رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل التاسع والعشرون 29 - بقلم نعمة حسن
_٢٩_
~ للخيانة مذاقا آخـرا ! ~
____________
" جريمة في الحي الراقي؛ الضحية راقصة تُدعى سماهر، والجاني مطلوبا للعدالة "
قرأ قاسم عنوان الخبر الذي تصدر محركات البحث وأصبح الأكثر رواجا خلال بضع ساعات فقط، وصعق عندما رأى صورة سماهر وبجوارها صورة عبدالله التي تم تفريغها من كاميرات المراقبة.
سقط الهاتف من يده بصدمة، وشعر بالبرودة تسري في أطرافه وشحب وجهه كشحوب الموتى وهو يردد بذهول:
_ لا، مستحيـل!
أتت حياة وهي تحمل صينية الطعام ووضعتها أمامه على الطاولة الصغيرة وهي تقول بابتسامة:
_ تفضل زوجي الوسيم. العشاء جاهزا.
نظرت لوجهه الشاحب وعينيه الغائمتين وأثر الصدمة بادٍ عليهما، ثم إلى هاتفه الملقى أرضا بين قدميه فانحنت والتقطت الهاتف وهي تقول:
_ قاسم، ما بك؟
نظرت إلى الهاتف وقرأت الخبر دون رد فعل وفور رؤيتها لصورة عبدالله شهقت بصدمة وقالت:
_ أليس هذا عبدالله ؟ يبدو واضحا جدا، يا إلهي هل أصبح قاتلا؟
كان قاسم لا يزال على نفس الحالة، شاردا والوجوم يصيبه، بينما حياة تتحدث بجواره قائلة:
_ ومن هذه سماهر؟ ولماذا قتلها؟
ثم صمتت فجأة ونظرت إليه بصدمة أكبر وهي تقول:
_ أليست سماهر تلك من كانت معه بذاك الفيديو ؟!
انتفض قاسم فجأة ونهض من مقعده مغادرا الشرفة، ودخل الحمام ثم فتح صنبور المياه ووضع رأسه تحت الماء البارد علّه يطفئ السعير الذي يأكل رأسه الآن.
نظرت حياة في أثره بتعجب وأخذت تفكر مع نفسها بصوتٍ خافت:
_ ما الذي دفع عبدالله لقتلها؟ عنبر قالت أنها وراء بيع المحل والشقة! هل يعقل أن يكون قتلها انتقاما منها؟ لا أفهم .. لاتزال هناك حلقة مفقودة.
ونظرت فجأة اتجاه الحمام حيث يوجد قاسم وارتجفت أطرافها فجأة وهي تقول:
_ أيعقل أن يكون قاسم هو تلك الحلقة المفقودة؟ لا .. لا ينبغي أن يكون.. ولكن ما سر تلك الحالة التي انتابته؟!!
شعرت بالصداع يفتك برأسها وأخذت الشكوك تعصف بها وبين كل خاطر والآخر يتهشم قلبها ويصبح فتاتا.
خرج قاسم من الحمام بعدما أخذ حماما ودخل إلى غرفته مباشرةً وكأنه نسي وجودها معه، فلحقت به ودخلت فوجدته يقف أمام الخزانة شاردا وعندما رآها قال بصوتٍ جهور:
_ لمَ لم تطرقِ الباب؟
تحركت خطوتين حتى أصبحت أمامه مباشرةً وقالت بهدوء:
_ ولمَ عليّ أن أطرق الباب؟
أشاح بوجهه نحو الخزانة مرة أخرى وقال بعصبية:
_ من فضلك حياة أخرجي الآن، أود البقاء بمفردي قليلا.
نظرت إليه وإلى انفعاله الذي بدأ يكون مبررا بالنسبة لها، وسارت نحوه حتى أصبحت أمامه مباشرةً وقالت وهي تنظر إليه داخل عينيه بقوة:
_ لن أخرج، ولن تبقى بمفردك.
مسح وجهه بغضب وتأفأف بصوت مسموع وهو يأخذ ملابسه ويقول:
_ إذًا أنا سأخرج.
تجاوزها بخطوتين نحو باب الغرفة، وتيبس بمكانه فجأة عندما استمع إليها تقول:
_ هل لك علاقة بسماهر تلك بأي شكل من الأشكال ؟
توقف فجأة وكأنه تجمد بأرضه ولم يقوَ على التحرك، ولم يعقب سواء بالنفي أو الموافقة؛ مما أكد ظنونها التي كانت تأمل أن تخيب حتى آخر لحظة.
