رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الثامن والعشرون 28 – بقلم نعمة حسن

 رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الثامن والعشرون 28 – بقلم نعمة حسن 

_ ٢٨ _

~ مسرح جريمة ! ~

_________

خرج راكضا من البناية، يلتفت حوله يمينا ويسارا بفزع، ثم هرول مسرعا وهو يحاول الفرار سريعا وكأنه يخشى أن تلحقه روحها وتنتقم منه أشد انتقام.

رفع يده ليوقف إحدى سيارات الأجرة ولكنه انتبه لمنظر الدماء على يديه مما جعله يتراجع ودس يديه بجيب سترته وهرول مبتعدا ثم اتجه لأقرب حمام بالشارع ودخل ثم غسل يديه جيدا وخرج، ثم استوقف سيارة أجرة وركبها وطلب منه أن ينقله إلى حارة شعبية على أطراف المدينة.

نظر إليه السائق بشك قائلا:

_ ولكن الأجرة ستكلفك كثيرا.

أومأ الآخر وقال بصوتٍ مرتجف:

_ سأعطيك ما تطلبه.

طالعهُ بغير تصديق وقال:

_ لا، أعطني الأجرة أولا، معظم الزبائن يقولون نفس الكلام وعندما نصل يخالفون الاتفاق.

كان عبدالله يسند جبهته على كفيه شاردا يفكر فيما حدث قبل قليل؛ فمد يده وأخرج عدة ورقات لا يعلم عددها وأعطاها للسائق وهو يقول:

_ خذ ما يكفيك، المهم أن تنقلني من هنا.

نظر السائق إلى النقود بيده فأفزعهُ منظر الدم الذي يشوبها ونظر إلى عبدالله بشك ثم قال:

_ ما هذا الدم؟!

نظر إليه الآخر بفزع فرآه وهو يشير إليه بالنقود الملطخة بالدم ويقول بشك وخوف وفي آن واحد:

_ ما هذا الدم؟ ما قصتك؟ 

تجاهل عبدالله سؤاله وقال بتوتر:

_ هيا تحرك ولا تسأل كثيرا.

تأكدت شكوك السائق، فمنذ أن رآه وهو يشعر بعدم الارتياح لهيئته ووجهه اللذان يشعان بالسوء، والآن بعد رؤية الدماء على النقود أصبح متأكدًا أنه مجرم أو قاتل متسلسل حتى.

أوصد أبواب السيارة ونظر إليه بغضب قائلا:

_ لا يا عزيزي ، لن أتحرك قبل أن أعرف قصة تلك النقود الملطخة بالدماء. وإلا سأذهب وأسلمك للشرطة وهم سيعرفون قصتها بطريقتهم.

نظر إليه عبدالله بغضب والشر يتطاير من عينيه وقال بتحذير:

_ قلت لك تحرك، لدي موعدا هاما ينبغي ألا أتأخر عليه، هيا تحرك.

هدر بالأخيرة وقد نفرت عروقه بغضب فتحرك السائق فورا ولكنه اتجه بمسار قسم الشرطة.

رن هاتف عبدالله مرات عديدة برقم عنبر ولكنه تجاهلها، فكل ما كان يشغل تفكيره الآن هل ماتت سماهر أم أنها لاتزال على قيد الحياة؟!

وإن ماتت ماذا سيكون مصيره؟ هل سيصبح قاتلا وانتهى الأمر؟! هل يعقل أنه ألقى بنفسه في السجن الذي كان يفر منه بمنتهى السذاجة.

رفع رأسه وهو يدلك جبهته بتعب فتفاجأ بالطريق حوله فأدرك أن السائق يسير به في اتجاه مغاير فقال:

_ أين تذهب؟ لمَ تسير بهذا الطريق؟

لم يُجِبه السائق ففهم فورا أنه ينوي تسليمه للشرطة فقفز من المقعد الخلفي لجوار السائق وهو يقول:

_ لا تجعلني أفقد أعصابي وإلا ستندم صدقني.

_ فلتذهب للجحيم أنت وأعصابك يا مجرم، سأقوم بتسليمك للشرطة وهم سيعرفون دماء من هذه التي تلطخ نقودك يا مجرم.

ابتلع ريقه بتوتر وغضب عاصف وقال:

_ توقف حالا.

_ لن أتوقف.

_ قلتُ لك توقف حالا.

وقبل أن ينطق كلمة أخرى أخذ عبدالله يكيل له اللكمات بوحشية وقد عاد لنفس الحالة الهستيرية التي انتابته قبل قليل ولم يستيقظ منها إلا عندما فقد الرجل وعيه.

نظر إليه مهتاج النفس وأخذ يلعنه ويقول:

_ اللعنة عليك وعلى غبائك، لم تصرون على جعلي قاتلا اليوم! تبا لكم جميعا!

فتح قفل الأبواب ونزل من السيارة، ثم عاد إليها مرة أخرى ومد يده بجيب السائق وسرق ما بحوزته من نقود وهرب مرة أخرى.

|||||||||||||||||||||

عادت عظيمة بعد حوالي ساعة وهي تحمل الأكياس التي أحضرت بها الأغراض الناقصة التي طلبتها منها سماهر.

تفاجأت بباب الشقة مفتوحا فدخلت وأغلقته وهي تقول:

_ سيدتي، هل نسيتي الباب مفتوحا؟ سيدتي…

وفجأة سقطت الأكياس من يديها وصرخت بقوة وفزع عندما رأت سماهر ملقاة أرضا غارقةً في دمائها.

هرولت نحوها وهي تصرخ وجثت بجوارها وهي تقول:

_ سيدتي، سيدتي سماهر استيقظي أرجوكي.. سيدتــي…..

خرجت من الشقة وأخذت تصرخ بكل ما تملك من قوة، وتستغيث بسكان العمارة الذين خرجوا من شققهم على صوت صراخها ونزلوا باتجاه الصوت.

_ سيدتي قُتلت، لقد عدت من الخارج فوجدتها ملقاة والدماء تسيل من رأسها، أرجوكم ساعدوني.

تجمهروا جميعهم بداخل الشقة وعرض عليهم أحد السكان أن ينقلوها للمشفى ولكن أحدهم عارضه وقال أن الحل الأمثل أن يقوموا بإبلاغ الشرطة أولا وبالفعل أيدهُ الكثيرون في هذا الاقتراح وقاموا بالاتصال بالشرطة وإبلاغهم بما حدث.

بعد مرور حوالي نصف ساعة تقريبا وصلت سيارتي الشرطة والإسعاف، دخل الضابط الذي أمر بإخلاء موقع الحادث تماما وسمح لرجال الإسعاف بنقل المجني عليها إلى المشفى. 

ثم أمر بالتحفظ على المكان كما هو دون إحداث أي تغيير به، واستدعاء خبراء البحث الجنائي لمعاينة مسرح الجريمة وفحص كاميرات المراقبة بالبناية، كما أمر بالتحفظ على عظيمة باعتبارها الشاهدة الوحيدة.

_____________

في المساء..

نزلت فريال من سيارتها وتوقفت أمام تلك البناية التي قصدتها بالتحديد وهي تقرأ اللافتة الموضوعة بكل فخر:

_ ” مركز الدكتور ممدوح علم الدين أخصائي الطب النفسي “

تقدمت بحماس وتوتر ودخلت، رتبت هندامها للمرة التي لا تعرف عددها ثم جلست على أحد مقاعد الانتظار وهي تتفحص المكان من حولها وأناملها تطرق على حقيبتها بتوتر طفيف.

لحظات وانفرج الباب وخرجت سيدة جميلة في مقتبل العمر، ودخلت بعدها سيدة أجمل منها فأخذت فريال تتمتم بحسرة وتقول:

_ الجميلات دائما ناقصات حظ.

ارتفع رنين هاتفها فنظرت لاسم المتصل بحماس وأجابت:

_ مرحبا تونه، كيف حالك حبيبتي؟

أجابتها فتون قائلة:

_ بخير، هل أنتِ بشقتك؟ كنت أقترح أن نخرج سويا في أي مكان، لقد مللت.

_ أووه، هذا اقتراح جيد جدا، ولكني لست بشقتي حاليا، بعد ساعة سأقوم بالاتصال بك.

_ حسنا، أراكِ لاحقا.

أنهت الاتصال وهي مبتسمة ونهضت لتقف أمام المرآة وتعدل ملابسها وشعرها وزينتها، ثم نظرت إلى باب  غرفة الكشف بملل وهي تقول:

_ ما كل هذا؟ هل يحكين قصص حياتهن منذ خُلقن أم ماذا؟

تأففت بملل ثم نظرت إلى السكرتيرة وقالت:

_ هل الأمر يستحق كل هذا التأخير؟ 

_ نعم سيدتي، الدكتور ممدوح معروف بأنه يجيد الاستماع لمرضاه، لذلك تأتي إليه النساء من كل حدبٍ وصوب.

زمت شفتيها بنزق وقالت:

_ للأسف.

_ عفوا سيدتي؟؟

_ أقصد للأسف أن الكشف يستغرق وقتا طويلا وأنا لست متفرغةً أبدا.

انفرج الباب فنهضت على عجالة ودخلت بابتسامتها الواسعة وخلفها السكرتيرة تلحق بها وهي تقول:

_ من فضلك سيدتي انتظري لحظة.

أشار لها الطبيب بالانصراف واستقبل فريال بابتسامة ونهض ليصافحها بترحاب وهو يقول:

_ مرحبا سيدة فلة، لو فقط كنت أعلم أنكِ ستأتين لزيارتي هنا لفرشتُ الأرض بالورد.

ابتسمت بإشراق وقالت:

_ أشكرك دكتور ممدوح، أنت رجلًا لطيفًا للغاية!

_ تفضلي سيدتي، ماذا تشربين؟

_ عصير ليمون من فضلك.

أخبر السكرتيرة أن تحضر اثنين من عصير الليمون ونظر إلى فريال مبتسما وقال:

_ لقد أسعدتني زيارتك جدا سيدة فلة..

قاطعته قائلة:

_ فلة يكفي، أقصد أن نرفع التكاليف والألقاب، فنحن جيرانًا ولا داعي للتعامل بتلك الرسمية، ثم أننا مقاربان لبعضنا البعض في السن.

وضحكت وهي تعبث بخصلاتها وتقول:

_ بالتأكيد أنت أكبر مني ولكننا متقاربان.

أومأ موافقا وقال:

_ أنتِ محقة فلة، على كل حال وأنا أيضا لا أحب الرسميات.

_ جيد جدا، إذًا أنت ستناديني فلة وأنا سأناديك دكتور ممدوح لأنني أشعر بالهيبة والوقار وأنا أناديك بالدكتور.

ضحك قائلا بهدوء واتزان:

_ كما تشائين، لكِ مطلق الحرية أن تناديني بالاسم الذي تفضلينه.

تنهدت براحة وقالت:

_ أنت حقا طبيبًا نفسيًا، تستطيع مداواة النفس بمجرد ابتسامة، حديثك وابتسامتك يبعثان الراحة والسكينة في نفوس مرضاك.. هنيئا لزوجتك رحمها الله بزوجٍ مثلك.

ابتسم قائلا:

_ رحمها الله، أنا فعلا طبيبًا نفسيًا ولكنني لست مثاليًا، في النهاية كلنا بشر ، الكمال لله وحده.

_ ونعم بالله ، أعلم ذلك، ولكن حتى النقصان يتفاوت، هناك من هي محظوظة بالقدر الكافي كي تقابل وتحظى بحب رجل مثلك، حتى ولو كنت ناقصا ولكن ذلك النقصان يمكنها مداواته بالكثير والكثير من المميزات التي تتمتع بها. وهناك من هي مثلي مثلا؛ قليلة حظ بالقدر الذي يكفي كي تتزوج زيجتين فاشلتين وتمضي ما تبقى من حياتها وحيدة.

نظر إليها بوجهه البشوش؛ متفرسا ملامحها التي تدفن الحزن بين طياتها بعمق، وسألها قائلا بابتسامة:

_ هل تعرفين فلة ؟ الإنسان أكبر عدو لنفسه.

قطبت حاجبيها ونظرت إليه بتعجب واستفهام بينما أردف هو قائلا:

_ لو أننا استقبلنا كل ما يحدث معنا ولنا وكل ما نمر به من مصائب وأزمات ونوائب بعقيدة لهان الأمر كله. كل ما يحدث معنا هو مقدر لنا منذ خلقنا، ما حدث لكِ هو قدركِ الذي لا يمكنكِ الفرار منه. 

_ أجل أعرف ذلك.

_ وبما أن ما حدث كان محتما أصلا، لمَ التفكير بتلك الطريقة المتشائمة؟ لمَ النظر للنصف الفارغ من الكوب؟ 

ابتسمت باستغراب وقالت بلمحة من التهكم:

_ وأين هو النصف المملوء الذي عليّ رؤيته؟

مط شفتيه ببساطة وقال:

_ أنكِ لا زلتِ شابة، جميلة وتملكين كل مقومات الجمال، لاتزال أمامك العديد من الفرص، سيدات غيرك مررن بزيجات فاشلة أيضا ولكنهن أفنيْن فيها أعمارهن وتلِفت زهرة شبابهن وفي النهاية أصبحن وحيدات أيضا.

صمتت لحظات تستوعب كلماته ثم قالت:

_ ولكن تلك النساء اللاتي قضين أعمارهن في زيجات حكم عليها بالفشل في النهاية وأصبحن وحيدات، من الممكن أنهن شبعن من الحب والاحتواء والعاطفة بشكل عام خلال سنوات زواجهن.. ألا يعد هذا إنجازا في حد ذاته؟

أطرق برأسه قليلا ثم نظر إليها وقال بابتسامته المعهودة:

_ الشبع! الشبع عزيزتي فلة أول لَبنة في جدار انهيار أي علاقة بين شخصين. الشبع هو أول الخطوات في طريق الفتور والملل، المُحِب لا يشبع أبدا. العلاقة التي لا تتسم بالنهم والشغف والتعطش والاحتياج لا تدوم طويلا، الإنسان بطبيعته ملول جدا، إذا اكتفى من الشيء زهده وسئمه. هؤلاء النسوة اللاتي تعتقدين أنهن محظوظات لأنهن شبعن من الحب والاحتواء، صدقيني هنا تكمن المشكلة. أنهن شبعن، هذا يعني أن مشاعرهن أصيبت بنوع من التخمة والتبلد وأصبحت في حالة خمول، فالمثل يقول ‘إذا شبع المرء لن يجد للخبز طعما.’

واستطرد قائلا:

_ أما أنتِ يا فلة، مشاعرك لا تزال بخير، لا تزالين قادرة على العطاء والحب، لا تزالين قادرة على الاستمتاع بطعم الحب والخبز معا.

ضحكت بقوة فضحك بدوره وقال:

_ ثم أنكِ بعد الزيجتين الفاشلتين ما زلتِ قادرة على الابتسام والضحك بتلك الطريقة المبهجة. ألا تظنين أن هذا في حد ذاته انتصارا؟

خفق قلبها بقوة ونظرت إليه بابتسامة ممتنة وقالت:

_ حقيقةً أنت ألطف طبيبٍ قابلته بحياتي.

ابتسم بود وقال:

_ وأنتِ كذلك.

نهضت وهي تشعر بالارتياح كثيرا وكأنها نزعت عِبئا ثقيلا عن كاهليها وقالت بامتنان صادق:

_ أشكرك كثيرا دكتور، الحديث معك يجعلني بأحسن حالاتي.

أومأ مُرحّبًا وقال:

_ تحت أمرك بأي وقت فلة.

صافحته بود وقالت:

_ أشكرك شكرا جزيلا ، تستحق طبق حلوى فريد من نوعه.

ابتسم قائلا:

_ سأكون ممنونا جدا سيدتي.

||||||||||||||

كان عبدالله يجلس منزويا حول نفسه خلف شجرة،  يرتجف بخوف، يحيط جسده بيديه ووجهه مختبئ بين كفيه ويتحدث بخوف ويقول:

_ لا، أنا لست قاتلا، هي لم تمت، أكيد فقدت الوعي مؤقتا، لا، لا يا غبي، إن كانت حية ستخبر الشرطة عني وسيتهمونني بالشروع في قتلها، يا إلهي ماذا أفعل؟ يجب أن أهرب سريعا، يجب أن أغادر البلد في أسرع وقت.

أمسك هاتفه وقام بالاتصال بعنبر التي أجابت الاتصال بتوقب وخوف فقال:

_ أحتاج المال الذي اتفقنا عليه في أسرع وقت، إن تأخرتِ سأقوم بنشر الفيديو.

وأنهى الاتصال وهو يردد:

_ ستأتين، ستأتين يا عنبر الجبانة.

وأغمض عينيه بتعب وأسند رأسه على جذع الشجرة وراح في النوم.

…………..

في اليوم التالــي.

استيقظ قاسم من نومه على صوت رنين جرس الباب ، نهض فجأة مفزوعا وكأنه صُعق ونزل من سريره متكاسلا بشدة، وذهب نحو الباب وهو يجر قدميه بتباطئ ٍ شديد وهو يتوعد ذلك المزعج الذي أرق مضجعه وأيقظهُ من نومه.

فتح الباب فرأى حياة تقف أمامه والابتسامة تعلو شفتيها وما إن رأت حالته تلك حتى قالت:

_ صباح الخير زوجي المستقبلي العزيز.

نظر إليها وهو يشعر كأنه يراها اثنتين وتثاءب بنعاس شديد وأسند رأسه على الباب وهو يقول مغمضا عينيه:

_ عساه خيرا حياة؟ ما سبب ذلك الإنزال الجوي منذ الصباح ؟

ضحكت وهي تدفعه للداخل ودخلت وهي تحمل بيدها بعض الحقائب ورفعتها لمستوى بصره كي يراها وقالت بابتسامة عريضة:

_ كنت أشتري بعض الأغراض الخاصة بي، وجئت لأضعها بغرفتك.

ثم غمزت إليه بمشاكسة وقالت:

_ أقصد غرفتنا.

رفع حاجبيه متعجبا وطالعها باستنكار وهو يتمتم:

_ أستغفر الله العظيم.

تجاوزته ودخلت إلى الغرفة ووضعت الحقائب بالخزانة، ثم خرجت وهي تحمل كيسين وتقول:

_ وبما أنني أتيتُ إليك قلت أصنع بك معروفا و أحضر لك الفطور بنفسي، هيا اذهب واستعد ريثما أنتهي.

أومأ موافقا وهو يتثاءب وقال:

_ حالا.

ودخل إلى غرفته وألقى بجسده العريض فوق الفراش وغط في النوم مرة أخرى.

وقفت حياة بالمطبخ كي تعد الفطور وقامت بتشغيل أغنية لفيروز على هاتفها وأخذت تدندن معها وهي تحضر الفطور بكل حب ثم نادت:

_ قااااسم، هيا يا زوجي الوسيم، لقد أصبح الفطور جاهزا.

وخرجت من المطبخ وهي تبحث عنه لتتفاجأ به يتمدد فوق فراشه بكل أريحية فقالت بغضب:

_ قليل الذوق، يترك زوجته التي أتت خصيصا لإعداد الفطور له ويكمل نومه بكل راحة وسلام.

ودخلت الغرفة، ثم وقفت بالقرب منه تقول:

_ أنت، يا سيد قاسم، مرحباا سيد قاسم أنا هناا..

كان قاسم يغط في نوم عميق فاقتربت من وجهه وهي تقول:

_ يا إلهي هل تنام وعيناك مفتوحتان؟! يا ربي هل أنت ذئب؟

ثم جلست بالقرب منه وأخذت تتفحصه بابتسامة وهي تقول:

_ ما أجملك ! يا إلهي ماذا فعلت أنا كي أحظى بزوج وسيم كهذا؟ 

وأخذت تهزه برفق وهي تقول:

_ قاسم، هيا لقد أعددت الفطور، قاسم.. هل سأنتظر كثيرا؟

تحدث قاسم بدون وعي قائلا:

_ انتظر طه ريثما أنتهي من غسل الصحون.

كتمت ضحكتها بصعوبة وهي تتمتم:

_ غسل الصحون؟ شكرا يا إلهي لقد مننت عليّ بزوج مراعِ سيساعدني في الأشغال المنزلية.

وضحكت بخفوت ثم نظرت لقامته الطويلة بابتسامة وفجأة مالت على ذراعه وعضّتهُ فانتفض فجأة وسحب ذراعه منها، وجلس فوق الفراش بتحفز وأمسك برسغها بقوة وهو يطالعها بنظرات يتطاير منها الشرر ثم قال:

_ ما هذا الغباء يا حياة؟ أساسا ما الذي تفعلينه هنا؟

نظرت إليه بصدمة وتجهم وجهها وقالت:

_ كنت أمزح فحسب.. وإذا أردت يمكنني الذهاب.

أبعد رسغها بقوة أجفلتها وأسند جبهته على كفيه وهو يحاول استعادة وعيه بالكامل، ثم نظر إليها فرآها مطرقةً برأسها أرضا فقال:

_ منذ متى وأنتِ هنا؟ 

نظرت إليه بضيق وقالت:

_ منذ أن كنت تغسل الصحون برفقة طه.

قطب حاجبيه بتعجب وسرعان ما أدرك أنه كان يحلم فقالت بفضول كعادتها:

_ من هو طه؟

أجاب باختصار وضيق:

_ صديقي بالسجن.

تفاجئت من إجابته قليلا ثم قالت:

_ وهل كنتم تغسلون الصحون في السجن؟

_ أجل.

_ والسبب؟

نظر إليها متعجبا وقال بسخرية لاذعة:

_ لأن غسالة الأطباق كانت معطلة فاضطررنا لغسلها بنفسنا.

حكت رأسها بتفكير ونظرت إليه بعدم استيعاب وقالت:

_ أشعر أنك تسخر مني.

زفر مطولا بنفاذ صبر وقال بابتسامة لم تصل عينيه:

_ لا طبعا أستغفر الله، صباح الخير حياة.

اتسعت ابتسامتها بعفوية وقالت:

_ صباح الخير قاسمي الوسيم.. هيا لقد أعددت لك فطورا عالميا.

هز رأسه بيأس وقال:

_ وهل جئتِ من بيتك إلى هنا منذ الصباح كي تعدين لي الفطور؟ هل أنا مصاب بالشلل مثلا؟

نظرت إليه بضيق وقالت:

_ أعوذ بالله ، اتفل من فمك.

جز أسنانه بغضب وضيق وقال:

_ أساسا أنا على وشك فعل هذا لا محالة، لذا أرجوكِ ابتعدي عن مرمى فمي لأنني بالكاد أتحمل نفسي، ولا ينقصني طنينك فوق أذنيّ منذ الصباح.

نظرت إليه بغضب وقالت:

_ هل تعرف أنك قليل الذوق؟ 

_ أجل أعرف.

_ ولا تعرف شيئا عن التعامل بتهذيب وكياسة مع الجنس اللطيف.

_ أجل أنا كذلك.. من فضلك انتظري بالخارج ريثما أبدل ملابسي وأخرج لنتناول الفطور معا بكل تهذيب وكياسة.

رمقته من أعلى لأسفل متعمدةً إثارة ضيقه، ثم نهضت على مضض وعندما اقتربت من الباب نظرت إليه بنظرة العارف وقالت:

_ لم يكن ضروريا أن تطردني خارج الغرفة، كان بإمكانك أن تطلب مني أن أدير وجهي أو أن أغمض عيني، ولكن على ما يبدو أنك خائف من شيءٍ ما.

نظر إليها مغتاظا، وفجأة أمسك بالمنبه الموجود بجواره وقذفها به فأوصدت الباب سريعا فاصطدم المنبه بالباب ووقع على الأرض، بينما قاسم لا يزال متطلعا نحو الباب حيث تختبئ خلفه وهو يقول:

_ تبا لكِ لم أرَ مثل وقاحتك.

كتمت حياة ضحكاتها وهي تركض نحو المطبخ وتضع يدها على موضع قلبها الذي يدق بقوة وانفعال وهي تقول:

_ يا إلهي، ما هذا الجنون الذي يصيبني بالقرب منه! 

أعدت الشاي وأخذت الفطور ثم خرجت إلى الشرفة ووضعت الفطور على الطاولة ثم جلست تتطلع نحو البحر في انتظار قاسم.

أغمضت عينيها بانسجام مع ذلك المنظر المريح الذي يبعث السلام النفسي على القلب وأخذت نفسا عميقا وفجأه فتحت عينيها عندما ضربها قاسم على مؤخرة رأسها فقالت:

_ ما هذا الغباء يا قاسم ؟

طالعها شزرا وقال:

_ من بعض ما عندكم.

ثم نظر إلى ذراعه وأثر العضه به وقال باستياء مصطنع:

_ سأذهب للمشفى وأخضع للفحص لأرى إن كانت سامة أم لا.

رفعت حاجبها بضيق فضحك قائلا:

_ كنت أمزح فحسب. هيا تناولي الفطور.

بدآ في تناول فطورهما بصمت إلى أن قطعه هو وقال بجدية:

_ حياة، لا تتصرفي بتلك الحماقة مجددا أرجوكِ.

قطبت حاجبيها بتعجب وقالت:

_ لا أفهم قصدك.

تنهد وترك قطعة الخبز من يده وقد بدا الضيق جليا على ملامحه وقال:

_ أقصد تهورك واندفاعك، خطر عليك أن تأتي إلي منذ الصباح وتحضرين لي الفطور ففعلتِ، وسابقا خطر لكِ أن تخرجي وتتمشين دون إخبار والديكِ ففعلتِ! وكثيرًا من التصرفات الطائشة الغير محسوبة التي تندمين عليها في النهاية.

نظرت إليه بضيق وقالت:

_ هل مجيئي إليك أزعجك بهذا القدر.

_ بربك حياة أنا لا أتحدث إلى طفلة، لا تتجاهلي صلب الموضوع وأساسه وتعاتبيني على أفكارك الخاطئة. مجيئك لم يزعجني بقدر ما أزعجني جنونك.. 

قاطعته بضيق وقالت:

_ هذا ليس جنونا، أنا أتصرف بعفوية فحسب.

_ والعفوية الزائدة ترمي بصاحبها في المخاطر.. ثم أن الإنسان العاقل دائما خطواته موزونة ومحسوبة، نحن نعيش في زمن لا تليق به العفوية يا حياة.

نظرت أمامها بغضب وقالت:

_ حسنا قاسم، لن أتصرف بعفوية مجددا، ولن أزعجك بحضوري وطنيني فوق أذنيك منذ الصباح، ولن ترى وجهي مجددا إن أردت.

نظر إليها بغيظ وقال بانفعال:

_ لا حياة، أنا لم أقل لا تتصرفي بعفوية، قلت لا تتصرفي بجنون واندفاع ، توقفي عن فعل ما يحلو لكِ متى يحلو لكِ وكأنكِ تعيشين في هذا الكون بمفردك.

هزت رأسها بموافقة ونهضت وهي تقول:

_ حسنا، على كل حال أنا آسفة لأنني أزعجتك، أعدك أنك لن ترى وجهي من الآن وحتى موعد عقد القران.

_ حقا؟ موعد عقد القران الذي هو بالأمس أساسا، أليس كذلك ؟

رفعت أنفها بغرور وقالت:

_ بلى.

هز رأسه بيأس وهو يضرب كفًا بالآخر ويقول:

_ أستغفر الله العظيم ، إجلسي حياة، إجلسي وتناولي فطورك الجميل هذا هيا.

_ لا أريد، لقد فقدت شهيتي.

_ حسنا، كما تريدين، هيا كي تغادري قبل أن ألقي بكِ من هنا فتغادرين للأبد وأستريح من جنونك.

_ سأذهب بمفردي، شكرا لك، أنت تعرض المساعدة بشكلٍ جميل يجعل الجميع يظنوك شهما.

رفع حاجبه وقال:

_ لا أنا لست شهما، ولكنني لست غبيا كذلك كي أتركك تتجولين في الطرقات بمفردك وأنتِ معرضة للخطف ثانيةً.. وصراحةً لقد سئمت ملاحقتك وقد اتخذت قرارًا لا رجعة فيه. إن تعرضتِ للخطف مجددا فلن أكلف نفسي عناء البحث عنك؛ لأنكِ تبحثين عن المتاعب و تقعين فيها كما يقع الذباب بالعسل.

نظرت إليه بغضب وهتفت بحنق طفولي يثير حماسه:

_ يبدو أنني علي أن أعيد النظر في أمر زواجي منك عشرون مرة من الآن وحتى الأمس.

قلد نبرتها الحانقة وحركة يدها وهو يقول:

_ أدعو الله ألا يحل المساء حتى تنتهي من المرة العشرين وتتخذين قرارا لا تندمين عليه فيما بعد.

________________

خرجت عنبر من غرفتها وهي تحث الخطى نحو غرفة والدها، استغلت وجوده بالحمام ودخلت غرفته وأوصدت الباب خلفها وهي تشعر بقلبها يكاد أن يقفز خارج صدرها من الخوف، فتحت الخِزانة ومن ثم فتحت خزنة والدها الصغيرة وأخذت منها مبلغا كبيرا، ثم أغلقت الخزنة والخِزانة وعادت إلى غرفتها مرة أخرى.

دخلت ووضعت النقود بحقيبتها ثم أخذت نفسا عميقا بتوتر وجهزت حقيبتها ثم ارتدت ملابسها وألقت نظرة على ابنها الذي يغفو بفراشه واقتربت منه ثم قبلت رأسه وهي تهمس بحزن:

_ أنا آسفة حبيبي، لم أكن يوما الأم التي تستحقها ولا أظن أنني سأصبح.

خرجت من الغرفة فالتقت بوالدتها التي قالت بتعجب:

_ إلى أين تذهبين عنبر؟

نظرت إليها عنبر بحزن وقالت:

_ أشعر بأني سأختنق، سأذهب لأتمشى قليلا.

نظرت إليها والدتها بحزن وأسى، هي تعرف أن اليوم لن يكون سهلا بالنسبة لها، لذلك لم تمانع خروجها فقالت بابتسامة:

 _ حسنا حبيبتي، أخرجي ورفهي عن نفسكِ قليلا.

أومأت عنبر بابتسامة منكسرة وقالت:

_ اعتني بكريم.

نظرت إليها أمها بشك ولكنها لم تعقب فخرجت الأخرى مسرعة قبل أن يراها والدها، فهي تعرف أن والدها إن رآها بتلك الحالة فلن يسمح لها بالخروج أبدا.

خرجت من البيت وسارت خطوات حتى ابتعدت عن محط أنظار الجيران ثم أخرجت من حقيبتها نقابا ووضعته على وجهها ، ثم استقلت سيارة أجرة وطلبت من السائق أن يوصلها للمحطة؛ فلقد كانت تلك هي خطته التي رسمها بإحكام وطلب منها تنفيذها بالحرف الواحد حتى لا تتبع الشرطة أثرها ويستطيعون القبض عليه من خلالها.

شردت عنبر وهي تتذكر حديثهما الأخير وكيف أنه ابتزها وساومها وكأنها ليست زوجته أو أن فضيحتها لا تعني فضيحته أيضا.

تنهدت بأسى وحزن؛ فلقد قررت أن تخضع آسفةً لابتزازه الحقير لسببين؛ أما الأول فهو أنها تخشى أنه إذا قام الشيطان زوجها بنشر الفيديو فبالتأكيد سينتشر الأمر سريعا كالنار في الهشيم وتصبح عنبر حديث المدينة وتكثر الأقاويل حولها وبالتالي سيؤثر ذلك على صحة والدها التي تدهورت بما يكفي في الآونة الأخيرة، والأخير أنها قررت أن تجلد ذاتها أكثر بالخضوع له ككل مرة حتى تذكر نفسها الأمارة بالسوء دوما أن كل بشاعة زوجها تلك هي نِتاج سلبيتها وتخاذلها منذ البداية، و كلما شعرت بالقهر والظلم كانت تقنع نفسها أنه لولا وجود الفاسدين لما استطاع الشيطان ممارسة ظلمه وفساده وتجبره.

بعد حوالي نصف ساعة نزلت من السيارة التي توقفت بالمحطة، ثم استقلت القطار الذي سينقلها للمدينة التي يتواجد بها عبدالله الآن.

كانت تنظر من النافذة الزجاجية الكبيرة إلى الطريق الذي يركض أمامها وهي شاردة؛ تفكر فيما سيؤول إليه حالها بعد أن تلقي بنفسها بين براثن ذلك الذئب من جديد، لقد ذهبت إليه طواعيةً، ستقدم نفسها إليه مكبلة الأيدي وتستقبل منه كل نوبات عنفه المكبوتة إذا تطلب الأمر، الشيء الوحيد الذي لن تستطيع تحمله أن يموت والدها بسبب مشاكلها وهمومها، يكفيه ما ناله من وراءها للآن.

أغمضت عينيها بحزن، و أراحت رأسها على ظهر المقعد وهي تهمس:

_ سامحني يا أبي. لم يعد هناك مجالا لمعالجة الخطأ، على ما يبدو كُتب عليّ أن أعيش مكبلة بأغلال هذا الشيطان للأبد.

////////////////

في المساء..

وقفت حياة أمام مرآتها تطالع هيئتها الجميلة الفاتنة؛ وقد اختارت فستانا باللون الوردي الفاتح من الحرير.

فلقد تعمدت ألا تكرر أيا من تفاصيل تلك الليلة المشؤومة، لذا اختارت لونا غير الأبيض وكم كانت تشعر بالراحة والسكينة تملؤها.

تنهدت بأمل وهي تقول:

_ يا رب أتوسل إليك أن تجعل أيامي المقبلة كلها سعادة.

انفرج الباب ودخلت والدتها التي لمعت عيناها وهي تتذكر ما حدث سابقا ووضعت يدها على كتف ابنتها وقالت:

_ هل ستتركين البيت يا حياة؟

وضمتها إليها بقوة وقد أجهشت في بكاءٍ مرير وهي تقول:

_ أدعو الله أن يجعل لكِ حظا وافرا ، وأن تعيشي العمر في هنا وراحة.

ابتسمت حياة وضمتها أكثر وهي تتساءل بأمل:

_ هل أنتِ سعيدة لأجلي أمي؟

نظرت إليها أمها بابتسامة حزينة وقالت:

_ الأم عندما ترى ابنتها سعيدة لا يسعها سوى أن تكون سعيدة يا وردتي.

_ ولكنكِ قلتِ سابقا أنكِ لا تستطيعين الرقص من أجلي على دموع أختي.

_ كنت مخطئة حبيبتي ، أنتِ ابنتي وعنبر ابنتي، أنتما جزئان من روحي، القلب الذي ينبض حزنا من أجلها هو نفسه الذي ينبض فرحا لأجلك.

ابتسمت حياة وقالت:

_ أشكرك كثيرا أمي، كلامك هذا يعتبر دعما من نوع خاص، لن أنساه أبدا.

ربتت أمها على كتفها وقالت وهي تشير إلى موضع قلبها:

_ لا تخافي حبيبتي، قلبي هذا وإن كان جامحا بعض الشيء ولكنه يبقى قلب أم، لا تكره سعادة أولادها أبدا.

انفرج الباب ودخلت حنان التي فرّقت عناقهما وهي تقول: 

_ هيا حياة المأذون ينتظر ، تعانقا لاحقا.

نظرت حياة إلى أمها بتردد ثم قالت:

_ أمي؟ أين عنبر ؟

ربتت أمها على كتفها بمواساة وقالت:

_ خرجت، تقول أنها تريد أن تتمشى قليلا، لا تشغلي بالك حبيبتي ، هيا .

خرجت حياة من الغرفة وخلفها حنان ووالدتها، تقدمت من الصالون بتوتر وهي تشعر بقلبها يطرق بصوت مسموع وكاد أن يتوقف عن النبض عندما رأت قاسم يجلس متأنقا، مستعدا لعقد القران كما كان مستعدا المرة الماضية.

كان يجلس بجوار المأذون وبالجهة الأخرى يجلس والدها، وإلى يمينه يجلس عزيز الذي أصر أن يكون شاهدا على عقد قرانهما كي يثبت ولائه الكامل لقاسم وحنان، وبجوار عزيز يجلس أحد أقارب صالح الذي يثق به ثقة مطلقة فدعاه للحضور لأنه يضمن أن الخبر لن ينتشر ويصل إلى مسامع عبدالله.

///////////////////////

نزلت عنبر من القطار لتوها، قامت بالاتصال بعبدالله الذي أجابها متلهفا وقال:

_ هل وصلتِ؟

_ أجل.

_ الآن ستوقفين سيارة وتطلبين من السائق أن يوصلك لفندق الفونتيرا، هذا الفندق شبه مهجور ولن يطلب منك أي أوراق إثبات شخصية.

_ حسنا، هل ستكون بانتظاري؟

_ سآتي إليكِ بعد منتصف الليل.

أنهت الاتصال ، ثم ذهبت لأحد المطاعم واشترت طعاما، ثم استوقفت سيارة أجرة من المحطة وطلبت من السائق أن يوصلها لذلك الفندق فرمقها الرجل بشك ولكنه لم يعقب أخذ أجرته وانطلق بها وبعد حوالي ربع ساعة توقف أمام الفندق.

كان مكانا مهجورا فعلا، يبعث في النفس الخوف والرعب، دخلت فرأت رجلا كهلا منحني الظهر، يقف مستندا على عصا كالساحر العجوز فهمست في نفسها بارتياب:

_ يا إلهي ما هذا المكان المرعب!

تقدمت منه وحجزت غرفة فردية لليلتين ودفعت ما طلبه، فنظر إليها الرجل بشك، ثم أعطاها المفتاح وصعدت إلى الغرفة وهي تشعر بأنها دخلت مدينة الأشباح!

……………….

_ بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير إن شاء الله.

قالها المأذون بعدما انتهي من عقد القران ونهض يجمع أوراقه استعدادا للانصراف.

نظرت حياة إلى قاسم بابتسامة مشرقة فمنحها ابتسامة أكثر إشراقا واقترب منها وقبّل جبينها وهو يقول:

_ مبارك علينا زوجتي الجميلة.

نظرت إليه حياة بحب ولمعت عينيها بتأثر جم فلم تفكر مرتين وكعادتها المتهورة عانقته بفرحه وهي تقول:

_ مبارك علينا قاسم.

أحاطها بذراعه اليسرى وربت باليمنى على ظهرها وقال ضاحكا:

_ أرجوكِ لا تفقدي وعيكِ من الفرحة، تماسكي لو سمحتِ.

ضربته بقبضتها وابتعدت عنه حانقة وهي تقول:

_ هذه الفرحة أنت أفسدتها بسخريتك يا سمج.

انتبهت لوالدها الذي اقترب منها مبتسما وعينيه تلمع بتأثر وحزن وقال:

_ مبارك عليكِ حياة.

احتضنته وهي تقاوم دموعها فأخذ هو يمسح على رأسها بحنان وهو يقول:

_ سأدعو الله في كل لحظة أن ترافقك السعادة أينما ذهبتِ وأن يرزقك الرضا والراحة دائما.

تشبثت بحضن والدها أكثر وقالت:

_ أرجوك أبي لا تتوقف عن الدعاء لنا أبدا.

ربت على ظهرها مطمئنا وقال:

_ لا تقلقي حبيبتي ، الأب لا يتوقف عن الدعاء لأولاده مثلما لا يتوقف عن حبهم أبدا.

أومأت وهي تمسح دموعها وعانقت أمها وقالت :

_ أحبك كثيرا أمي.

مسحت والدتها دموعها بيديها وقالت بنبرة مهزوزة:

_ وأنا أحبك حياة، وأختك تحبك كذلك. تأكدي من ذلك.

أومأت بموافقة وقالت:

_ عندما تأتي أبلغيها سلامي.

_ حسنا، هيا حبيبتي زوجك ينتظر، أسعدكِ الله أينما حلت خطاكِ.

انتزعت نفسها من بين أحضان والدتها وعانقت حنان وصافحت عزيز اللذان تمنوا لهما السعادة ، ثم نظرت إلى قاسم الذي ينتظرها مبتسما وقال:

_ هل نذهب؟

أومأت بفرحة وأمسكت بيده، ثم رمقت المكان بأعين دامعة وخرجت برفقته نحو عالمها الآخر.

عالمًا مليئًا بالغموض والخبايا والأسرار، عالمًا تتمنى ألا تندم على الانضمام إليه أبدا.

………………………..

توقف قاسم أمام باب الشقة، وضع حقيبتها بجواره أرضا ونظر إليها بابتسامة وقال:

_ هل أنتِ مستعدة؟

أومأت بحماس شديد ففتح الباب متمهلا فظهرت الزينة المعلقة بكل مكان والبالونات الملقاة أرضا وغيرها تتدلى من السقف.

شهقت بفرحة تماما كالأطفال ودخلت فحمل الحقيبة ودخل وهو يراقبها بابتسامة، كانت تنظر حولها بسعادة كما ينظر الأطفال لزينة العيد، وازدادت فرحتها عندما رأت ذلك البالون الكبير المعلق بجوار باب غرفة نومهما مكتوبا فوقه بأحمر الشفاه خاصتها ” مرحبا بكِ حياتي “.

 

نظرت إليه ولمعت عيناها بتأثر شديد ثم أسرعت الخطى نحوه واحتضنته بقوة فقال ضاحكا:

_ تعشقين الأحضان يا قصيرة.

أومأت وهي لا زالت تطوق عنقه بيديها فابتعد عنها ونظر إلى وجهها وقال مبتسما بحنان:

_ مرحبا بكِ حياتي.

سالت دمعاتها فقال:

_ لقد ادخرتُ تلك الكلمة لهذا اليوم خصيصا لأنني أردت أن أن أبدأ بها حياتي الجديدة معك، من الآن فصاعدا أنتِ ستكونين كل حياتي يا حياة.

عانقته مرة أخرى فقبل أعلى رأسها وهو يقول:

_ هل سنبيت ليلتنا هنا أمام الباب ونحن متعانقين هكذا؟

نظرت إليه وتوردت وجنتيها بخجل وقالت:

_ ماذا سنفعل إذا؟

_ سنتناول الطعام مثلا، لم تدخل لقمة جوفي منذ الصباح، هيا يا عروس، من الآن مطبخك هو مملكتك الخاصة، أبدعي!

نظرت إليه بتفاجؤ بينما هو يكتم ضحكته ويتصنع التعجب قائلا:

_ ماذا هناك؟ هل نسيتِ طريق المطبخ؟ 

طالعته بحنق وقالت:

_ لا، سأبدل ملابسي وأعود، بالتأكيد لن أدخل المملكة، أقصد المطبخ بفستاني هذا.

ابتسم قائلا:

_ أنتِ محقة، خذي وقتك. البيت كله أصبح ملكك وأنا هنا مجرد ضيفًا، أتمنى أن أكون ضيفا خفيفا.

واتسعت ابتسامته فقالت وهي تطالعه بضجر:

_ لا، لست خفيفا على الإطلاق.

ودخلت غرفتها وهي تلعن غبائها وتتمتم قائلة:

_ ما بكِ يا حياة؟ ضعي بعينك ذرة ملح واحدة يا فتاة، سترمين نفسك على الرجل بعد قليل، يا إلهي ما هذا!

نزعت فستانها ودخلت إلى الحمام لتأخذ حماما وهي ما زالت تحدث نفسها وتقول:

_ أساسا الرجل محق، لم يأكل شيئا منذ الصباح، لمَ العجلة إذَا لمَ الوقاحة ؟

أوصدت المياه وخرجت وهي ترتدي مئزره، وفتحت الخزانة لتنتقي منها شيئا تلبسه فتفاجئت بالخزانة فارغة ، فضربت جبهتها بقوة وغضب وهي تقول:

_ الله الله.. أساسا هذا ما ينقصني، تركتِ حقيبتك بالخارج يا حياة، هنيئا لكِ.

تقدمت من الباب وفتحته فاستدار نحوها تلقائيا وتعجب عندما رآها تتقدم منه بمئزر الحمام خاصته والذي يصل طوله لبعد ركبتيها فكان أشبه بالجلباب مما جعله يضحك عاليا ولكنه قطع ضحكته عندما رآها تنظر إليه بغضب وقالت:

_ جئت لآخذ حقيبتي لقد نسيتها بالخارج.

أومأ وقال بنفس اللهجة الصارمة التي تحدثه بها:

_ تفضلي.

نظرت إليه بغضب أكبر وقالت:

_ هل ستدعني أحمل كل تلك الحقيبة وتقف متفرجا هكذا؟

انحنى والتقط الحقيبة فورا وهو يقول:

_ لا يصح طبعا.

اتجه نحو الغرفة ووضع الحقيبة فوق الفراش بينما هي تتقدم منه وهي لازالت تهتف بعصبية:

_ أساسا كل هذا بسببك، أخبرتك أن آتي وأضع أغراضي مسبقا بالغرفة كأي عروس ولكنك رفضت.

ثم رفعت كتفيها بضيقٍ واحتجاجٍ وقالت:

_ لا أعرف صراحةً لماذا رفضت؟ هل كنت تخشى أن تبقى برفقة أغراضي بمفردكما أم ماذا؟

نظر إليها بطرف عينه وضرب جبهتها وهو يتجاوزها للخارج ويقول:

_ أسرعي حياة، أنا أتضور جوعا وأنتِ تقفين هنا و تبقبقين منذ ساعة .. ها هي حقيبتك . أسرعي.

خرج وأوصد الباب وهو يهز رأسه بيأس ويفرك جبهته بتوتر ويقول:

_ ماذا فعلت بنفسك يا قاسم!

فتحت الحقيبة وأخذت تنظر إلى محتوياتها بخجل وهي تقول:

_ أقسم أنني وقحة فعلا، ما كل هذه القصاصات؟ هل سأخرج وأقف بالمطبخ وأعد له العشاء بتلك الملابس المخلة بالآداب، بربك حياة ماذا سيظن بكِ ذلك السخيف!

أغلقت الحقيبة ووضعت يدها بخصرها وباليد الأخرى أطبقت على شعرها بحيرة وهي تقول:

_ ماذا سأفعل؟ 

فتحت الخزانة مرة أخرى وهي تنظر إلى ملابسه وتقول:

_ بالتأكيد لن أرتدي هذه الملابس ، يكفيني المئزر الذي يبتلعني بداخله.. أمري إلى الله.

فتحت حقيبتها مرة أخرى وانتقت قميصا حريريا طويلًا أسود اللون يصل طوله إلى ركبتيها، ارتدته وتركت شعرها منسدلا على ظهرها، ووقفت أمام المرآه تطالع هيئتها الفاتنة بابتسامة واثقة وهي تقول:

_ يا رب احفظني، يا إلهي كم أنا جميلة! 

وقفت خلف الباب تعد عدا تنازليا ثم أخذت نفسا عميقا، وفتحت الباب فلم تجده يقف حيث كان، دخلت إلى المطبخ فرأته يقف موليا ظهره نحوها فقالت بقصد لفت انتباهه:

_ ماذا تفعل؟

نظر إليها بعفوية وقال:

_ أُعد السلطة..

ابتسمت فتسمر في مكانه عندما رآها بتلك الهيئة الساحرة، شعر بالخدر يسري في أطرافه وجسده بالكامل، ابتلع لعابه بتوتر وأدار وجهه مجددا وأخذ يعبث بطبق السلطة أمامه وهو يحاول تشتيت تفكيره عن تلك الفاتنة خلفه.

اقتربت منه خطوة فابتعد خطوتين فنظرت إليه بضيق وتهكم وقالت:

_ لا تخف، لن أبتلعك.

أخذت خيارة من الطبق الموجود أمامه وهي تنظر إليه بهدوء وابتسامتها لا تزال على وجهها فقال:

_ أستغفر الله العظيم.

نظرت إليه بحنق وقالت:

_ هل جئتَ لتتوب هُنا؟

وهزت رأسها بضيق زائف وتابعت:

_ هيا أخرج، أنا سأكمل تحضير كل شيء.

هرول مسرعا للخارج وهو يقول:

_ أشكرك حياتي، سأبدل ملابسي ريثما تنتهين.

وهرول للخارج متجها لغرفته أبدل ثيابه وأخذ هاتفه ودخل لينتظرها بالشرفه وأخذ يتصفح بهاتفه لحين مجيئها، وبينما هو يتصفح أحد مواقع التواصل أصابته الصدمة عندما قرأ الخبر الأكثر رواجا..

” جريمة في الحي الراقي.. الضحية راقصة تُدعى سماهر، والجاني مطلوبًا للعدالة “

_____________

يتبع…

حب_في_الدقيقة_التسعين!

• تابع الفصل التالى ” رواية حب فى الدقيقة تسعين  ” اضغط على اسم الرواية

أضف تعليق