رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الخامس والعشرون
الفصل الخامس والعشرون(أمر غريب)
بعتذر عن التأخير،بس بجد البرد مبهدلني وبالعافية لما كتبت الفصل.
_
______
صلوا على رسول الله…
اذكروا الله…
تفاعلوا يا حلوين فضلاً…
نبدأ بسم الله…
__________
_
“الأب هو الحضور الذي يجعل كل شيء أفضل،وجوده يبعث فينا الاطمئنان.”
__________________
_
بين ازدحام العمال من حوله،وضجيج الأداوت،وتوالي الطرقات على الألواح الخشبية. أصوات عدة تختلط وتخترق مسامعه،بينما كان يجلس على مكتبه يمسك بقلمه ويقرأ بعض الأوراق الخاصة بالحسابات،يدقق النظر فيما يقرأه ويعطي تركيزه له.
إلى أن جذب انتباهه صوت طرقة عالية مضطربة،فتوجهت أنظاره تلقائياً نحو الشاب الذي تسبب بها،وهتف بإنزعاج:
“حاسب يابني،هدي شوية مش كده”
“لامؤاخذة يامعلم داود”
هدّأ داود من حدة انفعاله ثم قال:
“كمل شغل،بس بالراحة”
أومأ له الشاب بالإيجاب ثم التفت وعاد ليكمل عمله،بينما نكس الأخر رأسه وعاد لما كان يفعله،لكن بعد ثواني معدودة شق أذنيه صوت مرتفع لإحدي الأطفال يصرخ بإسمه ويقترب ويعلو شيئا في شيئاً:
“ياحج داود!..ياحج داود!”
رفع رأسه مجدداً ليبصر جسد طفل في العاشرة يقترب منه،ويلهث بشدة كأنه كان مع سباق للزمن لتوه.
عقد داود حاجبيه وسأله بدهشة وخوف:
“في ايه يابني؟؟،ايه اللي حصل؟؟”
رفع الفتي يده وأشار لجهة من الطريق،بينما يردف من بين أنفاسه المتقطعة:
“موسى ياحج..،موسى ابنك بيتخانق مع الواد زيكو في الشارع اللي قبل القهوة،وشغالين ييضربوا في بعض”
اتسعت حدقتا داود فجأة،وكأن الكلمات التي نطق بها الأخير كانت صاعقة مدوية أصابته في مقتل. ارتعش جسده،ثم انتفض من مكانه بقوة،كما لو أن الموجة ضربته دفعة واحدة. تلاحق خطواته السريعة،التي كادت تتحول إلى ركض،نحو الوجهة التي حدده له الفتى. لم يكد يبتعد حتى لاحظ تامر،الذي كان يرافقه،وأثنان آخران من العمال ينطلقون خلفه مباشرة،يهرولون في نفس الاتجاه،ملتزمين بكل خطوة يخطوها داود وكأنهم في سباق لا ينتهي.
في اللحظة التي اندفعوا فيها،كان مصطفى قد خرج لتوه من مدخل العمارة،ليلفت انتباهه منظر شقيقه وهو يهرول بهذا الشكل. تجمد مكانه للحظة،وكأن عقله عاجز عن تفسير المشهد أمامه. كانت عيناه تتبعان خطوات داود التي تنبض بعجلة غير مفسرة. سرعان ما اهتز داخله شعور ثقيل،إحساس بأن هناك كارثة على وشك الوقوع،شيء أكبر من أن يتم تجاهله. لذا وبدون تفكير طويل؛ركض دون تردد خلفهم،موجهًا نفسه نحو وجهة مجهولة،مُلزمًا بأمر لا يدريه.
دقائق قليلة،ووصل أول من اندفعوا،لتتجمد أجسادهم على بداية الزقاق،حينما وقعت أعينهم على ذلك الجسد الملقى على الأرض،مغطى بدمائه،بين يدي صديقه الذي يصرخ بصمتٍ.
اتسعت أعين داود وشحب وجهه وكأن الدماء قد فرت هاربة منه،وقفز قلبه من صدره،عاجزاً عن التصديق. كانت الكلمات تتزاحم في ذهنه،لكنه لم يستطع سوى همس كلمة واحدة،بالكاد خرجت من بين شفتيه،كما لو كانت تقاوم للبقاء:
“موسى!”
___________________
جلست في غرفة المعيشة،بجانب والدتها،تسرق النظر إلى الباب،تنتظر قدومهما بشغف يملأ قلبها بالقلق. يدها المرتعشة تمسك بهاتفها،تأمل أن ترى اسم أحدهما على الشاشة ليطمئنها،ليخبرها أن كل شيء على ما يرام.
مرت أكثر من ربع ساعة،وكأن الوقت يمر ببطء،وكل لحظة كانت تزداد فيها الضغوط. لا شيء جاء،لا رسالة،ولا مكالمة،ولا أي منهما. بدأ التوتر يغزوها أكثر فأكثر،وبدأ قلبها ينبض بسرعة،خوفًا عليهما،بينما تساؤلاتها والأفكار تتوالى في عقلها بلا توقف،وكلها لاتبشر بالخير.
أمسكت نادية بيد فيروز بحنان،بينما نظرت إليها بعينين تحملان كل معاني الطمأنينة،وهمست بصوت دافئ يلامس قلبها:
“اهدى يا فيروز،خير يا بنتي خير.”
أجابتها بصوت مرتجف،بعدما غرقت في خوفها،وعيونها تملؤها الدموع،وكأن قلبها لا يتحمل المزيد:
“خايفة أوي يا ماما،خايفة…موسى لما طلع كان متعصب أوي،خايفة يبقى اتأذى أو أذي،خايفة يكون حصلهم حاجة بسببي.”
ورغم خوفها الداخلي،حاولت تهدئتها،مُتجاهلة هواجسها الخاصة:
“ما تقوليش كده يا بنتي،أكيد ما حصلش حاجة،لو كان حصل،ما كانش الجو هيبقى هادي كده.”
لكن بمجرد أن أنهت كلمتها حتى صدر صوت بوق سيارة مرتفعًا في الخارج،يتبعه صوت أنثوي تعرفه كل منهما جيدًا. تبادلتا النظرات،وكأن وقع الصوت أشعل في قلب كل منهما شعورًا لا يمكن تجاهله،فأنتفضتا من مكانهما بسرعة،واتجها نحو الشرفة.
ليبصرا عبير تقف في شرفة شقتها،تتحدث مع تامر الذي كان يستعد للانطلاق بالسيارة
:
“مستعجل كده ليه يا تامر؟ إيه اللي حصل يا بني؟”
أخرج تامر رأسه من نافذة السيارة،وهتف بصوت جهوري،رن صداه في المكان بأسره،وكأن الكلمات سقطت كالصاعقة على قلوبهم:
“موسى اتغز يا خالتي،ورايحين بيه على المستشفى.”
وما إن نطق بهذه الكلمات حتى اختفت السيارة عن الأنظار،تاركة خلفها غبارًا كثيفًا يتناثر في الهواء. تاركًا خلفه عقولًا تمسكت بجملته الثقيلة،تتسابق في محاولة تحليلها،لكنها كانت عاجزة عن استيعابها. وكأن الزمن توقف في تلك اللحظة،وكأن العقل نفسه قد عجز عن العمل،كما توقفت قلوبهم عن النبض،مختنقة بشعور ثقيل يملأ الصدور ويكاد يحطمها.
___________________
وقف ثلاثتهم في قسم الطوارئ،أمام إحدى الغرف،قلوبهم مرتجفة كأنها تتأرجح على حافة الهاوية،وأرواحهم معلقة في الهواء،بينما أجسادهم بلا حياة،وكأنها مجرد أصداف خاوية تنتظر خبراً قد يحييها أو يجهز عليها تمامًا.
ذلك الأب،الذي لم يجد في ضعف قدميه إلا الحائط ليرتكز عليه،بينما وقف شقيقه بجواره،يسانده بصمت،وكأن الكلمات قد خذلتهما معًا.
أما الصديق،فقد ظل مسمرًا في مكانه،عيناه الداميتان مثبتتان على الباب،يطالعه بنظرات تحمل كل الأسى،وكأن بصره يحاول اختراقه،يبحث عن إجابة،عن طمأنينة،عن أي شيء يعيد إليه أنفاسه التي بالكاد تتردد في صدره.
صمت ثقيل خيّم على المكان،كأنه جدار غير مرئي يحيط بهم،يحاصر أنفاسهم،ويثقل على صدورهم. لم يكن مجرد غياب للكلمات،بل حضور طاغٍ لكل المخاوف،لكل الأسئلة التي تعجز الشفاه عن نطقها.
لم يقطعه سوى صوت أقدام مسرعة،تتردد خطواتها في أرجاء الممر،تقترب شيئًا فشيئًا،جاءت معها أنفاس متقطعة،لاهثة،وكأن أصحابها يسابقون الزمن.
وقف الأربعة في مواجهة البقية،وجوههم شاحبة كأن الدم قد جفّ من عروقهم،وأعينهم تحوم بين الخوف والتوتر،وعقولهم مزدحمة بالأسئلة التي تتصارع للخروج،ولكن ألسنتهم كانت كأنها عالقة بين أسنانهم،عاجزة عن النطق،إلا واحدًا فقط،كسر حاجز الجمود بصوت مرتفع،مشوب بالقلق:
“إيه اللي حصل؟؟ موسى إيه اللي جراله؟!”
تحوّلت أنظار الجميع إلى كارم في اللحظة ذاتها،نظرات متعجبة وصادمة،وكأن وجوده نفسه كان أمرًا غير متوقع.
قطّب سامي حاجبيه،قبل أن يهمس بدهشة لم يستطع كبحها:
“إنتوا إيه اللي جابكم؟ مش قولتلكوا ما تجوش؟!”
لم يمنح كارم كلماته أي وزن،وردّ عليه فورًا،وكأن الاستنكار قد استولى على صوته:
“كنت عايزنا نعرف إن صاحبنا في المستشفى وما نجيش يا سامي؟! المهم،قولي..هو وضعه إيه دلوقتي؟!”
لم يأتِ الردّ منه،بل خرج من مصطفى بصوت كان هادئًا،لكنه يحمل بين ثناياه اختناقًا لم يستطع إخفاءه:
“لسه ماحدش طلع ولا طمّنونا عليه.”
زفر الأربعة بضيق،شعور ثقيل يلتف حول صدورهم كحبل يخنق أنفاسهم،قبل أن يقطعه حسن،متسائلًا بنبرة متزنة،رغم التوتر الذي كان يضمره:
“طب هو ده حصل إزاي؟!”
لم يُجب مصطفى،بل نظر إلى سامي،وكأن عينيه تمليان عليه الأمر بالحديث.تلقائيًا،تحولت أنظار الأربعة إليه،فالتقط نفسًا عميقًا قبل أن يقول بصوت خافت،لكنه حمل في طيّاته أكثر مما يجب من ثقل الأحداث:
“أنا معرفش تفاصيل أوي…لما رجعت من الشغل،لقيته نازل من عندنا،شكله كان متعصب أوي،وفيروز كانت وراه،على طول قالتلي إني ألحقه،وماكانش في وقت أفهم منها إيه اللي حصل. المهم..جريت وراه،ولقيته بيتخانق مع الواد زيكو..ولا زكي ده وصاحبه،فمسكت أنا كمان معاهم،والخناقة اشتدت،لحد ما الواد زيكو طلع مطوة وراح غازه بيها..وأول ما وقع على الأرض،خدوا نفسهم وجروا.”
سقطت كلماته كحجر ثقيل في بحيرة الصمت،ورُسِم المشهد في أذهانهم أوضح مما ينبغي،أكثر قسوة مما يحتملونه.
ازداد
غضب أكثر وأضحى واضحًا في عينيّه
،شدّ على قبضة يده بقوة،واستدار وهو يزفر بعنف،كأنه يحاول أن يمنع الانفجار الذي يتراقص على أطراف أنفاسه. في المقابل،حافظ حسن على هدوئه وهو يسأل مجددًا:
“طب..ما تعرفش هو كان بيتعارك معاهم ليه؟”
تردّد سامي لوهلة،ثم ابتلع ريقه بصعوبة،قبل أن ينطق بنبرة اختنقت تحت وطأة الغضب:
“تقريبًا..الواد ده عاكس فيروز،وموسى لما عرف اتجنن.”
مسح كارم وجهه بعنف،كأنّه يحاول طرد الغضب الذي يغلي داخله،لكن صدره الذي كان يعلو ويهبط بسرعة فضحه..كأن أضحى بركان على وشك الانفجار.
لم يقطع لحظة الغضب هذه سوى محسن،الذي تحرّك بهدوء نحو سامي،وعينيه تحدقان في وجه الأخير قبل أن يشير بعينه إلى جرحٍ واضحٍ بالقرب من شفته العليا،وسأله بنبرة لم تخلُ من الترقب:
“زيكو اللي جرحك برضه في وشك كده؟”
لا إراديًا،رفع سامي يده إلى موضع الجرح،وكأنّه شعر بوخز الألم للتوّ،ثم أجاب بصوتٍ خافت:
“لأ..الواد اللي كان معاه،صاحبه..مش فاكر اسمه.”
لم يتردد محسن وهو يهمس باسمٍ واحد،وكأنه كان واثقًا من الإجابة:
“عبده؟”
ارتفع حاجبا سامي لجزء من الثانية،قبل أن يومئ برأسه قائلاً:
“آه..تقريبًا هو،لما موسى انضرب،خدني على خوانة،وضربني في وشي،والخاتم اللي كان في إيده جه فيا.”
أومأ له محسن ببطء،بحركة هادئة حدّ البرود،لكنها كانت تخفي وراءها أكثر العواصف عنفًا.
ولم يكن الوحيد،بل كان الجميع غارقًا في مشاعره،والغضب الصامت كان يخيّم على المكان،يلفّهم جميعًا كعباءة سوداء ثقيلة..من الداخل كانوا يغليـون،ومن الخارج..لم
يكن هناك سوى الصمت القاتل.
مرت لحظات ثقيلة،كانت محمّلة بصمتٍ خانق،يكاد يلتهم أنفاسهم. كل ثانية تمر كانت تزيد من ثقل القلق الجاثم على صدورهم،حتى كُسر هذا السكون أخيرًا حين انفتح الباب، وخرج منه أحد الأطباء.
لم ينتظر أحد،وكأن أرجلهم تحركت من تلقاء نفسها،اندفعوا نحوه بسرعة،بينما بادر داوود بالسؤال،بصوت مضطرب،يحمل رجاءً أكثر منه استفسارًا:
“طمنّا يا دكتور؟!”
التقط الطبيب نفسًا عميقًا،ثم أجاب بابتسامة هادئة،تعكس الطمأنينة التي أراد بثها في نفوسهم:
“الحمد لله،الجرح كان سطحي،قدرنا نوقف النزيف،وخيطناه بـ 17 غرزة،وبمجرد ما يخلص المحلول،يقدر يمشي معاكم.”
لم تكن الكلمات مجرد أخبار جيدة،بل كانت بمثابة
عودة الروح لأجسادهم.
تنفّس الجميع الصعداء دفعة واحدة،وكأن ثقلاً هائلًا قد أُزيح عن كواهلهم. تسابق قلب مصطفى مع لسانه وهو يشكر الطبيب بإمتنان:
“شكرًا جدًا يا دكتور على تعبك معانا.”
“العفو،ده واجبي..ألف حمد لله على سلامته.”
قالها الطبيب بإخلاص،قبل أن ينصرف تاركًا خلفه قلوبًا عادت تنبض براحة،وأجسادًا لم تعد تثقلها المخاوف..
الآن فقط،شعروا أنهم تنفسوا بحق.
___________________
“والله العظيم كويس يا أحمد،مفيش داعي إنك تيجي،خليك أنت مع أبوك والباقي.”
قالها داوود بنبرة هادئة عبر الهاتف،بينما كان يسير ببطء في ممر المستشفى. في المقابل،كان مصطفى يراقبه في صمت،مستندًا إلى الجدار،وعيناه تتابعان تحركاته دون تعليق.
“بلال هيجي يعمل إيه بس؟! إحنا كلها ربع ساعة ونطلع.”
وصله رد شقيقه من الطرف الآخر،فزفر بضيق،وكأنّه يعلم أن الجدال لن يجدي نفعًا،ثم قال باستسلام:
“خلاص،زي ما أنت عايز..طالما هو قرّب علينا،خليه ييجي،أهو الشباب تركب معاه بدل ما يروحوا بتاكسي…،تمام،تمام ماشي.”
أنهى المكالمة وأخيرًا،وأغلق الهاتف،ثم أغمض عينيه،محاولًا أن يلتقط أنفاسه بعد هذا السيل من التوتر. أخذ نفسًا عميقًا،وكاد أن يسترخي للحظة،لكن صوت رنين هاتفه من جديد قطَع عليه ذلك الوهم القصير من الراحة.
فتح عينيه ببطء،وزفر بحدة،وكأنّه على وشك الانفجار من الإزعاج المتواصل،بينما مصطفى،الذي كان يراقبه بصمت طوال الوقت،لم يستطع منع نفسه من
الضحك بأسى،وكأنّه يشفق عليه أكثر مما يسخر منه.
في الداخل…
كان الخمسة يقفون حوله،عيونهم معلّقة به،بينما هو مستلقٍ على الفراش،مغمض العينين،يدّعي الغرق في النوم.
تحرّك محسن بحذر،ووضع يده على ذراعه،وهزّه بلطف وهو يردد بصوت هادئ،لكنه محمّل بالاهتمام:
“قوم يلّا يا موسى،كفاية نوم كده..ماتقلقناش عليك.”
لم يُبدِ موسى أي استجابة،فقط اكتفى بالتمتمة بصوت خافت،بالكاد مسموع:
“جيبولي فيروز..أنا عايز فيروز.”
لم يمنحه سامي فرصة للاستمرار في تمثيليته،وبحركة سريعة،ضربه على ذراعه بنفاد صبر،وهو يردف بحنق واضح:
“قوم ده بنج موضعي،بلاش استعباط!”
فتح موسى عينيه أخيرًا،مجبرًا،مُحدقًا في سامي الذي كان يرمقه بنظرات حادة،
أقرب إلى السهام،فردّ عليه الأول بنبرة مستاءة:
“في إيه يا سيمو؟! سيبني أدلع شوية!”
لم يُظهر سامي أي تعاطف،وردّ مباشرة بنبرة قاطعة لا تقبل الجدال:
“اتدلّع براحتك،بس مالكش دخل بأختي!”
“أختك دي خطيبتي على فكرة.”
ردّ عليه سامي بنبرة مشحونة بالحنق،وعيناه تشتعلان بالغضب وهو يرمقه بحدة:
“عارف إنها خطيبتك،بس احترم إنها أختي يا جدع! بس أقول إيه بقى؟ لو كان ليك أخت كنت فهمت شعوري.”
ارتسمت على وجه موسى ابتسامة جانبية،مستفزة،قبل أن يردف ببرود قاتل:
“ومين قال إن معنديش أخوات بنات؟”
اشتعل غضب سامي أكثر وهو يردّ عليه بسرعة،بنبرة امتزجت بين السخرية والاستياء:
“أومال معندكش إحساس ليه؟! مش بتحس بشعوري ليه؟!”
رفع موسى كتفيه بلا مبالاة،ثم قال بنفس النبرة الهادئة التي زادت من حدة غضب الأخير:
“ممكن علشان ماجربتوش لسه؟”
لم يتمالك سامي نفسه،فاقترب خطوة،وهو يردف بنبرة أكثر حدة:
“ولا هتجربه،صدقني ببرودك ده.”
تجاهل موسى كلماته تمامًا،وكأنه لم يسمعها،واكتفى بابتسامة ساخرة،ثم نقل نظره نحو كارم الذي كان يراقبه بصمت،قبل أن يسأله بجمود واضح:
“صحيح اللي قاله سامي؟ الواد ده عاكس فيروز فعلاً؟”
ساد الصمت للحظات،وأطرق موسى رأسه قليلاً،وكأنه يسترجع المشهد مجددًا،ثم رفع عينيه وأجاب بجدية قاتمة:
“للأسف..عاكسها الصبح وهي رايحة السوق،فضل ماشي وراها لحد البيت…،أنا لما عرفت منها ماقدرتش أمسك نفسي،ووالله لولا اللي عمله فيا،لكان زمانه مدفون في أرضه من ساعتها.”
تجمدت ملامح سامي على الفور،وأصبح الغضب واضحًا في عينيه،أما كارم ومحسن فتبادلا نظرات سريعة،حملت بين طياتها شيئًا غامضًا،إشارة صامتة لم يفهمها أحد غيرهما.
عمّ الصمت بعد تلك الكلمات،لم يكن صمت راحة،بل كان صمتًا ثقيلًا،كأنه فاصل بين ما قيل،وما هو قادم.
لكن سرعان ماقطع هذا الصمت من قبل داود الذي ولج للغرفة،واقترب من ابنه وهو يعطيه الهاتف في يده مرددا:
“خد كلم أمك،مش راضية تصدق إنك كويس،فكراني بكدب عليها”
ابتسم موسى بخفة،ثم تناول الهاتف من والدتت وأجاب على والدته:
“أيوه ياست الكل…،والله أنا كويس..”
بدأ مكالمته مع والدته بهذه الكلمات،في اللحظة التي استأذن سامي منهم وهو يخرج هاتفه:
“أنا هطلع أكلم فيروز اطمنها،علشان مابطلتش رن عليا من ساعتها”
أبعد موسى الهاتف عن أذنه في تلك اللحظة ونظر صوب الأخير وقال بدهاء:
“طب ماتجيب أكلمها أنا”
ألقاه سامي بنظرات حانقة،قبل أن يتجاهله وينصرف من المكان وهو يقول:
“خليك مع أمك..،و خليني أنا مع أختى”
عض موسى شفتيه بغيظ وهو يراقب جسد الأخير بضجر،قبل أن يعود لوالدته على الهاتف ويقول:
“أيوه ياست الكل أنا معاكِ…”
___________________
مع مرور الوقت…
وصلوا جميعًا إلى المنزل،وتحديدًا إلى شقة محمد،حيث اجتمع أغلب أفراد العائلة.
تمكن موسى من الصعود إلى الشقة بمساعدة سامي وبلال،ورغم ثقل الخطوات التي كانت تتردد أصداؤها داخل المكان. رفع رأسه بمجرد أن تخطى العتبة،ليجد نفسه أمام عشرات الأشخاص،أقرب لعشيرة من النمل،وجوه تحمل القلق،العتاب،والارتياح لرؤيته واقفًا أمامهم. رمقهم بنظرة سريعة،قبل أن يعلق بنبرة ساخرة ممتزجة بالدهشة:
“بسم الله الرحمن الرحيم!”
لم يمنحه أحد فرصة لقول المزيد،إذ اندفعت والدته نحوه، قلبها يسبق خطواتها،وعيناها تجوبان وجهه بلهفة وخوف واضح. رفعت يديها تتحسس ملامحه وكأنها تتأكد أنه لم يكن مجرد شبح ظهر أمامها،قبل أن تنطق بلهجة تحمل مزيجًا من التوجس والألم:
“إنت كويس؟ طمّني ياضنايا أنتَ كويس؟”
ورغم التعب حاول تهدئتها،وأجابها بابتسامة مرهقة:
“كويس،كويس..الحمد لله واقف على رجلي أهو.”
لم تكن في مزاج يسمح لها بالمزاح،فعاجلته بحدة ساخرة،امتزجت بعتب محب:
“واقف على رجلك بعد ما وقّعت قلبي في رجلي!”
ضحك موسى بخفوت،ثم قال بلطف:
“حقك عليا يا ست الكل…”
نظر إلى باقي الحاضرين،وأردف بنبرة جادة،لكنها لا تزال تحمل شيئًا من دعابته المعتادة:
“وحقكم عليا كلكم،خوفتكم عليا وبهدلتكم على السكك.”
اقترب عزت منه،وضربه بخفة على ذراعه وهو يعلّق بمرح:
“ولا يهمك يا ابن عمي،الحمد لله إنها جت على قد كده..كلهم 17 غرزة يعني!”
ضحك موسى بسخرية،وهو يهز رأسه:
“على رأيك، كلهم 17 غرزة..مش أول مرة نخيط يعني!”
ضحك عزت بدوره،ورد عليه بمزاح:
“مثلًا!”
لم يدم الضحك طويلًا،إذ قاطعهم صوت محمد حينما أردف بحزم،يقطع كل الأحاديث الجانبية:
“يلا ادخل ارتاح في الأوضة..اللي عايز يشوفك يدخل لك.”
نظر موسى إلى ملابسه التي كانت متسخة بالدماء،التصقت بثيابه كأنها تذكّره بكل ما حدث،رفع عينيه إلى جده،ثم قال:
“مش هينفع أقعد كده،هدومي كلها دم،عايز أغيّرها”
قبل أن ينطق أحد سارعت عبير وهي تقول بحنان خالص:
“تعالى معايا،أنا هساعدك يا حبيب أمك.”
تدخل داود سريعًا بنبرة قاطعة لا تقبل الجدل:
“لا استني يا عبير..أنا اللي هساعده.”
ارتفع حاجبا موسى قليلًا،وهو يثبت نظره على والده. لم تكن مجرد كلمات عادية،بل كانت تحمل شيئًا أعمق،شيئًا جعله للحظة يفقد القدرة على الرد. اقترب داوود منه،ووضع يده على كتفه بحزم،ثم أشار له قائلاً بلهجة لا تحتمل الرفض:
“يلا معايا!”
لم يقل موسى شيئًا،فقط أومأ له بالإيجاب،وسار بجانبه وهو لا يزال يحدّق فيه بدهشة،وكأن عقله يحاول استيعاب ماقيل،لكن وسط اندهاشه هذا ارتسمت على وجهه بسمة جانبية،عبرت عن فرحته بالأمر.
.
.
.
ولج برفقته للغرفة،وساعده في الجلوس على طرف الفراش،ثم اتجه نحو الخزانة وأخرج منها قميصان أحدهما أسود والأخر رماديّ،التفت إلى جهته وتحدث بينما يمسك بيديه كلا القميصان:
“عايز تلبس أي واحد؟؟”
رفع موسى يده وأشار بإصبعه نحو إحدي القميصان مرددا بصوت هادئ:
“الأسود”
أومأ له داود سريعاً،ثم أعاد القميص الأخر إلى الخزانة وأغلقها،وتقدم نحو الأخير الذي كان يطالعه عن كثب. اقترب منه ثم وضع القميص جانباً وحثه بعينه على رفع ذراعيه تزامناً مع قوله الهادئ واللطيف:
“أرفع دراعك بس بالراحة”
امتثل موسى لطلبه ورفع ذراعيه ببطء،وأخذ الأخر في نزع القميص الملوث عنه براحة وهدوء وهو يردد بصوت هادئ يحمل في طياته توتر خفيّ:
“بالراحة،حاسب..بالراحة”
أخرج داود زفيراً خفيفاً بمجرد أن نزع القميص عن جسد ابنه،ثم وضعه جانباً،وعندما أبصر قطرات الدماء على جسده حول الضمادة،راح بنظره في الغرفة بينما يقول:
“محتاجين قطن ولا مناديل علشان ننضف الدم ده…،لقيتها”
نبس أخر كلمة عندما وقعت عينه على عبوة مناديل ورقية موضوعة على المنضدة بالقرب من الفراش في الجهة الأخرى. تقدم نحوها سريعاً والتقطها ثم عاد للأخير وجلس بجواره وأخذ ينظف الدماء من على جسده،والأخر لايحرك عينيه من عليه،فقط يتابعه كطفل صغير يشاهد إحدي برامجه المفضلة.
ظل هكذا ينظر له إلى أن شعر بألم طفيف فأغمض عينيه،في نفس اللحظة التى شعر بها داود برعشة جسده،فرفع نظره إليه ونبس بقلق:
“وجعتك؟؟”
حرك له موسى رأسه بالنفي وهو يقول بنبرة هادئة:
“لأ”
“أنا أسف،أول مرة أعمل كده،هاخد بالي أكتر من كده”
أنهى جملته وعاد من جديد لما كان يفعله
.
بعد لحظات قليلة،انتهى من مهمته،فوضع كل ما بيده جانبًا،ثم وقف وأمسك بالقميص،يساعده على ارتدائه بحذرٍ وحرص شديدين. وما إن انتهى،حتى ابتسم وهو يطالع القميص قائلاً:
“خلصنا.”
لم يأتِه أي رد،فرفع نظره إليه ليجده لا يزال ينظر نحوه،ببسمة صغيرة مرتسمة على شفتيه. عقد حاجبيه بدهشة وسأله مستفسرًا:
“بتضحك لي ولا بتضحك عليّا؟!”
رد موسى مبتسمًا بنفس الهدوء:
“ليه ما يكونش علشان مبسوط؟!”
ردد داود الكلمة بدهشة:
“مبسوط؟!”
أومأ له بالإيجاب،مرددًا بصوت هادئ:
“آه..دي أول مرة تلبّسني هدومي،أو تساعدني في حاجة زي دي.”
ساد الصمت للحظة قبل أن يرد داود،مستعيدًا بعض الذكريات:
“صح..دايمًا جدتك – الله يرحمها – هي اللي كانت بتلبّسك من يوم ما اتولدت. كانت بتلبّسك أكتر من أمك نفسها.”
أومأ موسى برأسه موافقًا،وعيناه تشعّان بشيء من الحنين:
“مظبوط،هي اللي كانت بتهتم بيا أنا ودلال،ولا كأننا ولادها التوأم.”
توقف داود للحظة،ثم ابتلع ريقه ببطء وأردف بصوت يملؤه الندم:
“إحنا قصّرنا معاك جامد…بمعنى حرفي خلفناك ونسيناك. ادّيناك لستّك وجدّك،واتربّيت في وسطهم مع دلال،علشان كده اتعلّقت بيهم أكتر منّا…إحنا فعلاً غلطنا في حقك كتير،والأسوأ إننا ما كناش واخدين بالنا،أو كنا عاملين نفسنا مش واخدين بالنا.”
أخذ نفسًا عميقًا،ثم زفره ببطء قبل أن يكمل بنبرة مختنقة:
“أنا آسف…أنا آسف على كل حاجة،وعلى كل لحظة ما كنتش موجود فيها معاك. آسف على كل مرة قسيت عليك فيها،وعلى كل مرة أهملتك فيها…حقك عليّا،أنا آسف بجد.”
انعقد حلق موسى،وتجمهرت الدموع في مقلتيه،بينما احمرّت عيناه تأثرًا بكلمات والده. أخرج زفيرًا عميقًا،ثم ضم شفتيه وقال بصوت خافت:
“أنا كمان آسف…تعبتكم معايا جامد،حضرتك وماما. روّحكم طلعت معايا…أنا بجد آسف على كل حاجة يا بابا.”
نظر إليه داود بصمت للحظات،قبل أن ترتسم ابتسامة دافئة على وجهه،ليكسر جمود اللحظة بمرح:
“تصدّق إن “بابا” طالعة منك حلوة أوي؟ عايز أسمعها منك كتير…كتعويض عن الفترة اللي فاتت.”
ارتسمت على وجه موسى ابتسامة لطيفة،قبل أن يجيب بحنان:
“من عينيّا…يا بابا.”
رفع داود يده وتحسس خصلات شعر ابنه برفق،قبل أن يردف بصوت دافئ يغمره الحنان:
“تسلم لي عيونك يا روح أبوك…ربنا يخليك ليا وما يحرمني منك أبدًا،ولا يوجع قلبي عليك.”
لحظة صفاء نادرة جمعت بين أبٍ وابنه،بعد أن باعدت بينهما السنون،لكنها لم تقدر على قتل الحب الساكن في الأعماق.
__________________
_
التف أصدقائه حوله في الغرفة،بعدما قرروا رؤيته قبل رحيلهم،وتركه مع أفراد عائلته.
“قلنا لازم نسلم عليك قبل مانمشي علشان نسيبك مع التتار اللي بره دول،كل واحد مستني دروه علشان يدخلك”
ضحك موسى بخفوت على كلمات سامي تلك،ثم أجابه بإمتنانٍ:
“كتر ألف خيركم ياشباب،تعبتكم معايا النهاردة أوي”
رد عليه حسن برتابةٍ:
“ولا تعب ولاحاجة ياصاحبي،المهم تقوملنا بالسلامة كده بسرعة”
أيد حسين حديث شقيقه مسرعاً بقوله:
“أيوه،شد حيلك كده بسرعة،علشان تعزمنا بمناسبة تعافيك”
“أنت مش مهم عندك أتعافى،المهم تتعزم مش كده؟؟”
أجابه حسين ببساطة وبرود:
“المهم بطني ياصاحبي”
ضحك جميعهم عليهم،وتوقف موسى سريعاً بسبب الألم الذي داهمه،ثم وزع نظره في الغرفة،حنى قطب جبينه وسألهم:
“صحيح هو فين بقيتكم؟؟،فين محسن وكارم؟؟”
تبادل الثلاثة النظرات وثواني وكانوا يدركون عدم وجودهما بينهم.
نظر سامي نحو التوأم وقال بدهشة:
“هما مادخلوش معانا ليه؟؟”
“هما ماطلعوش معنا أصلا..”
نظروا جميعاً صوب حسين الذي نبس تلك الكلمات ببرود أعصاب شديد،وتابع
حديثه بنفس الوتيرة:
“أول مانزلنا العربية،اختفوا من قدامنا”
اتسعت أعين الثلاثة ونظروا لبعضهم،وفي تللك الحظة أتت على خاطرهم فكرة واحدة،لليس لديهم شكوك في صحتها.
.
.
.
في الجهة الأخرى…
تقدم نحوه بخطوات سريعة وملامح وجه جامدة،وأعين التقطت جسده هو يجلس بأريحية على إحدي المقاعد في المقهى،يمسك بأرجيلته ويضحك بصوت عالي،كأن شئياً لم يكن.
اقترب كارم منه وأمسك من ياقة قميصه ورفع من على الكرسى مرغماً،وهو يهتف بسخرية ممزوجة بغضب ظهر في نظراته له:
“وأخيراً لقيناك كلب المنطقة”
دفعه كارم بعنف على الأرض وتحديدا تحت أقدام محسن،الذي طالعه من علياه وابتسم له بتوعد،ثم في غمضة عين كان يركله بقدمه كما يركل اللاعب الكرة.
أخرج زيكو “زكي” صرخة عالية،نتيجة ضربة محسن التي اصطدمت في معدته،مما جعل بعض الرجال على القهوة ينتفضون من أماكنهم مما جعل كارم يهتف بصوت جهوري منفعل:
“قسماً عظماً،اللي هيدخل هيبقى مكانه..،كل واحد يخليه في حاله أحسن”
وكأن كلماته كانت أشبه برصاصة أرعبت الجميع،لم يقدم احدا على التدخل واكتفوا بالمشاهدة.
فيما التفت كارم لجسد الأخير الملقى أرضاً،واقترب منه ثم جلس القرفصاء بقربه،وأخذ يتحدث معه بصوت أشبه بفحيح الثعبان الذي يستعد لالتهام فريسته:
“بقا أنت ياخلة السنان تتجرأ وتغز صاحبي بالمطوة،وقبلها تعاكس خطيبته..،اللي هي في نفس الوقت تبقى أخت صاحبي،يعني في مقام أختي،ازاي جالك قلب تعمل كده؟؟،جبت الشجاعة دي منين ياض؟؟”
رمقعه الأخير بشرٍ يتطاير من عينيه وهو يردف بحنقٍ:
“جبتها من مكان ماجبت دي ياروح أمك”
أنهى جملته وهو يرفع الألة الحادة “المطوة” في وجهه كارم،بنية أذيته في وجهه،لكن تفادى الأخير الضربة في اللحظة الأخيرة،بحركة مراوغة وسريعة،ثم في رجفة عين كان يمسك يده ويخطف منه الألة بخفة.
أخذ يتلاعب بها بأصابعه ثم نظر للأخير الذي اتسعت أعينه برعب،وقال بإنفعال:
“العب غيرها يابن فوزي،ده أنا صايع قديم يالا،مايغركش البدلة الشيك اللي أنا لابسها،ده أنا عربجي والكل عارف ده..،ده لما كنت بمسك المطوة وبعلم بيها على اللي زيك،كنت أنت لسه بتسنن ياروح أمك”
حاول الفتى النهوض وهو يسبّه بألفاظ نابية،لكن لم يمنحه محسن الفرصة،وركله مجددًا بقدمه،ليطرحه أرضًا وهو يردف بغضبٍ محتدم:
“اوعى تقوم! ده مكانك الحقيقي يا ابن فوزي كمّون…تحت يا ابن الـ
***”
قاطعه صوتًا حادًا بغتةً:
“محسن!”
التفت محسن نحو كارم،فوجده يرمقه بنظرة ثابتة،قبل أن يتابع بنبرة هادئة تتنافى مع الحدة التي عرفها عنه:
“عيب،مش كده…إحنا بطلنا الألفاظ دي من زمان يا صاحبي.”
زمّ محسن شفتيه بضيق،قبل أن يبرر بانفعال:
“هو السبب…خلّاني أخرج عن شعوري!”
هزّ كارم رأسه بتروٍ،ثم حوّل بصره إلى الفتى المُلقى على الأرض،وقال بنفس النبرة الرتيبة:
“هنعذره…الواد برضه ما يعرفش إيه اللي مستنيّه…وأما بقى عني،فأنا مش هخلّيه يستنى أكتر من كده.”
أخفض بصره ليواجه الفتى وجهًا لوجه،وعيناه تلتقطان كل ارتعاشة في ملامحه،قبل أن يردف بنبرة ذات مغزى:
“وأقوله هعمل فيه إيه؟ ولا بقولك…خليني أخيّرك،بس الأول…كلم لي الكلب التاني اللي كان معاك.”
رفع الفتى بصره إليه،بينما تتأرجح في عينيه نظرة تحدٍ مشوبة بالخوف،قبل أن يجيب بجمود:
“انسى.”
زفر كارم بضيقٍ،قبل أن يردّ بتحذير صارم وصوت حمل تهديدًا مبطّنًا:
“معاك دقيقة واحدة…لو مجاش الكلب ده في خلال دقيقة،يبقى هتشيل الضرايب كلها لوحدك يا حيلتها…،وصدقني،هتزعل أوي بعدها.”
مال نحوه قليلًا،وعيناه تغوصان في أعماقه،قبل أن ينطق بكلماته الأخيرة بنبرة تقطر خبثًا:
“يلا…رن عليه.”
ابتلع الفتى ريقه بتوتر،وسرت في جسده رعشة غريبة،لم يكن يعلم إن كانت بفعل الخوف أم بفعل نظرات كارم التي لم تبشر بخيرٍ ألبتة. لم يكن لديه خيار آخر…أي تأخير،أي محاولة للتحدي،لن تنتهي إلا بشيء لن يتحمله.
مدّ يده إلى جيبه،وأخرج هاتفه،ثم ضغط على الاسم الذي يعرفه جيدًا،وتحدث بنبرة حاول صبغها بالهدوء:
“أيوه يا عبده…تعالالي على القهوة،خلينا ناخد لنا نفسين مع بعض.”
لكن ما إن أنهى جملته،حتى شعر بالهاتف يُسحب منه بين أصابعه بقوة،قبل أن يُقذف بعنفٍ نحو الجدار،ليتهشم إلى قطع متناثرة. رفع بصره برعب،ليجد كارم ينظر إليه بابتسامة باردة،قبل أن يربت على كتفه بخفة،ويردف ببساطة:
“برافو عليك يا زيكو.
بعد دقائق…
أتى من كانوا بإنتظاره،والذي بمجرد أن لمح جسد صديقه مُسند إلى الحائط وكارم واقف أمامه،يضع الألة على رقبته،حتى اتسعت حدقتيه وجف حلقه من الخوف. شعر بتيار بارد يسري في أوصاله،فاستدار ليندفع هارباً،لكن قبل أن يقطع خطوة،خرج محسن أمامه فجأة،وهو يبتسم له باستفزاز،ويفتح ذراعيه كأنه يرحب به،قائلا:
“على فين العزم إن شاء الله؟!..عيب تيجي وتروح من غير كلام ولا سلام ياعبدو!”
تراجع الفتى للخلف هو يدافع عن نفسه ضد الإتهام الذي لم يوجه له بعد:
“على فكرة أنا ماليش دعوة،أنا لقيته بيتخانق مع موسى فدافعت عنه وبس،هو اللي غزه مش أنا والله”
“كفاية بس إنك كنت في نفس طرفه،ده يخليك مذنب زيك زيه”
أيد كارم حديثه وهو يهتف مشجعاً إياه بنبرة ساخرة:
“الله ينور عليك ياصاحبي ده الكلام المظبوط،خليك أنت معاه،وخلينا أنا مع عرّة الرجالة ده”
“وأنا موافق ياصاحبي”
أنهى محسن جملته ببسمة جانبية،ثم أخذ يقترب من ذلك الجسد الذي بدأ في الارتعاش،وأخذ يخطو للخلف في محاولة يائسة للهرب،لكن بلا جدوى.
لم يمنحه محسن الفرصة،وفي لحظة صمت،سدد له ضربة عنيفة أطاحت به أرضاً،ولم يكتفِ بذلك بل انحنى وأخذ يوجه له اللكمات المتتالية في وجهه،بينما يردف بصوت حاد بين كل ضربة والأخرى:
“ابقي اعملي راجل يلا ودافع على الكلب ده تاني،ابقى ارفع اديك أو عينك على حد تبعنا تاني”
وبهذه الكلمات استمر في توجيه الضربات له،بعضها لكمات قاسيةدوأخر ركلات موجعة.
على الجانب الأخر،وقف كارم يشاهد المشهد بإستمتاع،وكأنه أمام عرض خاص،قبل ان يوجه بصره نحو من كان يكبّله،ثم قال بحدة وصوت أرعب الأخر:
“نرجعلك أنت بقا ياجميل..،وخلينا أخيرك باللي عايز أعمله فيك”
رفع الألة الحادة في وجهه،تلك التي سبق وانتشلها منه،ثم تابع بجمود ممزوج بسخرية قاتمة:
“اول اختيار..،إنك تسيبني أرسملك خط أخو اللي في خدك ده،بالمطوة الجميلة دي اللي غزيت بيها صاحبي،ونضفتها في ثواني ولا كأن حاجة حصلت..،اديني الأمان علشان أعاملك زي ماعاملته ياman،مع العلم إني شاطر أوي في رسم الخطوط،كان نفسي أكون makeup artist بس مجموعي ماجبش”
ضحك بخفوت على حديثه،وكأن الأمر مجرد مزحة مسلية،ثم تابع تابع بنبرة لاتخلو من تهديد خفي:
“المهم،تاني اخيتار قدامك،إنك تسيبني أنفضك زي مامحسن بينفض صاحبك كده،بس خليني أعرفك حاجة علشان أريح ضميري،وأقولك إني ايدي تقيلة عن صاحبي،حتى اسأل اللي كانوا قبلك،كان في كتير أوي زيك”
ارتعشت شفاه الفتى دون أن ينطق بكلمة،بينما ابتلع ريقه بصعوبة،وعيناه تتحركتا تلقائياً نحو جسد صديقه على الأرض،ويتأمل حالته المزرية،وكأن عقله يحاول استيعاب المصير الذي ينتظره. لكن نظراته تلك لم تكن سوى شرارة أشعلت صبر كارم،فهتف بجدية يلقى بالالة على الأرض:
“كده أنت اخترت”
وبعد كلماته تلك لم يشعر الفتى بجسده إلا وهو يضرب بالحائط بقوة،وببسب قوة الاصطدام شعر وكأن أضلاعه اهترزت داخل جسده،قبل أن تنهال عليت اللكمات والركلات من كل اتجاه،وكأن كارم يعامله ككيس للملاكمة،يتفنن في إصابته،دون رحمة.
على الجانب الآخر،لم يكن محسن أقل عنفاً،فقد استمر في تسديد ضرباته لصديق الفتى،وكأنهما يحكمان قبضتهما على زمام الأمور بالكامل. لكن فحأة،اختل توزان محسن حينما أمسك الفتى النلقى على الأرض بقدمه،وأطام به أرضاً.
استغل الفتى الفرصة ونهض مسرعاً،وهو يلهث من شدة الألم،وأيمسك بمقعد خشبي،رافعاً إياه بعزم،مستعداً لتسديد ضربة قاضية، لكن قبل ان يتكمن من فعل ذلك،تلقى ركلة قوية في قدمه،أطاحت به مجدداً على الأرض.
لم يكد يستوعب ماحدث،حتى وجد محسن ينهض سريعًا،يمسك بالمقعد بنفسه،وفى اللحظة التى رفعه فيها ليهوى به على جسد الأخير،أوقفته يد قوية،أمسكت بالكرسي بثبات،مانعة إياه من إكمال فعلته.
توجهت أنظاره نحو صاحب ذلك اليد الذي لم يكن سوى شقيقه حسن،والذي بمجرد أن رآه اتسعت حدقتاه وهتف مدافعاً عن نفسه:
“والله مامسكت مطوى”
أشار حسن بعينه على الكرسي الذي لايزال مرفوع في الهواء،وقال بذهول:
“أومال ايه ده؟؟”
أشار محسن نحو الغتى على الأرض بعينه وهو يبرر لشقيقه:
“هو اللي رفعه عليا الأول”
“فقلت ترفعه عليه وتضربه بيه”
رد عليه محسن بسخرية:
“أومال أبوس رأسه وأشكره يعني”
“جيب يامحسن الله يرضى عليك،جيبه!”
أخذ الكرسي من شقيقه بهذه الكلمات ثم أعطاه لحسين الذي وقف بجواره،والذي تناوله منه ثم تراجع للخلف قليلاً ووضعه على الأرض واستقر بجسده عليه،قبل أن يهتف ببرود شديد ولامبالاة:
“واحد حلبة هنا ياحمو!”
على الجهة الأخرى،اقترب من سامي من كارم وحال بينه وبين الفتى،مانعاً إياه من ضربه وهو يهتف بإنفعال:
“كفاية يابني،الله يهديك”
صرخ كارم في وجهه بغضبٍ:
“كفاية لما أفتح دماغه ياسامي،ساعتها بجد يبقى كفاية”
“ولما تفتح دماغه نلمك احنا من الأقسام”
“وماله ياصاحبي،أنا راضي،ماتنسوش تجيبولي عيش وحلاوة كتير بقا معاكم،يلا سيبني أكمل تمريني مع الكلب ده”
أمسك سامي بجسده وأبعده عن الفتى وهو يقول بنفاذ صبر:
“كفاية بقا اللي يرضى عليك،احنا مش ناقصين مشاكل”
زم كارم شفتيه بغيظ،ثم رد بحدة وهو يشير للفتى النلقى على الأرض:
“هو اللي سبب المشاكل،هو اللي عاكس أختك وهي ماشية في أمان الله،وبعدين راح غز صاحبك،والحمد لله ربنا سترها معاه..،وضيف عندك بقا إن مش مخلى واحدة تعدى من شارع ده،بسبب وقفته طول النهار عليه ومراقبته للي رايحة واللي جايه”
هز سامي رأيه بأسي،قبل أن يرد بنبرة مستنكرة:
“ده عيل مترباش ياكارم،عيل أبوت نسى يعلمه يربيه”
“خلاص أنا أربيه”
نبس كارم جملته وهو يحاول الاقتراب من الفتى من جديد،لكن منعه سامي مجدداً حينما قال بصوت حاسم وصارم:
“يابني ارحمني بقا،اللي بتعمله ده مش حل”
“أومال ايه اللي بقا؟؟،قولي! هناخد حقنا منه ازاي؟؟”
“بالأصول ياصاحبي،بالأصول،عمي داود قالي إنه هيقعدوا قعدة رجالة قبل مايوصلوها للمحاكم،وكله ساعتها هيتحاسب..بس بالأصول”
زفر كارم بضيق،لكنه بدا عليه الاقتناع بحديث الأخير،فابتعد عنه وأخذ يمسح وجهه كمحاولة منه للتخفيف من حدة غضبه،في نفس اللحظة التي التفت بها سامي للفتى وصديقه وهتف بحدة:
“دقيقة مالمحش طيف حد فيكم،وإلا هيتعمل ضعف اللي اتعمل فيكم..،يلا غوروا”
وبعد كلماته تلك،لم يسعهم إلا تحمل ألامهما وأوجاوعهما والركض بعيداً عنهم،حتى لايأتيهم مصيراً أسوء مما مروا به.
بينما وقف سامي يطالع أجسادهم تبتعد عنه قبل أن يعود إلى أصدقائه ويقول:
“يلا خلينا نمشي”
بدؤا بالتحرك به إلى أن وصل إليهم صوت حسين وهو يقول:
“معلش ممكن حد فيكم يدفع الحساب،علشان مش معايا فكة”
زفر سامي بقوة ثم اقترب منه وأمسكه من ياقة قميصه بحنقٍ،ليجبره على النهوض من على الكرسي،ثم أخرج من جيبه ورقة نقدية بفئة الخمسين ووضعها على إحدي الطاولات،قبل أن يهتف:
“حساب حسين على التربيزة ياحمو،وخلي الباقي ليك”
نظر للأخير بعد كلماته تلك وأمره بالتحرك معه بقوله الصارم:
“يلا!”
تحرك الخمسة بخطوات واثقة،يلفهم صمت ثقيل يعكس ثقل اليوم الذي مرّ عليهم. وبينما كانوا يبتعدون عن الشارع المليء بصدى ما حدث،كانت ملامحهم تحمل إرهاقًا خفيًا،وكأنهم تخلّصوا من عبء ثقيل جثم على صدورهم. وأخيرًا،بعد يوم طويل وعصيب،توجّه كلٌّ منهم إلى وجهته،توجهوا إلى منازلهم لعلهم يحصلوا على قسطٍ من الراحة.
__________________
_
“يعنى روحوا؟؟”
كان هذا سؤال موسى الذي وجهه لصديقه عبر الهاتف والذي سرعان ماأجابه بهدوء،ليبعث الطمانينة في نفسه:
“أيوه روحوا ما تقلقش..،خد بالك أنت من نفسك،وماتشغلش بالك…،يلا أسببك ترتاح شوية..مع السلامة”
أوقفه موسى سريعاً حينما عجز عن إيجاد تفسير لما يدور في عقله منذ وصوله،فسأله بلهفة:
“هي فيروز ماجتليش ليه؟؟”
انطلقت كلماته على عجل،لكنها حملت في طيّاتها قلقًا خفيًا لم يستطع إخفاءه،وكأن عقله الباطن كان يدرك أن غيابها وعدم ظهورها إلى الأن أمر غريب.
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.