رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الحادي والستون 61 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الحادي والستون

الفصل الحادي والستون(كل الانتظار انتهى)

الفصل الحادي والستون(كل الانتظار انتهى)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

-أظلُّها بعَطفِي حينَ تَشتدُّ نازلةٌ

كأَنني جِدارٌ وهيَ في ظِلِّ أركاني

الأحنف العكبري

_____________

“أعرّفكم… دي ريناد، بنت أخويا الكبير.”

خطت ريناد خطوات محسوبة، وملامحها ترتسم بابتسامة هادئة، ثم مدت يدها أولًا نحو والدة كارم، فصافحتها فاطمة برفق وبسمة مجاملة لا أكثر.

ثم التفتت إلى والده، الذي اكتفى بإيماءة سريعة ورسمية دون أن يمد يده، فانعكس على ملامحها ارتباك عابر سرعان ما أخفته بابتسامة مصطنعة.

وأخيرًا، استدارت نحو كارم، ونظرتها تحمل شيئًا مختلفًا، ثم مدت يدها أمامه، وألقت بكلمة صغيرة بنبرة تحمل خيطًا من الثقة والرقة المصطنعة:

“أهلاً.”

لكن كارم لم يمد يده…

ظل يطالعها للحظة، وكأن في عينيه بريق شكٍّ غامض، قبل أن يضيق جفنيه قليلًا ويقول ببطء، ونبرته تحمل تساؤلًا حقيقيًا لكنه مشوب بالحذر:

“هو… احنا اتقابلنا قبل كده؟”

سقطت الكلمات في الأجواء مثل حجر في بحيرة ساكنة؛ أحدثت دوائر من التوتر تسرّبت في وجوه الحاضرين.

كانت ميرنا، أول من ارتجف قلبها، عقدت حاجبيها باستغراب حقيقي، تنظر تارةً إلى كارم وتارةً إلى ريناد، غير مستوعبة ما الذي يقصده.

لكن وقع السؤال كان الأعنف على ريناد نفسها… كأنه سهم أصابها في مقتل، إذ في تلك اللحظة بالتحديد قفزت إلى ذاكرتها صورة الرسالة التي أرسلتها له منذ أيام من حسابها الوهمي!

تجمدت ملامحها للحظة، ثم ارتفعت حاجباها بارتعاشة خفيفة حين تذكرت الحقيقة المريرة: ذاك الحساب الوهمي لم يكن فارغًا تمامًا كما كانت تعتقد، بل صورة الملف الشخصي… صورتها.

نعم… لا بد أنه رآها.

لا بد أن تلك الصورة لامست عينيه، وإلا ما كان ليسألها الآن بهذه الطريقة التي تحمل أكثر من مجرد فضول.

انكمش صدرها من الداخل، وابتلعت ريقها بتوتر جاهدت أن تخفيه، وأنزلت يدها التي مدت للمصافحة ببطء، بينما عيناه المليئتان بالشك ظلّتا معلقتين بها، تسائل صامت يضغط عليها، يكاد يعرّي نواياها.

ولولا تدخل توفيق في اللحظة الحرجة، لانكشفت… إذ جاء صوته رتيبًا، كمن يضع نقطة فاصلة وينهي الجدل قبل أن يبدأ:

“ماظنش إنكم اتقابلتم قبل كده… خصوصًا إن ريناد عايشة في لندن مع مامتها.”

كانت كلماته بمثابة طوق نجاة ألقي إليها، فرفعت عينيها إليه سريعًا، ثم أعادت نظرها إلى كارم الذي ما زال يراقبها.

ذاك الذي ألقى نظرة جانبية قصيرة على توفيق، ثم عاد إليها، وعيناه لا تزالان متوجستين، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة باهتة، وهو يقول ببطء، لكن نبرته ظلّت تحتفظ بظلّ الشك:

“جايز… قابلت حد شبهها، من الآخر… يخلق من الشبه أربعين.”

ارتعشت شفتيها بإرتباك واضح، قبل أن تعلن عن ابتسامة خفيفة، واهنة، تحمل في باطنها أكثر مما تُظهر.

لم تُقنع تلك الابتسامة أحدًا سوى نفسها، بينما نظراته الثابتة _التي غرزها فيها كأنها مسمار في جدار هش_ جعلت توترها يتضاعف.

ولم يقطع هذا الصمت الثقيل سوى صوت توفيق، وهو يشير بيده في ودٍّ كي يغير مسار اللحظة:

“يلا اتفضلوا.”

عندها فقط، حوّل كارم عينيه عنه ببطء، ثم أومأ بخفوت كمن يضع نقطة في نهاية جملة لم تُكتَب بعد.

جلس إلى جانب والديه كما فعل الآخرون، متجاهلاً نظرات ريناد المرتبكة، التي ارتدت نحوه مرارًا، لكنه تجاهلها تمامًا، وكأنها غير موجودة.

وبدلًا من ذلك، نظر نحو ميرنا، وأرسل إليها إيماءة خفيفة ترافقها ابتسامة هادئة، تحمل معنى واحدًا واضحًا، وهو أن تطمأن.

كانت تلك الإشارة، بالنسبة لميرنا، كفيلة بأن تُبدد قلقها، بينما بالنسبة لريناد… كانت صفعة صامتة جعلت قلبها يهبط في صدرها أكثر.

_________________

في جهة أخرى…

صعدت بخطوات ثابتة إلى السطح، الهاتف بين يديها يلمع بضوءه الخافت، كأنها تبحث عن عزلة صغيرة تحت قبة السماء، حيث النجوم وحدها تصغي لها في هذا الليل الساكن.

الهواء العليل يداعب وجهها، والبيت بأكمله يغرق في صمتٍ ثقيل بعد أن خلت جدرانه من أهله… إلا هي.