اقتربت نحوه وهي تجاهد كي لا تبكي واستدارت لتقف أمامه ونظرت لعينيه المظلمتين وقالت مجددا بصوت مرتجف:
_ سألتك، هل لك علاقة بسماهر؟ هل كنت تعرفها؟ أرجوك أجبني .
أطرق برأسه أرضا كالطفل المذنب وقد خارت كل قواه فلم يعد يملك طاقة للجدال وقال:
_ نعم.
هَوَت تلك الكلمة البسيطة على مسامعها كأمر بالموت واجب التنفيذ، وشعرت بالوهن يجتاح جسدها فسارت إلى الأريكة الموضوعة بزاوية الغرفة وألقت بجسدها عليها وهي تشعر بأن كل أنملة بها تهتز من فرط الصدمة، نظرت إليه وهو يقف بمكانه لا يحرك ساكنا وقالت:
_ كيف تعرفت عليها؟ هل بعد معرفتها بعبدالله أم قبلها؟
ونظرت إليه وسالت دموعها وهي تسأله السؤال الذي تخشى إجابته:
_ هل أنت من عرفتها به؟ أنت من وضعتها بطريقه أليس كذلك ؟
ابتلع لعابه بتوتر وقال:
_ بلى.
فغرت فاها بصدمة وشهقت بصدمة أكبر، أخذت دموعها تشق خديها بغزارة وهي تطالعه بذهول وهو لايزال واقفا بمنتصف الغرفة وكأنه معاقب .
كانت تهز رأسها برفض ، تأبى أن تصدق برغم اعترافه بأنه هو من فعل، كان لديها أملا ضئيلا ألا يكون متورطا فيما حدث ولكن على ما يبدو أن تلك الصدمة لن تكون أول صدمة تتلقاها منه.
نظرت إليه وهي تحاول أن تظهر متماسكة أكثر ومسحت دموعها وقالت:
_ لمَ؟ لماذا؟ لماذا وضعتها بطريقه؟ ماذا كان هدفك؟ هذه المرأه خدعته وأخذت منه كل ما يملك تقريبا..
وبترت كلماتها فجأة عندما وجدت أنها تجيب نفسها على تساؤلاتها تقريبا وأن ما قالته كان هو طرف الخيط، فنظرت إليه بصدمة أشد في لحظة إدراك هي الأثقل والأصعب على الإطلاق وقالت :
_ هل كان هذا هدفك؟! أن تسلبه كل ما يملك؟ هل.. هل أنت من أخذت منه المحل والشقة؟ والسيارة؟ هل أنت من فعلت هذا؟ هذا يعني أنك كنت الحلقة المفقودة فعلا أنا لم أكن واهمة !! أنت صلب الموضوع وأساسه.. أنت من نصبت له ذلك الفخ وألقيت إليه الطُعم الذي قمت باصطياده عن طريقه وهو سماهر!! وفي النهاية سماهر هي من دفعت الثمن!!
احمر وجهه وانتفخت أوداجه بغضب وحقد من نفسه ولم يعقب بكلمه فصرخت به بجنون وهي تقول:
_ لمَ أنت صامت؟ تكلم.
نهضت من مكانها وسارت خطوات ثم توقفت أمامه وهي تتحدث بعصبية:
_ تكلم أرجوك، أرجوك قل شيئا قاسم.
نظر إليها وإلى عينيها الباكيتين اللتين تتوسلانه وقال بصوتٍ ميت:
_ صحيح، كل ما قلتيه صحيح.
اتسعت عينيها بصدمة وهي تهز رأسها بغير تصديق وتقول:
_ لا، مستحيل، أنت لا تفعل ذلك أبدا..
_ بلى، فعلت.
أغمضت عينيها وهي تبكي بأسى وتمسكت بمئزره وهي تشعر بالتعب وقالت:
_ يا إلهي، لا أصدق.. لا يمكنني أن أصدق، كيف بلغ بك الإجرام لتفكر بتلك الطريقة؟ أم أنك مجرمٌ من الأساس وأنا لم أكتشف ذلك؟ هل أنت من خططت بتلك الطريقة؟ استخدمت إنسانة بريئة كأداة لتحقيق أهدافك الشيطانية عن طريقها وفي النهاية هي من دفعت الثمن يا حقير.. هذه الإنسانة البريئة ماتت بسببك ودمها بعنقك يا مهووس يا مريض!
خرت على ركبتيها بعد أن شحت قواها تماما وبكت بانهيار وهي تردد:
_ هذه الإنسانة ماتت بسببك يا مريض! ما ذنبها أنها وثقت بمجرم مثلك؟
جثا على ركبتيه بجوارها وهو يحاول مساعدتها لتنهض وهو يقول:
_ صدقيني حياة أنا لا أعرف كيف تطورت الأمور بهذا الشكل؟ أنا طلبت منها أن تبتعد وتغادر المدينة بأكملها، وأعطيتها مبلغا لتبدأ به مشروعا جديدا وتبتعد عن الرقص، بالإضافة أنني ساعدتها في علاج أخيها المدمن، لقد صنعتُ معها معروفا صدقيني أنا لم أقصد أن أورطها بذلك الشكل، ولا أعرف كيف وصل إليها عبدالله وقتلها.
وزفر بضيق وقد اكتسح الندم خلاياه وقال بإحباط:
_ لم أتوقع حدوث ذلك أبدا.
نظرت إليه وكأنها تتعرف إليه من جديد وقالت بنبرة اتهام:
_ ساعدتها في علاج أخيها أم أنك ساومتها على علاج أخاها؟ أيهما الأصح قاسم؟!
نظر إليها مشدوها بما قالت وقال:
_ لمَ تقولين هذا؟
صرخت بوجهه بجنون وقالت:
_ لأنني أعرفك، أعرف أنك ساومت حسان على علاج ابنه وألقيت به في السجن بتهمة لم يفعلها، والضحية من؟ صبر الذي يقيم بالمشفى منذ شهر تقريبا بمفرده كاليتيم. حتى أنك انقطعت عن زيارته منذ فترة.
أطرق برأسه أرضا معترفا بذنبه فقالت:
_ وأثق بأنك ساومت سماهر كذلك على علاج أخيها كي تستطيع الانتقام من عبدالله على مكثٍ وتتلذذ بعقابه وتستشفِ به كما يحلو لك، والضحية من؟ سماهر.
أغمض عينيه متألما وقال بإرهاق:
_ كفى حياة..
قاطعته صارخة بانفعال:
_ لا، لا يكفي أبدا.. أنت خدعت الكل، جعلتنا كلنا دمى بين يديك، خيوطًا تحركها كما تشاء ومتى تشاء، المهم أن تصل لهدفك وتحقق انتقامك.. لا يهم أن تضحي ببعض الدمى أو تلقي بهم في الجحيم حتى، المهم أن تصل إلى هدفك وتحقق انتقامك.. لو دُست فوقنا واحدا تلو الآخر لا يهم ، المهم أن تصل إلى هدفك وتحقق انتقامك.
ونهضت مبتعدة عنه ورمقته بغضب وهي تقول:
_ اللعنة عليك وعلى انتقامك هذا الذي أباح لك كل الطرق القذرة وجعلك ترى الضلال حقيقةً والخطأ صوابًا.
وتركته وخرجت من الغرفة واتجهت إلى الغرفة الثانية وأوصدت الباب خلفها، بينما بقى هو جاثيا كما كان وكلامها يحفر بقلبه شرخًا عميقًا.
////////////////
كانت صفية تجوب الشقة ذهابا وإيابا وهي تقول:
_ الساعة قاربت على منتصف الليل ، لا يعقل أنها تتمشى حتى الآن!
نظر إليها صالح بغضب كبير وقال:
_ اخرسي صفية، أقسم بالله إن أصابها مكروها سأخنقك بيدي هاتين، أساسا كل المصائب التي تحدث لها أنتِ السبب فيها بشكل أساسي.. لو أنكِ أخبرتيني أنها خرجت لتتمشى كنت سأخرج معها، لم أكن لأتركها بمفردها أبدا، ولكنكِ تصرفتِ بعقلك الغبي هذا وأخفيتِ علي الحقيقة، وليس هذا فقط.. كذبتِ عليّ وأخبرتِني أنها ذهبت لتزور صديقتها المريضة.. أي عقلٍ تملكين يا امرأة؟!
وضعت صفية رأسها بين كفيها بحزن وحسرة وأخذت تبكي وهي تدعو الله أن تعود عنبر سالمة وألا تُقدم على فعل شيئٍ مجنونا تؤذي به نفسها.
كان صالح يحاول الاتصال بعنبر التي لا تجيب ثم وضع الهاتف بجواره بيأس وهو يقول:
_ لا تجيب، ماذا سنفعل الآن؟ حسبي الله ونعم الوكيل. ماذا سأفعل الآن وأين سأبحث عنها؟ أم أنني سأجلس مكتوف الأيدي هكذا لحين عودتها؟
ونهض من مكانه وهو يقول بغضب هادر:
_ أخبريني صفية ماذا أفعل؟ هل أقتلك وأستريح من غبائك؟ لماذا تتصرفين في كل مرة كأنها ابنتك بمفردك؟ تتصرفين في كل ما يخصها دون الرجوع إلي وفي كل مرة تلقين بها إلى الهلاك؟ كيف تصرفتِ بهذا الغباء؟ كيف تتركينها تخرج بمفردها وأنتِ تعلمين أنها ضعيفة ومذبذبة ومشتتة، وتعلمين أن هذا اليوم لن يمر عليها مرور الكرام ؟ لماذا أخفيتِ عني الحقيقة تكلمي.
تكلمت ببكاء وقالت:
_ صدقني أنا لم أود الضغط عليها، ظننت أنها ستخرج لترفه عن نفسها قليلا وتعود، وخشيت إن علمت برغبتها تلك أن ترفض وتصر على بقاءها بالبيت.
مسح وجهه بغضب مستغفرا وقال بعجز وقلة حيلة:
_ والعمل؟ ماذا سنفعل الآن؟
_ اتصل بحياة.
نظر إليها متعجبا وقال:
_ هل أتصل بحياة بيوم مثل هذا وأسألها عن أختها المفقودة؟
_ أرجوك أطعني، اتصل بحياة فمن الممكن أن تكون عنبر قد ذهبت إليها أو هاتفتها.
_ وما الذي سيجعل عنبر تذهب إليها في مثل ذلك اليوم؟ إذا كانت قد فرت من البيت كي لا تحضر عقد قرانها فهل ستذهب إليها بقدميها في بيت زوجيتها؟ أساسا عنبر لا تعرف عنوانها.
صرخت به بحرقة ولهفة وهي تقول:
_ ماذا ستخسر إن هاتفتها؟ على كل حال ستعرف بغياب أختها .. من الممكن أن يساعدنا قاسم في البحث عنها.
تمتم مستغفرا وأمسك هاتفه بقلة حيلة وقام بالاتصال بحياة.
//////////////////
كانت حياة ترقد فوق الفراش وهي تحتضن الوسادة وتبكي بقهر وقد تبخرت كل أحلامها وآمالها.
فجأة استمعت لرنين هاتفها بالخارج فخرجت من الغرفة لتقع عينيها على قاسم الذي يجلس بالشرفة.
التقطت هاتفها بتعجب عندما رأت أن والدها من يهاتفها ولكنها أرجأت الأمر بأنه يريد أن يطمئن عليها فأجابت وهي تحاول رسم البسمة على وجهها وقالت:
_ مرحبا أبي.
_ مرحبا حياة كيف حالك ؟
_ بخير، ما به صوتك؟ هل أنت متعب؟
تنهد ببؤس ففطنت لحجم الألم الذي يعتري صوته فقالت بقلق:
_ ما بك أبي؟ هل أنت بخير؟ أمي وعنبر بخير؟
أجابها بصوتٍ مرتعش:
_ عنبر مختفية منذ الصباح.
_ ألم تعد بعد؟ لقد ذهبت لتتمشى و..
قاطعها قائلا بعصبية:
_ اللعنة على غبائكم جميعا، هل كنتِ تعرفين أنها خرجت لتتمشى؟ ألم يخطر ببالك أبدا أنها من الممكن أن تتصرف بحماقة كما تفعل دوما أو أن تقدم على إيذاء نفسها؟ لا طبعا.. كنتِ مشغولة بنفسك فقط! وأنا كالأبله اعتقدت أنها تزور صديقتها فعلا.
اضطربت دقاتها بخوف ووجل وقالت:
_ لا تقلق أبي، ستعود أكيد.. سأتصل بها..
قاطعها قائلا بنفاذ صبر:
_ لا تحاولي عبثا، لا تجيب.. على كل حال سأخبرك بما سيحدث معنا.
وأنهى الاتصال دون أن ينتظر ردها فنظرت إلى قاسم الذي يتطلع نحوها بترقب وقالت بنبرة اتهام:
_ عنبر مختفية، ترى أين ذهبت؟
قطب جبينه متعجبا وقال بضيق:
_ وما أدراني أنا؟ هل كنت مكلفا بمراقبتها وأنا لا أعلم؟
ابتسمت بتهكم وقالت:
_ لا لست مكلفا بمراقبتها، ولكنني أصبحت أشعر أن إجابة أي سؤال موجودة عندك، ومن يدري ربما تكون عنبر إحدى الدمى التي تستخدمها للوصول لأهدافك.. في النهاية كل شيء متوقع.
وتركته ودخلت إلى غرفتها مجددا بينما جلس هو بمفرده وهو يشعر بالندم ينهش قلبه ويلتهم ثناياه.
_____________
كانت عنبر تقف بمنتصف الغرفة ، ترتدي قميصا حريريا باللون الأحمر أحضرته برفقتها، وتضع الطعام الذي أحضرته على الطاولة الصغيرة بالزاوية، ثم نظرت إلى عقارب الساعة المعلقة أمامها والتي أعلنت دقاتها عن انتصاف الليل.
شعرت عنبر بأن دقات قلبها تكاد تكون أعلى من دقات الساعة ونظرت إلى المرآة أمامها وهي تحاول تهدئة روعها وطمأنة ذاتها أن ما فعلته هو الصواب.
طُرِق الباب فأجفلت وشعرت كأن روحها تغادر جسدها، اتجهت نحو الباب وفتحتهُ لتتفاجأ بعبدالله وقد تغير شكله تماما وهزل جسده بشكل ملحوظ، دخل وأغلق الباب مسرعا ونزع نظارته وطاقيته اللتان يخفي بهما وجهه ونظر إلى عنبر بعينين متوهجتين وقال:
_ يا إلهي، لم أتوقع أن تنتظريني بتلك الهيئة أبدا. كنت متأكدًا أنكِ ستأتين خوفا من الفضيحة ولكني لم أكن أعلم أن لمجيئك سببا آخرا. وهو أنكِ اشتقتِ إليّ.
رسمت ابتسامة هزيلة على ثغرها وقالت:
_ وكيف لا أشتاقك وأنت متغيب منذ فترة.
نظر إلى الطاولة والطعام فوقها واقترب وهو يمسك معدته الخاوية ويقول:
_ يا إلهي، أنا فعلا كدت أموت من فرط الجوع، أشكرك زوجتي العزيزة ، لم أكن أعلم أنكِ حنونة بذلك القدر.
بدأ يأكل بنهم فجلست أمامه تراقبه وهي تسند خدها على قبضتها فقال:
_ هل أحضرتِ النقود ؟
_ أجل.
_ أين هي؟
فتحت حقيبتها وأعطته المبلغ الذي أخذتهُ من والدها وقالت:
_ لمَ تحتاج لمبلغ كهذا؟ ماذا ستفعل به؟
_ سأذهب إلى اليونان.
قطبت حاجبيها وقالت بتعجب:
_ من المفترض أن الشرطة تبحث عنك لأنك حرضت خالد على خطف حياة.. كيف ستسافر؟
أجابها وهو يتناول الطعام بشراهة:
_ بحرا، هجرة غير شرعية.
مطت شفتيها بتعجب ثم قالت:
_ أود أن أسألك سؤالا أتمنى أن أجد له جوابًا غير الذي أعرفه، لماذا أردت أن تتكرر مأساتي مع حياة؟ هل لتلك الدرجة تكره قاسم وتحقد عليه وتريد أن تنال من كل شيء يخصه؟!
نظر إليها غاضبا وقال بتحذير:
_ هل ينقصنا الحديث عن قاسم الآن؟ لدي هموما تكفيني.
بدأ يشعر بألم يهاجمه ولكنه كان يتجاهله فنظرت إليه بانتباه وقالت:
_ لماذا بعت المحل والشقة؟ وما علاقة سماهر ببيعهما؟ على الأقل أخبرني فيما أنت متورطًا معها؟
كاد الطعام يتوقف بحلقه فسعل بقوة ومد يده ممسكا بكأس الماء وتجرعهُ كاملا، ثم مد يده ومسح جبينه المتعرق وتوقف عن الأكل فنظرت إليه قائلة:
_ لماذا خُنتني معها؟ بعد كل تلك الويلات التي عانيتها معك تكون هذه مكافأتي؟ أن تخونني مع امرأة أخرى؟
أمسك بطنه بتعب ونظر إليها وقال بألم مكتوم:
_ لم أخُنكِ، لم يحدث بيننا شيئا، لقد سرقت مالي وهربت، هي من خانتني وتستحق ما حدث لها.
مسحت دموعها التي نزلت من عينيها غدرا وقالت:
_ بلى، لقد خنتني مرات كثيرة عبدالله وفي كل مرة كنت أتجرع خيانتك وكأن شيئا لم يكن، تذوقت معك كل أنواع الخيانة الموجودة بالحياة، هذا ما جعلني أستجمع عصارة خبرتي كما يقولون وأخترع للخيانة مذاقا آخرا ، مذاقا ستجربه للمرة الأولى.
نظر إليها بتعجب وقال:
_ ماذا تقولين ؟ أنا لا أفهم شيئا.
_ وإن كنت لا تفهم ولكنك بالتأكيد تستطيع التذوق! تستطيع تذوق طعم الخيانة بطبقك عزيزي.
نظر إلى الطبق الموضوع أمامه ونظر إليها بصدمة وقد أدرك مقصدها وأمسك بطنه بألم شديد وقال وهو يزدرد لعابه :
_ ماذا تقصدين؟ ماذا فعلتِ؟
نظرت إليه بعينين دامعتين وثغرٍ باسم وقالت:
_ وضعت السم بطبقك كما وضعته بقلبي قبل عشر سنوات، طوال عشر سنوات كاملة تفننت في تعذيبي وإهانتي، كنت تتلذذ ببكائي وصراخي وكأنني أنا المذنبة وليس أنت! وكأنني أنا المخطئة بحقك وليس أنت. أنا نلت منك ظلمًا ما يكفيني، واليوم قررت أن أرد لك جزءا يسيرا من ذلك الظلم.
تشنجت عضلات بطنه وشعر بالنار تلتهم أحشائه فانحنى بجذعه إلى ركبتيه أكثر وهو يتألم ويقول:
_ لا، أنتِ أجبن من ذلك. عنبر التي أعرفها أضعف من ذلك.
ضحكت ضحكة قصيرة متهكمة وقالت:
_ كنت كذلك، ولكن كثرة الظلم تميت القلب.. وعندما يموت القلب يصبح الجسد آلة، مجرد آلة يمكنك التصرف بها كما تشاء.
صرخ متألما بقوة ونهض من مقعده وهو يسير نحو الحمام منحنيًا ولكنه سقط أرضا فجأة وأخذ يتلوى كالأفعى فوق كثيب رمال ملتهب وهو يقول:
_ لماذا فعلتِ هذا؟ كنت أستعد للهرب وكنتِ سترتاحين مني على كل حال.
نهضت تطالعه من علوٍ وهو يتألم أمامها بشماتة وقالت:
_ لقد أرحت البشرية كلها من شرك، لأنك أينما ذهبت تركت خلفك ضحايا.
ونظرت إليه بأعين باكية وقالت:
_ لم أود أن تكون تلك نهايتك أبدا، لم أتمنى يوما أن أفعل ما فعلت ولكنك لم تترك لي خيارا آخرا، لقد طفح الكيل عبدالله ، تهديدك وابتزازك لي كان القطرة التي أفاضت الكأس.
وجثت بجواره وانفجرت في بكاءٍ مرير وهي تقول:
_ أرجوك سامحني.
نظر إليها والدموع تغرق عينيه وقد استكان قليلا وفرد ذراعيه بجواره وقال:
_ لا تبكِ زوجتي العزيزة، لا تجعلي ضميرك يؤلمك، أنا لا أستحق تلك الشفقة في عينيك، أنا لم أحب أحدا بحياتي، لم أحبك أيضا..
وابتلع لعابه بألم وجهد كبيرين وقال وهو يشخص ببصره في سقف الغرفة :
_ عبدالله لم يحب سوى عبدالله!
_______________
يتبع
حب_في_الدقيقة_التسعين!
• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين " اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق