعدك ليه….”
لوت والدته فمها وهي ترد عليه بسأم….
“قلبه وشها ومش عايزة تنزل لما عرفت ان شروق هتتغدى معانا….وياسين كمان مش هيرجع على الغدى…هيتأخر برا شوية….”
لاح التفهم والمرعاة على وجهه قائلا
بحنو…
“خلاص نتغدى هنا….عشان أبرار متزعلش
وانا بعد الغدى هطلع اتكلم معاها….”
قالت والدته باهتياج….
“تتكلم معاها في إيه…بنتك مدلعة…دا بدل ماهي اللي تفضل وراك لحد ما تجوز…..”
قال صالح بنبرة حزينة بين طياتها مخاوف
الماضي…..
“ابرار روحها في أمها….ولا ناسيه تعبها بعد موتها وصوتها اللي محدش سمعه فينا غير
بعد سنتين من العلاج النفسي….”
نظر أمامه حيث السماء الممتدة والمباني العالية أمامهم وقد اجتاحه شعور خانق
وهو يقول..
“انا مش هضحي ببنتي يا أمي عشان نفسي…مش هيحصل….”
سالته والدته بدهشة….
“يعني رفضك بسبب أبرار؟…..”
رد صالح بنبرة خافته حزينة….
“حبي لجميلة وابرار يخلوني أعمل اكتر من كده…”
ثم ابتعد عنها منهيًا الحديث حول هذا الأمر الحساس والمرهِق بالنسبة له. أما والدته فبقيت في مكانها تنظر إلى السماء الصافية وتدعو بلهفة أمٌّ تتمنى رؤية ابنها مستقرًا وسعيدًا كما كان من قبل
“يارب ابعتلو نصيبه الحلو من الدنيا…. يارب….”
………………………………………………….
كانت تقف في المطبخ برفقة والدته التي
قالت بحرج….
“يعني تبقي معزومة عندنا وتطلعي تطبخي
معايا دا كلام….”
كانت شروق تقف عند الرخامة تقشر فصوص
الثوم وهي ترد عليها….
“واي المشكلة ياخالتي….أيدي معاكي نخلص
بسرعة…ولو تسمعي كلامي وتطلعي ترتاحي
برا وانا أخلص اللي فاضل واجيب الأكل
على السفرة لحد عندك….”
رفضت والدته بإبتسامة ودودة…..
“تعيشي ياشروق…مش عايزة اتعبك…كفاية
وقفتك معايا اهوه ناخده بحس بعض…”
ثم سايرتها في الحديث…..
“عاملة إيه في شغلك صحيح….”
“الحمدلله بخير…..”
سالتها والدته بعطف…..
“بيغطي مصاريفك…مش محتاجة حاجة…”
ابتسمت شروق وهزت راسها بنفي…
“تعيشي ياخالتي…الحمدلله مستورة…”
قالت لها بتوبيخ…..
“يابت متبقاش نفسك عزيزة كده…انا مش غريبة دا انا في مقام أمك….”
لم تتلاشى ابتسامتها بل ازدادت اتساعًا وهي
تقول دون شك….
“عارفة والله لو احتجت حاجة…هقولك انتي
عارفة…..”
نظرت والدته من باب المطلخ نحو ملك
الجالسة على مقعد السفرة بوجهٍ عابس
امامها دفتر تلوين تملأ الفراغات بالألوان
الزاهية…..
“ملك طالعه قالبة بوزها..انتوا زعلانين فعلا..”
سألتها شروق….
“هو الشيخ صالح قالك؟…”
اجابتها بهدوء….
“هو محكاش تفاصيل…قال انكم زعلانين
بس….”
اطلقت تنهيدة طويلة مجيبة….
“شوية…ملك عنيدة وعلطول ماشيه بدماغها..”
ربتت والدته على كتفها بعطف…..
“معلش الجيل ده والسن دا بذات محتاج تشدي شويه وترخي شويتين….”
هزت شروق راسها بسأم….
“والله مافي حاجة نافعة ياخالتي هقولك إيه
بس ربنا يهديها….”
“يارب…..هروح أصلي العصر لحسان اذن
من بدري…..”
“وانا هعمل الملوخية على ما تخلصي…”
خرجت السيدة أبرار وتركتها أمام الموقد تُحضّر الطبق الأخير حساءٌ أخضر لزج من أشهر الأكلات المصرية…
بدأت في تحمير الثوم ثم سكبت (الطشة) على الحساء الأخضر مع شهقة أنثوية مُغوية أتت من الأعماق حتى يكون للحساء نفسٌ… يعبر عن طاهيته.
“يا ستار…. الأكل اتحرق ولا إيه؟!”
استدارت شروق مفزوعة وهي تنظر إليه بعينين واسعتين جافلتين…
فقال صالح بحاجب معقود بعد تسمرها أمامه بهذا الشكل….
“اتحرق بجد؟…”
رمشت شروق بأهدابها الكثيفة عدة مرات وزحفت إلى وجنتيها حمرة الحرج ولم
تنطق…
وجوده مربك… وخفقات قلبها تقرع بجنون عندما تقع عيناها عليه دون تنبيهٍ مسبق.
لماذا توقّف عن وضع عطر العود؟… كان يجعلها متأهبة للّقاء….. وثابتة أكثر…
ماذا يحدث يا شروق؟
لا تعبثي مع الحب فهو كالنار… يجب أن تتوخّي الحذر معها…
قال صالح بصوتٍ أجش…
“عموما فداكي… مش مستاهلة الخضة دي كلها…. نطلب من برّا…”
استنشقت هواء المطبخ بقوة مُصدِرة صوتًا أثناء التنفّس وهي تبحث بعينيها عن القدر المحروق…قائلة بتوجس….
“انا مش شايفه حاجة محروقه ولا شمه
حاجة فين ده؟….”
سألها متحيرًا….
“أمال ليه صرختي كده…..”
قالت بسرعة….
“انا مصرختش دي شهقة الملوخية….”
قطب جبينه متعجبًا..”شهقة؟….”
قالت بعفوية…..
“عشان تطلع حلوة…..”
ردد جملتها مستغربًا….
“بالشهقة تطلع حلوة….دي خرافة….”
هزت راسها وباستحياء قالت…
“لا….كل ست وليها نفس في الأكل…لم تدوق
هتعرف….”
ازدرد ريقه بتردد وهو يشعر انه طال النظر إليها مجددًا اثناء حديثهما…..فقال متجهمًا فجاة…
“هي فين الحاجة أبرار؟…..”
اجابت بخفوت….”بتصلي العصر…..”
سالها بتلقائية….
“وانتي مروحتيش تصلي ليه؟….”
تصلي؟!…
إنها لا تتذكر آخر مرة وقفت فيها بين يدي الله على سجادة صلاة…
وكم يجعلها هذا في حجم النملة حين تطلب من الله شيئًا وتُلحّ فيه… ثم تُفاجأ بأن الله استجاب لها… سمعها وهي التي تهرب من لقائه…
لكنها تحارب نفسها. تأخذ خطوة نحو الله ثم تعود عشرًا إلى الوراء تشغلها الدنيا ويأخذ الركض فيها الحيّز الأكبر من يومها !..
تؤجل تارة… وتعود تارة… وتتوقف لأشهر دون أن تعرف سبب تكاسلها عن وقتٍ لا يستغرق سوى دقائق قليلة من يومها…
شعر صالح أنه تمادى في هذا السؤال ربما هي في فترة الحيض لذلك صمتت… وارتبكت وشحب وجهها…
لماذا لا يتريث في أسئلته؟.. لماذا يتجاوز الحد المسموح به معها ؟…
“حضريلي حاجات السلطة يام ملك….”
قالت بسرعة…..
“تحب اعملهالك انا….”
“كفاية عليكي الملوخية….”نطقها بوجهٍ باسم… يرفع عنها الحرج ثم أضاف بهدوء…
“انا بحب اعملها بنفسي طالما فاضي….هاتيها على السفرة…”
اقترب صالح من السفرة وجلس على احد المقاعد المجاورة لملك وقال مبتسمًا….
“بتعملي إيه ياملك….”
قالت دون النظر إليه…..
“بلون الرسمه دي…..”
ناغشها صالح بالقول….
“مالك ياملك…..انتي زعلانه مننا ولا ايه….”
قالت ملك بملامح مقتضبة…..
“لا…بس هو انا ينفع انزل انا مش عايزة اتغدى….”
قال صالح مفكرًا باسلوب طريف….
“مين زعلك فينا…..انا ولا أبرار بنتي…..شكله
ياسين هو مفيش غيره….”
هزت راسها نفيًا وقالت بعفوية….
“لا عمو ياسين طيوب أوي…..محدش زعلني
انا مليش نفس….”
قال صالح بنبرة حانية….
“لما نتجمع على السفرة كلنا…نفسك هتتفتح
اللمه بتاكل….”
أتت شروق نحوهما وهي تلقي على ابنتها نظرة طويلة… نظرت ملك إلى الأرض ولم ترفع عينيها نحو أمها بينما مدّ صالح يده وأخذ منها الطبق البلاستيكي والخضروات التي كانت قد غسلتها للتو ووضعتها فيه.
قالت شروق بهدوء….
“غسلت السلطه وجبتلك حاجتها….”
“تسلم إيدك….قعدي….”
أشار لها بالجلوس فجلست متعمدة اختيار الجهة المقابلة لابنتها.
بدأ صالح في تقطيع الخيار على القطاعة الخشبية وهو يتسامر مع الصغيرة برفق…
“تعرفي ياملك انا بحب اكل السلطه دي
جمب اي أكله….بحبها بالعيش….”
اندمجت معه الصغير وقالت….
“انا بحب الرز بالسلطة….”
ابتسم صالح وكذلك شروق وهي تعرف أن
لهذا الحديث مغزى….
فـ صالح الشافعي لا يتحدث عبثًا…..
“جميل…..الاختلاف بينا مش غلط…الغلط ان احنا منقدرش نفهم بعض…لازم يكون في بينا
لغة حوار تجمعنا….”
سالته بملل….. “ازاي يعني….”
قال صالح بصوتٍ رخيم……
“يعني نتكلم…..نقول اللي احنا عايزينه نصارح
بده….من غير كدب….او مناورة…..”
عبست ملامح ملك أكثر وألقت نظرة سريعة نحو أمها قبل أن تقول بضجر…
“ولو اللي قدمنا مختلف معانا….ورافض اي
حاجة بنقولها….”
أطرقت شروق رأسها نحو الأسفل وأغمضت عينيها بصمت موجع…
بينما قال صالح بنبرة متفهمة…..
“نفهم هو ليه مختلف معانا مش يمكن قلبه علينا شايف حاجة احنا مش شيفنها….مش صح خالص اننا نلجأ للكدب…..”
اعطاها حزمة من الأوراق الخضراء قائلًا…..
“نقي الكزبرة دي ياملك….في عيدان صفرا
شليها….”
بدأت الصغيرة في مساعدته بصمت بينما
أضاف هو بتاني…
“لو حطناها في السلطة هتغير الطعم…ومش
هيكون من السلطه اي فايدة….”
ثم استرسل بتمهل…..
“لا شكلها حلو ولا طعمها حلو…..زي الكدب والعند….”
نظرت اليه الصغيرة بحرج فقال بنبرة
واعظة….
“عشان نحافظ على نفسنا لازم ننقيهم ونرميهم….زي العيدان الصفرا دي…”
رفع صالح يده ومسح بظهرها على شعر الصغيرة ثم قال بنبرة حنونة وعينان تشعّان عطفًا واهتمامًا يغمر به قلب الصغيرة وقلب أمها التي كانت تراقب المشهد بعينين تترقرقان بالدموع…
“مامتك بتحبك…..وانتي أغلى حد في حياتها
ولو بتقسى عليكي شوية بيبقا غصب عنها
خوف عليكي….”
ترقرقت الدموع في عيني ملك ثم انسابت بصمت وهي تبعد المقعد بعيدًا وتتجه بخطوات مترددة نحو أمها…
فتحت شروق ذراعيها إليها تدعوها للاقترب وهي تبكي معها فالقت الصغيرة جسدها بين ذراعيها هامسة بتهدج….
“انا آسفه ياماما….مكنتش عايزة اكدب عليكي
بس خوفت تزعلي مني….”
بينما قالت شروق بحسرة وكأنها لم تسمع اعتذارها….
“انا مكنتش عايزة اضربك ياملك….انا مش عارفه عملت كده إزاي انا كنت هموت من
الخوف عليكي….”
قبلتها ملك متمتمه بأسف….
“حقك عليا ياماما….”
قبلتها شروق وهي تضمها لصدرها بلوعة
قائلة….
“حقك عليا انتي ياروح ماما…..”
قالت ملك بصوت مختنق بالبكاء….
“وعد مش هكدب تاني عليكي….”
مسحت شروق دموع ابنتها ولامست وجنتها برفق ثم سألتها باسى…
“بطلي عياط….. لسه بتوجعك…..”
قالت ملك بمزاح من بين دموعها…
“إيدك تقيلة اوي ياشوشو….”
ضمتها الى صدرها مجددًا ببسمة تئن بالوجع
والندم…..
“ياقلب شوشو كانت تتقطع لو مدتها عليكي
تاني….”
قالت ملك سريعًا…. “بعد الشر ياماما….”
قال صالح وهو ما زال يقطع حزمة الأوراق الخضراء وكان وبين الحين والآخر يرفع عينيه ليتابع هذا المشهد الدرامي الحزين…
الذي إنتهى أخيرًا…..
“خلاص صافي يالبن….هتاكلي معانا ولا لسه
عامله إضراب…..”
قفزت ملك بشقاوة….
“لا طبعا انا جعانه أوي…..احنا هنتغدى إمتى..
انت مش عازمنا على حمام…..”
اتسعت عينا شروق بدهشة وصاحت فيها كي تتأدب…… “مـلــك……”
“خليها براحتها احنا ما صدقنا …”قالها بنظرة
حازمة ثم عاد بوجهٍ باسم الى الصغيرة قائلا
بأمر حاني……
“انا عازمك على حمام فعلا….محشي فريك كمان…بس انا مش بحب العياط والنكد…
فخليكي فرفوشة كده وروحي اغسلي
وشك وبدأي حضري السفرة مع ماما…”
“ماشي كلامك ياعمو…..”
ركضت الصغيرة بسرعة نحو الحمام بينما
قال صالح بمحبة…..
“ربنا يباركلك فيها…..”
“تعيش ياشيخ صالح….بس على فكرة…..”
رفع عيناه الخضراء نحوها منتظرًا فقالت
وهي تشير على حزمة الأوراق….
“اللي بتقطعه ده بقدونس مش كزبرة..”
تجهم وجهه ناظرًا الى حزمة البقدونس
بين يده هاتفًا بصدمة….
“يعني كده ضاعت الحكمة؟…..”
عضت على شفتيها تمنع الضحكة بصعوبة
وهي ترد…. “بصراحة آه….”
سألها بلهجة قلقة….
“ملك تعرف تفرق بينهم؟…”
هزت راسها نفيًا….فقال بارتياح وهو يعيد
تقطيع البقدونس…..
“خلاص خليها بينا….”
ضحكت شروق تلك المرة ضحكة أنثوية رنّانة أشرق معها وجهها…
جعلته يرفع عينيه نحوها رغمًا عنه متأملًا حُسنها الفج..فجًا لم يُهذّب بعد..ألم تتعلم كيف تُخفي سحرها..أو تتحكم في حضوره !…
تمتم داخله مجددًا وهو يخفض بصره…
“وطلع الشروق….”
………………………………………………….
صدح الهاتف معلنًا عن اتصال. حكت شعرها الأسود بعصبية وهي مستلقية على الفراش وعيناها معلقتان بسأم في سقف غرفتها.
مدّت يدها بتكاسل لتلتقط الهاتف، وما إن رأت اسمه حتى جزّت على أسنانها بغضب قبل أن تضع الهاتف على أذنها.
“نعم عايز إيه…..”
هتف ياسين عبر الهاتف جافلًا….
(في اي يابت انتي ملبوسه….مالك في إيه…)
هتفت أبرار كمدفع رشاش…
“أما انت بجح بصحيح يعني مش عارف في إيه….بعد ما اتغديت معاهم ومليت كرشك جاي تكلمني…”
بان الصدق في صوته وهو يقول متحيرًا…
(مليت كرشي ؟!…. اتغديت مع مين انا لسه مكلتش أصلا…)
عقدت حاجبيها وهي تلجم ثروة غضبها…
بتساؤل….
“امال انت فين؟….. مش في البيت؟….”
رد ياسين عليها واجمًا….
(برا يامجنونة…. اتصلت أشوفك فين مالك
هي الحالة جتلك ولا إيه….)
قالت بضيق….. “مش ناقصه هزارك….”
سالها بمداعبة حنونه….
(مالك يابيري….. مين زعلك….)
ترترقت الدموع في عينيها وهي تقول
بكراهيه….
“انت متعرفش مين في شقتك دلوقتي؟…”
(هيكون مين يعني….)
هتفت أبرار بشراسة وكرهٍ……
“الوليه الباردة اللي إسمها شروق… وبنتها
التنحه…. عالم وشها مكشوف…. بتتغدى
تحت ياسيدي بكرة تطبخ لنا بايديها…”
استفسر ياسين بنفس الهدوء الجلي
عليه….
(يعني طلعت تتغدى من نفسها كده محدش قالها تعالي ؟!….)
صاحت بغيظ…..
“تصور……. بابا اللي عزمها….”
صاح ياسين مهلل وهو يضحك….
(الله دي البشاير هلت…. طب وانتي مضايقه
ليه….)
تشدقت بصدمة…..
“وكمان بتسأل يـا ياسين؟….”
رد بصوتٍ هادئ متفهمًا…..
(عشان اللي بيحصل ده مش مستاهل زعلك
ده كله….لو في حاجة بينهم أو هتحصل…
متوقفيش في وشهم…ابوكي من حقه
يتجوز ويخلف كمان….)
اشارت على نفسها بحرقة….
“وانا….وانا هيفضلي مين لما هو يشوف حياته….”
هتف ياسين بنبرة رجولية جذابة….
(دا كلام امال انا روحت فين…انا هعوضك
عن الكل بس انتي بطلي غباء….)
سالت دموعها وهي ضائعة في مخاوفها
مجيبة عليه بغصة…..
“انا مش غبية….انت اللي مش فاهمني…”
ظهر الاستياء على نبرة صوته وهو يقول…
(ولا انتي فهماني يا أبرار ولا عمرك هتفهمي…)
قالت فجاة بحدة متهورة….
“لو بابا فعلا اتجوز الست دي….انا هاخد بعضي
وهمشي من هنا….”
(وانا هاجي معاكي…..)
صاحت باستنكار….
“هو انا خلفتك ونسيتك تيجي معايا فين..”
ابتسم ياسين وهو يقول بمناغشة….
(ومالوا انا معتبرك مامي….مش كنتي بتحبي تلعبي اللعبة دي معايا وانتي صغيرة….)
ارتبكت وغزا الاحمرار وجنتيها وهي
تقول بتبرم…..
“انت كبرت خلاص ولازم تعتمد على نفسك..”
عاد يشاكسها ضاحكًا باستمتاع….
(مقدرش يامامي هناكف في مين لو مشيتي…..)
هتفت بغضب….. “بطل هزار…..”
رد عليها بصوتٍ أجش…..
(وانتي بطلي عياط ونكد…..وحشتيني…)
خفق قلبها بصدمة مع اتساع عيناها السوداوان ثم أمطرته بردٍّ لاذع…
“انت مجنون….انت مفكرني ميار هتحب فيا..”
هتف ياسين بتشنج…..
(تصدقي انك بومة…ومفيش حاجة جايه معاكي…)
صاحت ببغض….. “انت اللي بوما…..”
اطلق ياسين زفرة حادة مؤكدًا بتهكم…..
(والله لو شهدنا حد على تصرفاتك هيبصم
بالعشرة معايا انك بومة….)
اوغر صدرها بالغيظ فقالت منزعجة…..
“تصدق اني غلطانه اني فتحت الخط…انا هعملك بلوك وريح نفسي….”
قال ياسين ببرود……
(قبل ما تنفذي تهديدك ياست رضوى الشربينى
طفحتي؟…..)
ردت عليه صارخة….. “مش عايزة أطفح….”
اخبرها بنبرة متجهمة….
(انا هجيب غدى معايا اسبقيني على الاوضة اللي فوق السطح….)
رفضت بعنا….. “لا….”
هتف بصوت محتد مهتم….
(جتك أوه….هتاكل عشان منركبش محاليل..
الانيميا عندك كده كده واطيه….)
ردت عليه بسخرية لاذعة…..
“وانت شاغل بالك ليه….وفر اهتمامك وخوفك
لميار بتاعتك….”
تجاهل حديثها قائلا بصلابة لا تخلو من
الأمر…..
(اطلع القيكي مستنياني….وهاتي اطابق ومعالق…..هجيب فرخة مشوية….ولا تحبي
تاكلي حاجة تانية؟….)
رفضت بمكابرة…..
“جيب اللي تجيبو اصلا مليش نفس…”
رد ياسين عليها بابتسامة باردة….
(هفتح نفسك انا متقلقيش….)
صعدت أبرار الدرج العلوي وصولًا إلى سطح البيت حيث الغرفة المغلقة وبرج الحمام.
فتحت باب الغرفة بالمفتاح ودلفت إليها تاركة الباب مفتوحًا خلفها….
بدأت ترتب جلستهما على الأرض وضعت المساند المريحة الى جوار الحائط ثم جلست.
كانت ترتدي منامة منزلية وقد أخفتها بخمار الجدة الكبير الذي يصل إلى ما بعد ركبتيها.
سمعت صوت خطواته تقترب من الغرفة فتربعت في مكانها تنتظره.
طلّ عليها ياسين مبتسمًا رافعًا الأكياس بين يديه…. وقال ممازحًا
“الأكل يا ست الحاجة…”
ضحكت أبرار وهي تنهض على ساقيها مقتربة منه ثم قالت….
“زودت السلطة… والطحينة…”
رد ياسين وهو يخلع سترته ويعكف ساعدي قميصه جالسًا على أحد المساند الكبيرة….
“هي دي حاجة تتنسي؟… ”
جلست إلى جواره بعد أن وضعت طاولة صغيرة منخفضة بينهما استعدادًا للأكل..
عندما شرعت أبرار في فتح الأكياس شاكسها ياسين قائلاً….
“انتي مش قولتي إنك ملكيش نفس؟”
توقفت وهي تنظر إليه شزرًا فضحك وهو يفتح الكيس الآخر ويساعدها.
“بهزر معاكي بالف هنا …..”
بدأت في تناول الطعام معه ثم سألته
بفضول….
“معدتش على الشقة تحت؟…..”
“هعدي عليها ليه….طلعت على هنا علطول…
ممكن تبطلي تشغلي بالك بيهم….”
قالها ياسين وهو يستمتع بوجبة الطعام معها… وحدهما وهذا حدث استثنائي بالنسبة له… أما بالنسبة لها فالأمر عادي… عادي لدرجة تصيبه بخيبات الأمل تجاهها..
غامت عينيها بالحزن وهي تقول
بحزن…..
“إزاي يعني دا أبويا…..أبويا يا ياسين….”
“افتحي بؤك…..”
مدّ يده لها بقطعة من الدجاج ففتحت فمها وأخذتها منه على مضض قائلةً…
“انت هتزغطني بأيدك….”
قال مبتسمًا بشقاوة…. “يعني هي أول مرة….”
ثم سألته وهو تغمس اللقمة بالطحينة وتاكلها
مستلذة…..
“هو انت كنت فين صحيح؟….”
“مع ناس صحابي….”
سألته بتطفل…. “فيهم بنات ؟!…”
رد بوقاحة….. “كلهم أصلا بنات….”
زمت شفتيها مشمئزة….. “بجح بجد…..”
ضحك هازئًا يرمقها بغيظ…..
“على أساس انك بتغيري وكده؟….”
رفعت كتفيها للأعلى ثم أنزلتهما بلا اكتراث.
“هغير عليك ليه يابني…خلي ميار بتاعتك هي
اللي تغير عليك….”
رد عليها بنظرة غاضبة….
“بس انا مفيش حاجة بيني وبين ميار….”
سألته بدهشة….
“يعني مش بتحب حد؟….”
تافف وهو ينظر للجهة الاخرى معترفًا….
“بحب…..بحب واحده حلوفه….”
رفعت حاجبها متعجبة….
“يا ساتر….واي اللي رماك على المُر…..”
هتف من بين أسنانه بحنق…..
“الرمان…..عصير الرمان هو سبب المُر دا
كله…..”
سألته بغباء….
“انت بتشرب رمان معاها ؟!….”
تفوه بالكلام وهو مغتاظ وقد بلغ من الغيظ حدًا قريبًا من الجنون بسبب تلك المخلوقة الفولاذية….
“اه تصوري بتعمل رمان زيك…عسل نحل….”
لوحت أبرار بيدها غير مهتمة….
“شكلك بتهزر….واضح انك بتسلى لا بتحبها
ولا حاجة…..”
قست نظرات عيناه وهو يقول باحباط…
“حتى لو بتسلى هي مش شيفاني أصلا….”
حرضته قائلة…. “ليه هوا…..اتلحلح……”
كور قبضته يد بقوة حتى ابيضت مفاصله
وهو يرد عليه بصعوبة…..
“اتلحلحت والبعيدة جبلة….مفيش خالص…”
قالت أبرار بعد تفكير….
“أنا من رأيي تشوف غيرها….”
اوما براسه يخفي انفعالاته عنها….
“الخطه الجاي ان شاءالله….هعمل صيانة
لقلبي واستبعدها حاضر….”
اطلقت ابرار تنهيدة هائمة وهي تقول….
“تعرف ياسينو…..انا نفسي أحب….واتحب…”
رمقها ياسين بقرف….بينما استرسلت أبرار
بنفس النبرة الهائمة…..
“نفسي اوي الاقي فتى أحلامي…..”
هتف مستهجنًا…..
“انتي ضبشه مش هتلاقيه….”
لكزته أبرار قائلة بازدراء…..
“احترم نفسك الحاجات دي اصلا مش بتشاف يامغفل…دي بتتحس…. الحب لما بيجي كده بيجي على غفلة بيلغبطك….بتشوفه
بقلبك قبل عينك….”
أومأ برأسه وهو يقف….
“انتي صح…. انا اللي مغفل فعلا….”
سالته وهو ترفع راسها له….
“بطلت اكل ليه؟…..”
رد واجمًا….. “شبعت…..”
ثم ابتعد ياسين ووقف في أحد الزوايا امام
حوض الغسيل…وشرع في غسل يديه…
بينما قالت أبرار بعفوية….
“بس انا لسه عايزه احكيلك عن فتى أحلامي…”
رد مكفهرًا….
“احتفظي بمواصفاته لنفسك….”
هتفت أبرار بضجر….
“واي المشكله لم احكيلك وتحكيلي…احنا
مش أخوات…..”
جفف يديه وهو يعود اليها مغتصبًا
البسمة وهو يقول…
“اتنيلي أحكي وخلصيني….انا اللي جبته لنفسي….”
تغضنت زوايا عينيها قائلة بوجل…..
“ياساتر عليك……الواحد مش عارف يفضفض
معاك بكلمتين….”
زم فمه وهو يحتضن الجيتار عابثًا في
أوتاره مجيبًا ببرود…..
“لا ازاي فضفضي…خدي راحتك….”
ثم همس سرًا…..(وولع انا عادي…..)
لاحت الابتسامة على شفتيها الجميلتين ومعها ظهرت النجمتان على خديها ليعطيا لحسنها طابعًا خاصًا وهي تقول بوله…
“نفسي يكون طول بعرض كده ووسيم…
ونفسي عينه تبقا خضرة زي بابا…..ونفسي يكون حنين وطيب…ويسلام بقا لو دكتور…..”
نظرت إليه لترى ملامحه جافة وغير مقروءة فقالت بحيرة…
“ساكت ليه يا ياسين….”
رد بنبرة خالية من التعبير……
“معنديش تعليق على كلامك…غير ربنا يسعدك
وتلاقيه بسرعة….”
قالت مبتسمة بفضول انثوي…..
“يارب….قولي انت بقا مواصفات فتاة أحلامك…..”
رد عليها والالم يعصف في صدره…..
“معنديش مواصفات معينة…..أهم حاجة تحبني زي ما هحبها….”
قالت بايماءة مؤيدة…..
“كل ده جميل… بس أكيد عندك مواصفات قول بقا متبقاش رخم…..”
تأملها بعينين عاشقتين فمهما تفوهت من ترهات ومهما زاد غباؤها عن الحد تبقى في عينيه أبرارًا… حب الطفولة أول من خفق قلبه لها أول حب دلف خلسة مستوطنًا قلبه دون مجهود يذكر….
فكيف لا يتفوه الآن هائمًا بها بين صورتها في الطفولة وصورتها الآن شابة جميلة بل شديدة الجمال والجاذبية….
“تكون جميلة….شعرها أسود… وعنيها سودة
عندها غمازات……وضحكتها حلوة….”
قالت بغرور…… “دا كأنك بتوصفني…..”
سخر منها قائلا بغلاظة…
“هو مفيش حد غيرك عنده غمازات ولا إيه..”
ضحكت بدلال وهي تقول….
“لا بس مفيش حد ضحكته حلوة زيي….”
بعد لحظات كانت تجلس بجواره وعيناها معلقتان في سقف الغرفة الذي تزينه ملصقات تلمع في الظلام على شكل مجرة تحتوي على كواكب ونجوم تملأ السقف بأكمله.
قالت أبرار بعد أن تأملتها بنظرة حنين متذكرة…
“يااه لسه موجوده الاستيكرات دي….بقالها
قد إيه يا ياسين……”
رد عليها وهو يعزف على الجيتار منسجمًا…
“عشر سنين او أكتر مش فاكر…..”
قالت بنبرة ناعمة وعينيها تنتقل بين السقف
ووجهه الهادئ…..
“فاكر لما علقناها سوى….وشلتني على كتفك
اليوم ده مبطلناش ضحك…كان يوم جميل..”
رد ياسين وهو ينظر مثلها…..
“اه….شكلها بليل بتبقا أحلى وهي منورة….”
سالته باستغراب….. “انت بتطلع بليل…..”
“ساعات….مش طول الوقت…..”
قالت أبرار فجأة وهي تقترب منه قليلا…..
“ياسين غني حاجة بدال ما انت عمال تعزف
على الفاضي كده….”
هز راسه رافضًا……. “لا…..”
نظرت له بعينين مليئتين بالرجاء والكثير
الكثير من الطافه وهي تقول بوداعة…..
“عشان خاطري….عشان خاطري ياسينو….”
نظر لها قليلا مفكرًا ثم قال مستسلمًا….
“طب عايزة تسمعي إيه؟….”
“حاجة لعمرو دياب…..”
قالتها بسعادة وهي تصفق بتشجيع لها كي يبدأ…
قرب ياسين الجيتار إليه وبدأت أصابعه تنتقل على الأوتار برشاقة والموسيقى تنساب متناغمة مع صوته وهو يغني بعذوبة…
“وغلاوتك وحلاوتك والشوق اللي مالوهش حدود بصراحة بكل صراحة أنا مغرم بعينيكي السود..”
خفق قلبها وهي تنظر إليه بإعجاب ساندةً ذقنها على قبضتيها وهي تستمع إليه بإحساس مرهف كصوته وموسيقاه…
نظر ياسين إلى سعة عينيها السوداوين اللامعتين كأنهما مجرة يتوه داخلها متأملاً كواكب ونجوم لا يراها سواه !…
“قلبي المفتون مجنون بيكي آه يا أول غنوة
بغنيكي من قلبي لقلبك طوالي وأدي شوقي
الهايم حواليكي….”
ابتسمت أبرار برقة فتبادل معها الابتسامة وهو يتابع بعذوبة وأصابعه تتحرك بخفة على الجيتار…
“وغلاوتك وحلاوتك والشوق اللي مالوهش حدود بصراحة بكل صراحة أنا مغرم بعينيكي السود…”
أغمضت عينيها وقلبها يغوص في جمال اللحن وصوته العذب ومن فوقهما سقف يشبه مجرة من الكواكب والنجوم…
تكملة الفصل
بعد مرور شهرًا……
كانت صفية تجلس على الأريكة تشاهد التلفاز وهي تقشر البطاطس بينما كانت التوأمان
نهاد تجلس على المقعد ترفع ساقيها على ذراعه وتحركهما بدلال وفي يدها الهاتف تنظر إليه بملل وندى تتسطح ارضًا على بطنها ترسم إحدى اللوحات وتنقل عينيها بين الرسم والمسلسل القديم المعروض أمامها….
زمت ندى شفتيها قائلة….
“أنا بحب الحلقة بتاعة فرح سنية… غير كده شكليات…”
تململت نهاد وألقت نظرة عابرة على الشاشة ثم عادت إلى أمها بضجر….
“اتفرجنا عليه مية مرة… يا ماما اقلبي
حاجة تانية…. بالله عليكي زهقت بجد…”
لم تعرها أمها أي اهتمام وظلت تتابع أحداث المسلسل بشغف بينما قالت ندى بسخط…
“ايوا اقلبي ليها المسلسلات بتاعت اليومين
دول كلها زعيق وقلع…..”
قالت نهاد بصلف……
“انا مش بتابع مصري ياظريفة…انا بتابع تركيا…..”
تعمدت ندى جعل صوتها أكثر نعومة وهي تقول بميوعة…
“مراد بيك لا تتركني هيك…عشان الله….”
اوغر صدر نهاد بالغيظ…..
“المدبلج ده تسمعيه انتي ياجاهلة….”
سالتها ندى بمناكفة…..
“إيه خدتي كورس من ورايا…. ”
“حاجة زي كده…..”
قالت ندى بنظرة متوعدة….
“خليكي رفعه مناخيرك كده وان شاء الله هكسرهالك…..”
صاحت صفية بحنق في كلتاهما….
“بطلوا خناق انتوا الاتنين مش عارفه اتفرج
على المسلسل… ”
صمتا معًا وهم ينظروا الى بعضهن بملامح
متجهمة ثم بعد دقائق كانت تتسطح نهاد
جوار اختها تسالها بمشاكسه…..
“بترسمي إيه….”
ردت ندى بغلاظة…..
“أكيد مش برسمك…..”
قالت نهاد ببغضًا….
“مانا طلبت منك ترسميني وطلبتي الدفع مقدمًا……ندلة….”
قارعتها ندى قائلة بطفولة…..
“والله طب ما انتي حالفة انك هتخليني اقطع
كشف عندك….واحده قصاد واحده….”
قرصتها نهاد من وجنتها قائلة بمداعبة
حنونة….
“بعد الشر عليكي من التعب ياهبلة…”
لانت ملامح ندى فقالت غامزة…..
“أيوا حلو طقم الحنية ده..عشان الرسمة؟!..”
هزت نهاد رأسها بتأكيد وهي تضحك…
“أمال عشان عيونك ياندوش….طبعًا عشان
الرسمة….”
بينما كانت صفية تراقبهما بابتسامة حنونة يتشاكسان ويتخاصمان ثم يعودان بعد دقائق معدودة وكأن شيئًا لم يحدث…
نسختان لكن الروح مختلفة بينما قلوبهما متشابهة كملامحهما !…
دلف أيوب في تلك الأوقات محمّل اليدين بالأكياس الكثيرة.
نهضت التوأمتان مقتربتين منه تحملان عنه الأكياس بتساؤل وعيون فضولية تفتش فيما تحويه.
“إيه اللي جايبه معاك ده يا أيوب؟.. ”
سألته أمه فرد عليها وهو يلقي جسده على الأريكة مشيرًا إلى نهاد بزجاجة ماء.
فذهبت نهاد ثم عادت بعد لحظات وأعطتها له.
شرب من فوهة الزجاجة مباشرةٍ مرتويًا، بينما كانا التوأمتان تفرغان الأكياس بفضول.
رد أيوب على أمه بعد لحظات…
“دي شوية هدايا ياصفصف…حاجات نقصاكي
انت والبنات….”
رفعت نهاد التنورة الجينز أمام عينيها
سائلة بانبهار…..
“الله دي عشان يا أيوب…..”
بينما رفعت ندى الحذاء الامع الأنيق ولوحت
به قائلة بسعادة….
“الله الهيلز ده كمان ليا….دا تحفه”
ابتسم أيوب وهو يقول بنظرة شقية….
“وفيه سلسلتين دهب في الكيسة التانية.. كل واحده تاخد واحدة….ومعاهم علبة دي بقا لصفصف…..”
صرخ التوأمان بدهشة ثم شبكا أيديهما ببعضهما وقاما بالقفز بسعادة…
ضحك أيوب عليهما وهو يأخذ منهما العلبة القطيفة مقدمًا إياها إلى أمه قائلاً…
“افتحي ياصفصف دي عشانك….”
فتحت والدته الباب بوجه عابس ثم اتسعت عيناها وهي ترفع الأساور الذهبية بين يديها مشيرةً إليهما.
“غوايش دهب؟!…منين الفلوس دي كلها يا أيوب؟…..انت عملت إيه؟…..”
نظرت اليه والدته بعينين قلقتين لا يخلوان
من الشك…..
رد أيوب عليها متعجبًا….
“هكون عملت إيه دماغك راحت فين ياما…”
سألته صفية بضجر….
“انت رجعت اتلميت على الواد الحرامي اللي اسمه سلامة ده….”
وكأنها صفعة قلب ابنتها على حين غرة فتوقفت عما كانت تفعل وظلت واقفة في مكانها تتابع حديثهما… بينما كانت نسختها منشغلة بالسلسلة الذهبية ترتديها بسعادة عارمة.
“هكلمه فين انا….خلاص كل واحد راح لحاله
مبقتش بتعامل معاه…..”
سالته والدته بضيق…..
“أمال الفلوس دي منين….”
زمجر ايوب قائلا بحدة…..
“هتكون منين ياصفصف….من مال حلال مية
في المية….كنت عامل جمعية مع ناس صحابي
وقبضتها النهاردة….وجبت بيها الحاجات دي..
ثم رمقها بعتاب قائلا….
“من إمتى وانا بمدي ايدي على الحرام..مكنش
العشم….”
قالت صفية بلوعة الأم….
“يابني انا خايفه عليك….انا من ساعة حكاية
بنت الاكابر دي وانا قلبي مش مطمن…”
ربت أيوب على كتفها يبث اليها الطمأنينة
وهو يقول….
“اطمني ياصفصف راحوا لحالهم خلاص…
واديني شغال زي مانا واهوه ربنا بيكرم…”
قالت بعينين مليئتان بدموع الفخر
والفرحة….
“ربنا يزيدك ويرزقك ياحبيبي….”
“الغوايش حلوة ؟…..”سالها أيوب وهو يساعدها على ارتداء الاسوار الذهبية…
قالت الام بوجهٍ منبسط وهي تنظر الى
ذراعها…..
“جميلة تعيش وتجيب.عقبال ما أشوفك رايح
تشتري شبكتك على بنت الحلال….”
قال أيوب باسلوب فكاهي….
“ادعيلي ياصفصف….اخلص بس وهاجي
أقولك امه انا عايز اچوز……”
ضحكت والدته وهي تنظر للسقف متمنية
بحفاوة…
“ياخويا دا يبقا يوم المُنى..بس تخلص إيه؟….”
تنحنح أيوب قائلا بجدية….
“انا قولت أخلص…..انا بقول لما ربنا يسهل.. ”
هتفت ندى بجذل وهي تلامس السلسال
الرقيق باعجاب…..
” السلسلة تجنن يابوب….اخيرًا لبست سلسلة
دهب….كان نفسي فيها اوي….ربنا يخليك لينا…”
قال أيوب بحنان….
“بكرة اجبلك ياندوش طقم الماظ الصبر بس…..”
توسعت عينيها من روعة وفخامة التخيل
ثم عقبت بصدمة….
“طقم الماظ مرة واحده ؟!..انت وقعت على كنز ولا هتدخل في جمعية جديدة….”
“لا هدخل في جمعية جديدة…..”نهض أيوب
مضيفًا بارهاق….
“انا هروح أغير هدومي…حضروا الغدى بقا
لحسان ميت من الجوع…..”
عندما دلف إلى غرفته لحقت به نهاد وهي تقول…
“أيوب…”
توقف أيوب في وسط الغرفة ينظر إليها وإلى السلسال الذهبي بين أصابعها ثم سألها بحيرة
“مالك متنحة كده ليه؟…مش ناوية تلبسيها؟”
قالت نهاد بخفوت…
“أنت شغال عند نغم الموجي…. صح؟”
برق لها أيوب بعينيه ثم اقترب منها بسرعة سحبها وأغلق الباب قائلًا بعصبية…
“وطي صوتك… أنتي عرفتي منين ؟ مين قالك؟”
حافظت على ثباتها وهي تخبره…
“شوفت رقمها عندك الصبح… لما كنتَ في الحمام.”
أمرها أيوب بنظرة حازمة….
“نهاد… متجيبيش سيرة قدام أمك… أنتي عارفاها…. ”
قالت نهاد محتدة بحمائية…
“ليه بتعمل كده يا أيوب؟ بتضحي بنفسك عشان إيه؟ تغور كنوز الدنيا كلها مش عايزينها !… ”
أوغر صدره الغضب وهو يصيح بنفاد صبر..
“أنا عايزها…أنا عايزها يا نهاد محتاجها…”
ثم أضاف بملامح منقبضة بالألم وقلة الحيلة.
“قدري إني اتغربت زي ما كنت عايز… هو حد ضامن عمره لا في الغربة ولا هنا… اللي مكتوب ليا هشوفه…”
“أنا خايفة عليك يا أيوب…”
قالتها نهاد بنبرة حنونة، تحاول معه بشتى الطرق كي يتراجع عن هذا الطريق الملغوم بالخطر.
“متخافيش يا نهاد… أمان والله… فات شهر والأمور تمام…”
ثم قرص خدها وأضاف بزهو….
“وبعدين أخوكي حديد يفوت في النار… ربنا هيسترها إن شاء الله… وكلها كام شهر كمان وتتقفل القضية.. وأكون استفدت بالمبلغ اللي هاخده منهم…”
ضحك بخفة وأضاف….
“واهيه البشاير هلت…اشتريت لكم الدهب…”
“وبكرة لو طلبتوا لبن العصفور هجيبه… طالما الجيب عامران…”
ربتت على صدره بقلق قائلة برجاء…
“ربنا يخليك لينا يا حبيبي… بس عشان خاطرنا خد بالك من نفسك يا أيوب…”
أومأ لها غامزًا بشقاوة…
“عُمر الشقي بقي… اطمني يا دكتورة…”
……………………………………………………
في الشركة كان واقفًا في الردهة الواقعة بين غرف المكاتب يتحدث مع أحد الموظفين الذي نشأ معه صداقة في تلك المدة القصيرة من العمل هنا.
خرجت نغم من مكتبها وبين يديها أحد الملفات وتوجهت نحو إحدى الغرف أمام عينيه ولم تعره حتى نظرة عابرة… بينما هو يتابع تحركها كفراشة تحلق هنا وهناك بخفة ورقة.
قد مر شهر على تواجده هنا والوضع هادئ ليس هناك شيء يدعو للخطر… لكنها هي الخطر بذاته. كلما التقى بعينيها علم أنه يعبث بنيران لن تحرق أحدًا سواه !…
سيصبر قليلاً فالمبلغ الذي حصل عليه هذا الشهر من كمال الموجي ليس بسيطًا. يستحق الأمر بعض الصبر حتى يجمع ثمن المحل… وسيبتعد بأقصى سرعة. سيبتعد عنها وعنه هذا الشعور الذي يجتاحه بضراوة كلما رآها.
نادى عليه الموظف الثرثار بدهشة….
“روحت فين يا أيوب؟… ”
رد عليه وهو يبعد عينيه بصعوبة عن الغرفة التي دخلت إليها….
“معاك… كمل…”
وقبل أن يواصل الموظف اللغو مجددًا توقف وهو ينظر خلف أيوب إذ حدثت بلبلة فجأة وحركة غير طبيعية في المكان وكأنها زيارة مفاجئة من وفد رسمي !…..
نظر أيوب إلى ما ينظر إليه صديقه ليرى رجلاً وسيماً تظهر عليه علامات الثراء بوضوح وتحوطه هالة من التباهي والثقة…. وكأنه يمتلك المكان ومن فيه….
“مين ده؟!….”
سأل أيوب بفضول فأجابه الموظف وهو يتابع. اقترب جاسر من نغم التي خرجت للتو من الغرفة وتفاجأت بوجوده أمامها…
“دا جاسر العبيدي….دا إيه اللي جابه ده….”
“انت تعرفه ؟!….”
سأله أيوب وعينيه تتابع المصافحة المتبادلة بينهما ونظرات الرجل الغير مريحة نحوها….
رد عليه الموظف باستفاضة مستمتعًا بمذاق
الوشاية…..
“مين ميعرفوش في الشركة دا كان شغال هنا
مصمم أزياء تحت التدريب وقعد يدحلب لحد ما تمكن وكسب ثقة ومحبة كمال الموجي اللي علمو وكبرو في الشركة… وبعد دا كله سابو وراح فتح بزنس مع نفسه وبقا بيحارب الكل وأول ناس الشركة اللي فتحت ليه درعتها….”
“تصور يا أيوب استغل رقدة ومرض الراجل الكبير اللي كان بيعتبره زي ابنه وبقا دلوقتي بيسعى يقفل الشركة ويطربقها فوق دماغنا….”
تسلل شعور الضيق إليه فجأة وشعر بقبضة نارية تعتصر قلبه… وهو يرى عينيها تبتسمان كـثغرها الورديّ الى هذا الرجل ..ويدها تدعوه إلى مكتبها برقي تفتقر التعامل به معه !.
فمن يكون هو حتى تعامله بأدب؟… يجب أن يأتي بوثائق ملكية حتى يحظى باحترام ابنة الذوات ؟!..
بينما أنهى الموظف الثرثرة بنبرة تعاطف…
“ونغم هانم ياعيني عليها بتحاول….بتحاول توقف الشركة من تاني…بس مش قادرة تسد مكان أبوها….ماهي برضو الموهبة مش بتتورث…”
……………………………………………………….
دلف أيوب إلى غرفة الاجتماع فرأى أنها خالية. كان يحمل كوب قهوة أحضره له أحد العاملين وطلب منه أن يوصله الى المصممة ليان في غرفة الاجتماع…فلم يجدها فوضعه على الطاولة برفق..
ثم جلس على أحد المقاعد أمام طاولة
الاجتماع الكبيرة فلفت انتباهه دفتر اسكتشات وعلبة ألوان تخصّ أحدهم..
مدّ يده وفتح الدفتر يتصفح محتواه فرأى أنه يحوي على رسمتين لم تكتمل تفاصيلهما بعد.
أغلق الدفتر بضيق ثم جلس على المقعد بملل.
الم تنتهي بعد…..
فكر في هذا الرجل الذي دلف إلى غرفة المكتب قبل قليل كانت نظراته نحوها مختلفة…وكأنه…
هز أيوب رأسه مستنكرًا فما شأنه هو بالأمر؟
إنها فترة قصيرة فحسب وسيرحل عن هذا المكان…وعنها هي قبل أي شيء آخر.
عادت الأفكار تعصف في رأسه بلا هوادة فلم يشعر بنفسه إلا وهو يحسب الدفتر ويخطط عليه دون تحديد لشيء معين…
توقف الزمن عند تلك اللحظة وكأنما سافر بالزمن إلى ثماني سنوات مضت عندما كانت هذه الموهبة تعني له الكثير…
وكأنه فتح سردابًا من الفن والإبداع كان مكنونًا بداخله لسنوات عديدة…انفجرت جميعها على الورقة ليُرسم تصميمًا كلاسيكيًا مميزًا…
في وقت قياسي كان قد أتمَّ الرسم وأضاف لها الألوان التي تليق بها…
توقف أيوب وهو ينظر إلى الرسمة بملامح باهتة وعينين خاليتين من التعبير…
وصراخ يدوي في أذنه عن رجل يستغيث بين يدي همجي لم يرحم ضعفه وكبره…
“أيوب….. شوفت الاسكتش بتاعي؟”
انقشع الظلام من حوله وتوقفت الأصوات بينما رفع عينيه ليجد ليان تقف على بُعد خطوات، تبحث عن دفترها…
أغلق الدفتر ناسيًا تمزيق الصفحة ثم وقف مشيرًا إلى الدفتر وهو يبتعد خارجًا من غرفة الاجتماع…
“موجود هنا…والقهوة كمان وصلت…”
تركها ورحل بينما اقتربت ليان وأخذت الدفتر بين يديها تفتحه وهي تنظر إلى تصاميمها بارتياح فهي كانت على وشك إتمامها الآن…
ثم انتبهت لشيء رسم خلف الصفحة فقلبت الصفحة عابسة لتتسع عيناها فجأة وهي تنظر إلى الباب الذي خرج منه أيوب… متمتمةً وهي تدقق بذهول في تفاصيل التصميم الخرافي…
“مش معقول… مش ممكن…”
وفي عالمنا الكثير من الموهوبين بإبداع يفوق الوصف لكن الفرص والحظوظ تلعب دورها مع القليلين فقط…
فلا تظن أنك وحدك من تمتلك الموهبة الفذة !
……………………………………………………..
مالت نغم على سطح المكتب، ساندةً كلتا يديها عليه وهي تنظر إلى جاسر ببرود لا يخلو من التعالي وهي تراه يجلس بارتياح ويرتشف من قهوته مستمتعًا بينما عيناه تتأملان المكتب الفخم من حوله….
“خير ياجاسر…..جاي ليه….”
نظر لها جاسر قليلا ثم وضع الفنجان
مكانه قائلا بمراوغه….
“دا سؤال برضو….أكيد جاي أطمن عليكي
وعلى الشركة…احنا مش كنا شاغلين سوا
ولا ليه….”
قالت نغم بجمود….
“اديك قولت كُنا…..كنت شغال عندنا فعل ماضي….احنا في دلوقتي….”
وضع جاسر ساق على اخرى بغرور وهو
ينظر اليها بشماته…..
“صحيح دلوقتي بقت شركتي بتنافس شركتكم….اللي قربت تقع….”
كبحت جماح غضبها وهي تقول بإبتسامة
باردة…..
“وده اللي انت بتسعى ليه….”
ارتدى وجه البراءة قائلا بوداعة…..
“بالعكس انا جاي امد ايدي ليكي يانغم….”
سألته بريبة…. “مش فاهمة….”
لمعة عيناه بظفر وهو يقول بخبث…..
“بما ان الشركة بدأت تقع…من ساعة تعب
كمال بيه…وبعد قضية القتل اللي اسمك اتجاب فيها الوضع مبقاش زي الأول فأنا
من رأيي….”
بترت عبارته متبرمة بـ……
“رأيك؟!…وانت ليك رأي هنا…الشركة تخصني
انا وبابا…..انت حيلة كنت موظف عندنا…”
هتف بخفوت والمكر يطل من عيناه….
“اسمعيني للآخر انا مش جاي اضرك….”
نظرته إليه بكراهية وعقبت بسخط….
“كل اللي عملته ده مضرتناش؟!….صحيح
اللي تفتكره موسى يطلع فرعون….”
انعوجت شفتيها في إبتسامة ساخرة مضيفة
بقنوط….
“انت بعد ما بابا علمك ونورك وبقيت مصمم أزياء معروف أول ناس وقفت في وشها
إحنا….”
بدى الانفعال على وجه جاسر وهو يقول
بصوتٍ حازم…..
“كمال الموجي أستاذي وعلمني منكرش ده…
بس نجاحي ده مجهودي الشخصي…محدش
ليه فضل عليا فيه….”
جادلته باستهانة…..
“وده يخليك تنافسنا في السوق؟!….”
رد عليها جاسر باهانة لاذعة…..
“والله الرزق يحب الخفية…وأنا عندي كل الجديد انتوا بقا الاستيلات عندكم مهروسه
بقالكم تلات سنين بتعيدوا وتزيدوا….”
“وزي ما انتي عارفه عالم الموضة…بيحب
التجديد عشان نكسر روتين الملل…”
قرعت سطح المكتب بقلمها بملل واضح تحثه على إفراغ ما في جعبته لتُنهي هذا اللقاء الثقيل…..
“جاسر ياعبيدي اخلص وقول انت عايز إيه…
انا مش فاضيالك….”
قال بإبتسامة يظن انها جذابة في عينيها لكنها في الحقيقة تراها كريهة كفأر ميت !…..
“عايزة اشركك يانغم….”
سالته بجمود…… “مش فاهمه….”
قال جاسر وعيناه تلتهمانها بإعجاب صارخ
نظرات اعتادت أن تراها في عيون جنسه
ولم يزدها ذلك إلا نفورًا.
“يعني أنقذ شركتك من الضياع ويفضل اسم الموجي مكانه في عالم الأزياء وهساعدك تكبريه كمان بس بشرط…”
لم تهتم حتى بسؤاله عن الشرط..ظلت على حالها جالسة في مكانها تطرق بالقلم سطح المكتب بملل بينما عيناها ترمقه ببغضًا…
اطرب مسامعها بالشرط المزعوم بمنتهى الزهو……
“تكتبيلي حصة من الشركة وحصة من حياتك…..”
عقدة حاجبيها بتساؤل….
“حصة من الشركة دي معروفه….حصة من حياتي دي جديدة؟….”
قال بجسارة….. “يعني اتجوزك….”
لاحت الدهشة على وجهها ثم لم تلبث إلا أن ضحكت بملء شدقيها فابتسم جاسر شاعرًا ببوادر القبول منها حتى اختفت ضحكتها بالتدريج قائلة بهزل…
“حصة من الشركة وحصة من حياتي…طب ما تاخدها كلها اي القناعة دي….”
اتسعت ابتسامة جاسر أكثر وهو هائم في
حسنها المنفرد….
“تعرفي ان الكلمة دي احسن عندي من موافقة… ”
“اه مانا عارفة…..”
انتصبت نغم واقفة وأبعدت المقعد من خلفها مشيرة إلى باب المكتب بنفاد صبر…
“أطلع برا…..”
وقف جاسر يسالها بصدمة….
“يعني إيه طلبي مرفوض؟….”
اومات براسها قائلة بازدراء…
“ياريت لو في كلمة اقوى من مرفوض كنت سمعتهالك….”
ثم استرسلت برفض قاطع…
“لا هطول حاجة من الشركة…ولا حاجة مني..”
رمقها جاسر بتوعد قائلا….
“يبقا انتي كده عايزة تخسري اكتر من اللي
خسرتيه….”
بعدم اكتراث اشارت على باب الخروج
مجددًا…..
“بظبط……وريني بقا عرض كتافاك…”
هتف جاسر بعنفوان وهو يخطو للخارج بعصبية…..
“ماشي يانغم هتندمي….على رفضك ليا….انا
جاسر العبيدي بكرة تندمي…..”
القت جسدها على المقعد مطلقه زفرة
استياء مغمغمة بقرف…
“أوفر أوي…..قال اشركك حصة من حياتك…”
عندما خرج جاسر دخلت ليان في اللحظة التالية وبين يديها الدفتر تهرول نحوها وتزف الخبر بنفس علامات الصدمة الجلية على وجهها وعينيها…..
“نغم… مش هتصدقي اللي اكتشفته…”
سألتها نغم بوجهٍ محتقن…
“إيه اللي حصل يا ليان؟ انجزي… أنا مش في المود دلوقتي…”
“بصي على الرسمة دي…” وضعت أمامها الدفتر مفتوحًا على صفحة التصميم.
اتسعت عينا نغم وهي تنظر إلى التصميم بانبهار….
“دي رسمتك؟… أشك؟!”
ضاقت عينا نغم وهي تنظر إلى ليان التي مطت شفتيها بحرج معترفة…
“الكدب خيبة… دي رسمة أيوب…”
هزت نغم رأسها باستغراب جلي على قسمات وجهها مشدودة….
“أيوب… أيوب مين؟…”
قالت ليان موضحة الأمر بإفاضة…
“أيوب عبدالعظيم البودي جارد… هو اللي رسمها. كنت سايبة الأسكتش في أوضة الاجتماع… رحت أرد على مكالمة وطولت شوية… ولما رجعت لقيته هناك والأسكتش قدامه ومقفول…”
“بشوف التصاميم بتاعتي عشان أكملها… اكتشفت التصميم ده…”
ثم استرسلت ليان وهي في حالة من
الذهول…
“إزاي قدر يخلصه في الوقت القياسي ده؟… وإزاي موهوب بالشكل ده؟… الألوان الخطوط التفاصيل لون الفستان يجنن…دا مبدع يا نغم… لازم يشتغل معانا…هو ده اللي هيضيف حاجة للشركة….”
ظلت عينا نغم تحدق في خطوط التصميم بصمت مبهم لتقول بعد أن انتهت ليان من الحديث…
“ليان…… سبيني دلوقتي…”
أومأت لها ليان بالموافقة وتركتها وحدها مغلقة الباب خلفها ورسمة أمام عينيها الرماديتين تدقق بها بنظرة محتارة…
كـ حيرتها منذ أول لقاء لهما !…
“ازاي فعلا حد موهوب بشكل ده….ويكون
بيبيع هدوم على الرصيف ؟!…”
كان التصميم عبارة عن فستان طويل ضيق من الأعلى حتى الركبتين ثم يتسع بذيل مفرود إلى الأرض لونه أحمر قاتن والخامة تبدو لامعة بعض الشيء…ما يبرز تفاصيل القماش وانسداله.
الجزء العلوي كان مكشوف الكتفين يغطى بطبقات من الخرز أو الخيوط العاجية التي تلتف حول الصدر بشكل مرتب. القفازات الطويلة تمتد من اليد حتى أعلى الذراع
بنفس لون وخامة الفستان….
العارضة ترتدي قبعة بيضاء عريضة الحواف مع أقراط صغيرة لامعة. التصميم يعطي انطباعًا بالثبات والوقار مع تركيز واضح على إبراز شكل الجسم وإضفاء طابع كلاسيكي أنيق…
………………………………………………………
بحثت عنه في كل مكان حتى أخبرها أحد الموظفين بأنه يقضي ساعة الاستراحة عند سلم الطوارئ….
وبالفعل رأته هناك يجلس على إحدى درجات السلم يحتسي كوبًا من الشاي الساخن بين يديه بينما كان هاتفه يصدح بأغنية شعبية يردد كلماتها بذهن صافٍ…..
تنحنحت نغم بصوتها الناعم وهي تقترب منه ثم جلست بالقرب منه أعلى الدرج انتبه أيوب إليها فأغلق هاتفه ونظر إليها دون أن يتحرك.
سألها أيوب……
“هو وقت الراحة خلص؟….”
“لسه بدري….”هزت رأسها نفيًا ثم اضافت
بتعالٍ…..
“على فكرة ممنوع تشغل اغاني دي في الشركة…”
كظم غيظه قائلا….
“ومالوا أوامر نغم هانم….”
قطبة جبينها بتساؤل….
“مالك مضايق كدا ليه؟….”
أخذ رشفة من كوب الشاي وهو يرد
ببرود….
“هيكون مالي يعني مانا زي الفل أهوه…. هو انتي كنتي عايزة إيه؟…”
وضعت الدفتر أمام عينيه وسألته…
“أنت اللي رسمت التصميم ده؟”
ظنت في البداية أنه سينكر الأمر لكنه فاجأها بصراحة مطلقة وأومأ بتأكيد واضح.
نظرت إليه بذهول تنقل عينيها بين الرسمة ووجهه الجامد…
“يعني انت اشتغلت في المجال ده قبل
كده؟….أمال ليه قولت لبابا انك مش بتفهم
في شغلنا….”
رد عليها بعد تنهيدة طويلة…..
“اتعلمته واشتغلته فترة…وبعد كده وقفت..”
سالته متعجبة….. “والسبب….”
رد بفظاظة….. “والله دي حاجة تخصني….”
بلعت غصة الاحراج وهي تمسك بزمام
الصبر…..
“ومفيش أمل ترجع تشتغل تاني…حرام تدفن مواهبتك بالشكل ده…انت لو حطيت الحاجة
دي هدف قدامك…مؤكد هتوصل…جرب…”
رد عليها متهكمًا…. “مش عايز اجرب….”
اقترحت نغم بهدوء……
“طب اي رأيك تشتغل معايا هنا فترة…”
رد عليها بنبرة أجش…..
“مانا كده كدا شغال معاكي وفترة برضو…”
جزت على اسنانها وهي تقول بقلة صبر…
“مش قصدي الشغل اللي بابا كلفك بيه..قصدي
شغلك مصمم أزياء هنا….”
“مصمم أزياء مرة واحده….”
قالها أيوب مصدومًا ثم ضحك بملء شدقيه ضحكة قاتمة خالية من أي ذرة مرح.
لذلك سألته بمقت…
“بتضحك على إيه؟….”
رد عليها بعد ان اختفت الضحكة وتعلقت
على محياه ابتسامة مستهينة….
“أصلك مكبرة الموضوع أوي… انسي الرسمة وانسي اللي لسه قايله دلوقتي… انا مش بفهم
في شغلكم….”
هدأت من غضبها المتفاقم بسببه وقالت بهدوء محاولة الوصول معه إلى حل يرضي جميع الأطراف…
“طب انا عندي حل تاني….”
رد عليها أيوب بجفاء…..
“بس انا مطلبتش حلول….”
قالت باحتقان….
“متبقاش عنيد يا أيوب….”
سحب نفسًا طويلًا شق صدره ألمًا وقال
بملل…
“خلاص اتفضلي قولي الحل….”
بللت شفتيها أمام عينيه المركزتين على
كل حركة تصدر منها ثم قالت بجدية…
“اي رأيك تبيع تصاميمك لينا…لي الشركة يعني….”
رفع حاجبه سائلا بسخرية….
“وهي شركة الموجي محتاجة تصاميمي؟..”
قالت نغم بحرارة…..
“الشركة محتاجة لحد موهوب زي كمال الموجي…..”
نظر أيوب أمامه قائلا بنبرة خافته… يقلل
من اهميته…
“انا فين وكمال الموجي فين….”
قالت نغم بنبرة حازمة صادقة….
“انتوا الاتنين مواهبتكم مقربة لبعض…في الموهبة ونظرة الفنية والإحساس….”
رفع عينيه عليها مندهشًا….
“وكل ده شوفتيه في الرسمة….”
قالت بعفوية…..
“كل ده شوفته في عنيك….”
على هدير أنفاسه وربما قلبه وهو يمرر عينَيْه على ملامحها وعينيها بتأني كرسام… وبِتفاني كبحار…وبهمة كعالم ينقّب عن شيء نفيس له قيمة… يستحق العناء.
كم تستحق هي أن يموت في هواها الرجال ولا تلتفت إلى أحدهم… وهو لن يقف عند باب مغلق لن يقترب من بابٍ سقى العذاب لغيره حتى أضناه الموت !….
تعلق في عينيها الرماديتين شتاء يأتي في كل الفصول شتاء يبث دفءً وأحيانًا رعدًا وبردًا شتاء متقلب كـمزاجها تمامًا….
“وشوفتي إيه كمان في عنيا؟..يـا نـغـم هانم.”
سالها أيوب بصوت رخيم عميق سرى معه
قشعريرة رقيقة على جلدها…فارتجف قلبها
تأثرًا وقالت بثبات….
“مش اكتر من اللي قولته…قولت إيه موافق..”
سالها وعينيه تداهم عينيها بقوة….
“والتمن؟….”
زمت شفتيها بحنق وقالت بصلف….
“هدفعلك بالدولار….مش انت بتحب الدولار برضو….”
“مفيش حد بيكره الدولار….بس انا….”
انتقلت نظراته بين عينيها المنتظرة وشفتيها المزمومتين ثم رد ببرود كصقيع جمدها لوهلة.
“مش موافق…..”
سالته بغضب…. “ليه….”
رد بخشونة وهو يستقيم واقفًا…..
“كده….مش عايز ابيع تصاميمي لحد…”
قالت بعينين تبرقان بالحنق…..
“بس انت كده هتكون بتساعدني….”
دس يده في جيبه وهو يقول بجفاء….
“لو كنتي طلبتي المساعدة مني بالأدب…
مكنتش هتأخر عنك….بس تشتري وتبيعي
فيا كده….يبقا عندك…..”
هاجت مراجلها وهي تقف امامه وجهٍ لوجه
قائلة بسخط…..
“تصدق انك فقر ومش وش نعمة….خليك في
فقرك…..وارجع تاني أشتغل في السوق على
الرصيف…واكزيون ياهانم…اكزيون يابيه…”
بلع اهانتها وهو يقول بقسوة تماثلها….
“والله دا عندي احسن من اني اصطبح بوشك
كل يوم…..”
جحظت عينيها بصدمة وجفلها رده الفظ
فقالت باهتياج…..
“وشي؟….مالوا وشي انت تطول أصلا…”
اولاها أيوب ظهره متذمرًا….
“ياقعدين يكفيكم شر الجايين….ممكن تسبيني
اشرب كوباية الشاي في هدوء….”
قالت بانفعال مكبوت…..
“يعني دا اخر كلام عندك….”
استدار لها واكتفى بإيماءة تأكيد ثم في اللحظة التالية كان يسحب الدفتر من بين يديه. صاحت وهي تقترب منه خطوتين فاصلتين بينهما…
“هات الاسكتش…”
“هاخد منه اللي يخصني…”
وأمام عينيها المندهشتين مزق صفحة التصميم التي رسمها بيده في لحظة غضب وغيرة… هي من أوصلته لها…
كيف ومتى؟…ما زال في إنكار مع هذا الشعور !..
“اتفضلي… كده الحوار انتهى.”
قالت بنظرة مشتعلة بالحنق وخيبة الأمل…
“انت مش طبيعي حقيقي…. بكرة تندم…”
وقبل أن يرد رآها تصعد على الدرج عائدة
من حيث أتت بينما غمغم أيوب بنبرة ميّتة وعيناه معلقتان على المكان الذي اختفت
منه….
“أندم وأنا بعيد… أحسن ما أندم وأنا قريب منك…”
والقلب يهوى الصعب الممتنع… والهوى قيد يصعب الفكاك منه…فماذا إن اشتد قيد الهوى بنا معًا ؟!….
……………………………………………………
وأمام أمواج البحر الثائرة كان يقف هو وسلامة. يدير ظهره إلى البحر بينما عيناه تتابعان الشارع الذي تعبره السيارات بسرعةٍ وبلا انقطاع.
أخذ قضمة من الشطيرة وفي تلك اللحظة سمع سلامة يهتف بلوم..
“طب ما كنت تشتغل معاها يا غبي!.. هي مش دي الحاجة اللي اشتغلت عليها وقعدت تدرسها طول عمرك؟! أنا مش مصدقك بجد!”
ابتلع أيوب اللقمة التي شعر فجأة بأنها ثقلت في جوفه فرفع زجاجة المشروب الغازي إلى فمه في اللحظة التالية يتجرّع منها لعلها تهضم تلك اللقمة… أو حديث هذا المغيّب.
ثم ردّ عليه بعد لحظات قائلاً…
“انا مقفول من الشغلانة دي… مش عايزها…
من ساعة ما الرجل مات قدامي على مكنة
الخياطه وانا مش قادر أكمل….”
صاح سلامة بحنق….
“طب ما انت برضو اتصابت يومها….”
هتف ايوب وشعور الذنب كالغصة في
قلبه يصعب محوها…..
“بس انا اللي كنت السبب…انت ناسي انه كان شغال معايا….والبلطجي ده لما لوعت معاه في
الدفع اتهجم على الراجل الكبير في غيابي…
وقتله….قتله ياسلامة…..”
ثم غامت عينيه بالحزن وهو يقول بندم…
“وقتها انا جيت متأخر ملحقتش أشفي غليلي منه……”
هون عليه سلامة قائلا برفق….
“وانت اتصابت وقتها يا أيوب..ورغم جرحك شلت الراجل على كتفك وروحت بيه المستشفى..بس عمره كده ياصاحبي….
متحملش نفسك ذنب موته…..”
زجره أيوب بملامح منقبضة بالالم…ونبرة
صوت مثخنة بالوجع….
“بلاش تذواق الكلام في الأول وفي الاخر مات في المحل اللي اجرته….مات على المكنة اللي شغال عليها….مات وهو بيخلص طلبيات تخص شغل لسه بنبدأه…..”
هز سلامة رأسه باستياء قائلا بشفقة….
“والله انت ظالم نفسك ومواقف حياتك من بعد الحادثة دي….”
عاند أيوب نفسه قبل صديقه وهتف
بلا اكتراث….
“حياتي مش واقفه ماشيه والدنيا تمام…”
قارعه سلامة قائلا بالمنطق….
“ماشيه بس واقفه جواك ياصاحبي….بدليل
انك مش عارف ترجع للحاجة اللي بتحبها
وحاطط الذنب وعذاب الضمير قدامك…”
انحنى أيوب ارضًا يعطي ما تبقى من الشطيرة
للقطط التي كانت تنتظر بالقرب ثم انتصب واقفًا وهو يرد على صديقه بوجه متجهم ونبرة كارهة…..
“حوار الخياطه والتصاميم مبقاش يجي معايا…..اللي درسته كله طول عمري…نسيتوا
في التامن سنين اللي عدوا….”
التوت بسمة سلامة بسخرية يجادله….
“كداب….لو كده مكنش عاجبها اللي رسمته
على الورق….عايز تقولي انها بتتحجج عشان
تربطك معاها أكتر مظنش….”
ابتسم ايوب ابتسامة جانبية لم تصل الى عينيه وهو يقول بنبرة باردة…
“ولا انا اظن دي واحده مبتفكرش غير في نفسها وازاي تحافظ على شركة أبوها…وعلى
نفسها…..”
تطلع اليه سلامة قليلا ثم ضاقت عينيه
وهو يسأله بشك….
“انت ميال ليها ولا إيه يا أيوب أوعى توقع
يابو الصحاب….الحب بيذل اسألني أنا….”
تجاهل أيوب السؤال يتهرب من إجابته بينه وبين نفسه… لذا سخر من صديقه قائلا
بمزاح ثقيل….
“وانت بقا حبيت كام مرة ياخبرة؟….”
سحب سلامة أكبر قدر من الهواء البارد
وهو يبعد عينيه عن صديقه حتى لا يقرأ
المسطور فيهما ثم قال بنبرة غلبها الحزن
وقلة الحيلة…..
“مرة ومش عارف اخرج لحد دلوقتي….”
“نخرجك يا أبو سُلم… بس من الدنيا كلها…”
لم تكن تلك عبارة أيوب بل لشخص آخر اقتحم الجلسة والحديث مقتربًا منهم بنظرة تشع شررًا وتوعدًا صريحًا….
جمّدهما ظهورُه لبرهة ثم تفوّه سلامة باسمه بغضب أسود، وكل عصب فيه يحفّزه لبدء العراك وأخذ حقه بعد الندبة التي تسبب بها
ذكي وقد تركت أثرًا على جسده.
“ذكي…”
هتف أيوب بغضبٍ متأجج ونظرةٍ متوحشة مهيبة وهو يخطو خطوة نحو ذكي قائلًا…
“جيت برجلك…”
تراجع ذكي خطوةً إلى الخلف بجبن وقال
بشرٍّ…
“بس مش جاي لوحدي… معايا اللي هيعلموا عليكم.”
ومن خلفه جاء رجلان من نفس عينته وجوههم مشبعة بأفعال الرذائل والممنوعات التي يتجرعونها بكل أنواعها….
أشار على أيوب وسلامة يشكو بلسان امرأة ناقمة…
“هما دول اللي استغفلوني وكلّوا حقي يا رجالة…”
اقترب الرجلان منهما بعيون سوداوية يلوح الشر في مقلتيهما وبين أيديهما سكاكين تلمع كتهديد صريح بأن الحكم قد صدر ولن يتراجع أحدهم عن التنفيذ وأخذ ثأر صديقهما…
“هنعمل إيه يا أيوب؟”
سأله سلامة متوجسًا يحاول إيجاد مخرج لكليهما فهما في العراء أمام رجال مسلحين وهما خاليَا الوفاض….
“مفيش غيره…”
حلّ أيوب الحزام الجلدي من حول خصره مشهرًا إياه في وجوههم وفعل سلامة المثل مدافعًا عن نفسه وعن صديقه.
انفجر الصمت بضربةٍ واحدة، ليبدأ الشجار العنيف كحرب شعواء.
يرتفع الحزام ويهبط كسياط على من يقترب منهم والشتائم البذيئة تُطلق كالرصاص من ألسنتهم… بينما السكاكين الكبيرة يُلوِّح بها الطرف الآخر بغضب مطلقين السباب عليهم.
تحوّل المكان إلى ساحة معركة وتوقفت السيارات والناس ليروا هذا العرض الجبّار
من مجموعة خارجين عن القانون هكذا وصفهم الجميع….
حتى جاءت سيارة الشرطة في اللحظة التالية ففضّت الشجار وأخذت الجميع…
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اشتد قيد الهوى) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.