لكن تلك الطمأنينة لم تدم طويلًا… إذ ما إن استقرت على بعد خطوات من الدرج، حتى تجمدت قدماها عند سماع أصوات مكتومة، متقطعة، كأنها شظايا حوار غاضب يتصاعد من خلف الجدار.

ارتفع الصوت أكثر، فارتجفت عيناها باتساع، ودار رأسها تبحث عن المصدر، وقد بدأ قلبها يخفق بوتيرة غير مألوفة؛ صوت شجار؟ أم صياح رجال يوشك أن ينفلت؟

انصتت أكثر، خطواتها المرتبكة قادتها إلى السور، تقترب على وجل، بخطوات بطيئة لكنها مدفوعة بالفضول والخوف معًا. وما إن تقدمت قليلًا حتى توقفت وشَهقت شهقة مكتومة.

بدا المشهد أمامها كقطعة من فوضى جامحة: حسين مستقر على الأريكة بإصرار، يداه متشبثتان بثياب محسن، بينما الأخير فوقه مباشرة، يقبض على خصلات شعره بعنف، يجره إليه كما لو كان يريد انتزاع اعتراف بالقوة.

عروق عنقه بارزة، وصوته يهدر كالرعد في صمت الليل:

“يالا… إنت مستفز كده ليه؟ ده مكاني!”

لكن حسين، وعلى الرغم من الوضع المهين الذي بدا فيه، ردّ بسخرية لاذعة:

“كان متسجل في الشهر العقاري باسمك ولا إيه؟”

ازداد غضب محسن حتى بدا كبركان على وشك الانفجار، ترك شعر حسين فجأة ليقبض بكفه الغليظة على رقبته، ثم هزّه بعنف، عينيه تشتعلان شررًا وصوته يخرج من بين أسنانه كالزئير:

“هــمـوتـك يا لا… هــمـوتـك!”

اختنق صوت حسين، محاولاته للتملص لم تزد الموقف إلا حدة، بينما أنفاسه تتقطع تحت وطأة القبضة المحكمة.

أما هي، الواقفة خلف السور، فقد تجمد الدم في عروقها، ثم تراجعت خطوة… ثم أخرى، كأنها تحاول إقناع نفسها بأنها لم تر شيئًا، لم تسمع شيئًا، وأن الأمر كله محض وهم عابر.

لكن لسؤء حظها اختل توازنها فجأة، كادت أن تسقط لولا أن استندت بجزعها إلى الجدار، واندفعت من بين شفتيها صرخة قصيرة، حادة، اخترقت سكون الليل قبل أن تبادر بيد مرتعشة لتكمم فمها.

غير أن الأوان كان قد فات…

فالصرخة القصيرة كانت كافية لتشطر المشهد نصفين… كلاهما، محسن وحسين، جمدت حركتهما للحظة، التفتت أعناقهما في وقت واحد، نظراتهما تلاقت على وجهها المذعور.

عيناها المتسعتان التقتا بعينيهما الغاضبتين، لحظة خاطفة لكنها بدت كدهر يثقل صدرها.

حبست أنفاسها كمن غاص فجأة في بحر مظلم، ثم تراجعت للخلف بسرعة، تتظاهر كأن شيئًا لم يحدث، وكأنها لم تكن شاهدة على تلك الفوضى العارمة.

تلاحقت خطواتها، ثم تحولت إلى هرولة متوترة نحو السلم، وفي صدرها خليط غريب من ارتباك وارتعاش مكتوم، حتى أن ضحكة قصيرة متقطعة أفلتت منها رغماً عنها.

أما أعينهما، فقد بقيت معلقة في الفراغ من بعد رحيلها، يثقلها الإحراج والفضيحة أكثر مما يثقلها الصراع ذاته.

وفي لحظة خاطفة، استغل حسين صدمة محسن وجموده، فشد جسده للأمام ودفعه بكل ما تبقى في داخله من قوة مكبوتة، فارتد محسن للخلف بعنف، وهوى جسده ككتلة حجرية على الأرض.

ارتج المكان بوقع سقوطه، وانفلت منه صوت موجوع كأنّه تقيأ ألمه دفعة واحدة:

“ضهري يا ***!”

قبض محسن على ظهره بكلتا يديه، يتلوى وصوته يعلو بالأنين حتى كاد يهز المكان، فيما حسين اعتدل ببطء في جلسته على الأريكة، كمن لم يحدث شيء، عينيه نصف مغمضتين ببرود مستفز، وهو يطلق كلماته بهدوء كالسهم:

“تستاهل.”

تجمّد الأنين فجأة في حلق محسن، ليحل مكانه غضب متفجّر، رفع رأسه بحدة ورماه بنظرات مشتعلة، كأنها تكاد تفتك به قبل أن يفتك هو بجسده، ثم انقض عليه من جديد بعنف، قبضته تمسك بقميصه وتشدّه بعصبية، وصوته يجلجل في المكان:

“يا أخي أعمل فيك إيه؟! شكلنا إيه دلوقتي قدام البت؟!”

رفع حسين حاجبيه ببرود، وابتسامة جانبية لم تفارقه، ثم أمسك بيد شقيقه التي تعتصر قميصه، وحاول إبعادها ببطء، وهو يقول بخفة ساخرة:

“ولا حاجة… أنا مش فارق معايا شكلي في عينيها، بس إنت بقى… لو فارق معاك، أحب أقولك إن دي مش أول مرة تشوفك في موقف محرج زي ده.”

توقفت يد محسن في مكانها، وعقد حاجبيه وهو يسأله بارتباك:

“تقصد إيه؟”

خرجت ضحكة قصيرة ساخرة من حسين وهو يرفع صوته بلهجة ساخرة أكثر:

“ناسي ولا إيه؟ لما كنت صغير… وبوست الفرخة من بوقها قدامها.”

