Ads by Google X

القائمة الرئيسية

الصفحات

نوفيلا "نوتفكيشن" بقلم الكاتبة دينا إبراهيم (مكتملة)

نوفيلا نوتفكيشن كاملة بقلم الكاتبة دينا إبراهيم، حيث تستطيع تحميل أو قراءة النوفيلا كاملة جميع الفصول بالترتيب من الفصل الأول إلى الفصل الأخير مباشرة وحصرياً عبر مدونة كوكب الروايات.

نوفيلا نوتفكيشن بقلم الكاتبة دينا إبراهيم

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الأول 1

توقفت سيارة حديثة الطراز والمطلية باللون الوردي الصارخ بأن المالك ما هي إلا أنثى مدللة، ركنتها المالكة مباشرة أمام أحد المباني الفاخرة شاهقة العلو والمنتشرة في حي جاردن سيتي، ثم خرج منها شاب يشعر بالملل كما تشير عيناه العسلية المائلة للون الخضرة والناعسة.
حك الشاب الوسيم لحيته السوداء المزينة لوجه وتلقي رونقًا جذابًا يليق برجل في أواخر العشرينات من عمره، عكست ترجله من مقعد القيادة فتاة بشعرٍ أسود كثيف يحير ثُقل هيئته عين الرائي عندما يقارنه بمدى نحافتها التي تميل للضعف أكثر منها إلى الرقة، أغلقت السيارة بإحكام وتحركت كي تواجه الشاب مثبته عيونها السوداء الواسعة والتي يكاد يجزم أنها تزداد وسعًا مع كل لحظة توتر تمر بها.
لعق الشاب شفتيه وهو غارق في تفحص جاذبيتها الفريدة التي لا يستطيع تحديد سببها من الأساس، فهي ليست خارقة الجمال أو فاتنة الانوثة وتفاصيلها هادئو إلا أن هناك شيء داخل حدقتيها يجعله مهووسًا برغبته في الغرق بهما وكأنها تتوسل إليه لإنقاذها ولكنها أنهت حيرته بصوتها الرفيع المرتبك:

-زي ما اتفقنا إياك تعمل حاجة من دماغك وأي حركة أو رد فعل منك هيكون بإذني، مفهوم؟
أرتفع جانب ثغر "زيدان" في ابتسامه ساخرة بينما يميل برأسه ناحية اليمين يطالعها وهي تتحدث بتسلية كبيرة وكأنها قردً في حديقة الحيوان، فأغمضت جفونها في غيظ قبل أن تخبره في انزعاج:

-أنت فاهم أنا بقول أيه!

اتسعت ابتسامته على آخرها وكأنه سعيد بانه نجح في ازعاجها واتلاف أعصابها المحترقة إلا إنه فاجئها حين مد ذراعه حول كتفيها يقربها نحو جسده في سهولة مخبرًا إياها في نبرته الخشنة الرجولية أو ربما هي خشنة لأن المقيت لم يتحدث معها أو يفتح فمه بكلمة واحدة طوال الطريق، هزت رأسها كي تصب كامل انتباهها على كلماته:

-أنتي ليه محسساني أن عمر ما حد حضنك قبل كده.

جذت على أسنانها وهي ترمقه بنظرات محتقرة وداخلها يصرخ مجيبًا لأنه لم يسبق أن يضمها رجل من قبله قط، لكنها اكتفت بنزع ذراعه عنها محاولة إخفاء حمرة الخجل عن وجهها وتشتيته في نبرتها الغاضبة:

-أنت ازاي تتجرأ، احنا ما اتفقناش على كده!

لم يعيرها أي اهتمام بل أعاد ذراعه حولها وكأن شيء لم يكن ثم جرها معه نحو المبنى محذرًا:

-لا نهدى كده الله يكرمك، بلاش نفضح العلاقة القذرة دي من أولها.. ما تنسيش إني جوزك..
كادت تمطره بوابل من الشتائم بانه ليس زوجها بالفعل، لكن وصول صديقتها قطع توبيخها ما أن رصدتهما وتقدمت في فضول نحوهما مرحبة:

-ميرا واقفة ليه كده يلا بينا الشله كلها فوق....

قطعت حديثها وهي تنظر ل "زيدان" من أعلاه إلى أسفله مستفسرة:

-مش هتعرفينا ولا أيه؟

رسمت "ميرا" ابتسامه مهتزة فوق فمها قبل أن تجذب نفس عميق قائلة:

-أيوة طبعًا ليلو صاحبتي، زيدان جوزي!

نظرت لها الفتاة بأعين متسعة قبل أن تهتف في خضة:

-جوزك...no way مش مصدقه!

-أيوة احنا متجوزين عُرفي.

رفعت ميرا رأسها في عنجهية وفخر تحسد عليهما في حديث فاسد يتعجب له "زيدان" وكلتاهما يتحدثان عنه أمامه وعن الزواج العرفي وكأنهما يتحدثان عن حالة الطقس أو طبق اليوم!
اتسعت ابتسامه الفتاة وهي تتفحصه في وقاحة دون خجل قبل أن تحرك رأسها في قبول هامسة:

-اممم nice قطتنا كبرت وبقت naughty .

انتهت جملتها وهي تلتفت للتحرك مشيرة لهما لأتباعها وقد فعلا حتى وصلا شقة أخذ الدخان والموسيقى الصاخبة يتسابقان منها ما أن فُتح الباب، حافظ زيدان على تعابير وجهة الثابتة كي لا يظهر طبيعة مشاعرة المشمئزة من المشهد الدائر حوله من فتيات وشباب لا يتحاوزوا العشرين عامًا، يلهون ويتراقصون في مجون وكأنهم في إحدى دول أوروبا.
اشتدت أصابعه حول كتفها الرفيع يحاول كبح مشاعره الغاضبة عليها لتورطها مع هؤلاء ولكنه رفع أصابعه عنها في سرعة وكأنه يخشى كسر عظامها الرقيقة.
زاد غيظه وهو يتابع لمعة عيونها بالانتماء والمحبة وهي ترمي السلام هنا وهناك بين الشباب والشابات قبل أن تستقر على أريكة لشخصين مشيره له بعينيها كي يجاورها.
رسم ابتسامه هادئة على وجهة ثم جلس يصطنع التسلية وعدم المبالاة بما يدور حوله حتى تدخلت تلك المدعوة ليلو بانبهار مقزز وكأنها ربحت اليناصيب:

-أسمحولي افاجئكم واقولكم مين ده، ده زيدان ... يبقى جوز ميرا !

-نعم!

علا صوتً ذكوري واحد فوق الجلسة من بين شهقات الجميع الصادمة وتمتماتهم الغير مصدقة، فارتفع حاجب "زيدان" و انتبهت حواسه لهذا الشاب الجالس أمامه يطالعه في حقد جلي للجميع ما عدا الحمقاء المبتسمة في فخر بجواره.

-اهلا أنا زيدان جوز ميرا.

حرك الشاب رأسه وكأنه يستجمع أفكاره ويخرج من صدمته قبل ان يبادله التحية:

-اهلا، أنا رامي صاحب ميرا.

على الفور بدأت عجلة التفكير تدور في عقل "زيدان" وهو يشتم رائحة الغيرة المقطرة من حروفه ولكنه تجاهله وجلس بأريحية يتابع نظرات الفتيات إليه.
ابتسم لنفسه في غرور فهو شاب يملك وسامة مصرية أصيلة وله عيون ناعسة قادرة على سرقة قلوب الفتيات وفي الواقع فمعظم فتيات الجيل الجديد فارغات في التأسيس الأبوي أو التربوي بمعنى صحيح وغارقن في العلاقات الجانبية بشكل لا يتركه يبذل الكثير من الجهد من أجل إيقاعهن في شباكه.
رمق البلهاء المبتسمة بجواره والتي تحاول إلصاق كتفها به وكأنها بذلك تصك ملكيتها عليه، ولولا أنه يشعر بدمائه تغلي داخله لخرجت منه ضحكات عالية على سخافتها.... أيفترض أن يكون هذا التصرف وقحً من نوع ما؟ ... حرك رأسه في تعجب من سذاجتها ودون تفكير رفع ذراعه يحيطها به من جديد متجاهلًا تصلبها واتساع عينيها وهو يقربها منه قبل ان يميل على أذنها هامسًا:

-اضحكي كأني بقولك حاجة، المفروض المتجوزين بس هما اللي يقولوها.

احمرت وجنتها في خجل رغمًا عنها فارتفع حاجبة وهو يهمس:

-الابتسامة؟

اهتزت شفتيها في شبة ابتسامه وانخفضت عينيها تشعر بخجل شديد من هذا الاقتراب الحميمي أمام الجميع.
حمقاء غريبة الأطوار تكاد تفقده ما تبقى من صوابه بتصرفاتها المتناقضة وتجعل مهمته في تحليل تصرفاتها وفهم مداخل شخصيتها مهمة شبة مستحيلة، رفعت عيناها المرتبكة نحوه ترمقه في توسل كي يرحمها من اقترابه ولكنه وجد نفسه يفعل العكس بإحكامه لذراعه حولها بينما يعدل جلسته مستندًا بظهره للخلف ضامً لها جواره وكأنها زوجته بالفعل.
حسنًا ... هي وضعت البداية وما هو إلا الناهي في تلك الحكاية!...
فكر في خبث وهو يسترجع بداية الجنون في حكايتهم.

***
-أنت طلعت دماغ يا زيدوو المنشور قلب الدنيا ولف الفيس بوك كله!

قال "محمد" صديقة بينما تابع صديقهم الثالث "كيرو" في مرح:

-اومال أيه دماغ بصحيح، إلا قولي يا زيدوو عملتها ازاي دي!

ضحك "زيدان" على حماسه أصدقائه وكأنه مخترع الذرة وليس منشور على موقع للتواصل الاجتماعي ... لكنه ابتسم في غرور سعيدًا أن المنشور لاقى اعجاب مئات الآلاف بشكل خرافي أنبهر به أصدقائه المخابيل.

-الحقوا ده في جريدة إلكترونية كاتبة عننا ... قام شاب أسمه زيدان بتنزيل منشور يجمع صور له ولعدة من أصدقائه وقد ارفق ممازحًا على صورة صديقة الاول الحقي واحجزي عرض لفترة محدودة باد بوي أوي .. وسيم .. عربية،
أما عن الصديق الثاني فأكمل ممازحًا جنتلمان .. معسول الكلام...هينفعك أوي في الفسح مع صحابك الكابلز ... أما عن صورته فكتب بكل غرور....

قاطع زيدان "محمد" في ملل وانزعاج :

-ما خلاص يا ابني ما أنا اللي ناشر البوست وحافظه.

-ماشي يا سيدي زعق براحتك، بردو هسامحك.

ضحك الأصدقاء ليشاكسه "كيرو" بقوله:

-طبعا لازم تسامحه بعد كمية البنات اللي دخلت تشتري خدماتكم فعلًا!،
احنا اتسيطنا أوي يا زيدوو يا عم اعمامنا كلنا!

حرك زيدان رأسه لليمين واليسار في يأس ثم أخبرهم:

-لا نركز مع بعض كده عشان ربنا يكرمها معانا ويكملها على الخير البوست نزل كدعاية وشوو قبل ما نفتح الكافية بتاعنا احنا التلاته،
وياريت مننساش ان البيه متجوز والتاني خاطب وشكرًا.

نظر الثنائي لبعضهم البعض نظرات ذات مغزى قبل أن يرمقوا زيدان في حنق يترجمه محمد بقوله المنزعج:

-فاهمين، عايز تقولنا نلم الدور وما نلفش على كل البنات دي، عايزنا نرفص النعمة يا جاحد!

علت ضحكات "زيدان" وقرر تجاهلهم وهو يمسك هاتفه يتنقل بين اشعاراته الكثيرة ولكن إشعار واحد فقط نجح في جذب انتباهه أكثر مما ينبغي، اتبع فضوله وفتح الرسالة المرسلة من فتاة اسمها "ميرا".
والذي حارب لكي يبعد عيناه الشاردة في تفاصيل ملامحها الظاهرة من صورتها المصغرة أعلى غرفة الدردشة بأعجوبة وداخلة شعور بانه يعرفها، ثم انتقل يقرأ ما ارسلته في ذهول، حرك رأسه في صدمه يحاول استعادة انتباهه المشتت وأعاد قراءة كلماتها المريبة:

-محتاجاك تمثل انك متجوزني عرفي لمدة ست شهور وهديك مبلغ كبير جدا فوق ما تتخيل.

مالت شفتاه للأسفل في اشمئزاز متمتمًا:

-أيه الطلب الحقير ده، يعني مش أمثل إني متجوزها لا أمثل إني متجوزها عرفي، أكيد ده تهريج مش بجد.

أنهى همساته وهو يتجه مباشرة لفتح الصفحة الشخصية الخاصة بها وتلقائيًا تحرك أصبعه لفتح وتكبير صورتها الشخصية، تنقل بنظراته المتفحصة كأي رجل في العالم فوق جسدها النحيف المخفي تحت ثوب مخملي فضفاض بلون السكر ورقيق للغاية يستقر نهايته أسفل ركبتيها مباشرة ويبدو ملمسه مريحًا للجسد والعين على حد سواء.
وما ان انتقل نحو وجهها الرفيع ذو الذقن المدبب نوعًا ما، حتى تعلقت عيناه بعدستيها السوداء الواسعة، وقد أسرته الألفة فيها ونظرتها المبهمة المحملة بالعديد من المشاعر فبالرغم من وجود ابتسامة خفيفة مزينة لثغرها الصغير إلا أنها تخفي في عيناها خوفً أو ضعفً دفين أنطلق كالسهم مهاجمًا صدره مثيرًا مشاعر غريبة عنه تدفعه دفعًا لحمايتها.
ضاقت عيناه وهو يحاول تبين ملامحها أكثر والتحقق منها بينما يؤكد له عقله رؤيتها من قبل ومعرفته بها بشكل أو بأخر، عض على شفتيه يحاول عصر أفكاره ليتذكر أين رءاها من قبل ولكن دون جدوي.
اتجه لقراءة بياناتها المتاحة والتقليب بين ألبومات الصور الخاصة به في عزم شديد لمعرفته هويتها حتى انفرج فاهه مصدومًا وهو يتعرف على صورة والدتها !
إنها العمة "أماني" الحفيدة الكبرى للشقيق الأكبر لجده رحمة الله، حمد الله في سرة انه لم يغرق في معضلة ارتباطها الأسرى به فهي قريبته من بعيد ووالده أخبرهم بمناداتها "عمتي" في كل لقاءاتهم العائلية القليلة..
من سيخدع؟ فتلك اللقاءات تقتصر على حالات الوفاة وحفلات الزفاف فقط.
حرك رأسه في ذهول وهو يتذكر أخر لقاء منذ ثلاث أعوام تقريبًا كان يوم وفاة أحد أقاربهم، يومها رأي تلك ال "ميرا" ولكن شتان بين هيئتها في تلك الصورة وهيئتها يومها فقد كانت صغيرة بالكاد تتعدى السادسة عشر عامًا وشديدة النحافة تختبئ أسفل قبعتها.
كانت منزوية في أحد المقاعد كعادتها كلما تصادف ولمحها في أي تجمع عائلي وكأنها تحاول عزل نفسها عن نظرات الشفقة والتنمر من حولها.
تذكر يومها كيف ثار غضبه عندما نعتتها إحدى الفتيات بعود الكبريت وكيف ظهرت الربكة على محياها وهي تفتعل انشغالها بهاتفها وعدم سماعها لهم بل إنها تمادت بأن وضعت سماعات الأذن لتختفي أكثر وأكثر في ذاتها بعيدًا عن الجميع.
كما تذكر كيف كاد يقتلع لسان ابن خالته عندما تحدث معها ولم يجد منها ما يجاري حديثه فرماها بوصفً بشعًا كبشاعة قلبه ولولا تدخل والده على الفور وإنهائه للأمر قبل أن ينتبه الأخرون لكسر صفي أسنانه بقبضته.
لطالما كانت الصغيرة تناشد بقعة داخلة وكأنها تطلب منه الحماية والأمان بسوداويتها الواسعة وكأنها تائهة بين بقاع العالم وتنتظر أن يرشدها هو.
ارتسمت ابتسامه طفيفة على فمه وهو يتذكر التقاطه لعيناها الواسعة والتي كانت أكثر وسعًا آنذاك نتيجة لنحافتها المفرطة، كيف لم يتعرف عليها بل كيف لم يميز مشاعره الدفاعية الوليدة داخله كلما رءاها وتلك الرغبة في الاحتواء التي تقدر هي وحدها على إشعالها في صدره.
اختفت ابتسامته وحنينه للماضي وسرعان ما تبدلت وملء العبوس الفراغ في منتصف جبينه وهو يتذكر محتوى رسالتها!

-لا هي أكيد عارفة إني قريبها وبتهزر معايا، مفهاش كلام تاني.

تمتم للهواء من حوله فأخرجه صوت "كيرو" الذي يلصق وجهه في هاتف زيدان متطفلًا:

-هي مين دي يا نمس؟

أغلق "زيدان" هاتفه على الفور وهو يدفع صديقه موبخًا:

-يا انسان يا بارد خليك في حالك.
وقف مغادرًا إلى أحد الغرف ووجد نفسه يراسلها مجيبًا:

"عرفي مرة واحدة، طيب اخدعيني الأول."

أتاه ردها الجاف المتجاهل لمزحته سريعًا وكأنها تنتظر إجابته على أحر من الجمر:

"ولمدة ست شهور لو أنت مهتم، قابلني بكره في ".." الساعة أربعة العصر."

لعق شفتيه وهو يفكر في حيره وارتباك لماذا لا تبادله المزاح أو تخبره بأنها تعلم هويته، قرر مسايرتها فالأمر به خدعة لا محال ف "ميرا" وذلك الطلب المشؤوم لا يجتمعان سويًا في جملة واحدة، عض شفته وهو يحرك أصابعه فوق الهاتف مرسلًا:

"اتفقنا."

أغلق الهاتف وعقله منشغل بما سيحدث في الغد من ألاعيب.

***

رمى أحد الأشخاص بجسده إلى جواره مخرجًا إياه من ذكرياته، فنظر "زيدان" إلى الفتاة الجالسة جواره مبتسمه بشكل واسع قبل أن تمد كفها نحوه قائلة:

-هاي، أنا ليلو تاني نورت شيلتنا.

رفع يده عن كتف "ميرا" ليلتقط كف "ليلو" غريبة الأطوار قائلًا في نبرة مفعمة بالمغازلة:

-زيدان، ومنورة بيكي صدقيني.

-ميرا عايزك.

التفت "زيدان" نحو "رامي" الذي مد كفه يلتقط كف "ميرا" الصغير بينما يحدق في عينيه متحديًا في وقاحة منتشلًا إياها من جواره ثم اتجه معها إلى داخل الشرفة، تجمد "زيدان" في مكانه لحظات ثقيلة قبل أن تغلي الدماء في رأسه يحاول القيام برد فعل سريع فهو لن يترك قريبته هائمة بين الفاسدين أمام ناظرة.
وقف متجاهلًا "ليلو" التي كانت منغمسة في حديث معه وانطلق خلفهما يرافقهما في الشرفة، التقط وجوده "رامي" اولًا وكاد يجزم أنه رأى الحقد يتناثر من مقلتيه، هذا الفتى لديه مشاعر نحو الحمقاء.

-صدقني زيدان حد كويس.

التقت أُذُنه إجابتها التي لابد أنها إجابة على شكوك "المدلل" في شخصه النبيل .. فكر ساخرًا ثم ابتسم في غرور يرميه بنفس نظراته المتحدية قبل أن يمسك بأصابع "ميرا" متجاهلًا الارتعاش الطفيف التي تمالك أطرافها، ثم قال في نبرة هادئة:

-ميرا، يلا بينا.

نظرت له "ميرا" متعجبة اقتراحه ولوهلة شعر برغبه في صفعها، اذا هي لا تحضر فقط وسط هؤلاء الحمقى بل تسهر لأوقات غير مفترض أن يسمح بها لفتاة وبالتأكيد ليس فتاة في مثل سنها، اخرجه من سياق أفكاره صوت "رامي" المنزعج:

-الساعة لسه عشرة، ميرا متعودة تسهر معانا ووالدتها عارفة.

رماه "زيدان" بنفس ابتسامته المستفزة وهو يخبره بنبرة ماكرة:

-ومن قالك إنها هتروح بيتها، ولا أية يا روحي؟

كاد يبتسم حين رمقته في حدة على تدليله لها فقد علقت أكثر من مرة مؤكدة كرهها لهذه الكلمة.

-أه .. أيوه .. فعلًا، معلش يا رامي مضطره امشي.

وجهت حديثها لرامي بصوتها السعيد أكثر من اللازم قبل أن يجرها "زيدان" خلفه للرحيل، فمالت عليه في طريقهم للخارج هامسه:

-أنت بتعمل أيه بالظبط؟

-هاخدك وأروح عشان عندي شغل الصبح.

-أفندم!

نظرت له وكأنه مجنون ولكنها صمتت مبتلعة اعتراضاتها حتى خرجا من الشقة ومن المبنى كليًا ووصلا إلى داخل السيارة، وقتها التفتت نحوه هاتفه من بين أسنانها في لهجة مستنكرة:

-ممكن أفهم أنت ازاي تتصرف من دماغك.
مط ذراعيه قبل أن يعدل مقعد السيارة للخلف بشكل أكثر أريحية مجيبًا في تهكم:

-في العادة الناس بتتصرف من دماغها، لكن لو أنتي غير مقدرش أجادلك.

ارتفع ثغرها في شبه ابتسامه مستهجنه تنظر له بعدم تصديق قبل أن تردف:

-اه انت رايق وبتستظرف وأنا محروق دمي،
أنت كان المفروض تقضي وقت جنبي من سكات وتسمع كلامي وبس مش تتصرف من دماغك!

-طيب وأنا عندي شغل الصبح وما ينفعش أسهر أكتر من كده.

عقدت ذراعها أمام صدرها ثم رددت في حدة تتناقض مع حجمها الضئيل:

-محدش طلب منك تسهر، بعد كده لو مشغول، امشي لوحدك ما تجرنيش وراك أنا ملحقتش أقعد معاهم!

دوت ضحكته المكان ما أن أنهت تذمرها وكاد يقسم وهو يراقبها تقبض أصابعها أنها تحارب كي لا تصفعه على وجهه ولن ينكر أن داخلة جزء صغير تمنى لو تفعلها كي يرد لها الصفعة صفعتين علها تنعش خلايا عقلها المحتضرة، ثم قال ساخرًا يحاول إخفاء نواياه الغامضة خلفها:

-حلو وبما أن وقت اللعب انتهى وشوفت أصحابك اللُذاذ طحن، تقدري تسمعي شروطي في اللعبة.

ارتفع حاجبها الأيسر وهي ترمقه بريبه متسائلة:

-شروط أيه، احنا ما اتفقناش على كده.

-ما احنا بنتفق يا روحي.

-ما تقوليش يا روحي!

-اسمعي ما تقاطعنيش!

هتف في حدة أكثر من اللازم لكنها كانت كافية لصدمها وغلق فمها فأستكمل مؤكدًا جديته:

-ممنوع منعًا بتاتًا تيجي هنا أو تتلمي مع أصحابك دول وأنا مش موجود معاكي.

رفع أصابعه في الهواء يوقف فمها المنفرج بالتأكيد للاعتراض ثم استطرد:

-ممنوع تقفي مع أي راجل غيري أو أنك تسمحي لحد يمسك إيدك أو يحط أيده على أي مكان في جسمك طول ما انا في الصورة.

-لا أنت اتجننت رسمي، فوق شوية أنت مش جوزي بحق وحقيقي.

-واحد صدقيني واحد، طالما أنتي أرتبطي بيا قدامهم يبقى الموضوع مفيش نقاش فيه.

-وأنا مش موافقة على التهريج ده.

حرك رأسه في تروي قبل أن يخبرها في غرور وحزم :

-تمام يبقى الاتفاق ملغي.

-أفندم يعني أيه ملغي، بعد ما شافوك واتعرفوا عليك عايزهم يقولوا اني كنت بسرح بيهم أظهرك مرة في حياتي وبعدين تختفي.

صرخت في حدة لا تصدق وقاحته لكنه أصر على موقفه مجيبًا في لامبالاة ونبرة باردة جعلت رأسها على حافة الانفجار:

-والله هو ده اللي عندي.

-ومقولتش ليه من الأول.

سألته في حقد وهي تطالعه بعيونها الواسعة المشعة بغضبها عليه فأكتفى بتحريك كتفه مردفًا:

-المفروض دي بديهيات مش محتاج أقولها.

ساد الصمت بينهما قليلًا وهو ينظر خارج النافذة يعلم في قلبه انها ستخضع له وحاول كبح ابتسامه حين سمع زئيرها الخافت قبل أن تخبره:

-ماشي يا زيدان أي شروط تانية؟

لمعت عيناه وهو يرمقها بنظراته الوقحة من أعلاها لأسفلها:

-الطاعة يا روحي.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الثاني 2

تجاهلت "ميرا" رنين الهاتف حين سطع اسم "زيدان" فوق سطح هاتفها الملقى بإهمال على المقعد جوارها، فابتسمت وكأنها تشفي غليلها بتجاهله متمته:

-أنا هوريك الطاعة يا "روحي".

مطت حروف دلاله الشهير لها والذي يستفز حواسها، زفرت حانقة عندما عاد الرنين من جديد لكنها همت ترفعه بأصابع مرتعشة ما أن قرأت اسم والدها.
اختفى المرح من على محياها ولبرهه كادت تنهار طقوس استعداداتها النفسية التي تستغرق من يومها ساعات طويلة حتى تكسر قوقعتها وتتمكن من مواجهة العالم الخارجي.
كادت تستلم لمشاعرها الحقيقة التي حرصت على دفنها عميقًا وتنهمر في البكاء حسرة على غياب هذا الوالد من حياتها، كان يتملكها رغبة كبيرة في الانتقام منه وعقابه على إهماله لها شهرً كاملًا دون أن يجري اتصالًا واحدًا يطمئن فيه على أحوال فتاته.
لكنها كالعادة وجدت نفسها تنساق وراء رغبة الطفلة الصغيرة المفتقدة لصوت والدها، فتنهدت في استسلام متأكدة أنه سيختلق أي سبب لانتقادها إلا أنها أجابته على أي حال:

-أيوة يا بابا.

-اسمها أيوة؟ هو ده الاحترام اللي امك بتعلمه ليكي عشان تتعاملي بيه معايا،
المفروض أني بتعب وأبعتلك آلالافات كل شهر تعيشك ملكة، عشان في الآخر تتكلمي معايا بالطريقة دي؟

-أسفة مكنتش أقصد، حضرتك فهمتني غلط.

رددت سريعًا في لهجة غلب عليها الحيرة والارتباك لا تصدق سرعة التقاطه للنقد وكأنه يتصل فقط لتوبيخها، قطع "شريف" أفكارها بصوته الغليظ:

-خلاص مش عايز اتكلم في الموضوع ده، على العموم أنا حبيت أقولك أن مصروفك اتحول على حسابك، وأن مصاريف الجامعة وصلتلهم،
وحبيت كمان أطمن عليكي بس واضح أنك كويسة.

انقطعت كلماتها المتلهفة ورغبتها في تبرير الموقف بصوت "جلال" مساعد والدها الشخصي الذي صدح بجواره يعلن وصول أحد السفراء ثم اتبعه صوت والدها المنشغل:

-مضطر أقفل حاليًا، وبطلي تقابلي شوية الفاشلين اللي ملموه عليهم، مش كل مكالمة هكرر تحذيري ليكي.

ارتعشت شفتاها السفلى غير قادرة على التنفس ما ان أغلق المكالمة، هربت دموعها الحارة لدقيقة مرت عليها طويلًا قبل أن تمرر أصابعها بعنف فوق وجهها تجففها.
تكره ضعفها وعدم قدرتها على مواجهة أبيها بمشاعرها وهو بؤرة علتها، فبرغم أنها على الطريق الذي رسمته لنفسها من أجل التمرد والتحول من خامة مثيرة للشفقة والتنمر إلى أخرى عبارة عن كتلة من الثقة قادرة على سرقة الانتباه والاهتمام ممْن ترغب في اهتمامهم .... إلا إنها تفشل في عبور هذا الجسر مع أهم شخص هي متعطشة لاهتمامه.
شعرت بدمائها تغلي لأنها متأكدة ان ما دفعه لمحادثها هو رغبته في تحذيرها من أجل عن اصدقائها، سببًا أخر لتمردها وتعلقها بهم فكرت في سخرية فكلما تمردت نجحت في جذب انتباهه المسروق عنها.
حركت رأسها تشعر بالخيبة لا تصدق أن له عين للمطالبة بابتعادها عنهم، بعد أن وجدت نفسها بينهم وشعرت أخيرًا أنها إنسانة طبيعية، بعدما عانت لأعوام كثيرة وتخبطت وحدها بين اضطراباتها النفسية والجسدية وانطواءها عن العالم الخارجي، بعد صراع مضني مع الرهبة والخجل من البشر وصراعً أشرس ضد نحافتها المفرطة والتي كانت عامل اساسي في وضع هذا الحاجز الوهمي بينها وبين التعاملات الانسانية بشكل أصبح شبة مرضي.
وفوق هذا وهذا كان عليها تحمل فراق والديها اللذان لم يتواصلا مع بعضهما البعض لأكثر من تسعة أعوام، من يصدق أن شخصان تزوجا ولديهم أبنه من تلك الزيجة قادران على بغض أحدهم الأخر بهذه الطريقة لدرجة عدم قدرتهم على التواصل الصوتي!
وفي النهاية كانت هي ضحية تلك الفجوة العميقة بينهما، والآن يريد أن يتذكر أنه والدها كي يتمعن في إفساد فرصتها لاستعادة الذات، بإبعادها عمن أصبحوا محور حياتها ولم يبخلوا عليها بالاهتمام والانتباه لما يقرب العام، هؤلاء من كانوا حافزًا لها كي تتسلخ من قشرتها القديمة.

-هينفعني أصل هو وقتها.

تمتمت مغتاظة من عجرفته، رافضة الخضوع لأنها فقط من ستتضرر، فقد ذاقت وحدها مرارة محاولاتها الفاشلة في لملمه شتات النفس المبعثرة دون اللجوء لطبيب نفسي لأنها لا تحتاج سببً جديدً للتنمر، هي قوية قادرة على مواجهة الحياة، بللت شفتيها تسترجع عصارة الفيديوهات والقراءات السرية التي وصلت لها عن طريق الأنترنت وساعدتها في الوصول إلى ضالتها المنشودة وساعدتها في المرور من تلك المرحلة.
فهي الآن قادرة على الادعاء بأنها شخصًا أخر، أكثر ثقة، قادرًا على لفت انتباه من حولها في طريقة تغذي طاقتها الإيجابية.
أخرست بشكل كلي ذلك الصوت القلق والخافت داخلها بأنها تغرق في دائرة أوسع مما كانت عليه وقت اضطراباتها، حركت رأسها لتوازي حركة سبابتها المشيرة بالنفي للهواء أمامها، فهي ليست مريضة وترفض التفكير بكونها مريضة بأي مرض سواء نفسيًا أو جسديًا.
لا ... هي مجرد فتاة متعطشة لاهتمام أبوين غارقيين في الأنانية ورغباتهم الشخصية معتقدين ان كل الأمور تحل بالأموال، هي متعطشة للحياة وتجربة كل ما ضاع منها، كما إنها اكتسبت ما يقارب من العشرون كيلو جرامات فوق وزنها الضئيل،
فعن اي مرض تتحدثين!
أنتِ محاربة نجحت في إيجاد الذات .. نعم هذا هو الأمر تمامًا.
هكذا رددت داخل عقلها أكثر من مرة منهيه اضطرابها اللحظي بهزة مؤكده من رأسها فأن كانت مريضة إذا كل الممثلون مرضى!
جذبت أنفاسً عميقة متتالية وهي تتمتم لنفسها بكلمات تغيبها عن تخبطها الغير محسوب، ومرت دقائق عليها قبل أن تستعيد شتات نفسها ناظرة إلى المرآة أمامها تعاين احمرار عيناها المنتفخة ووجها، فتحت حقيبتها على عجلة في غضب لأنها لم تنتبه لبكائها المستقر، أخرجت مناديلها الورقية تجفف بقايا دموعها وحمدت الله على استخدامها مساحيق التجميل المضادة للماء فقد حسبت حساب قضاء اليوم على حمام السباحة مع رامي وريناد.
مررت نظرها على وجهها مرة أخيرة ثم أومأت رأسها راضية عن الشكل النهائي لها، ترجلت من سيارتها توصدها وتوصد معها ما حدث للتو.
وفي لحظة أسرع من طرفة العين كانت منتقله إلى عالمها الخاص بشكل درامي وكأن شيء لم يكن، عدلت حقيبتها الحمراء المتماشية مع لون ثوبها البسيط السماوي وأزراره الحمراء، ابتسمت لنفسها في ثقة فرغم توترها من تلك التجربة الجديدة التي على وشك السير فيها والتي سينتج عنها ظهور معظم جسدها النحيف للجميع عندما ترتدي ثوب السباحة الجديد المكون من قطعة واحدة، والتي كانت حريصة على توفيق لونه مع لون أزرا ثوبها الحمراء كنوع من الأناقة.
عدلت صدر الثوب كي لا تظهر بذلة السباحة منه وقد اقترحت عليها "ريناد" ذلك أثناء رحلة تسوقهما سويًا، ابتسمت سعيدة انها وجدت شخص يهتم بها فعليًا متذكرة كيف نصحتها بضرورة التأقلم وإثبات تواجدها داخل دائرتهم لأنها أصبحت امرأة ناضجة وعليها خلع بقايا الطفلة الخجلة بداخلها فهي على مشارف عامها العشرين ولا تزال بلا تجارب في الحياة خاصة العاطفية منها!

-أنا حلوة ونضجت.

تمتمت تحفز نفسها على الإقدام مسترجعه رد فعل "ريناد" المنبهرة حين رأتها بثوب السباحة ومديحها لها بانها تشبه إحدى عارضات الأزياء ولكن بالطبع دون السيقان الطويلة.
ابتسمت ابتسامه بلهاء فهي قصيرة بالفعل وتعتبر أقصر أصدقائها، كما انها أقصر من "زيدان" بطوله الكبير الفارع مقارنة بها، فهي بالكاد تصل لحافة كتفه حتى عندما ارتدت الكعب العالي يوم لقائهم في الأسبوع الماضي، شعرت بقشعريرة تسري في جسدها وهي تتذكر عيناه الناعسة في نعومه رغم حده ملامحه لكنها تفضل ارجاعها إلى ذلك النسيم الطفيف الذي يداعب طرف ثوبها المستقر أسفل ركبتيها كما تفضل معظم أثوابها.
وقفت لحظة كالبلهاء متسائلة لما بحق السماء تفكر في ذلك الوغد المتكبر؟
حركت رأسها مرات متتالية كي تستعيد انتباهها للحاضر رافضة التفكير في ذلك المجنون الذي بات يحاصرها منذ دخل حياتها ويحادثها عشرات المرات يوميًا وكل هذا في أسبوع واحد ومبرره الوحيد هو التعرف عليها لاستكمال كذبتهم الخاصة.

-شكلك هتكون أخطر كدبة وقعت فيها.

غمغمت مخاوفها للهواء ثم التفتت حولها في خجل خشية أن يسمعها أحد ويظنها مجنونه تتحدث مع نفسها.
دلفت "ميرا" داخل أحد أشهر الأندية في القاهرة والتي تمتلك عضوية دائمة به، مكان لطيف تستمتع بوقتها كثيرًا بين جدرانه فرغم أنه ليس النادي الوحيد الذي لديها عضوية به، لكنه الوحيد الذي نادرًا ما يرتاده رجال السياسة والسلك الدبلوماسي أمثال والدها ووالد صديقها رامي وحال معظم أباء أصدقائها.
جلست على أحد الطاولات الفارغة أمام بركة السباحة بعد أن جالت بعينيها باحثة عن رفاقها ولم تجدهم، رفعت هاتفها لمحادثتهم فصدح اسم "زيدان" من جديد، زفرت في حنق وهي تنهي الرنين الاستفزازي، وكادت تجذب شعرها في جنون حين أتاها صوت اشعار جديد تعلم هوية مرسلها، تنهدت وهي تقرأ كلماته:

-مش بتردي ليه، أنتي فين؟
حركت أصابعها فوق الشاشة مقررة الإجابة والانتهاء من فضوله:

-في المحاضرة مش عارفة أرد.

بللت شفتيها وهي تعيد قراءة كذبتها الصغيرة ولكنها لن تسمح لشخص لا تعرفه بالسيطرة عليها والتحكم بها، وضعت الهاتف من يدها حينما لم يصلها رسالة منه راضية بأنه ابتعد عنها اخيرًا.

****

وقف "زيدان" يتابع تلك الجالسة أمامه دون أن تنتبه لوجوده، لكنه أبعد نظره عنها لحظة والتفت للرجل اللطيف غليظ الفهم والذي أضاع من عمره ساعتين، شرح فيهما تفاصيل العقود بين النادي وشركة الخطوط الهاتفية التي يعملها بها كمندوب بشكل مؤقت حتى يفتتح مطعمه الخاص.
أعاد نظرة نحوها من جديد وارتفع حاجبه عندما لاحظ الفاتها كثيرًا حولها وكأنها تنتظر شخصًا ما، ضاقت عيناه في شك ثم رفع هاتفه يحادثها، وقبض فكيه بقوة عندما أنهت المكالمة دون إجابه وسرعان ما اتبعتها برسالة:

-في المحاضرة مش عارفة أرد.

خرجت منه ضحكة صغيرة غاضبة خالية من المرح ولكنه قرر تركها وشأنها للآن فقد رأت منه ما يكفي طوال الأسبوع الماضي، حافظ على ابتسامته الماكرة أثناء تحركه للمغادرة.
اه لو تعلم ما اوقعت نفسها به حين طلبت منه المساعدة... ابتسم لنفسه متمتمًا في سره ... هي طلبت المساعدة والمساعدة بالتأكيد سيمنحها على طريقته الخاصة!
عاد للواقع عندما لمح "رامي" يدلف من باب النادي وشعر بالدماء تغلي في عروقه،
المخادعة الصغيرة تتحايل على شروطه إذًا!
توقف "رامي" بمنتصف الطريق بينما يخبط كفه فوق رأسه وكأنه نسى غرضًا ما واستدار متجهًا للخارج، بالتأكيد نحو سيارته فكر "زيدان" وهو يعود أدراجه للداخل مقررًا إنهاء تلك المهزلة.
ضري الأرض في خطوات كبيرة ثابتة يحاول من خلالها إفراغ شحنة كبيرة من الغضب الذي يتملكه، وفي لحظات قليلة كان يقف أمامها، تابع صدمتها حين اتسعت عيناها وكادت تخرج من مقلتيهما لرؤيته، كان ليبتسم على رد فعلها بكن النار المشتعلة في صدره تعوقه.

-زيدان، أنت بتعمل أيه هنا؟

-المفروض ده سؤالي، مش كنتي في محاضرة تقريبًا.

جاء رده سريعًا محمل بالسخط مع صوته الرخيم، فتلعثمت مبررة وهي تفرك خصلاتها السوداء خلف أذنها:

-أه محاضرة .. ما هي خلصت... وأنا جيت أخد قهوة من هنا.

حك ذقنه في خيبة أمل على محاولتها الفاشلة في المماطلة، واستمرارها في اختلاق الكذب لكنه يمد كفه نحوها قائلًا في نبرة جادة لا تقبل النقاش:

-قومي معايا من سكات، قبل ما يجي لأن ساعتها رد فعلي مش هيعجبك.

راقب طرف أسنانها تتعلق بشفاها في حيرة وتوتر يتناقض مع حمرة الغضب المغطية وجهها ولكنها كانت ذكية بما يكفي لان تذهب معه دون مقاومة.
جذبت "ميرا" حقيبتها ساخطة عليه لكنها تركته يضم كفها الصغير بين أصابعه الخشنة دون مقاومة مقررة تأجيل ما تشعر به من غضب للوقت المناسب ، ارتبكت وهدأت حركة خطواتها حينما اقتربت من المخرج وتقابلت عيناها مع عيون رامي المتسائلة والتي تظهر صدمته جلية بسبب وجود "زيدان" فقد كان حريصًا على إخبارها برغبتهم في الاجتماع معها دونه لأمرًا هام.
كادت تبكي من شدة الإحراج حين تحرك زيدان في خطواته الواسعة مجبرًا إياها على استكمال الحركة شبة الركض خلفه دون أن يقف مجرد لحظة واحدة اعتبارا لوجود "رامي"، رغم أنها علي يقين من تواصل أعين الأثنان في تحدى ذكوري بحت وكأنه يصك ملكيته عليها بدون أي حق!

-عربيتي اهيه.

هتفت عندما دفعها نحو سيارته ولكنه تجاهلها وهو يجبرها على الجلوس بالمقعد قبل الابتعاد والتوجه لتولي عجلة القيادة.

-ممكن أفهم اللي أنت ليه مُصر تدمر حياتي؟

هتفت ما أن تحرك بالسيارة ولكنه اكتفي بأن وضع أصبعه فوق فمه في هدوء وكأنه لم يفقدها ماء الوجه للتو أمام أصدقاءها!

-أنت إنسان مستفز بلوة وبليت نفسي بيها!

-حلو لو تحبي ممكن أرجع حالًا وأقول لحبايبك الكلمتين دول.

وضعت كفيها فوق وجهها في الوقت المناسب كي تخفي دموع الغضب التي تفر من عيونها رغمًا عنها، لا تصدق ما يفعله هذا المخلوق بها وبجدرانها المشيدة حول نفسها وكأنه ينبش لإخراج شخصها الحقيقي!
نظرت بعيدًا عنه تخفي وجهها الباكي مقررة الصمت وتجاهله على أمل أن ينتهي هذا الكابوس قريبًا.

*****

شعرت ببعض الخوف عندما جرها خلفه أمام أحد المولات ومنها إلى مبنى بوابته مغطاه بأقمشة يبدو وكأنه تحت الإصلاح فتساءلت في ريبة:

-أيه المكان ده؟

-ما تخافيش مش هقتلك.

-ظريف جدًا، ممكن أفهم أيه المكان ده وبنعمل أيه هنا؟

قالت مدعية الهدوء بينما قلبها ينتفض من شدة التوتر والخوف فالحقيقة انها لا تعلم عن "زيدان" الكثير سوى إنه من مشاهير التواصل الاجتماعي نسبيًا، فربما هو قاتل متسلسل أو مغتصب دنيء يختبئ أسفل وسامته وعيونه الناعسة!
شهقت خارجة من عبث أفكارها حين اغلق الباب خلفهما والتفتت تواجهه وجهًا لوجه وكأنها تخشى أن توليه ظهرها بينما تتحرك للخلف متسائلة:

-أنت بتقفل الباب ليه؟

-وهسيبه مفتوح ليه؟

سألها في ملل وكأنها حمقاء فتشدقت معلله:

-عشان ما يصحش!

-لكن يصح أنك تكذبي على جوزك؟

سألها وهو يتقدم منها في خطوات بسيطة لكنها ارعبتها فهتف في إصرار:

-أنت مش جوزي!

-مش هتفرق وأنا حذرتك أن طول ما اسمك مربوط باسمي يبقى ممنوع تقابلي راجل غريب من غيري حصل ولا لا؟

-أنت عارف أن رامي مش راجل غ ...

-أنا عارف أنه مش راجل المهم أنتي تعرفي.

قاطع باقي جملتها في سماجة ملصقًا ابتسامته الصفراء فوق فمه فتأففت حانقة على تصرفه الطفولي وودت لو تمحي تلك النظرة المنتصرة فأردفت مستهجنة فعلته:

-أنت بتلاعبني بالكلام ليه؟

-عايزة ألعبك ازاي وألاعبك؟

همس وهو يمرر نظراته الوقحة فوق تقاسيم وجهها، فجذت على اسنانها تخبره:

-يا سيدي لا تلاعبني ولا ألاعبك!

استكمل في نبرته المشاكسة وهو يقترب منها متعمدًا إثارة خجلها بنظراته الجريئة:

-لا احنا نلعب.

-زيدان اتلم.

رفعت سبابتها في تحذير أثناء هروبها للخلف بعيدًا عنه وكأنها تخشى قربه بالفعل، تلك الفتاة تثير جنونه بالتأكيد فهي تتنقل من الفتاة الوقحة عديمة الأخلاق والتي يرغب في صفع بعض الأخلاق داخلها إلى فتاة أخرى خجلة تخفي من القيم القليل بين سواد حدقيتها وكأنها ترغب في إخفاؤها عن أعين الجميع، خرج عن مسار خيالاته وهو يراقبها تبتعد عنه بذعر فهمس ممازحًا:

-يا ستي أقعدي هو في حد هيبصلك بشنطة الخضار اللي أنتي مسكاها دي!

-شنطة خضار!
دي شانيل مخصصه للبحر وحمامات السباحة.

-انشانتيه مدام شانيل، فرصة سعيدة.

دوت ضحكته الساخرة المكان ما ان انهى جملته ورأى كيف رفعت حقيبتها وكأنها ستقذفها في وجهه لكن وقوع أنبوب واقي الشمس أنقذه منها ، نظرت له "ميرا" في حقد ومالت تلتقطها إلا ان ابتسامته اختفت عندما صفعة أخر فسألها في لهجة حادة:

-أنتي كنتي نازلة حمام السباحة بأيه؟

-ب swimsuit طبعا!

جاءت إجابتها سريعة وهي تنظر له وكأنه غبي، فرد مسرعًا يكاد يبكي من الورطة الذي اوقع نفسه فيها:

-اللهم صلي على الحبيب النبي، قوليلي أن شنطة الخضار دي فيها مايوه شرعي!

-يعني أيه مايوه شرعي؟

-اصلًا ... أفتحي الشنطة يا ميرا واشجيني بالمايوه اللي كنتي نازلة بيه!

-لا طبعا، دي خصوصيات.

-خصوصيات؟
ده نص الشعب المصري كان هيشوفه النهارده.

عقدت ذراعيها في خجل بسبب صحة كلماته لكنها أردفت غير متخليه عن عنادها:

-ما تتعبش نفسك هو مش في الشنطة.

قضب "زيدان" حاجبيه في بلاهة يحاول تحليل كلماتها ثم اتسعت عيناه في إدراك وهو يطالع الطرف الأحمر المطل من صدر ثوبها السماوي في تمرد وتلقائيًا غامت عيناه سوادًا في مشاعر مختلطة خاصة عندما رفعت أصابع يدها الصغيرة تغطي صدرها عن عيناه وكأنها تستمع لمخيلاته الوقحة، ثم سمعها توبخه في لهجة مهتزة:

-بلاش قلة أدب، أنا همشي!

تركها تتحرك لتتجاوزه لكنه قبض على معصها مقربًا لها نحوه هامسًا بنبرة خشنة تحمل خطورة مشاعره المختلطة بين الغضب والإثارة:

-وريني !

-أأ...أفندم؟

ردت "ميرا" في تلعثم وقد جف حلقها من النظرات الخطرة التي يُصُوبها نحوها أو ربما الخطر يكْمُن في تلك العيون الناعسة!
تأوهت في هلع حين جذب جسدها الرفيع نحوه حتى كادت تلتصق به تمامًا، ثم قال:

-ما تخلنيش أشوفه بنفسي.

طالعته بعيونها السوداء المتسعة في ذعر غير قادرة على تحريك لسانها لتوسل الرحمة منه، لكنه لم يعطيها فرصة للتفكير ومد ذراعه يقبض على خصلات شعرها المرتمية حتى أسفل ظهرها بإهمال ثم جذبه حتى مالت رأسها عنوة للخلف هامسًا في قسوة:

-انا ما يفرقش معايا مين أبوكي أو أمك،
يمين بالله لو اتكررت تاني وفكرتي حتى تلبسي حاجة كده تاني، تصرفي ساعتها مش هتتخيليه في أسوأ كوابيسك، أنتي سمعاني؟

حركت رأسها في سرعة أو حاولت تحريكها بالقدر الذي تسمح به قبضته القوية على خصلاتها، ولم تشعر أنها تبكي حتى مرر أنامله الأخرى فوق وجهها ماسحًا عبراتها بملامح متحجرة لا تصرح عن محتواها.

-هتكسري كلمتي من تاني؟

-لا.

خرجت نبرتها خافتة متقطعة فترك خصلاتها وابتعد للخلف خطوتين، راضيًا بينما يتابع محاولاتها في السيطرة على عبراتها فأخبرها بنبرة هادئة:

-أنتي زعلانه من الشخص الغلط، أنا عايز مصلحتك.

كادت تصرخ في وجهه بانه لا يعرف عنها شيء كي يتصنع كل هذا الاهتمام بشأنها لكنها ظلت صامتة تعدل خصلاتها للخلف تارة وتفرك الألم الخفيف في فروة رأسها تارة أخرى لا تصدق إنه عنفها بتلك الطريقة فهي لا تذكر أخر مرة عنفها والديها سوى بالتعنيف اللفظي.
شعر "زيدان" بالخجل والندم للحظات من فعلته ويكره إنه كلما نظر إلي عيونها السوداء كالبئر رأى ضعف ولمح حقيقة تحاول اخفاءها.
مرر كفيه على جانبي رأسه مستجمعًا ذاته فكلما أقترب خطوة من هدفه تراجع عنه في الخطوة التالية عشرات الخطوات، فقد كان يخطط للاقتراب منها وفهم دواخلها وتحليل دوافعها كي يستطيع مساعدتها ويساعد ضميره اللعين سبب مصائبه في الارتياح.
فهذا التناقض الجذري في شخصها يجعله يشك في وجود خطب ما بها وبرفاقها، فشتان بين تصرفاتها مفردها وجنونها معهم، لدرجة أنه أصبح لديه هاجس بأن أحد هؤلاء الحمقى يضغط عليها ويجبرها على التواجد معهم ممسكًا أمرًا خطيرًا ضدها، وربما هنا تكمن مهمته لأشعارها بالقدر الكافي من الثقة التي تجعلها تعترف له بما يؤكد تلك الهواجس.
راقبها ترتب تحرك أصابعها في توتر بين ترتيب خصلاتها في صمت وبين تمريرها فوق ثوبها قليلًا فأقترب على بعد خطوتين منها ثم مد أصابعه يربت في خفه فوق خصلاتها هامسًا:

-أنا أسف، مكنتش أقصد صدقيني.

كان يعلم من نظرتها وحركه رأسها السريعة بالموافقة بانها تجاريه للانتهاء من الموقف حنى تتمكن من الفرار لكنه قرر المماطلة وهو يدور مشيرًا للمكان في محاولة ساذجة لتغيير محور الحديث:

-ما قولتليش أيه رأيك في المكان؟

نظرت للمكان حولها قبل ان تجيبه في نبرة خافتة بينما تسترق نظرات نحو البوابة وكأنها تتمنى الهروب:

-الdecoration جميل وغريب شوية.

-المطعم italian food المفروض يكون مختلف.

-هو ده مكانك؟

سألت أول ما جال في عقلها تحاول الحصول على معلومات أكثر عن حياته كي تتمكن من إيجاد بعض الهدوء النفسي وتسيطر على توترها:

- مكاني أنا وأصحابي أنتي عارفاهم اللي كانوا في المنشور إياه كمان الافتتاح قرب.

أخبرها وهو يدور حول المكان يتفحص بعض الرسومات التي لازالت قيد الإنشاء والتفت يطالعها عندما سألت مستفسرة:

-أنت مش قولت إنك شغال مندوب في شركة اتصالات.

-أيوة ده مشروع خاص، ولا هو عشان مندوب مينفعش يبقى عندي حاجة خاص بيا؟

لا يدري لما شعر بالغيظ من سؤالها وكأنها تراه أقل منها لكنه مرر كلماتها وقرر المضي في مخططه الذي يتابع في خرقه مع كل منحنى معها، فوجد نفسه يخبرها في اعتيادية:

-أنا عارف انك مخضوضة مني وحقك أنا ذات نفسي بتخض من أفعالي شوية،
بس لازم تفهمي إني راجل أكبر منك ب سنين مش مجرد شاب في سنك تقدري تتعاملي مع قراراته وكلامه باستهتار.

صمت ثم اتجه يمسك أصابعها عادة خاطئة أصبح لا يسيطر عليها قبل أن يجذبها للجلوس مستكملًا في رضا عندما شعر بانتباه كل حواسها إليه:

-وفاهم ان الموضوع بالنسبة ليكي لعبة، ومش هجادلك لكن لازم كل واحد منا يحترم شخصية التاني ورغباته.

حركت رأسها دون أن تنطق حرف وارتعشت رموشها في ارتباك عندما قرفص أمامها ممسكًا بكفها الصغير ورفضت عيناها التنحي عن لقاء عيناه الناعسة التي تشع بالسيطرة وتأسرها بالإكراه وكأنه يجبر عدستيها على عصيان أمرها بالتمرد فتظل متعلقة به دون أن تجد القدرة على كسر تعويذته عليها!

-وعشان نحترم بعض والاتفاق ده يمر بسلام لازم نقرب من بعض ونفهم بعض أكتر،
ولو فكرتي في كلامي هتلاقيه في صالحك وهنقدر نقنع أصحابك بحكاية الجواز ده بشكل أسهل.

دار بؤبؤي عيناها داخل مقلتيها في تفكير جدي وكاد ينفجر ضاحكًا لولا تعلق عيناه بحركة شفتيها التي تبللها بطرف لسانها، أجفل عيناه مرتين وفي لحظة علت دقات قلبه داخل صدره معبرًا عن مشاعر غريبة نحوها والتي تتفاقم مع كل ثانية تمر بينهما.
سعل في خفة وهو يستقيم مبتعدًا عنها وابتسم عندما صدح صوتها الرقيق:

-أنا موافقة بس بشرط، زي ما انا هسمع كلامك في حاجات أنت كمان لازم تسمع كلامي في حاجات تانية.

ارتفع حاجبة الأيسر في إعجاب فللحظة ظن أنه كسر تمردها وامتلك دواخلها، تنهد مقررًا مجاراتها ومنحها بعض السيطرة بما يكفي لإنجاح خطته فردد:

-هدنة؟

مد كفه أمامه منتظر كفها وكبت ابتسامه ساخرة حين لاحظ ارتباكها اللحظي قبل أن تقترب منه وتصافحه متمته:

-هدنة.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الثالث 3

في اللقاء التالي بعد مرور أيام من "الهدنة" وقفت "ميرا" تنتظر هبوط "زيدان" من سيارته، مبعدة أنظارها عنه في شموخ وتعنت لأنه أجبرها على ركن سيارتها الوردية ومرافقته في سيارته المملة، تأففت حين طالت حركته البطيئة وكانه يتعمد استفزازها بالتأخير فصاحت فيه:

-أنا مش فاهمة لو الموضوع مضايقك وتقيل على قلبك كده وافقت تساعدني ليه؟

أدار "زيدان" وجهه نحوها متعجبًا من تذمرها العنيف ثم سألها في براءة مشيرًا إلى صدره:

-أنا؟، لا خالص أنا سعيد.

تحركا بؤبؤي عيناها داخل مقلتيها في تهكم عندما انفرج فمه في ابتسامة مجبرة مع نهاية جملته ثم تحركت تسبقه كي تجبره على ملاحقتها إلى بوابة النادي لكنها توقفت حين ناداها:

-استني مكانك، نسيت حاجة مهمة.

تأففت متوقفة تحبر نفسها على التزام الهدوء، تابعت يعود إلى السيارة وانكمشت ملامحها مغتاظة يخرج قلمًا منها واضعًا له في مقدمة قميصه، غلت الدماء في عروقها بسبب إصراره الصريح على استفزازها بتلك التفاهات فزمجرت فيه معترضة:

-أنت بتهرج ما تنجز يا زيدان!
وأصلًا اللي بتعمله ده ضيع استايل القميص اللي لابسه على فكرة.

مرر أصابعه فوق جيب قميصه حيث يقبع القلم في فخر قبل أن يغمز لها متعمدًا إغاظتها بكل الطرق، قائلًا في نبره واثقة بلا أي اهتمام لاعتراضها:

-أنتي تعرفي أيه في الموضة غير فساتينك المشلحه دي، أمشي قدامي.

تحركت للأمام في خطوات طفولية غير مرتبه، تستشيط غضبًا لأنه ينتقد طراز أثوابها الفريد والمتماشي مع قوامها وطولها.
ماذا؟! ففي حال لم ينتبه هي قصيرة القامة بالكاد تتعدى متر ونص، ولن ترتدي ملابس أطول منها أو تتركها تلاصق كعب قدميها!
تصلبت في مكانها منهية استنكارها الداخلي عندما صاح يوقفها من جديد:

-استني!

انعقد حاجباها في غيظ وكادت تصرخ بعلو صوتها وقد نفذ صبرها منه لولا إنها تشتت وتوقف عقلها حين راقبت خطواته المتسارعة نحوها بأعين متسعة، لماذا يتخيل لها إنه سيباغتها باقتحام مساحتها الشخصية كعادته؟
رفعت كلا ذراعيها للأمام محذرة:

-إياك تحضني أو تعمل زي المرة اللي فاتت أنا بتحرج!

-يعني مش عشان عيب؟!

تنهد ساخرًا متجاهلًا اضطراب ملامحها الحائرة في محاولة بائسة لإجابته، لكنه باغتها بإمساك يدها مستكملًا لعبته في المراوغة:

-ما تهتميش بالرد، لكن لازم أمسك إيدك عشان الحبكة الدرامية.

زحفت الحمرة محتلة ملامحها ككل مرة يبتلع فيها كفه الدافئ أصابعها الصغيرة لكنها قالت في استهجان من بين أسنانها المنغلقة:

-حبكة أيه بالله عليك!

-الحبكة، أيه مش بتتفرجي على أفلام أو تقري روايات؟

تأففت "ميرا" دون رد للمرة الألف منذ لقائهما اليوم، لكنها واكبت خطواته السريعة إلى الداخل في استسلام وما هي إلا دقائق قليلة حتى وصلها صوت ضحكات الرفاق قبل أن تراهم يتوسطون طاولتين ملتصقتان ببعضهما، ابتسمت تلقائيًا وقد غمرها شعور بالحماسة للانضمام لهم :

-هاي، عاملين أيه؟

-ميرا أيه التأخير ده يا بنتي.

كان "حازم" أول من حيا وجودها ثم انتقل ببصره نحو "زيدان" محركًا رأسه للأعلى والأسفل مرة في ترحيب صامت دون أن تتوقف أصابعه عن مداعبة خصلات "روان" الجالسة بجواره والتي تطالعه بكل ما في الدنيا من حب وهيام.
بينما اكتفت كلًا من ليلو، ريناد ورائف "زوجها السري" بتحريك أصابعهم في الهواء بإهمال، استدارت "ميرا" نحو الثنائي الحقيقي المحب "حازم وروان" داخل دائرة الأصدقاء ثم ابتسمت ابتسامة واسعة صادقة وهي تميل للجلوس جوارهما واتبعها زيدان من الناحية الأخرى.
نظرت نحو "رامي" الذي ينظر لها في صمت غامض وارسلت له ابتسامه معتذرة محركه كفها أمامه كعلامة على الترحيب تترجى السماح في صمت فهي تدري إنه منزعج بسبب ذهابها مع "زيدان" المرة السابقة معتقدًا إنها تعمدت تجاهله.
اتسعت ابتسامتها في بلاهة ورضا حين تنهد وغمز لها مشاكسًا يعلن الصفح عنها، احمر وجهها ثم نظرت جوارها خجلة إلا أن قلبها انتفض حين لاقت عيون "زيدان" المشعة بنظراته الغاضبة دون سبب، والتي نجحت في إثارة توترها فاختفت ابتسامتها ناظرة بعيدًا عنه في هلع.
سرعان ما استرخت "ميرا" بمرور الوقت بينهم وهي تستمع إلى المزاح الذي انخرط فيه الجميع عادا "زيدان" الجالس جوارها صامتًا طوال الوقت، تجاهلته ووازت ضحكاتها ضحكاتهم إلا أن مزاجها سرعان ما انقلب حين قررت "ليلو" أو "الساحرة الشريرة" كما تلقبها "ريناد" أن الوقت قد حان للتنمر والسخرية على حساب ميرا ونحافتها عندما اعترضت "روان" على طلب المزيد من الطعام متحججة بانها تتبع حمية غذائية لخسارة بعض الوزن:

-أوكي خسي يا عيوني لكن خدي بالك لتختفي زي "ميرا" أنا بقيت لما أدخل مكان هي فيه أبص على الكرسي لتكون موجودة وأنا مش شيفاها،
ده ربنا يكون في عون زيدان الحقيقة مش عارفة بيتعامل ازاي مع رفعها ده!

أنهت "ليلو" جملتها ونظراتها تتراقص فوق "زيدان" بابتسامة ساخرة، فارتعش وجه "ميرا" المتصلب الملامح في شبة ابتسامه تحاول الادعاء بإن كلماتها القاسية ومزاحها لا يؤرقها ويمزق ثقتها حتى إنها تأهبت لأن يشاركها "زيدان" المزاح فيزيد من إهانتها أمام نفسها لكنها استدارت تطالعه في صدمة حين ردد "زيدان" سابقًا بصوته نظرات "رامي" المحذرة نحو "ليلو":

-غريبة مع أن أول حاجة عيني بتشوفها في أي مكان هي ميرا، سواء موجودة أو مش موجودة فيه دايمًا مغطية على الكل.

لاحت من شفتيه ابتسامة المستفزة الشهيرة بينما ارتفعت أنامله لمداعبة أنف "ميرا" المتسمرة في وضعها المتفاجئ والتي حبست أنفاسها أكثر مما ينبغي وظلت تشاهده مذهولة من تلقائيته وسرعته في المدافعة عنها.
ولو يدري أثر وقع كلماته الكبير على قلبها القافز كالقنابل النارية!
علت أنفاسها تحاول الخروج من قوقعتها فقد أجبرها على التقهقر عائدة لنفسها الحقيقة التي تخوض شعورًا جديدًا غير مألوف بالنسبة لها؛ حيث أنها لا تتذكر أن هناك مَن دافع عنها بتلك الحمئية التلقائية، ودون أسباب أو مبررات.
التوت شفتاها في تمهل لترتسم ابتسامة واسعة تشرق تقاسيمها المليحة والتي توازي ابتسامته المساندة لها وكأنه يشجعها على نشل نفسها مما تعرضت له والعودة للواقع، جذبت شهيقًا متقطعًا عندما عادت للواقع فعلًا على صوت "ليلو" المغتاظ حين قالت متهكمة:

-ميرا الشفافة بقت مغطية على الكل.

-ليلو!

حذرها "رامي" في نبرة حادة موبخًا لها فطالعته "ليلو" بضع لحظات بنظرات حارقة تبادلت فيها أعين الأثنان حديثًا خفيًا قبل ان تتأفف معتذرة ل "ميرا":

-سوري يا ميرا، أنا اتخانقت مع مامي قبل ما أنزل ونفسيتي مش متظبطه.

-حصل خير مفيش مشاكل.

قالت ممسكه بكف "زيدان" توقف كلماته الجارحة والتي تنعكس على وجهة قبل أن يتدفق بها لسانه، أما هي فقد تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها من هذا الانتباه الغير مرغوب فيه متوقعة أن يتفحصها الجميع الآن من منظار "ليلو" ... ويكتشفوا صحة حديثها.
أحست بحرارة نظرات "زيدان" المتعلقة بجانب رأسها فالتفتت على مهل وتروي تنظر لعيناه الغائمة بلون العسل السائل سامحة لنفسها بأن تمنحه ابتسامه شكر وامتنان، فلن تنكر أن قلبها لا يزال يرفرف في سعادة لما تفوه به دفاعًا عنها.
عكس "زيدان" ابتسامتها حينما أطالت النظر إليه فصار يتفحصها بفضول وكأنها أحجية يصعب عليه فك شفراتها فهي تارة غاضبة لا تطيق رؤيته وتارة تنظر إليه وكأنه يملك عالمها بين قبضتيه.
انغمس الجميع في الحديث مجددًا متجاهلين ما حدث، والغريب انه برغم الأهمية التي تضعها "ميرا" لهم إلا أن لا أحد منهم يهتم بأمرها بالشكل الجلي أو المبالغ فيه.
زفر "زيدان* متململًا في مقعده بعد مرور ساعة مملة ثم قرى عدم الانتظار أكثر حاسمًا أمره، فمال نحوها هامسًا في حزم مستعدًا لمواجهة اعتراضاتها:

-مش يلا نروح؟

ارتفع حاجبه وهو يحدق في عدستيها الذي يغفى في ظلامها سواد الليل، وزادت من ذهوله حين هزت رأسها في حركة خفيفة توافقه الرأي دون تفكير، ضاقت عيناه لحظة في توجس لكنه مد كفه الكبير نحوها متشكك في دوافعها إلا أنها فاجأته بوضع كفها داخله في خضوع، أحتضن كفها دون تأخير ثم استقام قائلًا:

-طيب يا شباب نشوفكم بعدين.

القت "ميرا" السلام على الجميع وتركته يجذبها خلفه دون اعتراض، حانت منه نظرات خاطفة نحوها ولم يستطع كبح ابتسامته الراضية وهو يتابع ابتسامتها الكبيرة التي لم تترك وجهها منذ أخرس صديقتها الحمقاء ليتيقن في تلك اللحظة انه كان محق في وجهة نظره عنها، فتلك الصغيرة لا تزال في طور التشكيل، متخبطة في جنبات الطريق، باحثة عن ينابيع الأمان وبقاع الانتماء.

*****


في المساء، دخل "زيدان" إلى المنزل ثم لمعت عيناه في سعادة حينما وجد والدة مستيقظًا على غير العادة فتوجه نحوه مرحبًا:

-مساء الخير يا بابا، غريبة سهران انهارده.

أغلق والده التلفاز وصب جام تركيزه على "زيدان" مجيبًا في مشاكسة:

-مساء الخير، غريبة ليه عشان قفشتك وأنت راجع البيت بعد نص الليل؟

ضحك "زيدان" أثناء جلوسه فوق المقعد المجاور لوالده ثم قال ممازحًا:

-انا سبعة وعشرين سنة يا بابا مش عشر سنين عشان تقفشني.

-الله يرحمها أمك لو كانت عايشه كانت روحتك من المغرب.

أخبره والده بابتسامه سرعان ما اهتزت على وجهه فسارع زيدان مبدلًا منحنى الحديث عن والدته المتوفية:

-صحيح يا بابا كنت عايز أسأل حضرتك عن طنط أماني اللي هي حفيدة ... أخو ... جدي.

طالعه والدة ضاحكًا على معاناته في لفظ صلة القرابة ثم أردف منهيًا مأساته:

-أسمها أماني بنت عمي على طول يا أبو سبعة وعشرين سنة مش لازم تجيب شجرة العيلة كلها،
اتفضل مالها أماني؟

أنهى مزاحه بسؤاله الفضولي منتظر التفسير لذكرها فابتسم زيدان محاولًا امتهان الاعتيادية قبل الاجابة:

-ماشي هزأني براحتك،
عادي كنت عايز أسأل عنها وعن جوزها أصلي اكتشفت اني مش عارف أسمه.

زال المرح من على ملامح والده المرهقة التي تبوح بكبر سنة، قبل أن يقول في لهجة شبه موبخه:

-تاني يا زيدان؟

-تاني أيه؟
أنت فهمتني غلط، أنا عندي فضول مش أكتر عشان اتكلمت مع بنتهم بالصدفة على النت.

رد سريعًا يحاول محض شكوك والده لكنه استمر في عناده الذي ورثه عنه:

-ميرا من تاني؟

-بابا ارجوك أنت لسه مصدق اني كنت بحبها دي كانت طفلة وقتها،
والموضوع كله ان القرابة نقحت عليا لما ابن خالتي اتنمر عليها وحسيت انه لازم يتربى.

صمت والده منغمسًا في تفكيره فكلماته لم تختاز جسر الصدق معه ثم طالعه في غموض متسائلًا:

-عايز تعرف أيه؟

ظهر الذهول بشكل لحظي على محيا "زيدان" لكنه محاه سريعًا وهو ينتهز فرصة موافقة والده مستفسرًا:

-هي عايشه مع أمها ولا أبوها؟
وأطلقوا ليه؟
وأيه رأيك فيهم كشخصية؟

-حاليا مش عارف بس عمتك كانت قالت من فترة قدامي لمرات عمك أن البنت عايشه مع أمها ووقت سفرها البنت بتروح تقعد مع أبوها.

-هي بتشتغل أيه؟

سأله في فضول بعيون متنبهه فاستكمل والده بعيون أكثر تنبه بمنتهى الريبة والاتهام:

-في الإرشاد السياحي، ومضطرة تسافر كتير بس داخلي مرة شرم مرة الأقصر وهكذا.

-لكن أنا أعرف أن والد ميرا غني جدًا وانه بيبعت مبالغ محترمه كل شهر، ليه الشحططه؟

سأل زيدان يحاول تفسير اختيارها للابتعاد عن ابنتها اللي يتضح من فقدانها للكثير من العناية والتربية فأتاه رد والده الساخرة:

-العند بيولد الكفر.

-مش فاهم.

قال "زيدان" وهو يعتدل في أريحية يحاول ترتيب المعلومات في عقله:

-على حد علمي والد ميرا راجل شديد وعملي بطريقة زايده ده غير إنه أناني جدًا واللي سمعته أن لما ربنا كرمه وعلا في مجاله كان شايف ان شغل أماني مبقاش مناسب لمركزه الجديد وطلب تسيبه،
وتقريبا هي كانت بتتلكك ومش قادرة تعيش معاه فطلبت الطلاق وتم فعلا.


-اطلقوا ودمروا بيتهم عشان شغل؟

قال زيدان مستنكرًا في ذهول من سطحية الموقف فاستطرد والده:

-مش قولتلك العند بيولد الكفر.

قال الوالد فحرك "زيدان" رأسه للأعلى والأسفل في موافقه قبل أن يستقيم متمتمًا:

-صدعتك معايا، تصبح على خير يا بابا.

رد والده في قلق واضح من قرارات طفله لكنه كالعادة يعطيه مساحته بعدم التدخل:

-وأنت من اهل الخير، وأتمنى من كل قلبي انك تبقى عارف أنت بتعمل أيه.

-ما تقلقش يا بابا.

لم يجيبه والده واكتفى بحركة من رأسه قبل أن يلتفت للتلفاز بينما توجه "زيدان" إلى غرفته يبدل ملابسه سريعًا كي يتكأ على فراشه ويبدأ في حياكة تلك المعلومات والتفاصيل مقررًا محو وجهة نظرة السطحية عنها، خاصة بعد ما التمسه منها فهي شخصية مترددة سهلة الإرضاء ممزوجة بصفات غامضة تخفيها عمدًا عن أعين الناس عكس ما توقعه ونسجه في خياله عنها كفتاة مدللة أفسدت الأموال أخلاقها.
ميرا تحب الظهور بمظهر لا يتناسب مع خضوع لؤلؤتي عيناها له مع أول زمجرة منه، قشرة القوة الوهمية والتمرد المحيطة بها تتصدع أمام حدته وعنفوانه.
ربما هي ضحية والدين أهملا واجباتهما الأبوية حين وجدا في إفلات الحبال والتغاضي عن تصرفاتها الخاطئة؛ ملاذًا سيكسبهما ثقة أبنتهم وحبها لهما.
أو ربما أكثر هي ضحية حرب شخصية صامتة بين الطرفان، هدفها تفضيل المسكينة لأحدهما على الأخر.
ولا ينسى أثر التنمر على تركيبها النفسي والفكري فبعد تفكير عميق، توصل أن تعرضها للتنمر أوصلها للمحاربة من أجل مواكبة من حولها دون تفكير في منطقية أو صحة الأفعال، ففي يومنا هذا انقلبت معايير الصواب والخطأ وصار المستقيم هو من يثير الجلبة والربكة في قلب مجتمع فاسد.
ولن يخفي شعوره بوخيزات صغيرة تشفق عليها عندما عاصر بنفسه ما تتعرض له وهذا المفترض قادم من بئر الأصدقاء.
تململ في فراشُه غارقًا في تحليلاته وقد تأكد من أتخاذه للقرار الصائب بالاندساس في حياتها حتى وان كانت الطريقة خاطئة، فهي في حاجة مُلحة إلى التوجيه والصرامة بل هي في حاجة لمن يسيطر على لجام تمردها، وإذا كانت السيطرة ما تنقصها

... هو ملك السيطرة ...

*****

بعد مرور بضع أسابيع مرت سريعة على "ميرا" و "زيدان" ولكنها بالتأكيد كانت هامة لها تأثير كبير في منحنى صداقتهم وامتزاج حياتيهما، جلست "ميرا" أمام الحاسوب الخاص بها تمارس شغفها في تصميم الصور إحدى المهارات المحببة لقلبها التي تخفيها عن الجميع وتساعدها على تخطي وحدتها منذ الصغر، انتقل بصرها نحو الهاتف تستطلع عن الوقت فقد تأخر "زيدان" عن محادثتها اليوم والغريب إنها وجدت نفسها متحمسة تواقة للحديث معه، وهذا عكس ما توقعته وما كانت عليه في الأيام الأولى لمحادثاتهما.
تنهدت ثم وضعت رأسها فوق كفيها شاردة فيه فزيدان شاب معسول الكلام يهتم بالأخرين كثيرًا نعم متعجرف أكثر من اللازم إلا أنه مراعي لشعور الأخرين، ابتسمت لنفسها هامسة:

-الله يرحم.

وهي تتذكر وعيدها بأن تنتقم منه وأن تجعل حياته جحيمًا بعد ما حدث في مطعمه وإخافته لها وكيف جلست تخطط للتحايل على القوانين التي يجبرها عليها ولكنها يوم بعد يوم وجدت نفسها تغرق في دوامة سحره الفريد حتى إنها باتت تتوق للحديث معه وحكاية أحداث يومها الممل له.
رفعت خصلاتها الغزيرة التي تهرب من الرباط كل بضع دقائق مبتسمة في تسلية فعلى الأقل هي تستمتع باهتمامه بأدق تفاصيل ورحابة صدره في سماع ثرثرتها، شعور جديد عليها لم تعهده حتى مع أصدقائها وحرفيًا هم محور تجاربها مع المشاعر الإنسانية.
زاد تأففها مع مرور الدقائق وتلقائيًا دون تفكير رفعت الهاتف في نفاذ صبر مقررة محادثته، هدأ توترها الملازم لها في كل مرة تقرر فيها رسم خطوة البداية، عندما أتاها صوته الرخيم أسرع من اللازم:

-كنت لسه برفع الفون أكلمك، عاملة أيه؟

-الحمدلله.

احمرت وجنتيها وشعرت بالغباء لوهلة لكنه لم يعطيها فرصة للانسحاب فاستطرد ممازحًا:

-ادفع نص عمري وأمسح عميله قابلتها انهارده من حياتي.

ضحكت بخفه على نبرته المرتفعة في انزعاج، ثم تساءلت في فضول:

-ليه، ضايقتك؟

-لا بتموت فيا.

اختفت ابتسامتها دون وعي منها وسألت بفم ملتوي:

-ودي حاجة تضايقك، ما أن بتحب ال attention ولفت الانتباه.

كان على طرف لسانه جملة "شوف مين بيتكلم" لكنه اكتفى بمقولته المشاكسة:

-لا لفت انتباه عن انتباه يفرق هعمل أيه بانتباه واحده عندها أربعين سنة ومطلقة مرتين.

-اوه وكمان عرفت ان عندها أربعين سنة وحالتها الاجتماعية وكل ده في مقابلة واحدة.

ساد الصمت للحظات قبل أن يصدمها ويربك ثباتها بسؤاله المشاكس:

-أنتي بتغيري عليا؟

-أيه ...لا ...لا طبعا ...ايه ده ...وأنا هغير عليك ليه، أنا بس مستغربة من تناقض كلامك.

كاد ينفجر ضاحكًا على اجابتها السريعة المتلعثمة ولكنه لن ينكر أنه شعر بسعادة داخلية تغمره بلا أي سبب واضح، فمشاعرها تلك ليست غريبة عليه فهو يعلم أنه يملك جاذبية مميزة مع الإناث، كما إنه يملك عيون ناعسة يسكنها سحر خاص ينجح في سرقة قلوبهن.

-سخيف أوي.

همست تحاول انقاذ ماء الوجه، بينما اعتدل هو في جلسته سعيدًا بما لمحة في نبرتها من مشاعر ولا يدري سر تلك السعادة لأنها ليست المرة الأولى التي تخصه فيها امرأة بتلك المشاعر.
حتى انه اعتاد على تلقي العديد من الاعترافات الصريحة والمباشرة بالحب والهيام، لكنه لا يتذكر شعوره بمثل هذه السعادة حينها بل إنه لا يتذكر إنه اعتراف في مرة لفتاة بحبه، وربما هذا هو سبب غروره ودلاله على مشاعر "ميرا" اليافعة، عاد للواقع على صوت أنفاسها العالية وقد أربكها صمته أكيد، فقرر مجاراتها بقوله:

-تناقض في أيه؟

جاءت اجابتها بعد بضع ثوان طويلة:

-أنك متضايق منها في حين انكم اندمجتم لدرجة انك عرفت معلومات شخصية عنها.

رمت "ميرا" الهاتف في خضه حين قطع حديثهما دخول والدتها التي يخجل سن الأربعين من الالتصاق بها، فهي فائقة الجمال مفعمة بالحياة والاستقلالية، صفات فشلت "ميرا" في وراثتها أو هكذا تظن وتمنتها سرًا في كل ليلة متسائلة لما لا تستطيع أن تكون في ثقة وجمال والدتها ولما عليها أن تعيش حياة المسخ المختبئ معظم حياتها:

-حبيبتي لسه هتنزلي مع ريناد الساعة داخله على تسعة مش أفضل تأجليها لبكره.

-مش هقدر طبعا هي نادرًا ما بتطلب تقابلني بعيد عن صحابنا ومش هينفع أتخلى عن حد محتاجني.

أخبرت والدتها في لهجة دفاعية مفرطة فارتفع حاجب والدتها في امتعاض مؤكدة:

-أنا مش عدوتك، أنا من حقي أخاف عليكي.

قالت والدتها في هدوء تخفي خلفه الكثير فهي تخشى خسارة أبنتها العنيدة فتعزل وجودها عن حياتها كما تفعل مع أبيها، نعم ميرا تذهب لقضاء أيام عملها معه لكن فتاتها بالكاد تقابله أو تتحدث معه.
كادت تبتسم في مرارة فرغم انها لم تتواصل معه منذ الانفصال إلا إنها متأكدة إنه لا يملك من الوقت ما يؤهله للتواصل العاطفي مع ابنته فمن غيرها عاشره لسنوات كي تعرف طباعه.

-غريبة وخوفك مش بيبان لما بتسافري للشغل وتسيبيني لوحدي؟

أشعرتها اجابة ميرا المتمردة بالحرج وكأنها تحاسبها على اختيارها للمضي في حياتها:

-ما تحاوليش تبتزيني عاطفيًا، أنا مش بسيبك لوحدك، أنتي بتكوني مع باباكي ده غير إنك المفروض كبرتي وبقيتي فاهمة إني لازم أشتغل.

-مش فاهمة الصراحة لما أنا كبرت يبقى خايفة أنزل مع ريناد ليه؟

أغمضت والدتها جفونها تستجمع أعصابها للرد على تلك الماكرة الصغيرة التي تملك من ذكاء والدها ودهائه أكثر مما تريد الاعتراف به لكنها صرحت لها عاقدة ذراعيها أمامها في نبرة مغتاظة:

-تمام طالما هنتكلم بصراحة يا ميرا، فالبنت دي مش مريحة ومش شبهك.

ضحكت "ميرا" ساخرة مجيبة في استنكار وكأنها مجنونة:

-وأنا أكيد مش بدور على اللي شبهي.

ردت والدتها باستسلام رافعة يديها في الهواء:

-تمام يا ميرا اللي يريحك أنا مش عايزة أتخانق قبل ما أسيبك وأسافر، لكن شوفي شريف هيتعامل ازاي لو عرف انك لسه مع العيال دي.

وبذلك خرجت مغلفة الباب في حدة وقلة حيلة من افعال صغيرتها، نعم كانت سعيدة بالتحول الجديد في حياتها وابتعادها عن الانطوائية لكنها بالتأكيد غير راضية عن أسبابه الآن.
تعلقت أنظار "ميرا" المتذمرة في حنق طفولي بأرداف والدتها الممتلئة والبارزة من ملابسها المنزلية الضيقة ومطت شفتيها متناسية شجارهما، ساخطة على القدر الذي قرر حرمانها من مميزات شخصية وجسدية تتمناها كثيرًا.
شهقت في خضه وهي تطالع هاتفها فقد تناست تمامًا وجود "زيدان" على الخط ولا تعرف كيف تبرر له إلقاءها للهاتف أو شجارهم، فوالدتها على علم بحديثها مع رامي وحازم ولكنهما الشابان الوحيدان في دائرة الأصدقاء وحديثهما أمامها شبه منعدم، كما انها دوما ما تلمح بأن يكون الحديث بينهم يجب أن يظل في حدود الصداقة.
أما عن "زيدان" فهي لا تعلم بوجوده من الأساس كما أن علاقتها به علاقة أخرى غامضة الملامح ومخيفة بالنسبة لها ولكنها وبكل نضوج ستتخطى تفسير مشاعرها نحوه مكتفية بإلقاء اللوم على اتفاقهم الصغير، فكرت ساخرة مضيفة إلى اللائحة خوفها من ان تكتشف والدتها انها استأجرت شاب ليدعي كونه زوجً سريً لها.
دعت بكل طاقتها أن يكون قد أغلق المكالمة ولكن بالتأكيد الحظ ميزة أخرى تفتقدها:

-ألو .. آممم... أسفة انك سمعت اللي حصل ده.

-انتي نازلة ؟

أتاها صوته الرخيم الهادئ بشكل يثير القلق داخلها دون مبرر صحي يميزه عقلها فتلعثمت تخبره:

-اه لكن مش هتأخر نص ساعة وهرجع.

-ومعاها رامي؟

-لا خالص، دي مقابلة أنا وهي بس!

-وبعدين معاكي يا ميرا؟

جاء صوته حازمًا فاقدًا الأمل في أن يتفهمها فأجابته في ارتباك كأنها طفلة يحاسبها والدها:

-أنا عملت أيه؟

-أنتي مكسوفة تحافظي على نفسك؟
يعني لو في حاجة غلط قررتي ماتعمليهاش، الناس هتشاور وتقول اللي معملتش حاجة غلط أهيه.

اشتدت حرارة الخجل فوق وجنتيها الحمراء، لكنها أجابته في نبرة منزعجة وضيق من كلماته المتهكمة:

-أنا مش بعمل حاجة غلط يا زيدان.

-مش عيب لما الانسان يعترف أنه عمل حاجة غلط رغم انه عارف إنها غلط، لكن العيب والخوف انه يبجح ويقول انها مش غلط.

ظهر الانزعاج جليًا في لهجته العالية ورغمًا عنها ارتعش قلبها في رهبه وليدة حصريه له فقط وكأنها تخشى عدم مراضاته، فأردفت معترضة:

-ممكن تبطل تهِني بكلامك كل شوية!

-أنا مش بهينك يا ميرا.

صمت قليلًا محاولًا تمالك غضبه كي لا ينهار مخططه ويعود للخانة صفر من جديد ثم زفر مستغفرًا لله مؤكدًا في هدوء مخادع:

-مش احنا أصدقاء؟
مش انتي بتعتبريني نوعًا ما صديق؟

-ايوه.

همست موافقة رغم ارتعاش نبرتها فتساءل في جدية:

-والصديق المفروض مهمته انه ينصح ويحافظ على صديقه خاصة لو الصديق ده مميز؟

-ايوه.

اعادت في خفوت مجددًا وهي تقضم أظافرها، فاندفع يؤكد في نبرته القوية الخشنة:

-جميل وأنا صديقك يا ميرا وعايز أحافظ عليكي عشان انتي مميزة عندي،
السؤال هنا هل ده سبب كافي يخليكي تسمعي كلامي؟

لم تستطع تفسير الابتسامة البلهاء المرتسمة على وجهها ولكن حرفيًا كان هذا أكثر حديث عاطفي لطيف لامس قلبها يومًا فوجدت نفسها تهمس في تلقائية:

-ايوه.

-ايوه أيه، أنتي علقتي؟

حثها على الحديث وقد هدأت نبرته المندفعة عما كانت ذي قبل، ورغم إنها تعلم أنه يريدها فقط أن تؤكد رضوخها له ليزداد عجرفة عليها إلا إنها استكملت:

-هسمع كلامك.

-الله، قوليها مرة كمان كده.

ضحكت حينما وصلتها نبرته الرجولية المشاغبة وشاركها "زيدان" الضحك راضيًا عن خضوعها الغير متوقع قبل أن يستطرد:

-روحي كلميها وقوللها انك مش هتقدري تقابليها انهارده واننا كده كده هنتقابل بكره بليل.

-هي اكدت عليا نتقابل لوحدنا من غيرك.

-اخص عليها وانا وأنتي أيه؟
.... مش واحد يا روحي.

-يا بارد.

وبخت في صوتٍ رفيع منزعج متعمدة مط كلماتها المتذمرة من استفزازه المستمر لها لكنها استسلمت لضحكاتها التي امتزجت بعد فترة مع صوت ضحكاته الرجولية فشعرت بإن قلبها تحول لحديقة مليئة بالفراشات المتراقصة في شجن على حبال صوته الرنانة، سرقها من أحلامها حين أخبرها مبتسمًا:

-هضطر أدخل أنام عشان تعبان أوي، وعلى فكرة مبسوط اني هقابلك بكره.

وصله صوت ضحكة خجولة وكأنها مراهقة حالمة ليذكره عقله بانها بالفعل مراهقة، بالكاد ستتخطى العشرين من عمرها الشهر القادم، ثم ردت في صوتها الحاني:

-وأنا كمان، تصبح على خير.

-وأنتي من أهل الخير.

أنهى زيدان المكالمة وخرجت منه تنهيدة عالية مفعمة بمشاعر حراقة في صدره فعلى غير المتوقع أثبتت ميرا انها مجرد فتاة بسيطة مليئة بالبراءة والتخبط كأي فتاة قرر ووالديها نسيان المسئولية والانسياق وراء الأنانية متناسين أولياتهم المتمثلة في تربية الأبناء، ميرا فتاة رائعة لكنها مضطربة المشاعر بلا أهداف سوى جذب انتباه من حولها وخلق مشاعر خاصة بها داخلهم وكأنها تشتاق لشخص يميزها عن الجميع.
كان هذا أول تفسير توصل له من خلال تقاربهم وعلى عكس ما كان يظن وجد نفسه يشفق عليها أكثر مما يغضب على تصرفها، بل وجد نفسه يصب جام انتباهه عليها كلما اجتمعا سويًا وسط المدعون "أصدقاءها" والذي لا يجد لهم تفسيرًا منطقيًا لوجودهم في حياتها فهم لا يتعاملون كأنها صديقتهم بالشكل المنطقي والطبيعي فأقصى نشاطها معهم هو المشاركة بالحديث وأكثر من ينتبه لها هو المدعو "رامي" والذي سيقتلع عيناه يومًا ما أن لم يتوقف علة التحديق بها طوال الوقت بعينيه القذرة.
هذا الترابط بينها وبينهم سر أخر وضع على عاتقه مهمه تفسيره!
ابتسم لنفسه يكاد يتذوق طعم الانتصار ففي خلال الأسابيع الماضية استطاع ان يستحوذ على معظم طاقتها دون أن تدري وقد حان الوقت للإسراع في رتم معركته التي قرر الخوض فيها منذ أول لقاء معها.

***

في اللقاء الأول بينهما، رفع زيدان عينيه يلتقط عيون الفتاة الواسعة، ذات الشعر القاتم الغزير وجلس يفرك اصبعه فوق شفتيه منتظرًا انتهاء المزحة التي طالت دون معنى.

-اعتبر انك موافق؟

-انتي مصره تكملي لعب؟

-لعب أو لا ده قراري أنا، قولت أيه deal or no deal.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الرابع 4

رفع زيدان عينيه يلتقط عيون الفتاة الواسعة، ذات الشعر القاتم الغزير امامه وجلس يفرك اصبعه فوق شفتيه منتظرًا انتهاء المزحة التي طالت دون معنى.

-اعتبر انك موافق؟

-انتي مصره تكملي لعب؟

-لعب أو لا ده قراري أنا، قولت أيه deal or no deal.

عاد للوراء يجلس بأريحيه أكثر ثم أخذ يطالع "ميرا" في شك قائلًا:

-أنتي بجد مش عارفة أنا مين؟

-بلاش غرور مش علشان طلبت مساعدتك هتعيش دور مشاهير السوشيال عليا،
ثم أنا هدفعلك مبلغ محترم.

لم يجيب وظل يراقبها في ذهول وقد حطمت غروره بالفعل فعلى ما يبدو أن قريبته لم تنتبه لوجوده ولو مرة واحدة على الأقل، نظرتها الحمقاء تجعله متيقن بانها لا تعلم صلة القرابة بينهما وتطلب منه تمثيل بالزواج منها في السر فعلًا!!
هو دونًا عن غيره.
سوء حظ أم حسن حظ ؟
لا يهم فهو على وشك إبراحها ضربًا حتى الموت إن فتحت فمها بطلبها الجريء من جديد أو أفضل ينتابه شعور قوي بتمزيق خصلات شعرها الغزير الذي يسرق انتباه من حولهم، والذي لا يتناسب مع ضعف قوامها ثم يجرها جرًا حيث والدتها لعلها تنفخ فيها بعض التربية الصحيحة.
تنفس من فمه يحاول سماع هذا الصوت الداخلي بعدم التدخل والرفض دون افتعال أي فضائح ثم الرحيل بشكل سلس نظيف بعد أن يلقي عرضها الوقح في القمامة.
لكنه جز على أسنانه يكبح غضبه ويحاول تمالك أعصابه حين أخرجته من بلورة أفكاره على صوتها الحاد الذي تخفي خلفه ارتباك وتوتر يشع من نظراتها:

-شوف لو مش موافق خلاص.

فرك وجهه في قوة يراقب عيونها المتعجبة من صمته الغريب فلا بد إنها تحسبه مجنونًا معدومة الحياء تلك وهو من كان يظنها ملاك منزوع الأجنحة سقط بالخطأ على أرضٍ من الذنوب، كاد يصرخ بالرفض في وجهها لكنها سبقته بقولها:

-أنا عندي حد يقبل عرضي متشغلش بالك خلاص.

علا داخله الصراع بين ضميره الحي ممثل الهموم الأزلي في حياته وسبب تورطه الدائم في مصائب لا تعنيه وهذا كله بسبب القيم التي تربى عليها، وبين هذا الصوت الخافت الذي يحثه على حمايتها والذي يحاوطه كلما وقعت عيناه عليها، زفر في حدة مستقرًا على قرار قبل أن يزجرها غاضبًا:

-أهدي شويه على نفسك أنا بفكر مش أكتر،
ثم أنا عايز أفهم أيه السبب اللي يخلي واحدة تطلب من واحد غريب يمثل انه جوزك ومش بس جوزك لا ده جواز في السر!

-السبب ده يعنيني أنا ومش ضروري تعرفه، اعتبر ده شغل أنت هتقوم بشغلك وأنا هلتزم بوعدي،
ولو تحب أنا ممكن أديك نص المبلغ دلوقتي والنص التاني بعد الست شهور، قولت أيه؟

ضاقت عيناه يطالعها في غموض يكبح داخله ثورة عارمة ولكنه قرر التراجع عن دفعها بعيدًا فهو لن يتركها تطلب المساعدة من شخص أخر فما أدراه ماذا سيفعل الأخر معها وكيف سيكون؟
لأن شخصً يقبل دور كهذا لن يمت للنبالة بصلة، أغمض جفونه لحظة قبل أن يفتحهما معلنًا قراره:

-اتفقنا ومش محتاج أخد فلوس دلوقتي، خليها ف أخر الاتفاق.

-اللي يريحك.

جاء ردها سريعًا وبريق السعادة والانتصار يلمع جليًا داخل عيناها، كاد يبتسم ساخرًا من شعورها الواهي بالنصر فقد برمت صفقتها للتو مع الجلاد .

***

خرج "زيدان" من ذكرياته متمتًا كلمات غير مفهومة وكأنه يشجع ذاته على الإقدام والمواصلة فيما هو عازم عليه، ربما كان عليه إخبار ذويها والانتهاء من الأمر لكنه يشفق عليها من ردود أفعالهم التي قد تدمرها تمامًا فهو لا يرى فيهم الطريق الأمثل للمعاملة ومعالجتهم للموقف ستكون شبه مستحيلة، فهذا الخلل في طفلتهم لم يتولد من الفراغ.

*****

في اليوم التالي، جذبت "ميرا" حقيبتها وقبعتها السوداء نغلقه باب السيارة قبل ان تلقي نظرة خاطفة في مرآة السيارة على ثوبها الأحمر الفضفاض منزوع الكتفين والذي يصل إلى أسفل ركبتيها كمعظم أثوابها المستوحاة من طراز الخمسينيات، فقد وجدت فيه كهف ملاذها تخفي فيه عدم تصالحها النفسي مع مؤهلات جسدها النحيف فهي تضفي عليها رونقًا وترسمها لأعين الناظرين بشكل لائق.
فكرت ساخطة على نحافتها وقصر قامتها لكن الابتسامة عادت تبتلع فمها متذكرة إعجاب "زيدان" بالنساء القصيرات مؤكدًا على تفضيله لهن، أما عن النحافة فهي لن تقسو عليها لأنها سعيدة بالتغيير الذي طرأ على جسدها الأسابيع الماضية، فقد تفاجأت بالميزان يهلل لها فرحًا معلنًا زيادتها بضع كيلوجرامات قليلة في الأسابيع الماضية دون تخطيط منها.
وهو ما تعتبره شيء خارق خارج عم المألوف، فقد وضعت الكثير من طاقتها من أجل إيجاد طرق لزيادة الوزن بين اتباع حميات غذائية شهيرة وابتلاع أدوية تعمل كفاتح الشهية بالإضافة إلى لجؤها لأخصائية تغذية وكل هذا انتهى بالفشل دون تحقيق ما تسمو إليه.
ابتسمت لنفسها سعيدة بالرضا المنبثق منها اليوم، ثم حركت طرف إبهامها فوق فمها ترتب أحمر شفاها قبل أن يقطعها صوت "زيدان" المتذمر:

-أنتي شكلك مش عايزة تطلعي، يبقى نروح أحسن.

التفتت ناظرة له من أسفله لأعلاه في انزعاج متجاهلة وسامته المشعة دون أي جهد يذكر منه فهو يرتدي جينز أسود وقميص أبيض سادة يحتضن صدره سوى من بضع الإنشات في أعلاه يعرضها بفخر للعيان، حركت رأسها مبعدة أنظارها عنه في خجل من وقاحة أفكارها قبل أن تردد مؤكدة:

-قدامي يا كسلان على فوق، وكمان مفيش نوم بدري أنا بحذرك.

أخبرته بحركة صغيرة من رأسها تؤكد قرارها بينما تلقي بخصلاتها للخلف متحركة لداخل المبني ثم إلى أعلاه حيث يقبع أصدقائها.
اتبعها زيدان المبتسم شاعرًا بتلك الثقة المتزايدة يومًا بعد يوم فقد لاحظ امتلاء جسدها بشكل ملفت في الأسابيع السابقة، لتتأكد شكوكه بأن شهيتها مرتبطة بحالتها النفسية، وان نحافتها ما هي إلا انعكاس لاضطراباتها الداخلية ارتفع فمه في ابتسامه راضية متأكد ان وجوده في حياتها هو سبب هذا التوهج.
دلفا سويًا وبعد التحيات والتفاهات تركها بقلب ثقيل تنغمس بين الفتيات اللواتي لولا أموالهم الطائلة لظننت إنهن امتهن العُهر، سعل بخفه يمحض رغبته في أن ينتشل "ميرا" حاملًا إياها عنوة من بينهم كي يخبأها بعيدًا عن مستنقع فسادهم.
تحركت عيناه بشكل تلقائي كلما شعر بالكره صوب "رامي" المسلط أنظاره الحاقدة فوقه فأومأ رأسه في حركة ساخرة انتهت قبل أن تبدأ مبتسمًا في مكر كي يزيد من غليانه، كما تغلي دماءه فهو متأكدًا من اهتمامه الزائد بتلك الحمقاء جواره والتي تحركت مقتربة منه عندما غير قادرة على فرض وجودها أكثر حينما اندمج الجميع في حديث ليس بها به مكان، متجاهلين تواجدها.
ابتلع مرارة مشاعره الكارهة لتواجده وتواجدها في هذا المكان وتلك الأجواء الماجنة بين شباب يتراقصون وأخرون غارقون في الخمر وكأنه ماء الحياة، أغمض جفونه يحث ذاته على الصبر فقد اقتربت النهاية.

-أنا أسفه ماما مكنتش موافقة انزل أقابلك امبارح، كان في حاجة؟

صدح صوت "ميرا" قاطعًا أفكاره فالتفت يتابع حديثها الموجة ل "ريناد" التي نظرت لها ببلاهة كأنها تحاول إدراك مقصد كلماتها أو ربما هي تحت تأثير مخدر ما:

-حاجة أيه؟

-الحاجة اللي كلمتيني عنها امبارح عشان أقابلك؟

تدخل "رامي" سريعًا يجذب انتباه "ريناد" لحديث داخلي داخل مقلتاه قبل أن يحذو بنظره نحو "ميرا" التي تشاهدهم في عدم فهم لكن "ريناد" أنهت الموقف مجيبة في لهجه مرتبكه سريعًا:

-اه اه، دي حاجة مكنتش مهمة نتكلم فيها بعدين.

حركت "ميرا" رأسها في براءة مرسلة ابتسامه لهما، بينما ضاقت عيون "زيدان" الذي يرغب في هز جسدها يحثها على فتح عيونها تلك الغبية وقد بدأت الشكوك تلتهم دواخله فهؤلاء الحمقى يخططون لأمر لن يعجبه البته.
أخرج نفس متقطع يحاول السيطرة على انفعالاته ثم انتقل بصره فوق "رائف" الذي بدأ يبتلع أقراص عده ومتنوعة بعيون واسعة فعلى ما يبدو أن الأحمق قررت الموت اليوم!
انقلب ثغره في تقزز وتلقائيًا مد يده يلقط كفها قبل أن يدفعها للاقتراب منه أكتر متجاهلًا تشنج جسدها المضطرب لكنها استرخت بعد دقائق وراقبها كيف انتقلت من السكون التام وكأنها ضائعة إلى الحماس والحديث بلا توقف منتشيه ببعض الانتباه التي يمررها لها "حازم" والذي كان ليبدو لطيفًا لولا وجوده في تلك الدائرة، استمر في حديثه التافه معها وهو يسألها عن العلامة التجارية لقبعتها.
ثم استقام زيدان تلقائيًا يجاورها عندما صحبها حازم للشرفة كي تلقي نظرة على دراجته الجديدة وحين عادا بعد دقائق لاحظ كيف مدت الحمقاء يدها في اعتياديه لتلتقط كوب العصير الخاص بها فمال يهمس في أذنها:

-ما تشربيش العصير طالما سبتيه ومشيتي!

نظرت له متعجبة ثم سألت في استغراب:

-ليه؟

-أنتي قاعدة حرفيًا في غرزة، يعني وارد أوي حد من المساطيل دول يحطلك حاجة في العصير.

-وهيعملوا كده ليه؟

-مساطيل بقى هنعمل أيه!

حرك رأسه يائسًا من أن تدرك الحياة يومًا، تابع مراقبة لمن حولهم في صمت وتركها تنغمس في حديث عن "طفولتها" وفي رأيه هذا حديث ساخر حين يجاورك شخص يغفو في حالة من السُكر، وأخر أذهبت المخدرات عقله كليًا حتى إنه بدأ في ملامسة الفتاة جواره بشكل لا يلائم تواجدهم حوله!
لكن بالتأكيد لم تجذب تلك المشهد انتباهها وكادت تتطرق لموقف حدث لها في الصغر جعلها مرتبطة بالقبعات إلا ان إحدى الفتيات صرخت بمزحة تتناسب مع الحوار قبل أن تغرق في ضحكاتها وكأنها مزحة حائزة على الأوسكار سارقة رؤوس من لايزال محتفظًا بوعيه.
راقب كيف تسمرت "ميرا" وتراجعت في مقعدها باستسلام منسحبه عن ساحة الأضواء، وقتها أراد أن يسألها ما هو سر تعلقها بهذا الجمع فكل ما يراه منهم نحوها هو الشفقة، وأكثر انتباه يعيرونه لها لا يتعدى بضع كلمات هنا وهناك وهذا في قاموس العالم ليست صداقة، أو على الأقل هي ليست صداقة في قاموسه هو!
لكنه يستثني من الشفقة "رامي" بالطبع والذي يقبض عليه يسترق النظر نحوها كل بضع ثواني، فكر ساخرًا لكنه نفض تلك الأفكار عنه واعتدل يصب جام انتباهه فوقها متسائلًا في فضول مفتعل:

-أيه السبب؟

نظرت له في تساءل لا تدري مغزى كلماته قبل أن تبتسم في خفة متسائلة:

-سبب أيه؟

-البورنيطه اللي على راسك دايمًا.

أشار إلى حديثها المنقطع قبل قليل، فتعلقت نظرتها الحائرة بنظره الغامض في حرب صامتة تحاول فيها اختراق دواخله وكأنها ستقبض على رغبة خفية هدفها الإيقاع بها والسخرية منها، قابل نظراتها المتفحصة بابتسامته الهادئة ولا يدري كيف أجابتها عيناه العسلية المائلة للون الخضرة ولكنها كانت إجابه كافية بأن تبادله الابتسام وتبدأ في الحديث تحكي دون توقف قرابة الساعة حتى أخذ الوضع يخرج عن السيطرة جواره بين ريناد ورائف اللذان بدأ في التقبيل علانيه دون مراعاه لمن حولهما، وقتها لم يستطع التحمل وتحدث معترضًا:

-احنا قاعدين هنا على فكرة!

التف له "رائف" يرمقه في انزعاج وعدم رضا عن تدخله قائلًا بلسان ثقيل:

-دي مراتي وأنا حر.

حك "زيدان" ذقنه مقررًا ألا ينخرط في نقاش مع ديوث مُخدر، لكنه مال نحوها هامسًا في أذنها:

-ما تيجي نمشي ونروح ناكل؟

-ونسيبهم؟

سألت في صوت ضعيف متردد فأشار لها بعيونه نحو أصدقاءها اللاهين في شئونهم الخاصة، مجيبًا في سخرية:

-محدش فاضي لينا أصلًا.

تابع في ترقب على أحر من الجمر كيف عضت شفتيها في خفة وهي تلقي نظرة خاطفة على الجميع ثم استقرت عيناها عليه محركة رأسها في موافقه مقتنعة بحديثة.
كاد يلقي قبضته في الهواء منتصرًا فكل ما يدور في عقله إنه نجح لتوه في سرقة اهتمامها وانتباهها عنهم وتركيزه صوبه هو!
حسنًا إذا كان الاهتمام هو غايتها، فسيمنحه لها دون توقف.
المهمة الأولي ... تمت بنجاح ...
فكر في صبيانية ثم ابتسم في غرور وهو يمد أصابعه نحوها ملتقطًا كفها كي يجذبها للوقوف ومرافقته للخارج.

*****

بعد تناول وجبة العشاء قرر "زيدان" مكافئتها بأن تشاركه متعته الخاصة بأن يقود سيارته متجولًا على الطرق بلا هدف.

-ما تتكلمي ساكتة ليه؟

صدح صوت "زيدان" قاطعًا الصمت المخيم داخل السيارة فحركت كتفيها بلا إجابة محددة وهي ترمقه بعناية ثم قالت:

-عادي، تقريبًا الأكل كتم على نفسي.

-ميرا فوقي يا روحي، أنتي اكلتي نص برجر مش خروف.

ابتسمت "ميرا" له شاعرة بإحراج من انتباهه لضعف شهيتها لكنها استكملت مغيرة الحديث في لهجة مشاكسة:

-طيب يا لمض اتكلم أنت.

ارتفع حاجبه في تعجب من حماستها مجيبًا دون أن يحيد بعينيه عن الطريق:

-هقول أيه؟

-مش عارفة، كلمني عن حياتك مثلًا.

لوى رقبته نحوها مرسلًا لها ابتسامة صبيانية ثم أعاد وجهة نحو الطريق وهو يخبرها متعجبًا:

-أنتي عارفة كل حاجة في حياتي، احنا بقالنا كتير بنتكلم في أدق تفاصيل حياتنا.

-لا أقصد عن نفسك وعيلتك مش عن شغلك وأصحابك ويومك، أنت تقريبًا عمرك ما اتكلمت عن حد غير والدك.

أخبرته شبة متلعثمة بينما تضم شفتاها تشعر ببعض الخجل من تطفلها المباشر، لكنه أوقف توترها بحديثه التلقائي عن نفسه:

-عشان ماليش غيره بعد أمي الله يرحمها، وأنا وحيد أبويا وأمي ماليش أخوات.

حانت منه نظرة خاطفة نحو وجهها حين ساد الصمت وارتفع حاجبة في تعجب وهو يتفحص تقاسيمها الحزينة المندمجة مع قصته فابتسم ممازحًا:

-انتي هتعيطي ولا ايه بقولك وحيد مش متوحد!

زفرت في ملل من تبلد مشاعره وقد انكمشت ملاحمها في تذمر وعيناها تدور داخل مقلتيها مردده:

-أنا غلطانة اني بعبر عن مشاعري معاك.

علا صوت ضحكاته ثم مد أصابعه يعبث بأزرار المذياع حتى أستقر على إحدى المقاطع الغنائية الهادئة ثم رمقها بطرف عينه متسائلًا في فضول:

-كلميني عن طفولتك؟

اهتزت ضحكتها ولكنها نظرت بعيدًا متمته في عدم اكتراث:

-كانت طفولة عادية مفيهاش حاجة مميزة.

-وكنتي متعلقة بأصحابك بردو زي دلوقتي؟

سأل في نبره متقطره بالفضول فهمست محرجة أثناء نظرها من النافذة جوارها للخارج :

-مكنش عندي أصحاب وقتها، كان في بنت بحبها بس للأسف بعدت عنها لما اشترت كلب.

-لا حول ولا قوة إلا بالله، خسرتي صاحبتك عشان اشترت كلب!

-أيوه أنا عندي فوبيا الكلاب، ممكن أنتحر اساسا لو شوفت كلب،
كمان مخسرتهاش بالمعنى الحرفي أنا بس كان نفسي نبقى أصحاب وهي مكنتش مهتمة.

شعر بموجات من عدم الراحة والتوتر الزائد تنبعث منها واكبتها حركة أصابعها المتسارعة فوق فخديها فتحدث مغيرًا الحديث في نبرة مشاغبة:

-أحسن حاجة، مفيش أرخم من الصحاب الصغيرين وأن عيل عنده خمس سنين يتفاوض معاكي على سندوتشاتك بدل ما يقول للميس انك بتحبيها!

دارت برأسها نحوه في صدمة قبل ان تنفجر ضاحكة مشيرة بنظرات الاتهام نحوه مستنكره:

-مستحيل كنت بتحب الميس وانت عندك خمس سنين؟!

رفع أصبعه في الهواء مجيبًا بملامحه الجادة:

-أنا ممكن أكون خمس سنين لكن كنت مخلص بكل كياني، طيب أنتي عارفة لما بنت كانت تقولي بحبك مصيرها كان بيبقى أيه؟

-أيه؟

-كنت بفقعها علقة موت!
قسمًا بالله أي بنت كنت ألمحها كده بتحبني كان بيبقى يومها أسود من قرن الخروب.

اتسع عيناها في ذعر ثم حركت رأسها لليمين واليسار في ذهول مسترسلة وسط ضحكاتها:

-أنت مش طبيعي!


أوقف السيارة أمام كورنيش النيل واعتدل يطالعها بابتسامه مستكملًا في مشاكسة:

-اه، أنا راجل عصامي أحب أبني بؤس حياتي بنفسي، أحب الست اللي عمرها ما تحبني، لكن أحب واحدة مناسبة ليا وتحبني زي ما بحبها، أيه هنكفر ولا ايه؟!

-والله العظيم مجنون، طيب ودلوقتي بتعمل أيه في البنات لما تحبك؟

سألته تحاول تغطية فضولها بنبرتها الممازحة فارتفع فمه في نصف ابتسامه ماكرة وهو يطالع الفضول والارتباك المتفاقم داخل حدقتيها ثم أردف في لهجة خبيثة:

-خليها تحبني ونشوف هيحصل أيه!

انعقد حاجباها في حيرة متعجبة إجابته المزعجة فمال يقرص وجنتها الحمراء مستكملًا في مشاغبة :

-تحبي أحكي كنت بعمل أيه مع البنات لما بقى عندي عشر سنين؟

-مش محتاجة اكيد كنت بتكهربهم.

اندمجت ضحكاتهما سويًا حتى توقفا لالتقاط الأنفاس، ساد الصمت المريح بين كلاهما مدة إلى أن قطعة صوت رنين هاتفها فتغيرت ملامح وجهها تمامًا قبل أن تقطع الاتصال.
حك زيدان جانب ذقنه يشعر بمشاعر مختلطة ترتفع داخل صدره وصار يخشى عواقبها الوخيمة على قلبه الساذج أكثر من عواقبها عليهاؤ فهو لا يرغب في فرض حصاره المندفع حولها ولكنه فشل في كبح مشاعر غيرته عليها وانتهى الحال به متسائلًا:

-مين بيتصل؟

-دي ماما.

-ما ردتيش عليها ليه؟

قضبت بين جبينها لا تشعر بالراحة في الإفصاح عن جام مشاعرها له واكتفت بهمستها:

-مالوش لازمة

-أنك تطمني أمك عليكي مالوش لازمة؟
عارفة لو بابا اللي اتصل بيا كنت سيبت الدنيا تولع ورديت عليه، وعلى فكرة مامتك ست لطيفة من شوية المواقف اللي عاصرتها بينكم واضح انها زي اي أم خايفة على بنتها وعايزه مصلحتك.

كاد يضيف أن خطأها الوحيد إنها تترك زمام الامور في ملعبها دون مراعاة لجنون هذا السن وعدم اكتمال نمو شخصيته بشكل كامل أو منطقي لكنه سيطر على لسانه.
تفاقم غضبها من تدخله وحديثها عن علاقتها بوالدتها وكأنها طفلة متمردة بل مدللة فلا أحد عاش ما عاشته ولا عاصر ما عاصرته من جنون في حياتها:

-أنا حرة يا زيدان دي حاجة خاصة، متدخلش لو سمحت.

تعلقت عيناها بعيونه المتصلبة التي لا تبوح عن مكنونات صدره أو ردود أفعاله تجاه نوبة غضبها، وشعرت بارتعاش طفيف يهز قلبها.
بينما عض "زيدان" فوف لسانه في قوة كي لا يثور في وجهها غاضبًا ليس على حديثها معه بهذا الشكل ولكن بسبب قراراتها المتهورة كمعظم المراهقين يرون في ذويهم العقاب متناسيين أنهم منبع الأمان لهم.
أدار محرك السيارة في صمت دون إجابة محافظًا على ملامحه الساكنة لكنه متأكد من تأثير صمته عليها فقد كانت تتلوى جواره كقطعة من اللحم تستوى على فحم الانتظار، لعق شفتيه وتأهب مترقبًا حديثها في أي لحظة، فخبراته التي اكتسبها مع النساء لن تضيع هباء:

-ممكن أفهم أنت زعلان ليه ويفرق معاك ليه ارد أو لا ؟

أوقف السيارة في حدة متعمدًا إثارة مخاوفها ثم أخبرها في جدية تامة:

-أنتي فاهمة كويس أنا زعلان ليه فيلاش لف ودوران،
أنا كنت فاكر أننا على درجة كبيرة من التفاهم، واعتبرتك أقرب أصدقائي رغم فترة التعارف البسيطة بينا، بس واضح اني قرأت بين السطور أكتر من اللازم.

أنهى جملته باهتزاز عاطفي مقصود يومأ رأسه كأنه يشعر الخذلان من فعلتها، نجح فيها من إثارة الدقات المتضاربة بين ضلوعها فأسرعت مبررة:

-أنا كمان بحسك قريب مني، أنا مقصدتش كل ده الموضوع وما فيه ان علاقتي أنا وماما معقدة شوية.

-لازم تتعقد يا ميرا أنتي مش بتدي نفسك فرصة تتكلمي مع مامتك زي أي بنت وأم طبيعين، لو بتديها نص الاهتمام اللي بتدي ل رودينا مثلًا صدقيني العلاقة بينكم هتتحسن.

أصر وهو يحرك يده من حوله وكأن كلماته أمرًا بديهيًا فأغمضت جفونها قائلة في استسلام:

-طيب حصل خير، ممكن نتكلم في الموضوع ده بعدين؟

فركت ذراعها في توتر لا تجد إجابة تترجم مشاعرها المتخبطة المكبوتة وكأنها تخشى انفجارها وإخافته من مدى حاجتها لأحد جوارها تتفهمه ويتفهمها.

-اللي يريحك.

-أنا أسفة لو حسيت اني عليت صوتي عليك.

ارتفع جانب وجهه ساخرًا يخبرها في عنجهية لا تجد لها مبرر طبيعي:

-لا مفيش داعي للأسف، لو حسيت أن صوتك علا عليا كنت قصيت لسانك.

ضمت شفتيها في انزعاج من إجابته الاستفزازية لكنها لم تتوقع أبدًا كلماته التالية وكأنه يتعمد وضعها في خلاط يدوي كبير، زر تحكمه دفين تحت إبهامه، يضرب داخله حصونها وأقنعتها ويعريها داخليًا لعيونه الناعسة الثاقبة:

-هو أنا لو طلبت منك تبطلي لبس الفساتين اللي بتبين نص جسمك ده، هتسمعي كلامي؟

حدقت به دون فهم لمطلبه أو فهم لسرعة تحوله من موقف إلى أخر، هل سبب له جسدها نوع من الاشمئزاز؟
فركت أعلى كتفها العاري متوترة وقد أشعرتها كلماته بخلوه من القماش ودبت البرودة إلى أطرافها، لكنها وجدت نفسها تسأله متلعثمة :

-هو مش لايق عليا؟

-للأسف هو لايق عليكي أكتر من اللازم.

تعلقت عيناهما للحظات قبل ان تنسحب هي اولاً مستفسرة في توتر:

-ودي حاجة وحشة؟

فرك خصلاته مرات متتالية يحاول تجميع كلماته:

-وحشة لما يشوفها اللي مالوش حق فيكي، أنا مش بتكلم عشان أديكي درس في الحلال والحرام لأنك خلاص داخلة على عشرين سنة وأكيد عارفة إنه حرام فعلًا،
أنا بتكلم معاكي لأن في حاجة جوايا بتخليني متضايق لما أشوف أي واحد بيبصلك.

-بيبصلي أنا؟!

سألت "ميرا" في صدمة وهي تضع يدها على صدرها كأنها لا تصدق كلماته التي توحي بأن أحدًا من الجنس الأخر قد يهتم بوجودها، فحرك رأسه في قلة حيلة مؤكدًا:

-أنتي جميلة على فكرة.

-أنا جميلة؟ أنت شايفني جميلة بجد يا زيدان؟

سألت في هدوء وعيناها الواسعة تطالعه في براءة، فأخبرها في ضيق بسبب تحريكها السافر لمشاعره:

-لو مش جميلة هقولك ما تلبيس كده تاني ليه؟
ما انا مش ههتم ساعتها!

-أنا بلبس كده عشان بحس بثقه في نفسي أكتر، أنا رفيعة لو أنت مش واخد بالك!

رد في نبرة هادئة وكأنه يخشى التخبط وإخافتها من تدخله المفاجئ في حياتها:

-مش معنى انك رفيعة انك وحشة، ربنا خلقنا مختلفين لسبب، وكل انسان وعنده جماله الخاص وأنتي ربنا رزقك الجمال في ضعفك ورقتك.

-ضعفي؟

-ممكن ما تفهميش كلامي بس أنا لما بشوفك قدامي بحس اني عايز أخبيكي عن العالم كله وبكون عايز أقتل اي واحد ممكن يبصلك بصة وحشة.

طالعته متصلبة كتمثال حجري في ذهول وقد غرقت في حالة من الصدمة غير متوقعة كلماته، رمشت ثم ارتفع أنفاسها المترقبة تحاول السيطرة على الأعيرة النارية التي يطلقها قلبها فرحًا وهي تستجمع شجاعتها متسائلة:

-ليه؟

-حاليًا مش لاقي جوايا مبرر غير عشان أنتي أقرب أصدقائي وغالية في نظري فوق ما تتصوري.

أنهى جملته في حنو بالغ نجح في إزاله العبسة بين حاجبيها ووجد نفسه يميل كي يمرر أنامله فوق وجنتها مبعدًا بعض خصلاتها خلف أذنها في سكون.
غامت عيناه بمشاعر مضطربة وهو يراقب صدرها يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة وكأنها تلهث لاستنشاق الهواء، وكيف نجحت عيناها المخادعة في خطف أنفاسه وكأنها تسحبه معها لمشاركتها تقطع الأنفاس وكأنها توشم روحه بتواجدها، شعر بالحرارة تسري في جسده فأبعد انامله عنها مستغفرًا الله في باطنه محركً رأسه لليمين واليسار كي تهرب منه الشياطين، ثم أكمل مؤكدًا:

-ميرا أنا مش بطلب منك تغيري لبسك بشكل جذري ممكن جاكت أو شال صغير على كتافك ويا سلام لو فساتينك تطول لحد السمانة شويه يبقى كتر خيرك،
هو طلب يبان سخيف أو تافه لكن هيفرق معايا وهيخليني حاسس براحة أكتر.

-راحة في أيه؟

همست في نبرة منخفضة متلعثمة وعيناها غارقة في عالم الأحلام تراقب كل حركة منه فرد مبتسمًا في خفة:

-راحة في الزيجة دي، أنتي ناسية إنك مراتي ولا أيه .... يا روحي؟

لكمته بتلقائية في ذراعه تحاول تغطيه ابتسامتها بتوبيخها له:

-تصدق طالما بتغيظني يبقى مش موافقة.

لمعت عيناه الناعسة ثم قال في ثقة عالية لا يدري مصدرها وكأنه يحتكر صكوك ملكيتها مدى الحياة:

-يبقى اتفقنا يا روحي.

ضاقت عيناها مستنكرة استفزازه ومشاكسته الدائمة لها، لكنها ابتسمت لنفسها في مكر فلو يدري مدى تأثرها وتعلقها به كلما خرجت حروفه الحانية والساخرة بنطق كلمة "روحي" لهرب من هنا إلى الجانب الأخر من العالم سيرًا على الأقدام.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الخامس 5

تحركت "ميرا" داخل غرفتها في خطوات سريعة تقذف بعض ملابسها في إهمال داخل حقيبة الظهر تستعد لقضاء بضع أيام في منزل والدها، حتى تعود والدتها من رحلة عملها التي ستستغرق أسبوع كامل أو هكذا تظن والدتها لأنها بالطبع ستعود إلى منزلهم ما أن تسافر متظاهرة بانها قضت أيامها مع والدها المنشغل سوى عن منافعه الشخصية، قطع عبثها بأغراضها أتصال "زيدان" المبكر عن المعتاد فاتسعت ابتسامتها سعيدة ببدء يومهما منذ طليعته ثم اجابته:

-صباح الخير.

-امممم .. صباح الورد، صوتك كان واحشني جدًا.

انتقلت لها مشاكسته في صوته الخشن المنخفض الدال على استيقاظه للتو، فعضت شفتيها قائلة:

-أنت لحقت، احنا لسه متكلمين بليل.

طغت ابتسامتها الواسعة على كلماتها فابتسم ابتسامه صغيرة وهو يتحرك داخل غرفته:

-والله العظيم وحشتيني.

-شكرًا.

همهمت في خجل وقد احمرت وجنتيها فخرجت منه ضحكة ساخرة ولم ترى اهتزاز رأسه المتعجب من ردودها الخجلة فتشدق متهكمًا وقد تحولت هالته الهادئة، كغيوم ضربت السماء الصافية فجأة:

-مش فاهمك وخايف تكوني بتلعبي عليا.

-العب عليك؟

- أقصد أقول على طبيعتك، عشان غريبة أوي تبقي عاملة متجوزة في السر وبتخجلي كوكتيل غريب جدًا الصراحة.

انعقد حاجبيها في ضيق كأنه صفعها فطوال الأيام الماضية كان يتعمد جرح مشاعرها بكلماته الغير متوقعه، ولن تنكر انها كلما سمعت تحليله لتصرفاتها في صوتٍ عالٍ، تشعر بغصة تمتلك جوارحها وكأنه ينعش بويصلة الصواب والخطأ داخل قلبها كالكهرباء، لكنها تداركت الموقف فأخبرته غاضبة:

-أنت قصدك أيه؟

تبدلت نبرته تمامًا وكأنه لم يحتقرها منذ لحظات وهو يردد في تلقائية:

-مش قصدي أزعلك، لكن أنا ملاحظ حاجة غريبة فيكي وأنتي مع أصحابك.

لعقت شفتيها في توتر وقد استرجع عقلها الكلمات العدائية المنبعثة من أبناء جيلها حول كونها مسخ اجتماعي يجب تقييده وعدم السماح له بمخالطة البشر، لكنها جلست على فراشها تشعر بالدوار متسائلة في نبره ظنتها حادة لكنها خرجت مهتزة:

-غريبة؟

-أنتي أكتر إنسانه خجولة وعلى طبيعتها شوفتها في حياتي.

أجابها في نبرة واثقة يعلم جيدًا إنه يربك دواخلها ويثير التساؤلات حول تصرفاتها، فمن قضائه الوقت الماضي معها تأكد إنها شخصية رقيقة هشة غير مكتملة الملامح، ف "ميرا" شبيهه بنسمة هواء عليل يتحكم بها الغلاف المحيط حولها فأن كانت السماء صافية ظلت تتخللك بعبير الطبيعة من حولها وأن احتلتها الغيوم تحولت لرياح شديدة محملة بالغبار تنتظر تخبط السحب حتى تهطل الأمطار وتتحرر متطهره.
هي فتاة حائرة تائهة في دوائر الزمن، ودرجات نضوجها الفكري متوقفًا نوعًا ما، ليس وكأنها مصابة بخلل عقلي بل هي مصابة بخلل اجتماعي وشخصي وهبوط حاد في الجانب التربوي.
خرج من أفكاره الغامضة بالنسبة لها على صوتها المستنكر:

-وده المفروض حاجة وحشة؟


جذب نفسًا عميقً يدري انها لا تملك من القوة والسيطرة كما تدعي، وفي بعض الأوقات يتملكه هذا الشعور بانها تتوهم قوتها وتهورها بمعنى أخر كأنها تتلبس شخصًا بصفات ليست هي، بدأ يتنقل في غرفته مردفًا في جدية ممزوجة بتهمك متعمد وكانه يتلذذ بإمكانية نفاذة داخل شرنقتها وبالتخبط المشع من نبرتها:

-وحش لما يبقى الوقت الوحيد اللي بتتصنعي فيه هو وقت وجودك مع أصحابك، طالما مش قادرة تندمجي وتتكيفي معاهم بشخصك متمسكة بيهم ليه دول حتى مش بيهتموا بوجودك معظم الوقت!

كان مدرك إنه يمزق مشاعرها الحساسة ولكنه غير قادر على تحمل غيرته المستجدة بشكل مرعب نحوها وكأنها تخصه وحده دونًا عن غيره ولا حق لهم برؤيتها، فهو غير قادر على كبح رجولته الثائرة داخلة كالبركان كلما تأكلت نظرات رامي المهتمة تلك الغافلة.
حاول "زيدان" محاربه مشاعره الحقيقة وإخمادها طوال الفترة الماضية إلا أنه لا يستطيع التحمل أكثر وصار على وشك الانفجار ونفث الحمم من فمه، ساد الصمت من طرفها أكثر مما ينبغي فاستطرد يسرقها من أفكارها:

-أنتي عارفة اتصلت بيكي ليه؟

-عشان تهزأني؟!

ردت متهكمة فكاد يبتسم ولكنه كبح ابتسامته مغيرًا تكتيكة الهجومي عليها مؤكدًا في نبرة خافتة خرجت حانية للغاية:

-المطعم خلص امبارح بليل، وعايزك أول واحدة تشوفيه في شكله النهائي.

أجل .. هذا الرجل قادر على قلب أفكارها وموازين مشاعرها في لحظة وقد انتقلت من غضب وحزن وجلد ذاتها إلى ذلك الشعور الدافئ الذي يسْكُن القلوب، كدفء السماء وقت غروب الشمس، وبدلًا من أن تصرخ ببعض الكلمات المجهزة داخل عقلها عن خطأ تحليله لقوة علاقتها هي وأصدقائها، وجدت لسانها يتحرك لا إراديا سائلًا في عدم تصديق:

-ليه أنا الأول؟

-السؤال الصح من امتى وازاي؟
بس في الحالتين مش محتاج أجاوب.

ضاقت جفونها مستشعرة نبرات غرورة وكأنه ملكً تتحرك الجاريات تحت ساقيه وقبل أن توبخه دلفت والدتها قاطعة حديثهم على عجلة:

-أنتي لسه ما جهزتيش لازم تتحركي لباباكي قبل الزحمة ده غير اني نازلة كمان ربع ساعة.

غطت الهاتف بكفها مجيبة في نبرة ثابتة:

-أقل من خمس دقايق وهبقى قدامك.

خرجت والدتها تاركة لها حرية التجهيز وحين أعادت الهاتف على أذنها قال زيدان في تعجب:

-أنتي رايحة لباباكي، أفهم من كده مش هينفع تيجي؟

-لا طبعا ساعة وهكون في المطعم، مش هروح لبابا اصلا.

ظهر التعجب والاستنكار جليًا من صوته المتسائل:

-مش فاهم؟

-لما اشوفك هفهمك، باي..

وبذلك انتهت المكالمة ثم ركضت ميرا تضع أغراضها دون اهتمام فكلها ساعات قليلة وتعود كل الأغراض إلى موضعها الأصلي.


*****


جال "زيدان" أمام بوابة مطعمه وهو ينظر إلى ساعة يده للمرة المائة في تذمر، يعد الدقائق السابقة على وصول ملكة الحسن والجمال، ويتملكه حماسة كبيرة وفضول أكبر لمعرفة رأيها في "مطعمه" صحيح إنه ملك مشترك بينه وبين أصدقائه ولكن عقله وأفكاره هو الذي أوصلهم هنا لامتلاك مبنى يساوي الكثير.
هذا المكان يعد بئر الأماني وبداية حلم لطالما راوضه، ملئه بشقائه وعرقه الذي لم ينضب بعد والكثير الكثير من مدخراته.
عاد من أفكاره مجددًا نحو ميرا والتقدم الكبير الذي احرزه معها وكيف نجح في الشهور الماضية من سحبها تدريجيًا من حياة هؤلاء الحمقى، ابتسم في نصر فقد نجح في حصر لقائهم من ثلاث مرات أسبوعيًا إلى مرة كل أسبوع أو عشرة أيام، وفي مقابل تفويت تلك اللقاءات كان يصحبها للتجول والخروج معه بدلًا من قضائها الوقت معهم.
وهذا في قاموسه بداية النصر...

فرك شعيرات ذقنه النامية، مفكرًا أن عليه الذهاب لصالون الحلاقة اليوم، فلا يجوز لمالك مطعم أن يبدو كالمتسكعين، ضحك على مزحته الصامتة ثم التفت حوله في حرج خوفًا من أن يلاحظ جنونه أحدًا ويظنه هارب من المرستان.
زفر مغتاظًا بعد دقيقة وقد عاد غياب ميرا إلي ذهنه، اللعنة .. لما عليها التأخر اليوم بالذات؟
حرك رأسه في حركة يائسة محاولًا إدراك وتفسير تلك "الرغبة المُلحة" بضرورة حضورها وخوضها تلك الخطوة الهامة في حياته جواره، بلل شفتيه متوترًا فقد أحتلت "ميرا" معظم أفكاره وطبعت طابع مميز على أوقاته، طابع غريب هو غير مؤهل لتفسير غرابته.
فمنذ متى كان لها هذا التأثير وكيف توغلت محتله مكنونات قلبه؟
قطع تأمله وصول "ميرا" وبشكل تلقائي ارتسمت السعادة على محياه ليوازي ابتسامتها الواسعة، انتقلت عيناه فوق جسدها الذي بدأ يزداد امتلاءً مع كل يوم يقضياه معًا ليتأكد له ان سبب نحافتها المفرطة قديمًا كان مرتبط بانفعالاتها النفسية، راقب وجنتها الحمراء ووجهها المتوهج دون أدوات الزينة والتي لا حظ انها تفرط في استخدامها فقط وقت لقاء أصدقائها، نفض أفكاره عنهم لا يطيق تذكرهم، وتابعها تقترب منه قبل أن تصفق مرة في حرارة متفوهه في لهجتها الحماسية:

-أنت لسه واقف برا، أفتح الباب متحمسة أشوفه.

حافظ على ابتسامته الشبة متعجرفة رغم علو دقات قلبه المترقبة ثم استدار نحو الباب يفتحه في بطء، اندفعت هي قبله في صدمة وفم مفتوح تدور بعينيها حول المكان في انبهار جلي وسرور كبير، ضحكت وهي تصفق كفيها قافزة مرات متتالية معلنه:

-تحفة أوي، ذوقك خطير يا زيدان!

-مبسوط إنه عجبك.

أخبرها في صدق وسعادة وهو يمرر نظره حول المكان فخورًا بإنجازه، ثم خرجت منه ابتسامه ساخرة عندما ركضت ميرا نحو ركن الألعاب للأطفال مأخوذة بالألوان بينما تتمتم بكلمات حماسية لم تصله لكنه اتبعها قائلًا في مشاكسة:

-مش هينفع تدخلي غير بولي أمرك.

قلبت عيناها في استخفاف من كلماته المستفزة ثم وضعت يداها في خصرها قائلة:

-أنا كملت عشرين سنة بلاش تعيش الدور.

-ولو عندك تلاتين سنة، هتفضلي طفلة في نظري.

تسمرت "ميرا" تطالعه في هدوء يخالف الجنون داخلها ثم بللت شفتيها دون قدرة على فهم سبب ارتباكها اللحظي الذي احدثته كلماته داخل جوانب صدرها، لكنها نظرت بعيدًا عنه.
اقترب "زيدان" منها يتفحص طريقتها المضطربة في فرك خصلاتها الطويلة، ثم غير مجرى الحديث بقوله:

-فهميني أيه حكايتك مع مامتك وباباكي انهارده؟

أنهى جملته وهو يشير إلى إحدى الطاولات يحثها على الجلوس معه فاتبعته أثناء اجابتها:

-مفيش .. ماما عندها شغل ولازم تسافر أسبوع، وفي الحالات دي بكون مجبرة إني أروح أعيش مع بابا طول الأسبوع،
لحد ما ريناد اقترحت عليا حل جهنمي خلاني أقدر أهرب من الضغط ده كله.

ارتفع حاجبه في تشتت ثم سألها متعجبًا:

-ضغط عشان هتعيشي مع والدك كام يوم؟

-قصدك هعيش مع الحيطان كام يوم، بابا بينسى ان عنده بيت أصلًا ولو شوفته بيكون بالصدفة،
يبقى الأفضل أني أفضل بعيد عنه.

حرك رأسه متفهمًا مشاعرها سعيدًا إنها أصبحت أكثر تفتحًا وانسيابيه في الحديث عن مشاعرها الصادقة نحو أبويها، لكنه لم يمنع سؤاله الفضولي:

-وأيه هو اقتراح الهانم الجهنمي؟

لوت شفتيها في انزعاج وهي ترمقه محذرة، تدري انه لا يطيق "ريناد" بلا أي مبرر منطقي لكنها استمرت تخبره:

-أبدًا، بما ان بابا وماما منفصلين ومفيش تواصل بينهم بأي شكل من الأشكال ومقاطعين بعض من سنين،
فأنا أقدر بعد ما تسافر أرجع البيت وأفضل فيه لوحدي لحد ما ماما ترجع وتلاقيني مستنياها وكأني لسه راجعة من عند بابا، وكأن شيء لم يكن..

أنهت كلماتها بحركة طفيفة من كتفها وكأن ما يحدث هو مركز الاعتيادية، كبت داخله ألفاظ بذيئة يكاد يمطرها بها ويلعن فيها صديقتها الحقيرة ذات الأفكار الشيطانية، وجز على أسنانه يحاول تمزيق الغضب المتأجج داخله من أفعالها المتهورة ثم سألها في لهجه عنيفة:

-وافرضي حصلك حاجة أو دخل حرامي وانتي لوحدك هتتصرفي ازاي؟

-ساعات كتير، ريناد بتبات معايا.

قالت في سرعة مبررة ولكنه هتف في وجهها غير مراعي للهدوء الكامن من حولهما فرج صوته أنحاء المكان:

-الله يحرقها على اليوم اللي شوفتيها فيها هي البنت دي شيطان رجيم ولا عملالك عمل اسمه تمشي ورا كل كلامها حتى لو غلط!

-زيدان أنت بتتعصب ليه من غير سبب؟

همست منزعجة من تصرفاته الهوجاء ولكن جزء منها لا يزال يخشى غضبه ويربكها صوته العالي، فأكمل في حدة مؤكدًا:

-متعصب عشان أفعالك الغلط كترت، لو مش خايفه على نفسك خافي عليها عشان خاطر اللي حواليكي لو حصلك أي حاجة ريناد مش هتنفعك!

-أنت ليه محسسني ان الحرامية وقطاع الطريق مراقبني ما أنا بقالي شهور بعمل كده ومحصلش حاجة.

قالت مستنكرة وهي تعقد ذراعيها أمامها مغتاظة من انقلاب جلستهم الهنية الهادئة إلي أخرى مليئة بالصياح والشجار كالعادة.

حرك "زيدان" رأسه مرة للأعلى والأسفل ثم أردف:

-جميل أوي، أحنا نستنى المصيبة تحصل وبعدين نندم، صح كده؟
هو ده مبدأك ومنطقك في الحياة؟

حاولت الهرب من الاجابة فقالت ممازحة:

-أنت بس اللي بتخاف عليا.

لكن اجابته جاءت صريحة فاقدة لأي نوع من أنواع المرح:

-أيوه بخاف عليكي!

لمعت عيناه بلمعه ارتعش لها قلبها الأحمق فهمست كالمغيبة تسبح في لون عيناه الناعسة:

-ليه؟

-أنتي عارفة ليه!

-لا مش عارفة، قول ...

ابتسم في شقاوة بعد أن تذوق اللهفة في نبرتها مدرك تمامًا لما ترغب في سماعه لكنه قرر ملاعبتها أيضًا بقوله:

-طيب ما تقولي أنتي.

عضت شفتيها في توتر تهرب من عيناه الثاقبة وأنقذها رنين هاتفها فأسرعت تخرجه من حقيبتها إلا أن ملامحها اهتزت وهي تقرأ أسم "ريناد" فوق الشاشة، فوقفت متوترة تبتعد في صمت عن مرمى عيناه المتسائلة، وعندما تأكدت من ابتعادها عن الغاضب خلفها أجابت مسرعة:

-ألو يا ريناد...

-ميرا، هنتقابل انهارده ساعة بدري.

-اه okay هقول لزيدان ....

قاطعها صوت ريناد المنزعج:

-لا احنا عايزين نقعد معاكي لوحدك بلاش تجيبي سي زيدان معاكي المرة دي.

-ليه مش فاهمة؟

-الصراحة كده لما بيكون موجود كل اهتمامك بيبقى عليه واحنا مش بنقدر نشبع منك نهائي.

-لكن أنا قولتله من بدري اننا جايين ومش هينفع أقوله ما يجيش.

-اتصرفي يا ميرا، أنا مضطرة أقفل عشان رائف ييناديني، سلام...

أغلقت الهاتف وهي تشعر بالحيرة والتخبط عن سبب رفض أصدقائها لتواجد زيدان؟
لماذا بدأت تشعر بالضغوطات تتجمع فوق كاهلها ومنذ متى وهم يهتمون؟
عادت بها ذكرياتها إلى أول يوم التقت فيه بجمعها المجنون من الأصدقاء.

***

كانت "ميرا" جالسه في النادي بجوار "تالا" المسكينة أبنه صديقة والدتها والتي أجبرتها والدتها على الخروج معها شفقة منها أو تلبيه لتحايل "أماني" التي تريدها أن تخرج وتنشئ بعض الصداقات، فهي تبلغ من العمر الثامنة عشر ولا تزال منطوية ساكنة كطفل فطمته أمه عن الرضاعة حديثًا.
ابتلعت ريقها في توتر والقت نظرة جديدة على تالا التي تبتسم وتشير للجميع من حولها في سلاسة واعتيادية متمنيه لو تستطيع الخروج من جلدها ولبس شخص أخر ك "تالا" كي تجرب هذا الشعور بالطبيعية ولو لثواني معدودة.
تنهدت مغمضة عيناها تحاول استحضار تلك الفيديوهات النفسية والقراءات الكثيرة التي تتعلم منها محض الخجل، والتصرف كأنها شخصًا أخر أكثر ثقة، شخصًا سعيدًا عاديًا، شخصًا ليست هي.
شيئًا ما تحرك داخلها في تحدي ففتحت جفونها في إصرار تحاول هدم أسوار عالية تحكمها ثم أخذت تحدق في تالا المبتسمة للمارة واتسعت عيناها وهي تتابع كيف لاحت من "تالا" نظرة لعوب نحو شاب مارًا جوارهم تلتها ابتسامة مغوية وراقبت كيف كاد يتعثر الشاب أرضًا.
قطع ذهولها صوت ضحكات "تالا" المتسلية قبل أن تستأذن ذاهبة للمرحاض هاربة من ملل تواجدهما سويًا.
وجدت "ميرا" نفسها تطالع المكان من حولها وشيطانها يدفعها للخروج من قوقعتها وملاحقة شبابها الضائع في الخجل والصمت.
كان عقلها يسبح في تصورات غريبة وكأنها في بلد أخر وحولها إنسً أخرون ووسط جنون انفعالاتها تفاجأت بأن عيونها معلقة ومستقرة فوق عيون سوداء شقيه تتابعها في فضول.
اتسعت عيناه السوداء المرتعبة وابعدت انظارها سريعًا، ثم مدت أصابعها المرتعشة تحتضن كوب العصير ترتشف منه منقذه حلقها الجاف ورغمً عنها حانت منها نظرة نحو الشاب الذي غمز لها في وقاحة ما أن التقت عيناهما.
عضت شفتيها واستسلمت لشيطان أفكارها وهي تجبر ذاتها على الاختباء في بؤرة سوداء بعيدًا عن تلك الحياة الغريبة التي تستهويها.
علت انفاسها وكادت تقسك انها شعرت برجفه كفيفه في جسدها إلان أنها اجبرت ابتسامة فوق ثغرها في محاولة فاشلة لتقليد سحر "تالا" ومحاولة الابتسام تجاه الشاب الذي تفاجأت به ينتصب من مكانه ويتجه نحوها في خطوات ثابتة، شهقت في صدرها وكادت تركض هاربة ولكن كل عضلة في جسدها كانت مخدرة بنشوة فعلتها الخاطئة، فظلت مكانها حتى وقف الشاب أمامها مباشرة قبل أن يمد يده لمصافحتها قائلًا في ثقة:

-أنا رامي التهامي، ودول أصحابي شافوكي لوحدك ومصرين انك تيجي تقعدي معانا ونتعرف على بعض أكتر.

انفرج فم "ميرا" على وسعه ورفعت أصابعها تلامس صدرها في صدمة متسائلة:

-أنا؟

-اه أنتي، لو مستنيه حد تقدري تجيبي معاكي، احنا حبينا نكون اصدقاء جديدة مش أكتر.

قفزت من مكانها حين طال صمتها وكاد أن يغادرها ظنًا انها ترفض عرضه، لكها أوقفته في حماسه متلعثمة:

-لا أنا لوحدي ومش مستنيه حد.

ابتسمت في بطء حين اتسعت ابتسامة الشاب المشرقة واشار لها بالتحرك خلفه، شعرت ميرا بقلبها يدق في عنف وكأنه يحارب كي ينخلع من بين ضلوعها، لا تصدق أنها على وشك إقامة صداقات للمرة الأولى في حياتها، أصدقاء حقيقين، أثارت هي انتباههم وليست مكانه والدها أو شفقة بسبب تحايل والدتها لمرافقتها بعض الوقت.
تجربة جديدة متلهفه لتذوق حلاوتها والشعور بالأدمية من جديد، مستعدة التضحية بعمرها كله في سبيل نجاحها أمله بأن يستقر بها السبيل، نظر جميع الجالسون حول الطاولة نحو "رامي" المبتسم في غرابة وغموض ما ان انضموا إليهم لكنهم بدأوا في التعريف عن أنفسهم بشكل بطيء ما أن أخبرهم "رامي" بنبرته اللطيفة بينما هي كانت تطالعهم في سعادة كبيرة وكأنها ربحت اليناصيب وتركت نفسها تنساق وراء شخصية وهمية رسمتها لنفسها كي تحذوا حذوها ... ومن هنا كانت بداية اللعبة.

***

عادت من ذكريات الماضي وكادت تصرخ في خضه عندما شعرت بزيدان على بعد خطوة واحدة منها ونظراته الغامضة لا تؤشر بالخير خاصة عندما فتح فاهه قائلًا:

-كانت بتقولك أيه؟

-أبدًا كانت ....

صمتت عندما رفع أصبعه بينهما يوقف حديثها محذرًا:

-إياكي تكدبي عليا.

نظرت للأسفل في صمت وأصابعها تعبث بشاشة هاتفها السوداء لكنها رفعت عيناها الحزينة نحوه عندما أخبرها:

-مش حابين أجي معاكي مش كده؟

كان صمتها يؤكد كلماته، فضاقت عيناه الناعسة بتهديد وأستمر منفعلًا:

-وأنتي هتروحي من غيري؟

أصرت على صمتها فأبتعد عنها للخلف خطوة واتبعته عيناها الحائرة قبل أن يعلن في نبرة ثابتة رغم غليان دمائه:

-لو روحتي من غيري، هيبقى فيها زعل كبير يا ميرا،
ردي عليا هتروحي من غيري؟

عضت "ميرا" شفتيها تكاد رأسها تنفجر من كثرة التفكير لكنها حسمت أمرها عندما ثبتت عيناها فوق عيناه الساحرة وحركت رأسها في نفي هامسة:

-لا مش هروح من غيرك.

تبًا فالحياة غير عادلة..

فكرت في هلع عندما ازدادت ضربات قلبها بشكل درامي عنيف ما أن أرسل لها ابتسامته الحانية والراضية شاعره بدفء يغمر صدرها وكل ذرة في جسدها بسبب هذا الرضا المنبثق منه نحوها.
اقترب تلك الخطوة الفاصلة بينهما ثم مد كفه يلتقط إحدى خصلاتها المستلقية فوق كتفها يدلكها في دلال ورقة بين أطراف أنامله هامسًا في نبرته الهادئة التي ترعش أطرافها:

-شطوره، عارفة ده معناه أيه؟

-أيه؟

خرج صوتها بأعجوبة مع ضيق حنجرتها بسبب قربه الحار منها، ثم مررت لسانها فوق شفاها الجافة متوترة عندما بدأ يحرك إبهامه على جانب وجهها من أسفل أذنها حتى ذقنها المدبب الصغير، قبل أن يستطرد مؤكدًا:

-معناه أننا هنخرج مع بعض طول اليوم، ودلوقتي مطلوب منك تروحي تجهزي وخلال ساعتين هاجي أخدك، اتفقنا؟

اشرقت تفاصيل وجهها في سعادة فلطالما كان مشغولًا غير قادر على سرقة أكثر من ساعة او اثنتان من يومه لها، صحيح انها ليست المرة الأولى لخروجهما بعيدًا عن أصدقائها فقد فوتت العديد من لقاءات ليالي الأصدقاء كي تلتقي به للعشاء في الخارج أو التسكع في السيارة كالأحبة، معترفة لنفسها انها تستمنع بتلك اللقاءات الصغيرة أكثر من أي شيء طرأ عليها طيلة حياتها.

-اتفقنا.

وبالفعل بعد ساعتين ألتقى الأثنان وبدئا تسليتهم المفضلة ألا وهي التجول داخل السيارة ولكنها اليوم سيارتها الوردية، رفع "زيدان" الموسيقى عاليًا وكأنه يُرضي في صمت رغباتها المراهقة التي باتت تنعكس على أفعاله قبلها وكأنه يقرأ كتاب من تأليفه حاك فيه سرده وحواره، ثم غمز لها حين لاحظ لمعة السرور والرضا في عيونها الرائعة ما أن سمعت الموسيقى الصاخبة.
تنهد معيدًا تركيزه نحو الطريق قبل أن يترك نفسه ليغرق في حلاوة أنهارها العذبة.
هدر صوت هاتفها فرفعت اصابعها بتلقائية تخفض صوت المذياع عندما انتبهت لأسم "رامي" المكتوب فوق للشاشة وأجابت سريعًا:

-ألو يا رامي عامل إيه؟

لم تنتبه إلى "زيدان" الذي يكاد يحطم فكه من الضغط فوق أسنانه وكيف ارتفعت شفاه العليا للأعلى في اشمئزاز عندما استمرت قائلة:

-أنا مع زيدان مش هقدر أجي.

-وفيها أيه هاتي وتعالي.

وصل اليه صوت "رامي" المتطلب فالتفت يرمقها بطرف عينيه في حدة، لكنها كالعادة كانت منغمسة في حديثها:

-أصل ريناد قالت مش هينفع انهارده.

-ريناد أيه وكلام فارغ أيه، هاتي وتعالوا احنا مستنينكم.

-حاضر مع السلامة.

أوقف "زيدان" السيارة واستدار يطالعها في صمت، فتنفست "ميرا" على مهل لا تعلم لما سيطر التوتر على خلايا عقلها أو ربما تعلم فقد أصبحت تستشعر نبضات غضبه من نظراته، سعلت قليلًا وهي تعبث بخصلاتها قبل أن تمسك بنظراته اخيرًا قائلة:

-الشله مستنيانا، رامي قالي منتأخرش وأن ريناد مش مهم رأيها من الأساس.

نظر لها بعدم تصديق ثم حانت منه نظره للخارج ترافقها ضحكة خالية من المرح، مردفًا في نبرة حانقه:

-يعني هنلغي يومنا عشان نروحلهم؟

-وفيها ايه يا زيدان ما انا كذا مرة الغي يومهم عشان نبقى مع بعض،
ثم ده يومهم أصلًا يعني يعتبر احنا اللي لغيناهم مش العكس.

-يا سلام مش هما اللي مش عاجبهم ابقى معاكي ولا أنتي موافقة على كده؟

صدح صوته في اتهام نحوها، فأجابته سريعًا مبررة:

-ده سوء تفاهم صدقني.

-يعني مصره تروحي يا ميرا.

كانت لهجته غامضة يخفي خلفها صراع ونيران مشتعلة توازي في حرارتها الحرائق حين تشتعل في غابات الأمازون.

-ايوه بدون زعل.

قالت أثناء مدها ليدها كي تلامس يده لكنه ابعد كفها عنها في حدة قائلًا بلا أي مشاعر واضحة:

-تمام اللي يريحك.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل السادس 6

أغلق "رامي" هاتفه ثم القاه أرضًا يشعر بالغضب ينفر من عروقه، فضحكت "ريناد" وهي تخبره بسخرية:

-ما قولنا فرصتك ضاعت، الواد لازق بغرا، طلعها من دماغك بقى عشان الحكاية بوخت!

-ما هو كله منك يا غبيه، كل ما أخطط لحاجه تخليها تعمل عكسها!

اتهمها "رامي" في عنف وهو يتجه كي يتوسط المجلس بين الحاضرين، فدافعت "ريناد" عن نفسها مستهجنه:

-الله وأنا كنت هعرف منين اني لما اكلمها عن الارتباط وانها لازم تبقى زينا عشان تتكيف مع حياتنا وتفضل صديقه لينا انها هتروح تتجوز أول واحد يقابلها!

دعك "رامي" عيناه وهو يلتقط قنينه الخمر من جواره يبتلع منها في جرعات دون اهتمام بالشعور الحارق في حلقه والمستقر داخل صدره قبل أن يقاطعه "حازم" متمتمًا:

-ميرا غير يا رامي وأغبى من انها تبقى معاك اصلًا، نصيحتي ليك أبعد عنها وسيبها تبعد عنا،
هي مش زينا ومش هتبقى زينا ومحدش فينا قادر يتكيف مع وجودها حوالينا.

-اتفق مع كلامك.

همست "روان" وهي تقبل انامل "حازم" الذي رمقها بابتسامه مشاغبة ثم مال يقبل وجنتها في حنو بالغ، فردد "رامي" في احباط ونفاذ صبر:

-اسكتي، أنتي على طول موافقة على كلام حبيب القلب،
ثم ده قراري أنا وزي ما بساعدكم كلكم لازم تساعدوني ثم إنها مش بريئة اوي زي ما انت فاكر يا حازم بيه، ما قدامكم أهيه هي راحت وتجوزت عرفي ولا هي جت عليا أنا!

تأففت "ريناد" وهي تجيبه متذمرة:

-أنت اللي فضلت تلعب بيها يمين وشمال وتضيع وقت في انك تستناها تفهم اعجابك وتلميحاتك وهي عقلها أتخن من كده بكتير.

اعترضت "ليلو" وهي تشعل سيجارتها في نفاذ صبر وانزعاج :

-اوف بقى هو يومنا كله هيكون عبارة عن ميرا ميرا ميرا، أنا زهقت ومبقتش طايقة الاسم ده،
أنا حاسه انها سحرالك أنت وزيدان ما هو مش معقول واحد زيك وواحد جامد زيه يبصيلها الصراحة!

علت ضحكات "روان" وهي تستند برأسها فوق كتف "حازم" على الأريكة لتخبرها في نبرة غلب عليها كيد النساء:

-قولي انك هتموتي عشان زيدان بيحب ميرا، رغم كلامك عنها ومحاولاتك باستماته انك تبيني عيوبها.

-أنا اموت من فرق لوز دي، أنا لو عايزة أقدر ابعده عنها في ثانية.

تشدقت "ليلو" من بين اسنانها غاضبة على صديقتها التي تعريها أمام الجميع، حتى هتف بهما "رامي" منهيًا النقاش:

-اسكتوا كلكم، كفاية رغي وسيوني أخطط!

وبهذا انغلق الحديث وانغمس كلًا منهم في فساده وعلى طريقته الخاصة.

*****

اندفع "زيدان" يسبقها في خطوات حادة من المصعد متجهًا نحو وكر الشياطين أمامهما فأوقفته "ميرا" وهي تمسك بذراعه مغتاظة من عقابه الصامت وتجاهله المقصود لها ثم قالت مستنكرة:

-أنا مش فاهمة أنت زعلان ليه، مش هو ده الاتفاق من الأول انك تحضر كل اجتماعتنا.

-اجتماعات ايه؟
انتوا شوية عيال ضايعة مش عارفين تعملوا أيه في حياتكم!

هتف في وجهها وكأنها أفلتت بلمستها غضبه الوحشي على تصرفاتها والحياة التي ترفض إعطاءه دور البطولة فيها وتتركه يتلوى في تعطش لامتلاك زمام مكنوناتها.
أبعد ذراعه عن لمستها دون مراعاه انه قد يهدم مخططه الذي كان يسير بشكل ممتاز حتى اللحظة، او مراعاه لكونه قد يحطم قلبها الصغير بكلماته، فهو غير قادر على تمالك نفسه والمضي في تلك المسرحية الباهتة فكلما ظن ان هذا الفصل من حياتها انتهى ارتفع الستار عنه من جديد.

-عيال ضايعة؟

همست مصدومة من كلماته القاسية وكاد يتابع "زيدان" في صب غضبه عليها إلا أن الحديث انقطع حين فتحت "ليلو" الباب مودعة أحد الشباب، وانتبهت لهما فقالت في نبرة متعجبة من وقوفهما في الممر:

-مالكم، لا مش معقول عصافير الغرام بيتخانقوا؟

بدأت حمرة الغضب تفرض حصارها على ملامح "ميرا" ونظراتها الحاملة للوم والعتاب تهاجمه فأبعد هو عيناه الناعسة رافضًا الاستسلام لمشاعره.
ضاقت عيناه أكثر ثم مال برأسه لليمين يتفحص مغتاظًا وجه "ليلو" الساخر وابتسامتها المستفزة متعمدًا عدم أجابتها عن سؤالها السابق مكتفي بجذبه الحاد لذراع "ميرا" المتصلبة جواره متجهًا معها نحو المدخل.
توقف تقدمهما وارتفع حاجبه في تساؤل حين استقرا أمام "ليلو" التي لم تتنحى خطوة عن الباب في سبيل مرورهما، وزادت مفاجأته حين مالت مستقرة بين جسديهما أثناء إحاطتها بذراعيها حولهما تضمهما إليها سويًا، في تحية خاصة جدًا جدًا، ولم يفُت على "زيدان" كيف فركت وجنتها فوق ذراعه كالهرة وقت التزاوج، وكيف تلتقم أعلى كتفه بأصابعها النحيفة تقربه نحوها في حركة ودودة أكثر من اللازم.
كانت "ميرا" أول من ابتعدت للخلف خطوة كأنها صعقت بالكهرباء، حريصة على جذب زيدان معها وهي تلقيه بنظرة مملوءة بالاتهامات وكأنه هو المخطئ الذي قفز فوق الساحرة الشمطاء لضمها!
انتقلت نظرات "ميرا" المصدومة نحو الساحرة المبتسمة كالأفعى وكأنها ترغب في اقتلاع عيناها لأنها تجرأت على ضم "زيدان"، أراد أن يبتسم سعيدًا بمشاعر الغيرة المنبثقة منها والتي أعطت ل "ميرا" الرقيقة الخاضعة هالة من العنف لم يشهدها فيها من قبل ولكن الترقب والريبة المسيطران على عقله يمنعانه، فتلك التصرفات الغريبة التي تنبعث من "ليلو" نحوه تجعل نواقيس الخطر تضرب في قوة، متسائلًا عما ينوي هؤلاء الأشقياء فعله؟

زاد الشك داخله حين رمقتهما "ليلو" بنظرة خبيثة ثم استدارت متجه للداخل قائلة بصوتها الرفيع المزعج:

-كفاية خناق ويلا السهرة قربت تخلص.

انعقد حاجباه مشيرًا سبابته باستنكار نحو "ليلو" معلقًا نظراته المستهجنة بعيون "ميرا" المشتعلة بالغضب وكأنه يحرك قلمًا فسفوري اللون فوق تصرفات المدعوة صديقتها ثم أشار لها بالدخول متهكمًا:

-اتفضلي يا غالية مش عايزين نتأخر على "شلة المراهقين".

جذبت نفسًا عميقًا تحاول عدم الصراخ في وجهه على سخريته الصريحة منها ومنهم، لكنها ابتسمت ابتسامة مغلولة مقررة اعتلاء العناد وأصابته فيما يثير جنونه.
رفعت يداها ترمي سترتها التي تغطي عري أكتافها ثم رفعت أنفها في شموخ وكأنها فخورة بثوبها الأخضر الذي يفتقد للأكمام، ممتنه لوزنها الزائد والذي بسببه صارت أكثر ثقة في هيئتها.
لمعت عيناها في تمرد سعيدة لأنها أصبحت تعرف تلك النظرات الغاضبة المفعمة بالغيرة والمتغلغلة داخل أعماق قلبه حتى كاد ينفث النيران من أنفه وتخرج الأدخنة من أذنيه.
رفعت ذقنها محافظة على ابتسامتها الصفراء ثم قالت:

-فعلًا مش عايزين نتأخر.

تحرك "زيدان" خلفها في خطوات هادرة يحاول كبح رغبة أصابعه في الامتداد والالفاف حول خصلاتها الملتوية باحترافيه فوق ظهرها وجذبها للمغادرة رغمًا عن أنفها.

-هاي وحشتوني.

قالت ميرا أثناء جلوسها بجوار "رامي" على الأريكة متجاهلة "زيدان" ورد فعل "رامي" المتعجب من استقرارها لجواره على غير العادة.
مرت كلمات ترحيبيه بين الجميع قبل أن تستقر الألسن على أحاديث جانبيه وشكرت حظها التعس حين بدأ "رامي" في اختلاق حديث معها وانضم الباقي إليهما سارقين انتباهها عن ذلك الغاضب لدقائق طويلة.
تعلم أن تصرفاتها رعناء كالأطفال المدللين ولكنها تشعر برغبة كبيرة في معاقبته وقد اكتشفت ان "زيدان" أكثر شخص قادر على أذيتها واجبارها على رؤية الحماقة في كل أفعالها وأكثر شخص قادر على الحط من قيمة أشياء تضعها أعلى برج اولوياتها فتنقلب حياتها رأسا على عقب.
هي غاضبة على نفسها وعليه لأنه يجعلها تتساءل عن طبيعة صداقاتها ومدى صلابتها.
جزت على أسنانها تكاد تمزق شعرها من شدة الغضب عندما لاحظت كيف زحفت "ليلو" واستقرت إلى جوار "زيدان" الجالس في صمت قبالتها والذي لم يحيد ببصره الغامض عنها والذي لا يفصح عن طبيعة مشاعره.
سرق انتباهها عنه "رامي" حين مال يهمس في أذنها:

-هو مزعلك ولا أيه؟

ارتبكت بسبب اقترابه الغير متوقع منها وأحست بقشعريرة الرهبة تسري فوق جسدها، تلقائيًا تحركت "ميرا" بعيدًا عنه بضع إنشات ثم اتسع بؤبؤي عيناها الكبيران في هلع حين استقام "زيدان" واقفًا أمامهما وقبل أن يفتح فمه وقفت ليلو تخبره في دلال مفرط:

-أخيرًا حد قام، بعد اذنك يا زيدان ممكن تيجي معايا نجيب المشاريب من المطبخ،
الصينية هتكون تقيله عليا جدًا.

تشابكت أصابع "ميرا" وتشنجت فوق بعضها البعض من شدة الغيظ تكاد تهتف اعتراضاتها في وجهيهما خاصة "هو" لأنه من المفترض أن يقوم بدور زوجها وليس دور العشيق لتلك الأفعى!
أغمضت جفونها لوهله ترفض البكاء الذي يفرضه شدة استنكارها عليها بسبب تصرفاته الهوجاء، وحين ارتفع جانب فمه في ابتسامة مشاكسة فوق وجهه المغرور قاسي الملامح شعرت بقلبها يعتصر في ألم خاصة حين يتشدق في إجابة ملتوية:

-وماله اللي أنتي عايزاه.

راقبت في غل كيف تحرك كلاهما للداخل في هدوء، بينما جلست هي تشتعل بنيران الغيرة وشعرت بجسدها الصغير يهتز من شدة الغضب مع مرور كل ثانية تمر عليهما سويًا في الداخل.
زفرت حنقها ولم تقدر على التقلد بالثبات أكثر فهبت مستقيمه من مكانها في حدة إلا أن "رامي" أوقفها جاذبًا ذراعها كي يعيدها للجلوس على حين غرة متهمًا في انزعاج:

-اتقلي شوية مش كل ما يروح مكان لازم تبقي في ديله وتحت طوعه، أنتي انسانه ليكي حياتك الخاصة بعيد عنه.

شعرت بالإحراج من هجومه على مشاعرها وبسبب تصرفاتها الواضحة للعيان فوجدت نفسها تبرر متلعثمة:

-أنت فاهم غلط، أنا هروح أشرب.

ارتفع حاجبه ساخرًا ثم تمتم مشيرًا لها بالذهاب:

-اشربي براحتك.

وقفت على مهل متجهة للمطبخ خلفهم وهي تعض شفتها السفلية وتبلل جفافها متجاهلة نظرات "ريناد" خائبة الرجا فيها.

*****

ارتفعت شفتي "ريناد" في اشمئزاز صريح ما ان ذهبت "ميرا" وهي توبخ "رامي":

-أنا مش فاهمة أنت معذب نفسك معاها ليه؟

أشعل رامي سيجارته يحاول إطفاء النار المستوطنة داخل صدره وهو يراقب ابتعاد "ميرا" الساهية عن رغباته الدفينة، وانكمشت ملامحه يشعر بالغضب يسيطر عليه حين أخبرته ريناد متهكمة:

-أنت داخل على سنة مهوس بيها وهي ولا هي هنا.

-ريناد مش وقت كلام مستفز.

-براحتك، أنا بس مش فاهمة أنت متعلق بالبنت المفعوصة دي ليه ؟
يعني ولا شكل ولا منظر ولا شخصية، ولولا انك أجبرت وجودها علينا مكناش سيبناها في حياتنا خمس دقايق.

رمقها بنظرة صلبة سوداء فرفعت كفيها في استسلام ضاحكة ثم اعادت تركيزها نحو "رائف" الذي قرر استكمال الحديث معلنًا الحقيقة التي ظنها "رامي" مخفية عنهم:

-الممنوع مرغوب يا قلبي،
لو هي مكنتش بنت أكبر منافس لأبوه على الكرسي في كل ترقيه، مكنتش هتحلو في عينيه أوي كده،
ثم أن ميرا كانت مفعوصة قبل جوازها من زيدان ما يخليها تتدور وتملا وتبقى أنثى على حق.

بلل "رامي" شفتيه في رضا عن وصفه لها وشعر بالتشفي عندما غامت عيون "ريناد" بالحقد نحو زوجها، مقررًا تجاهل شجارهم الناشب وانتقلت عيناه الحادة كالصياد يتابع المكان التي اختفت منه فريسته حتى أخبرها:

-مش وقته، قومي وراها شوفي ايه اللي "ليلو" ناوية عليه لتخرب الدنيا!

*****

في الداخل، وقف "زيدان" في مكانه مترقب لحركة "ليلو" التالية بعد محاولتان متتاليتان من لمسه عن قصد وتعمد ببنما تتصنع البراءة والاعتيادية، ولم يخب ظنه فقد اندفعت نحوه تلاصقه وتتعلق به وكأنها توشك على السقوط!
تركها تتأوه وتتعلق رقبته وبداخله لغز كبير يحاول الوصول إلى باطنه كي يفهم تحركات هؤلاء القوم وداخله احساس كبير بانهم يكيدون له مكيدة من نوع خاص!

-مالك متوتر ليه وكأن عمرك ما لمست بنت؟

كان محتارًا هل يصيح بلفظ اعتراضي فج يحوم داخله أم يستمر في تمثيله للوصول إلى هدفه ومعرفة غرض الشمطاء من تقربها المُقيت منه، تنهد ووجد نفسه يستسلم لفضوله متسائلًا في لهجة متعجبة:

-هي مش ميرا صاحبتك والصحاب مش بيعملوا كده بردو؟

اتاه ردها المُلتاع في سرعة وكأنها توقعت سؤاله:

-ميرا مش صاحبة حد.

-مش فاهم؟

-مش لازم، أنا مش عايزة تفكيرك يبقى في ميرا، أنا عايزة عينيك العسلي دي وعقلك عليا أنا.

وضع يده على خصرها مجبرًا ثم حرك رأسه مرة يتصنع الحيرة أثناء التقاطه لعيناها في براءة متسائلًا:

-سؤال واحد محيرني، ليه عاملين صحابها وسايبنها سطيكم، أنا وأنتي عارفين ان مالهاش مكان بينكم.

-حكم القوي، بس مين يفهم!

غمغمت بصوت غير واضح ثم لعقت شفتيها وقد تعلقت عيناها بشفاه الغليظة، وكادت تلامسها لولا ابتعاده في أخر لحظة قائلًا في صوت أجش مشاكس:

-لو ميرا عرفت هتخسروا بعض فعلًا، أنا هيجي يوم وهسيبها انتوا اللي هتفضلوا معاها.

-تفضل مع مين؟
بكره رامي يوصل لغرضه منها ويريحنا منها ومنشوفش خلقتها تاني.

زمجرت كلماتها في حقد دفين ثم استكملت في نبرة منخفضة غائمة برغبتها الوقحة بينما تفرك كفاها فوق صدره:

-أنا اللي مش قادرة أفهم أنت ارتبطت بيها ازاي، دي اكتر بنت ساذجة ومملة في الحياة.

مالت تستنشق عطره الرجولي دون أن تنتبه لتشنج جسده المتصلب تحت أصابعها ولكنه تابع في هدوء تام يناقض عنف كلماته المتوهجة:

-لو ما بعدتيش إيدك عني حالًا، هكسرهالك عشان تحرمي تمدي إيدك على حاجة مش بتاعتك من تاني.

كان ردًا حاسمًا قويًا ولكن القدر لم يكن حليفًا له ففي تلك اللحظة قررت "ميرا" المختبئة عند المدخل والتي كانت تراقبهم منذ نطقت ليلو بسؤالها المتعجب عن سبب ارتباط زيدان بها، أن تستسلم لحرقة قلبها ودموعها والهرب قبل أن تصل لمسامعها جملته الأخيرة القادرة على اقتلاع جذور الحزن والقهر المنسابة داخل صدرها.

دفع "ليلو" عنه في حركة عنيفة والتي كانت لا تزال مصدومة بفعل وقع كلماته على مسامعها، ثم ابتعد في خطوات واسعة ينوي جذب "ميرا" من خصلاتها بالفعل هذه المرة إن قررت الاعتراض ورفض المغادرة معه.
لكنه وقف كالأبله وسط دائرتهم لا يجدها بينهم فسأل سريعًا:

-فين ميرا؟

توقف قلبه عن الخفقان لحظة عندما انفرجت ابتسامه "رامي" الخبيثة فوق فمه مردفًا في لهجة متشفية:

-ميرا مشيت.

-مشيت، ليه؟

حرك كتفه بلا مبالاة، لكنه استدار للخلف عندما تحركت عيون رامي المتسلية نحو "ليلو" المتجهمة، فاتسعت عيناه في هلع متوقعًا سبب ذهابها ..
تبًا للجحيم المتجسد في شكل حياته!
فكر قبل أن ينطلق مسرعًا للخارج متمنيًا من كل قلبه ان يكون سبب ذهابها هو عنادها وليس رؤيتها لما حدث بينه وبين ليلو دون فهم!

*****

مدت "ميرا" حقيبتها نحو "ريناد" التي تحملت مهمة فتحها وإخراج المفاتيح، وحمدت الله إنها كانت في طريقها للمغادرة وعرضت عليها إيصالها سالمة إلى المنزل بعد ما رأته، دلفت في صمت متبعه خطوات "ريناد" متخذة أول مقعد يقابلها، لا تزال تبكي بعد أن حطم "زيدان" قلبها إلى فتات صغيرة.
كيف فعل هذا بها؟
كيف جذب بساط السعادة والأمان من اسفلها بتلك السهولة؟
كيف كانت ساذجة لهذه الدرجة فتظن أن شاب مثله قد يرى فيها أكثر من صديقة؟

علت صوت شهقات بكاءها ولم تنتبه إلى "ريناد" التي لوت فمها تخبرها في استنكار:

-بطلي تعيطي، وبعدين أنا نبهتك أكتر من مرة أن زيدان مش دايم ليكي وأنتي اللي ما سمعتيش الكلام!

-أنا مش مصدقة اللي حصل!

همست كلماتها الخافتة دون أن تتوقف دموعها، فاستكملت "ريناد" في هدوء:

-ليلو طول عمرها أنانية فاكرة لما كانت بتلف عشان تخطف رائف مني،
أنا كان ممكن اقولك حاربي عشان زيدان وان هي السبب بس زيدان ما ينفعكيش!

-قصدك أيه؟

سألت "ميرا" تشعر ان قدرتها على الاستيعاب قد توقفت، فأردفت "ريناد" في نبرتها الجامدة والتي تخفي الكثير خلف لمعة عيناها الماكرة:

-أقصد أن زيدان عينه زايغة ومكنش سايب بنت في الشله إلا وبيلف عليها.

-زيدان؟!

-أيوة حتى أنا حاول يتقرب مني لكني صديته وهددته اني هقولك،
أنا مش فاهمة ازاي اصلًا نزلتي مستواكي واتجوزتي الكائن ده!

جزء داخلها كان مشدوهًا يتمزق مع كل حرف ومعلومة تسمعها عنه، وجزء أخر منها يحارب للدفاع عنه ولكن كيف وقد رأته بعينيها؟
انسابت دموعها الحزينة فوق وجنتيها الشاحبة لا تصدق مدى الألم الذي ينهش قلبها!

-كفاية عياط يا غبية!

قاطع جلدها للذات صوت "ريناد"، فقالت وحروفها تتكسر بسبب بكاءها:

-أنا حبيته بجد!

كانت كلماتها منخفضه لمن حولها ولكن الصراخ كان عاليًا ..عاليًا للغاية داخلها ... كانت تلومها لأن اللُعبة تحولت إلى حقيقة، تريد الصراخ ورمي اللوم على "ريناد" لأنها من وسوست في عقلها وجعلتها تحيك تلك المسرحية الشيطانية التي فقدت في خضمها خفقات قلبها اللين، أرادت الصراخ لأنها من أشعلت فكرة الارتباط برجل في عقلها وكانت دومًا تلسن عن كونها الفتاة الغريبة متلبدة الأحاسيس والتي لم ترتبط باي رجل حتى الآن.
أرادت الصراخ معترفة بأنها لم تستطع تخطي اللون الأحمر لأن أسفل قشرتها المتلونة باللامبالاة والتمرد يكمن معدنها الأصلي الذي يلمع كالذهب مُرصعًا بالحدود الطبيعية التي تحكم أي شخص أصوله طيبة وتلقائية كميرا، فرغم افتقارها لاهتمام والديها ولكن شخصيتها الأقل من عادية لديها مكيال يحذرها عندما تزداد حمولة الخطأ وهو ما لا يتناسب مع بهتان شخصياتهم التي صدأة بالانحلال التي تود ميرا بلا تفكير الوصول لها.
خرجت من انهيارها على صوت "ريناد" الذي أستمر في قطعها كالسكين الحاد:

-كفاية عياط على حد ما اهتمش بيكي لحظة.

-لكن هو اهتم، هو مكنش كده معايا، زيدان كان بيهتم.

خرجت كلماتها هستيرية دون وعي منها انها قد تسقط في بحر أكاذيبها وتكشف أوراق لعبتها الخفية بينها وبين زيدان والاعتراف بخديعتها لهم، فاستطردت "ريناد" مؤكدة:

-فوقي يا غبية، ده واحد شغال مندوب يا ماما وكل هدفه من جوازه منك هي فلوس باباكي ولا نسيتي بابا يبقى مين يا بنت معالي الباشا الكبير!

ساد الصمت طويلًا ثم استقامت "ميرا" متحركة في بطء كأنها إنسان آلي فاقد للروح نحو غرفتها بعقل مُشتت تركها ليعود إلى كل خطوة صارا فيها سويًا للتحقق من كل موقف وكل حرف نطقه به لها.
تمايلت فوق فراشها تشعر بدوار خفيف، ثم تأوهت وخرجت حروفها في صعوبة:

-آآه .. آآه .. يا زيدان.

علا صوت الهاتف فوق آهاتها المتألمة بحروف أسمه واغرورقت سوداويتاها بالعبرات من جديد حين لمع أسم زيدان فوق شاشة هاتفها، انشق صوتها الباكي شقًا من صدرها وتوالت ولولتها دون قدرة على التحكم في الذات.
فمن بين أنحاء الأرض لما تسقتر دومًا على استيطان المكان الخطأ؟

*****

-أنتي مشيتي ومش بتردي عليا ليه؟

أنهى "زيدان" رسالته ثم رمى الهاتف في المقعد المجاور له ما أن وصل إلى سيارته التي يندم على تركها وقبوله لاستقلال سيارتها الوردية، زفر مستغفرًا الله في باطنه يتمنى أن يأتي ردها مخالف لظنونه وانها لم ترى ما حدث وأساءت فهم لعبته، زمجر اعتراضه للهواء يود لو يخنقها بيديه على أفعالها الطائشة وتجاهلها المتعمد له دون أن تفهم أو تنتظر مبرر منه.
نظر إلى ساعة يده المشيرة إلى الساعة الثانية عشر صباحًا واتخذ قراره بالذهاب بنفسه كي يطمئن على وصولها سالمة غانمة، فهو يعلم أن والدتها قد سافرت وأصبحت بلا رقيب أو حسيب.
بالفعل في أقل من ثلاثون دقيقة كان يترجل من السيارة أسفل البناية التي تسكن فيها، ثم أمسك هاتفه مرسلًا لها رسالة أخيرة يطالبها بالإجابة على اتصالاته.
انتظر حتى قرأت الرسالة وحين لم يأته الرد بعد دقائق طويلًا أتخذ خطوات حاسمة للداخل مقررًا الصعود لها.
دق فوق الباب مرات متتالية أعنف مما ينبغي خاصة في هذه الساعة من الليل فعلى صوت "ريناد" من خلف الباب موبخه:

-اتفضل أمشي من هنا هي مش عايزة تشوفك.

-أفتحي خليها تقولي كده في وشي.

قال "زيدان" مصرًا على موقفه رافضًا التزحزح من أمام الباب وقد زاد وجود "ريناد" معها من حنقه، فأجابته هي في نبره مليئة بالاستهجان:

-هي مش قادرة تتكلم معاك نهائي، ف أحسن حل انك تتفضل وتمشي.

-مش لازم تتكلم أنا عايزها تسمع الكلمتين اللي هقولهم وهمشي.

فتحت جزء صغير من الباب تطل عليه ثم رفعت حاجبها الأيسر وكأنها ترميه بتعليقاتها الساخرة قبل أن تؤكد:

-افهم هي فعلًا مش قادرة حتى تضغط على نفسها وتشوفك،
عمومًا هي مش عايزة تعرفك من تاني، وكفاية أوي اللي حصل والانهيار اللي هي فيه من ساعتها.

كادت تغلق الباب في وجهه فأمسك بكفه الإطار يمنعها من إغلاقه قبل أن يخبرها متهكمًا:

-وأنتي المحامية بتاعتها؟

-على فكره هي عارفة إنك هنا وهي اللي قالتلي اقولك الكلمتين دول وأقولك تمشي وماتجيش هنا تاني.

-يا ميرا اطلعي ضروري لازم تسمعيني صدقيني أنتي فاهمة غلط.

علت نبرته يناديها وزاد صوته صلابة حين وقفت له "ريناد" بالمرصاد رافضة تقدمه وتركه يدخل المنزل هاتفة:

-قولتلك مش عايزة تكلمك، أنت مش بتفهم؟

-الحوار ما يخصكيش، الكلام بيني وبينها، واوعي تفتكري اني مش فاهم عايزه توصلي لأيه بعمايلك دي!

خرج صوته قويًا رغم نبرته الهادئة ومد أصابعه يرن جرس الباب مرات متتالية عسى أن يجبرها على الخروج وملاقاته غير مبالي باعتراضات "ريناد":

-كفاية فضايح أنت كده جاي تفضحها مش تصالحها.

جز على اسنانه يكبح انفعالاته ثم أومأ رأسه في تروي مستشعرًا العقلانية من كلماتها فوقوفه مهللًا لن يسبب سوى الفضائح لها، تنفس من أنفه ببطء وكأن صدره سينفجر من الغضب الهادر داخله قبل أن يضرب كفه فوق الباب الخشبي مرة مستديرًا للمغادرة وهو يسب ويلعن الحمقاء الغبية وصديقتها.
لماذا إذا لا يتفق قلبه مع عقلانية السِباب؟، ويتلوى معتصرًا رافضًا قرار الانسحاب كقائد طوقت كتيبته للتو، رافضًا المغادرة دون رؤياها والاطمئنان على حالها!
التوت شفتيه يكبح سيل من الشتائم، فالكئيبة على أتم الاستعداد للغرق في شلالات من الدموع والأحزان على أن تعطى للنضوج دقيقة واحدة كي تدرك الأمور من حولها.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل السابع 7

انغمس "زيدان" في العمل داخل مطعمه التي فوتت الحمقاء افتتاحه، متمنيًا اللهو عن افكاره التي تحتلها "ميرا" كليًا، صدح صوت "نوتفكيشن" من هاتفه وتلقائية امتدت اصابعه يفتحها املًا أن تكون أبواب الوصال قد فُتحت بينهما، تنهد وهو يطالع إشعار هو ليس المراد.
رمى هاتفه في إهمال فوق الطاولة، متسائلًا كيف احتلت "ميرا" حياته بإشعار صغير وتبقي قلبه متعلقًا بأخر، يريد إقناع عقله بأن اهتمامه بها انساني وانه لا يعشق الرمش الطائر من عينيها الحزينة، ولكن من سيخادع فمع مضي الأيام المنقطعة بينهما أصبحت حالته يرثى لها‏ وكان كالمجنون لا يرى لها شبيهاً ولا يرغب عنها بديلاً.
صدح صوت "نوتفكيشن" جديد ورغم تأكده بأنه ليس منها إلا أن أصابعه تحركت دون تحكم منه كالمهوس الباحث عن الملاذ في هذا الصوت.
ربما عليه رمي مخاوفة مع الرياح والاتصال بوالدتها واخبارها بشكل مباشر بكل شيء عن سوء تصرفات ابنتها الغالية عساها تنتبه لوجود أبنه ضعيفة النشأة تترعرع تحت مسئوليتها لأنه ببساطة لن يقبل أن تُبعده الخائنة عنها مهما كان الثمن، كارهًا أنها استطاعت بكل جحود الابتعاد عنه طوال الخمس أيام الماضية.
ألقى بالقلم من يده وحدق بنظراته الحادة إلى جواره ليتصادم بنظرات صديقه "كيرو" المتعجبة فقال "زيدان" في هجوميه بلا سبب:

-مالك أنت كمان بتبصلي كده ليه؟

-فرحان بيك.

مال فم "كيرو" للجانب ساخرًا من تصرفات صديقه المتناقضة فاستمر "زيدان" في عناده ساخرًا:

-مبروك عقبالك .

عاد يعبث بالأوراق المبعثرة فوق الطاولة أمامه يحاول تجاهل كيرو القابع على يساره و "محمد" الجالس على الجانب الأخر منه والذي تدخل قائلًا:

-بلاش تدخل معاه في جدال يا كيرو ده راجل بارد.

-اه انتوا فاضيين وجايين تضايقوني مش كده، قوم انت وهو خدولكم لفه في المطعم ده، أنا مش شغال هنا وسط الحسابات عشان انتوا تدلعوا.

أشار بأصبعه بينهما منزعجًا من وجودهم أمامه في هذه اللحظة:

-بقولك أيه أنت هتطلع عفريتك علينا ليه، أنت تروح تخرب الدنيا وتيجي تطلعه علينا احنا، ده أنت معندكش دم!

-معنديش دم ليه ان شاء الله يا لايف كوتش عصرك وزمانك.

أجابه "كيرو" في حزم مقررًا إكمال حديث "محمد" :

-ايوة معندكش دم طبعا، لما تسيب حبيبتك مع صاحبتها الحرباية تسمم عقلها ناحيتك وأنت قاعد تتملعن علينا يبقى معندكش دم.

انكمشت ملامح "زيدان" مغتاظًا من ذكرهم حياته الشخصية التي في لحظة حزن باح بها لهما فهتف بهما مستنكرًا:

-اسكتوا أنتوا مش فاهمين حاجة، مش عشان في لحظة ضعف ونكد حكيتلكم عن حاجة هتذلوني بيها طول العمر.

-نذلك؟ طيب يلا بينا احنا يا كيرو واضح ان زيدان مجنون دلوقتي!

قال "محمد" وهو يستقيم للابتعاد فهتف فيه "كيرو" جاذبًا له معيده للجلوس مؤكدًا:

-يا عم صلي على النبي في قلبك كده ما تبقاش قموص!

-كيرو أنت مسيحي يا حبيبي.

ردد "محمد" يحاول السيطرة على ابتسامته الساخرة فأجابه كيرو سريعًا بابتسامته المشاكسة:

-ما تتهربش من الموضوع وصلى ع النبي، عشان صاحبك ده لازم يتربى.

-صاحبه ده قاعد قدامكم يا شوية رعاع.

جاءهم صوت "زيدان" المتهكم بسبب تصرفات كلاهما الطفولية، ولكنه لن ينكر انه يتصرف كالمجنون طوال الأيام الخمس الماضية.
فبعد أن دأب على مراسلة ميرا لثلاث أيام توقف تمامًا بعدها عن مراسلتها وقد شعر بمرارة الرفض في حلقه وانها ببرودها وتحجرها تهين كرامته التي اباحها أمام محبته لها.
بينما هي لا تهتم للدرجة التي تكفي كي تجيبه أو تتساءل عن أحواله، بعد ان كان يقضيا الشهور الماضية سويًا على الهاتف من الصباح وحتى المساء.

-بياعه!

تمتم لنفسه مستنكرًا تصرفاتها، متوعدًا لها وقد سئم اهماله لما يدور في حياته والاهتمام بها على حساب الجميع في حين انها لا تشعر بحجم معاناته معها.

-أنت لازم تاخد موقف لكن تسيبها منها للحرباية كده غلط صدقني.

تمتم "محمد" فهز "زيدان" رأسه في موافقة، يدرك ان اصدقائه على صواب فهو غارق في جلد الذات تاركًا للحرباء المتمثلة في "ريناد" مهمة سكب البنزين على النار و" ميرا" الحمقاء التي لا تستحق ذره حب من قلبه، تركت لها ذاتها ومشاعرها في استسلام كي تصب عليها نصائحها الخبيثة كالقطران الأسود مُحولة كافة مشاعرها لزيدان إلى كتلة من الجمود.
أخرجه من أفكاره السوداوية، صوت نباح كلب يسيطر عليه طفل صغير بسلسلة فضية، اتجه "كيرو" نحو الصغير الواقف بجوار والدته لا شك انه سيمنعهم من دخول المط....
لم يكتمل تفكيره وهو يراقب مصدومًا كيف جذب "كيرو" الصغير مودعًا السيدة التي تركته هو والكلب ورحلته.
عاد "كيرو" لهم بعد ان أشار للصغير بالجلوس على طاولة فارغة تجاور الحائط كي يحاول اخفاء كلبه الاسود العملاق أسفلها.

-لا مؤاخذه يا شباب أخويا الصغير هيقعد معانا شوية لحد ما أختي تخلص محاضرة وتيجي تاخده البيت، متقلقوش مش هتسمعوا صو....

ابتلع كلماته عندما علا صراخ فتاة مرت بجوار الكلب رغم انه لم يحرك ساكنًا، انتقل عقل "زيدان" إلى ميرا التي تخشى الكلاب بشكل جنوني وكيف صرخت مختبئة خلفه مره عندما صادفا كلبً صغير لا يتعدى حجمه حجم قدمها الصغيرة.
هز رأسه يخرجها من رأسه منزعجًا من اقتحامها المستمر لكيانه ثم هتف في "كيرو" مستنكرًا:

-يا عم روح شوف أخوك ده هيطفش الزباين.

-هعمل ايه يعني يا زيدان!

أتاه رد "زيدان" سريعًا وهو يدفع "محمد" للأسرع نحو الفتاة كي تهدأ ويقلل من ذعرها:

-روح ارميه في أي حته، احنا ناقصين!

ضرب كف فوق الأخر مغتاظًا من الفوضى وحالة الهرج التي دبت في أرجاء المكان بسبب الفتاة التي تقف أعلى أحد المقاعد ترفض الهبوط في وجود الكلب مع استمرار صراخها المرعب:

-لا طلعوني برا أنا عندي فوبيا من الكلاب.

كاد يبتسم فهو نفس المبرر التي رددته ميرا "فوبيا المخلوقات الرائعة" مجموعة من الحمقى لا يعملوا شيئًا عن الحب والوفاء، انقلب مزاجه ليصبح لاذعًا مثلما يحدث مع كل تفكير تكون هي محوره، طرق أطراف أصابعه فوق الطاولة غاضبًا، حتى تعلقت أصابعه في منتصف طريقها وقد لمعت عيناه الناعسة بفكرة جهنمية!
استقام راكضًا للخارج يبحث عن الصغير وتنهد في راحة عندما وجد الصغير ممسكًا كلبه بينما شقيقه الأكبر يزجره أمام المدخل.

-أيه ده في حد يزعق لطفل صغير كده يا شيخ اتقي الله ده الأطفال أحباب الله.

انفرج فاه "كيرو" في بلاهة ثم قال في نبرة عصبية:

-أنت عايز تجنني يا جدع أنت، مش أنت اللي قولتلي أسربه!

-ولد عيب، أيه اسربه دي، تعالى يا حبيبي أجبلك حاجة حلوة.

اتسعت عيون صديقه الذي مد ذراعه يوقف تقدمه من شقيقه ثم رمقه بنظرة مريبة متسائلًا:

-حاجة حلوة، أنت عايز ايه من الواد بالظبط ده أخويا!

بصق عليه "زيدان" بشكل وهمي وقد انكمشت ملامحه قائلًا في عجرفة:

-ما هو عشان أخوك هوجب معاك.

-لا مش عايز واجبات من حد!

تمتم منزعجًا من إصرار "زيدان" المفاجئ على اصطحاب شقيقه الأصغر معه إلى المجهول.

-وربنا لأوجب معاك يا كيرو في أيه!

ردد "زيدان" في إصرار غير قادر على منع ابتسامته المستفزة:

-ما تهرجش هتعمل ايه بيه!

قال وهو يشد ذراع أخيه من بين براثن "زيدان" الذي رد سريعًا أثناء تثبته بذراع الطفل الأخر والذي ظل يتنقل بأبصاره لليمين واليسار بين الصديقين:

-ياعم محتاجة ساعة والله عيب عليك عايزه في حاجة خاصة!

-حاجة خاصة ازاي، اللي انت بتقوله ده عيب وحرام يا بيه.

-اتلهي بقى وسيبني يا عم والله هرجعهولك سليم.

تأفف "زيدان" وهو يبتعد مع الصغير فهتف "كيرو" من خلفه:

-زيدان الواد لو حصله حاجة أمي مش هتدخلني البيت.

قذف كلماته في قوة يؤكد على مصيره الأسود ان مس شقيقه أي سوء وهو تحت مسئوليته.

-والله ما تقلق اعتبرني بفسحه عشان نفسيه الكلب اللي جاله صرع ده.

التفت يغمز لصديقه بابتسامة واسعة وثم اتجه الى سيارته مع الصغير الذي لا يتعدى الحادية عشر عامًا يخبره:

-كلبك متدرب يا حبيبي؟

-اه انا اللي مدربه بنفسي.

حرك "زيدان" رأسه في رضا، فاتحًا باب السيارة كي يستقلها الصغير والكلب، ثم سأل ما أن اتخذوا مقاعدهم:

-جميل جميل، بتحب الفلوس يا ريمون؟

-اه بحبها.

-جميل جميل، هتتبسط معايا أوي.

همس في سعادة بالغة وهو يشغل محرك السيارة وعقله ينسخ له الألاف السناريوهات التي ستقوده لأمرًا واحد.

*****

تململت" ميرا" في الفراش لا تزال غارقة في أحزانها ومشاعرها المضطربة فهي تارة تبكي من شدة حبها له وتارة تلعن أصدقائها الذين كانوا المحرك الأول في تهورها ووقعوها معه.
كانت عبراتها تلمع على وجهها دون شعور، فمشاعرها المتناقضة تجعلها مكتوفة الأيدي تخجل من معارضة أفكارها القاسية عن زيدان.
كانت مضغوطة من كمية الحقائق التي صفعتها دون هوادة، فقد اكتشفت انها كانت معلقه بحبال ذائبة تاركة لذاتها المرضية اختلاق تصورات تجمعها به غير حقيقة، ف "زيدان" لم يعترف يومًا بحبه لها ولم يخبرها بأكثر من تعلقه بها .. تعلق نابع عن الاعتياد والعشرة وليس نابع عن الحب.
تشفق على نفسها بسبب ضعفها فمع أول عقبة تصدعت حصونها الزائفة من حولها وعاد الزمن بها إلى أسوأ مراحل اكتئابها وكأن الحياة على وشك الانتهاء.
حمقاء .. أجل .. صدق زيدان حين أصر على تلقيبها بالحمقاء، فكيف كانت ستنجو حينما تنتهى الشهور القليلة الباقية على اتفاقهما؟
كيف تركته يسيطر على كل ذرة من كيانها وتركته يُهمش كل ما له قيمة في حياتها في سبيل إرضاءه وكيف كانت في طريقها بكل سذاجة إلى خسارة أصدقائها السبب الأول لاستعادتها زمام الأمور في حياتها وشعورها وكأنها انسانه.
تنهدت في حرارة لأنها ترغب في اقتلاع وجوده من حياتها وفي نفس الوقت لن تستطيع إكمال حياتها من دونه ودون دعمه المعنوي لها، فقد جعلها تدمن أفعاله واهتمامه المنصب عليها.
اهتمام زائف فكرت ساخرة وهي تتذكر كيف حكت لها "ريناد" أنه غادر ما ان علم بانهيارها وحزنها مقررًا تركها كي تهدأ لحالها دون أن يصر على مقابلتها أو التمسك بها، تركها تواجه الحقيقة القاسية وحدها وحتى مراسلاته توقفت ولم يصلها أي "إشعار" بعد ثلاث أيام.
لا تصدق وقاحته هو المخطئ في حقها والمتهم بالخيانة وهو الذي يهملها بكل تعجرف وغرور!
مسحت دموعها تكره هذا الشعور بالتشتت فهي أنثى تحب، تريده أن يبتعد عنها وفي نفس الوقت تريده أن يتمسك بها ويثبت حبه لها، أرادت أن يجبرها على الاستماع إليه فمنذ متى يستمع زيدان لغير ذاته المتعجرفة،
مما يؤكد لها نظريتها في عدم رغبته فيها كحبيبة من الأساس!
كان عليها معرفه أن هذا الشعور الطاغي بالسعادة ما هو إلا مؤشر على اقتراب النهاية، فمنذ متى تحدث الأشياء المميزة لأمثالها!
وقفت تتسلل نحو المرآه تتفحص انعكاسها الباهت، شفتاها الفاقدة للون الوردي، ووجنتها التي برزت عظمتها قليلًا بسبب فقدانها للشهية.
هي ليست جميلة وليست مبهرة وتعلم انها غير متزنة نفسيًا بشكل كامل ولكن الاعتراف بداية الطريق أليس كذلك؟

-أنا مني لله.

غمغمت بشكل غير مفهوم تود لو تشنق نفسها، لما كان عليها الانسياق وراء كلمات ريناد وقتها وفكرت في نسج هذه اللعبة السخيفة مع "زيدان"، أغمضت جفونها وهي تسترجع سبب رغبتها في ادعاء الزواج السري أمام أصدقائها.

***
جلست "ميرا" صامتة بشكل تام تشعر بالقلق على روان الباكية جوارها، ربتت على فخدها مره في حرج تدعي إلى السماء أن يأتي حازم سريعًا، فمما فهمته أن هناك مشاجرة كبيرة نشبت بين والد "روان" ووالدتها أدت إلي انهيارها وقدومها للهرب بينهم.

-كفاية عياط يا بنتي، حتى لو أطلقوا مش نهاية العالم.

رددت "ليلو" في تبلد ولا مبالاة فحدقتها "روان" غاضبة ثم هتفت في نيرةٍ مغتاظة:

-خليكي ساكتة محدش طلب رأيك.

-ليلو اهدي على نفسك، حازم على وصول ولو سمعك بتضايقها وهي في الوضع ده مش هيعديهالك.

-الله هو أنا اتكلمت، بقولكم أيه انا ماشيه.

قالت معترضة وهي تلملم أغراضها في حدة، فتحت الباب للخروج فكادت تصطدم في حازم المندفع داخل المنزل:

-اي هتوقعني، مش تحاسب.

زجرته "ليلو" لكنها لم تتوقف لسماع رده ولم يهتم هو بالرد من الأساس وذهب راكضًا لاحتضان "روان" هامسًا في حنو:
-ما تعيطيش يا قلبي!

-بابا وماما هيسيبوا بعض وحياتي هتدمر أكتر.

-حياتك مش هتدمر طول ما أنتي معايا، دي حياتهم هما وأنتي مش محتاجين حد فيهم!

تحركت "ميرا" للابتعاد حين أشارت لها "ريناد" بمرافقتها واعطاء الأثنان بعد الخصوصية، وقفت كلتاهن في الشرفة قبل ان تقاطعها ريناد مردفه:

-مش عارفة من غير حازم كانت هتعمل ايه، الواحدة فينا مش بتعرف تواجه الحياة من غير راجل يكون سند في حياتها.

أومأت "ميرا" رأسها لا تدري معنى الموافقة أو الرفض فهي لم تجرب هذا الشعور من قبل، قطع افكارها صوت "ريناد" المتعجبة:
-أنتي ازاي قادرة تكملي حياتك من غير ارتباط، أيه الوحدة والملل اللي في حياتك دول،
اتاري اوقات كتيره بحسك يا عيني مش قادره تفهمينا.

انتبهت حواس "ميرا" كلها لها وسألتها متوترة من احتماليه ارتكابها أي خطأ دون علم:

-قصدك أيه، هو أنا ضايقتكم في حاجة؟

-لا مش القصد، الفكرة أنك غريبة عنا، حاطه نفسك في شرنقه كده وكأنك مصره تبقي بعيده عننا.

اجابتها "ريناد" في سلاسة بعيون تحمل من الكثير من الخبث التي غفلت عنه "ميرا" المنغمسة في افكارها فتمتمت في خفوت وكأنها تحادث نفسها:
-الارتباط هيخليني اتأقلم معاكم أكتر

-مش بس كده، أنتي هتلاقي سند وسعادة وحد يشيل عنك همومك وينسيكي أن في مشاكل عائليه في ييتكم اصلا،
زي ما انتي شايفة بنفسك حازم وروان عاملين ازاي.

أردفت "ريناد" في ثقة مشيرة للداخل حيث يقبع حازم وروان المنغمسان في لحظتهما العاطفية، فقالت "ميرا" متلعثمة:

-بس حازم وروان اهاليهم عارفين انهم بيحبوا بعض من زمان، أنا هلاقي حد كده فين؟

-موجود وقريب أوي لكن أنتي اللي مش عايزه تبصي حواليكي وتدوري

انهت وسوستها في إصرار وغامت عيون "ريناد" في مكر تشعر باقتراب الانتصار تكاد ترى بعينيها انتقال امواجها الشيطانية وتسربها داخل عقل "ميرا".

-أدور؟

همست لنفسها ووقفت تطالع صفاء السماء في صمت وحيرة، تاركة لعجلة التفكير داخل رأسها مهمة الدوران بلا هوادة، وقد ظلت على هذا الحال من التفكير العميق طوال اليوم حتى حل المساء واوقعها حظها بالصدفة في منشور أطلقه أحد شباب مواقع التواصل الاجتماعي ومنه استنبطت فكرتها المتهورة بضرورة استئجار زوج سري بضعت أشهر تتباهى به أمام اصدقائها وتقنعهم بقدرتها على مواكبه عقولهم وأفعالهم.

***

خرجت من ذكرياتها بقلب مثقل بالهموم والأحزان وبكل تناقض العالم تحركت أصابعها لتلتقط احمر شفاها كي تطليه في حركة هستيرية فوق شفاها ثم لطخت منه القليل على وجنتيها وكأنها تعيد بها الدماء إلى وجهها الشاحب.
تحاول ابعاد افكارها عن غضبها الداخلي على الذات، فبالله كيف خدعت نفسها وظنت أنه أحبها مع وجود تلك الجميلات من حوله سواء في العمل أو رفيقات التواصل الاجتماعي.
كما يجب عليها الاعتراف بانها لم تكن ستستطيع الاستمرار في علاقة تلتفت فيها حول نفسها كل بضع ثوان خشية من بنات جنسها، ان كان زيدان لا يحبها ولا يراها مميزة هي لا تريد الاستمرار معه.
فالأمر سيكون أشبه بالموت باختلاف إنه سيتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد.
نكشت خصلات شعرها مزيله رباطها وتركته يزين ظهرها ثم اتجهت إلى المطبخ مقررة تحضير فنجان من القهوة عسى أن تنتهي نبضات الألآم النافرة في رأسها.
أوقفها جرس الباب فاتجهت متجاهلة خصلاتها المبعثرة في قلة ترتيب فاتحة الباب فوجدت طفل صغير أمامها، زادت من فتح الباب أكثر متسائلة في استغراب:

-نعم يا حبيبي؟

-أنتي ميرا؟

حركت رأسها في بلاهة تؤكد هويتها قبل أن تتسع عيناها في ذعر عندما ظهر كلب عملاق أسود من العدم، فشهقت عائدة بضع خطوات للداخل في سرعة بينما يتقدم الصغير للداخل مقتحم خصوصية منزلها بكلبه المتوحش المسيطر عليه بسلسلة فضيه صغيرة لم تنتبه لوجودها من قبل بين أصابعه فصرخت محذرة:

-لا لا أبعد الكلب ده عني، طلعه برا حالا!

-مقدرتش ده جايلك هدية من واحد واقف تحت!

-واحد مين أكيد في غلطه، روح قوله العنوان غلط وخد الكلب ده من هنا.

هتفت وهي تحتمي خلف أحد المقاعد القريبة منها فاستمر الطفل مؤكدًا:

-مقدرش لو مش عايزة الكلب يبقى تنزلي معايا تقولي لصاحب الهدية كده.

-حاضر يا سيدي هنزل بس أبعد الكلب ده الأول.

-روووي يلا...

وقف الطفل الماكر أمام كلبه كحاجز منتظرًا مرورها كي لا تغلق الباب خلفه وتخدعه فزفرت "ميرا" متذمرة فقد كانت تنوي فعل ذلك تمامًا.
لكنها تحركت على مهل لا تحيد بأنظارها عن الكلب النائم فوق بلاط منزلها حتى مرت من الباب في سلام راكضه للأسفل دون اهتمام انها لا تمتلك مفاتيح الباب أو انها ترتدي فستان قطني قصير بالكاد يلامس ركبتيها، فكل اهتمامها مُنصب فوق الطفل الهابط خلفها هو وكلبه المتوحش.
خرجت من البناية تبحث يمينًا ويسارًا عن الأحمق الذي أرسل لها وحشًا كهدية ثم تصلبت في مكانها لبرهة حين تلاقت عيناها بأعينه الناعسة ولاحظت "زيدان" المتكأ بذراعه في أريحيه فوق سيارته.
ارتسمت ابتسامة مغرورة فوق وجهه فقد كان واثقًا مائة بالمائة من نجاح خطته، قهقه عاليًا حين خرج منها صرخة صغيرة فركضت محطمه وضعها كتمثال حجري، مقتربة نحوه كي تحتمي فيه بشكل غريزي ما أن شعرت بوصول الكائن الرائع من خلفها.
نظر لها في تشفي مستفزًا إياها:

-أنا ممكن أخليكي تبوسي إيدي عشان أسامحك دلوقتي، بس مش هعمل كده عشان محترم!

-محترم!
أنت أكيد جرا في عقلك حاجة، باعتلي كلب يا زيدان، عايز تموتني؟!

-بذمتك من مكسوفة من نفسك، بقى الكلب البريء ده هيموتك،
يا ساتر على قلوب البشر!

ضرب كف على الأخر في استخفاف جلي من مشاعرها وخوفها فدفعته معترضة:

-أنا انسانة متوحشة يا سيدي واتفضل خد الكلب ده قبل ما أموتك أنا.

-هتموتيني من الضحك أكيد ما فيش حل تاني، نرجع لموضوعنا ممكن أفهم أنتي مقموصة مني ليه؟

-يا بجاحتك وكمان بتسأل بعد عملتك السودة.

قالت وهي تضحك ساخرة وتحدقه بعيون متحجرة تشع بمشاعر غيرتها، فأشار بيده نحو صدره وكأنه لا يصدق توبيخها له ثم ردد متعمدًا استفزازها:

-وأنتي أيه اللي يخليكي تضمني انها سودة مش يمكن حمرا؟

تأففت وكادت تزجر وقاحته ببعض الكلمات لكنه قاطعها مستكملًا في لامبالاة:

-هنسكت ونتكلم في المهم ولا هنهزر للصبح!

قال في تهكم متعمدًا الإمساك بمعصمها كتحذير صامت، فأبعدت يدها عنه مردفه في نبرة مغتاظة:

-بص يا مستفز الموضوع اللي كان بينا ده...

أشارت أصابعها بينه وبينها قبل أن تستكمل في نبرة أرادتها حادة ولكنها خرجت مهتزة متلعثمة:

-اعتبره منتهي وياريت نقفل الكلام فيه ونعتبر ان الاتفاق اللي يربطنا ببعض ملغي.

أنهت جملتها برأس مرفوع وأنف شامخ عاقدة ذراعيها في تحدي أمامها، فعكس "زيدان" حركة ذراعيها أمام صدره كناية عن قبوله التحدي وقد تحولت هالة المرح حوله لأخرى غامضة يشوبها السواد مستطردً:

-يعني اللي رابطنا اتفاق مش كده؟

-بالظبط كده، هو كان في حاجة أكتر من كده؟

أخبرته وهي تبلل شفتيها تدعو الله أن يحجب التمني ورغبتها في أن يعترف بحبه لها عنه وألا تنعكس في حروفها الحائرة.
شعر بوخزة في قلبه ولكنه رمى بالمنطق خلف ظهره وبعد أن جاء لاسترضائها أجبرته بكلماتها الاستفزازية وأسلوبها الغير مبالي على القسوة والعناد فأخبرها بنبرة جليدية:

-لا طبعا مفيش بينا حاجة غير اتفاق.

راقب كيف ارتبكت ملامحها لكنها قضبت جبينها تغلف وجهها بالقسوة مردفه:

-أكيد واهو أنتهى، وكل واحد يقدر يروح لحاله.


-أنتي غلطانة في نقطة واحدة، هو كلام يحترم وكل حاجة بس انا مش هحترمه لان نهاية الاتفاق في إيدي أنا.

ضاقت عيناها في تساؤل تشعر بالبلاهة غير مدركة معنى حديثه، فسألت:

-تقصد أيه؟

مال ثغره لأعلى وأقترب خطوة مؤكدًا في كبرياء:

-أقصد أنه صحيح أنتي اللي بدأتي اللعبة لكن النهاية أنا اللي هحددها، والصراحة اللعبة مسلياني ومش هنهيها دلوقتي،
يعني اتفقنا زي ما هو وشروطي زي ما هي ولو حصل غلطة منك ونستيهم هندمك ندم عمرك ما هتتخيليه!

انفرج فاهها في صدمة غير قادرة على تجميع رد مناسب على وقاحته لكنها استدركت نفسها هاتفة:

-أنت فاكر نفسك مين، أنت ولا حاجة بالنسبة ليا، اللعبة انتهت بشروطها ومن انهارده أنا هعمل اللي انا عايزاه محدش له حكم عليا.

-وماله جربي ونشوف، والبادئ أظلم يا روحي.

أعلن في لهجته الباردة المغلفة بالهدوء المستفز، فصرخت فيه غير مباليه إنها على الطريق:

-أنا أجرتك لغرض وانتهى، وحقك هيوصلك حالًا مُصر تضاقني ليه!

-أيه أجرتك دي، أنتي جيباني من سوق عكاظ ولا أيه،
لا أوزني كلامك بدل وديني ... هات يا ابني السلسلة دي....

قطع تحذيره موجهًا جملته الأخيرة للصغير جاذبًا منه سلسلة الكلب الذي قرر النباح ثم اتجه خلف "ميرا" الراكضة وهي تصرخ في هستيريا للأعلى تتوسل ابتعاده عنها حتى وقف في منتصف الدرج سامحًا لها بالهرب داخل جدران منزلها مزمجرًا بشكل جنوني ونفاذ صبر من وقاحتها!

-وابقي أكسري وكلامي وشوفي هعمل أيه يا ميرا عليا النعمة هعمل منك شوربة كوارع وأخلي كلاب الشارع تعمل حفلة عليكي.

هبط الدرجات في خطوات عنيفة ما أن أغلقت الباب وسمع صوت ارتطام ظهرها به، وقد فقد سيطرته كليًا على تصرفاته وجنونه حتى إنه لم يعد يبالي بسكان المبني أو الفضائح التي قد يفتعلها صراخه، حرك رأسه في خذلان وخيبة فعلى ما يبدو أن سكان البناية لن يهتموا حتى وان صرخ أحدهم "جريمة قتل"!

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الثامن 8

بعد مرور أيام وقفت ميرا تهندم فستانها الوردي المنساب فوق جسدها بمهارة لاعب كرة قدم يراقص فوق جميع المنحنيات، وقد اتخذت القرار بضرورة الاستمرار في الحياة من جديد خاصة بعد اتصالات أصدقائها المتواصلة ورغبتهم في مقابلتها.
قطع شرودها صوت والدتها المتعجبة:

-أيه ده أنتي خارجة، مش كنا متفقين هنقضي الكام يوم اللي رجعت فيهم بدري سوا؟

-سوري يا مامي بس أنتي اللي رجعتي قبل معادك بكتير، كمان احنا هنتجمع شويه لأني زهقانة، بس اوعدك مش هتأخر.

-حقيقي كنت حابه نفضل سوا بقالنا كتير مش بنقعد مع بعض ونتكلم زي الأول.

ابتسمت لها ميرا ببطء، تشعر وكأنها مقيدة غير قادرة على التعبير عن مشاعرها بشكل صحيح لكنها أجابت:

-مش هتأخر صدقيني.

-اوكيه، هتتجمعوا في النادي كالعادة؟

ارتعش وجهها وهي تحيد بعيونها عنها تهرب قبل أن تكذب مؤكدة:

-اه في النادي.

حركت والدتها رأسها مرة ووقفت تطالعها بصمت للحظات مرت عليها طويلًا لكنها صدمتها حين اقتربت تقبل رأسها في حنو بالغ، افتقدته كثيرًا ونجح في إغلاق جوانب حلقها من شدة اضطراب مشاعرها المرهفة، أغمضت جفونها بينما تربت والدتها فوق خصلاتها قبل أن تغادر تاركه لها حرية انهاء تجهيزاتها.
قضمت "ميرا" شفاها بين أسنانها فبحركة صغيرة لا تذكر من والدتها أحيت داخلها وخيز تأنيب الضمير والاشتياق لقلب يحتويها.
تنفست على مهل في محاولة للسيطرة على توترها فهي لا تستطيع أن تخبر والدتها بانهم يتسكعون في الشقة التي اشتراها والد رامي وخصصها له وللأصدقاء ثلاث أيام أسبوعيًا.
تذكرت متألمة كيف كانت علاقتها بوالدتها فيما مضى قبل انفصالها عن والدها، صحيح كانت مجرد طفلة صغيرة السن وقتها، لكنها تتذكر كيف وجدت كلتاهن الأمان في ذراع أحدهن الأخر، في الوقت الذي غرق فيه والدها في بناء ورسم مستقبلًا هدم أسرته في سبيل تحقيقه، ولكن للأسف كل شيء تبدل بعد ذلك فوالدتها هربت للعمل تجد فيه الهرب وتركتها تتخبط وحدها غير قادرة على مواكبه الحياة وأبناء جيلها الذين تفننوا في تدميرها.
تنهدت في بطء فقد استطاعت تخطي تلك المرحلة كما هي قادرة على تخطي ونسيان هذا المغرور الذي يُصر على استوطان قلبًا ليس له، فكرت مغتاظة من تحول أفكارها نحو "زيدان" بشكل درامي سريع.
جذبت حقيبتها للمغادرة وهي تتمتم كلمات تشجيعية لنفسها، فهي امرأة حرة قوية، ولن تغرق مع شخص لا يبالي بها ولن تهين كرامتها في سبيل إيجاد شريك مناسب وبالتأكيد لن تتخلى عنها بسبب رجلًا يمتلك قلب ك "كمساري" القطار يوزع تذاكره على كل من ذهب وجاء.

*****

-تمام، لا كده فل أوي.

صمت "زيدان" يستمع للجهة الاخرى قبل أن يجيب مؤكدًا:

-هانت بلاش قلق، مع السلامة.

جلس داخل سيارته تحت بناية وكر الأصدقاء، فاليوم يوم من أيام اللقاء، وان حضرتك سيقتلع أظافرها الواحدة تلو الأخرى.
أخرج هاتفه من جديد وفتح غرقة الدردشة الخاصة بهما، ثم أخذ يتجول فيها وهو يقرأ رسائلهما القديمة تفصيليًا وكأنه يستمد منها الطاقة والحق كي يمنعها من إلحاق الأذى بنفسها والانغماس في هذا العالم أكثر.
غرق بين طيات الكلمات والمشاعر التي تولدت منها طويلًا حتى عاد إلى الحياة على صوت محرك سيارة تقترب، غامت عيناه العسلية لتعكس لونًا فريدًا كالعسل المحترق ما أن تبينت له السيارة الوردية وصاحبتها المتمردة.
ضغط على المقود في قوة يحاول جذب أنفس عميقة يهدأ بها غضبه الهادر على تهورها وكل ذرة في جسده تحارب للوصول إلى الثبات.

-أهدى، أهدى ما تتعصبش، خد نفس عميق وأهد....

قطع طقوسه من أجل استعادة الهدوء بإطلاقه لفظ اعتراضي بذيء تلاه أخر أبذأ متمتمًا:

-وأيه اللي هي لابساه ده بروح أمها، ده أنتي يومك أسود.

ترجل من سيارته ما ان هبطت "ميرا" من سيارتها ووقفت بكل ميوعة توصدها، اقترب منها في خطوات واسعة وواثقة ثم شعر بالتشفي سعيدًا بالهلع المسيطر عليها حين رأته أمامها.

-أنت بتعمل أيه هنا!

-قدامي.

قال في نبرة هادئة تشبه الهدوء للذي يسبق العاصفة بينما يجذبها جواره كي تلحق بخطواته النارية فزمجرت في محاربة لإفلات ذراعها من براثنه رافضة السهولة التي يجبر بها ساقاها الصغيرة على التحرك معه:

-سيبني أحنا اتفقنا ملغي ووجودك مرفوض.

-اركبي من سكات، أنا هعرف ازاي اتصرف معاكي.

دفعها دفعًا للمقعد وعندما حاولت الهروب عاد يقبض على جسدها الراكض وسحبها معه نحو مقعد السائق يجبرها على الانتقال منه للمقعد المجاور كالأطفال ثم أغلق الباب خلفه، تجاهل اعتراضاتها وأسرع منطلقًا بالسيارة:

-زيدان أنت اتجننت عربيتي هنا!

-تستاهلي ان شاء الله تتسرق.

أردف في تمني وصدق، فقالت مذهولة:

-انت مين اداك الحق للي بتعمله ده.

-أنا، لقيت نفسي فاضي ولقيت ان ما فيش حد يلمك ولا راضية تتربي، فاديت لنفسي الحق واتمنى اني اتبسط معاكي.

نجحت كلماته في إغلاق فمها للحظات وهي تبصره في ذهول، فتحت فمها تحاول تجميع جملة مناسبة ولكن عقلها توقف عن العمل من شدة الغضب حتى قالت مستهجنة:

-نزلني حالًا، انت عايز مني أيه لو على فلوسك هتوصلك بكرة.

أوقف السيارة في حدة على جانب الطريق ثن عدل جسده يرمقها شذرًا مؤكدًا:

-حلو أوي وأنا هاخد الفلوس دي واطلع على أبوكي، أقوله اتفضل يا باشا ده قبضي من بنتك عشان كنت عامل اني متجوزها عرفي.

-انت ليه بتحاول تأذيني مع اني عمري ما أذيتك.

همست وقد دب الرعب اوصالها، فأشار مذهولًا نحو صدره متمتمًا:

-أنا بأذيكي يا ميرا،
ده أنا هموت وانقذك وأطلعك من مستنقع سايبه نفسك تغرقي فيه وبدون مقاومة.

هز رأسه بعدم تصديق بعد كل هذا الوقت معًا تتهمه هو بأذيتها، أبعدت "ميرا" وجهها عنه ثم قالت من بين أنفاسها العالية:

-يا سيدي أنا بحب المستنقع ده، لكن أنت اللي مصمم تلغبط كل حساباتي.

ارتفع وجهه في ابتسامه ساخرة متسائلًا:

-أنا لغبطها ولا أنتي اللي معمولك غسيل دماغ ؟

-أيوه أنت قاصد تبعدني عن أهدافي وضحكت عليا وخلتني أسمع كلامك وأعمل حاجات مش عايزاها.

علا صوته في اعتراض داخل السيارة وقد رمى الهدوء في عرض الحائط:

-ليه كنت بضربك على إيدك ولا بعلقلك المشنقة، لو أنتي مش عايزة تعملي حاجة كنتي بتعمليها وماشيه ورايا ليه؟

بللت شفتيها وازدادت ملامحها ضيق رافضة الإجابة ولكن اضطراب حركتها جعلته يدرك ما تحاول إخفاءه، لتنير ضوء داخل كهف أعماقه يُشعره بأنها تعشقه كما يعشقها ولكنها تكابر فتابع في إصرار:

-ما تردي عليا كنتي بتسمعي كلامي ليه؟

لوحت رأسها اتجاهه قبل أن تهتف مستنكرة:

-عشان غبية وهبلة وبمشي ورا ناس ما تستاهلش.

ضغط قبضتيه يفتحهما ويغلقهما مرات متتالية يحاول تمالك غضبه وكلماته الحادة التي تحارب للانفجار في وجهها.
يبغض كيف تراه رخيصًا وترى القبح في تصرفاته بينما يختلق عقلها الأبله المبررات لمن لا يرتقوا لأن يصبحوا أصدقاء أي كائن في العالم، كان يريد تجاهل أعاصير المشاعر المتضاربة بين ضلوعه ولكن سؤاله تسلل من بين شفتيه:

-طالما أنا ما استاهلش واللي بينا مجرد اتفاق ولعبة،
مقموصة ومحسساني إني خنتك ليه؟

رمشت عدة مرات تحاول إدراك مقصده وتحاول إيجاد مخرج لهذا السؤال الثعلبي فهي مستعدة لأن تلفز أنفاسها الأخيرة على أن تعترف بحبها لهذا الخائن، فتلعثمت مجيبة:

-زعلانه لأنك ما احترمتش الاتفاق اللي بينا، أنت منعتني أقابل أي راجل من صحابي وأنا لوحدي، لمجرد أن أسمي مربوط بشكل وهمي بأسمك...

جذبت نفس كبير ترفض النظر نحوه وهي تحرك يدها في الهواء مستكملة:

-لكن أنت عادي تروح ...

صمتت وقد ضاق حلقها غير قادرة على إكمال وصف فعلته التي كانت كالرصاصة في صدرها، ثم أغمضت جفونها تخفي خوفها حين أنطلق صوته الغاضب جوارها:

-روحت وعملت أيه كملي ولا عشان عارفة اني معملتش حاجة مش عايزة تكملي!

دفعت رأسها نحوه تثبت عيناها على عيناه تلك المرة في شجاعة، ثم صرخت في وجهه:

-لما الاقيك في حضن صاحبتي وواقف سامعها بتتكلم عني ومأيدها تبقى عملت وعملت كتير أوي.

-وبالنسبة لصاحبتك عادي؟

أبعدت رأسها تنظر خارج النفاذة مجددًا قبل ان تخفي أصابع يدها أسفل مجلسها في محاولة لوقف ارتعاشها من شدة انفعالاتها ثم قالت في نبرة خافته مُتعبه:

-ده طبعها ودي حياتها وصاحبك على عيبه، لكن المفروض أن أنت اللي تقاوم.

-وأقاوم ليه ما أنا ابن جزمة جبان مش كده؟

كانت نبرته معاتبة أكثر منها غاضبة فوضعت يدها فوق جبينها فلا حق له بمعاتبتها وهو الذي مزق نياط القلب.
فرك "زيدان" عيناه يشعر بالخذل وخيبة الأمل، كان يظنها تمتلك في قلبها حبً كبير كحبه لها ولكنه كان مخطئًا فالغالية تمتلك في قلبها محبة لأصحابها فقط، بينما كان هو غارق كالأحمق حتى أنفه في هيامه بها وبكل تفاصيل حياتها، كان يقتطع من حياته لخوض ما يستطيع أن يشاركها فيه من حياتها.

نعم .. كان يشعر بمشاعرها نحوه ولكنها فتاة تصغره بأعوام كثيرة لا بد إنه اخطأ في حكمه على تصرفاتها لأنه بالتأكيد لا يملك في قلبها القدر الكافي من الحب الذي يجعلها تختلق له المبررات كما تفعل لأصدقائها.

وكم يكره هؤلاء الأشقياء الفاسدون بكل قطرة دماء في جسده!

كم هو حزين على ما آلت إليه الأوضاع بينهما وكيف ترك نفسه يتعلق بها دون حساب لألأم قلبه المنخدع فيها، كانت لديه ثقة كبيرة في مخططه، وكان سعيدًا يتفاخر أمام نفسه بأنه قطع شوطًا كبيرًا معها في علاقتهما وبانه أستطاع تقويمها وحثها عل فعل ما هو صحيح.

... ثم ماذا؟....

في النهاية مع أول مشكلة بينهما عادت علاقتهما لخانة الصفر، كان يظن أنه غير من شخصها ولكنها أصبحت أكثرًا عنادًا وتمردًا، كل ما مر كان تمثيل ومحاولة باهته لإرضائه في سبيل تحقيق الاتفاق.

جز على أسنانه يشعر بحرارة الغضب تزداد داخل صدره وكأنه جالس على فواهة بركان ناشط، أغمض جفونه يخفي عدستاه المشتعلتان لكنه فتحهم سريعًا في اللحظة التالية حين أردفت "ميرا" في صوت حزين ضعيف:

-فضلت تنتقدهم وتلوم على افعالهم وكنت مصور نفسك في صورة الملاك اللي مش بيغلط وفي الأخر...،

صمتت لحظة متعمدة إمساك بصره المشتعل ثم استكملت في لهجة قاسية جامدة:

-وفي الأخر طلعت أسوأ منهم بمراحل،
لو سمحت رجعني لأصحابي والناس اللي باقية ليا فعلًا.

تصلبت تقاسيم وجهه الصارم وتجمدت مشاعره فلم تصبح "ميرا" قادرة على تحليل مزاجه وخطوته التالية ولكنه أثار جنونها حين أخبرها مبتسمًا ابتسامة خالية من خيوط المرح:

-لو على الناس الباقية، يبقى أوصلك للمكان الصح.

أشعل محرك السيارة متحركًا من جديد في طريق معاكس تحت اعتراضاتها وهتافاتها المستنكرة تصرفاته المجنونة،
ولكنها على وشك اكتشاف أعلى درجات جنونه.

*****

بعد مرور ساعة كان يتحرك "زيدان" في خطوات واثقة نحو البناية التي تسكنها "ميرا" ممسكًا بيدها جارًا لها رغمًا عنها وسط توسلاتها:

-زيدان، أرجوك ماما فوق.

-عز الطلب.

-أنت عايز توصل لأيه باللي بتعمله ده!

وقف امام المدخل يمنعها من سحب ذراعها من بين أصابعه الغليظة ثم اجابها في هدوء يخفي خلفه الكثير:

-عايز أوصلك ان خيوط اللعبة في إيدي، وان أنا الانسان الوحيد اللي عقلك لازم يعمله حساب.

قالت في لهجة سريعة مهتزة استقر فيها الخوف وقد تلاشت شجاعتها:

-ما أنا بعملك حساب يا زيدان!

-امتى لما أرن عليكي وما ترديش ولا لما ابعتلك مسج وتتجاهليني ولا لما أقول كلام ويتعمل عكسه؟

وصلها صوته المتقطر بالتهكم والسخرية قبل أن يصعد أمامها على الدرج بينما هي تحارب للمقاومة وتقوم بضغط أقدامها على الدرج معترضة على أفعاله ثم هتفت في جنون:

-هتعمل ايه يا مجنون، هتوديني في داهية.

ابتسم لها ابتسامه كبير سمجة يمنع محاولاتها للهروب وكاد يشفق عليها حين سالت دموعها فوق وجنتها البيضاء كالياسمين وقد سحب الذعر اللون من وجهها بالإضافة إلى همستها المترجية:

-عشان خاطري بلاش يا زيدان، ماما عمرها ما هتسامحنى.

أزدرد ريقه رافضًا اللين والانسحاب، مصرًا على وضع حجر كبير فوق قلبه اللعين ورافضًا الوقوع في فخ توسلاتها، أكمل أخر خطوتين نحو الباب متجاهلًا قبضتها الصغيرة الضاربة فوق كتفه ليتركها، ثم مد كفه يرن جرس الباب.
كادت تسقط "ميرا" مغشيًا عليها حين فتحت والدتها الباب وأخذت أنظار والدتها المنذهلة تتنقل بينها وبين "زيدان" الذي زاد من صدمتها حين قال لوالدتها بابتسامة واسعة:

-طنط "أماني" ازاي حضرتك؟

خرجت والدتها من ذهولها وانفرجت ابتسامه بطيئة على ثغرها مرحبة:

-الحمدلله أنت عامل أيه يا زيدان وبابا أخباره أيه؟
أتفضل تعالى.

أشارت للصالون من خلفها ونظرة التساؤل تتعلق بابنتها المتصلبة في مكانها بأعين على وسعهما، كسر تحجرها صوت "زيدان" الهادئ:

-أنا قابلت "ميرا" في الشارع مكنتش مصدق نفسي أنكم ساكنين هنا قولت لازم أطلع أسلم على طنط أماني، صح يا ميرا؟

هزت ميرا رأسها في حركات سريعة للأعلى والأسفل دون أن تعي معنى ما يخرج من فمه أو تفهم سر المحبة الزائدة نحو والدتها ولما لا تصرخ والدتها في وجهه أو تطلب تفسيرًا!

-انتوا واقفين ليه ما تدخلوا يا ولاد.

قالت والدتها عندما لم يتحرك أي منهما للدخول فارتبكت ميرا لكنها دخلت في صمت بوجه شاحب خلف زيدان المبتسم ابتسامته القاتلة التي تتمنى اقتلاعها بأظافرها، ثم حاولت التحكم في انفاسها لا تعرف هدفه من اللعبة خاصة حين جلس ثلاثتهم واستقرت أنظار والدتها عليه في اعتيادية وكأنها تعرفه منذ سنوات قائلة:

-عمتك نادية رجعت من السفر ولا لسه؟

-لسه بس بعتالك السلام والله.

ابتسمت والدتها في ابتسامه شبه متهكمة، فعمته لا تطيقها حرفيًا لكنها تمتلك من الأدب ما يكفي ليجعلها تخبره:

-الله يسلمها فيها الخير.

حانت منه نظرة خاطفة نحو "ميرا" الجالسة كالبلهاء رأسها تتحرك فيما بينهما دون قدرة على تحريك لسانها، واصابعها لا تنفك عن التحرك فوق فخديهما وكأنها تحاول تنشيط الدورة الدموية في جسدها الشاحب قبل أن تسألهم ما يراه مرسومًا فوق ملامحها وما يثير حيرتها :

-أنتوا تعرفوا بعض؟

نظرت لها والدتها متعجبة من سؤالها الأرعن الذي قد ينم على قلة الذوق أمام قريبهم فقالت موبخه:

-أنتي بتهرجي ولا بتتكلمي جد؟
مش عشان مش بشوفهم كتير مش هعرف عيلتي ده متربي قدام عيني من قبل ما أنتي تتولدي.

رمشت عدة مرات تحاول استيعاب ما تخبره بها والدتها ثم نقلت بصرها المذهول نحو زيدان الصامت والذي يملك من الوقاحة ما يجعله يقذفها بنظرة محذرة وكأنه يحذرها من التفوه بأي حماقة!
جذبت نفس عميق تحاول الهرب من أمواج الصدمة المتلاحقة فوق رأسها وتابعت في صمت استئذان والدتها لإحضار واجبات الضيافة، ولا تدري كيف خرج صوتها المكتوم لكنها فعلت حين سمعت نفسها تردد:

-أنت قريب ماما؟

-لا، انا قريب ماما وقريبك أنتي كمان.

اجابها ساخرًا أثناء اعتداله للجلوس بشكل أكثر أريحيه فوق المقعد، فهمست في خفوت:

-يعني مش بس خاين وكمان كداب وبتضحك عليا.

-كداب وبضحك عليكي!
أقسم بالله بالقلم وعلى وشك، خدي بالك من لسانك أحسن ليكي بدل ما تخرب في دماغي وأقول لأمك بجد أنا ماسك نفسي عنك بالعافية.

-ماشي يا زيدان.

بصقت حروفها وهي تحافظ على انخفاض صوتها كي لا تسمع والدتها فارتفع صوته هو صادمًا إياها:

-أنتي بتهدديني؟
يا طنط أماني.....


قفزت من مكانها واقفه وهي تضم كفيها في خضه أسفل ذقنها ترجوه:

-خلاص أنا أسفة مش هقصدي والله!

-مش هتردي على التلفون تاني وهتخنقيني؟

-لا والله العظيم هرد.

-أيوة يا حبيبي، في حاجة؟

خرجت والدتها تحمل صينية مزخرفة بها كوب من العصير وطبق مليء بالحلويات، فوقف "زيدان" يلتقطها منها في أدب مبررًا صراخه قبل قليل:

-لا كنت بندهلك عشان أقولك ما تتعبيش نفسك أصل أنا مش هقدر أقعد عندي شغل.

-شغل بليل كده.

-اه ما أنا فتحت مطعم مع أصحابي، اتمنى تشرفيني أنتي وميرا يوم.

نظر إلى "ميرا" مبتسمًا في مشاغبة قائلًا في استفزاز يتعمد ارباكها:

-ابقي هاتي ماما تتغدى يوم.

-أنتي روحتي قبل كده يا ميرا؟

سألت والدتها المتعجبة فتلعثمت تخبرها:

-اه ... شفته مره صدفه وعرفت المكان.

-أنتي بتكدبي ليه؟
احكيلها من البداية من أول نوتفكيشن بينا!

-نوتفكيشن أيه؟

سألت الوالدة، وارتعشت شفتا "ميرا" تكاد تفقد الوعي ما أن كذبها زيدان بملامحه الجامد وشعرت بدموعها تتجمع للدرجة التي لم تمكنها من رؤية ملامح والدتها التي تتطلع إليها منتظره إجابتها،
لكنها جذبت نفسًا عميقًا واسترخى جسدها المشنج حين قال الوقح منقذًا للموقف:

-أنا وميرا بنسأل على بعض من ساعة ما لقتني صدفه على الفيس ومن وقتها واحنا بدأنا نتكلم أكتر ولما عرفت عن افتتاح المطعم والإعلان جابت أصحابها وعزمتهم يوم عندي.

انهى جملته بابتسامة كبيرة مغيظة، ثم رفع حاجبه يحركه في استفزاز منتظرًا تأكيدها فضحكت كالبلهاء ضحكة خرجت مختنقة هامسة في توتر:

-اه .. هو كده يا ماما.

-طيب هستأذن أنا.

-أشرب حاجة الأول مش معقول تيجي وتنزل كده.

أردفت والدتها مستنكرة ذهابه دون إتمام واجب الضيافة فاستقام واضعًا يده فوق صدره في حركة مهذبة معتذرًا:

-معلش تتعوض ان شاء الله.

وقفت "أماني" لتوصيله حين تحرك للمغادرة لكنه توقف في منتصف الطريق مطالبًا في نبرة مُحرجة:

-أنا اسف يا طنط لو هتعبك، بس ممكن كوباية ماية.

ابتسمت مؤكدة بينما تتحرك سريعا للداخل:

-طبعا يا زيدان.

ما ان اختفت حتى اختفت ابتسامته المهذبة وأشار بأصبعيه نحو مقلتيه ثم اعادهما نحو "ميرا" ذات العيون المتسعة، كناية عن مراقبته لها محذرًا:

-استني مكالمة مني قبل ما تنامي عشان نحط النقط على الحروف ... يا روحي.

تعمد مط كلمته الشهيرة سعيدًا بصمتها واستسلامها له رغم وضوح الغضب المتناثر في عدستيها السوداء، ثم رفع حاجبه في تحذير منتظرًا ردًا منها فهمست في صوت منخفض:

-حاضر.

-شطوره.

وصلت والدتها بكأس الماء وما أن ابتلعه على مرتين أعاده شاكرًا لها ثم رحل تاركًا "ميرا" تتكأ حولها حتى تصل إلى أمان غرفتها وتغلقها خلفها.
استندت فوق الباب تحاول التفكير واستجماع أنفاسها المسروقة، لا تصدق ما حدث وما وقعت به، ف "زيدان" خدعها ولم يخبرها إنه من عائلة والدتها وهذا اكثر ما يخيفها فهي لا تفهم أهدافه ومسعاه من خديعته لها ، عقلها مشتت تكاد تجن من كثرة التفكير لتحليل ما يحدث وما هو على وشك الوقوع فمن يعرف ماذا يخبئ لها زيدان في جعبته؟

نوفيلا نوتفكيشن الفصل التاسع 9

داخل منزل "زيدان" فرك المسكين أسفل رقبته يحاول تخفيف التشنج فيها، فقد عكف طوال الساعات الماضية على التفكير في خطوته التالية مع "ميرا" حتى وصل إلى حل يراه مناسبًا للوضع الحالي بينهما، ويرجو من الله أن تتقبله جلالتها.
تمتم ساخرًا وهو يقرأ الساعة المشيرة إلى الواحدة صباحًا مقررًا الإقدام في المخاطرة والاتصال بها ، رفع هاتفه متصلًا بها بعد أن جذب انفاس عدة استعدادًا للمعركة.
أتاه الرد سريعًا عكس ما توقع لكنه تدارك صدمته تجاه طاعتها الحرفية له بقوله المشاكس:

-حاسس أنك نمتي ونسيتي تستني مكالمتي زي ما قولتلك.

-اومال أنا برد عليك ازاي؟

سألت "ميرا" مغتاظة فكاد يستسلم لضحكاته مستمتعًا بالغيظ المتقطر من صوتها ضده، بكنه رد مصرًا على مشاكسته:

-لا مش مقتنع.

-الله ما قولت ما نمتش.

-أنتي بتتعصبي عليا؟

تعمد نطقها في خشونة مملوءة بالتهديد المبطن فلانت نبرتها المنفعلة وهي تؤكد له:

-والله لا اتعصبت ولا نمت!

-وأنا مصدقك يا روحي.

همس في حنو بالغ أثار جنونها ووصله صوت شهيقها المتقطع بالتأكيد تكبح صراخها، قبل أن تسأله في نبرة جافية:

-زيدان قول متصل عايز أيه؟

-أحبك وأنت فاهمني دايمًا.

استمر في استفزازها فقاطعه بطريقتها الحادة ونبرة المتهكمة محملة بمعنى عميق:

-أيوه فهماك وفهمتك بالطريقة الصعبة.

تحولت نبرتها من التحدي والتحامل عليه إلى أخرى ضعيفة يشوبها الحزن الذي انطلق كالخنجر إلى صدره فوجد نفسه يتنازل عن تصرفاته الصبيانية ويجاريها في جدية:

-فهمتي أيه؟

-فهمت تصرفاتك معايا سببها أيه وليه خدعتني طول الفترة دي.

-ليه؟

همس وقد أصابته وخزة طفيفة بين جنبات صدره ظنً منه إنها اكتشفت غرامه لها لكنها كالعادة فتحت فمها الصغير مقررة إمطاره بالمزيد من الهراء:

-عشان لما تمثل انك متجوزني في السر هتكسر عيني أنا وماما وتذلها قدام عيلتها.

-طيب ما انا لو هذل أمك كنت مثلت إني متجوزها عرفي، هلعب عليكي أنتي ليه؟
استني مترديش ... تصدقي وتأمني بالله يا شيخة أنا ما عارف اقولك أيه!

انهى جملته الساخرة بعد أن قاطع رغبتها في الحديث، لا يصدق أين أوصلها مجرى تفكيرها الغبي، فأجابته في عناد مؤكدة:

-مش لاقي حاجة تقولها عشان دي الحقيقة.

-يا غبية أنتي اللي طلبتي مساعدتي مش العكس، يعني أنا لا بخطط عشان أذل أمك ولا نيلة.

-أمال أيه هدفك من كل اللي بيحصل ده، فهمني!

اعتدل في جلسته عندما سمع صوت حركة في الخارج وانتظر ثوان يتأكد من عودة والده إلى غرفته للنوم من جديد قبل أن يستكمل:

-حلو نتكلم جد شوية، وعشان أنتي مش بتفهمي غير بلغة الحوارات والاتفاقات،
فأحنا هنلغي القديم نهائي وهنعمل أتفاق جديد.

اهتز صوتها الخافت وهي تتساءل متوترة:

-اتفاق جديد؟

-أيوه اتفاق جديد بشروطي أنا من الألف للياء،
وقبل ما تعترضي أفهمي إني بكلمك عشان اخد القرار معاكي بشكل ودي لأنك تهميني،
وإلا كنت اجبرتك عليه بشياكة وأسهل على نفسي الطريق.

-تقصد أيه؟

سالت سريعًا متأكدة ان كلماته تحمل تهديد كبير بين طياتها ورغمًا عنها أخذت تفرك أصابعها تحاول إخراج نفسها من تلك الورطة.
كاد يصيبها بأزمة صدرية حين أخبرها في لهجة واثقة:

-أقصد ان معاكي حرية الموافقة أو الرفض، وبما انك عارفة معنى الموافقة خلينا نتكلم عن الرفض شوية،
لأنك لو رفضتي بأي شكل من الأشكال، بكرة من النجمة اتفاقي هيكون مع أبوكي مش أمك،
هاه اتفقنا؟

تعمد الحفاظ على صلابة نبرته بينما يفرك رأسه يحاول محاوطة قلبه بغشاء صلب يعزل من خلاله تأثيرها وحبالها الوهمية المسيطرة على خفقاته، خاصة حين ساد الصمت بينما وتهيأ له صوت بكاءها الخافت قبل أن تردف موافقتها دون جدال ودون أن تخفي نبرتها المتألمة من قسوته:

-اتفقنا، قول شروطك يا زيدان؟

-هتقطعي علاقتك بشلة الشياطين اللي متعلقة بيهم نهائي.

-وصحابي أيه علاقتهم بالموضوع!

-صحابك هما أوس الموضوع والفساد في حياتك،
أنتي ازاي مش حاسه بالبير اللي بتغرقي فيه وأنتي معاهم؟

صمت برهة يبتلع ريقة يحاول استجماع هدوئه ليقنعها بما يجول في خاطره مستكملًا:

-ازاي مش حاسة بالغشاوة اللي على عينك وانتي وسطهم، ميرا أنتي إنسانه نقية طيبة وجواكي أصل وقيم مهما حاولتي تغيريهم مش هتقدري،
لكن معاهم أنتي بتناقضي نفسك وبتتغيري للأسوأ ودي مش علاقة طبيعية أو صحية.

-ارجوك يا زيدان ما تجبرنيش اتخلى عنهم مش هقدر هما كل اللي ليا في الحياة.

تمزق قلبه وهو يستمع لشهقات بكاءها وكأنها طفله حرمت من والديها لدرجة أنه فكر في التراجع إلا أن التراجع الآن سيسبب نتائج عكسية أسوأ من الحالية فأكمل يحاول تهدئتها بحديثه الحاني:

-طيب ممكن تهدي وتخليني أكمل، اعتبريها تجربة يا ستي، الغيهم من حياتك وخلينا نشوف هياخدوا وقت قد أيه قبل ما ينتبهوا على غيابك وهل هتفرقي معاهم ولا لا؟
أقولك، أسأليني ليه أنا بعمل كده؟

-ليه؟

خرج صوتها كالهسيس الخافت فرد بمنتهى الصدق:

-عشان لما كنت وسطكم وبشوف تعاملاتك معاهم، للحظة افتكرت انك انسانه مش متزنة نفسيًا بس بعد كده فهمت ان ده خلل سلوكي أكتر منه نفسي.

علا صوتها وسط بكائها تعترض بشدة كالمجنونة، وكأنه بقوله هذا أحيا خلايا الإنكار داخلها:

-أنا مش مريضة نفسيًا!

حاول جذبها نحو الاعيبهم الاستفزازية من جديد حتى يبعدها عن الهلع المشع من نبرتها:

-أولًا أنا مقولتش مريضة نفسيًا، قولت خلل سلوكي،
ثانيًا والأهم مفيش مريض نفسي هيقول أنه مريض.

-انت عايز توصل إني مجنونه واني مش طبيعية عشان تبرر أفعالك وخيانتك ليا.

هتفت في جنون وسط عبراتها متناسية والدتها التي يفترض بانها نائمة ولكن كلماته فتحت شقًا مغلقًا داخلها، شقًا مخيفًا تهابه وتخشى التطرق له وهو بكل وحشية يدس أنيابه فيه، لكنه تابع في هدوء:

-قولتلك التفكير مش من مميزاتك، أنتي حلوة وكل حاجة بس ياريت ما تفكريش تاني،
نرجع للاتفاق النقطة التانية والأهم دراستك...

قاطعه في لهجة صلبه متحجرة:

-مش بحضر محاضرات، بذاكر قبل الامتحانات وبس.

-جميل جدًا عشان من بكره الساعة تسعة هعدي عليكي تروحي معايا المطعم.

-ليه ؟

-عشان تستلمي مهمتك الجديدة.

أجاب مشاكسًا فاندفعت مستنكرة وهي تستقيم من فراشها تتجول في الغرفة:

-هتشغلني عندك قصدك؟

-الله جميلة أوي الجملة قوليها تاني كده!

تمتم بطريقته الاستفزازية مستهدفًا ازعاجها فقالت في غيظ وقد نفذ صبرها:

-زيدان ما تلعبش بأعصابي!

-لا يا ستي مش هتشتغلي عندي، بس هتكوني وزيرة السعادة.

-وده لأني مثال للسعادة وكده!

أخبرته ساخرة من وقاحته واستمراره في استفزازها لكنه أردف متعجبًا:

-الله ومش هتكوني سعيدة ليه؟

-ايوه صح ايه مش هيخليني سعيدة وفي واحد من يوم ما عرفته وهو مصمم يدمر حياتي ويلغي شخصيتي ويتحكم فيها لأنه ببساطه انسان سادي!

-سادي ... سادي سرور .. آه.. كنت بحبه أوي لحد ما بدأ يهبل، أنتي بتحبيه ولا أيه؟

صدح صوتها مزمجرًا من أعماقها لا شعوريًا توبخه:

-يا انسان يا مستفز، تصدق أنت منك لله.

-كلنا مننا لله يا روحي.

-زيدان ما تطيرش البرج الاخير من عقلي وفهمني ناوي على أيه؟

خرج صوتها متعجبًا بعيدًا عن الهلع السابق وقد نجح في سرق انتباهها لأمور أخرى فابتسم مغلقًا النقاش في سماجته المعتادة:

-لما أشوفك بكره يا روحي.

أغلق الهاتف دون انتظار لردها وعلى محياه ابتسامه واسعة يشعر بالرضا إنه قطع جزء كبير من مخططاته ولكن كيف يقنعها بالتخلي التام عن السوء في حياتها.

*****

في اليوم التالي هبط "زيدان" من السيارة بعد أن جذب حافظة أمواله ونظارته الشمسية ثم مال يطالع من زجاج النافذة "ميرا" المتذمرة والجالسة داخل السيارة تبثه بالنقم.
التوت شفتيه في ابتسامه ساخرة قبل أن يتجه نحو مقعدها فاتحًا لها الباب قائلًا في تهكم:

-عارف إني قولت ما تشغليش دماغك، بس مش ملاحظة أن كده زيادة عن اللازم؟

نظرت له شزرًا حاقدة على قدرته في جعلها تشعر بالسخف وعدم النضوج، قلبت عدستيها داخل عيناها وهبطت هي الأخرى متحركة قبله إلى داخل المطعم.
ابتسم لنفسه وهو يراقب كيف انطلقت دون انتظاره في غرور وكأنها تمتلك المكان، ترك لعيناه حرية المرور عليها كالماسح الضوئي يخزن كل تفاصيلها الخلابة، رغم إنها لم تتأنق كعادتها إلا إنه يراها مميزة في سروالها الأبيض وبلوزتها المحشورة داخله معطية لخلفيتها منظرًا خلابًا يخطف العيون.
اختفى المرح عن وجهه وشعر بالحرارة تسري في عروقه عندما تعلق نظرهُ بخصرها النحيل المتراقص دون رحمة بقلوب الرجال من حوله، فتحرك مسرعًا يمسك معصمها جاذبًا لها نحو مرحاض السيدات هامسًا من بين أسنانه:

-طلعي البلوزة من البنطلون.

-أفندم، هو استايلها كده.

-الاستايل ده تلبسيه هناك في لاس فيغاس لكن أنتي هنا في مصر، اعدلي هدومك وفوقي لتصرفاتك شوية وانتي معايا عشان أنا راجل خلقي ضيق.

دفعها للداخل رافضًا التنازل والتزحزح عن موقفه حتى تستجيب له، دبدبت قدمها في غضب ثم نظرت له شزرًا هاتفة:

-أوف منك أوف.

تحركت من أمامه ودلفت متذمرة لتعدل ملابسها، حرك رأسه لليمين واليسار في يأس من تقويم أفعالها الطفولية، واستدار يتفحص الزبائن يبعد أفكاره عن حماقاتها حتى طالت عيناه صديقه العابس من بعيد فناداه:

-كيرو تعالى.

اتاه متململًا يجر ساق أمام الأخرى فأردف "زيدان" في سلاسة:

-قولت لخطيبتك؟

حدق به "كيرو" بنظرات حادة باعثة للشك فسأل "زيدان" متعجبًا حاله:

-مالك يا بني بتبصلي كده ليه؟

-أصل كده زيادة عن الحد الصراحة، يعني أخويا وعديتها لكن خطيبتي اهوه ده اللي مش هسكت عليه أبدًا.

-أما أنت بني ادم براس بخاخة بصحيح، يعني عمال أقولكم عايز أعرف البنت على ناس محترمة ونضيفه وعملت فويس طويل عريض من بتوع البنات دول،
أفهمكم أهمية الموضوع بالنسبة ليا وانكم لازم تساعدوني غصب عن عينيكم لأنكم ببساطه أصحابي، وفي الآخر جاي تشك فيا، يا اخي يلعن ابو اللي ربط الحمار وسابك.

اخفض "كيرو" رأسه وقد نجحت كلماته المعاتبة في إحراجه فقال معتذرًا في نبرة خافته:

-طيب خلاص ما تقفش، هي جوا مع محمد ومراته.

-حلو أوي.

قطع حديثهم خروج "ميرا" التي تنقلت نظراتها بينهم في حرج فأشار لها "زيدان" بالتقدم أمامه.
تنهد عندما ظهرت معالم عدم الارتياح والتوتر فوق محياها، مفكرًا بأن اندماجها في أوساط جديدة ومختلفة عن ما عاصرته سيكون صعبًا مع طبيعتها الخائفة وشخصيتها المغلفة بحصون حديدية تحميها من شر وهمي تتوقعه من كل ما هو جديد أو بشري.
وصل لطاولتهم الخاصة في الزاوية مقررًا تحديث اللعبة وهو يراقب وجهها معرفًا إياها للجميع بابتسامة صادقة:

-أهلا يا جماعة منورين ...
ده محمد ونيللي مراته، وده كيرو ونانسي خطيبته،
ودي "ميرا" خطيبتي.

كادت تسقط من فوق المقعد قبل أن تستقر عليه ثم التفتت نحوه تحدق فيه بعيون واسعة مذعورة من تصريحه، فجاورها مربتًا على كفها يحثها على الهدوء أثناء تقبلهما مباركات الأربعة المنذهلون لكنه سعيد أنهم سايروا لعبته ولم يرموا بأسئلتهم الفضولية في حضورها.
مر وقت ليس بقليل على الجمع، انسجم فيه الجميع داخل أحاديث عفوية خفيفة أثارت ضحكاتهم مرات كثيرة، ولن ينكر انه كان يلتقط كالقناص كل حركة وشعور يفرض حضوره فوق ملامح ميرا وعيونها الخائفة.
يعلم انها شخصية مذبذبة شبه انطوائية تخاف من الاختلاط سوى مع أشخاص عايشتهم واندمجت معهم وربما هذا هو السبب الأكبر في شعورها بالاكتفاء الذاتي بحفنة الشياطين المدعون بأصدقائها.
راقب كيف تبدلت ملامحها من الخجل إلى الخوف والتردد كلما حاولت إحدى الفتاتان في افتعال حديث ودي معها، وقد تعمد اقتحام الحديث في كل مرة، شاكرًا في عقله أصدقائه الذين امتهنوا التحضر اليوم ولم يقتلعوا رأسه لانخراطه في الحديث مع سيداتهم.
مرت الساعات وتحرك الثلاث رجال لإنهاء بعض الأعمال وفي هذه الأثناء حاول "زيدان" مراقبة الوضع وعدم إزاحة عيناه عن "ميرا"، التي بدأ يسمع صوتها بين الحين والأخر بينهن، وحمد الله لوجود "نيللي" زوجة صديقه التي اثبتت إنها شخصية اجتماعية ودودة من الدرجة الأولى.
أما على الطاولة، تحركت رأس "ميرا" بين "نانسي ونيللي" تستمع لحديثهن المتواصل حتى القت عليها نيللي الضوء متسائلة في صوت لطيف يوازي لطافة ابتسامتها المشعة:

-وأنتي بتدرسي أيه يا ميرا؟

تصلبت لحظة تحاول ابتلاع ارتباكها بصعوبة لكنها انتهت تتحدث كبلهاء لم تجري حديثًا مع شخص عاقل من قبل، مجيبة في تلعثم:

-امم .. أنا.. في آداب إنجليزي ..

-أيه ده معقولة وأنا كمان.

أخبرتها "نانسي" في حماسة لا متناهية فاهتزت ابتسامه فوق فم "ميرا" متعجبة من حلقة التشابه بينهما:

-أيه ده بجد؟

-اه والله، وأي وقت تحتاجي اي حاجة قولي أنا كنت بذاكر لزمايلي أيام الكلية.

أخبرتها "نانسي " في ثقة وهي تلقي بخصلاتها خلف رقبتها بغرور، سارقة ضحكة من بين شفتي "نيللي" المشرقة دائمًا في ابتسامة رائعة، قطعها زوجها المتهجم الذي ظهر من العدم ثم مال على أذنها هامسًا بضع كلمات تستطيع سماع تحذيراتها من جسده المتشنج.
عضت "نيللي" على أثرها شفتيها في اعتذار مشاكس ثم حركت رأسه في موافقة ما ان استقام وتعلقت أنظاره المحذرة بها.
ابتسمت حين حرك زوجها رأسه بيأس من تعقلها ثم استدار للمغادرة، وجدت نفسها تشارك الفتاتان ضحكة بلهاء مكتومة لا تعلم سببها حتى تحدث "نيللي" مؤكدة:

-حقيقي استمتعت بوقتي معاكوا يا بنات لكن ياريت نقلبها نكد لأن على المعدل ده محمد مش هيجبني هنا تاني.

-غيورين أوي، شوفتي كيرو واقف هناك وكل ما اضحك يرميني بنظرات شريرة مش طبيعية.

هسهست "نانسي" ممازحة قبل أن تسأل "ميرا" من باب اشراكها في الحوار:

-زيدان مجنون معاكي شبهم مش كده.

ضاقت عيون "ميرا" تفكر في تفاصيل معاملة زيدان لها، وأحمر وجهها عندما تذكرت كيف اجبرها على تعديل ملابسها وكيف منعها من الاختلاط بغيره في غيابه فأومأت رأسها مرة مردده بابتسامه ساخرة:

-مفيش شبه زيدان في الجنون يا جماعة صدقوني، دي الزون بتاعته!

-زون أيه؟

صدح صوت "زيدان" من خلفهم، فاتسعت اعينهن لتخبره "نيللي" مسرعة دون تفكير:

-الفريندز زون.

انفرج فمه للحظات قبل أن تنتقل عيناه الناعسة والحانقة فوق "ميرا" ليخبرها في غيظ:

-مش في الفريندز زون أنا!

ضحكت الفتيات دون مقاومة ورغم سعادته برؤية هذا الاندماج والانسيابية الواضحة بين ثلاثتهن إلا أنه لم يستمتع بكونه محور اهتمامهن، فقاطعهن بينما ينظر لساعة يده:

-يلا يا ميرا عشان الوقت اتأخر.

-اوكيه.

همست ونظرت للفتاتين بملامح محبطة دليل على عدم رغبتها في المغادرة ثم ودعتهم قائلة:

-اتبسط معاكم يا بنات شكرا ليكم.

-هاتي رقمك الأول عشان نضيفك على جروب الدردشة، مش معنى انك هتمشي انك تقطعي علاقتك بينا،
احنا بنرغي طول اليوم.

ظهرت ابتسامة حقيقة صادقة على وجهها الصغير، وقبل أن تنطق برقمها سبقها "زيدان" يمليهم رقمًا اخر مختلف.
اختفت الابتسامة من فوق شفتاها في حزن لا تفهم سبب كذبته ورغبته في انقطاع الصلة بينهم فقد شعرت بالسعادة في قضائها الوقت معهن، تجمعت الدموع في مقلتيها ولكنها تحكمت فيها والتزمت الصمت، ووقفت تستقبل حرارة وداعهن بين الأحضان والقبلات المتبادلة.
استشعر "زيدان" التخبط المنبعث من ميرا وكأنها منتظرة أن تقع في خطأ ما يجبرهن على الركض هلعًا منها، كما ان تدخله الغريب بالتأكيد أثار تساؤلاتها وفضولها وهو سبب الحزن الغائر في عينيها.
في هذه اللحظة بالذات أحسها طفلة صغيرة تائهة وود فعليًا لو كان يملك الحق في ضمها إلى صدره والتربيت على شعرها اللامع قبل ان يغرق فيه أنفه وهو يحتويها بين ذراعيه في قوة، سعل هامسًا:

-يلا بينا، مع السلامة.

غادرا بعدها سريعًا وكان الصمت ملك الحوار طوال الطريق، ورغم تعجبه من صمتها المخيف إلا إنه لم يسأل خشية من الإجابة التي قد تلقي بتوقعاته وأماله المرتفعة في عرض الحائط، أوقف السيارة أمام مبناها وحين لم تتحرك من مكانها أو تتهيأ للهبوط تنهد ثم مال يستند بساعديه فوق المقود مردفًا:

-في أيه؟

رمقته نظرة أرادت بها ان تبدو قوية ولكنها عكست الحزن والعتاب داخلهما خاصة حين صرحت ما يجول في خاطرها:

-أنت ليه كدبت عليهم وادتهم رقمي غلط؟

ضرب كفه فوق جبهته مصدومًا من نسيانه أمرًا بغاية الخطورة كهذا مؤكدًا:

-مش معقول كنت هنسى حاجة زي دي.

مال يفتح رف السيارة المغلق أمام مقعدها مخرجا ظرفًا صغيرًا، فتحه في صمت ثم مد يده بكل انسيابيه يجذب هاتفها من بين أصابعها دون استئذان وساعده على ذلك جسدها المشنج في صدمه من تصرفاته، فجلست بلا اي رد فعل فقط فمها المفتوح يعبر عنها وعن ذهولها أثناء تغيره لشريحة هاتفها.
خرجت منها صرخة خفيفة وخرجت من صدمتها حين قبض على اصابعها يجبرها على لمس الشاشة وفتح قفل الهاتف.

-أنت بتعمل أيه، هات التلفون انا ما اسمحلكش انك تفتش في حاجتي.

-اهدي على نفسك، أنا بنفذ الاتفاق، بعمل بلوك لأصحابك من كل مكان في السوشيال.

أنهى جملته في اعتيادية وكأنه يخبرها بانه يتطلع على الساعة فحاولت جذب الهاتف منه هاتفة:

-هتستفاد أيه فهمني؟

-أنا مش هستفاد حاجة أنتي المستفيدة.

رد بطريقته الهادئة الاستفزازية فضربت كفيها فوق فخديها تكاد تجذب خصلاتها منه ومن عناده، قائلة:

-أنا مش عايزة استفاد، أنت حرفيًا بتدمر حياتي وبتخرب علاقاتي مع اهم ناس عندي.

-هنشوف أهم ناس عندك هيتصرفوا ازاي لما تغيبي عنهم ده لو حسوا اصلًا أنك غيبتي.

قال في نبرة متهكمة ثم أعاد هاتفها وقد انتهى من مهمته، راقب ارتعاشه شفتاها الطفيفة وهي تجذب الهاتف منه بعنف وحين حاولت التحرك للهبوط أوقفها قائلًا في حنو:

-أنا عايز مصلحتك، ومش ضدك أو بعاندك يا ميرا، ما تحطنيش في خانة الأعداء أنا عمري ما كنت عدوك.

-أنا مبقتش فهماك، شوية بتكون كويس، وشوية غريب وتصرفاتك أغرب.

لم تستطع كبح الحزن المحفور داخل قلبها نحوه فأسرع يجادلها ضاغطًا فوق أصابعها يسرق جام انتباهها لحروفه:

-لا يا ميرا أنا زي ما أنا، أنتي اللي شايله مني من يوم الموقف مع ليلو ومستنتيش تسمعي اللي حصل.

تنهدت ثم نظرت له في ضعف تحثه:

-أحكي أنا سمعاك.

حرك رأسه نافيًا في خيبة ويأس قبل أن يخبرها مؤكدًا:

-أنا مش هديكي مبررات يا ميرا، عارفة ليه؟

-ليه؟

همست في خفوت محموم بمشاعرها المختنقة فاستجاب لسؤالها على الفور:

-عشان أنتي مش عايزه لا تسمعي ولا هتفهمي ومهما قولت مش هتصدقيني.

أبعدت بصرها عن عيناه المثبتة لنظرها بصعوبة ثم قالت تحاول إفراغ مشاعرها ومخاوفها:

-مش هصدق عشان مش أول مرة تكدب يا زيدان وأخرها انهارده.

-كدبت في أيه قوليلي؟

حثها في عناد على التكلم عاقدًا ذراعيه بثقة أمام صدره متأكدة من براءته أمام هذا الاتهام، فدفعت نفسها لكبت خجلها وارتباكها فهي تتمنى سرًا إجابة معينه يهفو إليها قلبه من بين شفتيه حتى نطقت أخيرًا:

-انهارده مثلًا قولتلهم اننا مخطوبين.

-لا ثواني، أنا ليا مبررين للكلام ده، أولاً أنا مينفعش أبدا أدخل على صاحبي ومراته والتاني وخطيبته وأقولهم اعرفكم يا جماعة ميرا صاحبتي ولا أقولهم أنا عامل اني متجوزها عرفي!
دول ناس محترمة طبيعية مش زي الهلافيت صحابك اللي عايشين العربدة.

احمر وجهها خجلًا وقد أفحمها بكلماته الحقيقة فلا تستطيع تكذيب كلماته عن أصدقائها ورغم حبها الكبير لهم إلا أنهم منغمسون في أمور الدنيا أكثر مما ينبغي لكنها لن تعترف له بهذا أبدًا، انتشلها من افكارها صوته وهو يستكمل في جدية كبيرة:

-والمبرر التاني ... أنا هتجوزك فعلًا.

نجح هذا في إخراسها بضع دقائق طويلة، تابع "زيدان" كيف بدأت ملامح الخجل والارتباك تغزو ملامحها وتحركاتها، بينما حاول هو قتل ابتسامه مستلذه تحاول الارتسام فوق ثغرة حين سألت:

-تتجوزني وأنت مش بتحبني ازاي؟

-وأيه علاقة الجواز بالحب؟

غامت عيناها بثورة غاضبة فاقت ثورات الشعوب على الطاغية فقد دمر لتوه أمانيها وأحلامها الحمقاء التي كانت تنسجها داخل قلبها، حتى وهي في أشد لحظات غضبها وجنونها منه تتمنى سماعها، ثم انفجرت كأنبوب الغاز في وجهه مستهجنة:

-اومال هتتجوزني ليه لو مش بتحبني؟!

-أنا مش فاهم ايه علاقة الحب بموضوعنا،
ولا أنتي عايزة تعترفي بحاجة؟

سأل متعجبًا في مشاغبة وقد صدح في عقله جملة "يتمنعن وهن راغبات"، ثم لاعب حاجبيه بشكل مستفز نحوها حين غرقت في صدمتها فمدت أصابعها تقرص لحم ذراعيه في غل بشكل عنيف جعله يصيح متأوهً وهي تهتف في وجهه :

-مش هعترف لحد بحاجة ومش هتجوز حد مش بيحبني أنا!

-هتتجوزيني ورجلك فوق رقبتك يا روحي.

-يا مستفز.

تركها تهبط هذه المرة وراقب قدمها الصغيرة تتخبط في الأرض بقوة ولم يستطع إيقاف نفسه عن مناداتها مغيظًا لها:

-متنسيش هعدي عليكي الساعة تسعة يا روحي.

التفت له وكأنها ترغب في خلع حذائها والقاءه في وجهه، فأنطلق بالسيارة مبتعدًا عنها سعيدًا بالتخبط والجنون الذي يثيره داخلها فعلى الأقل ستجد منفذ وسبب أخر للتفكير بعيدًا عن الشياطين.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل العاشر 10

بعد مرور أسبوعان، غرقت فيهما ميرا في الأجواء التي هيأها لها "زيدان" وأصدقائه التي صارت تتعلق بسيداتهن كثيرًا بشكل سريع لا تصدقه، فقد صارت تتحدث معهم من بداية اليوم حتى نهايته في متعة غريبة لذيذة لم تتذوق حلاوتها مع اصدقاءها يومًا.
تنهدت في صمت حزينة على عدم ظهور أيًا من أصدقائها وسيطر عليها مشاعر الخذلان والاحراج وهي تستكشف قيمتها الشبة منعدمة لديهم.
فلم يتعب أحدهم نفسه للمرور عليها والتساؤل عن سبب غيابها أو سبب حجبها لهم في مواقع التواصل الاجتماعية وكأنهم سعيدون راضون عن تبخرها من حياتهم.
حركت رأسها تنفض أفكارها السوداوية الحزينة ووقفت تكمل ارتداء الفستان الكُحلي الذي أهداها إياه "زيدان" بالأمس مقررة الذهاب إلي مطعمه الذي صارت تقضي فيه معظم وقتها، رغم انه أخبرها بالراحة في المنزل، بعد اصابتها بالغثيان عقب غداء يوم أمس.
ابتسمت حين انتقلت افكارها نحوه، فهذا المجنون يجبرها على التسوق وشراء الملابس لها كلما كانت حسنة التصرف أو "شطوره" على حد قوله، والعجيب أنها كانت متوقعة أنه يرغب في إذلالها بإجبارها على التواجد هناك إلا أن كل ما تفعله طول اليوم هو التغنج حول المكان دون العمل بشكل حقيقي، حتى أنه دعا والدتها أكثر من مرة لتناول الغداء وقضاء وقت معهما متعمدًا إحضار أبيه متحججًا ب "صلة الرحم"، ابتسمت متذكرة كيف ندمه والده على هذه الصلة فوالد زيدان خفيف الظل وكان يتعمد إحراجه بالحكي المتواصل عن طفولته.
عضت شفاها وهي تمرر يدها فوق قماش الثوب القطني تستشعر نعومته فرغم ان الملابس مختلفة عن ذوقها المعتاد فهي لا تحبذ الفساتين التي تلامس نهاية حذائها لأنها في مخيلتها تلقي الضوء على قصر قامتها كما أنها تفضل الاثواب بلا اكمام أو بأكمام قصيرة عكس ذوقه الذي يميل للأكمام المغطية على الأقل ثلثي ذراعها، إلا انها تكون سعيدة للغاية حين ترتدي منها فهذا يعني يومًا كامل من المديح والكلام المعسول الذي يلقيه على مسامعها وكأنه يكافئها على إتباع ارشاداته.
في أعماقها الثائرة هي لا تريد الاعتراف بسعادتها لكن البقاء غاضبة منه درب من دروب المستحيل، فمن يغضب على خفقات قلبه، لن تنكر انها تلقي باللوم عليه كلما اشتد عليها التفكير كل مساء في محاولة لتفسير عدم الاهتمام من أصدقائها لكن هذا اللوم يتلاشى مع كل تفكير وتصرف جديد تتأكد من خلاله صدق كلماته وصواب قراره.
ولا تدري كيف استطاعت في وقت قياسي أن تتحول من الانزعاج والتخبط إلى الحماسة والاندفاع لقضاء يومها داخل عالمها الجديد الذي حاكه هو لها من نسيج عالمه الرائع.
انعقد حاجبيها في تعجب عندما علا صوت جرس الباب فخرجت من افكارها تنادي والدتها والتي على غير العادة أخذت عطلة بلا مرتب من عملها وأصبحا يمضيا وقتًا أكثر سويًا حتى أنهما اشتركا في نادي رياضي معًا بحجة إخراج طاقتهما السلبية بدلًا من إخراجها على أحدهم الاخر.

-هفتح يا ماما اهوه.

ردت على "أماني" الهاتفة من المطبخ تخبرها بفتح الباب، ثوان قليلة وفتحت للطارق لكنها وقفت متسمرة في مكانها حين رأت "ريناد" صاحبة الملامح المتجهمة المشعة باللوم.

-اهلا يا ميرا، هدخل ولا هستنى على الباب؟

-لا طبعا اتفضلي.

أخبرتها متلعثمة ثم ابتعدت قليلًا عن الباب سامحة لها بالدخول، خرجت والدتها التي توقفت في منتصف الطريق ثم أخذت تتفحص "ريناد" في غموض قائلة:

-ريناد، غريبة بقالي كتير ما شوفتكيش.

-سوري يا طنط انشغلت.

لم يفت على "ميرا" كيف رمتها "ريناد" بنظرة معاتبة في المنتصف لكنها وقفت كالتائهة لا تدري كيف تتصرف فلم تكن المواجهة في الحسبان، حسمت "ريناد" الوضع بقولها:

-كنت محتاجة أتكلم مع ميرا شوية.

صمتت ناظرة نحو ميرا التي بللت شفتيها ثم اشارت نحو غرفتها قائلة:

-اتفضلي.

دخلا معًا تحت عيون والدتها الثاقبة التي ركضت نحو الغرفة الخاصة بها تسحب هاتفها تجري اتصالًا هامًا:

-ألو .. لازم تيجي بسرعة، ريناد هنا وطلبت تكلمها لوحدها.

صمتت تستمع إلى الجانب الأخر ثم هزت رأسها تخبره:

-حاضر هحاول، أرجوك بسرعة.

*****

داخل جدران الغرفة لم تضيع "ريناد" الوقت وبدأت في جلدها دون انتظار:

-متشكرة على البلوك، مكنتش متخيله ان دي قيمتنا عندك.

-وأنتوا لسه فاكرين تلموني.

تمتمت متهكمة في نبرة منخفضة تحاول التحلي بالشجاعة لمواجهتها ومواجهة أحزانها، فقالت "ريناد" مهاجمه حصونها:

-الشلة كلها خدت بالها وكلنا زعلنا عشان الرسالة كانت واضحة.

-رسالة أيه؟

-انك اختارتي زيدان علينا.

عجزت "ميرا" عن إيجاد ردً مناسب وكل الأحاسيس والغضب المشحون طوال الأسبوعان الماضيان تبخرا أمامها وجعلها تتساءل عن قراراتها وظنونها من جديد، أنقذتها "ريناد" من الرد حين أكملت في نبرة ماكرة:

-بلاش تخسرينا احنا بنحبك، وعشان نثبتلك انك مهمة أنا جيت بنفسي عشان أخدك ونتجمع سوا من تاني،
احنا مستعدين ننسى تصرفاتك واللي حصل منك ومتأكدين ان زيدان اللي أجبرك.

شعرت "ميرا" بالتخبط والاضطراب وبأن أنفاسها بدأت تقصر وتثقل، تشعر بمصيرية القرار وأن فيه الاستمرار أو الانتهاء لأنها ببساطه بمرافقتها ستثور ثائرة زيدان ولن يرحمها تلك المرة.
كما ان هناك صوت طفيف داخلها يعلو بكونها ترتكب أكبر أخطاءها بسيرها وراء تعاليم "زيدان"، وهناك صوت أعلى يصرخ بأنه لم يجبرها وأن من عصر قلبها كان هؤلاء الرفاق وهم بقسوتهم من أخسرها الرهان أمامه.
لا تعرف كم مر عليها الوقت وهي صامتة ولكنها ممتنة ل" ريناد" التي تركتها غارقة في أفكارها ونقلت اهتمامها إلى مكالمته تدور بينها وبين أحدهم على هاتفها لبضع دقائق ولكنها التفت لها ما أن انتهت محفزة:

-تعالي يا ميرا كلنا مستنينك حتى ليلو مستنياكي عشان تعتذرلك.

كان عقلها مرجوج، كزجاجة فاغرة ألقيت على الطريق فظلت تتدحرج وتتدحرج بحثًا عن الاستقرار والثبات ولكن مُكر الهواء من حولها كام لها بالمرصاد.
غرقت في حيرتها غير قادرة على رفع عيناها عن اصابعها المشبوكة فوق حجرها حتى إنها لم تهتم بفتح الباب أو عن الزائر حين أعلن الجرس عن وصول أحد الزائرين حتى إنها لم تنتبه وتتعجب حين وصل صوت ترحيب والدتها المتبوع بحجة أغرب وأغرب وهي تطلب من أيًا كان الانتظار حتى تنتهي من الاستحمام!

*****

توقف "زيدان" أمام باب الغرفة بعد أن صارع الزمن والطريق ليصل في هذا الوقت القياسي وأجل سيكون هناك عدة مخالفات تنتظره في إدارة المرور، وما أن تحركت والدتها للاختفاء في الداخل اتجه نحو باب غرفة "ميرا" ثم رفع كفه يطرق مرتين في هدوء يخالف الغضب الأهوج في صدره.
فتحت "ميرا" المذهولة من تواجده، فارتفع حاجباه باتهام وهو يطالع هيئتها وملابسها فعلى ما يبدو أنها كانت على وشك الخروج.
انتقلت عيناه الجاحظة فورًا إلى "ريناد" من خلفها ساخرًا:

-واضح إني وصلت في الوقت المناسب.

دفع ميرا للداخل، وانضم لهما مغلقًا الباب خلفه ثم أكمل في نبرته الساخرة:

-ناوين تروحوا مكان؟

التوى فم "ريناد" في غرور تحاول اخفاء ارتباكها من حضوره الغير متوقع، فهاجمت في لا مبالاة:

-أيوة رايحين.

جلس فوق مقعد مكتبها وكأنه يمتلك الغرفة ثم حرك أصبعه مشيرًا لميرا بالاقتراب تحت انظار "ريناد" وكأنه يوثق ملكيته عليها، فشعرت ميرا بالذعر وكأنها كانت على وشك ارتكاب جريمة شنعاء، دائمًا ما تحيطها لفحة من الارتباك أمامه وكأنها طفلة مدللة على وشك تلقي العقاب من أبيها.
تعلقت أسنانها بطرف فمها في توتر واتخذت خطوتين مقتربة منه قبل أن يسألها في كامل هدوءه الغامض :

-عايزة تروحي معاها؟

حركت رأسها لليسار واليمين نافية مرات عدة دون تفكير بينما تجيبه:

-لا مكنتش.

انشقت على وجهه ابتسامة ماكرة أثناء تعلق عيناه ب "ريناد" التي على وشك الانفجار من الغضب، كانت ابتسامته كريهة تحمل مشاعره القبيحة نحوها ثم استطرد مشيرًا جواره في نبرة آمره لا تتحمل النقاش:

-أقعدي يا ميرا، عشان في موضوع مهم ريناد هتقوله ليكي دلوقتي ولا أقول أنا؟

انكمشت ملامح "ريناد" في ضيق لا تفهم مقصده وتكره هذا الشعور الذي يصاحبها كلما رأت "زيدان" فهو يجعل مهمتها في التأثير على ميرا شبة مستحيلة وكأنه يضعها تحت التنويم المغناطيسي فتجلس لا ترى ولا تشعر بسواه.
تأففت تقنع ذاتها بأنها لا تخشاه إلا أن نظراته الناعسة دوما ما تثير القلق والرهبة داخلها وتجعلها خائفة من القيام بأي تصرف خاطئ قد ينتج عنه ردًا عنيفًا، رغم انه دوما كان يلتزم الصمت ويحاول عدم الاحتكاك بهم إلا أنها كانت ترى الأحكام القبيحة وعدم الرضا في مقلتيه.
قطعت أفكارها "ميرا" التي جلست جواره تنظر لها تارة ولزيدان تارة أخرى في حيرة متعجبة من احتمالية وجود أمرً مشتركً بينهما لكنها كسرت الصمت بسؤالها:

-موضوع أيه؟

-أنا أعرف، أسألي جوزك اللي قاعد يصيح من الصبح وأنتي بكل هدوء راضية وساكته،
مش مصدقة الخضوع والعبط اللي وصلتي لي يا ميرا!

جزت على حروفها تلعن في سرها تغير مسار مخططها، فقبل دخول "زيدان" إلى حياتهم لم تكن لميرا أي تأثير لا بالإيجاب ولا بالسلب بل كانت مهمشة يمكنك تشكيلها كالصلصال في أي اتجاه تريده ولكن مع وجوده فقد أجبر "ميرا" على إشغال حيز من تفكيرهم لسببين الأول حضوره الطاغي الغير مريح بينهم، والثاني هو ازدياد ضغط "رامي" عليهم لمساعدته في استدراجها.

-طيب هنجز أنا، عشان مش فاضي لهري صاحبتك، عارفين القلم اللي في ايدي ده بيعمل أيه؟

قاطع "زيدان" فرصتها في ترتيب أفكارها وهو يجذب قلمًا من مقدمه قميصه، نظرت له "ريناد" وكأنه فقد عقله تمامًا مجيبة في تهكم:

-يمكن قلم وبكتب بيه وكده،
لا كده كتير مش هقدر استحمل.

فردت ذراعيها في عدم تصديق وهي تهم بالمغادرة فأوقفها "زيدان" سريعًا بكلماته الصادمة:

-دي كاميرا مراقبة بتسجل صوت وصورة.

غامت عيون "ريناد" في غموض وهي تتفحصه متسائلة في صمت وقد سرق انتباهها بالكامل، فاستكمل مجيبًا أسئلتها الحائرة:

-كاميرا كنت بسجل بيها كل زياراتي معاكم، وقد أيه أنتم بتقضم "وقت لطيف" سوا...

ضغط حروفه على وقت لطيف وراقب كيف بدأت نواقيس الخطر تدق في رأس "ريناد" ثم استكمل باعتياديه وهو يعيده داخل جيبه:

-وأنتم في التقضيه مفيش ياما ارحميني، سُكر تلاقي مخدرات تلاقي و .....

صمت لبرهه يرمقها بنظرة خبيثة ثم قال وكأنه يخشى على مشاعرها:

-ولا بلاش أصل لما بعترض على البوس اللي عيني عينك رائف بيتقمص عشان أنتي لا مؤاخذه مراته.

تعمد مط الكلمة الأخيرة في سخرية مشيرًا إلى موقف سابق بينهما، وشاهد في تشفي كيف تبدلت الالوان وتلاحقت فوق وجه "ريناد" التي ابتلعت القطة لسانها ولم تقدر على الحديث لكنه لم يرأف بها واستكمل في نبرة جدية متحدية:

-تفتكري لو الفيديوهات دي وصلت لبابا هيعمل أيه يا ريناد، أو أفظع لو وصلت للبوليس أو أبشع لو نشرتها على السوشيال ميديا، هيحصلكم أيه؟

شحب وجه "ريناد" تمامًا ولكنها حاولت التماسك امامه، قائلة في تلعثم:

-أنت كداب وحتى لو انت مستحيل تشير الفيديوهات دي تعمل لأن ميرا كانت معانا وأنت مستحيل تفضحها.

-ليه متأكدة أوي كده؟

-عشان أنت بتحبها ومش هتأذيها.

مال رأسه لليمين نحو "ميرا" التي كانت تجلس كتمثال منحوت في عالم الإغريق يسبح حولها هدوء غريب يخالف العاصفة الهوجاء النافرة أسفل سوداويتيها الواسعة.
كانت تطالعه وكأنه كائن غريب لا يمت للبشرية بصله ثم ابتسم ساخرًا لها كأنه يخبرها في صمت:
أتسمعين حتى الشياطين يعلموا بمدى حبك الغائر في قلبي !

تعمد تثبيت عيناه فوق عيون "ميرا" المرتجفة بينما يصرح :

-صح أنا عمري ما هأذيها، بس لو بعت الفيديو لأهلك معتقدش الاذية هتكون ليها.

التفت ينظر إلى "ريناد" وهو ينهي جملته مؤكدًا صدق تهديه وشاهد كيف اتكأت على الفراش خلفها جالسة وهي تخبره في استسلام:

-أنت عايز توصل لأيه؟

-طلبي بسيط جدًا قولي لميرا على اللعبة من البداية وما تحاوليش تماطلي.

ابتلعت "ميرا" ريقها في صعوبة وهي تعلق نظرها بوجه "ريناد" منتظره حديثًا سيصدمها بشكل كبير ولم تخذلها توقعاتها حين بدأت حديثها في نبرة جامدة:

-وأنا أيه يضمني إنك مش هتعمل حاجة بعد ما أقولها.

-كلمة ووعد من راجل حر، اعترفي وأبعدي عنها وصدقيني عمري ما هفكر أدور عليكي حتى.

أغمضت جفونها تستجمع قواها وهي تقلب الأمور داخل عقلها ثم فتحت عيونها، زافره في استسلام مسترسلة في الحديث دون النظر إلى ميرا:

-رامي هو اللي أجبرنا ندخلك في الشلة ونرحب بيكي ونتقبل وجودك وسطنا عشان عايزك،
وهو اللي اتحايل عليا أجي انهارده بعد ما كل الشباب رفضوا يتعاملوا معاكي من تاني وشافوا انك بتعيشي الدور عليهم وخدتي حجم أكبر من حجمك لما عملتي بلوك ليهم.

-عايزني في أيه؟

همست "ميرا" الغارفة في صدمتها وقد اغرورقت عيونها السوداء بالدموع المكتومة فقلبها مليء بمشاعر مرعبه تضغط فوق مكنونات صدرها.
حدقها "زيدان" بنظرة مخيفة قائلًا من بين أنفاسه الغاضبة:

-هيكون عايز أيه أكيد مش عايز يفسحك، أسكتي وأسمعيها للأخر.

نظرت "ريناد" بينهم بارتباك لكنها استكملت:

-كان عايز يخليكي بيكي زي البنات اللي معاه.

ثبتت "ميرا" نظراتها الحزينة والمحطمة على صديقتها بسبب ما تسمعه منها وفوجئت بالجحود النابع ممن كانت تظنها صديقة لها، وهي تجلس أمامها دون خجل أو الشعور بأي ذنب، فكل ما تفسره في نظراتها هي مشاعر عدم الراحة وكأنها لا ترغب بتضييع وقتها بالبقاء والتحدث أكثر.
حركت رأسها في خيبة أمل على قدرها الأسود وغباءها فلا أحد أحبها يومًا، تزايدت دموعها رغمًا عنها وشعرت باهتزاز عالمها من حولها ثم وجدت نفسها تهتف فيما ظنته صوتًا قوي لكنه خرج ضعيفًا منكسرًا:

-عشان كده كنتي دايمًا بتقنعيني ان انسب حل ليا الارتباط عشان ابقى طبيعية وابعد عن قوقعتي!

كاد يخرج منها نحيب قاتل محمل بعمق قهرها إلا إنه تحشرج في حلقها رعبًا حينما استقام "زيدان" مزمجرًا في وجهها:

-إياكي تعيطي وتحزني عشان الكلاب دول.

لم تجيب "ريناد" أيًا منهم لكنها وجهت بصرها نحو "زيدان" متعمدة تجاهل "ميرا" المنهارة، دون إظهار أي نوع من المشاعر الإنسانية سواء شفقة أو اعتذار نحوها، ارتفع جانب فم "زيدان" في اشمئزاز وتقزز قبل أن يبصق كلماته الحادة ناحيتها:

-أمشي من هنا وإياكم تظهروا في حياتها تاني!

وقفت دون جدال وكأنها تتمنى سماع تلك الحروف للهروب فنهضت فورًا وفي ثوان كانت تغادر المكان، دون أن تعي مدى قسوة انسحابها الصامت وتأثيرة المدوي داخل قلب "ميرا" المتهتك، تاركة مكانها فراغًا كما كان دومًا.
تحرك "زيدان" نحو "ميرا" التي مالت تخفي وجهها بين كفيها دون تصديق لما يدور في حياتها، فجثا أمامها يلامس أناملها لأبعادها عن وجهها هامسًا:

-ميرا.

لكنها قاومت رافضة الافصاح عن وجهها، وانفجرت مجهشه في البكاء، علا صوت بكاءها وشهقاتها وفي ثوان كان صداها يدوي في أرجاء الغرفة وكأن بلمسه منه انكسر الجزع الأخير من مقاومتها وتحملها.
شعر بأن أحدهم اقتلع قلبه من مكانه وأخذ يطعنه طعنًا مع كل أنين باكي يخرج من فمها، سبحت الشفقة داخل عيناه فلا أحد يستحق مثل هذا الخداع والانكسار، فشخص مثلها محب بلا ثمن وكل ما يتمناه الاحتواء لا يستحق أن يتذوق قلبه الخذلان.
أحاط وجهها بكفيه يحثها على الهدوء بهمساته، لكنها فاجأته بالارتماء على صدره ساندة وجهها فوق كتفه، لم يجد في قلبه التمسك بالمبادئ أو التفكير فيما هو خاطئ وصحيح، فمد ذراعه فوق جسدها الباكي يضمها مجبرًا رأسها على الاستقرار أكثر فوق كتفه واستكمال البكاء، ربت عليها في حنو بالغ وبالرغم من سعادته لاكتشافها أمر الحقراء إلا أنه حزين على حالتها وما مرت وستمر به.
ربت على ظهرها رافضًا التراجع عن فعلته الغير لائقة بضمها إليه، ثم همس في نبرته الحانية:

-كفاية عياط واحمدي ربنا انك خرجتي سليمة من بينهم.

ابعدت وجهها الأحمر الملطخ بالدموع عن صدره، مردفه في حزن:

-أنا مش سليمة يا زيدان.

حركت رأسها بالنفي تحاول استعاده انفاسها المتقطعة من كثره بكاءها لتستكمل معبره عن صدمتها الكبيرة:

-أنا مش مصدقه انهم ممكن يعملوا حاجة زي دي، أنا عارفة اني بحبهم أكتر بس متخيلتش.

سحب كفيها يضمهما بين كفيه أمام جسديهما وهو لايزال جاثيًا أمام مقعدها قبل أن يبثها بنظرة مليئة بالعتاب واللوم مؤكدًا:

-أفهمي أنك أغلى من أنك ترضي ببواقي مشاعر، أنتي تستحقي ناس تحبك وتصونك مش ناس تقدمي تنازلات عشان تحافظي عليهم.

-أنت مش فاهم احساسي.

تقطعت جملتها المغطاة بالندم والحزن لكنه أوقف حديثها في صرامة وهو يمسك بأنامله وجهها المبتل:

-أنا فاهم حاجة واحدة أن كل انسان بيغلط وكل انسان لازم يعيش تجارب فاشلة، لكن الانسان الواعي هو اللي يعترف بغلطه ويتعلم منه ويبدأ من جديد.

ثبت نظراته الودودة فوق نظراتها الحزينة يكاد يفقد صوابه ويميل لتقبيلها معترفًا بعشقه لها حتى ينسى كلاهما الألم، لكنه جذب نفسًا عميقًا لتمالكه رغباته، فما حدث كان حتمي وأمرًا لازم فوجود مثل هؤلاء الأشخاص في حياتها كان سيعيق تغيرها للأفضل، عاد انتباهه نحو ميرا الهامسة:

-لكن هما.....

رفض جعلها تكمل حديثها بأن وضع أصبعه فوق فمها مردفًا:

-خلاص مفيش حاجة أسمها هما، "هما" موضوع انتهى من حياتك ومن اللحظة دي مش هنتكلم فيه.

خبط سبابته بجانب جبينها متسائلًا في جدية وهو ينتقل ليرفع ذقنها رافضًا هروب عيناها منه:

-أنا هسألك سؤال واحد، ميرا كانت فعلًا سعيدة ومبسوطة وراضية عن نفسها وسطهم؟

دارت عجلة التفكير داخل رأسها الواقف عن العمل وقابلت سؤاله بصمتٍ طويل فتنهد مجيبًا عن سؤاله بشكل واثق:

-صمتك فيه الإجابة، ما تحزنيش على حد ما يستحقش، أقعدي مع نفسك فكري في الناس اللي بتحبك فعلًا وبتهتم بيكي.

لمعت عيناها السوداء في لحظة بمشاعرها نحوه حتى أنه كاد ينكب كجردل الماء معترفًا بكل مشاعره ولكنه لا يرى حالتها مناسبة لمثل هذا الالتزام العاطفي الآن، وهي تستحق اعترافًا سعيدًا يخلد بينهما.
ارتبك وانحصرت أنفاسه عندما مالت من نفسها تحتضنه مشعله بذلك حواسه، فسعل بخفه لان ضمه لها في البداية كان احتواء معنوي يساعدها على تخطي أسوأ مخاوفها ولم يكن هناك فرصة لتلصص مشاعره.
أما الآن وقد هدأ كلاهما وتحولت كالهلام بين ذراعيه بدأ يشعر بمدى رقة جسدها الصغير وحلاوته المحرمة ضد جسده المتشنج.
رفع ذراعيه يبعدها عنه برفق وقد غزى لون وردي طفيف أذنه ولم يعطها فرصة للتساؤل عن سبب ابعادها، فقال بصوته الخشن المفعم باختلاط مشاعره:

-حاولي تلجئي لمامتك شوية، اديها فرصة يا ميرا وصاحبيها، صدقيني محدش هيتمنالك الخير قدها.

-أنا مش ببعدها يا زيدان بس هي...

-لا يا ميرا متبرريش، خدي الخطوة الأولى أنتي وصدقيني عمرك ما هتندمي.

هزت رأسها موافقة قبل أن تخفض نظراتها لأسفل في صمت فابتسم ابتسامه خفيفة رافعًا رأسها ثم سأل في نبرته المشاكسة:

-أنتي بتاخديني على قد عقلي.

حاولت الابتسام لكنها انتهت بهزة صغيرة من شفتيها وهي تجيبه:

-لا بجد أنا فعلًا محتاجة أرتب كل حاجة في حياتي من جديد وده أكتر وقت هحتاج ماما فيه،
أنا هديها فرصة تاني عشان نفسي أكتر منها.

مرر إبهامه فوق وجنتها دون وعي منه غارقًا في ملامحها الحزينة وود لو يتركها ويقتنص أصدقاءها الواحد تلو الأخر كي يشفي غليله.
بلل شفتيه يحارب سواد أفكاره ثم أخبرها في نبرة خافته:

-أنا هسيبك تهدي وتحكي اللي حصل لمامتك وان شاء الله بكره الصبح هجيلكم،
هتخكيلها بجد يا ميرا اتفقنا.

شدد على كلماته وهو يمسك بنظراتها الغائرة فأكدت هامسة:

-اتفقنا.

غاصت يده في رأسها يعبث بخصلاته قبل أن يستقيم ملوحًا وداعه لها، خرج مغلقًا الباب خلفه ثم جذب نفسً عميقً يؤهله للنصف الأخر من المواجهة.

*****

رفعت أماني وجهها الغارق بعبراتها تطالع "زيدان" من مجلسها بمنتصف الصالة، فقلبها الحزين لم يسمح لها بالوقوف خلف باب طفلتها وتستمع إلى حالتها دون اقتحامها وافساد الأمر بعد كل هذا التخطيط.
استقامت تقابل "زيدان" ذو الملامح المنهكة في منتصف الطريق متسائلة في لهفه:

-قدرت تهديها؟

-ايوه بس هي مش محتجاني أنا حاليًا، اللي جاي دورك أنتي وفي ملعبك.

حركت رأسها في صمت كما تفعل أبنتها حين تغلبها المشاعر، ثن أغمضت جفونها تشعر بغصة مريرة تتملكها والذنب ينهش داخلها دون رحمه، فقد سارت خلف الأنانية وقلبها المحطم من زوجها عديم المشاعر واغرقت نفسها في كل أمر قد يليها عن حياتها مهمله بذلك أهم شيء في حياتها، ابنتها الصغيرة الرائعة ذات القلب الذهبي التي فشلت في احتوائها وتغذيه مشاعرها.
انهمرت في بكاءها من جديد فصدح صوت "زيدان" سارقًا إياها من رثاء الذات :

-الانهيار والاستسلام مش الحل، حضرتك يا طنط لازم تكوني قوية لأن هو ده الوقت اللي يا تستردي بنتك فيه يا تخسريها للأبد.

-عندك حق.

هزت رأسها في موافقة ثم أمسكت يده تعبر عن امتنانها له:

-أنا مش هقدر أوفيك حقك ولو شكرتك من هنا لنهاية عمري.

قالت وهي تعود بذاكرتها إلى اليوم الذي تواصل فيه "زيدان" معها والذي أصابه الخوف والهلع حين رفضت "ميرا" التواصل معه وحاولت إبعاده عنها.
في هذا الوقت كانت في رحلة عمل لكنها قطعت وقتها وهمت عائدة إلى أبنتها متخيله المخاطر التي تجبر "زيدان" على إفشاء سر خطير كهذا على الهاتف، كما ارعبها حديثه المستمر عن استسلامها المريب لألاعيب أصدقاءها القذرة.
تحمد الله انه نبهها للحياة التي تعيشها ابنتها في غيابها وكيف كادت تغرق في مستنقع كريه مع الأفاعي المحيطين بها.
ستظل شاكرة لزيدان وسعيدة انها واقفت على مخططه بترك زمام الامور له في محاول أخيرة لاستعادة ابنتها، لأنها متأكدة انها لم تكن ستنجح في انتشال ابنتها ابدًا دون إلحاق الضرر بها.

-ادخليلها يا طنط.

بذلك تحرك "زيدان" للمغادرة ولم يتوقف حتى ركب سيارته وسند رأسه فوق المقعد متنفسًا الصعداء، لا يصدق أن الأمر انتهى، نعم الطريق أمامه صعب وخطير لتخطيه ولكنها بداية العبور في قصتهما.
مرر كفه فوق وجهه مرات متتالية ولأول مرة يشعر بالراحة تكتسي صدره، سعيدًا للغاية ان قراره في إخبار والدتها كان صائبًا فميرا تحتاجها الآن أكثر من أي وقتً مضى.
ولولا خوفه عليها من أصحاب السوء وبقاءها بمفردها في غياب والدتها مع تلك الحرباء التي استمرت في ملئها بالأفكار السوداء نحوه لما كشف خططه، لكنه الآن يشعر بالفخر والسعادة والأمل ينتشران داخل عروقه، فقد انتصر على منبع السرطان المتوغل في حياتها واقتلعه قبل أن ينهش حياتها وحياته معًا.

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الحادي عشر 11

دخلت "ريناد" وكر الاصدقاء تضرب الارض بخطوات نارية غاضبة، متخذة القرار بإنهاء هذا الجنون بشكل كلي فهي لن تعرض نفسها للخطر من أجل تلك الحقيرة ونزوات صديقها.
وقفت أمام "رامي" الجالس بعنجهية وسط المكان ثم ازاحت الفتاة الجالسة بين أحضانه في عنف هاتفه في وجهه:

-طبعا، قاعد ولا على بالك ومش حاسس بالمصيبة.

-في أيه يا ريناد أنتي اتجننتي!

صاح "رامي" معترضًا على طريقتها المهينة فأصرت "ريناد" على موقفها هاتفه:

-أيوه اتجننت ومن هنا ورايح أنا ماليش دعوة بموضوع ميرا ده نهائي.

-اهدي الأول وفهميني أيه اللي حصل؟

تنفست من فمها على مهل تحاول تمالك غضبها قبل أن تخبره في هدوء وهمي:

-البيه جوزها كان بيسجلنا صوت وصورة وهددني اننا لو قربنا منها تاني هيفضحنا وهيبعت الفيدوهات لأهالينا.

نجحت كلماتها في جذب انتباه البقية فزمجر "حازم" مغتاظًا وغاضبًا على رامي:

-شوفت قولتلك البنت دي مش زي الباقية مصدقتنيش، أديك هتودينا في داهيه كلنا بسبب تهورك.

-استنى يا حازم يعني هيصورنا ازاي، أكيد بيكدب وبيضحك عليكي عشان يخوفنا.

دافع "رامي" في استماته يحاول تجميع افكاره وتبرير تهديداته فقاطعته "ريناد" تخبره بشكل قطعي:

-بيضحك أو لا، أنا قراري نهائي من انهارده أنا برا اللعبة شوفلك غيري.

راقبت كيف استقام حازم مع حبيبة طفولته للمغادرة وقد طفح به الكيل من "رامي" ونزواته المتهورة وكأنه كان ينتظر أي سبب يدفعه للمغادرة دون الظهور بمظهر الخائن المتخلي عن أصدقاء طفولته.
تجاهلت ما يحدث وتوجهت نحو رائف النائم فوق الأريكة تهزه وتحاول إخراجه من حالة اللاوعي التي تلبسها بسبب المخدرات:

-رائف فوق عشان نروح،
رائف ... رائف ...

انتبهت حواسها لسكونه التام فجأة ومالت عليه تهزه بشكل أكثر عنفًا:

- رائف أنت مش بترد ليه؟

سيطر الهلع عليها عندما لم يأتها أي استجابة منه فصرخت باسمه دون توقف تضرب صدره بعنف حتى دفعها "حازم" أكثرهم وعيًا وهو يضع أصبعيه فوق عنقه يستكشف نبضاته الخافتة والتي بالكاد يشعر بها فهتف لهم:

-لازم يروح المستشفى بسرعة.

-لا رائف فوق عشان خاطري.

-مش وقته يا ريناد اسندي معايا.

التف "رامي" والجميع من الشباب والفتيات الشبة مغيبين حولهما يحاولون حمل "رائف" إلى الأسفل تحت قياده "حازم".

لا يدركوا كيف وصلوا لأقرب مشفى لكنهم فعلوا ووقفوا يتابعون كيف دب الهرج والمرج بين الدكاترة والممرضين وتأهبهم في حالة من الاستنفار لمحاول انقاذ رائف الذي أسرف في تناول المخدر وأصبح بين الحياة والموت.
جلست "ريناد" أرضًا خارج الغرفة بينما تسقط عبراتها من عيناها دون وعي أو سيطرة منها لا تصدق الحالة التي أصبحت عليها والذعر والحرقة اللذان تملكا قلبها،
أهكذا هو مذاق القهر؟
أهذا هو معنى الضياع؟
فكرت في آسى كيف انقلب حالها من متحجرة عديمة القلب إلى أخرى محطمة القلب ...ابتسمت في حزن ساخر ... وكأن الدِيْن جاءها أسرع مما ينبغي!
نظرت جوارها إلى ما تسمى حلقة الأصدقاء المتناثرون حولها، والتي تحاوطهم حالة من الرعب تراها بوضوح تستوطن قلوبهم وقد نجحت الصدمة في إفاقتهم من حالة التغيب الذهني.
نظرت لكلًا منهم على حدى وراقبت كيف تفوح رائحة الذعر وتُخيم فوق رؤوسهم فمنهم من بدأ يستفيق من غفوته ويتجلى الخوف في نظراتهم المتبادلة ك "حازم" و "روان" المذعوران وكأنهم يرون احتمالية قبوع أحدهم مكان "رائف" ويتساءلون عن مقدرتهم في إكمال الحياة دون أحدهم الاخر.
ومنهم من رأى جسده مطروحًا مكانه بين الحياة والموت، ك "ليلو" التي جلست كالحجر الأصم شاحبة كالموتى.
وللأسف منهم من سرقه الشيطان وابتلع روحه هذا غارق بلعنته إلى الأبد و يا ويل هؤلاء من شر العقاب وحدته..

*****

بعد ساعات طويلة عاد "رامي" من المشفى إلى منزله المخيم بالضباب الأسود لما وقع.
تنفس في راحة فقد نجح الأطباء من إنقاذ حياة رائف ولكنه يزال في حالة حرجه وقيد المراقبة واضطروا للاتصال بذويه لمتابعة حالته.
ضرب الطاولة امامه بساقه في غل وحقد على ما آلت إليه الأمور، ورأى فتاة نائمة فوق أريكته فصرخ فيها أمرًا وهو يدفعها للوقوف:

-غوري من وشي اطلعي برا.

ارتمى فوق مقعده ما ان أغلق الباب خلفها يشرب من قنينة الخمر أمامه دون توقف، يشعر بدمائه تفور ويشعر بالغضب والحقد يثور داخله،
فكل ما حدث بسبب زيدان و...!
-"ميرا".
غمغم بحروف أسمها في خفوت ثم جز على أسنانه فبعد أن تكبد كل هذا العناء للحصول على "ميرا" وارضاء الصياد داخله والحصول على رضا والده، مطلوب منه الانسحاب والتراجع!
لمعت عيناه في غضب أسود وكلمة واحدة تصدح في جوانب عقله.

مستحيل....


*****

في هدوء الليل وبعد مرور فترة زمنية ليست كبيرة ولكنها كانت كافية لتعود الحياة نوعًا ما إلى ما كانت عليه وبدأت تتخذ مسارًا طبيعيًا هادئًا في حياة زيدان وميرا، ابتسم "زيدان" على مزحة اطلقها والده سعيدًا بصوت ضحكات ميرا ووالدتها التي زينت أرجاء المطعم الذي كان بمثابة منزل ثاني تجتمع فيه العائلتين.
فقد تعمد "زيدان" جمع والده مع ميرا ووالدتها على الغذاء بشكل شبة يومي، بحيث يندمج كل الأطراف أكثر خاصةً وقد أقترب الوقت الذي يحرك فيه بيدقه نحو الخطوة التالية، كما انه لم يقطع اجتماعات ميرا مع سيدات أصدقاءه وحرص على تجميعهم كثيرًا تحت مرمى عيناه الثاقبة.
التقت عيناه بميرا في لمحة خاطفة سرقت فيها أنفاسه بابتسامتها الخلابة، ثم خرج من شروده في جمالها على كلمات والده الصادمة:

-طيب تعرفي ان من عادة زيدان ابني وهو صغير انه يحيي الضيوف وهو قالع زي ما ولدته أمه.

دوت الضحكات حول الطاولة بينما شعر "زيدان" بالطنين في أذنه الحمراء من كثرة الإحراج فتدخل مستنكرا:

-أيه يا حاج الكلام الماسخ ده، أنت بتفضحني؟
وأيه يا اختي خدي نفسك ولا عجبتك أوي!

وجه جملته الأخيرة نحو "ميرا" التي تكاد تسقط من فوق مقعدها بسبب الضحك:

-اه هموت من الضحك.

اعترفت من بين أنفاسها المتقطعة فوقف "زيدان" متذمرًا يخبرهم في حزم وحنق طفولي:

-لا بقولكم أيه شغل استفزاز وربي أقوم أقلع هنا وافضحكم فعلًا!

دوت الضحكات حول الطاولة من جديد وكاد يحكي والده شيء محرجً من جديد عن مغامراته الطفولية، فقرر "زيدان" الانسحاب بميرا قائلًا في انزعاج:

-لا لحد هنا وكفاية أوي، متشكرين لأفضالك يا بابا، بعد أذنك يا طنط أنا هاخد ميرا نتمشى ونسيب بابا يستعيد ذكرياته معاكي!

-ماشي يا حبيبي بس ما تبعدوش عشان الوقت اتأخر وهنروح بعد شوية.

-متقلقيش يا طنط هنلف حوالين المطعم.

غمز لميرا ممازحًا فاستقامت ترافقه في صمت، لمعت عيناها عندنا لاحظت نظراته الخاطفة نحوها والتي لم تتوقف طيلة اللقاء وابتسمت لنفسها.
راقبت كيف اقترب منها "زيدان" عندما مر أحد الشباب من جوارها وكيف غامت عيناه عندما لمحه يتفحصها من بعيد، ثم ابتسمت حين رمقها في غيظ متمتمًا في حدة:

-امشي عدل أنتي كمان.

-الله أنا أتكلمت.

رددت متعجبة من هجومه فأسكتها بعصبية مشيرًا لها لملازمته:

-أمشي هنا وأنتي ساكته مش طايق أشوف حلاوة ملامحك قدامي، أنتي حلوة كده ليه؟

-المفروض أزعل ولا اتبسط مش فاهمة؟

سألت ضاحكة متعجبة من كلماته لكنها سعيدة لرؤية الغيرة تفوح من عيناه المضيئة بلون العسل المحترق، تحرك في صمت دون إجابه فلازمت الصمت هي الأخرى مقررة التمتع بالأجواء الساحرة من حولهم.
رفعت رأسها شاردة في الليل الهادئ من حولها كهذه الليلة في حياتهم بعد عواصف رعدية مرعبة عديدة مرت عليهم، وكم كانت عاصفتها الأشد، صحيح ان ما مرت به ترك أثرًا عميقًا داخلها وعلامة لن تمحى أبدًا لأنها كانت المذنبة في حق نفسها إلا إنها استطاعت تحويل كل تصرفاتها ومشاعرها السلبية إلى حافز قوي بدلت به حياتها.
فجاء التغيير السريع كرد حق وسد دين تدفعه بنفسها لنفسها وروحها الضائعة التي تحملت معها الكثير، فبعد كثير من جلد الذات وما تبعه من ألام ومحاولات للتأقلم مع الذات نجحت في الهروب من سقوط حتمي في دوامة الاكتئاب.
ولن تنكر إنها أكثر البشر ضعفًا وهشاشة لكنها تعلقت بكلمات ألقاها عليها "زيدان" مرة ولم ينتبه لقيمتها لكنها ظلت محفورة داخل رأسها حين حثها على الإقدام والمحاربة مؤكدًا "ماضيك ليس قفصًا تحتمي فيه من التغيير، فقد كان مجرد درسًا قاسيًا تتخطاه وليس عاهة أبدية تلازمك بقية حياتك".
حانت منها نظرة مسروقة نحوه، فبفضل هذا الشخص المتعجرف والحنون في مزيج فريد من نوعه نجحت في تخطي مصائبها بشكل غير متوقع ولن تنسى فضل والدتها الأكبر التي احتوتها تحت جناحها بشكل جنوني لم تتصوره ودون أي استفسارات حتى صارت كلتاهما في وقت قياسي صديقتان مقربتان وليس مجرد أم وأبنه، ولن تنسى الجلسات النفسية مع صديقة والدتها والتي أصرت "أماني" على خوضها معًا مبررة أن هدفها إنقاذ وتطوير العلاقة بينهما كي تزداد صلابة.
وبالطبع انتهى بها الحال معترفة لوالدتها بكل شيء بالإضافة إلى اعترافها بحبها ل "زيدان" المسكون داخل ضلوعها وخوفها من تمسكه بالانطباع السيء عنها والذي قد يظل محفورًا في صدره، لكنها تمسكت بكلمات والدتها المؤكدة بأن هذا الشعور متبادل رغم أنها أخبرت والدتها مرات عديدة عن مخاوفها لأنه لم يعترف بحبها لها ولو لمرة واحدة.
انقطعت أفكارها حين تحدث "زيدان" عما لم تتوقع سماعه منه:

-بما أن الفترة الصعبة في حياتنا عدت، تقريبًا كده أنتي ليكي في ذمتي مبرر واعتراف!

-بخصوص؟

سألت والترقب يشع من عينيها فقال في جدية محت أي أثار للعبث من على وجهه:

-بخصوص ليلو والموقف اللي حصل في المطبخ، أنا فرغت الكاميرا وجبت المقطع عشان تتأكدي بنفسك،
أن سبب سكوتي لما اتكلمت عنك عشان أوصل للحقي......

رفعت كفها توقف جملته قبل أن تكافئه بابتسامة صادقة مؤكدة:

-مصدقاك من غير ما أشوف حاجة.

ارتفع حاجبه متعجبًا من السماحة المحيطة بتفاصيل وجهها الرائع فسأل زيادة تأكيد لا يصدق أن الفضول لم يتغلب عليها:

-يعني مش عايزة تشوفي وتسمعي بنفسك عشان تتأكدي؟

حركت رأسها بالنفي واستمرت في المشي، فجاورها وهو يضيق عينيه الناعسة للفراغ في مكر مستكملًا بنبرته المراوغة:

-ولا عايزة تسمعي كنت هعمل فيها أيه لو ما رفعتش ايدها عني لو اتكلمت عنك تاني؟

توقفت متعجبة من إصراره ثم عقدت ذراعيها أمامها منتظرة انتهاءه من سخافته لكنه استكمل في لا مبالاة ناظرًا جواره:

-ولا حتى لما باستني....

-أيه!

صرخت في وجهه فاتسعت عيناه في صدمة من نبرتها العالية فقال وهو ينظر للمارة من حوله مؤكدًا:

-والله العظيم ما باستني، أنا بجر شكلك مش أكتر، محصلش حاجة بيني وبينها!

تأففت وهي تلقيه بنظرها الحاد من أسفله لأعلاه لا تخفي غيظها من مزاحه السمج ثم استمرت في المشي مبتعدة عنه، سامحه له بالتحرك جوارها بعد فترة لكنها من اوقفته هذه المرة وهي تسأل في فضول:

-زيدان أنت كنت بتسجلهم ليه؟

بلل شفتيه في حرج لكنه أجابها في صراحة دون مراوغة:

-الصراحة في الأول لما بدأت اتجمع معاكم حسيت بالاختلاف بينكم، وشكيت ان ممكن يكون حد فيهم ماسك عليكي ذلة او بيهددك.

احمرت وجنته لسذاجة أفكاره حينها لكنه أكمل دون توقف:

-مش عارف هو تفكير أوفر بس وقتها قررت ان لازم يكون في ايدي حاجة ضدهم أقدر أساومهم بيها لما اكتشف الحقيقة،
ومحمد في الفترة دي كان مشتري القلم كنوع من الشبحنه واحنا بنشتري سيستم مراقبة المطعم وهكذا.

حرك كتفه دون حاجة لمزيد من الشرح، فرمشت "ميرا" تحاول استيعاب مبرره وبدلًا من الضحك على وسواسه القهري والبوليسي أحست بالدفء يستكين بين ضلوعها فهدفه دائمًا هو حمايتها.
مطت شفتيها وهي تراقب توتره وكأنه ينظر منها السخرية والضحك لكنها اكتفت بقولها الرقيق ممتنه له:

-شكرًا.

كسر حاجز المفاجأة المرتسمة على وجهه بعد ثوان ثم هز رأسه في إجابه صامته وعادا للتحرك نحو الأمام، ظلا يتحركان في الطريق دون حديث فقط الصمت المريح للقلب والممتع من حولهما.
لكنها ارتبكت لبرهه عندما توقف حاملًا حجارة يرميها نحو طرف الطريق ولم ترد على سؤاله السابح في عينيه عن سبب توقفها فهي لن تخبره بأنها تحشى الإقدام في أي اتجاه هو ليس بجوارها فيه، فقد صار منبع للراحة والاطمئنان بالنسبة لها.
قرر "زيدان" قطع الصمت أخيرًا فقال في نبرة مشاغبة وقد حسم أمره:

-ميرا .. ميرا ..

-نعم.

همست في خفوت وابتسامه رائعة فرد مستكملًا مشاكسته:

-جميل الليل، أنا بحب الليل.

كادت تنطق "يا بخته" ولكنها توقفت على أخر لحظة فاقدة الأمل في أن تسمع كلمة "بحبك" موجهه منه إليها ابدًا، لا تدري لما انزعجت لكنها صمتت ولم تجيب متعمدة اخذ خطوات مبتعدة عنه لكنه أوقفها من جديد قائلًا بطريقته الاستفزازية:

-ميرا .. ميرا ...!

-نعم، عايز أيه يا زيدان؟

توقفت عاقدة ذراعيها أمام صدرها في حنق طفولي فضحك مردفًا:

-جميل السحاب، أنا بحب السحاب.

قرصت فوق أنفها تحاول تمالك كلمة بذيئة تناقض حياءها كأنثى وكادت تصفعه بقوة حين ظهرت ابتسامه سمجة فوق فمه الرائع لكنه تابع دون اهتمام بنفس النمط رغم أنها لم تتحرك من أمامه:

-ميرا .. ميرا ..!

-نعم ؟!

-جميل أسمك، أنا بحب ميرا.

-أيوه ايوه جميل عدي علينا.....

صمتت فجأة بعد سيل من الكلمات الساخرة وقد أدركت ما وقع على مسامعها للتو فرمشت عدة مرات في تروي هامسة:

-بتقول أيه؟

-بقول أني بحب...

صمت يدعي الارتباك ثم أعاد من جديد متعمد ملاعبتها:

-بحب....آآ....

-هاه قول بتحب أيه؟!

هتفت في نفاذ صبر وودت لو تستطيع رجه كي يستجمع حروفه كشريط الكاسيت المشروخ، فضحك بقوة ممازحًا في مشاغبة:

-الله ما قولتلك بحب الليل والسحا.... استني يا مجنونة!

هتف جملته عندما ضربت كلتا قبضتيها في صدره قبل المغادرة وقد طفح بها الكيل من ملاعباته السمجة فركض خلفها يوقفها قائلًا في جدية وصدق:

-يا مجنونة بحبك، والله العظيم بحبك.

أغمضت جفونها جاذبة نفسًا عميقًا تستمع في نشوة إلى حروف تلك الكلمة التي هرمت مسامعها من أجل سماعها من بين شفتيه كثيرًا.
أدارها "زيدان" في بطء كي ينظر إلى عينيها مبتسمًا وتلقائيًا عكست ابتسامته وغرق كلاهما في اعتراف ضمني تكفلت به لغة العيون ولكن عندما زاد الصمت عن حده، ارتفع حاجب زيدان في تعجب قبل أن يقطع اللحظة بتذمره الطفولي:

-أيه يا حبيبتي بقولك بحبك، ولا انتي بقيتي طرشة ومش بتسمعي دلوقتي، قوليلي وأنا كمان حبك!

لمعت عيناها في تحدي وكادت تذيقه مرارة أفعاله ولكنه رفع سبابته في الهواء محذرًا:

-يمين بالله لو الكلمة اللي هتطلع من بؤك دي مش بحبك،
لهوريكي المعنى الحرفي لواجب الضيافة عندي واعملي حسابك أنا مش لابس حاجة تحت القميص.

ضحكت "ميرا" في قوة حتى تأوهت بسبب تشنج معدتها بينما ظل هو واقفًا مكانه دون أي إشارة للمرح أو التسلية على وجهه، طالعت كيف يشاهدها في وجوم وغضب فعادت للغرق في ضحكاتها قائلة في صوت متقطع:

-بحبك ممكن تفرد بوزك ده!

رمقها بنظرة حقيرة من أعلاها لأسفلها وتحرك نظره نحو البعيد لثانية قبل أن يعيده نحوها يثبته عليها محافظًا على وجومه حتى كسرها بابتسامته التي انفرجت في بطء حتى ابتلعت جام وجهه ليخبرها مؤكدًا:

-ما تحاوليش تلاعبيني تاني، عشان أنا في اللعب ما عنديش يا اما ارحميني!

أنهى جملته وهو يلتقط اناملها الرقيقة ويطبع قبله خفيفة فوقها، رفض إفلات أصابعها ومد أصابعه يلتقط يدها الأخرى لتتشابك أياديهم بين جسديهما، أحمرت وجنتي "ميرا" من تلك اللمسة الحميمة وأثرها على قلبها العذري، وظل الأثنان واقفان كالحمقى في مقابلة أحدهما الأخر غارقان في سحر العيون، وحائرين في حرب فك شفراتها.
لكن التعويذة انفكت سريعًا عندما أحس زيدان بعدة أشخاص من حولهم، فارتفع حاجبه في ذهول لا يزال محافظًا على ابتسامته وعيناه تتنقل بين رأس على يمينه تكاد تلامس كتفه ورأس أخر من ناحية يساره يكاد ينتهي حرفيًا بين ذراعيهما المتشابكان فوجد نفسه يهمس لميرا التي تتنقل عيناها في خضه بين الاحمقين:

-أنا حاسس بانتهاك في الخصوصية سيكا.

-أنا حاسة انها اتفرتكت.

أخبرته بصوت خافت وعيون مرتعبة من هذا التصرف الغريب، فخرج من حالته المزاحية فورًا ليطالع بشكل جدي الرجلان المستحوذان على مساحتهما الشخصية متسائلًا:

-في حاجة حضرتك؟

-أنت زيدان مش كده.

سأل الأصلع على يمينه، فأجابه في ملل:

-أيوة أنا، مين حضرتك؟

-أنت مطلوب معانا، هات أنسة ميرا أنت.

أشار الرجل الأصلع للمعتوه الأخر بإحضار ميرا فجذبها "زيدان" نحوه يحمي قامتها الصغيرة خلفه محذرًا:

-حيلك حيلك، محدش يلمسها فهموني كده انتوا مين وعايزين أيه؟

-تعالى معانا من غير شوشرة شريف باشا مستنيك أنت والانسة ميرا، ولو مجتش معانا بالذوق هنعرف نجيبك بالعافية.

أشار لعدد من الرجال يقفون حولهم من بعيد وكاد ينفجر "زيدان" في وجهه معترضًا على طريقته ولكنه توقف صامتًا في صدمة ما أن سمع شهقة ميرا المتبوعة بصوتها المذعور:

-وبابا باعتكم عايز مننا أيه؟

نوفيلا نوتفكيشن الفصل الثاني عشر والأخير

دخل زيدان من باب فيلا "الشريف" الموجودة في أرقى مناطق محافظة القاهرة أو ربما قصرً هو غير متأكد، لكن بالطبع فهنا يستقر عُلِّيَّة القوم وصفوتهم ولولا ذلك الشعور الصلب في معدته وكأنه ابتلع حجرًا لوقف منبهرًا بتلك المناظر الخلابة فقد بدا وكأنه انتقل إلى مكان خارج حدود مصر.
كانت أصابع يده يسيطر عليها الصقيع بسبب أنامل تلك الصغيرة الشبة متجمدة داخل كفه الكبير، سارت "ميرا" إلى جواره في خطوات مرتعشة وكأنها تحتمي به من القادم.
تحرك جسده للأمام خطوة قاطعًا شروده في حالتها عندما قام الأصلع بدفعه نحو الردهة، فحدقه "زيدان" بنظرات قاتلة وكاد يلتفت ويلكمه على وجهه حتى لا يتجرأ على لمسه مجددًا، لكنه انتبه في اللحظة التالية إلى وجود رجل بملامح عابسة متوسط القامة مكتنز قليلًا يتوسط الردهة.
ومن تصلب جسد ميرا جواره يستطيع القول بأن هذا الرجل هو والدها!
جذب شهيقًا عميقًا كي يستعد للمواجهة الكبرى، فتلك الشرارة المتقاذفة من عينيه الجاحظة لا تبشر بالخير.
دون تفكير توجه "شريف" نحو ابنته المتعلقة في صفاقه بذراع "المتسكع" الحقير جوارها، ووقف أمامها يرمقها بنظرات تعكس خيبة الأمل فيها قبل أن يصفع وجهها.
كاد ينقض "زيدان" عليه في غضب لولا كف "ميرا" الصغير الذي أوقفه في مكانه.

-مبسوطة بالطين اللي حطتينا فيه!

-بابا أنت فاهم غلط.

أسرعت تخبره في تلعثم متجاهله آلم وجهها الذي يخرج نارًا فآلم النفس كان أقوى، لكنه قاطعها مبتسمًا في ابتسامه مقززة معلنًا:

-لا ما تخافيش "رامي" صاحبك الغالي قالي كل حاجة وحكى على عملتك السودة مع الكلب ده،
بتتجوزي عرفي يا ميرا؟
عايزة تفضحيني وتدمريني بعد تعبي للسنين طويلة عشان أوصل لمكاني، وقدام مين قدام رامي وأبوه الجيار اللي بيدور على خرم إبره يدمرني بيه!

هربت عبراتها الحارة دون توقف، تشعر بنفسها تعود طفلة صغيرة يملئها الضعف غير قادرة على اللحاق بهذا الصوت الصادح داخلها والذي يحثها على الحديث والمدافعة عن نفسها وتفجير كل المشاعر السلبية المكتومة داخل قلبها.
أما "زيدان" فوقف مذهولًا من منحنيات تفكير هذا الرجل متحجر القلب والذي يجب حرمانه من لقب الأب، فمنذ وقفا بين يديه وهو لا ينفك عن الإشارة إلي الاضرار الواقعة عليه متناسيًا الصورة الأكبر والأضرار الأهم التي تمسها هي كأبنته.
استمر "شريف" في نوبة الخذلان وهو يغرس أصابعه في أعلى ذراعها يهزها في عنف:

-هي دي تربية أمك ليكي، ولا التربية مكنش ليها مكان في وقتها اللي بتقضيه كله في الشغل والسفر وسيباكي كده على حل شعرك.

أشعلت كلماته الساخرة من والدتها حفيظتها وفجرت غضب كاسح أحرق صدرها، فطفحت نيرانه على لسانها رغم ارتعاش فمها والطنين في أذنها:

-ما بلاش ترمي باللوم على ماما في تربيتي وأنت كنت فين؟
قول وفهمني طول العمر ده مخلي للظروف هي اللي تربيني ودلوقتي جاي تلومني على التربية!

لاحظت كيف تحرك رجال والدها إلى آخر الغرفة وكأنهم شعروا بالكلل لما يدور أمامهم، ثار والدها هاتفًا:

-اخرسي أنتي ليكي عين تتكلمي، مش كفاية عملتك الهباب مع الهلفوت ده!

أشار نحو "زيدان" الذي كان يضغط على قبضتيه يقف عاجزًا ويمنع نفسه من التهور في التعامل مع هذا الشخص الكامن أمامه فهو للأسف لا يزال حاملًا للقب والدها.
لكنه لم يتحمل عدم التدخل أكثر وهو يراه يذويها عن قصد محاولًا ترهيبها حتى تعود لضعفها وسكوتها خاصة عندما جذب خصلات شعرها صارخًا:

-ده أنا عايز أشرب من دمك قبل دمه!

تدخل "زيدان" في هذه المرحلة بان دفع والدها مجبرًا إياه على التراجع خطوة ليترك شعرها وقبل أن يصرخ اعتراضه كانت "ميرا" تهجم كالمحارب المقدام واضعه جسدها بينه وبين والدته، تفجر قنبلة أوقفت عقله عن العمل لبضع ثوان:

-لو زيدان حصله أي حاجة الصبح الورقتين العرفي هيكونوا لفوا على الإعلام المصري كله!

كان صوتها يتحلى بالعزيمة والثقة وكأنها لم تكن غارقة في البكاء لتوها، اتسعت أعين والدها في صدمة قبل أن يعتصر ذراعيها بين كفيه متسائلًا في ذهول:

-تقصدي أيه !

-أقصد أن زيدان أو أنا لو جرالنا حاجة صاحبنا هيوصل الورقتين للصحافة وأنت راجل مش بتاع شوشرة ومش عايز تهز منصبك ولا أيه؟

-اه يا بنت ال....

رفع كفه يصفعها إلا أن "زيدان" تدخل ممسكًا كفه قبل أن يلمسها ثم جذبها خلفه في دفاعيه، وقد فهم لعبتها ثم أردف مهددًا من بين أسنانه:

-ما قالتلك لو حصلها حاجة الدنيا هتخرب، أنا عديت أول قلم عشان حقك، لكن التاني مش هقبله على مراتي.

دوت ضحكات "شريف" المستهجنة والساخرة المكان قبل ان ينكمش وجهه في اشمئزاز يرمقه من أسفله إلى أعلاه باصقًا سخريته:

-لا راجل أوي ياااض،
اومال لو مش واحد حقير داير على حته عيله صغيرة ومتجوزها عرفي من ورا أهلها كنت عملت أيه!

عاد للخلف على مهل وعيناه الثعلبية تطالع "ميرا" باستخفاف مشيرًا بأصبعه نحو "زيدان" متهكمًا:

-اوعي تكوني مصدقه جو البطولة اللي هو بيعمله ده، ده واحد طمع في فلوسك وفي أبوكي يا غبية!

-صدقني لولا ميرا تبقى بنتك ما كنت اتمنى أشوفك حتى!

صفق "شريف" مرتين وهو يلوي شفتيه للأسفل في سخرية جليه ثم قال في قساوة:

-انت مكنتش تتمنى تشوفني في أحلامك لولا بنتي اللي رخصت نفسها وسلمتها لواحد خسيس زيك،
هو لو فيه ذرة شرف وحس انك غالية كان على الأقل طلبك مني ودخل البيت من بابه!

وجه نهاية كلماته السامة إلى "ميرا" الصامتة ولكن الإجابة جاءته من خلفهما:

-خسيس؟
مش ملاحظ أن الكلمة دي كبيرة شوية انها تطلع منك!
يا سيدي يمكن لو لقى باب الأول أو رقيب يطلبها منه كان طلبها، لكن هو لقاها زي اليتامى بتدور على سقف يحميها من الدنيا.

استدارت أعين الجميع نحو "أماني" التي وقف عند الباب المفتوح، والتي تنفست الصعداء وهي تتفحص ابنتها وزيدان تتأكد من عدم لحاق أي سوء بهما، ثم ثبتت أنظارها الحادة فوق زوجها السابق وحمدت الله ان ابنتها شغلت عقلها وفكرت في إرسال رسالة تخبرها بما حدث وبانهما في طريقهما مع الحيوانات الضالة التي أرسلها والدها لجرهما كالمجرمين!

-الحمد لله.

همست "ميرا" وهي تمسك بذراع "زيدان" وقد شعرت بالدماء تعود جسدها الضعيف، فهي واثقة من قدرة والدتها على حمايتهما، سعيدة بأنها امتلكت من العقل ما يكفي لمراسلتها وسعيدة ان والدتها تدارك الأمر سريعًا وأرسلت لها تحذرها انه في حاله الشعور بالخطر يجب عليها التمسك بكذبة زواجها السري وترهيب والدها بالفضائح التي قد تثيرها هذه الورقة، حتى تصل إليهما وتنقذهما من براثنه.
توجهت "أماني" للداخل تحت مرأهم، تحاول لجم ارتعاش جسدها الذي كان ينتفض منذ تحججت لوالد زيدان بضرورة ذهابها واصطحاب الولدين معها، وحمدت الله انها لم تستلم لضعفها وتنهار طالبه منه مرافقتها، فأخر ما ترغب به هو رؤيته للوجه الحقيقي لوالد ميرا.
وتابعت كيف رمقها شزرًا واحتقارًا كما اعتادت منه لسنوات عديدة عاشتها معها، لينعش ذاكرتها بالأسباب التي جعلتها تصر على الابتعاد عنه وعدم التواصل تحت أي ظرف من الظروف.

-أنتي كمان ليكي عين تقفي قدامي وتدافعي عنه، بعد ما أنتي وبنتك حطيتوا راسي في الوحل !

- أنت عمال تزعق وتوجه الاتهامات لينا ليه؟
الوحل ده يا شريف بيه، أنت اللي حطيتنا فيه من زمان أوي.

علا صوت "أماني" في حزم دون مهابه مصره على انهاء صفحة سوداء طال طيها كثيرًا دون تمزيق، لكن "شريف" عكس صراخها معلنًا في وقاحه:

-الله، ده انتوا متفقين عليا،
وانا اللي كنت فاهم حوار ان الجربوع ده قريبك صدفه، لكن لا واضح انكم طبخينها عشان توقعوني وتنتقمي مني!

انكمشت ملامح "أماني" في ذهول وعدم تصديق من جراءته العالية فقالت من بين أسنانها مستنكره:

-هتفضل طول عمرك عايش في نظرية المؤامرة وعايش عشان نفسك وبس!

-متحاوليش تجيبي تقصيرك وان بنتك بتلف على حل شعرها عليا!

هتف في وجهها وهو يشير نحو ميرا قاصدًا بها هذا التقصير، فاندفعت والدتها كقطة متوحشة تزمجر فيه:

-أنت تعرف أيه عن بنتي، ولا تعرف أيه عن اللي مرت بيه،
انت لازم تحمد ربك ألف مرة انها وقعت في أيد زيدان مش تبجح فيه!

-بجاحه هو لسه شاف مني بجاحه ده أنا عايز أشرب من دمه ودمها،
اسمع ياااض....

توجه مقتربًا من "زيدان" الذي وقف شامخًا في صمت أمام "ميرا" وكادت تخرج عيناه من مقلتيه حين أخبره "شريف":

-أنت هتتجوزها حالًا ورجلك فوق رقبتك!

-أنت اتجننت يا شريف!

صرخت "أماني" تحاول وقف هذا الجنون وحماية مصير الأثنان من قراراته الهوجاء، لكنه زجر في جنون كبير وجسده ينتفض من الغضب:

-ايوة اتجننت يا ست أماني، ما اللي ايده ف المايه مش زي اللي ايده في النار،
ومش هسمح أبدًا ان انتي وبنتك تغلطوا وأنا اللي ادفع التمن واخسر منصبي!

-منصبك هو ده اللي هامك؟

تمتمت "ميرا" في صوت مهتز ضعيف فحدقها والدها بنظراته الغاضبة باصقًا:

-أيه عايزه تلومي عليا؟
وانتي كنتي فكرتي فيا قبل ما تتجوزي عرفي عشان أفكر فيكي،
هاه قوليلي كام مرة قولت بلاش رامي واللي معاه وابعدي عن ابن الجيار لكن لا لازم تخالفي كلامي وتحطي رقبتي تحت سكينه ابوه من غير ما تفكري انه أول منافس ليا على الطريق واللي عايش حياته كلها عشان يوقعني وكل ده امتى قبل التعيينات الجديدة بأسبوع!

اندفعت "أماني" ترفع أصبعها في وجه منذرة في حده:

-أبعد عن بنتي ومستقبلها يا شريف، أنا مش هسمحلك تجبر حد منهم هما الاتنين على حاجة!

-أبعدي أنتي وسبيني أنقذ ما يمكن انقاذه يا أماني أحسنلك!

حذرها "شريف" في صوت غليظ مختنق من الغضب والقلق على "منصبه" بالتأكيد، فكر زيدان ساخرًا ثم قرر أن الوقت قد حان كي يتولى زمام الأمور:

-اسمحيلي يا طنط اقاطعك، بس الموضوع مش محتاج جدال أنا كده كده كنت هطلب ميرا للجواز،
مش لأن انت طلبت، لا لأني مش هقدر أنام مرتاح وأنا عارف ان ليك حكم عليها أكتر من كده!

-طيب يا شاطر، جلال ابعت هات مأذون!

-مأذون؟

تمتم "زيدان" بعدم فهم، ضحك والدها ضحكة جافه مزعجة وهو يخبره ساخرًا:

-لحقت تغير رأيك ده معداش عشر ثواني على خطاب الشهامة!

-أنت عايزني أتجوزها حالًا وأقول لأهلي أيه؟

-يتحرقوا أهلك.

قرص "زيدان" فوق أنفه كي لا يمطره بوابل من الشتائم احترامًا للسيدتين جواره لكنه استكمل متحديًا:

-مفكرتش شكل بنتك هيبقى أيه لو دخلت بيها على أهلنا وقولتلهم كتبنا الكتاب؟
على الأقل اديني أسبوع أمهد الموضوع ليهم.

-تمهد الموضوع ولا تخلع منه!

نظر زيدان نحو أماني وكأنه يتساءل مما هو مصنوع هذا الرجل، لكنه زفر يحاول إخراج شحناته السلبية قائلًا في هدوء:

-بص يا أستاذ شريف، اديني أسبوع .....

-الموضوع مفهوش نقاش، مش بعيد واحنا بنتكلم دلوقتي يكون الجيار وابنه مسربين الخبر،
أنا لازم أسبقهم وأعلن جوازكم مش هقعد استنى الفضيحة!

أصر والدها فوقف "زيدان" يحك رأسه بتفكير يحاول ايجاد منفذ لقلب هذا الرجل الفولاذي قبل أن تلمع عيناه بفكرة فنطق سريعًا في تحفز:

-طيب واللي يديك حاجة تخليك تحط رامي وابوه في جيبك؟

-ازاي مش فاهم.

-عندك كومبيوتر؟


لمعت عيناه في مكر مبتسمًا ابتسامته الواثقة وهو يرفع ذاكرة تخزين الكترونية صغيرة متدلاه من ميدالية مفاتيحه.

*****

في مكان آخر ليس بعيدًا عن مقر ال "شريف"، دخل "الجيار" والشرر يتطاير من عينيه إلى غرفة ابنه "رامي" البائس والغارق في النوم لاهيًا عن المصائب الذي أوقعه بها بأفعاله قبل أن يدفع جسده في عنف زاجرًا إياه حتى يستفيق:

-قوم يا بغل شوف المصيبة اللي وقعتنا فيها.

-في أيه، حصل أيه؟

سأل "رامي" وعقله الغافي يحاول استيعاب ما يخرج من فمه والده إلا أن الصفعة التي باغته بها والده أفاقته بشكل كامل فجلس مشدوهًا واضعًا كفه فوق وجهه الملسوع بينما يستكمل والده نوبة غضبه:

-أنت عملت أيه في شريف راضي وبنته؟

-أنا مش فاهم هو بيكلمك ويشتكي مني وسايب بنته اللي مرافقه واحد في السر عادي.

ضرب والده فوق رأسه مرتين يكاد ينفجر من شدة الغضب والخيبة لكنه رفع هاتفه مشغلًا مقطع مسجل صغير مثبتًا إياه أمام وجه أبنه، وراقب كيف شحب "رامي" وانسحبت الدماء من وجهه بشكل تراجيدي وهو يشاهد نفسه يتوسط الشاشة ويميل لاستنشاق بعض السموم البيضاء تلاها بجرعتين من زجاجة الخمر التي فارقت أصابعه فقط لتحتضنها شفتاه المرأة المحتلة أحضانه وتجلس في صفاقة بين ساقيه.
حانت منه نظره خاطفة نحو والده ذو الملامح الغائمة بعدم الرضا، لا يستطيع فتح فمه بكلمه أو التبرير يعلم مدى وقع تسريب فيديو كهذا وتأثيره على مكانة والده لكنه همس في صوت محشرج:

-وهنعمل أيه؟

-احكي انت حصل ايه بينك وبين بنت شريف؟

ارتبك "رامي" أمام والده فكيف يخبره انه سعى لضم ميرا تحت أجنحته كي يشبع رغبة داخليه صورت له ان امتلاكها سيزيده نشوة وسلطه وهي ابنه أكبر المنافسين أمام أبيه، إلا انه وجد نفسه يغرق وينساق وراء شهوة امتلاك براءتها المُجسدة لكل ما حُرم عليه.
وهذا هو سبب صبره عليها شهورًا طويلًا قبل أن يطلق عليها "ريناد" لتوسوس في عقلها ضرورة الارتباط وتجربة شعور الانتماء لرجل.
ضم شفتيه في غضب فقد جن جنونه وقتها حين علم انها كانت ترفض تلميحاته متعمدة فتلك الخبيثة مدعية البراءة انتهت بتفضيل شخص أخر وتسليمه مقاليد ما اشتهاه شهور كثيرة له، وحين فقد الأمل في الحصول عليها بعد تدخل زيدان وتهديداته التي فرقت جمع الأصدقاء وتركته وحيدًا، فقرر الانتقام منها بفضح أمرها أمام والدها الأحمق الذي قلب الطاولة عليه!

-انطق أنا معنديش وقت!

أردف متلعثمًا يحاول إخفاء توتره عن والده الذي قد يقتله في سبيل الحفاظ على منصبه:

-مفيش حاجة بنته متعوده تتجمع معانا وبعدين عرفنا انها اتجوزت واحد عرفي وأنا روحت نبهته!

-ولما أنت عارف انها بنته بتدخلها وسطكم ليه، اهي غفلتكم وصورتكم يا غبي!

أخفض رامي بصره يشعر بالغليان فالخداع كان بفعل "زيدان" الأحمق الذي دخل حياتهم وقلبها رأسًا على عقب في البداية سرق ميرا منه ثم اتبعها حادثة رائف وتفرق الأصدقاء كلًا إلى حياة بعيدة عن أحدهم الأخر.
أخرجه من مرارة مشاعره فجأة وهو يلقي ببضعة أوراق في وجه معلنًا:

-دي تذكرتك لأمريكا قدامك ساعتين زمن تلم فيهم اللي محتاجه وتطلع على المطار،
وإياك يا رامي شيطانك يوزك ترجع هنا قبل ما أشوف حل للمصيبة دي وأشوف شريف ناوي على أيه!

لملم رامي الأوراق عنه ثم قال:

-هعمل ايه هناك؟

-هتلاقي واحد مستنيك هناك هيظبطلك كل حاجه وخلال أسبوع هبعتلك أمك،
أتفضل أتحرك من مكانك.


خرج والده كالإعصار، تاركًا "رامي" ينظر نحو تذكرة الطيران في غموض ومشاعر كثير سلبية كبيسة بدأت تتراكم وتستقر فوق قلبه القاتم ربما هو يطالبه بالانتقام ولكن أين اوصله الانتقام الآن؟
ازدرد ريقه في صعوبة ربما عليه التروي في الأمر والتمهل في مخططاته أو ربما هو في حاجة أكبر للابتعاد عن الساحة وترتيب حياته بشكل حقيقي واعي كما فعل كل الأصدقاء.
وضع رأسه بين كفيه يتذوق قباحة حياته ووحدته المريرة لكنه تحرك بعد دقائق طويلة مرت عليه كالساعات حتى يلملم أذيال هزيمته مقررًا اتباع أوامر والده لعله يجد في الابتعاد الصحوة والنجاة.

*****

وبالعودة إلى داخل فيلا ال "شريف"، وبعد أن هدأ الوضع أغلق شريف هاتفه في قناعة محتفظًا بابتسامه صغيرة فوق فمه، فنظر إليه "زيدان" مقررًا قطع احتفاله الصغير بالنصر مردفًا:

-اعتقد كده مفيش خوف من الفضايح.

-لحد دلوقتي مفيش خوف، لحد ما التعلب يشغل دماغه من جديد.

-جميل وبكده أقدر أتفق مع حضرتك زي الناس الطبيعية وأطلب أن كتب الكتاب والفرح يبقوا في يوم واحد ... لكن بعد أسبوعين.

-احنا ما اتفقناش على أسبوعين!

انفعل "شريف" قائلًا بملامح متحجرة فاندفعت "أماني" تخبره في حسم:

-كفاية اعتراض وخلاص، أنا واثقة من قرارات زيدان،
ثم أن أسبوعين يعتبر أقل مده أقدر أجهز فيها البنت للجواز.


-وبعدين معاكي يا أماني، هو عناد معايا وخلاص.

-شريف ممكن لمرة واحدة تعترف بغلطك وان دي أقل حاجة ممكن نقدمها لبنتنا،
الفرح بعد أسبوعين يا زيدان احنا موافقين وبكده نقدر نمشي كلنا ونخلص من اللي بيحصل هنا!

نظرت إلى "ميرا" الناظرة للأسفل تحدق في الأرض وقد طال صمتها طويلًا دون أن تنتطق بحرفٍ واحد، إلا أن والدها تابع في صوته القاسي:

-أسمعني كويس، أنا مش واثق فيك ومش هثق فيك،
وأعمل حسابك في واحد من رجلتي هيفضل معاك لحد يوم الفرح!

فتحت والده "ميرا" فمها للصراخ في وجهه ولكن زيدان قرر التدخل محاولًا إنهاء حدة الوضع وتحجيم شكوك والدها المجنون اعتبارًا على إنها أقل خسائر قد يفعلها رجل تزوجته ابنته سرًا أو هكذا يعتقد، فتنهد قائلًا:

-وأنا موافق، مفيش مشكلة وهنيمه في أوضتي كمان على أساس إنه صاحبي اللي قرر يلازمني لحد يوم الفرح.

حدقت "أماني" ب " شريف" تغدقه بنظرات محتقره قبل أن تتجاهله موجهه حديثها لابنتها الصامتة بشكل أكثر من اللازم:

-يلا يا حبيبتي عشان نروح...

إلا أن هذا الرجل ذو القلب البشع قرر فتح فمه مقاطعًا لها بلهجته الحاده المزمجرة:

-لا ميرا مش هتطلع من هنا لحد الفرح!

تحركت "أماني" لتقف أمام شخص شريف مباشرةً ثم هتفت به في شراسة دون خوف أو رهبه:

-لحد هنا والزم حدودك، بنتي رجليها على رجلي وهتطلع عروسة من بيت أمها وإلا يمين بالله لهعرفك معنى الفضيحة اللي بحق وحقيقي!

وقف زيدان مشدوهًا لا يصدق القوة المنبثقة من فم والده ميرا، ثم رمق "ميرا" يتابع صدمتها هي الأخرى التي توازي صدمته ولولا خطورة الموقف لاندفع يمدحها هاتفًا "عظمة على عظمة يا ست".
ولم تنتظر والدتها أن يتعافى والدها المتسمر مكانه من صدمته وقالت بأنف مرفوع بابتسامه منتصرة واسعة:

-يالا يا ولاد من هنا، ورانا فرحة كبيرة!

*****

كان ليلهم في طريقه للهروب تاركًا الأجواء تسيطر عليها الهدوء إلا من تخبطات القلوب، استقام "زيدان" ساحبًا معه سجادة الصلاة ينهي صلاته ببعض الدعاوي الصادقة لنفسه ولزوجته "ميرا" المتربعة فوق رقعة صلاتها تتلوى دعوات دون توقف.
تراجع للجلوس على مقعد الصالون معطيها مساحة لإفراغ رغبات قلبها في حديثها السري بينها وبين الله.
رفض وجهه العودة لطبيعته والتخلي عن ابتسامته المبتهجة فاليوم يوم زفافهم الذي انتهى بكل خير، ولا يزال يأبى تصديق ان الأسبوعان المضيان مرا بسلاسة دون صعاب.
خاصة أنه لم يثق بوالدها ونوبات جنونه الفجائية لحظة وكان متوقعًا الأسوأ، بالإضافة إلى تخوفه من رد فعل والده والذي على غير المتوقع رحب بحفاوة ما أن أخبره برغبته في الزواج من "ميرا" صحيح أنه اعترض في البداية على التعجل في إتمام الزفاف طالبًا منه منح نفسه ومنحها فرصه للتأقلم مع الفكرة قبلًا ليقرر "زيدان" اختلاق قصة كاذبة بأنهما يعيشان قصة حب خرافية وانه لن يشقى ويواجه عقبات في التجهيزات بسبب قراره بالزواج في المنزل مع والده رافضًا التخلي عنه في هذا السن.
كاد يبتسم متذكرًا نظرات والده المصدومة عندما أضاف بأنه صار رجلًا يخشى إغضاب ربه بالركض خلف شهواته، ليتأفف والده في النهاية قائلًا في اشمئزاز:

-تفاصيل زيادة عن اللزوم، أتنيل أتجوز يا سيدي بكره تقعد جنب الحيط و...

ترك جملته مفتوحة وراقب الفرحة تقفز من عيون طفله، فرك "زيدان" أسفل عنقه في خجل ربما هي ليست كذبة بشكل كامل لأنه غارق في غرامها بالفعل كما انها وهي في طريقها في لاستعادتها لذاتها زادت نضارتها وتوهجها مع كل يوم جديد مما أشعل مشاعر ولهَهُ بها فكانت تتغذى ببطء على خلايا تفكيره وتهيئها أمام عيونه الناعسة في صورة فاكهة وصلت أوج نضوجها منتظرة منه اقتطفاها والتذوق.
لعق فمه متحفزًا ثم نظر إلى الساعة المعلقة فوق الحائط في تعجل وترقب، عاد بنظرة إلى جسدها الصغير الساجد في خشوع، يتمنى لو تنتهي قبل أن يُحرقه الانتظار شوقًا ويتحول إلى رمادًا في سبيل عشقها.
سيطرت عليه ذبذبات السعادة متحمسً لبدء أولى لحظات حياتهما الزوجية معًا بينما يطرق أطراف أنامله فوق فخده في نفاذ صبر منتظرًا إياها، لكنه استسلم لمكنونات صدره المشتعلة متذمرًا:

-لا يا حبيبتي انتي مش قدام الكعبة، احنا في صالون بيتنا عادي تقدري تكملي دعاوي بعدين.

اعتدلت من سجودها ترمقه في انزعاج قبل ان تزم شفتيها مستنكره:

-سيبني في حالي يا زيدان أنا فيا اللي مكفيني.

-أنا عملتلك ايه ان شاء الله عشان يبقى فيكي اللي مكفيكي؟
ده احنا لسه بنقول يا هادي، طيب أستني أنكد عليكي الأول.

هتف مغتاظًا معترضًا على حديثها ففي الوقت الذي يتراقص فيه هو فرحًا لانه يجمعهم سقف واحد، تجلس هي بوجه متجهم وشفاه ممطوطه تنافس الحزن الثقيل المنبعث من عيناها السوداء الواسعة ... طائر البومة... أجل هذا هو لقبها الزوجي الجديد، لقد تزوج بومةً متنقلة!

-مش منك طبعًا، أنا مبسوطة وسعيدة اننا اتجوزنا.

رفع ذراعيه أمامه يوقف استكمالها الحديث متهكمًا:

-بس بس أصل أنا دمعتي قريبه، وقصتك السعيدة دي غلط على صحتي،
يا شيخة حرام عليكي أومال لو زعلانه هتعملي فيا أيه!

-يا زيدان أنا بتكلم بجد.

زجرت منزعجة بينما تربع ذراعيها امامها وساقيها فوق الأرض، فتنهد مستسلمًا وأقترب يجاورها قبل أن يهمس متسائلًا:

-فهميني مالك يا ست الحسن والجمال، مين مزعلك؟

-بابا.

قالت في نبرتها الخافتة فمال فمه لليسار مؤكدًا:

-حقك الصراحة، أبوكي راجل مريب أوي يا ميرا، المهم زعلك في أيه؟

-زعلني عشان كان نفسي يرفض اننا نتجوز!

أطبق جفونه في غصة ورفع كفه في غيظ يكتم أنفاسها متمنيًا اقتلاع روحها قائلًا في حدة:

-زعلانه عشان وافق تتجوزيني، بعد المرار اللي أنا عيشته ده كله عشانك زعلانه يا كائن النكد الأزلي يا بومه حياتي عشان اتجوزتيني!

دفعت يده عنها موبخه تسرعه:

-يا ابني افهمني بقى ما تجننيش!

-أنا اللي هجننك، أنتي معندكيش أخوات عرسان!
وبعدين يا ستي لو مش موافقة تتجوزيني اتجوزتيني ليه؟

صاح في حنق طفولي وهو يدفعها للوقوف أمامه جاذبًا خصلاتها، فضربت ساعده متألمة من نوبات اعتراضاته ثم هتفت مستنكرة:

-أفهم يا بني أدم، أنا كان نفسي يرفض مش عشان أنا مش موافقة بيك، أنا كان نفسي يرفض عشان مهتم بيا وخايف عليا أنا ميرا مش مكانته ومنصبه،
كان نفسي يرفض عشان ميعرفش مين زيدان وميعرفش هيعيشني أو يعاملني ازاي، كان نفسي يرفض ويحسسني أنه أب خايف على بنته وبيحبها،
ليه يا زيدان هو مش بيحبني زي الأبهات ما بتحب عيالها؟

أنهت سؤالها بصوت متقطع حزين فزفر "زيدان" في شدة وقد انتقل حزنها كالسهم مستقرًا داخل صدره ثم اقترب يجذبها نحوه يحتويها بين ذراعيه في قوة هامسًا:

-ربنا مش بيدي كل حاجة للإنسان، هتلاقي في اللي عنده أب بس قلبه مش نقي زيك أو ربنا مش معوضه بفلوس تريح باله.

-أنا مش عايزة فلوس، عارف أنا بسيطة جدا لدرجة ان لو هو ابتسّم قُدامي بفرح، لو قال كلمة حلوة بفرح رغم ان عمره ما حاول يخليني أفرح.

رمت جملتها وهي تخفي رأسها في صدره وتضغط بذراعيها كالأطفال حول خصره تستمد منه السكينة وراحة القلب، فمال يطبع قبله فوق رأسها في حنان وحب مؤكدًا بحروفه:

-ربنا قادر يفرح كل واحد مننا وعارف احنا محتاجين أيه، وممكن الانسان ما يكونش بيتمنى الحاجة دي بس ربنا دايما عارف الأنسب لينا،
والصراحة كده أنتي مش عايزة أب أنتي محتاجة راجل يحتويكي ويربيكي قصد يهديكي!

ابتعدت عنه ورفعت عيناها ترمقه في تحذير من مشاكستها ثم سألت في تحدي:

-قصدك أيه؟

قرص أنفها في مشاكسه هامسًا في أذنها متعمدًا إثارة الشغب في مشاعرها الفتيه:

-قصدي، ان كل انسان محتاج معجزة، وأنا المعجزة اللي في حياتك يا روحي!

-يا بارد!

تأففت متذمرة من الغرور المتسرب من بين حروفه السخيفة فتحركت متمردة للابتعاد عن احضانه، وزاد من حنقها صوت ضحكاته العالية قبل أن يخبرها المشاغب:

-تستاهلي عشان تبطلي تنكدي عليا يوم فرحي!

-ده على أساس اننا هنعمل فرح كل يوم!

-قولي لنفسك يا لمضه، واتفضلي أقعلي الأسدال ده كده!

ردد وهو يجبر القماش على الانسلال من فوق ذراعيها ورأسها وسط اعتراضاتها الخجلة فهتفت به في حرج:

-زيدان مينفعش كده أنا بتحرج!

-طيب بصي تعالي ندخل ونقلع .. أقصد ندردش كلنا عشان الإحراج يروح!

-لا أنت بتضحك عليا أنت مش عايز تدردش، أنت عايز حاجة تانية!

تأوهت في خفه حين صفعها خلف رقبتها متهكمًا:

-الله ما أنتي حلوة أهوه اومال تعباني معاكي من الصبح ليه؟

-زيدان إيدك تقيله بطل غتاته!

قالت في دلال وهي تضربه برفق فوق صدره فارتبكت في صدمة حين اختفى المرح عن وجهه وفاجأها بنبرته الخشنة:

-أنتي بتمدي إيدك عليا؟

-أنا لا والله !

اتسعت عيناها في ذعر نافيه بحركات رأسها السريعة:

-قصدك اني كداب!

-يا دي النيلة أنت بتتلكك!

-أيه بتلكك دي يا هانم، أمشي انجري قدامي ... اتفضلي!

أشار اصبعه نحو الغرفة في صرامة متعمدًا الحفاظ على وجوم ملامحه المبهمة وتابع كيف هرعت للداخل في طاعة وتوتر، ابتسم لنفسه وهو يتحرك خلفها وبعد أن أغلق الباب، التفت لها قائلًا:

-خدي تعالي هنا.

تحركت نحوه سريعًا خوفًا من اغضابه، ثم عضت شفتيها وهي تخفض بصرها عن وجهه الغاضب تشعر بالخوف والذنب لأنها أغضبته دون قصد في ليلة زفافهم إلا انها شهقت مصدومة عندما أحاط ذراعيه حول خصرها يضمها إليه متمتمًا في صوت منخفض عميق:

-بحبك.

ارتعشت ابتسامتها لتعادل ارتعاشه قلبها الصغير بعد أن كاد المشاغب أن يصيبها بذبحة صدرية بسبب أفعاله الصبيانية ثم سندت فوق صدره بجبينها هامسة في نبرة كلها محبة وهيام:

-وأنا كمان.

-وأنتي كمان أيه؟

حثها أكثر وهو يبعد وجهها عنه كي يشاهد ملامحها المضطربة ويمرر أصابعه فوق وجهها الرقيق متعمدًا إقصاء خصلاتها الرائعة للخلف وابتسم حين راقب حمرة الخجل والترقب تغمر وجهها وهي تهمس:

-بحبك.

مال يداعب أنفها بأنفه ممسكًا بذقنها الصغير قبل أن يضع ثغره فوق ثغرها على مهل وتروي كبير، جعل النبض يدوي في طبول أذنيهما، ثقلت أنفاسهم سريعًا وتقطعت بلهفة العشاق، فغرقا بين ألحان الأحبة التي أخذت تزيد وتعلو من حولهما، دون اهتمام بالانصهار الحامي في صدورهم بين سحر اللمسات والهمسات المشتاقة.
وان كان الاشتياق كالمحرقة في صدره، فقد كان النصيب الأعظم من الاشتياق لها ..
فهي مشتاقة له ولمشاعره، ومشتاقة لان تغرق في كنف رجلًا يعشقها ويعزها كما تعشقه.
ارتاحت لوعتها بعد قساوة الشوق وما أدراك بالقساوة عندما تشتاق الروح لأرض تنتمي لها وهي بين بقاعها، تتخبط وتتمرد في كل المعالم والدلالات من حولها، وهذا الشعور الثقيل بأنك دومًا مع الأشخاص الخطأ أو في المكان الخطأ، يجعلك تشعر أن الروح تختنق ببقائها مع من يفترض أن يكونوا بؤرة الأمان والاستقرار.
تعلقت "ميرا" في عنقه بكل قوتها تتمنى لو يبتلعها ويحفظها داخل صدره الصلب بجوار هذا القلب النابض بحبها، التي تستمد القوة من قربه، فقد تعلمت درسًا خرجت منه بالكثير من الوعود ستحققها لذاتها وله مهما كان الثمن وها هي من الآن متأهبة لخوض حروبًا ضاريةً من أجل انبات حياة مستقرة بينهما مزينة بورود العشق وبسالة جذورها المتعمقة في أراضي حبهما اليافعة.
النهاية .. ❤ 
reaction:

تعليقات