رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الستون
الفصل الستون(شكٍّ غامض)
اتفاعلوا ياولاد، الفصل بيجيب ألف مشاهدة، و١٠٠ تصويت، مفيش تفسير لده غير إن الواحد منكم بــ عشرة🙂💙
______
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
__
– قضيتُ دهورًا في الجفاءِ مُوحَّدًا
فجاءتْكِ فأنسَتني مَضى من وَحيدِ.
“محمود سامي البارودي
”
_______________
“طارق.”
نظر إليها بعينين اتسع فيهما بريق لم تستطع أن تخطئه، ثم ابتسم بخفة، ومال قليلًا ليقترب أكثر، وصوته خرج هادئًا لكنه مشبع بالصدق:
“كل ما ليه.”
ارتسمت ابتسامتها فورًا، ابتسامة لم تكن مجرد رد فعل، بل كانت امتنانًا عميقًا لتلك الكلمة التي اخترقت قلبها وأشعلت فيه دفئًا لا يوصف.
ثم تابعت بصوت خافت، رقيق:
“عايزة أسألك سؤال.”
أومأ برفق، عيناه لا تفارق عينيها، وقال بنبرة مطمئنة:
“كلي أذان صاغية.”
تنفست ببطء، ثم أطلقت ما كان يشغل تفكيرها منذ زمن:
“هو أنت حبتني امتى؟”
ابتسم وكأن السؤال أعاده إلى ذكريات لم ينسها، ذكريات لم تبهت رغم مرور السنوات، بل بقيت محفورة في قلبه كما لو أنها حدثت بالأمس.
دار بنظره في الغرفة، كمن يبحث عن مهرب من الإجابة، ثم عاد إليها وسأل بهدوء:
“إيه مناسبة السؤال؟”
رفعت حاجبيها قليلًا، وضمت شفتيها بتفكير قبل أن تجيب وهي تكتم ضحكة خفيفة:
“تقدر تقول… هرمونات الحمل.”
انفجر ضاحكًا بخفة، بينما هي ابتسمت على رد فعله، ورمشت بأهدابها ببراءة وكأنها طفلة تساومه على لعبة، ثم قالت بنبرة رقيقة متدللة:
“ممكن بقا تراضي هرموناتي وتجاوبني؟”
ارتسمت على وجهه ابتسامة جديدة، ابتسامة تخفي الكثير مما لا يقال، ثم سكت للحظات وكأن الصمت يساعده على انتقاء كلماته بعناية، وأخيرًا قال بصوت مبحوح بشيء من الصدق:
“أنا قلتلك قبل كده إني مش عارف أحدد إمتى بالظبط… بس اللي متأكد منه إني عمري ما حسّيت بالراحة دي غير وأنا معاكِ.”
ظلّت تحدّق في ملامحه للحظات، ثم ضيّقت عينيها بخفة، والابتسامة لا تفارقها، لكن الشك لمع في نظرتها:
“مش عارفة ليه… حاسة إنك مخبي حاجة عني.”
سكت هو، بينما عيناه ارتعشتا للحظة، وكأن كلماتها لمست سرًا يحمله في أعماقه، سرًا لم يجد الشجاعة ليبوح به بعد.
لكن أمام نظراتها التي تضغط عليه وابتسامتها التي تحاصره بحنوٍّ لا مهرب منه، لم يجد في داخله قوة للمقاومة.
ضحك بخفوت، ضحكة المستسلم، وقال وهو يرفع كفَّيه كمن يعلن هزيمته:
“خلاص… هقولك.”
فور أن نطق بالكلمات، اعتدلت هي في جلستها على الفور، وكأنها طفلة تنتظر حكاية طالما رغبت في سماعها، وأومأت له بحماس ممزوج بفضول عميق، إشارةً منه أن يبدأ.
ابتسم ابتسامة مترددة، ثم أطلق تنهيدة طويلة كمن يغوص في بئر قديم من الذكريات، وبدأ حديثه بصوت هادئ ينساب إلى مسامعها بثقلٍ:
“الموقف ده من زمان أوي… كنت وقتها عندي تسع سنين… نايم عادي، نوم طفل ما يعرفش من الدنيا إلا اللعب والمدرسة، فجأة صحيت على دوشة حواليا… دوشة مش متعود عليها غير في المناسبات.. لكن الغريب إني ماكنتش عارف إن فيه مناسبة أصلاً، وبرغم كده، كان الإحساس مختلف… مش فرحة، لأ… مناسبة وفاة.”
انطفأت ابتسامتها على الفور، واتسعت عيناها بدهشة مشوبة بألم، كأنها تراه فجأة صغيرًا، هشًا، يواجه ما لا يُحتمل.
بينما تابع هو الحديث، بذات النبرة الهادئة التي تزيد وقع الكلمات على قلبها:
“والدي توفي بعد الفجر وأنا نايم.. لما صحيت لقيت البيت مليان ناس… ناس طالعة وناس داخلة، وأنا مش فاهم أي حاجة.. فضلت ماشي بينهم بدور على تفسير، لحد ما شفت عبير.. ناديت عليها: فيه إيه يا عبير؟ قامت فجأة جريت عليا، حضنتني… وفضلت تعيط، وأنا لسه مش فاهم.”
توقّف قليلًا، كأن المشهد ما زال يتراءى أمامه بوضوح، ثم أردف بصوت مبحوح:
“بعدها لقيت عمي محمد جاي، قعد قدامي، وبصلي بجدية غريبة، وقال لي: أنت راجل… أنت دلوقتي راجل البيت.”
أسند ظهره للحظة، ثم حرّك رأسه في بطء وهو يسترجع الصدمة:
“قلتله: لأ… بابا موجود، بابا راجل البيت.. قام حضني وطبطب عليا، وبعدين شاور لدواد علشان يدخلني أشوفه، دخلت معاه… ووقفت قدام بابا.. كان نايم… أو أنا افتكرته نايم، قربت منه… فضلت أهزه وأقوله: بابا، قوم.. لكن… ما قامش.”
توقف صوته عند تلك اللحظة وكأن الكلمات قد أثقلت صدره، وصمت امتد بينهما، لم يعد فيه سوى ارتجاف أنفاسه وارتعاشة خفيفة في عينيه وهو يستعيد طفولة انكسرت مبكرًا.
أما هي، فبقيت تحدّق فيه بعينين دامعتين، مشدوهة أمام اعتراف لم تسمعه من قبل، أمام وجع لم يُبح به أبدًا.
تنفّس بعمق،ثم قال بصوت خافت متقطّع:
“روحت معاهم، حضرت الدفن والعزاء، وأنا ساكت… ساكت بشكل مش طبيعي، كنت عامل نفسي جامد، عامل نفسي راجل زي ماقالولي… فضلت ماسك نفسي، ماسك دموعي بالقوة.. بس في لحظة حسّيت إن طاقتي كلها خلصت… ماعدتش قادر.”
خفض بصره وهو يضيف:
“مشيت بعيد عنهم… دخلت أوضة فاضية واستخبيت ورا الدولاب، وانهرت.. دموعي نزلت من غير ما أقاوم، بكيت كأني عمري ماعيط قبل كده.. حسيت إني وحيد، إني فقدت كل حاجة مرة واحدة.”
سكت للحظة، ثم ارتسمت ابتسامة باهتة حزينة على وجهه وهو يتذكر:
“بس فجأة… وأنا في عزّ انهياري، حسّيت بإيد صغيرة بتطبطب عليا.. رفعت راسي، فلقيت قدامي بنوتة عندها سنتين بس، واقفة جنبي، مش فاهمة أي حاجة بتحصل حوالينا أصلاً، بس واقفة بكل براءة، وبطبطب عليا، ومش كده وبس… دي كمان باسيتني من خدّي، وكأنها عايزة تواسيني، وعايزاني أبطل عياط… بس لما ماقدرتش أبطل، قعدت جنبي وبدأت تعيط معايا… وبقيت أنا اللي بحاول أسكتها.”
أنهى حديثه بضحكة خفيفة، ونظرة طويلة، نظرة امتدت كأنها تُعيد إليها كل التفاصيل التي لم تكن تعرف أنها عاشت بدايتها معه.
كانت ابتسامته خافتة، لكنها محمّلة بصدق لا يحتمل الشك، ابتسامة خرجت من بين ندوب عمرٍ طويل.
تجمد وجهها لثوانٍ، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، ثم رمشت بعينيها المتسعتين، وقالت بصوت متقطع، يقطعه ارتجاف الصدمة:
“أنت… تقصد… إني… أنا… كنت… البنت دي؟!”
ضحك بخفة، ضحكة عميقة خرجت من قلبه، ثم أومأ برأسه مؤكدًا، وقال بصوت مفعم بالحنان:
“آه، كنتِ إنتِ يا دلال… البنوتة اللي يوم ولادتها اتلغبط بينها وبين ابن أختي، وبوستها بداله… البنوتة اللي مابقيتش أقدر أخد ابن أختي لأي مكان من غير ما آخدها معايا، البنوتة اللي في كل مرة شيتلها فيها على ايدي، كان قلبي بيطمن وبرتاح… البنوتة اللي كانت لسه مش واعية على أي حاجة، ومع ذلك… هي اللي طبطبت عليّا وأنا مكسور لأول مرة في حياتي.”
ارتعشت شفتاها أكثر، كأن الكلمات التي نطق بها اخترقت حجاب قلبها، فانسابت دموعها بلا إذن، وارتجاف يديها فضح ارتباكها وهي تحاول جاهدة أن تتمالك نفسها، لكن وقع الاعتراف كان أعظم من قدرتها على التماسك.
ظل هو ينظر إليها بعينين يملؤهما بريق لا يشبه أي بريق آخر، خليط من الحنين والحب العميق، حب نما في صمتٍ طويل، حتى غدا حقيقة لا يبددها الزمن.
ابتسم ابتسامة واهنة، كأنها مزيج بين الاعتراف والراحة، وقال بصوت خافت لكنه صادق:
“من اليوم ده وأنا مشاعري اتغيّرت تجاهك، ما بقيتش أقدر أشوفك بس كأخت صغيرة زي ما كانوا بيقولولي… بقيت شايل ليكِ شعور مختلف، يمكن ما فهمتوش وقتها، لكن كل ما كبرت، كان بيكبر معايا.. بس الحقيقة الوحيدة اللي ما فيهاش لبس… إني حبيتك من قبل ما توعي يا دلال، من قبل ما تفتحي عينيك على الدنيا.”
شعرت دلال وكأن شيئًا غامضًا قد تحرّر داخلها؛ ارتجافة لم تدرك منبعها، أهي من شدّة الصدق في كلماته أم من دفءٍ اجتاح قلبها مع كل حرف خرج من شفتيه؟
رمشت بعينيها مرات متلاحقة، ثم ابتلعت ريقها بصعوبة وهمست بصوتٍ يحمل ذهولًا أكثر مما يحمل سؤالًا:
“دي أول مرة تحكيلي حاجة زي دي… أول مرة أسمع منك الكلام ده كله.”
ظل يطالعها بثبات، وعيناه تتلألأ بخليط من الحنين والصدق، ثم ضم شفتيه قليلًا بتفكير قبل أن يترك ابتسامة خافتة تتسلل إلى وجهه، وقال بصوتٍ هادئ كأنما يعتذر عن حملٍ خبأه طويلًا:
“تقدري تقولي إني مش بحب أتكلم عن مشاعري كتير… حتى ماعرفش ليه حكيتلك حاجة زي دي دلوقتي ونكدت عليكي.. بس الظاهر إني كنت محتاج أتكلم، فاستغليت الفرصة وخرج الكلام.”
ظلت تنظر إليه نظرة مطوّلة، وكأنها تتأمل ملامحه من جديد، ترى فيها الرجل الذي عرفته منذ سنين لكنه الآن يكشف لها وجهًا آخر لم تدركه من قبل.
ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة حنونة، مدت يدها بخفة تمسك بيده، وصوتها يخرج رقيقًا دافئًا وهي تقول:
“أعتقد إني محتاجة أسمعك أكتر… حابة أسمعك وإنت بتتكلم عن مشاعرك… ممكن؟”
طالعها للحظة، بعينين امتلأتا بالامتنان وكأنه يعترف في صمت بفضل وجودها، ثم قال بنبرة حاول أن يمزج فيها بين الجدّ والهروب:
“لأ… نكدت عليكِ ما فيه الكفاية الليلة دي.. خلينا نكمل سهرتنا واحنا رايقين أحسن.”
أنهى كلماته وهو يمد يده بهدوء ليلتقط كوب العصير الموضوع أمامه، رفعه إلى شفتيه وارتشف قليلاً، كأنما يتخذ من تلك الحركة ستارًا يختبئ خلفه.
لكن عينيها لم تفارقاه لحظة، تتابع كل تفصيلة صغيرة فيه وكأنها تبحث بين ملامحه عن ذلك القلب الذي يحاول أن يظل صامتًا.
وما إن وضع الكوب من يده حتى تسلل صوتها الهامس، رقراقًا، يحمل ثقلًا أكبر مما يبدو:
“طارق…”
رفع رأسه إليها، فاستقبلته بابتسامة دافئة كسرت شيئًا في داخله، ثم قالت بصدقٍ يمزج بين الرجاء واليقين:
“حابة أسمعك أوي… اديني شرف إن أكون أول واحدة تفضفضلها.”
ظل صامتًا لحظة، مترددًا بين رغبته في كتمان ما عاشه وبين إغراء قلبه أن يخفف الحمل أخيرًا.. ولمّا كاد أن يفتح فمه ليعترض، أحكمت هي قبضتها الرقيقة على يده، ضغطت عليها برفق، كأنها تمنحه الأمان، ثم همست بعينين دامعتين وبصوت يحمل كل الحنان:
“علشان خاطري…”
في تلك اللحظة فقط، شعر أن كل الجدران التي بناها داخله قد بدأت تتصدع، وأن أمامه امرأة لا تطلب منه سوى الحقيقة… الحقيقة التي أرهقته وهو يخفيها.
طالعها للحظة، كأنه يستمد من عينيها شجاعة الاعتراف، ثم أشاح بنظره عنها فجأة.. رفع يده ومسح وجهه بإرهاق، قبل أن يعود إليها، يطرق رأسه قليلًا بينما يحرك إصبعه على جبينه، تلك العادة القديمة التي تفضحه كلما ارتبك أو حاول لملمة شتاته.
ثم خرح صوته متثاقلاً، ممتزجًا بظل الذكريات التي لم تبرح قلبه:
“وفاة والدي كانت أول كسرة في حياتي… الكسر اللي بيغيّر حاجات كتيرو من جواك للأبد.. لولا وجود ماما وعبير جمبي… ماكنتش هقدر أتعافى بسهولة.. هما كانوا السند اللي مسك فيا وأنا صغير، واللي خلاني أفتكر إن مهما الدنيا أخدت مني، لسه فيه حضن أمان ألجأ له.”
توقف قليلًا وكأن أنفاسه أثقلته، ثم تنهد وأكمل بصوتٍ أهدأ:
“المهم… السنين عدت، وتقدري تقولي إني اتأقلمت على غيابه… أو تقريبًا اتأقلمت، لحد ماجت تاني كسرة… اللي رجعتني للصفر، وفاة ماما.”
ارتعشت شفتاها للحظة، كأن ذكرى الوجع طعنها هي أيضًا، فأومأت بخفوت وقالت:
“آه… كنت في الكلية ساعتها، فاكرة.”
أومأ هو بدوره، وصوته غرق في بئر حزن قديم:
“مظبوط… كان عندي عشرين سنة، موتها جه فجأة… من غير استعداد، من غير ما تلحق تودعني، كسرني كسر مختلف عن اللي قبله… كسرة خلتني أعيش وأنا حاسس إني مكشوف.. بس تعرفي إيه اللي وجعني أكتر من موتها نفسه؟”
رفع عينيه إليها ببطء، وفي صوته ارتجاف خفي، اعتراف لا يُقال إلا مرة:
“إني بقيت لوحدي… فعلاً لوحدي.”
سكت للحظة كأنه يحاول أن يضبط أنفاسه، ثم أكمل بصوتٍ تغلّفه مرارة لا تُخفى:
“بقيت أنا لوحدي في البيت الكبير ده… البيت اللي كان مليان صوت وضحك وبقايا حياة، فجأة بقى فاضي، بارد.. كنت لما أرجع من الكلية أو الشغل، ألاقي نفسي بدخل على جدران ساكتة، مافيش حد يستقبلني، ولا ضحكة تستناني، ولا حضن يقوللي “حمدالله عالسلامة”.. حتى التفاصيل الصغيرة… مابقاش في حد يسألني عنها.. كنت أقعد على السفرة لوحدي، وآكل بسرعة عشان ماحسش إن الأكل ملوش طعم وأنا قاعد كده في عزلة.”
ابتسم ابتسامة باهتة أقرب للوجع، ثم حرّك يديه كأنه يصف فراغاً:
“اتعلمت أتعامل مع الوحدة غصب عني… ١٢ سنة كاملة، عشتهم هنا… مع الجدران والذكريات… آه، عبير عمرها ماقصرت، كانت بتحاول بكل قوتها توازن بين بيتها وبيني، ساعات كانت تسيب داود وموسى وتيجي تقعد معايا في إجازتي، تطبخلي بإيديها، وتضحك معايا كأني لسه طفلها… كانت بتتعب أوي … ومع ذلك ماقصرتش.”
صمت قليلًا، ثم أردف وهو يطرق بنظره إلى الأرض:
“وعمي محمد وداود؟ برضه ماكانوش سايبيني، دايمًا عزوماتهم مفتوحة، وتجمعاتكم كل جمعة كنت حاضر فيها… حسسوني إني من العيلة بجد، ماحدش فيهم خلاني غريب… بالعكس كانوا بيقربوني. بس جوه قلبي… كنت دايمًا حاسس إني مش منهم تمامًا… إني تقيل عليهم، إني مجرد… أخو مرات ابنهم.”
رفع عينيه إليها ببطء، في نظراته مزيج من العتاب والخجل الداخلي:
“والله العظيم ماحد منهم في مرة حسسني بده… بالعكس، كانوا بيحتووني… بس أنا… غصب عني، كنت بحس إني زايدد وده أصعب إحساس… إنك تكون وسط ناس بتحبك بجد، بس جواك صوت بيقولك: أنت مش منهم.”
ظلت دلال تتابعه بعينين تلمعان بالدموع، تتألم معه وكأنها عاشت وحدته معه بكل تفاصيلها.
أما هو فرفع يده يمررها على لحيته الخفيفة، كأنه يستجمع ما تبقى من شجاعته ليكمل، ثم قال بصوتٍ هادئ متثاقل:
“بس عمري ما أنكرت إن كنت برتاح وأنا وسطكم… وسط العيلة. كنت بحس بالدفا في حضنكم، معاكِ ومع عبير وإخواتك، ومع الكل… بس زي أي لحظة حلوة، كان ليها نهاية. اللحظة ما بتطولش… كنت برجع هنا من تاني، للبيت الفاضي.”
تنهد وهو يزيح نظره بعيدًا وكأنما يتأمل تلك الجدران الصامتة التي كانت شاهدة عليه:
“كنت بدخل من باب الشقة اللي تحت، وأقعد على الكنبة… أفتح التلفزيون وأمثل إني مركز، لكن بعد عشر دقايق ألاقي نفسي ممدد ونايم مكان ما قعدت، وصوت التلفزيون في الخلفية، بيديني إحساس إني مش لوحدي… مع إني كنت.”
ابتسم ابتسامة باهتة، ممزوجة بمرارة الذكريات:
“والأيام كانت بتتكرر كده، بنفس الرتم.. لو عندي سفرية أخلصها، أرجع أقعد معاكم في النهار، أضحك وأتكلم مع داود في الورشة، ومع موسى لما كان ييجي يونسني… وبالليل أرجع لنفسي تاني.. أرجع للوحدة. فضلت ١٢ سنة على الحال ده، أيام بتعدّي من غير روح.”
ثم التفت إليها، وصوته هذه المرة خرج أدفأ، كأنما يشكر الله:
“لحد ما دخلتي إنتِ حياتي، وإنتِ لوحدك… قضيتِ على الوحدة اللي فيها.”
مد يده إليها، قبض على أصابعها برفق كأنه يتمسّك بالحياة ذاتها، ثم قال بصوت ممتزج بالدفء والصدق:
“مهما حاولت أتكلم… عمري ما هقدر أوصفلك شعوري وأنا داخل البيت وعارف إنك مستنياني. اللحظة دي بالنسبة لي أكبر من مجرد رجوع… دي حياة. وأنا طالع السلم، كل خطوة بتبقى مليانة حماسة، عارف إني بقرب من أدفأ حضن في حياتي. عارف إن البيت مش هيستقبلني بصمته القاسي زي زمان… البيت هيستقبلني بيكِ إنتِ.”
ارتجف صوته قليلًا وهو يثبت عينيه في عينيها، فوجد فيهما بريقًا خاصًا لم يره في أي مكان آخر، بريقًا أعاد إليه نفسه الضائعة، ثم أضاف بصدقٍ يقطر من كلماته:
“أنا كنت تايه يا دلال… تايه زي الغريب اللي ماشي في الدنيا من غير ملجأ. بس يوم ما دخلتي حياتي… لقيت الملجأ، لقيت الوطن الحقيقي اللي قلبي بيدور عليه من سنين.”
رفع يدها في رفق، كأنما يتعامل مع أثمن ما يملك، ومال يطبع قبلة طويلة على باطن كفها، قبلة محمّلة بكل ما عجز لسانه عن البوح به.
وحين رفع رأسه إليها، كان في عينيه وهج صادق، وقال بصوت يفيض دفئًا وحنانًا:
“أنا حبيتك يا دلال… حبيتك حب عمره ما حسّيت بيه قبل كده.. إنتِ بقيتي وطني وموطني… الحضن الدافي، والونس، والنور اللي دخل حياتي وقضى على وحدتي للأبد.”
تجمّدت نظراتها عليه، وكأن الزمن توقف عند صدى كلماته، حتى بدا لسانها عاجزًا عن أن ينطق.
رمشت ببطء، فإذا بدموعها تتثاقل وتنساب على وجنتيها، لتفضح ما لم تستطع أن تعبّر عنه.. ولم تنتظر أكثر، بل اندفعت إليه بكل شوقها، لترتمي بين ذراعيه.
في تلك اللحظة، رفع هو ذراعيه ليحتويها بقوة، كأنه يحضن الحياة نفسها، وعيناه تلمعان بفرح نادر، فيما ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشرقة، ابتسامة رجل وجد أخيرًا وطنه بين يديه.
وبعد لحظات طويلة لم يشعر بها أي منهما، ابتعدت دلال قليلًا عن أحضانه، لتجده ما زال يطالعها بنظرة يملؤها الحب.. كان في عينيه بريق خاص، وكأن الدنيا كلها انحصرت في تلك اللحظة.
حرك نظره تدريجيًا نحو بطنها، ومد يده ليضعها عليها برفق شديد، ثم همس بابتسامة دافئة:
“والنهاردة النور بيزيد في حياتي… قريب لما أرجع البيت مش هلاقي حضن واحد، هلاقي اتنين مستنيني.”
ضحكت بخجل مغموس بالحب، ووضعت يدها فوق يده المستقرة على بطنها، ثم نطقت باسمه بصوت متأثر:
“طارق…”
رفع عينيه إليها، فالتقت نظراتهما وكأنها وعد غير منطوق، قبل أن تهمس من أعماقها:
“بحبك… أنا بحبك أوي، ومش قادرة أتخيل حياتي كانت هتكون شكلها إيه من غيرك.”
ابتسم ابتسامة هادئة وهو يرد:
“ولا أنا قادر أتخيل… كل الفضل بعد ربنا، يرجع لموسى.”
عقدت حاجبيها بدهشة وقالت:
“موسى؟!”
أومأ بخفوت، وصوته اختلط بابتسامة خجولة:
“آه… فاكرة لما قلتلك إني كنت محتار ومش قادر أحدد مشاعري تجاهك؟ وواحد صاحبي هو اللي فتح عيني… وهو اللي قالي إني مش شايفك كأخت ولا كصديقة، وإن اللي جوايا حب حقيقي… هو اللي شجعني أروح أتقدملك قبل ما أبوكي يوافق على العريس اللي كان متقدملك وقتها… صاحبي ده، اللي أنقذني من ضياع العمر.. كان موسى.”
طالعتْه دلال للحظة، عيناها متسعتان بدهشة وكأنها تبحث عن خيط يربط بين كلماته وحقيقة لم تستوعبها بعد، ثم همست بصوت مرتعش:
“أنت بتتكلم بجد؟”
ابتسم طارق ابتسامة هادئة، وهو يومئ:
“آه… أنا أصلاً معنديش صحاب غيره… هو وصحابه.”
رمشت بعجز، ثم تسللت الحيرة إلى ملامحها وهي تقول:
“طب… ليه ماقلتليش قبل كده؟”
أطرق قليلًا ثم رد بصوت منخفض:
“هو اللي طلب مني ماقولش… وأنتِ عارفة، ساعتها علاقتكم ماكنتش أحسن حاجة.”
ارتجف صوتها وهي تواصل:
“بس… ليه؟ ليه يعمل كده؟ وهو دلوقتي غيران منك أصلاً.”
تنهد طارق بعمق وأجاب بعد تفكير قصير، وهو يبتسم:
“يمكن علشان العريس اللي كان متقدملك كان من إسكندرية… فلما حس إن في أمل إنك تقبليه وتبعدي عنه، لقى إن خاله أولى بيكِ.. يمكن كانت نصيحته وقتها مش حب فيا… قد ما كانت خوفًا إنه يخسرك.”
تسللت ابتسامة مترددة إلى ملامح دلال، قبل أن تنفجر في ضحكة صافية خرجت منها بلا تكلّف، كأنها محاولة للتنفيس عن كمّ المفاجآت التي تلقتها في وقت قصير.
هزّت رأسها بين الضحكات وقالت وهي تضع يدها على صدرها:
“أنا مصدومة بجد… أخدت كمية مفاجآت دلوقتي ماخدتهمش في حياتي كلها.”
ابتسم طارق وهو يتابعها بعينين دافئتين، يراقبها كمن يحفظ لحظة ثمينة، ولما هدأت قليلًا، مد يده إلى كوب الماء أمامه وقدّمه لها برفق:
“خدي… اشربي شوية.”
تناولت الكوب منه، ارتشفت بعض الماء، ثم أعادته إليه وهو بدوره وضعه على المنضدة، لكن انتباهه عاد إليها حين سمعها تقول بابتسامة متأملة:
“الظاهر إني ماطلعتش عارفة كل حاجة عنك… أنت وموسى زي ماكنت فاكرة.”
زفر بخفة وكأنه يزيح ثِقلاً من صدره، وقال وهو ينظر إليها بصدق:
“آسف إني خبيت عنك كل ده، بس زي ما قلتلك… أنا شخص مش متعود يتكلم عن مشاعره.. بس أوعدك، مش هخبي عنك حاجة تاني.”
مدّت يدها لتقبض على يده بقوة، ونظرت إليه نظرة رجاء ممزوجة بحب:
“عايزاك توعدني إنك تفضل تفتح قلبك ليا… في كل حاجة.”
طالعها طويلًا وكأن الكلمات وحدها لا تكفي، ثم وضع يده الأخرى فوق يدها بحنان وقال:
“أوعدك… قلبي أصلًا ملكك من زمان.”
ضحكت بخجلٍ دافئ، ثم فتحت ذراعيها له فعانقته بقوة، ومالت برأسها على كتفه، بينما هو أغلق عينيه لحظة، ثم همس بصوت خافت، مليء بالامتنان:
“ربنا يخليكِ ليا… ومايحرمنيش منك أبدًا.”
ابتسمت ورفعت رأسها قليلًا لتقول بدفء:
“ويخليك ليا… ولابننا أو بنتنا اللي في السكة.”
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه، بينما رفعت هي عينيها إليه، تستشعر دفء كفه المستقر على بطنها كأنه يحيط حياتهما القادمة برعاية خفية، ثم سألته بصوتٍ خافتٍ، ينساب برقة:
“طب قولّي… نفسك ولد ولا بنت؟”
لم يتردّد، بل ابتسم ابتسامة هادئة، وكأن جوابه يخرج من يقين داخلي عميق:
“اللي يجيبه ربنا كله خير… بس أهم حاجة، يكون شبهك.”
في تلك اللحظة، كأن الدنيا توقفت قليلًا لتفسح لهما المجال أن يعيشان المشهد بكامل حضوره… ويا ويل قلبها حين لامست أذنها تلك الكلمات، ويا ويل قلبه حين قابل نظراتها الغارقة فيه.
تلاقت عيونهما في صمتٍ طويل، صمت لم يكن فراغًا، بل كان مكتظًا بالمشاعر، بالحب، بالامتنان، وبدهشة جميلة من أن يكون الإنسان محظوظًا إلى هذا الحد.
سعادة؟ لا، الكلمة بدت صغيرة وضئيلة أمام ما يفيض في داخلهما… فهناك شعور أوسع، أعمق، يشبه الاطمئنان الذي يسكن الروح حين تجد مأواها، ويشبه الفرح الطفولي الذي يلمع في القلب بلا تفسير.
كانا معًا، وكان كل ما حولهما يتلاشى، ولم يبقَ في الوجود سوى قلبين يخفقان على نفس الإيقاع، على وعد واحد، وعلى حبٍ واحد لا يشبه أي حب آخر.
_________________
في صباح اليوم التالي…
وقفت أمام المرآة في غرفتها، تعدّل آخر خصلات شعرها بأصابع دقيقة، تجمعها في كعكة مرتبة، تاركة خصلة تنسدل برقة على جانب وجهها فتزيد ملامحها نعومة.
حدّقت في انعكاسها لبرهة، وكأنها تستمد من تلك النظرة شجاعة ليوم جديد، ثم التقطت هاتفها ووضعت حقيبتها على كتفها، وغادرت الغرفة بخطوات واثقة.
تسلّلت إلى الدرج بخطوات هادئة، وأصوات الملاعق والأطباق وصلت إليها قبل أن ترى المشهد.
رفعت رأسها قليلًا لترى والدها جالسًا على رأس الطاولة، مهيبًا كعادته، يشارك زوجته وابنة أخيه ريناد وجبة الإفطار.
تنفست لحظتها بعمق، كمن يستعد لدخول مسرح اعتاد على تفاصيله لكنه مازال يثير بداخله رهبة قديمة.
تابعت خطواتها حتى وصلت إليهم، توقفت بجانب والدها وانحنت بخفة لتطبع قبلة حانية على وجنته، قائلة بصوت خافت يحمل دفئًا خاصًا:
“صباح الخير يا بابا.”
التفتت الأنظار نحوها، ورسم والدها ابتسامة دافئة على ملامحه، نبرة صوته محمّلة بمحبّة صافية وهو يجيبها:
“صباح النور يا قلب بابا… تعالي اقعدي افطري معانا.”
هزّت رأسها بلطف وهي تعدّل الحقيبة على كتفها، ثم أجابت بابتسامة صغيرة:
“لا، أنا متأخرة… وبصراحة مش جعانة، بألف هنا.”
تدخلت جنة بصوتها الهادئ الحنون، وهي تدفع كوب العصير قليلاً نحو ميرنا:
“طب اشربي عصير حتى.”
رفعت ميرنا عينيها إليها، ثم هزّت رأسها برفق وهي تجيب:
“لا… شكراً.”
بدت كلمتها حاسمة كالعادة، لكن جنة في النهاية اعتادت.
حوّلت ميرنا نظرها إلى والدها، ملامحها تلين على الفور، ابتسامة دافئة ارتسمت على شفتيها وهي تقول بصوت أقرب إلى الرجاء منه إلى الطلب:
“بابا… مامت كارم عزمتني على الغدا عندهم النهاردة، فكنت عايزة آخد إذن حضرتك.”
هنا لمعت عينا ريناد، رفعت حاجبها بخفة كمن يلتقط خيطاً خفياً في الكلام. أما توفيق، فقد استند قليلاً إلى ظهر الكرسي، ارتسمت على وجهه ابتسامة ذات مغزى، وهو يجيب بصوت هادئ، رتيب:
“أنا عندي خبر… كارم اتصل بيا وأخد إذني، وأنا وافقت، وقال كمان إنه عايز يكلمني في موضوع مهم، بس أنا قلتله نأجله لحد ماأرجع من السفر، ونبقى نتقابل كلنا زي ما طلب.”
ثم نظر إلى ابنته نظرة مباشرة، أعمق من مجرد حديث عابر، وأردف بابتسامة صغيرة تميل إلى الوضوح:
“وأعتقد… إنك عارفة هو عايز نتقابل ليه.”
حرّكت ميرنا عينيها إلى الأسفل بخجل واضح، وتجاهلت تماماً نظرات ريناد الفضولية، ثم رفعت رأسها بخفة وهي تومئ، وتتمتم بصوت يكاد يُسمع:
“آه… بس يفضل هو اللي يقولك.”
أطلق توفيق ضحكة قصيرة، وهز رأسه موافقاً:
“ومالو… يلا روحي قبل ما تتأخري.”
بادرت ميرنا بالقول وهي تتحرك من مكانها:
“عن إذنك.”
غادرت ميرنا بخطوات هادئة، تحمل في وقعها خجلًا ورقة، لكن صدى كلماتها الأخيرة ظلّ معلقًا في الهواء، يطرق على الأسماع أكثر مما ينبغي.
وخاصة ريناد، التي لم تُزح نظرها عنها حتى لحظة خروجها، راقبتها بعينين متسعتين بالترقب، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة بطيئة، ماكرة، راحت تكبر تدريجيًا حتى غدت علامة لا تخطئها عين… ابتسامة لم تكن سوى انعكاسٍ لفكرة خبيثة راحت تنضج داخلها في تلك اللحظة.
لكن جنة، بعينها اليقظة التي لم تُخدع يومًا بابتسامة أو كلمات منمّقة، التقطت ذلك فورًا، فأدارت رأسها إليها، وصوتها اللطيف جاء كسهم مقصود يخترق اللحظة:
“مش بتاكلي ليه يا رينو؟”
التفتت ريناد ببطء، وكأنها تستعيد وجهًا بريئًا كانت قد خبأته منذ لحظة، وابتسمت بلطف زائف وهي تجيب:
“باكل يا خالتو.”
نظرت إليها جنة نظرة طويلة، أومأت بعدها بخفوت، لكن تلك الإيماءة لم تكن عابرة؛ كانت نظرة صامتة محمّلة بمعانٍ واضحة، وكأنها تقول لها دون حاجة إلى كلمات: أنها تراها جيدًا… وتعرف نواياها أكثر مما تظن.
وحقًا، إن كان في هذا البيت من يعرف خفايا تلك الفتاة ويقرأها كما تُقرأ صفحة مفتوحة، أكثر من ميرنا ذاتها، فهي جنة.
كانت جنة تدرك تمامًا أن خلف الهدوء المرسوم ابتسامات مسمومة، وخلف النظرات البريئة التي تتعمد ريناد أن تُظهرها… دهاء دفين وخبث ينساب في خفاء، أشبه بسمّ بارد يتسرب دون أن يُشعر أحد.
_________________
مع مرور الوقت…
ألقت بجسدها على الأريكة بأريحية مفتعلة، وساقاها ممدودتان بتكاسل متعمّد، بينما أصابعها تنقر بخفة على شاشة الهاتف، وعيناها تلمعان ببريق فضول مشوب بالخبث.
ارتسمت على ثغرها ابتسامة مريبة، أشبه بابتسامة صياد قبل الانقضاض، ثم تمتمت بصوت خافت، فيه شيء من السخرية:
“تعالوا نشوف… مين كارم اللي سرق قلبها ده.”
تسللت كلماتها إلى فضاء المكان وكأنها وُجهت لشبح غير مرئي يشاركها مؤامرتها الصغيرة.
راحت تتصفح بتركيز شديد صفحة ميرنا على تطبيق “الانستجرام”، لتتوقف أنفاسها للحظة عندما وقعت عيناها على صورة، صورة لميرنا تقف بجوار كارم في حفل خطوبتهما، ابتسامتها الهادئة تضيء وجهها، وملامح كارم توحي برجولة وهدوء أثارا في ريناد شيئًا غامضًا، ربما دهشة، وربما شيئًا آخر أكثر عمقًا.
ضيّقت عينيها تتفحّص ملامحه بدقة، وكأنها تحاول تفكيك تفاصيله، تقرأ في قسمات وجهه ما لا يُقال، وما لا يُكتب.
وبعد لحظات، ارتفعت زاوية شفتيها بابتسامة جانبية، باردة، متلاعبة، ثم همست بالإنجليزية ببطء:
“Amazing.” رائع
وكان في نبرتها من السخرية بقدر ما فيها من الإعجاب؛ كأنها تعترف بما تراه دون أن تفقد أسلوبها اللاذع.
لكن فضولها لم يتوقف عند هذا الحد، إذ دفعتها غريزتها للتوغل أكثر، فانتقلت إلى قائمة المتابعين الخاصة بميرنا، تفتش وكأنها تبحث عن سر مدفون. ولم يطل الأمر حتى وقعت عيناها على الحساب الذي يحمل اسم “كارم”.
بلمسة خفيفة فتحت صفحته، لتغرق في بحر من الصور؛ صورة له في حفل خطوبته بجانب ميرنا، وأخرى في زفاف أحد أصدقائه وقد بدا أنيقًا في بذلة رسمية، وصورة ثالثة يمتطي فيها الخيل بكبرياء، وصور عديدة أخرى تكشف جوانب مختلفة من حياته، بين سفرٍ وضحكٍ ولقطات عفوية.
كانت تتنقل من صورة إلى أخرى بتمعن بارد، وكأنها لا تكتفي بالنظر، بل تلتهم تفاصيله التهامًا، تقرأ ملامحه كما لو كانت كتابًا مفتوحًا، والابتسامة على ثغرها لم تفارقها، بل كانت تتسع كلما زادت دهشتها مما تراه.
مالت برأسها قليلاً، وتمتمت بنبرة تمزج بين السخرية والاعتراف:
“واضح إن ذوقك بقى أحلى بكتير… not bad at all (ليس سيئاً على الإطلاق).”
ضمت شفتيها بتفكيرٍ بارد، بينما أصبعها يتنقل على الشاشة في بطءٍ محسوب، حتى توقفت فجأة، وارتسم ذلك البريق الخبيث في عينيها، اللمعة التي لا تخطئها العين حين يوقظ بداخلها شيطان الدهاء فكرة جديدة.
ما إن لمعت الفكرة حتى انتقلت بأناملها إلى خانة
المراسلة
، توقفت للحظة، كأنها تزن الأمر أولاً، لكن ثوانٍ قليلة كانت كافية لتنسف التردد، فابتسمت ابتسامة جانبية صغيرة، وبدأت تكتب:
“هاي… ممكن نتعرف.”
رسالة قصيرة، عابثة، لكنها بالنسبة إليها أكثر من مجرد كلمات؛ كانت أشبه برمية حجر صغيرة في ماء راكد، بانتظار أن ترى كيف ستتسع دوائرها.
ضغطت على زر الإرسال، وأغلقت الهاتف ببرود لافت، كأن الأمر لا يستحق لحظة تفكير بعدها.
ألقت الجهاز إلى جوارها على الأريكة بعدم اكتراث، ثم تمددت مسترخية، يداها خلف رأسها، وابتسامة ماكرة تتسع شيئًا فشيئًا على ثغرها.
ثم همست لنفسها بدهاء، بصوت بالكاد يُسمع:
“خلونا نشوف… زي اللي قبله ولا لأ.”
كانت نبرتها تحمل مزيجًا من التحدي والسخرية، وكأنها تدخل لعبة جديدة تعرف جيدًا كيف تُشعلها وتُبقيها مشوقة.
_________________
في جهة أخرى…
كانت الغرفة يغمرها ضوء أبيض هادئ، ينعكس على وجهها المستلقي على الفراش، بيننل عيناها متعلقتان بالشاشة الصغيرة أمامها، حيث تنبض الحياة لأول مرة بوضوح.
جلست الطبيبة على مقعدها القريب، عيناها مثبتتان على الجهاز وهي تشرح بهدوء، بينما أصابعها تتحرك بخبرة على الأزرار.
أما هو، فكان واقفًا إلى جوارها، يحتضن يدها بين كفيه بقوة، وعيناه مثبتتان على الشاشة، يراقبها بترقب وحب لا حدود له، كل خفقة تظهر هناك تنعكس على ملامحه باندهاش صادق، كأنه طفل يرى معجزة لأول مرة.
هي بدورها، كانت تشعر بحرارة كفيه تحيطها بالأمان، وتلتفت بين الحين والآخر لتراه، فتجده غارقًا في لحظة أكبر من أن تُوصف، تلمع دموعه على أطراف جفونه لكنه لا يمسحها، فقط يتركها هناك… لتشهد على عظمة تلك اللحظة.
ارتجف قلبها وهي تسمع صوت النبض يتردد في الغرفة كأنما يعلن عن حياة صغيرة بدأت تنبض داخلها، بينما هو شدّ على يدها أكثر، وصوته خرج مبحوحًا، مرتعشًا بالفرحة والرهبة معًا:
“ده… ده ابننا، يا دلال.”
ابتسمت ابتسامة باكية، دموعها انسابت على وجنتيها وهي تردّ بخفوت مبحوح:
“آه يا طارق… دي أعظم لحظة في حياتي.”
لمحت الطبيبة ملامحهما المليئة بالذهول والسعادة، فابتسمت برفق قبل أن تقول بصوت هادئ لكنه يحمل مفاجأة مدوية:
“الحقيقة… ده مش ابنكم.”
التفتا إليها معًا بدهشة، مزيج من الاستغراب والقلق يشتعل في نظراتهما، لتتابع الطبيبة بابتسامة واسعة:
“دول اتنين… توأم، كل واحد في كيس، واللي سمعتوه حالًا هو نبض قلبين.”
وفي لحظة، تجمّد الزمن بالنسبة لهما…
وضعت هي يدها المرتجفة على فمها، وكأنها تعجز عن استيعاب الصدمة الجميلة، وعيناها تلمعان بدهشة وانبهار، فيما هو انحنى قليلًا للأمام، عيونه تتنقل بين الشاشة ووجه الطبيبة وملامح زوجته التي غمرتها الدموع، ثم انفجر بضحكة باكية خرجت رغماً عنه، ضحكة امتزجت فيها كل معاني الامتنان والفرح.
ثم تمتم وهو يقترب منها أكثر، صوته يخنقه البكاء والدهشة:
“يا.. ياالله!… اتنين يا دلال… اتنين… توأم.”
أومأت بسرعة، وكأنها تخشى أن يخذلها صوتها أمام فيضان مشاعرها، ثم همست بصوت مرتجف من شدّة الفرح:
“الحمد لله… دي هدية من ربنا يا طارق.”
ارتعشت ملامحه وهو ينظر إليها، أومأ بخفوت، وعيونه تلمع بدموع الفرح، دموع صافية نزلت من عمق قلبه، تمامًا كما تلمع الدموع في عينيها.
كانت اللحظة أكبر من الكلام، أكبر من أي وصف أو تفسير؛ لحظة خُلقت لتبقى محفورة في قلبيهما إلى الأبد.
وعلى الشاشة الصغيرة، انعكس النبض بانتظام، نبضان يترددان كأنهما أنشودة حياة، نبضان يملآن الغرفة بدفء غير مرئي… كأن قلبين صغيرين قررا أن يشاركا والديهما الفرح ذاته، ويؤكدا أن الحياة من الآن ستتسع مرتين، وستزهر أكثر مما كانا يتخيلان.
_________________
“إيه؟! توأم؟! يعني إيه توأم؟!”
انفجر السؤال من فم موسى بصوت مرتفع وسط الجلسة، بينما العائلة كلها كانت متجمعة في شقة الجد بعد أن دعاهم طارق ليزفّ الخبر.
وكالعادة، كان رد فعل موسى الأكثر غرابة وإثارة للضحك…
ارتفعت ضحكات الجميع، وغطّت دلال وجهها بكفها من شدة الضحك، قبل أن ترفع عينيها لطارق، الذي استغل الموقف ليزيد الأمر إثارة وقال وهو ينظر مباشرة إلى موسى:
“آه يا سيدي… توأم، يعني اتنين، ممكن ولد وبنت، أو بنتين، أو ولدين… الله أعلم، بس الأكيد إنهم اتنين.”
اتسعت عينا موسى وكاد فمه يسقط من مكانه وهو ينقل نظره بين خاله وعمته بدهشة لا مثيل لها، حتى انتفض فجأة واقفًا يهدر:
“اتنين؟! يعني بجد اتنين؟! عملتها إزاي دي يا خالو؟!”
وهنا انفجر الجميع بالضحك، حتى محمد نفسه لم يستطع منع نفسه من القهقهة، فيما قال داود وسط نوبة ضحكه:
“رايح فين يا بني؟!”
لكن موسى لم يلتفت، إذ تحرك بخطوات مسرعة نحو الشرفة، وهو يلوّح بيده قائلاً:
“رايح أكلم فيروز… أشكي لها همي.”
زاد ضحك العائلة أكثر وأكثر، حتى غمرت البهجة أرجاء الغرفة، وكأن الخبر لم يضاعف فرحة طارق ودلال وحدهما، بل ألقى بظلاله على الجميع.
شبكت دلال ذراعها بذراع طارق، ونظرت له بعينين تلمعان بالمحبة وهي تقول مازحة وسط الضحكات:
“شايف؟ فِرح أكتر منك.”
التفت إليها طارق، وابتسامة دافئة ترتسم على وجهه، ثم هز رأسه ببطء وهو يجيبها بسخرية لطيفة:
“واضح… واضح، فرحته وصلالي لهنا.”
ضحكت دلال أكثر وهي تميل برأسها قليلاً نحوه، بينما هو ظلّ ينظر إليها نظرة تحمل كل ما في قلبه من حب وامتنان، قبل أن يعود بنظره إلى العائلة التي لا يزال صداها يتردد في المكان، فيشعر أن تلك اللحظة تحديدًا هي الذكرى التي ستظل محفورة في روحه، كأجمل ما جادت به الأيام.
_________________
وموسى، ذلك الذي انسحب من دوامة ضحكات العائلة، وقف في الشرفة يتنفس هواءً مختلفًا، كأنه يريد أن يشارك فرحته على طريقته الخاصة.
أمسك هاتفه، وضعه على أذنه، وما إن التقط صوت فيروز حتى تدفق الخبر من قلبه قبل لسانه، محمّلًا بكل ما تحمله الفرحة من معنى:
“دلال حامل في توأم يا فيروز.”
توقف صوتها على الجهة الأخرى، وانقطع خيط حركتها فجأة… كانت تمسك بوسادة على الفراش، لكن يدها تراخت فسقطت بجانبها، وارتفعت الأخرى تلقائيًا تغطي فمها، وخرجت منها هتفة مبهورة:
“بجد؟! أنت بتتكلم بجد يا موسى؟”
أجاب بصوت تغمره الحماسة والصدق:
“بجد والله يا روح موسى… لسه عارف الخبر حالًا.”
ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة، وارتعشت أنفاسها بين الفرح والدهشة، قبل أن تقول بحماس طفولي:
“ثانية واحدة…”
أبعدت الهاتف عن أذنها، وفتحت الرسائل بسرعة، عينان تتنقلان على الشاشة، لتتنهد بعدها بدهشة وضحكة خفيفة:
“طلعت بعتلنا على الجروب… بس أنا ما شفتش علشان انشغالي.”
ابتسم موسى من الجهة الأخرى، ابتسامة امتزجت فيها المودة بالفخر، وقال برقة:
“ولا يهمك يا روحي… أديكِ عرفتي مني، مش كده أحلى؟”
ساد بينهما صمت قصير مليء بالشعور، حتى همست هي بصوت يفيض سعادة:
“أنا مبسوطة أوي علشانهم يا موسى.”
أجاب بصوت هادئ لكنه مشبع بالأمل:
“وأنا كمان مبسوط أوي… دلال وطارق يستحقوا الفرحة دي… عقبال ما نفرح إحنا كمان.”
لمعت عيناها ببريق خاص، وقالت بخفوت يملأه الدعاء:
“يارب…”
_________________
في جهة أخرى…
ولجت إلى منزلها بخطواتٍ تنبض بالبهجة، خطواتٍ كأنها تجرُّ خلفها أثر اللحظات التي عاشت دفئها قبل قليل.
كان على وجهها إشراق لا يُخفى، ابتسامة هادئة لكنّها صادقة، تعكس ارتياحها الذي مازال عالقًا من وجودها مع عائلته.
وبينما مازالت تتلمس تفاصيل اليوم في ذاكرتها، جاء صوته عبر الهاتف، قريبًا، دافئًا، يلفّها بعناية:
“وصلتِ؟”
ابتسمت لا إراديًا، وكأن مجرد سماع صوته يبدّد كل تعب الطريق، فأجابت بخفوت:
“آه، لسه داخلة البيت.”
قال بنبرة محمّلة بالاطمئنان:
“طب الحمد لله… حبيت أطمن عليكِ، وأتمنى بس يكون اليوم عجبك.”
صعدت الدرج وهي تمسك الهاتف بقوة أكبر، كأنها تخشى أن ينقطع صوته، وقالت بحماس طفولي جميل:
“تحفة، كان تحفة بجد يا كارم… مامتك طيبة أوي، وباباك عسول، وضحى بقى حاجة تانية خالص… ماتتوصفش.”
ساد لحظة صمت قصيرة من طرفه، صمت فيه ابتسامة لم ترها لكن شعرت بها، قبل أن يقطعها بنبرة مشاكسة تحمل بين طياتها خبثًا محببًا:
“وطب وأنا؟… ماليش في الحلو نصيب؟”
توقفت ميرنا في منتصف السلم، قلبها يسبق خطواتها، وعيناها تلمعان بابتسامة لا تقل دهشة عن فرحة، لتجد نفسها بين خجلٍ لذيذ، وضحكة مكتومة تكاد تفلت رغمًا عنها…
وفجأة، أتاها صوته من الطرف الآخر، يحمل تلك النبرة المشاكسة التي تعرفها جيدًا:
“اضحكي… ولا أبعتلك سيجارة كمان مرة.”
لم تتمالك نفسها، فانفجر ضحكها خفيفًا، عفويًا، صادقًا، كأنه جاء ردًّا تلقائيًا على دفء مزاحه.
صمت هو لحظة يستمتع بصوتها قبل أن يبتسم بدوره ويضيف:
“بالمناسبة… عملتِ إيه في السيجارة الأولانية؟”
دفعت ميرنا باب غرفتها برفق، وعيناها تلتقطان على الفور المشهد أمامها؛ هناك، فوق المنضدة القريبة من فراشها، حيث وضعت السيجار بعناية، ممدودًا على حامل أنيق، كأنه قطعة من ذكرى باقية لا تُلمس إلا بحب.
مالت ابتسامة على شفتيها وهي تقول بصوت يقطر دفئًا ورقة:
“احتفظت بيه في مكان قريب مني… ويليق بيه كهدية منك.”
انفجر ضحكه بقوة وهو يعود للخلف في مقعده في شرفته، يهز رأسه في دهشة ممزوجة بالسعادة:
“لا لا لا… كده كتير على قلبي بجد… إنتِ عملتي فيا إيه يا بنت الناس؟”
كانت تسمع ضحكته كأنها تعبر إليها مع نسمات الليل، فتغمرها بالسكينة، بينما يدها تمد لتلتقط السيجار بين أناملها، تتحسّس حروفه التي خطّ عليه، وكأنها تلمس شيئًا من قلبه، لتجد نفسها مبتسمة في صمت، غارقة في أثره الذي تركه فيها دون أن يدري.
ولم تنتبه ميرنا لظلٍّ كان يتسلل منذ لحظة دخولها البيت، ظلٌّ تجسّد في ريناد التي وقفت خلف باب الغرفة، تراقبها بعيون متحفزة، كذئب يترقّب الفريسة.
ثم تحرّكت بخطوات محسوبة، كل حركة فيها مدروسة، نحو غرفتها الخاصة… هناك، حيث ألقت نفسها على الفراش بلا اكتراث، مدت يدها بخفة، التقطت هاتفها، وفتحت الشاشة بابتسامة زائفة تحمل مزيجًا من الفضول والخبث.
ثم همست لنفسها وهي تسحب زر القفل:
“خلينا نشوف… أستاذ كارم رد عليا بإيه؟”
تتابعت أصابعها على الشاشة بخفة، تقلب الرسائل، تبحث بين المحادثات وكأنها تنتظر لحظة انتصار.
لكن سرعان ما انعقد حاجباها بقوة، تجمدت ابتسامتها، حين لم تجد أي رد…
لم يفتح الرسالة حتى…
ساد الصمت لحظة قصيرة، تبعتها بتمتمة ضيقة:
“معقول… ماشفهاش؟… ولا ليكون…”
توقفت في منتصف الجملة، أصابعها تعاود الحركة على الشاشة بعصبية مكبوتة، حتى وقعت عيناها على الحقيقة القاسية.
ارتفعت ضحكة ساخرة من صدرها، قصيرة، لاذعة، وهي تردد بمرارة ممزوجة بالاستفزاز:
“عملي بلوك… بجد؟”
طالعت الشاشة مجددًا، عيناها مثبتتان على اسمه المدون أعلى المحادثة، ذلك الاسم الذي بدا وكأنه يشتعل أمامها، يثير غيظها أكثر مما يثير فضولها.
مالت برأسها قليلًا على كتفها، ابتسامة باردة تسللت إلى ثغرها وهي تهمس بصوت منخفض كأنها تخاطب نفسها:
“لا… كده يبقى معجب بجد… ومخليها مبسوطة.”
توقفت لحظة، والابتسامة تتسع ببطء، قبل أن تهز رأسها نافية وتضيف بنبرة تنضح بالغلّ:
“وأنا… أنا مش بحب أشوفها مبسوطة.”
تركت الهاتف من يدها على الفراش، ثم أسندت جسدها إلى الوسادة، تتأمل السقف بعينين يملؤهما بريق خبث، وقالت كأنها ترسل رسالة مباشرة لميرنا الغائبة:
“ميرنا… حبيبتي… ماينفعش تفرحي… علشان أنا… ما أزعلش.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة ملتوية، باردة كابتسامة المنتصر الذي وضع خطته الأولى، وكأنها للتو وضعت حجر الأساس للعبة قاسية… لعبة لا يخرج أحد منها كما دخل.
________________
_
بعد ثلاثة أيام…
ولج كارم بصحبة والده ووالدته إلى البيت، حيث كان توفيق وزوجته جنة، وميرنا بالطبع، في انتظارهم.
التقت الأعين بحرارة، وتعانقت الابتسامات بودّ صادق، صافحوا بعضهم بحرارة تُشعر كل من يراهم أن ما يجمعهم أعمق من مجرد تعارف منذ أسابيع قليلة.
رفع توفيق يده مرحبًا وهو يقول بصوت مفعم بالترحاب:
“اتفضلوا من هنا.”
تحركوا جميعًا معه نحو الصالون، بأجواء يكسوها الدفء، ورغم هدوء الابتسامات التي علت وجوههم، إلا أن هناك عاشقًا واحدًا لم يستطع أن يخفي اضطرابه… كارم، الذي كان يحاول جاهدًا أن يحبس نظراته المتلهفة عن ميرنا، تلك التي جلست وقد بدا عليها من الرقة والجمال ما يسلب العقل… رقة جعلته يقسم في داخله أنه كل يوم يقع في حبها أكثر مما سبق.
لكن اللحظة الرقيقة لم تكتمل كما أراد…
فما إن همّوا بالجلوس، حتى قطع الجو صوت خطوات قادمة من جهة الدرج، تلتها نبرة أنثوية خرجت متعمدة بنغمة واثقة، تتشح بمسحة اصطناع:
“هاي!”
توقفت الأعين عند مصدر الصوت، والتفتت الرؤوس في آنٍ واحد… لتظهر ريناد، واقفة عند مدخل الصالون، بابتسامة واسعة قد يُخدع بها من لا يعرفها، لكنها بدت لميرنا ولجنّة تحديدًا كابتسامة خبيثة تُخفي وراءها الكثير.
ابتسم توفيق وهو يرفع يده مرحبًا بها:
“أعرّفكم… دي ريناد، بنت أخويا الكبير.”
خطت ريناد خطوات محسوبة، وملامحها ترتسم بابتسامة هادئة، ثم مدت يدها أولًا نحو والدة كارم، فصافحتها فاطمة برفق وبسمة مجاملة لا أكثر.
ثم التفتت إلى والده، الذي اكتفى بإيماءة سريعة ورسمية دون أن يمد يده، فانعكس على ملامحها ارتباك عابر سرعان ما أخفته بابتسامة مصطنعة.
وأخيرًا، استدارت نحو كارم، ونظرتها تحمل شيئًا مختلفًا، ثم مدت يدها أمامه، وألقت بكلمة صغيرة بنبرة تحمل خيطًا من الثقة والرقة المصطنعة:
“أهلاً.”
لكن كارم لم يمد يده…
ظل يطالعها للحظة، وكأن في عينيه بريق شكٍّ غامض، قبل أن يضيق جفنيه قليلًا ويقول ببطء، ونبرته تحمل تساؤلًا حقيقيًا لكنه مشوب بالحذر:
“هو… احنا اتقابلنا قبل كده؟”
#يتبع….
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.