رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثامن والخمسون
الفصل الثامن والخمسون(وجه مفاجئ)
نتفاعل ياحلوين فضلاً💙
______
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
____________
–
وما في الأرضِ أشقَى من محبٍّ
وإن وجدَ الهوى حُلوَ المذاقِ
تراهُ باكياً في كلِّ حينٍ
مخافةَ فرقةٍ أو لاشتياقِ
”
قيس بن الملوح
”
__________________
“عمي مصطفى!”
توقف مصطفى في منتصف خطاه، التفت ببطء نحوه، وعيناه تحملان مزيجًا من الاستفهام والهدوء.
وفي تلك اللحظة، نهض أدهم من مكانه دفعة واحدة، وكأن القرار قد اتُخذ بداخله دون رجعة، ثم قال بصوتٍ خافت في بدايته لكنه ما لبث أن اكتسب وضوحًا:
“ممكن أسألك حضرتك سؤال؟”
اقترب منه مصطفى خطوة، وأومأ بتشجيع:
“أكيد… اتفضل.”
تردد أدهم قليلًا، عيناه تهربان إلى الأرض وكأنه يبحث عن الكلمات بين ثنايا السجادة، ثم رفع نظره في النهاية، وفي صوته ارتعاشة خفية لا يلحظها إلا من يعرفه جيدًا:
“هو… حضرتك… ليه ما اتجوزتش بعد ماما؟”
سؤال مباغت، كأنه حجر ألقي في ماء راكد منذ سنين… أصاب مصطفى بالدهشة للحظة، لكنه لم يكن غريبًا عنه تمامًا؛ فقد كان يتوقع أن يأتي يوم يُطرح فيه هذا السؤال، وربما من أدهم تحديدًا.
ورغم هذا الاستعداد الصامت، باغته الارتباك، فانعكس التوتر في ملامحه، في نظرة عينيه التي تشتت للحظة، وفي اليد التي انقبضت ثم تراخت.
لاحظ أدهم هذا التغير، ذلك الارتباك الذي لم يعتد أن يراه على ملامح مصطفى، فابتلع ريقه في حرج، وكأنه يحاول أن يبرر اقتحامه:
“عارف إني فاجأت حضرتك بسؤالي… وجايز ماكنش ينفع أسأله دلوقتي… بس بصراحة، عندي فضول أعرف… ليه ما اتجوزتش؟ ليه ما كونتش عيلة زي ما ماما عملت؟”
توقف لثوانٍ، كأن قلبه يطرق على صدره بانتظار رد لم يعرف إن كان يود سماعه أو يخشاه، ثم أضاف بنبرة أكثر هدوءًا، لكنها كانت مثقلة بصدق لا يقبل المواربة:
“ماما قالتلي إنك فضلتوا سنة بس متجوزين… يعني كان ممكن تتجوز بعد كده، وتبتدي من جديد… ممكن أعرف ليه؟”
خيم الصمت بينما، صمت ثقيل كأن جدران الغرفة التزمت به بدورها… ولم يقطعه سوى مصطفى الذي أطرق رأسه أولًا، ثم أطلق تنهيدة خافتة، وكأنه يفرغ من صدره حملاً ظل يضغط عليه لسنوات.
رفع نظره إلى أدهم، وصوته بدا متماسكًا في مظهره، لكنه كان يحمل ارتعاشة دفينة لا يخطئها من ينصت جيدًا:
“أنا… أنا خدت تجربة مع والدتك، وفشلت فيها، فمحبتش أجرب تاني.”
توقف لحظة، ثم بلل شفتيه السفلى في محاولة لتجميع كلماته، وأكمل بوضوح أكبر، كأنه يريد أن يضع النقاط كلها فوق الحروف:
“بمعنى أوضح… أنا ما لقيتش نفسي في الجواز، واكتشفت مع الوقت إني مبسوط وأنا لوحدي… التجربة دي مش بتاعتي.”
كان كلامه صريحًا، لا غبار عليه في ظاهره، لكن خلف الكلمات كان ثمة ما يشبه الستار السميك، طبقة أخرى من الحقيقة تتوارى هناك، لا يريد أن يزيحها أو يسمح بلمسها.
بدا كمن يخشى أن تُفتح أمامه فجوة قد تبتلع صموده كله، أو تكشف عن جرح ظل يخبئه طويلاً تحت طبقات الصمت والتعود.
أما أدهم، فقد ظل يحدق فيه بصمت، يتأمل تفاصيل وجهه في محاولة لفك شيفرة ما وراء الكلمات، وقد اندهش من إجابته، اندهاش امتزج بشعور غامض لم يستطع أن يسميه؛ ربما كان تساؤلًا، وربما شكًا بأنّ ما قاله ليس كل ما عنده.
لكن الدهشة لم تكن حكرًا عليه وحده؛ موسى أيضًا، الذي كان قد خرج من المطبخ قبل لحظات، وقف متسمّرًا عند العتبة، وقد التقط مسامعه ما دار بينهما.
توقف عند الباب، عيناه تتنقلان بين أدهم ومصطفى، وقلبه يتقلب بين الدهشة والتساؤل… ولو لم يكن يعرف خلفية القصة، لكان صدّق تمامًا ما تفوّه به عمه، بعد أن سمعه وهو يتحدث بهذا الثبات
.
تنهد موسى بثقل، ثم تقدّم بخطوات محسوبة نحو الطاولة ليكسر حدة الصمت المعلق في الهواء.
وضع طبقًا من الحلوى أمامهما وقال بصوت متعمد فيه قدر من الحيوية:
“ها؟ عملت إيه يابطل؟”
قالها وهو يثبت نظره على أدهم، محاولًا سحبه من الدوامة التي أغرقه فيها حديث مع مصطفى.
ابتسم أدهم بخفة واعتذار، وكأنّه يستجيب لهذا المخرج الذي منحه إياه موسى:
“فاضلي حاجات بسيطة.”
هز موسى رأسه مشجعًا، ثم جلس إلى جوار أدهم، يمد يده نحو الطبق وهو يحاول أن يضفي شيئًا من العادية على اللحظة المشحونة:
“طب يلا اقعد، كمل، وكُل يلا.”
التفت بعدها صوب عمه مصطفى، وصوته هذه المرة بدا أكثر هدوءاً:
“اتفضل معانا ياعمي.”
ابتسم مصطفى ابتسامة باهتة، ابتسامة بدت كظل لا حياة فيه، ثم قال بصوت خافت، قصير الحروف:
“لا، شكراً… بألف هنا أنتم.”
لم يزد شيئًا، اكتفى بإيماءة صغيرة كأنها علامة انسحاب مدروس، ثم استأذن بخطوات هادئة واتجه إلى الشرفة حيث يجلس والده.
وفي أثناء مغادرته، كانت نظرات موسى وأدهم تلاحقه بلا كلمة، كأن كليهما يقرأ شيئًا خلف هذا الانسحاب، شيئًا لم يُصرّح به مصطفى.
بقي الصمت للحظة، صمت مثقل كأنه يضع حاجزًا بين خروج مصطفى وبين عودة الجو إلى طبيعته، قبل أن يلتفت موسى نحو أدهم، ليكسر الحاجز ويعيده إلى مهمته:
“يلا يابطل… كمل.”
أومأ أدهم برأسه طاعةً، ثم أعاد تركيزه إلى الحاسوب أمامه، بينما ظل موسى متردد النظرات، قبل أن يرفع عينيه من على الشاشة لبرهة، ليتبع بطرفه طيف عمه الجالس في الشرفة، يطالع ملامحه المبتعدة بنظرة مبهمة.
_________________
مع مرور الوقت…
كان حبيس غرفته كعادته، كأن جدرانها صارت له حصنًا يحتمي به من ضوضاء الخارج، أو ربما قوقعة يلوذ بها ليخفي شيئًا عن أعين الآخرين.
جلس في هدوء، يمرر بين أصابعه كتابًا يقرأه بعينين غارقتين في السطور، لا يقطعه سوى تنفسه الرتيب وانقلاب الصفحات المنتظم، كأن الزمن في هذه الغرفة يسير بإيقاع أبطأ من خارجه.
لكن فجأة، تسلل صوت طرقات خفيفة على باب الغرفة، رفع الأخير رأسه ببطء نحو الباب، وعيناه خلف عدستي النظارة الرفيعتين تعكسان شيئًا من الضيق الممزوج بالفضول، قبل أن يقول بصوته المبحوح الهادئ:
“اتفضل.”
تحرك مقبض الباب ببطء، ثم ظهر موسى، يطلّ برأسه، ثم قال بصوت خافت:
“ممكن أدخل؟”
أومأ مصطفى وأشار له بالدخول، وفي حركة عفوية نزع نظارته، ووضعها داخل صفحات الكتاب بعناية كأنها علامة سرية ليعود إليها لاحقًا، قبل أن يردد:
“تعالى.”
خطا موسى إلى الداخل، وفي اللحظة ذاتها وضع مصطفى الكتاب على المنضدة الصغيرة إلى جواره، ثم مد يده إلى نظارته الأخرى، تلك المخصصة للرؤية القريبة، وارتداها ببطء.
جلس موسى على طرف الفراش، يحاول أن يبدو مرتاحًا لكنه ظل مترددًا في جلسته، كأن الحديث القادم لا يزال يبحث عن صيغة مناسبة.
التفت إليه مصطفى بنظرة مباشرة، نظرة فاحصة لكنها محايدة، وسأله بصوت لا يحمل إلا فضولًا جافًا:
“أدهم مشي؟؟”
أجاب موسى وهو يحك عنقه بلا وعي:
“آه… مشي من شوية.”
صمت مصطفى للحظة، ثم سأله مجدداً:
“أنتَ كمان هتمشي… ولا هتبات هنا الليلة دي؟”
تنحنح موسى قليلًا، ثم رد وهو يحاول أن يبدو عابرًا:
“همشي كمان شوية، علشان هنتجمع أنا والشباب… بس قبلها كنت عايز أتكلم مع حضرتك.”
ارتجف بريق خافت في عيني مصطفى، لكنه سرعان ما خفض بصره، كأنه يحاول إخفاء انفعال لم يرغب في الاعتراف به.
مرر أصابعه على طرف النظارة، ثم قال ببطء وبنبرة فيها قَطع:
“مش عايز أتكلم يا موسى.”
رفع موسى رأسه قليلًا، وكأنه يقاوم ثقل الكلمات، ثم أجاب بصلابة خجولة:
“بس أنا عايز أتكلم يا عمي.”
ساد الصمت، لحظة بدت وكأنها مواجهة غير معلنة… مصطفى يشيح بنظره في محاولة لصدّ الباب، بينما إصرار موسى يتصاعد، يملأ الفراغ الثقيل بينهما.
تمتم مصطفى باسمه بصوت منخفض، فيه رجاء مبطن وصعوبة دفينة:
“موسى…”
لكن موسى لم يتراجع، بل انحنى قليلًا للأمام، وصوته حمل تلك النبرة التي لا تقبل الانطفاء:
“عمي… لازم نتكلم، لازم حضرتك تتكلم.”
في تلك اللحظة، تلاقت العيون أخيرًا…
كانت نظرات مصطفى حائرة، كأنها محاصَرة بجدران ماضيٍ لم يبرأ، بينما عيني موسى تشتعلان برغبة في كسر الصمت، في اختراق ذلك الجدار السميك الذي أقامه عمه حول نفسه.
تنهد مصطفى طويلًا، كأن صدره ضاق بما يحمله من ثِقل قديم، ثم أدار بصره بعيدًا عن وجه موسى، عيناه تائهتان في نقطةٍ بعيدة على الجدار، وصوته هادئ لكنّه محمّل بما يشبه الانكسار:
“بص يا موسى… أنت لسه صغير مهما كان، ومش هتفهم الدنيا دي ماشية إزاي.. بس اللي لازم تعرفه وتفهمه… إن اللي كان بيني وبين شمس انتهى.. انتهى من زمان، ومفيش حاجة بينّا… ولا هيكون.”
ظل موسى يطالعه صامتًا، ملامحه لا تحمل اعتراضًا صريحًا بقدر ما تحمل إصرارًا على الغوص أعمق، ثم انحنى قليلًا إلى الأمام وقال بنبرة أثقل:
“طب… ممكن تجاوبني على السؤال اللي سألهولك أدهم؟ وتقولي ليه ما اتجوزتش بعد خالتو شمس؟”
تحركت أصابع مصطفى بتوتر على ذراع المقعد، ثم رفع عينيه نحو موسى بسرعة كأن السؤال وخزه:
“أنت سمعت الإجابة.”
ابتسم موسى ابتسامة قصيرة، لكنها لم تكن ساخرة، بل أشبه بابتسامة من يعرف أن ما قيل ليس كل شيء:
“أنا حابب أسمعها تاني… بس المرة دي عايز الإجابة اللي بجد.. السبب الحقيقي.”
طالعه مصطفى بحدةٍ خافتة للحظة، وارتجفت أنفاسه قليلًا قبل أن يجيب بصوت هادئ، لكن تحت سكونه كان هناك ارتطامٌ داخلي لا يخطئه السمع:
“عايزني أقولك إني ما اتجوزتش بعدها علشان لسه بحبها؟… ده اللي عايز تسمعه.”
نظر موسى مباشرةً في عينيه، وصوته جاء قصيرًا، صريحًا، كأنه ضربة:
“آه.”
سكت مصطفى ثانية، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة مشوبة بمرارة وقال:
“بس كده هبقى بكدب عليك.”
لم يمنحه موسى فرصة ليستعيد أنفاسه، بل عاجله بصوتٍ حاد كأنّه يواجهه بحقيقةٍ ظلّ يهرب منها طويلًا:
“لا مش بتكدب… إنت لسه بتحبها يا عمي.. نظراتك، تصرفاتك، حتى سكوتك… كل حاجة فيك بتقول إنك لسه بتحبها.. إنت طلقتها حتى وإنت بتحبها.”
تجمد وجه مصطفى لحظة، وارتفع حاجباه بدهشة لم يستطع إخفاءها، كأن قلبه انكشف أمامه فجأة، ثم رد بنبرة اعتراضية مرتبكة:
“ده كلام فاضي من دماغك… وبس.”
لكن موسى لم يتراجع، بل اقترب خطوة بعينيه وكلماته معًا، كأنّه يسحب من عمه الاعتراف عنوة:
“لأ… مش من دماغي وبس، إنت فعلًا كنت بتحبها لما طلقتها، لما اتغيّرت معاملتك معاها… لما تعمدت تبعدها عنك وتتعامل معاها بقسوة، لحد ما هي بنفسها طلبت الطلاق… إنت اللي دفعتها تعمل كده بإرادتك.. عملت كده علشان ما تبقاش أناني… وما تحرمهاش من حقها… من إنها تكون أم يا عمي.”
تسمر مصطفى في مكانه، كأن الأرض شدّت قدميه وأبت أن تتركه يفرّ، وكأن كلمات موسى اخترقت جدار صمته الذي بناه طوال السنين.
بدا وجهه شاحبًا، وارتجفت عيناه كمن يصارع دموعًا ثقيلة تستعصي على الانحدار. ارتفع صدره وهبط في أنفاس متقطعة متلاحقة، بينما صوته الداخلي يصرخ أكثر مما يفعل الخارج.
بينما أضاف موسى بصوت متوتر لكنه متمسك بالوضوح:
“الحقيقة يا عمي… إنك خلتها تطلب الطلاق منك، مش هي اللي اختارت كده بإرادتها… حضرتك اللي دفعتها… لما عرفت إنك ما بتخلفش، تغيّرت، قسيت عليها، علشان تخليها هي اللي تاخد القرار… علشان ما تبقاش أناني، وتحبسها في حياة ناقصة.. لكن وأنت بتعمل ده… كسرت نفسك، وكسرت قلبك معاها.”
ظل مصطفى يحدق فيه بعينين مشدوهتين، كأن الزمن توقف فجأة، قبل أن تترجف يده ببطء وتُرفع نحو وجهه، ينزع نظارته بعصبية مرتجفة، ويضغط أصابعه على عينيه في محاولة يائسة لستر ما انكشف.
ثم خرج صوته خافتًا، مبحوحًا، أشبه باعتراف واعتذار مهزوم:
“عـ… عرفت إزاي؟”
أجابه موسى بثبات، كأن الكلمات تخرج من داخله محمّلة بوصية ثقيلة:
“سِتّي _الله يرحمها_ هي اللي قالتلي… قبل ما تتوفى بفترة، حكتلي وقالتلي إن ده سر ماحدش يعرفه غيرها، وإن عليّا أحتفظ بيه زيها، بس… ماقدرتش أفضل ساكت وأنا شايف حضرتك كده.”
ارتجفت ملامح مصطفى، ومدّ يده ليمسح وجهه بتوتر، كأنما يحاول أن يُخفي وراء حركة عابرة اضطرابًا يفضحه كل نفسٍ يخرج منه.
ألقى نظرة زائغة إلى الأرض، ثم رفع رأسه بصوت مثقل بالدهشة والمرارة:
“نفسي أفهم… ليه جدتك كانت بتقولك كل حاجة؟”
ابتسم موسى ابتسامة خفيفة، وحرك كتفيه ببساطة، وهو يقول:
“معرفش… لما تروح لها بقى ابقى اسألها.”
طالعه مصطفى نظرة طويلة، ثم أطرق رأسه فجأة، كأن الحمل صار أثقل مما يحتمل، ومد يده المرتجفة يمسح وجهه مجدداً، يخفي بها ارتباكه، بينما اخترق صوت موسى الهادئ الصمت:
“أعتقد بقى… مابقاش ليها لازمة إنك تخبّي مشاعرك يا عمي.. اعترف… وقول إنك لسه بتحبها.”
كأن الجملة كانت المفتاح الذي حطّم آخر ما تبقى من جدار صمته…
زفر مصطفى أنفاسًا ثقيلة، أطبقت صدره للحظة قبل أن يطلقها بتنهدٍ مثقل، ثم رفع عينيه نحو موسى، نظرة جمعت ما بين الانكسار والاعتراف، وقال بحدة لم تخلُ من صدق جارح:
“آه… بحبها، مفيش يوم عدى عليّا غير وأنا بحبها.. حاولت أنسى، حاولت أتخطى… وكنت فاكر فعلًا إني اتخطيت، بس أول ما شوفتها… مشاعري رجعت تاني، قلبي دق من تاني.. واتضح إني كنت بضحك على نفسي لما قلت إني هقدر أنساها.. أربع وعشرين سنة… وماقدرتش أنساها، ولسه… بحبها.. بحبها بجنون… وبعشقها.”
لم يكن صوته مجرد اعتراف، بل كان نزيفًا صادقًا خرج من أعماق رجل ظلّ يخبئ وجعه خلف جدار الصمت سنين طويلة.
زفر مصطفى أنفاسه ببطء، كأنها آخر ما تبقى في صدره من قدرة على المقاومة، ثم قال بصوت مثقل، حادّه كسكين وواهنه كأنين:
“بس الكلام ده مالوش فايدة خلاص يا موسى… الوقت فات على الكلام ده، هي دلوقتي عايشة حياتها مع ولادها… وأنا؟ أنا ماليش مكان، وماليش عين أروح أقولها ارجعيلي حتى.”
ارتجف صوت موسى وهو يهمس، بعاطفة لم يقدر أن يخفيها:
“بس… بس حرام عليك تتعذب كده يا عمي.”
ابتسم مصطفى ابتسامة واهنة، بلا ضوء، أقرب ما تكون إلى شق جرح قديم ينزف من جديد، وقال بنبرة تحمل في طياتها كل ما أخفاه العمر:
“ما أنا طول السنين دي بتعذّب… من اليوم اللي مسكت فيه ورقة التحاليل وعرفت إني مش بخلف، وأنا بتعذّب.. في كل مرة قولتلها كلمة كسرت قلبها علشان تكرهني… كنت بتعذّب.. في اللحظة اللي لقيت فيها نفسي وصلت لهدفي… يوم ما هي بنفسها طلبت الطلاق… كنت بتعذّب.. حتى اللحظة اللي شوفت فيها الخاتم في إيدها وعرفت إنها اتجوزت… اتعذّبت.. عمّك يا موسى بقاله سنين طويلة بيتعذّب… وأكيد اللي جاي… مش هيكون أوجع من اللي راح.”
كان صوته يتكسر في آخر الجملة، وكأن كل كلمة منه سقطت على صدره حجرًا أثقل من الآخر.
أما موسى، فظل يحدّق في عيني عمه المبللتين بالخذلان، وكأنه أمام رجلٍ لم يسقط مرة واحدة، بل ظل يسقط طوال عمره دون أن يمدّ له أحدٌ يده.
بلّل موسى شفتيه الجافتين، ثم قال بصوت رتيب يخالطه رجاء خافت:
“بس يا عمي… في أمل، جايز ربنا خلاكم تتلاقوا تاني، ويحصل كل اللي حصل ده… علشان في فرصة ترجعوا لبعض، وتصلّحوا اللي انكسر.”
ارتفع حاجبا مصطفى قليلًا، واهتز صدره بزفرة طويلة، ثم أدار وجهه كمن يخشى مواجهة سراب جميل، وقال بصوت منكسر فيه حزم اليائس:
“اللي انكسر… مستحيل يتصلّح يا موسى.. مفيش حاجة بتتصلّح بعد ما بتنكسر.”
ظل موسى يحدّق في عينيه، بعناد واضح، ثم قال بنبرة أدفأ، كأنه يتشبث بخيط ضوء من بين الركام، قال:
“ماشي… مش بيتصلّح… بس ممكن نجيب غيره. ممكن نبدأ من جديد يا عمي، تقدر تبدأ معاها من جديد.”
اهتزت شفتا مصطفى بابتسامة مُتعبة، ابتسامة لم تكتمل، تحمل في طياتها مرارة مَن يعرف أن الطريق مسدود، ثم أزاح بصره بعيدًا وقال بصوت مثقل بالخذلان:
“إزاي يا موسى؟… قولي إنت إزاي؟ هي هتوافق ترجعلي؟… ولادها هيوافقوا؟ أدهم… وعالية… عالية اللي سألتها قدامنا في المستشفى إذا كان ممكن يبقى في حاجة بينا ولا لأ. إنت شُفتها وقتها… وأكيد لاحظت طريقتها اللي بتقول إنها مستحيل تقبل يكون في حاجة بيني وبين مامتها. وحقها… حقها يا موسى.. محدش بسهولة يرضى إن حد ييجي وياخد مكان باباه.”
ساد صمت ثقيل لحظة، بدت كأنها دهور، قبل أن يترك مصطفى صوته ينخفض قليلًا، صوته الذي لم يعد يحمل حِدة الرفض، بل مرارة الاستسلام:
“أنا متفهّم إنك خايف عليّا… وشايل همّي، بس يا حبيبي… مش كل حاجة بنتمناها بناخدها.”
لكن موسى ظل يتشبث بعناده، رغم أنه أمام رجلٌ أثقلته الخيبات، رجل يعرف أن بعض الأبواب حين تُغلق… تُغلق إلى الأبد.
أخفض موسى عينيه للحظة، ثم رفع بصره نحو عمه وقال بصوت رتيب لكنه واثق، يحمل إصرارًا لا يتزعزع:
“بس أنا برضه لسه عندي أمل… عندي أمل إن في بداية جديدة، وهتكون حلوة… وبُكره تقول موسى قال.”
ترك كلماته تسقط بثقلها ثم نهض من مجلسه، وكأن قيامه إعلان يقين لا يحتاج لمزيد من الجدل.
“عن إذنك يا عمي… تصبح على خير.”
ولم ينتظر ردًا، مضى بخطوات ثابتة تُحدث صدى خفيفًا في الغرفة، حتى غاب أثره خلف الباب.
بينما ظل مصطفى جالسًا، عيناه معلقتان بالفراغ الذي تركه موسى وراءه… كانت الكلمات تتردد داخله كما لو أن الغرفة ضاقت عليه لتردها في أذنه من جديد.
تنفس بعمق، تنهد تنهيدة ثقيلة امتزج فيها إرهاق السنين مع رجفة داخلية لا يعترف بها، ثم ألقى بجسده إلى الوراء، مستندًا على ظهر الكرسي، ورفع كفيه ليمسح وجهه كأنما يحاول أن يمحو أثر تلك الكلمات، لكن صدى الأمل ظل عالقًا.
_________________
مع مرور الوقت….
“إيه؟”
انفجرت الكلمة من أفواه الثلاثة: موسى، حسن، ومحسن، متشابكة النبرة بين الاستنكار والدهشة، بينما حسين كان غارقًا في نصف وعيه، يطارد النوم بعناد، غير عابئ بما يُلقى أمامه من كلمات، حتى خبر كارم لم يحرك فيه ساكنًا.
أما كارم، فظل جالسًا بثبات بارد، كأن الأمر لا يستحق تلك الضجة، وقال بنبرة خالية من أي انفعال:
“مالكم يا رجالة؟ أنا بقولكم هتكتب الكتاب، مش هاخدها وأهرب… في إيه يعني؟”
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه موسى، وهز رأسه ببطء وهو يرد:
“الحمد لله إن سامي مش هنا… وإلا كنا دلوقتي بنشيله ونطلّع بيه على المستشفى.”
لم يمهل محسن اللحظة لتبرد، بل تدخّل متسائلًا بجدية:
“بعيدًا إن كلام موسى صح… بس إيه اللي خلاك تاخد الخطوة دي؟”
لم يتغيّر صوت كارم، ظل هادئًا، كأنه يستمد طمأنينته من قرارٍ حتمي:
“حسيت إن ده وقتها… كفاية تجاوزات لحد كده، علشان ربنا يرضى عنّا وعن علاقتنا… ولا إيه يا شيخ حسن؟”
انعطفت أعين الجميع نحو حسن، الذي قابل نظراتهم بابتسامة هادئة، وقال بصوتٍ ثابت:
“مفيش مشكلة في الخطوة دي طبعًا… بس قبل ما تاخدها، لازم تبقى عارف إن ده قرار مفيش رجعة فيه.. مش هينفع تيجي بعدين وتقول مش هكمل.”
ارتفع صدر كارم بزفرة طويلة، كأنه أزاح حملًا ثقيلاً، ثم أجاب بلهجة لا تقبل التردد:
“من الناحية دي ماتقلقش… ده أكتر قرار صح أخدته في حياتي، والتراجع عنه مستحيل… الموت أهون من البعد عنها بالنسبة لي.”
ابتسم حسن له بخفوت، ابتسامة تحمل شيئًا من الاطمئنان، فبادله كارم ابتسامة قصيرة لكنها صادقة، قبل أن يقطع اللحظة صوت موسى وهو يميل بجسده للأمام متسائلًا بفضول لا يخلو من القلق:
“طب… هي قالتلك إيه؟ وافقت ولا لأ؟”
تحركت عينا كارم نحوه ببطء، وظل صامتًا لثانية امتدت أطول مما ينبغي… في تلك اللحظة تسلل ذهنه إلى الوراء، إلى حيث الموقف الذي لا يزال محفورًا بداخله.
Flashback
كان ينظر إليها بجدية، عيناه مثبتتان على ملامحها المترددة… وقد عمّ الصمت بينهما كستار ثقيل
بعد أن ألقى عرضه عليها
.
لم يجد منها ردًّا، فاضطر أن يكسر الجمود بصوت خافت، نبرته متزنة لكن قلبه يضجّ بالانتظار:
“قلتِ إيه يا ميرنا… موافقة نكتب الكتاب؟”
ترددت للحظة، كأنها تستجمع شجاعتها بين كلمة وأخرى، ثم همست بنبرة أقرب للقرار:
“موافقة.”
Back
ارتسمت على وجه كارم ابتسامة خفيفة، وأجاب موسى بلهجة واثقة لم تحتمل أي شك:
“وافقت.”
ابتسم موسى له ابتسامة دافئة تحمل شيئًا من الرضا، بينما تدخل محسن بصوت هادئ، واثق:
“طب… هي هتقول لباباها؟”
أجاب كارم وهو يعتدل في جلسته، صوته خفيض لكنه حازم، وكأنه رتب كلماته مسبقًا:
“لأ… قولتلها أنا اللي هكلمه في الموضوع.. بس هو دلوقتي مضغوط في شغله، فمستني أول ما ييجي الوقت المناسب… وهافاتحه بنفسي.”
هز محسن رأسه بإقرار، وارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة وهو يردد:
“على بركة الله.”
انعكست ابتسامته على كارم، الذي وزع نظراته على الوجوه من حوله؛ وكأن قلبه أراد أن يقرأ في عيونهم الرضا قبل ألسنتهم.
لكن موسى، كعادته، لم يستطع كبح روحه الساخرة، فألقى تعليقًا عابرًا بنبرة خفيفة:
“ابقى بلّغ سامي إنت بقى.”
انفجرت ضحكاتهم في اللحظة ذاتها، صافية، متواطئة، حتى الهواء بدا أخفّ وهو يشاركهم الضحكة.. غير أن حسين بالطبع لم يلتفت، ظلّ نائمًا في مكانه بجمود، أعطاهم ظهره ببرود، وكأن ما يحدث لا يعنيه…
_________________
في جهة أخرى…
كانت مستلقية على الفراش الواسع في غرفتها، تلك الغرفة التي تشبهها في تفاصيلها؛ هادئة، ناعمة، يكسوها دفء أنثوي رقيق.. الألوان الفاتحة الممتدة على الجدران بدت وكأنها انعكاس لروحها، أو كما اعتاد هو أن يناديها…
بسكويتة
.
عيناها كانتا معلقتين بالسقف كأنها تبحث فيه عن إجابة، بينما أنفاسها تتردد بانتظامٍ هادئ يخفي اضطرابًا أعمق. رأسها لم يعرف السكون منذ أن نطق بطلبه منها، وكلماته لا تزال تتردّد بداخلها: عقد القران… خطوة جديدة، حاسمة.
نعم، وافقت… كان جوابها عفويًا، صادقًا، نابعًا من قلب أحبّه بصدق، قلب لا يريد سوى أن يكمل معه ما تبقى من العمر. لكن… ماذا عن الماضي؟ ذلك الماضي الذي أخفته عنه، وراكمته في صدرها كأسرار ثقيلة لا يقدر أحد على حملها.
“الكثير”… الكلمة دارت في رأسها بوقعٍ يثقل أنفاسها. لم يكن الأمر مجرد تفاصيل صغيرة عابرة، بل
الكثير
حقًا… ذكريات، أخطاء، وربما وجوه من حياتها لا يعرف عنهم شيئًا… فهل سيتقبّلها حين يعرف؟ أم سيهتز الأساس الذي تبنيه معه الآن؟
أغمضت عينيها لحظة، ثم فتحتها سريعًا، كأنها تخشى مواجهة الصور التي تزاحمت خلف جفونها.
هي تحبه، نعم، لكن بين الحب والحقيقة يقف جدار صلب من الصمت… صمتٍ تخشى أن ينهار يومًا على رأسها.
انتفض جسدها فجأة عن الفراش، كأنها تلقت طعنة غير مرئية، ثم جلست ودفنت وجهها بين كفيها، والزفرات الثقيلة تتساقط من صدرها كما لو كانت تحمل على كتفيها جبلاً لا يُزاح.
رفعت رأسها قليلًا، وعينيها تتعلقان بنقطة باهتة في الفراغ أمامها، وصوتها يخرج مهتزًا كأنها تكلّم نفسها:
“مابقتش عارفة أعمل إيه… المفروض أقوله… بس أقوله إزاي؟ مجرد التفكير بيتعبني… بيخنقني.. صعب أحكيله… وفي نفس الوقت… لازم أحكيله، مش هينفع أخبّي عنه حاجات زي دي.”
ارتجفت أصابعها وهي تمسح على وجهها، كأنها تحاول مسح الذاكرة نفسها، ثم أغمضت عينيها بتعب واستسلمت للحظة صمت، أعادت فيها وجهها لدفء كفيها.
كان الثقل أكبر من طاقتها، أثقل من قدرتها على التنفس بسلام…
إنه الماضي… ذلك الشبح الذي كلما حاولت أن تهرب منه، وجدته يسبقها بخطوة، يقتحم حاضرها دون استئذان. مجرد التذكر يكفي ليرجف جسدها ويزرع فيها ارتعاشة خوف، وكأنها تعيشه من جديد بكل تفاصيله، بكل ما فيه من وجع وكسر.
هي لا تريد أن تعود هناك…
لا تريد أن تُعيد على لسانها تلك القصص التي مزّقتها.. لا تريد أن تعترف بما كان، لأنها بمجرد أن تفعل… ستفتح جرحًا أظنّته اندمل.
لكنها تعلم أيضًا أن الصمت ليس نجاة… الصمت سجن، وأنها، عاجلًا أم آجلًا، ستضطر لمواجهته معه.
_________________
مع مرور الوقت…
فتح الباب بخطوات متثاقلة، كأن كل خطوة كانت تجر خلفها أثقال أيامه. لم يُبالِ حتى بغلقه جيدًا، فقط أزاحه بكسل وأغلقه دون اهتمام، ثم مضى إلى الداخل.
وبيد باردة نزع قبعته، رماها بلا اكتراث بجوار المفتاح على المنضدة في غرفة المعيشة، وكأن تلك الطاولة هي شاهدة على كل عوداته المنهكة.
وفي النهاية، أسلم جسده للأريكة، استلقى عليها كمن يهرب من فراغ داخلي لا يملأه شيء.
دار ببصره حول المكان… البيت غارق في الظلام، صامت حدّ الوحشة.. كل قطعة أثاث جامدة، كل زاوية كأنها تردد صدًى خافتًا لوحدته.
لماذا لا يكون مظلمًا؟ ولماذا تكون فيه حياة أصلًا؟ روحه ليست هنا… روحه ما زالت بعيدة عنه، عالقة في مكان آخر، في بلد أخرى.
نعم، هو يبالغ… قليلاً فقط.
لكن من يستطيع أن يلومه؟ لقد كسر وحدته بها ذات يوم، اعتاد أن يملأ صمت بيته بصوتها، أن يتقاسم معها تفاصيله الصغيرة… حتى صار حضورها جزءًا من ملامح المكان نفسه.
والآن، يعود وحيدًا، مجبرًا على مواجهة الفراغ الذي تركه غيابها.. على الأقل، في هذا المنزل فقط… هنا يشعر بالوحشة مضاعفة، لأن كل زاوية تذكّره بها، وكل ركن يعيد صدى خطواتها.
زفر موسى أنفاسه ببطء، ثم جلس على الأريكة.. مدّ يده بحذر، نزع حامل ذراعه المكسورة، ووضعه على المنضدة بجانبه، وكأنه يخلع عبئًا آخر لا يريد حمله هذه الليلة.
بعد لحظة صمت ثقيل، عاد ليستلقي على الأريكة، متمددًا كجسد أنهكته الأيام، فمنذ سفرها، صار هذا المكان فراشه الوحيد، وغرفتهما؟ لم يعد يجرؤ على الدخول إليها إلا مضطرًا… فقط ليرتدي ثوبًا نظيفًا، أو يبدّل ملابسه.
وهكذا استسلم لليلته على تلك الأريكة، لا نومًا هانئًا بل استراحة مرهقة يتخللها تقلب وأنفاس ثقيلة… أو بالأحرى، سيظل مستلقيًا حتى يوقظه أول خيط من الفجر، فينهض ببطء، يغسل وجهه بماء بارد ليتماسك، ثم يؤدي فرضه بخشوع صامت.. بعدها، يجلس أمام حاسوبه، يغرق نفسه بين الملفات والأرقام، وكأن العمل هو السبيل الوحيد الذي يلهيه عن هذا الفراغ.
_________________
بعد يومين…
خرج من شقة والده بخطوات عادية، ناويًا التوجه إلى الورشة حيث شقيقه.. لكن خطاه تجمدت فور أن اجتاز الباب بالضبط.
كانت هي، شمس، تهبط الدرج في تلك اللحظة نفسها، توقفت عندما وقع بصرها عليه، وكأن الزمن علق للحظة قصيرة بينهما؛ لا هو قادر أن يخطو، ولا هي قادرة أن تواصل النزول.
رفع عينيه نحوها، صوته خرج أخفض من المعتاد، وهو يقول:
“صباح الخير.”
ردت بخفوت، محاولة أن تخفي ارتباكها:
“صباح النور.”
صمته للحظة بدا ثقيلاً، قبل أن يسأل بنبرة أقرب للاهتمام الدافئ منها للحديث العابر:
“نازلة؟”
أومأت برأسها بخجل، وصوتها بالكاد مسموع:
“آه… هشتري شوية طلبات للبيت.”
تردد لحظة قبل أن يعرض:
“طب محتاجة مساعدة؟”
ابتسمت ابتسامة صغيرة سرعان ما تلاشت، وهزت رأسها نافية:
“لا، شكراً.”
أومأت برأسها بخفوت، ثم قالت وهي تتجنب عينيه:
“عن إذنك.”
استدارت لتنزل، لكن لم تكد تخطُ خطوتين حتى جاء صوته، مترددًا، متعثرًا كأنه يقاوم الصمت داخله:
“شمس…”
تجمدت في مكانها، كأن الكلمة ارتطمت بجدار قلبها قبل أن تصل لأذنها… التفتت نحوه ببطء، فوجدته يقترب بخطوات محسوبة، حتى صار واقفًا أمامها، مع ترك مسافة تكفي ليتحدث دون أن يجتاحها.
سكنت اللحظة بينهما، هو يلتقط أنفاسه وكأنها أثقل من الكلام، وهي تنتظر ما سيخرج منه… ثم أخيرًا، انساب صوته مترددًا، مشوبًا بما يشبه الحذر:
“هو أنتِ… حكيتِ للأولاد سبب انفصالنا؟”
ظلّت عيناها عليه لحظة، كأنها تزن وقع السؤال وصدقه، ثم تنهدت بخفة وأجابت:
“السبب الحقيقي؟ لأ…”
ترددت قليلًا قبل أن تتابع:
“قولتلهم إن ماكانش في توافق بينا… واكتشفنا ده بعد ما اتجوزنا، فاطلقنا.. أكيد مش هقولهم معاملتك ليا وقتها… مش هخليهم يشيلوا منك، وبالذات أدهم… اللي بيحبك وبيحترمك أوي.”
سكتت ثم أضافت بهدوء، وصوتها يتراجع لنبرة أقرب للهمس:
“فما تقلقش… صورتك لسه نظيفة في عيونه.”
سقطت كلماتها عليه بثقلٍ غريب، ليست قاسية لكنها بعيدة عن أن تكون رحيمة. ظلّ يحدّق فيها لحظاتٍ صامتة، كأن كل جملة نطقتها أعادت إليه شيئًا من صورته القديمة، تلك التي هرب منها وظنّ أنه دفنها مع الطلاق.
انخفضت عيناه للحظة، ثم ارتفع بصره إليها سريعًا وكأنّه يخشى أن تهرب قبل أن يلتقط شيئًا من ملامحها… وجدها واقفة بثبات، لا تحمل أي أثر لعداوة أو حقد، فقط نبرة هدوء صارمة كمن أنهى حساباته منذ زمن.
أخرج زفرة طويلة، وأبعد وجهه عنها كمن لا يقوى على مواجهة عينيها أكثر، ثم قال بصوت واطئ:
“تمام… فهمت.”
وأفسح لها الطريق لتنزل، بينما ظل واقفًا في مكانه يراقب خطواتها وهي تبتعد، بخطوات ثابتة لا تلتفت.
وعندما غابت عن ناظره تمامًا، رفع يده ليمسح على وجهه، كأنّه يحاول أن يزيح عن نفسه ثِقَلًا لم يعرف إن كان سيزول يومًا.
والأسوأ من كل ما شعر به، أنّه أراد أن يعتذر… أن يقول كلمة واحدة فقط تُخفّف هذا الثِقَل الجاثم على صدره، لكنه لم يستطع.. كأن بين لسانه وحلقه جدارًا لا يُهدم، وكأن الاعتذار أصبح ترفًا لا يُمنح له الآن بعد أن فات أوانه..
أطرق مصطفى رأسه، يئن تحت وطأة صمت ثقيل يكاد يُطبق على صدره، حتى اخترقه فجأة صوت مألوف، صافٍ ومندمج مع لحنه، يصدح على مقربة منه:
-ونروح ونسيب
ونقول ما حصلش نصيب
ونغيب والشوق لو يجي لأي حبيب
يفكره باللي اتنسى بعد ما جرحه يطيب…
رفع مصطفى رأسه بتثاقل، ليرى موسى يصعد الدرج بخطواتٍ هادئة، يدندن تلك الكلمات بإندماج، بينما نظراته مثبتة على عمه.
زفر مصطفى بقوة، كأنما يطرد من صدره كل الضيق، قبل أن ينفجر بحنق مكتوم:
“أنت بتطلعلي منين؟”
ابتسم موسى في وجهه، ورد بخفة معتادة:
“في البخت.”
زم مصطفى شفتيه، ثم عقّب بغلظة:
“بخت أسود… أنت يالا يافاضي، مش لاقي حاجة تعملها؟”
قهقه موسى بخفة وهو يرفع حاجبيه:
“آه… زي ما حضرتك عارف، مراتي مسافرة… فـ أنا مقضيها.”
رمقه مصطفى بنظرة ضيق قبل أن يتمتم ساخرًا:
“أقول إيه بس… يارب ترجع بالسلامة في أسرع وقت… علشان نرتاح منك.”
ضحك موسى، متجاهلًا حدّة نبرته:
“مقبولة منك ياعمي… يارب ترجع بأسرع وقت.”
هزّ مصطفى رأسه بيأس، ثم تجاوز موسى ونزل الدرج بخطواتٍ سريعة، محاولًا أن يتخلّص من ثقل اللحظة السابقة.
أما موسى، فظل يراقبه وهو يبتعد، يبتسم بمكر صغير قبل أن يعاود الغناء بصوتٍ أوضح:
-والفرصة التانية بنستناها
وأهو بنصلح غلطات
بعد ما عدنا الحسابات
حتى ولو مش قصديين…
ثم رفع صوته وهو يناديه ضاحكًا:
“بلمّح على فكرة!”
أما مصطفى فلم يلتفت، كأن صوته لم يطرق سمعه أصلًا، بل مضى في طريقه بخطوات سريعة، متعمّدًا أن يقطع أي خيط من خيوط الحديث.
و
موسى، فقط ظل واقفًا في مكانه، يتابع خطوات مصطفى وهي تتلاشى مع صدى السلم، ثم انفجر في ضحكة مكتومة، تتسع أكثر فأكثر، حتى غدت ضحكة صافية عالية، تملأ المكان كأنها إعلان انتصار صغير.
وقد أقسم في سره أنه لن يترك عمه يتخبط في هذا الصمت الثقيل، حتى لو اضطر أن يفتح الأبواب المغلقة بنفسه، سيكشف للجميع ما يعرفه، وأولهم شمس… لعلّها تسمع، تفهم، ثم تضع يدها على الجرح لتغفر.. ربما عندها فقط يعودا كلاهما كما كانا منذ سنوات.
_________________
في جهة أخرى…
جلست على طاولة الطعام، وحيدة، تتناول فطورها بصمت، وقد كان والدها مشغولًا في عمله منذ الليلة الماضية، وغابت حركته المعتادة عن البيت، فخيم الصمت على المكان، ورافق كل قضمة تتناولها كهدوءٍ يثقل على صدرها.
فجأة، اخترق هذا الصمت وقع خطوات قريبة، فرفعت رأسها ببطء لتلتفت، لتجد زوجة أبيها، جنة، تترجل بخفة من على الدرج.
كانت خطواتها رشيقة، وبسمة دافئة ترتسم على شفتيها، وقالت بهدوء، كنسمة صباحية:
“صباح الخير.”
أبعدت ميرنا وجهها عنها، وردّت باقتضاب:
“صباح النور.”
انزعجت جنة قليلًا من هذا التجاهل، لكنها اعتادت عليه، فابتسمت برفق، وجلست على المقعد المقابل لهاط ثم أضافت بابتسامة دافئة، محاولة تلطيف الجو:
“رايحة الشغل؟”
ردّت ميرنا دون أن ترفع عينيها:
“آه.”
ظل الصمت يلف الغرفة بهدوء، ثقيلاً لكنه لا يضايق، وكأنهما على ضفتين متقابلتين من نهر واسع، كلٌ منهما يراقب الآخر بحذر، واحدة تتوق للاقتراب، والأخرى تتراجع بلا إرادة.
ابتسمت جنة بخفوت، محاولة كسر الجليد ولو قليلًا، وقالت بصوت هادئ:
“امبارح زينب عملت ماكارون، تحبي تاكلي منه؟”
رفعت ميرنا عينيها نحوها للحظة، ثم خفضتهما مرة أخرى وأجابت باقتضاب، متجنبة أي محادثة أطول:
“لا شكراً، أنا شبعت.”
أنهت جملتها بهدوء، ثم نهضت من مكانها، مشيرة بخفة:
“عن إذنك.”
غادرت، وظلّت جنة في مكانها، عيناها تتبعان كل حركة لها، صامتة، هادئة، كأنها تنتظر لحظة ستكشف كل شيء، لحظة قد تنكسر فيها الحواجز بينهما.. متى ستأتي؟ لا تعلم، لكنها ستصبر، قلبها متشوق ومستعد لكل احتمال.
وفي الخارج…
تقدمت ميرنا بخطوات متأنية نحو سيارتها، وضعت حقيبتها على المقعد برفق، ثم مدّت يدها لتفتح الباب وتجلس على المقعد الآخر، لكن فجأة توقف كل شيء، إذ جاء صوت سيارة متوقفه بالقرب منها، رافقه ارتجاج الهواء حولها وكأنه إعلان عن حضور غير متوقع.
التفتت بعفوية، معتقدة أنه والدها، لكنها توقفت فور أن التقت عيناها بوجه من ترجل أو ترجلت من السيارة، لحظة قصيرة تجمدت فيها ملامحها، ممزوجة بالدهشة والانزعاج….
#يتبع….
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.