شهق محسن وهو يزيح يده بسرعة عن قميصه، وصاح بغضب ممتزج بالحرج:

“إنت كدّاب يا لا! أنا مش فاكر إن ده حصل.”

لكن حسين كان قد بدأ يضحك بحرارة، تلك الضحكة التي زادت نيران محسن اشتعالاً، فيما كلمات حسين تتناثر بين الضحكات:

“والله حصل، حتى اسأل حسن لو مش مصدقني، هو كان معانا وقتها.”

فرغ فم محسن من الصدمة، وبدت على وجهه علامات الذهول، قبل أن يبتعد ببطء عن شقيقه، الذي ازدادت ابتسامته اتساعًا وهو يميل نحوه قليلاً، وصوته مغموس بالسخرية:

“وبعدين مالك اتضايقت ليه؟… لتكون بترسم عليها يالا؟ دي كارم يخلص عليك فيها.”

شهق محسن بحدة، كأن الكلمة أصابته في مقتل، ثم انتفض واقفًا وهو يهدر بانفعال متلعثم:

“إنت بتقول إيه؟؟! بلاش عبط على المسا ياحسين… ضحى أختي! قال أرسم عليها قال… الفكرة بس إني بتحرج قدام أي بنت أصلاً.”

ظل حسين يراقبه بعينين نصف مغمضتين، كمن يستمتع باللعب بأعصابه، ثم عقد ذراعيه خلف رأسه واتكأ للخلف وهو يقول بخبث ثقيل:

“آه فهمت… بتحب تبقى الواد الكاريزما في عيونهم وكده… بس برضه، أحب أقولك إني لو بنت… مستحيل أبصلك.”

تجمّد وجه محسن مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يكن الغضب وحده الذي ارتسم عليه، بل خليط من الغضب والغيظ.

ثوانٍ قليلة كانت كافية قبل أن ينفجر فجأة وينقضّ على حسين من جديد، وصوته يهدر بحدة:

“يخربيت استفزازك يا أخي!”

انطلقت ضحكات حسين، عالية مستفزة، كأنها وقود يزيد النار اشتعالًا، بينما محسن يزداد انفعالًا مع كل ثانية، حتى بدا المشهد كله وكأنه تجسيد حيّ لحكاية أبدية بين أخوين… واحد يعيش ليستفز، وآخر يُولد ليفقد أعصابه أمامه.

_________________

على الجهة الأخرى…

“نكتب كتاب الأولاد.”

كانت الجملة قصيرة، لكنها سقطت على المجلس كحجر في بركة راكدة، فترددت أصداؤها في الأرجاء، وتجمّدت الأنفاس للحظة، وكأن الزمن نفسه توقف عند وقعها.

رفع توفيق حاجبيه بدهشة لم يستطع إخفاءها، وصوته خرج متلعثمًا:

“إيه؟… نكتب الكتاب؟ بالسرعة دي؟”

كانت عيناه تتحركان بين عبدالله الذي نطق بالطلب بثبات ووقار، وبين كارم الذي لم تغب ابتسامته لحظة، وبين ابنته التي احمرّ وجهها بخجل واضح، وارتسمت على شفتيها ابتسامة مرتجفة تحمل في طياتها فرحة دفينة، فرحة انتظرتها طويلًا.

وجنة، تلك التي كانت تجلس إلى جواره، لم تستطع إخفاء ابتسامتها هي الأخرى، ابتسامة صادقة أشرقت على محياها عندما التقطت لمعان السعادة في عيني ميرنا.

لكن على الطرف الآخر… كانت ريناد.

وجهها تجمّد فجأة، كأن الدم انسحب من وجنتيها دفعة واحدة، وعيناها اتسعتا بصدمة لم تستطع السيطرة عليها، وارتجفت أناملها وهي تقبض على هاتفها، تراقب المشهد بعينين يكسوهما الغليان الخفي.

رمش توفيق ببطء، وكأن الكلمات تُثقل جفونه، ثم أطلق تنهيدة قصيرة قبل أن يقول بصوت رتيب، يخلو من أي انفعال:

“ممكن أعرف السبب ورا الطلب ده؟”

لم يتأخر عبدالله، بل جاء رده سريعًا، بنفس الهدوء المتزن الذي يكسو ملامحه، كأنه أعدّ جوابه سلفًا:

“مفيش سبب معين… الفكرة ببساطة إن ابني مش عايز يشيل هو وبنتك ذنوب، عايز علاقتهم تبقى ربنا راضي عنها، حتى لما يخرجوا أو يتقابلوا يبقوا بحكم المتجوزين، ومايبقاش عليهم حرج.”

سكت توفيق قليلًا، عيناه تتحركان بين عبدالله ثم ميرنا فكارم، قبل أن تعود وتنغرس في الطاولة أمامه، وقد بدا وكأنه يقلب الأمر في ذهنه بعناية، والجو كله معلّق على قراره… جميع الأنظار مسمّرة عليه، كل نفس محبوس، ينتظر الكلمة التالية.

رفع بصره أخيرًا وقال بصوت متزن، يخفي خلفه ثِقل تفكير عميق:

“أنا متفهم حضرتك جدًا… بس خليني أقولك حاجة: هما لسه مابقالهمش كتير عارفين بعض. لو _لقدر الله_ حصلت مشكلة بينهم، هيبقى الحل الوحيد قدامهم هو الطلاق، وأنا مش عايز ده يحصل لبنتي… من وجهة نظري، الأفضل نستنى شوية، علشان يتعرفوا على بعض أكتر في فترة الخطوبة… علشان نتجنب حتى أي مشاكل ممكن تحصل بعد الجواز.”

تحركت يد عبدالله فوق ركبته بهدوء، وأومأ وهو يستمع، لكن نبرته حين تكلم حملت يقينًا راسخًا:

“المشاكل بعد الجواز طبيعية يا توفيق بيه… مفيش اتنين متجوزين ما بيتخانقوش، حتى لو كانوا مخطوبين سنتين ولا تلاتة… اللي عايز أوضحه، مش شرط اللي يتجوزا يكونوا عارفين بعض من زمان… الأهم إن يكون بينهم تفاهم… وابني وبنتك، ربنا يبعد عنهم العين، متفاهمين… وبيحبوا بعض.”

تلألأت أعين كارم وميرنا بكلماته الأخيرة، وانعكس الضوء في نظراتهما كوميض فرحٍ صامت.

على النقيض، تجهم وجه ريناد أكثر، ملامحها تنكمش شيئًا فشيئًا، حتى بدت وكأنها تجلس على جمر، كل كلمة تُصب فوق نارها وقودًا إضافيًا.

أما توفيق، فقد بدت على وجهه علامات التردد؛ ذلك التردد الثقيل الذي يُربك الأجواء ويُعقّد القرارات. رآه عبدالله بحدس الوالد الخبير، فارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة، مطمئنة، ثم التفت إلى كارم وميرنا، وصوته لا يزال محتفظًا بهدوئه الواثق:

“ممكن تسيبونا لوحدنا يا ولاد.”

تبادل الحاضرون النظرات بدهشة خفية؛ الطلب بدا غير متوقع، لكنه لم يُقابل برفض.

أومأ كارم أولًا، وكأن داخله فهم ما قصده والده، ثم نهض من مكانه بهدوء، وأشار لميرنا بيده كي تنهض معه، فوقفت بخطوات مترددة، يكسوها الاحترام، ثم أدار وجهه للكبار وقال بصوت وديع:

“عن إذنكم.”

تحرك معها نحو الباب بخطوات متسقة، أما ريناد فقد كانت عيناها تلاحقهما وهما يغادران، نظرة حارقة تكاد تفضح ما يختلج صدرها من غيرة وامتعاض.

لكنها لم تنعم طويلًا بمتابعة المشهد؛ إذ جاء صوت جنة لينتزعها من أفكارها، بنبرة لينة لكن ابتسامتها كانت مشحونة بمعنى آخر:

“معلش يا ريناد، سيبنا أنتِ كمان.”

حملت كلماتها البسيطة وقعًا قاسيًا، كأنها تُقصيها عمدًا من المجلس. رفعت ريناد عينيها إليها، فالتقت تلك الابتسامة الموحية، فحاولت أن ترد بابتسامة بدت بريئة، لكنها مصطنعة تمامًا، بينما عينيها تقولان كل ما لم تنطق به شفتاها.

أومأت ببطء، ثم دفعت بجسدها للوقوف، لتنسحب بخطوات محسوبة، قبل أن تدير ظهرها وتصعد للأعلى، تاركة الصمت يخيّم خلفها.

_________________

في الخارج…

كانت الحديقة ساكنة إلا من أنفاسهما المتلاحقة وخطواتهما التي بدت وكأنها تخشى كسر ذلك الصمت الثقيل.

سارا معًا على مهل، بينهما مسافة أمان صغيرة، كأنها حاجز غير مرئي يترجم خجلهما واحترامهما، لكنه في الوقت نفسه يعكس قربًا داخليًا لا يحتاج لخطوات ليُثبت وجوده.

توقفت ميرنا فجأة، كأن شيئًا اعترض قلبها لا طريقها، فتوقف كارم بدوره، التفت إليها بوجه متسائل وصوت هادئ:

“مالك؟”

خفضت عينيها بارتباك، وكأن الكلمات ثقيلة على لسانها، ثم تمتمت بنبرة باهتة لكنها مشحونة بالقلق:

“خايفة بابا مايوافقش.”

ارتسمت على ملامحه ابتسامة واثقة، لم تكن مجرد محاولة تهدئة، بل ابتسامة نابعة من يقين عميق، وقال بثبات مطمئن:

“لا ماتقلقيش، هيوافق.”

رفعت عينيها إليه مترددة، تبحث في ملامحه عن سبب تلك الثقة المفرطة، ثم سألت بصوت متوجس:

“إيه اللي مخليك متأكد كده؟”

هز كتفيه ببساطة، لكن نبرته ظلت تحمل قوة راسخة، وهو يجيب دون تردد:

“علشان ٣ على واحد ماينفعش، هيقتنع وهيوافق.”

تجعد جبينها بدهشة صغيرة، ورددت ببطء:

“تلاتة؟!”

ابتسم ابتسامة أكبر، تلك الابتسامة التي تمزج بين الدعابة واليقين، وقال:

“آه تلاتة… أبويا، وأمي، و… مرات باباكِ، جنّة.”

سكنت ملامحها لوهلة، وبقيت نظراتها معلقة به، لكنها مثقلة بالشكوك والدهشة، حتى أبعدت عينيها عنه قليلًا وقالت بصوت خافت:

“ماظنش إنها هتقنع بابا، ماأستبعدش إنها تخليه يرفض.”

أومأ برأسه ببطء، ونبرته تحمل ثباتًا لا يتزعزع:

“لا… أنا واثق إنها هتقنعه معاهم، هي مش وحشة كده، بالعكس… عندي إحساس إنها أصلاً اللي أقنعته بعلاقتنا من البداية.”

اتسعت عينا ميرنا بدهشة، وكأنها لا تصدق ما تسمع، فارتفع صوتها قليلًا وهي تسأله بنبرة مترددة:

“ليه بتقول كده؟”

أدار وجهه نحوها، نظراته جادة رغم ابتسامته الهادئة، ثم قال ببطء كمن يفسر شيئًا اكتشفه وحده:

“لو ركزتِ معاها شوية، هتلاقيها بتبص عليكِ طول الوقت… بتراقب حركاتك وردود فعلك… لاحظت ده من يوم خطوبتنا، بس ما اتأكدتش غير دلوقتي، وأنا شايفها بتضحك لما إنتي بتضحكي، وتفرح لفرحتك.. حتى لاحظت كمان إن باباكِ، لما بيكون متردد أو مرتبك، هي اللي بتمسك إيده وبتطمنه… فأنا مقتنع إن جواها نية خير ليكي، وبتحبلك الخير يا ميرنا.”

انسابت كلماته داخلها كالماء العذب، تحاول أن تُلين صلابة قلبها، لكنها لم تمنع ارتباك عقلها من أن يظل حاضرًا، يشكّك، ويُذكّرها بماضٍ لم يُمحَ بعد.

رآها كارم مترددة، فابتسم ابتسامة هادئة، محمّلة بالثقة، وقال بصوت خافت يختلط بالحنان:

“أنا مش بقولك الكلام ده علشان تسامحيها على اللي عملته… لا، بس علشان تعرفي إنها مش وحشة أوي زي ما إنتي فاكرة، أو على الأقل… ده اللي أنا شايفه.”

سكت برهة، وكأنه يقيس وقع كلماته على ملامحها المذهولة، ثم أضاف بصوت يحمل مزيجًا من الحكمة واللين:

“نصيحة مني… حاولي تديها فرصة، شوفيها دلوقتي بعين الحاضر مش بعين الماضي، ماتبعديش عنها أوي… اللي تبعدي عنه بجد هو اللي مش ناوي لك الخير… زي بنت عمك.”

رفعت ميرنا عينيها نحوه في دهشة، يتسع بؤبؤها من وقع الاسم الذي لم يذكره مباشرة، لكنه أوصل معناه بوضوح.

لم يُعطها وقتًا للتفكير، بل تابع بثقة لا تخلو من الجدية:

“البنت دي مش سهلة، خدي بالك منها… نظراتها مش مريحة، هي كلها على بعضها مش مريحة، أنا بصراحة… ماارتحتلهاش خالص… فكوني حذرة.”

رسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة، ابتسامة ارتياح أكثر منها فرح، إذ وجدته يُحذرها من عدوتها من تلقاء نفسه، دون أن تبوح له بشيء.. كان إحساسًا عميقًا بالاطمئنان، أن تجد من يقرأ ما لم تقله، ويحميها من دون طلب.

ابتسم هو الآخر، وعيناه تتسعان بخفة، قبل أن يضيف بصوت ممتزج بالجدية والدفء:

“بصّي… لو قربت منك أو أذتك بأي شكل، أوعي تسكتي لها.. خدي حقك منها تالت ومتلت.. اللي زيها ماينفعش يتسكت له.. لازم يتوقف عند حده.”

ارتبكت، أطرقت للحظة، ثم قالت بصوت منخفض، يحمل في طياته خجلًا طفوليًا:

“مش… بقدر، بصراحة يا كارم… مش بعرف أرد، يعني… مش متعودة أعمل حاجة زي دي.”

نظر إليها بدهشة حقيقية، كأنه لا يصدق أن شخصًا بهذا الصفاء يمكن أن يقف عاجزًا أمام من يؤذيه.

ظل يطالعها للحظة، ثم انطلقت منه ضحكة مفاجئة، صافية بدورها، وهو يهز رأسه ويقول من بين ضحكاته:

“بسكوتاية… والنعمة بسكوتاية.”

أطرقت رأسها في استحياء، والابتسامة الصغيرة على شفتيها تُحاول الاختباء تحت ظل خديها المتوردين، بينما قلبها يخفق بإيقاعٍ متسارع، كأن كل كلمة خرجت منه كانت تدق على أوتاره.

هو بدوره توقّف عن الضحك فجأة، وكأن الجد تسلّل إليه دفعة واحدة، فرفع بصره إليها بعمق، وصوته انخفض بنبرة جادة لكنها مغموسة بدفء غريب:

“ميرنا…”

رفعت رأسها بتردد، لتلتقي عيناها بعينيه، فوجدته يطالعها بثباتٍ يربك الروح، كأنّه على وشك أن يكتب عهدًا أبديًا بينهما، ثم قال ببطء، كل حرف يخرج كأنه وعد غير قابل للكسر:

“يوم ما يتكتب اسمي جنب اسمك… هتبقي تحت حمايتي رسمي.”

انعكست كلماته على وجهها مثل مرآة، تلمع عينيها برهبة وطمأنينة في آنٍ واحد، حتى زاد من وقعها حين أضاف بصرامة لم تكسر دفء صوته:

“واللي هيجرب يبصلك بس… هقلعله عينيه الاتنين.”

سكت لحظة، قبل أن يُكمل، وهو يُثبّت عينيه في عينيها بحدة لا تخلو من الحنان:

“أنتِ خط أحمر بالنسبة لي… اللي يعدّيه هدوس عليه.”

في تلك اللحظة أحسّت أن الدنيا قد ضاقت لتتسع فقط في قلبها، قلبها الذي صار يخفق بقوة تكاد تُحدث رجفة في أطرافها. شعرت وكأن كل خفقة تنطق باسمه… باسمه هو فقط.

هو بدوره مال قليلًا للأمام، وعيناه تعكس مزيجًا من الحنان واليقين، ثم أطلق كلماته بصوتٍ منخفض لكنه دافئ:

“تمام يا بسكوتة؟”

ارتفعت عيناها إليه بخجلٍ مرتبك، لم تستطع الهروب من سطوة نظرته، ولا من الأمان الذي يزرعه في روحها، فاكتفت بأن أومأت برأسها إيجابًا، وكأنها تُسلّم أمرها لقلبها قبل عقلها.

حينها، اتسعت ابتسامته أكثر، ابتسامة صادقة مُحمّلة بفرحٍ طفولي لا يخفيه، لتجد نفسها تبتسم معه دون أن تدري، ابتسامة نقية خرجت من أعماقها، وكأنها انعكاس طبيعي لمشاعره هو.

كان المشهد كله بسيطًا في مظهره، لكنه عميق في أثره، كلوحة مرسومة، تجمع بين قلبين؛ أحدهما ناعم هش كالفراشة، والآخر صلب قاسٍ كالحجر، غير أن الله قد أراد لهذين القلبين أن يلتقيا، فيلين الحجر لأجلها، ويتحوّل إلى سندها، ودرعها، وحارسها الأمين.

كانا يعيشان لحظة خالصة، لحظة كُتبت لهما وحدهما، لا يشاركهما فيها سوى سكون الليل ونسيمه، حتى بدا كل شيء حولهما يتواطأ ليحمي هذه اللحظة من الزوال.

لكن ما لم يدركاه أن هناك عيونًا أخرى كانت تترصدهما من بعيد… عيونًا امتلأت بنيران الغيرة التي تأكل صاحبها، وتزداد كلما ازدادت ابتساماتهما.

على الشرفة العالية وقفت ريناد، تتشبّث بحافة السور الزجاجي، تحدّق بهما كما لو أنها تُحصي أنفاسهما، وكلما تلاقت نظراتهما أو ارتسمت ابتسامة على وجهيهما، ازداد احتدام الغضب في صدرها.

كانت ملامحها توحي وكأنها على وشك أن تنقضّ في تلك اللحظة، أن تنزل وتقتلع الابتسامات من وجهيهما اقتلاعًا، وتحوّل هذه السكينة إلى عاصفة.

رفعت يدها إلى صدرها، وكأنها تكبح صرخة مكتومة، ثم همست ببطء، وصوتها مبحوح بالحقد:

“مش هسيبك تتهني… مش هينفع تفرحي ياميرنا.”

أنهت جملتها والشرر ما زال يتطاير من عينيها، وضغطت أكثر على السور كأنها تريد أن تفرغ فيه ما يعصف بداخلها، ثم التفتت فجأة بخطوات سريعة متوترة، دخلت الغرفة وأغلقت باب الشرفة خلفها بعنف، كأنها تريد أن تفصل نفسها عن المشهد الذي يزيدها جنونًا.

أما في الأسفل…

سمعا معًا وقع خطوات تقترب بانتظام، خطوات رتيبة لكنها واضحة في هدوء الليل. تبادلا النظرات سريعاً، وما لبثا أن التفتا في اتجاه الصوت، فإذا بزينب تقف غير بعيد، بملامحها الجادة وابتسامة هادئة تخفي أكثر مما تُظهر.

أومأت لهما إيماءة صغيرة، إشارة صامتة تحمل في طياتها الكثير من المعاني، لكن فهم كلاهما الإشارة دون كلمات، فانفرجت أنفاس ميرنا بارتياح، وأومأ كارم بخفة، ثم تحركا معها بخطوات متوازية نحو الداخل.

توقفا حيث اجتمع الكبار، تحركت عيونهما بحذر، تتفحص الوجوه التي التفتت إليهما في آنٍ واحد. كانت النظرات متباينة: بعضها هادئ، بعضها مطمئن، وبعضها الآخر محايد لا يُفصح عن شيء.

في تلك اللحظة، اعتدل توفيق في جلسته ثم نهض بهدوء، وملامحه ما زالت متماسكة، محايدة لا تكشف عمّا يدور بداخله… لكن سرعان ما انفرجت شفتاه عن ابتسامة خفيفة، كأنها تُبدد بعض التوتر الذي علق في الهواء، ثم قال بصوت واضح وحازم في آن:

“اقعدوا يلا… علشان نحدد ميعاد كتب الكتاب.”

شعرت ميرنا بانقباض وارتعاش في صدرها امتزج بفرحة غامرة، بينما قلب كارم خفق بقوة، عيناه تتألقان وهو يلتقط من بين كلمات توفيق الإذن الضمني، المباركة المنتظرة، التي جعلت حلمه أقرب من أي وقت مضى.

وهكذا، كان المشهد أشبه ببوابة تُفتح على مستقبل جديد، يحمل بين طياته وعدًا بالحب والأمان.

_________________

في صباح اليوم التالي…

وقفت لينا بجوار شقيقتها تينا تحت ظل بيتهم، تحاولان الاحتماء من شمس ما قبل الظهيرة وهما تترقبان وصول ابنة خالتهم.

وبعد دقائق من الانتظار، ظهرت مسك أخيرًا، تسير بخطواتها الرشيقة، يحيط بها الأطفال الثلاثة: زياد ومنذر وزينة. كانوا يتسابقون حولها كأسراب صغيرة، فيما هي تحاول اللحاق بهم بابتسامة لا تفارق وجهها.

لم تستطع تينا كتمان ضيقها، فتمتمت بلهجة نصف مازحة:

“أخيراً ياست مسك! كنتِ خليكِ لحد صلاة العصر!”

قهقهت مسك بخفة، ثم ردت وهي ترفع يديها بعفوية:

“والله مش أنا السبب، القرود دول هما اللي مسكوني، قعدوني جنبهم لحد ما يخلصوا حفظ!”

اتجهت أعين تينا نحو الصغار، تقيّمهم بصرامة مصطنعة، قبل أن تسأل بفضول وقد علت ملامحها علامة استفهام:

“تحفظوا إيه؟”

أجاب زياد بحماس طفولي، وهو يلوّح بالمصحف الصغير بين يديه:

“بنحفظ السورة اللي علينا.”

عقدت تينا حاجبيها في اندهاش لا يخلو من إعجاب، واقتربت بخطوة إلى الأمام لتتأكد أكثر، ثم سألتهم بنبرة يغلب عليها الفضول:

“يعني أنتم بتحفظوا قرآن عند الشيخ سالم؟”

ردت زينة بثقة طفولية:

“لا، عند الشيخ حسن.”

تدخلت لينا بسرعة، وقد ارتسمت على وجهها علامة الإهتمام:

“الشيخ حسن؟!”

أومأ الأطفال جميعًا لها، وأضاف منذر بابتسامة واسعة:

“آه، بنيجي نحفظ عنده لما نروح عند جده، هو بيتابعنا لوحدنا عشان باقي العيال سابقونا.”

ابتسمت لينا بخفة، ثم أومأت لهم برفق، بينما أشارت تينا للأمام بضجر ونبرة مشجعة:

“طب يلا قدامي، الضهر هيأذن.”

تحرك الأطفال بالفعل، يرافقهم تينا ومسك، أما لينا فقد ظلت واقفة للحظة، حتى التفتت إليها شقيقتها وهمست:

“يالا يالينا.”

ابتسمت لينا بخجل ، ثم حركت قدميها معهم، وتابعوا مسارهم، مروا على صديقتهم ضحى التي انضمت إليهم فورًا، حتى وصلوا إلى المسجد، ودخلوا إلى الجزء المخصص للنساء، حيث عمّ الهدوء والسكينة المكان.

_________________

مع مرور الوقت…

خرجت الفتيات الأربعة معاً بعد انتهاء صلاة الظهر وحضور خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ سالم، وارتسمت على وجوههن آثار السكينة والطمأنينة التي تغمر المكان.

توقفن عند بوابة المسجد للحظة، فتساءلت ضحى بدهشة:

“هتستنوا العيال؟”

ابتسمت تينا وقالت:

“آه، زمانهم خلصوا.”

لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى رأينهم يخرجون من باب المسجد، يركضون نحوهن بفرح واضح، وخلفهم كان حسن، الذي لم يتمالك نفسه من الضحك، وهو ينادي عليهم قائلاً:

“المرة الجاية هسمع السورتين!”

وقعت عيون الفتيات عليه، وارتجف قلب لينا فوراً، فقد أثارها حضوره المهيب، بينما حاول هو رفع رأسه بعفوية ورآى الفتيات أمامه، فأسرع بغض بصره دون أن يلتقي بعيونهن، وتحرك من جوارهم، ملقياً التحية بصوته الرخيم:

“السلام عليكم.”

ردن التحية عليه، لكن كان صوتها وحده هو ما التقطه أذنه، كأنه أصبح علامة تميّزه عن الجميع، يلتصق بذاكرته ويستقر في قلبه.

ارتسمت على فمه ابتسامة هادئة ودافئة وهو يتحرك مبتعدًا، بينما كانت هي في الخلف، تبتسم وتتابعه بخفوت، كما لو أن العالم كله قد تلاشى حولها، وما تبقى فقط هو صوته وحضوره.

حتى خرجت من شرودها على صوت مسك، التي تساءلت بفضول:

“هو ده حسن بقا؟”

أومأت تينا لها، فأضافت مسك بدهشة بسيطة:

“أعتقد ليه أخين توأم، صح؟”

ردت ضحى بابتسامة صغيرة:

“آه، حسين ومحسن.”

طرق الاسم الأول رأسها فضحكت بخفة، وهي تردد:

“سبحان الله، ازاي دول إخوات بجد.”

نظر الثلاثة لها بدهشة، فأضافت وهي تبتسم بخفة:

“أقصد إن التلاتة مختلفين أوي في الطبع، فمش فاهمة إزاي إخوات.”

رفعت تينا إحدى حاجبيها بسخرية وسألتها:

“وأنتِ لحقتِ تعرفي التلاتة، علشان تتأكدي كده إنهم مش شبه بعض؟”

هزت رأسها وهي ترد بثقة:

“مش ضروري أعرف التلاتة، أنا عرفت اتنين، واحد متربي ومحترم، والتاني همه على بطنه.”

ضحك الثلاثة على كلماتها، لكن ضحى كانت أكثر صراحة وجرأة، فقالت بنبرة تجمع بين المرح والسخرية:

“ده حسين، سُمعته طلعت سبقاه.”

عاد الضحك يتردد بينهن، بينما مسك أضافت بعمق قليل من الدهشة:

“قابلته مرة، ومن يومها بدعي لمراته المستقبلية… ربنا يكون في عونها، ده مش طبيعي، مش أي حد يقدر يتحمل شخصيته.”

تدخلت حينها ضحى، وعيناها تتلألأان بمزيج من الفضول والخبرة:

“ماشوفتيش محسن، دي اللي هتكون من نصيبه… محتاجة أمها، وأمهات المسلمين يكونوا راضيين عنها.”

رفعت مِسك حاجبها بدهشة، بينما قالت بصوت منخفض:

“ليه يعني ماله؟”

ابتسمت ضحى بخفة، وكأنها تكشف سرًا صغيرًا:

“كارم… النسخة التانية من كارم أخويا.”

ردت مسك سريعًا، وعينها تلمع بخوف ودهشة:

“لا ده… ربنا يكون في عونها بجد، أنا طول عمري بخاف من أخوكِ ده أصلاً.”

ضحكن جميعًا على كلماتها، حتى قُطع الضحك بصوت منذر الذي قال بجدية طفولية:

“على فكرة هقولكم كل كلمة قولتوها عليهم.”

انخفضت أبصارهن نحوه، وقد نسين تمامًا وجود الأطفال معهم. اقتربت تينا منه بسرعة، أمسكت ثيابه بحزم، وقالت بحدة:

“تعرف يالا، لو نطقت كلمة، هخلي بابا يسجنك! أنت عارف إنه لواء.”

تراجع منذر مبتسمًا بخفة:

“أنا لسه صغير ومش هتسجن.”

ردت تينا بعزم أكبر:

“لا… هقوله يسجنك برضه، هو مش هيرفضلي طلب… فتلم لسانك، واللي سمعته ده، ارميه كأنك ما سمعتش حاجة، فاهم؟”

تركت ثيابه، وأشارت لهم وللأطفال بالتقدم، مرددة بحزم:

“يلا… قدامي أنت وهو وهي.”

رمقها

منذر بعينين مليئتين بالضيق، ثم تقدم مع زياد وزينة بحذر، تحت نظرات تينا الشرسة، لكن سرعان ماانتبت لأصوات الفتيات وهن يضحكن بصخب، فالتفتت مسك إليها وقالت مبتسمة:

“أنتِ مفترية يا بنت.”

ضحكن جميعًا مرة أخرى، ثم أشارت لهن بالتقدم، فتحركن خلف الأطفال بخطوات متناسقة، يجمعهن في تلك اللحظة مزيج من الألفة والمرح، وكأن الطريق الذي يسلكنه أخفّ وأجمل بفضل ضحكاتهن.

________________

_

في المساء…

جلس في غرفة المعيشة، والهدوء يملأ أركان المكان، حاسوبه موضوع أمامه على الطاولة، وأنامل يده السليمة تتحرك برشاقة على لوحة المفاتيح، كأنها تعزف سيمفونية صغيرة من التركيز والهدوء.

الهاتف بين رأسه وكتفه، وصوته يخرج بثبات:

“أيوا راجعته، هبعتهولك دلوقتي وأنت انسخه احتياطي… تمام ماشي، لا لسه بخلصه أهو، ماشي تمام… مع السلامة.”

أنهى المكالمة، وأبعد الهاتف عن أذنه بعناية، وضعه جانباً على الطاولة ثم عاد إلى عمله، عيونه تنغمس في شاشة الحاسوب، وأصابع يده تتنقل بين الأزرار بهدوء، بينما الصمت يلف المكان.

وبعد ساعات طويلة من العمل المضني، أغلق الحاسوب نهائيًا، ونزع حامل ذراعه، مستريحًا على الأريكة، جسده يستكين تحت وطأة التعب، وعيناه تغلقان لحظة محاولة الإسترخاء.

مرّت دقائق من صمتٍ ثقيل، حتى انقطع هذا السكون برنين الهاتف المفاجئ.

التقطه ببطء، دون أن يلتفت لمعرفة من المتصل، وأجاب بصوت مبحوح يختلط فيه التعب بالفضول:

“ألو.”

لحظة، فقط ثوانٍ، تغيّر كل شيء…

ارتعش قلبه، وجسده انتفض كما لو صُعق من الداخل، وارتسمت على وجهه دهشة غامرة ممزوجة بفرحة شديدة، كانت كفيلة أن تضيء المكان كله:

“بجد؟”

استمع لكلمات الطرف الآخر بتركيز، وعيناه تتلألأان مع كل ابتسامة تتسع على وجهه، كما لو أن الفرح يتسرب تدريجيًا إلى روحه.

تنفس بعمق ثم قال بارتياح، وصوته يرتجف من الفرحة:

“يعني كده كل حاجة جاهزة صح؟”

أتاه الصوت الآخر يجيب بثقة:

“صح.”

ابتسم مجددًا، ابتسامة مليئة بالرضا والفخر، وقال بنبرة دافئة:

“حلو أوي… تسلم ياغالي.”

_________________

بعد يومين….

جلس في البهو كعادته، ممسكًا الجريدة بين أصابعه، وعينيه تتنقل بين العناوين والأخبار بنظرة اهتام عابر، وصمت المكان كان يثقل الجو، سوى صوت الساعة الجدارية.

اقتربت فيروز بهدوء، حاملة فناجين الشاي، وضعت الفناجين أمامه برشاقة، وقالت بابتسامة مرسومة على وجهها:

“اتفضل يابابا.”

التفت إليها، وابتسامة خافتة ارتسمت على ثغره، ترك الجريدة جانبًا، ومد يده نحو الفنجان، وصوت قلبه بدا وكأنه يهمس بين ثنايا الكلمات:

“تسلميلي ياقلب بابا.”

لحظة واحدة، ورفع نظره فجأة عن فنجان الشاي، وقد تذكّر فجأة شيئًا صغيرًا لكنه ضروري، فقال لها:

“ممكن تجيبيلي نضارتي من الأوضة يافيروز؟ نسيتها هناك.”

أومأت فيروز بخفوت، ثم صعدت للغرفة بخطوات هادئة. فتحت درج الطاولة ببطء، أمسكت بالنظارة بين يديها، وفي تلك اللحظة، انطلق صوت جرس الباب من الأسفل، ليقطع صمت الغرفة ويزرع شعورًا مفاجئًا في صدرها.

انطلقت نحو السلالم بخطوات سريعة، وعيونها متجهة نحو الأسفل… لكن قبل أن تصل إلى نهاية الدرج، توقفت فجأة عندما رأت والدها يقف أمامها، وابتسامة هادئة ترتسم على ثغره، وعيناه تلمعان بحنان لا يخلو من شئ غامض.

“مين يا بابا؟”

ابتسم يحيى بثبات، صوته واثق ودافئ في آن واحد:

“حبيبك يا روح بابا.”

عقدت حاجبيها باستغراب، ثم لاحظت أن عينيه تتجهان خلفه، فالتفتت هي أيضًا، ووقفت مشدوهة، وكأن الزمن تجمّد للحظة، لتجد أمامها هو… موسى، حبيبها، أسير عيونها وقلبها، حاضر أمامها كما لو أن كل الانتظار انتهى فجأة.

#يتبع….

_________________

كتابة/ أمل عبد الرحمن.

بعتذر علشان الفصل قصير، وأحداثه مش كتير، بس ده شئ طبيبعي علشان أنا بنزل ٣ فصول دلوقتي، بس إن شاء الله هحاول يبقى أطول المرات الجاية.

الفصل صغير وأحداثه هادية، لكن كالعادة… احنا نهدا وبعدين نولعها، فترقبوا القادم😉.

دمتم بخير… سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق