رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل السابع عشر 17 – ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل السابع عشر 17

الفصل السابع عشر♥️🤫
[بعنوان: فرصة أخرى، لقلب يبدأ من جديد ]

توقفت السيارة أمام البوابة الرئيسية لفيلا عائلتها، كانت ماسة تنظر إليه بنظرات متوجسة، وحاجباها معقودان في حيرة: هي دي المفاجأة ؟! إحنا عند ماما؟!

ابتسم ابتسامة غامضة: مش بالظبط.

رفعت أحد حاجبيها بتساؤل: أومال؟

أجابها بخبث ناعم: لما ننزل هتعرفي.

تنهدت بخفة، نظرت أمامها للحظة ثم أومأت برأسها.

هرع السائق لفتح الباب، هبطت أولا، تلاها سليم، وتقدما بخطوات متزنة نحو الباب، والهدوء يخيم على المشهد.

فتحت الخادمة الباب، ورحبت بهم بإبتسامة: أهلا يا فندم، أزيك يا ماسة هانم؟!

تساءلت بابتسامة: تمام، ماما وبابا فين؟!

الخادمة: كلهم قاعدين في الليفنج روم يا ست هانم.

ماسة بتهذب: تمام، روحي أنتِ دلوقتي.

تابعت سيرها، وقلبها يدق بسرعة وسليم خلفها.

دفعت الباب، ورفعت صوتها بإبتسامة: مفاجأة!

ابتسم الجميع، وارتفعت أصوات الترحيب فجأة، وهرولت سلوى لتحضنها: وحشتيني، عاملة إيه؟

بادلتها العناق: الحمد لله.

اقترب منها يوسف: كويس إنك جيتي هقعد معاكي 10دقائق قبل ما أروح الشغل.

نظرت نحو والدها تتساءل باهتمام: عامل إيه يا بابا دلوقتي؟!

مجاهد بابتسامه حنونه: الحمد لله ياحبيبتي تعالي.

وهنا ودخل سليم بخطوات هادئة، قائلا بصوت منخفض: مساء الخير.

تجمد الجو للحظة، تراجع بعضهم في جلسته، وسرت همهمة خافتة في المكان.

أبعدت سلوى ذراعيها عن ماسة ببطء، وأشاحت بوجهها بعيدا في صمت، أما سعدية قالت باحترام وترحيب: مساء النور إزيك يا سليم بيه.

ابتسم بخفة، ومد يده بتحية مهذبة: سليم بس يا ماما سعدية من غير بيه.

ألتفتت ماسة نحوه بدهشة واضحة، عقدت حاجبيها، ونظرت إليه طويلا لا تفهم ما الذى ينوي عليه!؟

ظل الصمت مخيم على الأجواء للحظه، حتي تنهد قائلا بصوت هادئ صادق النبرة: أنا جاي النهاردة عشان أعتذر عن اللى حصل مني قبل كده، عارف إن في حاجات مينفعش فيها الاعتذار، بس لازم اعتذر.

سعدية بطيبة: خلاص يا ابني إللي حصل حصل متعتذرش أهلا بيك أتفضل

أوقفها بلطف بأشار من يده: من فضلك، سبيني أكمل.

أقترب خطوة إلى الأمام، وعينيه تتحرك بين الوجوه: أنا غلطت لما رفعت سلاحي على عمار، ولما اتكلمت مع سلوى بطريقة مكانتش محترمة، ولما هددتكم وبعت رجالتي تتعامل معاكوا بأسلوب ميليقش أبدا بأهل مراتي، ولا حتى بالعشرة والعيش والملح إللي بينا، وغلطت كمان لما منعتكم من ماسة وطردتكم بأسلوب ميصحش، بس والله ماكنت أقصد ولا كنت أتمني الوضع بينا يوصل لكدة، بس كنت وقتها تايه ومتعصب وحاسس بجرح كبير من مراتي اللى هربت من غير سبب، ومن أهلها إللي حاسس إن هما كانوا سبب في هروبها.

كادت سلوى أن تنطق لكن أوقفها بأشار من يده: أوعي تقولي محصلش يا سلوى أنتِ ساعدتي ماسة مرتين.

أطرق رأسه لحظة ثم رفعها، واسترسل بنبرة خافتة: أنا مش ببرر اللى عملته، أنا عارف إن اللى عملته ملوش مبرر وجاي اعتذرلكم عليه واقولكم أنا أسف، وبتمني تقبلوا اعتذاري ونرجع زى زمان، اعتبرني أخوك الكبير يا عمار، وأنتِ يا ماما سعدية اعتبريني ابنك وغلطت.

تقدمت سعدية نحوه، وربتت على كتفه بلطف: إحنا مسامحينك يا ابني، إللي حصل حصل خلاص.

كانت ماسة تتأمله بنظرات تتلألأ بالفخر، كأنها تراه لأول مرة؛ إنسانا حقيقيا، لا قاسيا متجمدا كما كان، فهذا هو سليم الذي أحبته وتزوجته.

تدخل مجاهد بهدوء: يا ابني إحنا فاهمينك والله متعتذرش، إحنا كمان محققوين ليك، لأن بنتنا غلطت برضه، يلا تعالى أقعد وسعدية تعملك الأكل إللي أنت بتحبه وقضوا معانا باقي اليوم.

سحبته سعدية من كفه بحنان: أيوه طبعا هعملك كل إللي بتحبه، إحنا مسامحينك يا ابني عادي ده مصارين البطن بتتعارك.

ابتسم بسعادة وغير تصديق، فلم يكن يخطر بباله أن تأتي المسامحة بهذه السرعة، لكن الفرحة لم تدوم طويلا، وخفتت ابتسامته حين توقف عمار فجأة، وصاح بغضب مكبوت: اتكلموا عن نفسكم، أنا مش قابل اعتذاره.

خيم الصمت من جديد، ونظرت إليه سعدية بحدة: بس يا عمار، عيب كده! الراجل جاي بيتنا عشان يعتذر، بعدين إيه المشكلة يعني أخوك الكبير وزعلك شوية.

رفع عمار صوته باعتراض: لا مش أخويا! سليم بيه مش أخويا، وعمره ما هيكون أخويا، وهيفضل بالنسبه لي سليم بيه، وأنا هفضل بالنسبة له عمار ابن مجاهد الفلاح الأجري، وسعدية الخدامة، وبعدين أسامح مين؟! أسامح واحد رفع سلاحه عليا وكان هيموتني؟! ومنعني من أختي! وكان بيعاملنا كأننا عبيد عنده! مش بالسهولة دي يا سليم بيه، أنا أسف اعتذارك مش مقبول وعمرنا ما هنرجع زي زمان.

ثم غادر وصفع الباب خلفه بعنف، تبعه نظرات الجميع، لكن لم يتحرك أحد، وأصبح الجو في الغرفة أثقل، كأن الهواء نفسه فقد دفئه.

ظلت سلوى صامتة لم تعلق بكلمة، يبدو عليها التحفظ وملامحها توحي بأنها لم تسامح بعد، لكنها آثرت الصمت ولم تقل شيئا..

بينما ماسة ظلت عيناها تتجول في الوجوه حولها، كأنها تبحث عن غفران لم يمنح بعد.

نادى سليم بصوت متردد: إيه يا سلوى مسمعتش رأيك؟ وأنت يا يوسف؟!

رفعت نظرها نحوه بنظرة باردة: أنا مش حابة أتكلم، أتفضل أقعد.

وقف يوسف قائلا بنبرة عقلانية حزينة: المسامحة سهلة يا سليم باشا، بس النسيان صعب، أنت بهدلتنا كتير، وإحنا مش عايزين منك غير إنك تخلي بالك من أختنا ومتزعلهاش تاني، لكن إللي بينا هيفضل مر.

أقترب من ماسة، وقبل رأسها بحنان صادق، وقال بإبتسامة صغيرة: كان نفسي أقعد معاكي، بس عندي شغل معلش تتعوض، سلام يا حبيبتي.

كانت ماسة تحدق في أشقائها بعينين يغلفهما الأسى؛ فما جرى لم يرق لها، تشعر بحزنهم وتدرك تماما أنهم على حق، ومع ذلك ظل الحزن واضحا على ملامحها، إذ آلمها رفضهم مسامحته ومعاملتهم له بفتور وجفاء، فوقفت عاجزة عن تغير أي شيء، رافضه ذلك الأسلوب الذي فرضته الظروف.

صاحت سعدية بضيق: أخص عليكم!؟ والله ماربتكم على كده! حقك عليا يا سليم أنا هوريهم.

رفع يده بهدوء، وابتسامة متعبة على وجهه: لا هما عندهم حق، أنا غلطت فيهم غلط كبير، وإن شاء الله مع الوقت هيسامحوني، ويشوفوا بعينيهم إن أنا اتغيرت.

تنهد مجاهد قائلا بصوت دافئ: حقك علينا يا ابني، تعالي أقعد، نفتح صفحة جديدة.

جلس أخيرا وماسة بجانبه بإبتسامة حزينة، وأخذوا يتبادلون الأحاديث بود؛ فسعدية ومجاهد كانوا يتعاملون معه بلطف وود، عكس سلوى التي كانت تتجنب الحديث معه.
🌹____________بقلمي ليلةعادل
فيلا عائلة هبة، 3:00 عصرا

دخل زيدان الفيلا وملامح وجهه تحمل استهجانا واضحا، استقبلته الخادمة عند المدخل.

زيدان بصوت منخفض: سامية وهبة فين؟

الخادمة: فوق في أوضهم يا فندم، تحب أحضر لحضرتك حاجة؟

هز رأسه نافيا: لا روحي أنتِ.

وأثناء ذلك، كانت هبة تهبط الدرج مسرعة، بأنفاس مضطربة، تساءلت واللهفة تكسو ملامحها: ها يا بابا عملت إيه؟

أجابها وهو يشير بيديه بضيق وضجر: ولا حاجه، عزت مبيردش عليا، وروحتله المجموعة، فضلت قاعد ساعتين ومدخلونيش، قالوا عنده اجتماعات ومش فاضي، حتى الهانم مكانتش موجودة.

سقطتت دموعها، وهي تصيح بلوعه: يعني إيه يا بابا؟ خلاص مش هقدر أشوف بنتي تاني؟

بنغضب ممزوج بالسخرية: وهو مين اللى حطنا في الموقف دى مش أنت؟! كان لازم تفكري في العواقب قبل ماتعملي الحركة الغبية اللي عملتيها دي.

ردت بصوت مختنق: كنت عايزني أعمل إيه لما أعرف إن أهل جوزي مافيا وكل شغلهم حرام؟ عايزيني أخلف وعيالي يطلعوا يلاقوا أعمامهم كده، ويبقوا زيهم.

زيدان بتهكم قاسي: كان ممكن تاخدي ردود أفعال كتير أذكى من كده، بس للأسف أنتِ اخترتي أغبي رد فعل، وقتلتي ولادك بأيدك، ومش مرة لا مرتين…
هز رأسه بضيق واضح أضاف: مفيش مبرر للي عملتيه يا هبة مهما كان السبب….
رفع عينيه نحوها متسائلا باستهجان: وبعدين لما أنتِ كارهه أهله، وكاره عيشتك معاه كده، وافقتي ترجعيله ليه؟! قبلتي تفضلي في الجوازة دي ليه؟! وأنتِ حاسة إن فلوسهم حرام.

توترت لحظه، ثم مسحت دموعها وأجابت بارتباك: قبلت علشان بحب ياسين، بس مكنتش عايزة أخلف منه تاني، اعتقد أنا حرة.

زيدان بصوت أثقل: لا مش حرة، الكون مش هيمشي على مزاجك يا هبة، وقرار زى دى لازم تشركيه معاكي فيه، لأنهم ولاده زي ما هما ولادك…

هز رأسه بمرارة وخذلان: ياريتك حتى أخدتي مانع للحمل كنت عذرتك، لكن لا أنتِ حملتى وأجهضتي ابنك بأيدك بدل المرة اتنين!؟ جبتي قسوة القلب دى منين يا هبة!؟

كادت أن ترد، ولكن قاطعها بغضب: اخرسي مش عايز أسمع صوتك، هتتكلمي تقولي ايه تاني، وأوعي تفتكري إني عايز أجيب البنت علشان خاطرك! لا أبوها عنده حق يخليها معاه ويخاف عليها منك، بس لأسف البنت في السن دى بتبقي محتاجه لأمها، وده السبب الوحيد اللى بحاول علشانه، وأتمنى مكتشفش حاجة تانية تكوني مخبيها عني وعاملاها من ورايا تقصر رقبتى قدامهم أكتر من كده.

نظرت اليه بعينيها الدامعتين، وهمست بصوت مرتجف: هكون عملت إيه يعني؟ أنتِ ليه محسسنى إني شيطان، أنا بنتك وأنت أكتر واحد عارفني.

هز رأسه بخذلان: للاسف أنا أكتشفت إني معرفكيش يا هبة، لأن بنتي اللى أنا ربتها مكانتش جاحده وقلبها قاسي كده، ولا تقدر تعمل اللى عملتيه.

قال كلماته، التفت وصعد الدرج، أما هبة، فجلست تبكي وحدها، لا تعرف ماذا تفعل، ولا كيف تصل إلى ابنتها بعد الآن.

فيلا عائلة ماسة، 4:00عصرا.

جلسوا على السفرة يتناولوا الغداء في جو هادئ نسبيا، والابتسامات تتخلل وجوههم.

سعدية بإبتسامة دافئة: إيه أخبار العملية؟ خلاص خفيت يا ابني؟

أجابها بابتسامة: آه الحمد لله، بس لسه بعمل علاج طبيعي عليها، كان المفروض أكون خلصت، بس بقالي فترة موقف، فرجلي رجعت تتعبني تاني.

نظرت إليه ماسة بضجر: أنت لازم تحجز معاد في أقرب وقت، وأعمل حسابك هاجي معاك، وبطل إهمال.

ابتسم لها بحب: حاضر.

ابتسم مجاهد: حمد لله على السلامة يا بني، وربنا يكمل شفاك على خير.

أومأ برأسه مبتسما: الله يسلمك، أيوة كدة أدعيلي.

ثم وجه نظراته إلي سلوي قائلا بلطف: سوسكا، ممكن نتكلم لوحدنا بعد الغداء؟

فرفعت عينيها نحوه بإستغراب، وقالت بنبرة متحفظة: هنتكلم في إيه؟

تبادل النظرات معها لثواني، فعلقت ماسة بفضول: فعلا أنت عايزها في إيه؟

سليم بهدوء: بعدين يا ماسة.

سلوى بإستهجان: وليه بعدين؟ ما تقول قدامهم.

سليم بهدوء: من فضلك يا سلوى عايز أتكلم معاكي لوحدنا.

كادت سلوي أن تنطق فقاطعتها سعدية وهي تلوح بيدها بنفاد صبر: في إيه يا بت؟ ما تروحي مع أخوكي، وشوفي عايز يقولك إيه!

أضاف مجاهد بلهجة قاطعة: أسمعي الكلام يا سلوى، وشوفي جوز أختك عايزك في إيه.

قلبت شفتيها ببرود، في حركة مليئة بالرفض المكتوم، تريد الرفض لكنها لم تستطع، وبالفعل تناولوا الغداء، ثم أخذها وجلسوا في الحديقة تحت البرجيلة، بينما بقيت ماسة مع والديها في غرفة المعيشة.

الحديقة

جلسا متقابلان، اسفل البرجيلة، وجه سلوى مشدودا، وعيناها مضطربتان، والصمت يخيم على المكان، حتي قطعته قائلة بنفاد صبر: عايز إيه يا سليم؟

تنفس بعمق، وصوته خرج مثقل بالندم: دي تاني مرة أقولك أنا بعتذرلك علي أسلوبي وعلى إللي عملته معاكي قبل كده.

نظرت أمامها دون أن تلتفت إليه، قائلة ببرود جارح: واعتذارك مش مقبول.

ظل صامتا للحظة، قال بصوت متماسك: طيب أنا فاهم موقفك معايا، بس ممكن أفهم ليه زعلانة من مكي؟ وليه سبتيه؟ بتحاسبيه على حاجة أنا إللي عملتها؟

رمقته من أعلى إلى أسفل، قائلة بنبرة لاذعة: المطلوب مني أتجوز واحد معرفش يحميني، ولا حتى يحمي أخت مراته من سيده؟

قاطعها بنبرة حادة، وهو يشير بيده: بلاش المصطلحات دي يا سلوى، أنا مش سيد حد، مكي أخويا.

ردت بحدة جارحة: وبيشتغل عندك وده لوحده كفاية.

أضافت بخذلان، وقلب مثقل بالوجع وعينين ترفض البكاء: واختارك أنت ومختارنيش، المطلوب مني أعمل إيه؟ لما إللي هيبقى جوزي يسيبك تدخل بيتي وتهددني وتبهدل أهلي، وميعملش حاجة! وسنة كاملة ساكت، مفكرش حتى يهديك، أو يخليك تسيبنا نشوف أختنا ولو مرة أو حتى نكلمها في التليفون! وهو سكت! ولا مرة اتدخل.

رفع رأسه محاولا الرد، لكنها لم تمنحه الفرصة، وقاطعته بإشارة حادة، وكأنها تقطع الطريق على أي تبرير قادم: مكي بيقدر يوقفك متنكرش، حتى لو المقابل أنه يسيب شغله! بس هو قبل إنك تخش البيت وتهددنا وتمنعنا من أختنا! وكل ده ويقولي أنا مالي ده جوز أختك!

تنفس بعمق وهو يمرر عينه عليها متفهما وجعها، أكملت سلوى بإنفعال مكتوم مليء بالوجع: أنت عارف أنا حاسة بإيه؟ أنا مش حاسة معاه بالأمان ومش واثقة فيه، ومتأكدة إني لو غلطت في يوم أو حصل موقف تاني شبه ده، هيعمل زي ما عمل قبل كده، ويسيبك تدخل وتتهجم علينا، وهو واقف يتفرج!

رفعت نظرها نحوه بعينين تغليان بالخذلان: قولي يا سليم، ده راجل ينفع أعيش معاه؟ لو الوضع مختلف وأنت مكانه كنت هتسيبه يعمل كده في ماسة؟ استحالة.

خيم الصمت بينهما لوهلة، لم يجد ما يقوله، فقد كانت كلماتها كمرآة تعكس أخطاءه بوضوح مؤلم، لكنه شعر إنها متحاملة على مكي بعض الشيء فهو لم يكن أبدا بذلك السوء الذي تصفه به.

تنفس ببطء، وصوته خرج مبحوحا لكنه صادق: أنا فاهمك يا سلوي، ومعاكي حق في تفاصيل كتير، بس مين اللى قالك إنه كان واقف بيتفرج زى ما بتقولي؟! والله كان بيحاول كتير، وأنا إللي كنت متعصب وقافل أي باب للكلام في الموضوع دى، ويوم ما مشي عمار ومامتك كان خايف من رد فعلي لأنه عارفنى كويس.

رفعت عينيها نحوه بوجع وسخرية: يا سلام، وده مبرر؟

تنهد قائلا بنبرة هادئة محاولا احتواء الموقف: أنتِ كنتي عايزاه يعمل إيه يا سلوي؟ وأنتِ محترمتهوش وساعدتيها تهرب للمره التانية، حتى مخوفتيش عليها يحصل فيها زى ما حصل المرة الأولي لما ساعدتيها برضم، هو كان حاسس بالذنب يومها أنه خذل ثقتي فيه، وأنا اللى منعته يدخل مكانش واقف يتفرج زى ما بتقولي.

تنهد، وتابع بنبرة أكثر هدوءا: ولما حصل اللى حصل من أسماعيل معاكي، مستحملش وراح ضربه في بيته وكان هيقتله لولا أنا لحقته، وجابه لحد عندك يعتذرلك، بس رفضتي وقتها أي أعتذار، وقولتيله يا أنا يا سليم، المقارنة نفسها غلط يا سلوى، المقارنة بتقلل وعمرها ما كانت بتكبر إنسان، مكي بيحبك وأنتِ بتحبيه، بلاش تاخديه بذنبي، أنتِ معاكي حق، كان ممكن يتصرف معايا في السنة بحسم أكتر من كدة، بس صدقيني هو مكانش بيبطل يحاول معايا، ونتيجة محاولاته دى أنا وافقت إن والدك ووالدتك ويوسف يجو عادي، بس أنتِ وعمار لا، لأني كنت متعصب وزعلان منكم وخايف تساعدوها تهرب تاني، وصدقيني هو لو كان شايف مني تجاوز زيادة عن اللزوم مكانش عداهالي.

ضحكت قائلا بتهكم ممزوج بالمرارة والسخرية: آه وكان مستنى لما تمد إيدك عليا يعنى ولا ايه؟ أنت لو مكانه كن..

قاطعها سريعا بحدة لم يخفها: أنا مش هو!

مالت بجسدها للأمام، تنظر إليه بعينين متسعتين من الغضب والخذلان: وليه هو ميبقاش زيك؟ مش هو ده الصح؟؟!

تنهدت قائلة بوجع: بقولك ايه يا سليم أنا قولتلك إني خلاص مبقتش حاسة معاه بالأمان، هخاف أغلط فيك تاني وتعمل إللي عملته معايا، وهو يقف يتفرج! ساعتها هتكسر أكتر.

أشاحت بوجهها بحسم: فلو سمحت أنا مش عايزة أتكلم في الموضوع ده تاني، أنا ومكي قصتنا انتهت لحد كده ولا يمكن هتتفتح تانى.

صمت لحظه أمام جمود ملامحها وهو يرمقها من أعلي لأسفل، ثم قال بنبرة عقلانية وكأنه يعريها أمام نفسها: سلوى أنتِ أصلا متغيرة معاه من الفترة إللي ماسة اتغيرت فيها معايا، واخدتي الموضوع التاني ده حجة، فبلاش تكذبي على نفسك ولا عليا؟! صدقيني مكي بيحبك فبلاش تخسريه علشان متندميش، لسه قدامك فرصه ترجعوا اللى بينكم حتى لو هو ظاهر عكس كده، بس دى صاحبي وأنا عارفه كويس.

توترت لحظه وأشاحت بعينيها في كل اتجاه محاولة التماسك قالت بتلعثم: لا الموضوع ده مكانش حجة، الموضوع ده خلاني أتأكد إني كنت صح في قراري.

نهضت قائلة بتهرب وتوتر: وقولتلك موضوعنا خلص ومش هيتفتح تاني، عن إذنك.

غادرت تاركة خلفها صمتا أثقل من أي كلام، ظل هو جالسا ينظر إلى آثارها بإختناق واضح وشعور بالذنب يثقل قلبه بشدة، وفي الوقت ذاته، شعر أن سلوى متزايدة في ردة فعلها؛ فحتى لو كان مكي مخطئا، هي أيضا لم تكن بريئة من الخطأ !

تنفس بعمق كأنه يحاول طرد الغصة، ثم نهض ببطء متجها إلي الفيلا.

في الداخل.

كانت ماسة تجلس مع سعدية ومجاهد، يضحكون ويتحدثون بصوت دافئ يملأ المكان.

مجاهد بإبتسامة هادئة تخالطها الحكمة: هو ده الصح يا بنتي، إنكم تدوا لبعض فرصة.

تنهد وأضاف بحنان وهو ينظر إليها بعين الأب المجروح: بصي يا ماسة، إحنا مبننساش إحنا اتعورنا إزاي، بس بناخد بالنا عشان منتعورش تاني، الحياة يا بنتي لازم تدوقي وجعها وظلمها، علشان تحسي بطعم السعادة لما تجيلك، وتقدري النعمة إللي في إيدك.
صمت لحظة، واصل بنبرة هادئة: سليم غلط اه، بس هو دلوقتي رجع عن غلطه، ومش هيعمله تاني؛ لإنه اتعلم وعرف إن تصرفاته ليها تمن وعواقب، وأنتِ كمان اتجرحتي حتى لو جرحك لسة مطابش بس مع الأيام هيطيب وهتبقي كويسة، بس هتفضلي فاكرة سبب الجرح وهتحاولي تتجنبيه..

أضاف بحكمة وهو يربت على قدميها بلوم: وجوزك طيب وكويس يا ماسة، وأنتِ كمان يا بنتي للمره ألف انتي غلطتي في حقه، وإللي عملتيه ده لو راجل تاني، كان زمانه قطم رقبتك، ومكناش هنقدر نقوله حاجة.

طأطأت رأسها ورمشت بعينيها محاولة حبس دموعها: عارفة والله يا بابا، وعارفة كمان إن عليا غلط كبير، بس الغلط الكبير ده أنا عملته غصب عني، وكان نفسي العقاب يبقى معايا أنا بس، ميطلكوش أنتم كمان.

نظرت للأرض لحظه ثم رفعت عينيها نحوه بابتسامه حزينة: وبعدين أنا خلاص فهمت والله، بس زي ماقولتلك في حاجات معينة تعباني، والدكتور قالي إنه هيعلمني إزاي أتعامل معاها، يعني أنا من قلبي مسامحاه، وفاهمة سبب جرحه ورد فعله، حتى لو زايد ،بس هو جاي من وجعه وخذلانه فيا، وأنت عندك حق، أنا لو كنت اتجوزت واحد زينا زمان، كان قتلني لأنه ميعرفش حاجة؟!

مالت سعدية بجذعها للأمام، وتساءلت بفضول: وإيه بقى إللي غصب عنك ده؟ إيه إللي محدش عارفه يا ماسة؟

توترت وحاولت أن تهرب من المواجهة: بعدين يا ماما بعدين نحكي، المهم إن أنا وسليم اتصالحنا خلاص، وأنا مسامحاه من قلبي، والفترة دي مدين بعض فرصة، هنشوف هنعرف نتعامل فيها مع بعض ولا لا، والدكتور إن شاء الله هيساعدنا نحل كل أمورنا سوا.

وفي تلك اللحظة، دخلت سلوى بملامح شاحبة، والضجر والوجع ظاهرين في عينيها المبللتين بالدموع.

وقفت ماسة فور أن رأتها، وتساءلت بقلق: مالك يا سلوى؟ عاملة كده ليه؟ سليم قالك إيه؟

سلوى بصوت مبحوح متكسر: اسأليه، معلش يا ماسة مش قادرة أقعد، محتاجة أنام.

قالت كلماتها وصعدت الدرج بخطوات سريعة، كأنها تهرب من شيء أثقل من قدرتها على احتماله.

بعد لحظات دخل سليم، ويبدو علي ملامحه علامات الضيق.

سألته ماسة بقلق: مالها سلوى؟ قولتلها إيه؟

أجابها متنهدا: ولا حاجة، كنت بكلمها على مكي، وإنها تديله فرصة.

زمت شفتيها بأسف: وهي طبعا رفضت.

سعدية بحدة مستنكرة: سيبك منها يا ابني، دي بت بومة وبراوية! والله العظيم ما تستاهله.

هز رأسه معترضا بعقلانية: لا هي معاها حق في بعض الحاجات بس هي مدية الموضوع أكبر من حجم،ه أو مش فاهمة الصورة كاملة علشان كده زعلانة.

مجاهد محاولا تلطيف الأجواء: ربنا يصلح الأحوال يا ابني، تعالى أقعد أرتاح شوية.

لكن ماسة قالت بصوت خافت: لا يا بابا هنروح، معلش تعبانة شوية.

نظر إليها سليم بقلق: مالك؟

وضعت يدها على بطنها وهي تتألم: بطني وجعاني، وحاسة إني عايزة أرجع.

ربتت سعدية على كتفها برفق: سلامتك يا حبيبتي استني أعملك حاجة دافية، وخديلك حابة مسكن وهترتاحي.

أومأت مسرعة فهي تعرف أن سليم يرفض أن يعطيها مسكن: ماشي، موافقة.

جلسوا قليلا، شربت ماسة النعناع وأخذت الدواء، ثم خرجت مع سليم بعد فترة قصيرة.

سياره سليم

جلس سليم مكان السائق، وأدار المحرك بهدوء، قال وهو يثبت نظره في الطريق: أنا خليت السواق يمشي، والحراس يبقوا بعيد علشان متحسيش إن في حد بيراقبك.

ابتسمت بخفة ونظرتها تحمل شيئا من الحنين: زي زمان.

ابتسم وهو يتأملها: امم زي زمان.

مال بجسده نحوها وتساءل: بقولك إيه، قادرة نكمل اليوم ولا لسه تعبانة؟

اومات بإبتسامة هادئة: لا الحمد لله، بقيت كويسة.

نظرت في عينه بنظر امتنان وحب: وشكرا على إللي عملته، أنا معرفتش أقولك جوه، بس بجد شكرا وآسفة لو إخواتي مقبلوش اعتذارك، غصب عنهم والله.

أومأ بهدوء متفهم: أنا فاهم وكنت عارف إنهم مش هيقبلوا اعتذاري علطول، بس زي ما قال عمي مجاهد الأيام قادرة تداوي الجروح.

ابتسمت بخفة وهي تهمس: رجعت تاني عم مجاهد وماما سعدية.

ضحك وقال مازحا: خلاص بقى العفريت إللي كان عليا انصرف واتحرق.

ضحكت هي الأخرى، ضحكة دافئة فيها حياة، فأدار المحرك وانطلق بالسيارة بهدوء.
💕___________بقلمي_ليلةعادل
إحدى صالات القمار، 7:00مساء

القاعة واسعة، أضواؤها خافتة مائلة للأحمر، يتصاعد فيها دخان السجائر والحشيش حتى شكل طبقة ضبابية تعمي النظر، الطاولات تنتشر في المكان، يلتف حولها القمارية من كل الطبقات، لكن الوجوه الغنية كانت الأكثر حضورا، والرهانات الأعلى دائما تأتي من طرفهم.

رجال الأمن يقفون في كل زاوية؛ أكتافهم عريضة، أياديهم على أسلحتهم، عيونهم تمسح المكان كأنها كاميرات.

بين الضوضاء، ضحك، صراخ، شتائم، ضرب، واخرون ينسحبون للخارج بعد إفلاسهم، جلس محمود عند إحدى الطاولات.

شاب في أواخر العشرينات، ملامحه مصرية، بشرته قمحية، عظام وجهه بارزة من الإجهاد.

كانت أصابعه ترتجف وهو يقلب الكوتشينة، وشفته السفلية تتحرك بلا وعي من كثرة التوتر، ألقى أوراقه على الطاولة وقال بحماس: كسبت استريت.

لكن الرجل الذي امامه قال بسخرية وهو يلقي أوراقه بقوة: معلش يا حوده تعوض، فول آس!

أنفجرت الطاولة بالضحك، ضغط محمود بإصبعه على صدغه، وكأنه يمنع نفسه من الصراخ، بجواره كان يجلس معتصم صديقه يمسك رأسه بكلتا يديه، قائلا بضجر: يا نهار أزرق! محمود، إحنا خسرنا الفلوس كلها! الله يخرب بيتك!

رفع محمود حاجبيه بلا مبالاة: يا عم هنعوض، هات سيجارة حشيش بس يمكن دماغي تفك.

أخرج معتصم سيجارة ملفوفة بعشوائية، وقدمها له، أخذها محمود، قربها من أنفه، أشعلها وسحب نفسا عميقا وكتمه ثم أخرجه ببطء، وهو يغمض عينيه كأن الدخان هو الشيء الوحيد الذي يملكه.

معتصم تسأل: هتعوض أزاي وأنت لحد دلوقتي خسرت 2300! والواد إللي كسب ده مش سايبلك قرش!

ضحك محمود ضحكة قصيرة: هتصرف في قرشين وهعوض، هات بس إل 50 إللي معاك على 150إللي معايا ونلعب على 200 جنيه دلوقتي؟!

أعطاه معتصم آخر مبلغ معه، فمد محمود يده لبدء جولة جديدة، لكنه بالكاد كان يثبت الورق بين أصابعه التي كانت ترتعش من الحشيش والتوتر معا.

دخل الجولة فخسر، وقبل أن يلتقط أنفاسه ظهر رجل ضخم خلفه، وهبطت يده على كتفه بقوة جعلت قلب محمود يهوي في صدره.

الرجل بغلظه: محمود الزعيم عايزك.

وقف ببطء وقدميه تهتزان من الخوف، حاول معتصم النهوض معه لكنه اندفع للخلف بإصبع واحد من الرجل: اقعد أنت، الزعيم عايزه لوحده.

سار معه والعرق يهبط من رقبته رغم برودة المكان.

وصل للمكتب الداخلي…

مكتب يشبه جحر زعيم المافيا، يجلس خلفه رجل ببدلة سوداء وقبعة إيطالية،في الخمسينات ينفث دخان السيجار وهو يراقب محمود بعينين باردتين.

رفع الزعيم رأسه: إيه يا محمود؟ خسرت تاني؟

عندما اقترب محمود، رفع الزعيم يدا واحدة بإشارة تحدد له مكان الوقوف: قول وصلت لكام

حك محمود كفه بتلعثم: 28 ألف يا باشا.

الزعيم بنبرة لازعة: وهترجعهم إمتى؟

محمود بتوتر: آخر الأسبوع، والله آخر الأسبوع.

الزعيم بابتسامة باردة: لأ الفلوس تجيليى بكرة.

شهق محمود بفزع: ببكرة ايه! ده أنا بكرة مش هعرف أجيب نص جنيه! اديني آخر الأسبوع بس.

ضرب الزعيم الطاولة ضربه ارتعش لها جسد محمود، وصاح بنبرة حاسمة: آخر الأسبوع ال28 ألف هيبقوا 35.

مال بجسده للأمام، وصوته صار منخفض بنبرة خطيرة: والأربع الجاي لو الفلوس موصلتش الخميس.

رفع إصبعه، وأشار له كأنه يعلق حكم إعدام: أنت وأمك وأختك هبيع أعضاءكم والشاري موجود.

شعر محمود كأن الأرض تميد تحت قدميه، وامتد برد حاد في أطرافه.

الزعيم بحسم: ومش هتشوف الصالة دي تاني، إلا اما تدفع اللي عليك.

ثم أشار برأسه إشارة صغيرة، لكنها كانت كافية ليتقدم رجلان ضخمان من خلف محمود؛ أمسك أحدهما بذراعه بقوة، بينما دفعه الآخر إلى الخلف، حاول الوقوف واتخاذ خطوة للخروج لكنه توقف عندما وضع أحد الحراس كفه على صدره ودفعه للخلف بتهديد صامت.

الزعيم وهو يشعل سيجارة ويلوح له من بين الدخان: أنت فاكر نفسك هتخرج كده؟ لأ يا محمود لازم تتربى.

ثم حرك رأسه نحو الخارج: ربوه.

أمسك الرجال بمحمود وسحبوه جبرا خارج المكتب، مرورا بالصالة، كان معتصم يشاهد من بعيد وعينه تتسع رعبا: محمـــود!

لكن الحراس أبعدوه بنظرة واحدة، كأنهم يهددونه بالصمت.

في الخارج…

بمجرد خروج محمود إلى الشارع الخلفي للصالة، رموه على الأرض، اصطدم كتفه بالأرضية الخرسانية، وأطلق أنينا مكتوما.

وقف اثنان، وبدأوا الضرب؛ ركلات في جنبه، في ظهره، أحدهم أمسكه من ياقة قميصه ورفعه قليلا ثم أسقطه أرضا بقوة.

صرخ الرجل الضخم في وجهه: فلوس الباشا! لو مجاتش آخر الأسبوع، قول على نفسك يا رحمان يا رحيم.

رفع محمود ذراعه يحمي وجهه، وصوته خرج متكسرة: حاضر آخر الأسبوع! آخر الأسبوووع والله!

لكن الركلات لم تتوقف.

بعد دقائق، تراجع الرجال عندما تلقوا إشارة مختصرة من أحدهم، وتركوه مطروح أرضا، ركض معتصم اليه، وحاول رفعه من تحت ذراعه بصعوبة

معتصم بخوف: يا ابني قوم، قوم بالله عليك، هنعمل إيه؟! قولتلك بلاش الزعيم إحنا مش قده.

حاول محمود الوقوف، يتمايل، يمسك على جنبه، ويقول بين لهاثه: معرفش خليني أروح أشوف البت أختي لو معاها أي حاجة وألعب كده مع الواد توتو.

معتصم بضجر: تاني؟!

محمود وهو يخبطه على كتفه: يا عم توتو والشلة دي؟! بعرف أكسبهم!

معتصم بتوتر وضيق: وأفرض خسرت! يعم حتى لو كسبت، هتكسب كام يعني؟ خمسـة؟ ستة؟ هما أصلا مبيحطوش أكتر من كده على الترابيزة!

محمود بابتسامة موجوعة، وهو يمسح التراب من على ثيابه: يا عم حلوين وهتصرف، بص الحاج بكرة هيديني 30 ألف علشان توريد الشغل الجديد، هدفعهم مع الخمسة إللي هنكسبهم من توتو.

قاطعه معتصم بصوت عال: وهترجع الفلوس للحاج شاهين إزاي؟!

حاول محمود إقناعه بطمع: يا عم الحاج شاهين فلوسه كتير، مش هياخد باله لحد ما نعرف نرجعهم؟! خليني بس أروح للبت آلاء أختي آخد منها ألف جنية، وروح أنت اسبقني عند توتو وظبطوا الترابيزة.

هز معتصم رأسه رغم الخوف: ماشي ماشي يا محمود، لما نشوف آخرتها معاك.

كورنيش المعادي، 8:00مساء.

توجه سليم وماسة إلى المرسى على النيل، استأجر مركب صغير، وساعدها علي الصعود، وقبل أن تتحرك المركب، جاء أحد الحراس يحمل باقة من البالونات الملونة وقدمها لسليم.

نظرت نحوه بإبتسامة واسعة: إيه ده؟ بالونات كمان؟ أكيد في غرض مش بريء صح؟

ضحك بهدوء: آه هتغرغر بيكي في وسط النيل.

ضحكت بدورها، ومدت يديها لتأخذ البالونات بفرح طفولي: يا نهار أبيض! قد إيه البالونات قمر أوى ! ييياه بقالك قد إيه مجبتليش بالونات؟

تحركت حتى توقفت في منتصف المركب، ونظرت من حولها، تتابع حركة الموج والهواء الذي يحرك المياه بخفة، وقالت بحنين: بقالنا قد ايه مقعدناش كده ولا قضينا وقت حلو كده؟!

اقترب منها، ووقف خلفها مباشرة قائلا بنبرة مريرة: لا، أنا بطلت أعد.

ألتفتت له بإبتسامة صغيرة، وقالت بتذكر: كانوا سنة، وبعدين ست شهور، ودلوقتي حوالي شهرين ونص، لا لا، قبلها كان في شهور.

نظراتها تغيرت وقالت بنبرة حزينه: أوقات كتير بسأل نفسي ليه حصل كل ده؟ مش بلاقي إجابة! يمكن ربنا كان بيختبر حبنا وتمسكنا ببعض؟ بس الإختبار كان صعب أوي، وأنا مش عايزة نسقط فيه.

مد يده يلمس كتفها بخفة: مش هنسقط فيه إن شاء الله، وبعدين أنتِ قلبتيها نكد ليه، أنا قولت مش عايزين دموع ولا وجع طول الأسبوع، عايزين نفرح وبس، قولي يلا نفسك في إيه؟

ابتسمت، وقالت بمزاح لطيف: نفسي الوجع إللي في بطني يروح.

ضحك وهو ينظر لها: غير الوجع إللي في بطنك؟

ماسة بتمنى وهي تتأمله بنظرات عاشقه: نفسي نرجع زي زمان خالص، عارف الفترة اللي بعد مروان وقبل حملي في حور؟ كنا حلوين أوي، فاكر؟ والله حتى زمان قبل ما تروح لمروان كنت عسل، آه كنت بتتعصب على حاجات غريبة، بس كنت عسل برضو.

ابتسم وهو يهز راسه بتأكيد: هنرجع، وعد.

سألته بهدوء: وأنت؟ نفسك في إيه؟

أجابها بعينين لا ترمش: زيك بالضبط، ونفسي نخلف.

فور استماعها لتلك الكلمه شعرت بغصه أصابت قلبها، وحاولت بشدة منع دموعها من الهبوط أمامه كي لا تحزنه، فحاولت تغير الموضوع بابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها باهتزاز: على فكرة، دكتور ياسر قالي لو اتصالحنا نروحله سوا.

تنهد بإرتباك: طب ماتيجي نروح لدكتور تاني.

اقتربت منه خطوة وهى تركز النظر في عينيه، تحاول إقناعه: ليه؟ ده عارف كل حاجة عننا، هنرجع للصفر تاني؟ والله ده دكتور شاطر.

هز رأسه وهو ينظر للمياه امامه: بعدين يا ماسه نبقي نشوف الموضوع دى.

أومأت برأسها، وأمسكت البالونات. حدقت فيها قليلًا قبل أن تُطلقها لترتفع في الهواء واحدةً تلو الأخرى، بينما كان هو يتأملها بنظرة دافئة، كأنه يرى فيها كل جميل يتمنى أن يعود إليه.

التفتت إليه بابتسامة تحمل لمسة خفيفة من الدلال الأنثوي، وقالت بنبرة ناعمة: تيجي نرقص؟

سليم باستغراب: هنا؟

رفعت كتفيها بخفة: أمم إيه اللي يمنع؟ يلا.

أمسكت هاتفها، وشغلت أغنية sway المفضلة لدى سليم.

ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيه: أغنيتي المفضلة!

أومأت برأسها بعيون لامعه: أمم بقالنا كتير مرقصناش عليها سوا.

تبادلا النظرات لحظة، ثم مد سليم ذراعيه حول خصرها ببطء، كأنه يمنحها فرصة لتتراجع إن أرادت، لكنها لم تفعل، بل اقتربت منه خطوة صغيرة، خفيفة، جعلت أنفاسهما تتلاقى.

وضعت يدها فوق كتفه، أما الآخر فانساب فوق كفه،
وتحركا مع الموسيقي بخطوة بطيئة، ثم التفافة خفيفة، ثم تمايل هادئ جعل خصرها يلين في يده بلا مقاومة.

كانت عيناها لامعه، وتقول كل شيء لم تستطع التعبير عنه بالكلمات، أما هو فكانت عيناه ثابته دافئة لا تغادر وجهها بشوق واضح.

أما هي، فكانت تحاول التماسك؛ تحاول ألا تظهر ارتجافها كلما شد عليها ذراعه أو اقترب منها أكثر

ومع كل حركة، كانت تشعر بتيار صغير من القشعريرة يجري في مختلف جسدها، وكأن لمساته توقظ شيئا خامدا بداخلها

حاولت أن تبقي نظراتها بعيدة، لكنها لم تستطع فكلما نظرت إليه، غرقت أكثر….

ومع جملة موسيقية ناعمة، سحبها إليه بخفة، فمالت للخلف في حركة راقصة ويداه تسند ظهرها بقوة محسوبة، وهو يميل فوقها، أقرب مما يجب.

ظل معلقا فوقها، عيناه داخل عينيها مباشرة،
نظرة واحدة فقط كانت كفيلة بأن تهز جسدها بأكلمه.

عادت تقف معه، لكنها شعرت بقدميها تخونانها قليلا،
حاولت ألا تضعف وألا تدع وجهها ينكشف أمامه، لكن القرب كان أكبر من قدرتها على الاختباء..

كان يميل عليها ببطء، وعيناه تتفحصان ملامحها كأنه يقرأها حرفا حرفا.

تجمدت أنفاسها، وسرت رعشة خفيفة على ذراعيها،
وكادت عيناه أن تنتصران عليها، وتذيب مقاومتها، وتسحب منها كل تماسكها.

ابتسم بخفة، وكأنه شعر بكل ما يحدث داخلها، ومد يده يعدل خصلة من شعرها سقطت على خدها، وهمس بنبرة دافئة: تحبي نرقص تاني؟

ارتجف صدرها في محاولة لالتقاط أنفاسها وهي تنتصب بنبرة متلعثمة: لأ تعبت، تعالي نقعد نستمتع بالأجواء.

تحركت مسرعه وكأنها تهرب منه، وجلست تنظر بعيدا، بينما هو ابتسم وعرف ما اصابها جيدا.

جلس بجانبها، ومد ذراعه خلف ظهرها، وكأنه بلا قصد يقربها إليه.

كانت تحاول تهدئة نبضاتها، لكنه كان حاضرا وقريبا جدا، وعينيه ما زالت تلاحقها؛ بنظرات تذيب قوتها ببطء، وتهيئ قلبها لشيء لم تسمح لنفسها بالاعتراف به بعد.

المستشفي،9:00مساء.

خرجت آلاء من المصعد تضحك مع زميلاتها، وبعد خروجها من المستشفى لوحت لهن بإبتسامة قبل أن تتجه نحو البوابة الخلفية، مفضلة الطريق المختصر الهادئ، ذلك الطريق الذي لا يمر به أحد تقريبا.

تقدمت بخطوات متعبة، والهواء البارد يلف خديها، لكن ما إن ابتعدت عن ضوء المستشفى حتى لاحظت هيئة تعترض الطريق، تباطأت حتي توقفت تماما ومع اقتراب الظل، تبين وجه محمود؛ متوترا، عيناه محمرتان، وآثار الضرب واضحة على وجهه.

شهقت من الخوف: محمود!! خضتني! إيه إللي جابك هنا؟!

اقترب خطوة، وقال بصوت غليظ: عايز فلوس.

تراجعت خطوة تضم حقيبتها إلى صدرها: فلوس إيه؟ معيش فلوس يا محمود.

زمجر بصوته الخشن: يعني إيه ممعكيش، أومال وديتي القبض فين؟

حدقت في وجهه وقالت بقلق: أنت إيه إللي في وشك ده؟ مين عمل فيك كده؟

اختطف الحقيبة فجأة: ملكيش دعوة، هاتي الفلوس!

صرخت وهي تشدها من الناحية الأخرى: مش هديك حاجة! أبعد عني، دي فلوس علاج أمك! وأنا لسة مقبضتش!

اختطف الحقيبة بالعافية، لكنها حاولت أن تشدها من يده وهي تقول بصوت مرتجف: هات الشنطة! معيش فلوس قولت!

لكنه صرخ بعنف: قولت هاتـي فلوس! بدل ما أضربك وأطلع عين أهلك!

هتفت ببكاء: مش هديك فلوس! والله ما هديك!

قرب وجهه منها فجأة، وعيناه تقذفان شررا: مش هتديني فلوس طيب؟!

صفعها بقسوة، صفعة خاطفة أشعلت النار في خدها، جذبها من حجابها بعنف حتى صرخت، فصفعها صفعه أخري أشد وهو يصيح: سيبي الشنطه دى بقولك.

مد يده إلى سحاب الحقيبة، يسحبه بعنف من يدها وهي تقوم حتى أنقطع الحزام، وبدأ يفتش داخلها كالمجنون، انتشل المحفظة، نقب فيها لحظة، زمجر: إيه ده؟! الفلوس متكملش ألف جنيه!

كانت آلاء تبكي بقلة حيلة، لا تعرف ماذا تفعل، مالت تجمع ما سقط من أغراضها، أمسكت حقيبتها مرة أخري.

تقدم نحوها ثانية وهو يقبض علي حجابها ويهدر بعنف: بقية الفلوس فين يا بت؟!

انفجرت فيه بجرأة يائسة: معيش حاجة غيرهم! مش خدت إللي أنت عايزه؟! غور في داهية بقي يا أخي منك لله! حسبي الله ونعم الوكيل فيك! روح أصرفهم على القرف إللي بتشربه والقمار إللي بتلعبه وتخسر فيها كل حاجة! خليهم يدوك على قفاك!

ضربته على كتفه بضعف محاولة إبعاده: يلا أمشي! في داهية!

لكنه أمسكها من كتفها بعنف يهز جسدها، قبض على أسفل ذقنها بقسوة، يجبرها على النظر إليه: أنتِ بتضربيني؟! وبتشتميني؟! ليلتك سودا، بتودي فلوسك فين يا بت؟! أنطقي بدل ما أدفنك مكانك

رفع يده مرة أخرى وصفعها بقسوة، فصرخت، ودوى صراخها في الشارع الخالي.

في تلك اللحظة، كانت سيارة تمر ببطء على طرف الشارع، لمح مصطفى المشهد من نافذته؛ جسد رجل يضرب فتاة، ففرمل بقوة، وفتح الباب واندفع راكضا.

دفع محمود بعيدا دون أن يتبين ملامح الفتاة: أنت اتجننت؟ بتضرب واحدة ست؟

صرخ محمود: وأنت مال أهلك؟!

مصطفى بشدة: يعني إيه وأنا مالي؟ أتكلم بأدب يلا!
نظر إلى الفتاة التي ترتجف: مين ده يا أستاذة؟

وحينما اتضحت ملامحها عقب بصدمه: آلاء؟! إيه ده؟ ده مين يا آلاء؟

كانت تبكي بمرارة: ده .. ده

لكن محمود دفعه من صدره وهو يصرخ: أنت مالك ومالنا؟! تعرفها منين أنت؟

حاول توجيه لكمة لمصطفى، لكن الأخير تفاداها وأمسكه من قميصه، و وجه ضربة قوية أطاحت بمحمود أرضا.

تحرك مصطفى ليكمل، لكن صوت آلاء المرتجف قطعه: دكتور مصطفى بلاش! ده، ده أخويا، محمود أخويا.

ألتفت اليها بذهول: أخوكي؟!

نهض محمود ببطء، يمسح الدم من فمه: أيوه أخوها وبربيها أنت مال أهلك بينا؟ إيه يا بت؟ مقرطساني وماشية معاه ولا إيه؟ هو ده إللي مضيعة فلوسك عليه؟!

آلاء بصراخ،: احترم نفسك يا حيوان ده دكتوري.

محمود بسخرية سوقيه: دكتورك!! طب يلا قدامي ونبقى نشوف الكلام ده في البيت، وحياه أمك لأوريكي.

حاول جذبها من ذراعها، ولكن مصطفي اعترض طريقه، ودفعه من صدره بغضب، ووقف حاجزا أمامها، يمسك يد محمود بقوة جعلته يصرخ.

مصطفى بصوت منخفض لكنه حاد: يا ابني أحترم نفسك، بتضرب أختك في نص الشارع؟ والله لو ممشيتش دلوقتي من وشي، لبيتك في القسم، وهما لو شافوك كده هاتبات هناك من غير ما اتكلم أصلا، وشك لوحده سوابق.

تجمد محمود للحظة، وارتجف جسده عند ذكر القسم، فنظر لآلاء بتهديد مكتوم: ملحوقة هتروحي مني فين يعني؟ مستنيكي في البيت، وحياة أمك لأوريكي.

ثم ابتعد بخطوات متوترة، ينظر خلفه بين الحين والآخر.

بقيت تبكي بصوت مكتوم، وارتجافها لا يتوقف، اقترب منها مصطفى، حانيا ظهره ليكون في مستوى عينيها: آلاء ده أخوكي بجد؟

هزت رأسها وهي تبتلع دموعها: أيوه أخويا، عملي الأسود في الدنيا.

تنهد بقلق: طب تعالي ندخل العربيه، مش هينفع نفضل واقفين هنا كده.

سيارة مصطفى

صعدت آلاء إلى السيارة، جسدها يرتجف، وعينيها ممتلئتان بالدموع.

حاول مصطفى تهدئتها، قائلا بإبتسامة وهو يمد يده بمنديل: خلاص بقي كفاية عياط، خدي أمسحي وشك واهدى.

شهقت من بين دموعها، تبلع ريقها بصعوبة تنهدت ومسحت دموعها: شكرا يا دكتور..

نظر إليها متسائلا بقلق: ساكنة فين؟!

هزت رأسها: لا شكرا يا دكتور، أنت بس وديني لحد الموقف وخلاص؟!

لف نحوها بحدة ونبرة حاسمة: مش عايز أسمع كلام كتير، ساكنة فين؟! وبعدين ايه اللي مشاكي من الشارع ده لوحدك بالليل كده؟!

أجابته موضحه: أنا ساكنه في المرج القديمة، بمشي من الشارع ده لأنه قريب من موقف العربيات، مبحبش أطلع من البوابة الكبيرة علشان بعيد.

هز رأسه متسائلا: طب أخوكي كان بيضربك ليه؟

شعرت بالإحراج، نظرت للأرض بخجل وبؤس: كان عايز فلوس، لو سمحت يا دكتور أنا مش عايزة أتكلم في الموضوع ده.

هز رأسه بتفهم: طب فهميني طيب، هو كده ممكن يعمللك حاجة في البيت زى ما قال؟

رفعت كتفيها بقلة حيلة وهي تقول بنبرة مهتزة، وعينين تترقرق بالدموع:معرفش، بس بعد إذنك عايزه أروح بسرعة، علشان سايبه أمي لوحدها.

هز راسه ايجابا، وادار المحرك وانطلق نحو منزلها.

منزل لوجين، 9:00مساء.

الريسبشن.

لوجين جالسة على الأريكة، تتأمل الفراغ بشرود كأنها مازالت عالقة في ماحدث ليلة أمس مع ياسين، بينما نغم ووالدتها تسرقان النظر إليها كل بضع ثواني، في صمت مريب لا يجرؤ أحد على كسره، وفجأة دوى صوت طرق على الباب، نهضت نغم لتفتح، لتتفاجأ بياسين واقف أمامها، أنيقا كعادته وملامحه ثابتة

ياسين بتهذب: مساء الخير، إزيك يا نغم؟

نظرت له بدهشة ولم تستطع النطق، فتابع بستأذان: ممكن أدخل؟

صمتت لوهلة ثم هزت رأسها إيجابا بتوتر: آه طبعا، أتفضل.

تحرك للداخل بإبتسامة رسمية، فارتفع صوت نغم: أتفضل يا ياسين.

فور أن استمعت لاسمه، تجمدت في مكانها، واتسعت عيناها بدهشة وتوتر، بينما نهضت والدتها ببطء واضح من مقعدها.

ياسين بخجل ممزوج بإعتذار: مساء الخير، أنا آسف إني جيت من غير ميعاد، بس أنا كلمتك كتير وأنتِ مبترديش.

نهى بحدة: ياسين من فضلك كفاية لحد كدة، أظن لوجين قالتلك ردها إمبارح.

عقد بين حاجبيه وقال بجدية: كفاية إيه يا هانم؟ أنا جاي أقولكم إني عايز أتجوز لوجين، إيه المشكلة في كدة؟ أنا بحبها وهي بتحبني، والعقبة الوحيدة إللي كانت بينا أنا خلصت منها، أعتقد قرأتوا خبر انفصالي.

لوجين بصوت مرتجف، وهي تتجنب النظر له: وأنا قولتلك قراري إمبارح.

اقترب منها متسائلا: وقرارك ده مبني على إيه؟

ألتفت بجسدها وقالت بنبرة جامدة مصتنعة: أسبابي أنت عارفها كويس.

هز رأسه نافيا بعناد واصرار: لا معرفش حاجه يا لوجين غير إني بحبك وعايز اتجوزك.

نظرت له وعيناها تلمعان، لكنها تحاول كتم دموعها: ياسين من فضلك متضغطش عليا واحترم قراري.

رد بنبرة حادة: قرار ايه اللى احترمه!! علشان شوية مفاهيم بايظة عن المجتمع ونظرته ليكي! ملكيش دعوة بالمجتمع، المهم أنا بحبك وشايفك أزاى، إحنا بنحب بعض يا لوجين، ليه مصممه على البعد والوجع؟!

هزت رأسها ببطء، ودمعه خائنه هبطت منها دون إرادتها: قولتهالك مرة، وهقولها تاني أنت موهوم يا ياسين، ومحبتنيش.

تقدم خطوة، ركز النظر في عينيها قائلا بنبرة هادئة: طب بصيلي في عيني، وشوفي إن كنت موهوم ولا لأ؟!

تقدمت نهى وقالت بحزم واضح: ياسين، كدة كفاية.

رفع نظره نحوها، وصوته خرج هادئا، لكنه يحمل حدة القرار أنا بس عايز أسمع منها الكلمة الأخيرة، قرارها النهائي.

ثم وجه نظره مباشرة إلى لوجين، وعيناه تلمعان بخليط من الرجاء والخوف، بينما صدره يعلو في توتر مكتوم: لوجين أنتِ موافقة نتجوز؟

ساد صمت ثقيل، كأن الزمن توقف بينهما، ارتجفت شفتاها، وتلألأت عيناها بإرتباك حارق، فهي تحبه حتى الفناء، لكن مبادئها تطوقها كقيد من نار.

أخذت نفسا عميقا، وخرج صوتها مبحوحا، لكنه حاسم كالسيف: ياسين، قولتلك قبل كده أنا مش هبقى الست أللي خربت بيت راجل وأخدته من مراته، حتى لو طلقتها، مقدرش أعمل كده، ومش هقدر أعيش وأنا السبب في وجع واحدة تانية.

تجمد مكانه، وعيناه علقتا فيها للحظة طويلة، كأنه يحاول قرأة ما وراء الكلمات، يبحث في نظرتها عن بصيص أمل أخير، والدتها في الخلف تقف متوترة، لا تدري أتهدئ الموقف أم تتركه يمر بصمته الثقيل.

نظر إليها بعينين خاليتين من الجدال، ثم أومأ برأسه ببطء، وقال بصوت خافت حاسم: تمام فهمت، بس لازم تعرفي إني مش هسمح إننا منكونش لبعض، أنتِ لسه معرفتيش مين هو ياسين الراوي.

استدار وخرج بخطوات ثابتة، وأغلق الباب خلفه.

وفور مغادرته جلست مكانها، وانفجرت بالبكاء بحرقة لم تستطع كبحها.

اقتربت منها نهى وجلست إلى جوارها، ربتت على كتفها بحنو محاولة تهدئتها، وقالت بصوت دافئ متعب: أهدي يا بنتي إللي عملتيه، هو الصح؟

تدخلت نغم بعصبية: هو إيه إللي صح؟! ما خلاص طلقها، وأنتِ بتحبيه، وهو بيحبك! إيه العبط إللي أنتِ بتعمليه ده؟! مراته دي مش كويسة، وأنتِ بنفسك قولتي إمبارح إنها سقطت نفسها مرتين!

نظرت لها نهى بحدة وقالت بنبرة حاسمة: أسكتي أنتِ، أنتِ صغيرة ومتفهميش حاجة.

لكن نغم لم تصمت، بل وقفت تواجهها بعناد: أنا مش صغيرة، وفاهمة كويس! وناس إيه إللي بتتكلمي عنهم وخايفه من كلامهم؟ من إمتى وإحنا بيهمنا كلام الناس؟! مادام مبنعملش حاجه غلط! أنتِ بنفسك قولتي إنهم كانوا بعيد عن بعض الفترة إللى فاتت، ومكانوش مبسوطين، فـ ليه تحرمي قلبها يعيش سعيد؟ علشان شوية كلام فارغ؟ حرام عليكي يا ماما، أنتِ مش شايفاها بقت عاملة إزاي؟

أطرقت نهي برأسها، وصوتها خرج متهدجا: أنا مش عايزة حاجة غير إنها تبقى مبسوطة، بس مش على حساب خراب بيت ست تانية، أنا مربتكوش على كده.

اقتربت منها نغم أكثر، وصوتها امتلأ بالرجاء: ما هو طلقها خلاص! وقبلها حاول يصلح إللي بينهم كذا مرة ومنفعش، وبعد إللي حصل، معتقدش في أمل لرجوعهم.

وجهت نظراتها للوجين وقالت برجاء: يا لوجين، فكري كويس، متضيعيش حبك من إيدك علشان كلام الناس إللي مهما عملتي مستحيل يبطلوا كلام!

صمتت لوجين للحظة وهي تنظر أمامها وكأنها تفكر بشيء ما، ثم رفعت عينيها المبللتين بالدموع، وصوتها خرج مرتجفا لكنه حازم: أنا هعمل حاجة، وبعدها هاخد قراري.

المرج، 10:00مساء.

منزل آلاء

اوصلها مصطفى إلي منزلها، فخرجت من السيارة وهي ترفع يدها شاكرة: شكرا يا دكتور، أتفضل معايا.

ترجل من سيارته وتوقف أمامها: العفو، أطلعي أنتِ بس وشاوريلي من فوق لما تطلعي علشان اطمن.

هزت رأسها بخجل بصمت

تابع بتساؤل: ولو اتأخرتي، هطلعلك، أنتِ ساكنة في الكام؟

قالت بتوضيح: في الثالث، إن شاء الله ميكونش جه، ولو أخد فلوس مش هيرجع، يا رب ما يرجع.

وبالفعل صعدت إلى شقتها، وفور دخولها وجدت والدتها تبكي وهي تجلس على الأريكة، والشقة في حالة فوضى.

ركضت نحوها وامسك يديها وهي تتساءل بقلق: ماما مالك؟! في إيه إللي حصل؟

مسحت والدتها دموعها: منه لله محمود جه وعمل مشكلة، وكان عايز فلوس زي كل مرة وضربني وخد العلاج! وقعد يقول: بنتك ماشية مع رجالة، وأنا هطلع عينها.

جلست آلاء على الأرض، رأسها بين يديها بدموع وقلة حيلة: ربنا يحرق دمك يا محمود، برضن جه عندنا في المستشفى وضربني وخد الفلوس إللي معايا، بس الدكتور بتاعي كان معدي بالصدفة اتخانق معاه ودافع عني.

كان مصطفى متوقفا في الأسفل، وعندما لاحظ تأخرها شعر بالقلق وصعد.

فـ آلاء قد نسيت وجوده تماما، طرق الباب ننهضت وفتحت له بخجل وحين شاهدته امامها تذكرت: آسفة يا دكتور، حقك عليا، بس جيت لقيت أمي بتعيط واتلخمت معاها.

ابتسم بتفهم ممزوج بالقلق: أنا قلقت عليكي.

جاء صوت والدتها من الداخل متسائلة: مين يا آلاء؟

أشارت له بالدخول: ده دكتور مصطفى يا ماما، اتفضل يا دكتور.

ابتسم بهدوء، يضع يده على صدره: لا شكرا أنا همشي علطول أنا بس لما لقيتك طولتي خوفت يكون فوق وبيعملك حاجة، يلا السلام عليكم.

كاد أن يتحرك لكنه أوقفه صوت والدتها: يا ابني، اتفضل ينفع تيجي لحد بيتنا وتمشي من على الباب؟ ميصحش لازم تخش تشرب حاجه.

دخل بابتسامة دافئة: السلام عليكم.

آلاء ووالدتها: وعليكم السلام

أشارت أنهار بيديها مرحبة: اتفضل يا بني أقعد معلش بقى البيت متبهدل…
أضافت وهي تنظر إليه بعينين ممتلئتين بالدموع، تصفق بيديها بقليل من الإنفعال: منه لله محمود، متزعلش يا ابني لو قالك كلمة كده ولا كده.

هز رأسه بحزن، ينظر إلى آلاء: لا مفيش أي حاجة، المهم إنكم تبقوا بخير.

جلست آلاء على طرف الأريكة، بينما اجابته والدتها وهي تضغط على فمها بعصبية: أبقي بخير إزاي والواد محمود مش سايبنا في حالنا.

مال للأمام متسائلا بقلق: مفيش حد عندكم كبير يوقفوا؟

تنهدت ببطء، عينيها ممتلئتان بالدموع، وقالت بقلة حيلة: لا والله يا ابني مفيش، جوزي مجدي الله يرحمه مات من عشر سنين، ومكانش لينا غير عمه بيوقفه وهو كمان مات من سنتين ومن ساعتها ومحمود طايح فينا، مفيش غير عمته بس هي وليه هتعمل ايه يعني؟ حتى أهل الحته بطلوا يدخلوا علشان يريحوا دماغهم من المشاكل اللى بيعملهالهم، وكل شوية ييجي يضرب البت وياخد فلوسها اللى شقيانه بيها علشان يصرفها على القمار والسم اللى بيشربه.

اتسعت عين آلاء وشعرت بالخجل الشديد من الموقف المحرج التي وضعتها فيه والدتها أمام مصطفى.

تساءل مصطفى بدهشة: هو بيلعب قمار؟

هزت أنهار رأسها بحزن: آه يا ابني بيلعب قمار، بس والله الولا محمود ده كان كسيب وشغال في ورشة نجارة وكان كويس، بس اتلموا عليه ولاد الحرام وعرفوه السكة البطالة؛ شرب الحشيش والبرشام والقمار، ومن ساعتها وهو مبهدلنا آخر بهدله.

مسحت آلاء بيدها على وجهها، وحاولت لم الموقف: ماما متيجي تدخلي جوه وترتاحي شوية؟

ابتسمت ابتسامة ضعيفة، وهي تربت على يدها: لا يا حبيبتي أنا مرتاحة، كفايه قعدتي مع الدكتور ده منورنا والله، ما تقومي تعملي شاي يا آلاء ولا ملكش في الشاي؟! عندنا وقهوة ويانسون.

هز رأسه بإخراج: لا شكرا متتعبيش نفسك، مش عايز أشرب حاجة.

أنهار باعتراض لطيف: لا والله أبدا لازم تشرب حاجه دى أول مره تدخل بيتنا..

نظرت لآلاء: يلا بنتي، أعمليله كوباية شاي حلوة ده الدكتور منورنا.

شعرت آلاء بالحرج، فأومأت برأسها وتحركت ببطء، خائفة من أن تقول والدتها شيئا آخر يضعها في موقف محرج أكثر أمام مصطفى، لكنها واصلت الطريق لتجهيز الشاي فهي فكرت ماذا ستقول أكثر من ذلك فهي قالت كل شيء بالفعل!؟

تساءل مصطفي وهو يعدل من جلسته: طب ليه مبلغتوش عنه قبل كده؟

تنهدت أنهار بتعب وغلب: هبلغ عن ابني يعنى يا دكتور ؟! مع إنه يستاهل بصراحه وسرق شوية الحاجات اللى كنا جايبنها لجهاز أخته وباعها، وكل يومين يجى يضربها وياخد شقاها، بس هعمل ايه مقدرش أبلغ عن ابني برضه واسجنه بايدي، ولو إني كل ما أشوف بهدلة آلاء في الشغل علشان تكفي مصاريفها ومصاريف البيت وتعليمها بتصعب عليا، بس هعمل إيه أدى الله وادى حكمته.

هز رأسه بتأثر؛ فهو أخيرا أدرك السبب الذي يجبر آلاء على تحمل عبء العمل الكبير في المستشفى، فشعر بالحزن من أجلها.
نظر لوالدتها وقال بصدق وهو يمد يده بالكارنيه المسجل فيه أرقامه: ربنا يهديه ليكم يا حاجه، وأي وقت محتاجة أي حاجة دى رقمي كلميني عليه أنا زي إبنك.

ابتسمت بخجل: ربنا يخليك يابني، وميحوجكش لحد ابدا يارب.

ثم تابعت بتساؤل: هو أنت بقي الدكتور الكويس اللى آلاء ديما تكلمني عنك صح؟!

هز رأسه: تقريبا.

هنا دخلت آلاء وهي تمسك صينية عليها كوب الشاي بإرتجاف، وقالت بخجل: آه يا ماما، هو ده الدكتور مصطفى.

رفعت أنهار يدها داعيه: إن شالله يخليك يا ابنى، ويوقفلك ولاد الحلال زى ما أنت واقف مع بنتي، آلاء حكتلي كتير عنك وإنك واقف معاها ومش بتخلي الممرضة الكبيرة تضايقها في الشغل ربنا يباركلك يارب.

ابتسم وهو ينهض: والله أحسن دعوة، طب هستأذنكم أنا بقي.

توقفت آلاء وقالت بخجل: بس يا دكتور حضرتك مشربتش الشاي.

أنهار بود: اقعد يا ابني ده أنت مأنسنا والله.

مصطفي بإبتسامة دافئة: معلش خليها وقت تاني، ط علشان مسافر، ولو حصل حاجة او احتاجتي حاجه في أي وقت، رقمي معاكي كلمينى.

هزت آلاء رأسها بخجل، ورافقته إلي الباب: شكرا يا دكتور، تعبتك معايا النهارده.

ابتسم برفق: لا مفيش أي حاجة، وبجد لو عملكم أي حاجه، كلميني فورا.

هزأت رأسها إيجابا بصمت وخجل.

قال مودعا قبل أنا يغادر: سلام عليكم.

رد بخفوت: وعليكم السلام.

أغلقت الباب، وتوجهت إلى والدتها، والضيق يكسو ملامحها: أنتِ كان ناقص تحكيله تاريخ حياتنا يا ماما، ينفع يعني اللى قولتيهوله دي؟!

أنهار بابتسامه: يا بنتي أنا قلبي ارتاحله ففضفضت معاه.

زفرت بضيق: فضفضتي معاه وفضحتيني قدامه، شكلي قدامه ايه دلوقتي بعد ما قولتيله إن أخويا قمارتي وحشاش.

أمسكت أنهار بيدها محاولة تهدئتها: يا بت دي راجل محترم كفايه وقفته معاكي واحد غيره كان قال أنا مالي، وبعدين متقطمنيش يا آلاء بقي اللى حصل حصل، خلاص بقي.

آلاء بإرتجاف: ماشي يا ماما بس علشان خاطري وحياتي عندك لو حد جه تاني من أصحابي، أوعي تحكي كده تاني، قولي إنه بتاع مشاكل وخلاص.

ربتت على يدها، وتساءلت بطيبه: حاضر يا آلاء، بس قوليلي هو خد الفلوس اللى معاكي كلها؟

تنهدت بحزن: اه خدهم كلهم، مكانش معايا غير ٧٠٠ جنيه بتوع السهر الأخير، بس جالي مضروب شكلهم ضربوه.

انهار باستهجان: يا شيخة يا رب يموت ويريحنا من قرفه.

اخذت آلاء نفسا عميقا: بصي يا ماما أنا كنت شايلة فلوس تحت عند أم صفاء، هجيبلك بيها العلاج، ونشوف الشهر ده هنكمله إزاي.

انهار بتوتر وقلق: وأنتِ يا بنتي، هتروحي شغلك وجامعتك إزاي؟

تنهدت بعجز: هتدبر إن شاء الله، أنا هقوم أوضب الشقه وأعملنا حاجه نتعشا بيها.

ربتت أنهار على كتفها بحنان: طب خليكي يا بنتى أنت شكلك راجعه تعبانه هقوم أعملك أنا.

قبلت آلاء يدها: لا يا حبيبتى أنا زى الفل خليكي مرتاحه.

توجهت نحو المطبخ، فنظرت أنهار لآثارها بحزن ورفعت يدها بدعاء صادق: ربنا يباركلك يا آلاء يا بنتى، ويرزقك بابن الحلال اللى يسترك ويريحك من الشقا والتعب ده.

الملهى الليلي، 12:00صباحاً.

نرى رشدي مع أصدقائه يحتفلون بعودته بعد فترة غياب طويلة لم يسهر خلالها معهم، فقرر أن يقضي هذه الليلة بينهم، يرقص ويشاركهم البهجة.

صاح سامح ضاحكا: وأخيرا ظهرت!

ابتسم وهو يرفع يده: آه، وحشتوني يا كلاب! قولت لازم أجي أفك شوية عن نفسي، بقالي أكتر من شهر ونص وأنا محبوس.

وليد بابتسامة: بس حلو إللي عملته ده، وهيخلي الباشا يبصلك بصة تانية بدل ما هو ناطرك ومركز مع أخواتك.

مد سامح نظره لرشدي: مكلمتش زيزي؟

هز رأسه وهو يحتسي العصير: كلمتها، بس مسافرة.

ركز سامح في كوب العصير وقال معلقا: أوووه رشدي بيشرب عصير، أنا متقل ولا ده بجد؟!

ضحك وهو يرفع كاس العصير: أيوة، بشرب عصير، عايز أبطل كحول وكده.

وليد ضحكا: لالالا، التغيرات جامدة أوي، شكل مي شديدة ومسيطرة

هز رأسه وهو يضحك: احترم نفسك يلا، ومتجيبش سيرتها، دى هتبقى مراتي.

استمرت السهرة والضحك يملأ المكان، والأحاديث تتعالى بين الأصدقاء، أما رشدي فظل متمسكا بقرارته الجديدة، وامتنع تماما عن شرب الخمر، لكنه لم يستطع تجاهل تمرد جسده: فقد كان يشعر بصداع حاد يعتصر رأسه، وتنميل غريب يجرده من ثقله الطبيعي؛ فهو لم يتعاطي المخدر منذ ليلة أمس، وكانت كل لحظة تمر عليه تزيد شعوره بالوهن، وتغذي رغبة جسده في الاستسلام.

وما زاد الأمر سوءا حين أخرج أحد الأصدقاء طبقا عليه المخدر، وقسمه إلى سطور، وأخرج دولارا، واستنشق بإرتياح واضح، ثم رفع عينه نحو رشدي وقال: رشدي تاخد؟

تردد لحظه وعينه تتجول بين الطبق والأصدقاء، اهتز جسده من الألم والتنميل، كل جزء فيه يصر على الاستسلام، حاول المقاومة، وكل شعور داخلي يصرخ “خذ، خذ!”

أخذ نفسا عميقا، وحاول أن يتمسك بإرادته: لا، أنا بحاول أبطل.

ابتسم سامح بتشجيع: برافو عليك والله.

واحد آخر حذره: بس مش هتعرف لوحدك.

رفع رأسه بعزم، رغم التنميل والصداع: لا هعرف.

حاول أن يثبت قدميه على الأرض، وهو يشعر وكأن كل خلية في جسده توشك علي الانهيار، فكانت كل لحظة تمر كأنها صراع مرير بين الاستسلام والانتصار.

وبعد وقت، اقترب أحد الأصدقاء وهو يقول: ألحق يا رشدي نونة وصلت.

رفع نظره، فرأى نورهان تقترب منه بدلال وأنوثة طاغيه، جلست بجانبه ولمست خده بدلال: عامل إيه يا رشروش من ساعة الخطوبة يعني مشفناكش.

أزاح يدها وقال وهو ينظر أمامه بجمود: بقولك إيه فكك مني.

رفعت عينيها نحوه بتعجب: من إمتى الكلام ده!؟

نظر اليها وقال بجدية: من دلوقتي، أبعدي عني، أنا خلاص قربت أتجوز.

اقتربت منه بنظرة أنثوية تخترق رجولته، لحظة شعر فيها أنه قد يفقد السيطرة على نفسه، فوقف فجأة وهو يقول: نورهان أبعدي عني قولت، أنا ماشي.

وتحرك مبتعدا؛ خائف أن يرتكب خطأ آخر.

توقفت نورهان ونظرت إليه معلقه: ده من إمتى الاخلاص ده!؟

أجابها سامح بابتسامه: سيبك منه هو رشدي كده بحالات، يومين وهتلاقيه راجع تاني؟!

سيارة رشدي

صعد سيارته وجسده يرتجف بالكامل فهو مازال يقاوم ذلك الشعور الطاغي بحاجة جسده إلى جرعة، حاول أن يتماسك، لكن فكرة واحدة كانت تتسلل إلى عقله وتفرض سيطرتها “مي” شعر أنه يحتاج أن يراها الآن، لعلها تمنحه شيئا من الصبر يعينه على محاربة كل ما يجتاحه.

أرجع رأسه إلى مسند الكرسي وأغمض عينيه قليلا، يحاول البحث عن بعض من الهدوء الذى غاب عن جسده، ولكن الصداع لم يترك رأسه، بل اشتد عليه أكثر، وامتد التنميل إلي أطرافه كأن مسامير صغيرة تغرس في عضلاته، زفر بضيق، أدار المحرك وانطلق يجوب الشوارع بلا وجهة محددة لوقت طويل، حتى وجد نفسه أسفل العمارة التي تسكن فيها مي، نظر إلى ساعته، وكانت 1:30 بعد منتصف الليل.

تنهد مترددا، ماذا يفعل؟ هل من المعقول أن يوقظها في هذا الوقت؟ لكن الحاجة إليها كانت أقوى من أي منطق، فرفع هاتفه واتصل بها، وبعد لحظات، جاءه صوتها الدافئ من الجهة الأخرى وهي تجلس على الأريكة وتمسك بين يديها مج وتشاهد التلفاز.

مي برقه ومزاح: إيه يا رشروش؟ روحت ولا لسه مع أصحابك؟

رشدي بنبرة مضطربة: لا أنا في العربية، بتعملي إيه؟

مي بتنهيدة: قاعدة بتفرج على فيلم، وبشرب هوت شوكلت.

رشدي متردد برجاء: طب بقولك إيه، متنزلي لي أنا تحت!

تساءلت باستغراب وهي تعدل الشال على كتفيها: تحت فين؟

رشدي بنبرة عاجزة: تحت في العربية ومحتاجلك، محتاج أشوفك جدا.

توقفت بقلق: مالك يا رشدي؟ صوتك مش عاجبني.

قال وهو يحاول التماسك: أنزلي بس وهقولك.

تحركت في الراسبشن بقلق: انزل ايه بس يا رشدي، الساعة واحدة ونص!

صمت لحظة، صوته صار أضعف: طب خلاص، لما أروح هبقي أكلمك..

صمتت لحظة في حيرة بين مشاعر الخوف عليه والرفض لما طلبه، لكن حين سمعت في صوته وجعا خفيا واحتياجا لا يستطيع إخفاءه، ضعفت قالت: طب استنى، صوتك مش مريحني، ثواني ونازلة لك، هشوف هتصرف أزاى.

أغلقت الهاتف، وتحركت بخطوات بطيئة، دخلت غرفة والدها وجدته في ثبات عميق أغلقت الباب بهدوء، ثم دخلت غرفتها ووضعت وسادة وأحكمت الغطاء لتبدو كأنها نائمة، التقطت حجابها ولفته بسرعة، وخرجت من الشقة وهي تغلق الباب في هدوء.

نزلت إلى الشارع، كان الهواء باردا والهدوء يملأ المكان،.وحين رأته واقفا أمام السيارة، اقتربت بخطوات متوترة: في إيه يا رشدي؟

نظر إليها بعينين متعبتين، وقال بصوت مبحوح: مفيش بس حسيت إني محتاج أشوفك
أمسك بيديها: أنا بحبك يا مي، وبحاول أعمل المستحيل عشان مخذلكيش، متعرفيش أنا بقاوم أزاي.

ابتسمت وهي تتأمل ملامحه الشاحبة: أنا عارفة، بس قولي مالك؟

صمت لحظة وهو يبتلع ريقه بضعف: كنت هضعف في السهرة، كلهم بيشربوا وأنا قاومت، حتى أول ما البنات بدأوا يقعدوا معانا مشيت.

فجأة شعر بتنميل شديد يتسرب في جسده، لكنه حاول الثبات كي لا ينكشف ضعفه أمامها: معرفش ليه جيتلك، حسيت إنك إللي هتسنديني.

مدت يدها ولمسته بخفة: طب هدي نفسك شوية.

نظر إليها بهدوء ورجاء: بقولك يا مي متيجي نتجوز؟

نظرت له بدهشة: أنت منزلني الساعه واحده ونص علشان تقولى نتجوز، إيه اللى بتقوله ده بس!؟

قال باضطراب وضعف واضح: بقول إني محتاجك، وعايزك تبقي معايا، حاسس لو اتجوزنا حاجات كتير هتتغير، يمكن تساعديني أقاوم وأتغير أسرع.

نظرت له بارتباك وتردد: بس يا رشدي…

رفع كفه أمامها وهو يقول بهدوء متعب: متتكلميش دلوقتي، فكري وردي عليا بعدين، يلا، أطلعي بقى، الوقت متأخر، وعلشان محدش يحس بغيابك، أنا بس كنت محتاج أشوفك وخلاص.

ابتسمت له، وأمسكت يده وقالت بدعم حنون: أنت قوي يا رشدي بيا أو من غيري، أنا متأكدة

ابتسم لها بضعف، فأضافت بإهتمام وقلق: أول ماتوصل، كلمني نسهر ونرغي شوية.

هز رأسه موافقا بصمت، فاستدارت وصعدت بخطوات هادئه، أما هو، فظل واقفا للحظة ينظر إلى آثارها، قبل أن يدخل سيارته، ويجلس خلف المقود بأنفاس ثقيلة، ورأس مثقل، وجسد يرتجف من الألم أدار المحرك وغادر المكان، وهو يشعر أن التعب صار يسكنه أكثر مما يحتمل.

على سطح أحد البيوت القديمة،2:00 صباحا.

كانت الغرفة الضيقة تغرق في ضوء أصفر باهت، ورائحة الدخان تختلط بالبيرة.

جلس محمود ومعه معتصم وتوتو وثلاثة شباب آخرون حول طاولة مستديرة، تتلاعب الأيدي بالأوراق، والهمسات تتصاعد بين خسارة وربح، لكن محمود تحديدا كان يسقط في الخسارة حفرة بعد أخرى.

رمى الكوتشينة بعصبية: ييوه إيه الحظ الزفت ده!

مال معتصم للأمام بقلق: خسرت كام؟

زفر محمود بضيق: ال700 كلهم.

اتسعت عينا معتصم: طب وهتعمل إيه؟ الله يخرب بيتك.

تدخل أحدهم وهو يقلب الكوتشينة: في إيه يا حودة؟ مالك؟

تنفس كأنه يبتلع همه: الزعيم هيقتلني يا توتو لو مدفعتش الأربع جاي ال35 ألف اللي عليا، وكنت فاكر هعوض النهاردة.

ضحك فؤاد وهو يلملم الأوراق:طب ماهو حتى لو كسبت، أخرك 3هتعمل إيه في الباقي؟ هتدعي ينزلك فلوس من السما؟

ضحك الجميع، فنظر له محمود نظرة حادة: فؤاد متحلوش أنا مش طايق نفسي.

مد توتو زجاجة بإتجاهه: أهدى وخد بلبع الخسارة، فؤاد عنده حق، حتى لو كسبت، هتجيب باقي ال 32 منين؟!

نظر لتوتو نظرة فهمها جيدا، فاعتدل في جلسته وقال بلهجة رجولية:طب يا رجالة استنونا برة شوية.

خرج الثلاث رجال، وبقي محمود وتوتو ومعتصم فقط.

أشعل محمود سيجارة حشيش: بصراحة أنا كنت حاطط عيني على فلوس الحاج شاهين بكرة هيديني حوالي 30 ألف، وقولت ألعب النهاردة أكسب خمسة ولا سبعة، وأكملهم للزعيم.

رفع توتو حاجبه بدهشة: طب وهتعمل إيه مع الحاج شاهين؟

لوح بيده بلا مبالاة: يا عم ده فلوسه متلتلة ولا يعرف راحت فين ولا جت منين، الواد سمارة بيسرق منه كل شهر بالأتنين والتلاتة ومش واخد باله.

سحب نفسا جديدا: وأنا دلوقتي مش عارف أعمل إيه في الــ 35 بتوع الزعيم.

شرد توتو للحظة، ثم قال: طب أسمع أنا عندي مصلحة جامدة على السخان، هترجعلك فلوسك أضعاف.

محمود بحماس: طب ما تحطني فيها.

هز رأسه بإيقاع مدروس: ماشي بس فلوسك تبقى حاضرة في ساعتها.

محمود بفضول: طب فهمني الحوار على إيه؟

توتو: عارف الواد طه كيميا؟

هز رأسه بإيجاب: اه، ده أنا بمول منه!

أضاف توتو موضحا: عنده مصلحة هتدخلي 60 ألف، أنا داخل بـ20 باكو، وأنت تدخل بالـ30 بتوع الحاج شاهين يرجعولك الضعفين يبقى معاك تسعين ولا مية، تدي الزعيم فلوسه، والحاج شاهين، ويتبقى معاك قرشين.

بدا الخوف في عيني محمود: الموضوع خطر يا توتو؟!

رفع كتفيه بلا اكتراث: خطر إيه، إحنا ملناش دعوة، بنديله الفلوس وهو يشغلها بعيد عننا، واد يا معتصم تيجي؟

أبعد معتصم كرسيه بسرعة: أنا؟ لا يا عم أنا معيش غير التيشيرت إللي لابسه! ابعدوا عني.

ضحك توتو ثم ألتفت لمحمود بنبرة جادة: يا محمود خلص نفسك الزعيم مبيهزرش، أنت ليه بتبص لفوق؟ خليك على قدك.

تنهد محمود وشرب جرعة كبيرة من الزجاجة: كنت فاكر هعرف أعوض.

اقترب منه توتو: طب فكر وقولي، آخر معاد بكرة، علشان لو موافق أكلملك الواد طه

ظل صامتا للحظه ثم قال: ماشي قوله إني معاكم

ألتفت محمود لمعتصم: يا واد ما تيجي معانا.

صرخ معتصم: أبعدوا عني! قولت لكم!

ضحك توتو وهو يصفق على ركبة محمود: سيبك منه يا حوده، ده خيخة

تكملة الفصل

قصر الراوي4:00 فجرا

عاد رشدي إلى القصر أخيرا بعد ساعات طويلة من اللف بالسيارة بلا وجهه محدده، وبمجرد أن دخل غرفته، أغلق الباب خلفه بقوة، بدأ يتجول فيها بلا وعي، كان يتحرك بعصبية، وكأنه محبوس داخل جسد يصرخ من الداخل.

أنفاسه متقطعه، وظهره يؤلمه بشدة، ويشعر بوخز في أطرافه، والصداع يضرب رأسه بقسوة حتى صار يجز على أسنانه من الألم، اقترب من الحائط، وأسند جبهته عليه، بدأ يخبط رأسه بخفة أولا، ثم بقوة أكبر، كأنه يريد أن يخرس ذلك الصوت الذي يصرخ داخله: خد جرعة، فقط جرعة صغيره وسترتاح.

ابتعد عن الحائط، جلس على طرف السرير، فتح علبة السجائر بعصبية، أشعل واحدة ثم أخرى، الدخان يملأ الغرفة، لكنه لم يهدأ.

مد يده نحو الدرج، تردد ثم فتحه بعنف كان هناك الكيس الصغير ظل يحدق فيها للحظات بتردد، وصوت لمياء صديقه مي يضرب رأسه بلا هوادة ” البنت دى حاربت الدنيا كلها علشانك، ارجوك متخذلش ثقتها فيك ولا توجعها” ثم همس بصوت مبحوح: لأ مش هعمل كده.

لكن جسده لم يطاوعه، والالم أكثر من احتماله، تحركت أصابعه بلا وعي نحو الكيس، دقات قلبه ارتفعت بسرعة كأنها ستحطم صدره، هو لا يريد أن يفعلها يريد أن يقاوم من أجلها، يريد أن يتعافى، لكن الألم في جسده ورأسه كان أكبر من أن قدرته على الاحتمال، والصوت في رأسه يصرخ “شمة واحدة فقط قد تقلل كل هذا الوجع”

أمسك الكيس بثقل وكأنه يزن أكثر من وزنه، وضع منه على الطبق، وقسمه لخطين، التردد يسيطر على كل حركة، شفتيه تهتز بلا وعي، كأنهما تقولان له شيئا لم يستطع التعبير عنه.

امسك الطبق بيدين مرتجفتين، وكاد أن يستنشق، لكن فجأة اقتحمت صور مي عقله؛ بابتسامتها الرقيقة، كلماتها المليئة بالثقة “أنا بثق فيك يا رشدي، أنت قوي”

اهتز الطبق بين يديه فوضعه على الكومودينو، وأخذ يتحرك داخل الغرفة ذهابا وإيابا بسرعة وتوتر، وكأن كل خطوة كانها صراع بين الرغبة والرفض.

اشتد به الألم أكثر، فأخذ ينظر لطبق المخدر بتوتر وعينان تلمع بدموع العجز، وسرعان ما أنهار تماسكه وهرول بضعف نحو الطبق واخذ يستنشق ربما يضع حدا لذلك الالم الذي يفتك به

وما هي إلا ثواني، حتي شعر بجسده يرتخي، الصداع يتراجع، والتنميل اختفى تدريجيا.

جلس للحظة ساكنا، كأن السكون عاد إليه أخيرا بعد غياب طويل، وما هي إلا ثواني حتي توقف ونظر لنفسه في المرآه بغل بكره، فمد يده إلى الطفايا الزجاجية على الطاولة أمامه، وألقاها على الأرض بكل ما فيه من غضب، تحطمت الطفايا، وتناثرت شظاياها حول قدميه، تماما كما تناثرت بقايا عزيمته.

جلس على الأرض يدفن وجهه في كفيه، يهمس بصوت مكسور: أنا فاشل… فاشل.
قبض كفه وضرب الأرض بعزمته وأخذ يبكى بضعف شديد
💞______________بقلمي_ليلةعادل

فيلا سليم وماسة،12:00ظهرا

غرفة ماسة

كانت ماسة نائمة على الفراش، يبدو عليها الإرهاق، وبعد قليل دخل سليم، وعلى وجهه ابتسامة مشرقة كان يحمل ملفا بيده، تحرك نحوها وجلس على طرف الفراش، وضع ملف على الكومود، ومد يده برفق ليوقظها بإبتسامة لطيفة: ماستي الحلوة، أصحي يا كسولة كل دى نوم؟

فتحت عينيها ببطء: أنا صاحية.

مسح على وجهها بحنان قائلا بمزاح: اللمسة دي مسموحة؟

رفعت حاجبها بنبرة متعبه: بطل بواخة يا سليم.

ضحك بخفة: مالك طيب؟

ماسة بألم ودلال طفولي: عندي تعب بنات.

ضحك بخفة، وقال ممازحا: بس كده؟ حالا نعمل العلاج اللازم.

نهض من مكانه، وتحرك نحو الخارج، عاد بعد قليل، وهو يحمل كوبا من النعناع وقربه ساخنه، أقترب منها قائلا بنغمة دافئة: ماسوو..

رفعت عينيها نحوه: نعم؟

وضع الكوب على الكومودينو، ثم خلع جاكيت بدلته وألقاه على الفوتيه، وتمدد بجوارها وهو يمد يده بالقربة: ممكن تحطيها على بطنك شوية؟

مدت يدها وأخذتها منه: حاضر.

سليم بإهتمام: عملتلك نعناع تشربيه لما يدفا.

هزت رأسها موافقة بإبتسامة صغيرة، وبعد لحظة من الصمت استدارت بجسدها، وقربت ظهرها منه حتى التصقت بصدرة، واخذت يده ووضعتها برفق على بطنها، فإبتسم وضمها إليه أكثر، حتى سكنت أنفاسهما معا.

مسح على بطنها، وهمس بإبتسامة هادئة وحنان: علشان كده كنتي تعبانة إمبارح، وماصدقتي ماما قالت خدي مسكن!؟

رفعت رأسها قليلا، وأجابت بتوضيح ودلال طفولي: أنا تعبانة بقالى كام يوم أصلا، وأنت كنت مقموص مني، وسايبنى تعبانه لوحدى.

رفع حاجبه: مقموص!

هزت رأسها بدلال: أمم، وكل ما أكلمك مش بترد عليا، كنت رخم أوى يا سليم.

ابتسم يمازحها: ولما أنا رخم كنتي راحه جايه ورايا، وبتتمنى بس أرد عليكي ليه؟! اعترفي إنك مكنتيش قادرة على بعدى.

نظرت إليه من طرف عينها بغيظ، ثم أمسكت كفه وعضته فجأة، فصاح متألما وهو يسحب يده من بين أسنانها: إيه يا ماسة دى أنت أتصرعتي؟! هو أنتِ بطلتي عناد وهتكمليها عض.

نظرت إليه بغضب طفولى: اه إن كان عاجبك، علشان تبطل تستفزني.

أجابها بمكر وهو ينظر داخل عينها: ولو مبطلتش؟!

لمحت المكر في عينيه وفهمت ما ينوي فعله، فتراجعت قائله بدلال وتعب: بس بقي يا سليم أنا تعبانه، ومش قادرة.

ضحك وهز رأسه بغلب: ولما أنتِ تعبانه بتنكشيني ليه.

نظرت إليه بعيون بريئة وتعب، فتنهد قائلا بحنان: طب خلاص معلش، شويه وهتكوني كويسه قومي اقعد اشربي النعناع.

جلست وهي تضم القربه لبطنها، ناولها كوب فأخذت تتناوله بهدوء حتى انتهت فأخذه منها ووضعه على الكومود، عادت وتمدت، تمدد خلفها وضمها مره آخره، وظل محتضنا إيها بحنان وهو يمسح على بطنها وكأنه يمحو الألم بلمساته الدافئة.

قطعت الصمت وهو ترفع رأسها اليه وتتساءل بفضول: كنت في الشغل؟

هز رأسه بابتسامة: لا، كنت في حتة تانية مهمه، وهتفرحك خالص.

تساءلت بفضول ودهشة: إيه هي؟

سليم بلطف: لما تبقي كويسة هقولك.

أصرت بفضول أكبر وهي تلفتت نحو: لا والله، قولي دلوقتي.

ابتسم لها وهو يقرصها من انفها: ماشي يا فضوليه.

نهض وجلس وأخذ الأوراق من على طرف السرير، وقدمها لها: كنت بخلصلك الورق ده.

جلست وضيقت حاجبيها باستغراب: ورق إيه ده؟

أخذته من بين يديه تقرأ ما به، وسرعان ما اتسعت عيناها ورفعت رأسها تتساءل بصدمه: هو إللي انا قرأته ده صح؟

هز رأسه بابتسامة موضحاً: آه، قدمتلك في الجامعة علشان تكملي دراستك، أنا دخلتك من سنة تانية علطول، بس لو أنتِ بقي الاجتهاد واخد حده معاكي وعايزة تعيدي سنة أولى تاني، مفيش مشكلة.

اتملئت عيناها بالدموع، وهي تهمس بدهشة وسعادة: بجد يا سليم؟ هتسيبني أكمل الجامعة؟

هز رأسه بابتسامه تأكيد: أيوه طبعا.

شعرت بسعادة كبيرة، فمدت يدها فجأة ولفتها حول رقبته، وضمته إليها بتلقائية وهي تقول: شكرا يا سليم.

رفع يده يبادلها العناق وهو يمسح على شعرها بحنان وارتياح لرؤيتها سعيدة، ابتعدت عنه وامسكت يده بحماس: بجد دى أحلى خبر.

ابتسم معلقا بمزاح: إيه التعب راح دلوقتي.

هزت رأسها تضحك بحماس: لازم يروح.

صمتت لحظه، ثم تساءلت وهي تضيق عينيها بشك: بس ثانية، هتسيبني أروح أحضر المحاضرات ولا الامتحانات بس؟

ابتسم بلطف مفسرا: لا، هتروحي تحضري محاضراتك عادي، ومن بكرة كمان لو تحبي، أنا جبتلك الجدول.

قالت بنبرة لازعة بيها شك وهي تقعد حاجبها: وطبعا مكي هيحضر معايا؟ وراوية تقعد جنبي، ولو حبيت أروح أشرب حاجة مع أصحابي ترفض ومكي يتحايل عليك، وتعمل طبعا تحرياتك على أي حد أعرفه، علشان تحددلي أكلم مين ومكلمش مين، وكل حاجة بمحايلة ده غير طبعا تجيبني وتوديني كأني طفلة.

ضحك يهز رأسه: لا لا لا، مش هعمل أي حاجة من دي، هتروحي مع السواق عادي والحراس هيبقوا معاكي من بعيد لبعيد زي زمان، مش هتحسي بوجودهم أصلا ووقت ما تحبي تخرجي مع أصحابك مدام قريب من الجامعة عادي لكن لو هتبعدي أتصلي عرفيني بس.

ضيقت عينيها بشك: مش مصدقاك.

مد وجهه: إحنا فيها، ممكن تخرجي مع سلوي النهارده وتشوفي بنفسك؟

ضيقت عينيها: تست؟!

سليم بتأكيد: بالظبط.

ضيقت عينيها وهي تتساءل بعدم فهم: أنا عايزة أفهم أسبوع الفرصة بتاعك ده، حاسه إنك هتخلصه وأنا مش معاك، مش فاهماك! ناوي على إيه؟

ركز النظر في ملامحها بحب: ناوي أصلح كل حاجة انكسرت، وأوريكي إنها بتتصلح.

ابتسمت وقالت مازحة: هنشوف.

نظر لها نظرة ذات معنى: أفتحي أخر ورقتين في الملف.

فتحتهم ولم تفهم شيئا، فرفعت عينيها اليه بإستغراب.

رد على نظرتها بتوضيح: ده مشروع صغير، حاولي تفكري فيه وتشوفيلنا حل، علشان قررت كمان إنك تروحي معايا المجموعة تساعديني وتديري ممتلكاتك.

ثم أضاف بمزاح: أنا مش هفضل أديرهالك كدة علطول، انزلي وشوفي شغلك.

نظرت له بدهشه غير مصدقة، ولم تستطع الرد.

تفهم نظراتها، فابتسم برقة وأعادها بين أحضانه مجددا، وهمس: ارتاحي بس دلوقتي، وبعدين هتفهمي كل حاجة.

هزت رأسها موافقة بصمت، واستسلمت للهدوء والدفء الذي أحاطها به، لكن عينيها ظلت تعكس مدى استغرابها وارتباكها

في إحدى ورش الخشب الكبيرة، 1:00 ظهرا.

وقف محمود أمام المكتب، وأمامه كان يجلس الحاج شاهين (رجل في منتصف الخمسينات، بهيئه متصابيه يظهر عليه أثر صبغ الشعر واهتمام ملحوظ بالمظهر والملابس).

محمود: صباح العسل ياحاج

أجابه شاهين بجدية: صباح النور يا محمود، خد الفلوس وسلمها للحاج متولي، وقوله يهم شويه.

أومأ بابتسامه واسعه: عنيا الاتنين يا حج، اشرب بس كوبايه شاي عند الولا شيكو واصطبح واروح.

أخذ الفلوس ووضعها في كيس اسود، ثم ادخله الجاكيت، وصعد على الموتوسيكل الخاص به وتوجه إلى القهوة حيث كان توتو.

فيلا عائلة هبة، 1:00 ظهرا.

كانت الفيلا غارقة في صمت أنيق يليق بأصحابها، هبطت هبة الدرج بخطوات واثقة، كملكة تجيد فرض حضورها، وعيناها مثبتتان على لوجين الجالسة في منتصف الصالون.

وحين سمعت لوجين صوت كعب هبة يطرق الأرض، رفعت رأسها بابتسامة خفيفة تحمل اعتذارا، فردت عليها هبة بابتسامة باردة تماما.

بدأت لوجين الحديث بصوت هادئ متوتر: أنا آسفة يا مدام هبة إني جيتلك من غير معاد، بس المقابلة دي كان لازم تحصل.

عقدت هبة ذراعيها بتحفز: بس مش شايفة إن فيه أي كلام ممكن يدور بينا يا أستاذة لوجين.

عضت لوجين شفتيها بإرتباك: أنا مش جاية أتكلم عن نفسي، أنا جاية أتكلم عنك أنتِ وياسين.

اشاحت هبة بوجهها، وقالت بنبرة جامدة: لو سمحتي، مش عايزه اتكلم في الموضوع ده.

تقدمت لوجين خطوة حتى وقفت أمامها بإصرار: لأ، لو سمحتي أسمعيني، ياسين إنسان طيب جدا، وحاول كتير علشانك، يمكن أنتم محاولتوش كفاية، بس لازم تدوا لبعض فرصة علشان بنتكم على الأقل، متضيعيش كل إللي بينكم كدة بسهولة.

نظرت لها من أعلى لأسفل، ثم قالت بسخرية لاذعة: هو أنتِ فاكرة إني مش واخدة بالي؟ أنا ست مش غبية يا لوجين، أنا عارفة إن فيه مشاعر بينك وبين ياسين، صح؟

عقدت حاجبيها وتساءلت باستغراب: ومادام عارفه، ليه متحاربيش علشان تسترجعي جوزك؟ ولو على موضوع الإجهاض أنا ممكن اساعدك وتشرحيله أسبابك، وهو أكيد بعد ما يهدي هيتفهم أسبابك.

ضحكت هبة بسخرية أوسع: غريبة إنك ملهوفة أوي ترجعيني لياسين برغم إنك بتحبيه؟! إيه عايزة تحسي إنك بريئة يعني؟

هزت لوجين رأسها، بعينين تترقرق بدموع، وقالت بصوت مبحوح: أنا بس مش عايزة أبقى سبب خراب بيتكم.

أجابتها هبة بنبرة جامدة مغطرسة: متقلقيش، أنتِ عمرك ما هتكوني السبب، لإن أنا أصلا مش شايفاكي في الصورة، وأوعي تفتكري إن ياسين هو إللي سابني، لأ، أنا إللي سبته من زمان.

لوجين باستغراب: هو حضرتك بتتكلمي كدة ليه؟ أنا جاية بحاول أرجعك لجوزك!!

ابتسمت هبة ببرود أكثر: لأ يا لوجين، أنتِ جاية علشان متحسيش بالذنب، بس خليني أقولك نصيحة صغيرة كده، لو منك؟ أخلع، ومتجوزش واحد زي ياسين، علشان بعدين هتندمي العمر كله، متنخدعيش بالمظاهر.

اتسعت عينا لوجين بإستغراب شديد، بينما واصلت هبة حديثها بثقة جارحة: تفتكري واحد زي ده ينفع ست تتجوزه؟ واحد حب مراته وبعدين راح فكر في غيرها أول ما اتخنق؟ ده إنسان أناني، مبيفكرش غير في نفسه وبس، علشان بس اهتميت بشغلي شوية، راح عرفك وأكيد ده هيكون مصيرك بعدين، ده غير إن عيلته مجرمين ومنحطين، هيخلوكي تكرهي نفسك، وتبقي عايزة تخلعي جلدك عشان ميكونش ليكي صلة بيهم عيلة قذرة، وهو ميقلش قذارة عنهم.

تقدمت منها خطوة، وقالت ببرود قاتل: فمتقلقيش عليا، أقلقي على نفسك، أصل أنا شايفة مصيرك قصادي، بس على الأقل هو كان بيحبني ..

نظرت لها من أعلي لأسفل بتقليل واستحقار: إنما أنتِ مجرد كوبري، هيستمتع معاكي شوية وبعدين هيرميكي، وأنا مستنية أشوف دموعك لما تعاشريه وتعرفي حقيقته القذرة، ياسين ده عامل زي الكلب المسعور وأول ما بيعض مش بيعض الا أيد صاحبه.

كانت لوجين تصغي إليها بصدمة، وحاجباها معقودان؛ فكيف لها أن تقول ذلك عن زوجها ووالد ابنتها؟!

تغيرت ملامح لوجين فجأة، اقتربت منها خطوة وقالت بابتسامة قوية متحدية وكأن ما قالته هبة أطلق فيها روحا جديدة: تصدقي عندك حق، هو فعلا ميستاهلش واحدة زيك تبقى في حياته، هو محتاج واحدة أحسن منك تعرف قيمته وتحبه وتقدره بجد.

مالت برأسها وهي تمرر عينيها عليها بنوع من الاستحقار وتابعت بنبرة لازعة: وأنا كنت غبية لما كنت بزن عليه علشان يصالحك ويديكي فرصة، وهو غلبان كان فاكر إن فيه أمل! وحاول بكل الطرق، مع واحدة متستاهلش!

وقفت أمامها بثبات، عيناها تلمعان بالدموع والكرامة:
أنتِ متستاهليش حتى نص فرصة زيه، وأنا؟ أنا هتجوزه وهسعده، وهخليه يعرف يعني إيه يكون في حضن واحدة بتحبه بجد.

اقتربت أكثر، وهمست بحدة جارحة وثقه وبقين:
ومتقلقيش عليا يا هبة، أنا غيرك، أنا مش هضيع من أيدي الراجل إللي بحبه، ولا هفضل كل شوية اتهمه بحاجات ملوش علاقة بيها، ولا هسيبه يروح لوحده تانية، وهعرف أخليه يحبني، ويعيش علشاني، ويموت في التراب إللي بمشي عليه، وميستغناش عني ولا يشوف ست في الدنيا غيري

أرتجف صوتها غضبا: أنتِ إللي معرفتيش تحافظي عليه علشان غبية، وأنانية، وبشعة! وبعدين إزاي تتكلمي عن جوزك أبو بنتك كده؟ بس ما هو طبيعي، إللي تقتل ولادها الأتنين، وتهون عليها تموتهم بدم بارد، تعمل أكتر من كده!

وتابعت بصوت ثابت وحاد وكأنها اتخذت قرار: أنا كنت غبية لما قولتله أرجع لمراتك، بس أنا دلوقتي هروحله وهقوله إني موافقه اتجوزه، وهعوضه عن التعاسة والقرف إللي عاشهم في حضن واحده زيك.

نظرت لها هبة بدهشة ممزوجة بالحنق، بينما رفعت لوجين رأسها بكبرياء قبل أن تستدير وتغادر بخطوات سريعة، والعاصفة تتقد في عينيها.

صعدت إلى سيارتها وأغلقت الباب بعنف، ثم وضعت يديها على المقود لحظة قصيرة، قبل أن ترفع رأسها ونظرتها الحادة توحي بقرار لا رجعة فيه، ثم ضغطت على دواسة البنزين وانطلقت.

القهوة، 1:30 ظهرا.

أوقف محمود الموتوسيكل على جانب الطريق، ودخل القهوة، فوجد توتو جالسا مع شاب آخر يلعبان دومنة.

نادى بصوت عالي: شيكو، اعملي شاي وحجر معسل.

جلس محمود بجانب توتو وأخفض صوته قائلا في أذنه: أنا جبتلك ال 30 باكو.

أخذ توتو الكيس منه وقال: خلاص، النهارده هبعتهم لطه ونقب بقي.

محمود بتوتر وتحذير: توتو، أوعى نلبس، أنا كده هلبس مع شاهين ومع الزعيم، وأنا مش ناقص.

طمأنه توتو: يا عم، متقلقش.

مال محمود بجسده ناحية توتو: طب ما تتصل بالولا كيميا وخليه يجي، ونشوف الدنيا فيها إيه.

القي توتو حجر الدمنه: معيش رصيد، هبعت شيكو يناديله.

ضحك محمود بخفوت، وقال مازحا: طول عمرك معفن يلا، هكلمه أنا.
جهز له شيكو حجر المعسل، فسحب نفسا عميقا، ثم أخرج هاتفه وأجرى المكالمة: يا كيميا أنا مستنيك على قهوة شيكو أنا والولا توتو، تعالي.

مر وقت قصير، ثم ظهر طه (شاب رفيع بنظارة، يمشي بثقة زائدة) جلس معهم، فأعطاه توتو الكيس.

طه: خلاص بعد بكره ال30 تاخدهم مني 120.

محمود بقلق واضح: يا ريت، لحسن تبقى مصيبة وتتحط فوق دماغي، وأتعلق لو حصل غير كده.

طه بثقه زائده: متقلقش، المصلحه دى مضمونه.

منطقة سقارة، تحديدا في توابيت السرابيوم، 3:00 عصرا.

نري السائحين يتحركون بين الظلال القديمة، يتأملون هذا الإبداع الفريد، ويقف البعض منهم مبهورين أمام حجم التوابيت ودقتها، بينما يتساءل آخرون عن الغموض الذي يكتنف هذه التحف التاريخية.

فجأة، يظهر عزت الراوي، وهو يتقدم ببطء بين الممرات بخطوات محسوبه، ثم توقف فجأة أمام إحدى التوابيت، مركزا نظره عليها بدقة لم يسبق لها مثيل، ولم تمضِ سوى دقائق، حتى ظهر بجانبه رجل قوي البنية، تبدو ملامحه أوروبية.

تحدث الرجل بلكنة روسية: عزت باشا، كيف حالك؟

أجابه وعينيه لا تزال ثابتتان على التابوت: بخير، هل عرفت كل المعلومات التي تريد؟

هز الرجل رأسه بتأكيد: نعم، ومن اليوم سوف الحق بها كظلها، وقريبا سوف تسمع خبر موتها.

نظر إليه وخلع نظارته بهيبة: استمع لي جيدا ميخائيل، إذا كان سليم معها في أي لحظة، أوقف المهمة مهما كان الأمر.

ابتسم ميخائيل بثقة: لا تقلق رصاصتي لم تخونني أبدا

أعاد حديثه بحسم: قولت لك إذا كان سليم معها في أي وقت، أوقف المهمة.

ثم أدخل يده في جيب الجاكيت، وأخرج شيك ومد يده للرجل: هذا نصف المبلغ الآن، والنصف الثاني عند إتمام المهمه.

ثم تابع بحزم: أخرج بعد عشر دقائق.

غادر بخطوات ثابتة، بينما كانت الظلال الطويلة للتوابيت تلتف حوله، وكأنها تراقب كل تحركاته.

مجموعة الراوي، 3:00 عصرا.

مكتب ياسين.

كان جالسا خلف مكتبه، والأوراق مبعثرة أمامه كأنها فوضى تشبه ما بداخله، وفجأة، انفتح الباب بعنف كصفعة أيقظت المكان.

رفع رأسه بسرعة، واتسعت عيناه بدهشة حين رأى لوجين تقف عند المدخل، أنفاسها متلاحقة، وعينيها تتقدان بقرار حاسم.

نهض ببطء، كأنه يخشى أن يتحرك فتختفي: لوجين؟

تقدمت خطوة، وصوتها خرج ثابتا قويا: أنا موافقة يا ياسين إننا نتجوز.

تجمد في مكانه، يحدق فيها كمن يحاول استيعاب زلزال وقع فجأة، وصوته خرج مبحوحا، كأنه يخاف ينطق فتتبدد الحقيقة: بتتكلمي جد؟

ابتسمت ابتسامة مرتعشة، ورفعت يدها تمسح دمعة سقطت دون إرادتها: أيوه بتكلم جد.

تحرك ناحيتها بخطوات متسارعة، حتى وقف أمامها مباشرة، مد يده وأمسك يديها كأنهما آخر حبل يربطه بالحقيقة، نظر في عينيها بلهفة رجل غرق طويلا ثم وجد الهواء من جديد: قولي إنك بتتكلمي بجد، قولي إن ده مش حلم.

ابتسمت له ابتسامة فيها وجع وصدق واستسلام وعيناها تلمعان بدموع لا تخفي شيئا: بتكلم بجد يا ياسين، أنا آسفة، آسفة على كل حاجة، أنا كمان بحبك والله العظيم بحبك، بس كنت خايفة أضيع آخر فرصة بينك وبين مراتك، بس طلع عندك حق، فيه ناس فعلا متستحقش الفرص.

ابتسم ابتسامة مرتبكة، كأنه لا يجد الكلمات المناسبة لكل هذا الفيض من المشاعر فقال: طب تعالي أقعدي وبعدين نتكلم، شكل فيه حاجة حصلت.

هزت رأسها بخجل، ابتسامتها تهتز قليلا، لكن قبل أن تنطق، أمسك ياسين يديها بكل حماس وكأنه يخشى أن تتراجع: ولا أقولك؟ مش عايز أسمع ولا أعرف حاجة، مش مهم، المهم إنك موافقه، خلينا نكتب الكتاب بكرة والفرح يبقي آخر الأسبوع.

حدقت فيه بدهشة ممزوجة بضحكة خرجت رغم التوتر: ايه الجنان دى يا ياسين؟! مش بالسرعه دى.

ضحك والفرح يتدفق في صوته لأول مرة منذ زمن وهو ما زال ممسكا بيديها: وإيه اللى يخلينا نستنى، كفاية بعد ووجع، أنا خلاص مش عايز أضيع لحظة تاني من غيرك.

صمتت للحظه تفكر في كلامه، حتى قطع سيل أفكارها تساؤله بتوجس: بس مامتك ..!؟

هزت رأسها بثقة: لأ سيب ماما عليا، أنا هعرف أتصرف معاها.

لم يحتمل وفي لحظة بلا تفكير، اقترب منها بعنف دافئ، سحبها بين ذراعيه بقوة تحكي كل ما كتمه،
احتواها كمن وجد ضالته، ودار بها في الهواء وهو يضحك، ضحكة طفل، وحرمان رجل، وفرحة نجاة.

بين ضحكتها المختلطة بدموعها، ومع رأسها المستند إلى كتفه، همس قرب أذنها بصوت منكسر بالعاطفة: كنت عارف إنك هاترجعيلي، وإن حكايتنا مخلصتش لحد كده، كنت عارف، بحبك يا لوجين.

في أحد المقاهي، 4:00 عصرا.

جلست ماسة تحتسي قهوتها بهدوء وارتياح، وبعد دقائق، دخلت سلوى بخطوات متأنية، فلوحت لها بخفة، فاقتربت منها وجلست أمامها وهي تقول بإبتسامة ساخرة: مصدقتش وأنتِ بتقولي مستنياني في كافية؟!

ضحكت بخفة: إشمعنا يعني؟

سلوى بسخرية: اتصدمت إن سليم سابك تخرجي كده؟؟! ده أنا حتى مشوفتش الحراس برة! مفيش غير العربية، حتى السواق مش موجود!

ثم مالت للأمام هامسة: ايه مش خايف تهربي منه تاني؟ ولا مساومك المرة دي على حاجة؟

ارتشفت ماسة من قهوتها، قبل أن تجيبها بابتسامة: الحراس موجودين بس هو قالي مش هتحسي بيهم، وجيت لوحدي عشان أنا إللي طلبت كده؛ كنت عايزة أتعلم أتحرك لوحدي وأتعرف على الأماكن، وهو وافق وفضل معايا على التليفون لحد ما وصلت علشان متوهش، وكمان قدملي في الجامعه وهيسبنى أروح لوحدى عادي، ولما أخرج معاكي أو مع أصحابي هيسيبني براحتي زى دلوقتي كده، هنرجع زي زمان.

نظرت لها سلوي بترقب: وأنتِ مطمنه لكل دى مش خايفه يرجع يهددك تانى؟!

هزت رأسها بإبتسامة دافئة: لا مش خايفه، المرة دي هو فعلا مختلف.

ضيقت سلوي حاجبيها بإستغراب: مختلف إزاي يعني؟

أجابتها بنبرة حالمة، ولمعة خفيفة في عينيها: يعني رجع سليم إللي حبيته واتجوزته.

امعنت النظر فيها للحظة ثم قالت بدهشة واستنكار: هو أنتِ بجد ناوية تسامحيه بعد كل اللى عمله؟

ابتسمت وسرحت بنظراتها بعيدا: أيوه.

مالت بجسدها للأمام، وعيناها تلمعان بدموع ممزوجة بالحب والعجز، وصوتها خرج مرتجفا: أنا بحبه يا سلوي، بحبه رغم كل إللي حصل، وبعد كل إللي عرفته، وكل إللي عمله فيا وفيكم، بحبه ومعرفتش أكرهه، حاولت أكرهه وأقنع قلبي بس معرفتش، معرفتش غير إني أحبه…

أخذت نفس، ثم تابعت بارتجاف: وبعدين يا سلوى، هو ميعرفش أنا مشيت بالطريقة دي ليه، واتصرف كراجل طبيعي حر، مراته فجأة اتغيرت معاه وبعدها هربت كذا مره من غير سبب، عارفة إنه تجاوز في حقكم، بس هو عمل كده من جرحه وخذلانه مني..

أشارت بأصابعها بحركة حادة تؤكد المعنى: وأوعي تنكري إن لو كنت عملت كده مع راجل تاني غيره كان زمانه قتلني..

تبدلت ملامح سلوى، وشفتاها انعوجتا بسخرية ظاهرة دون تعليق.

تابعت ماسه برجاء صادق وعقلانيه: وأنتِ كمان يا سلوى، أدي فرصه لمكي، مكي بيحبك وحرام تضيعي الحب دى من أيدك، يمكن دى مكانش كلامي في الأول، بس وقتها أنا كنت مضطربه وخايفه، ومش عارفه افكر كويس، وصدقيني هما تابوا والله..

ردت عليها باستهزاء لازع: والنبي بلاش كلام أمك ده، هو أنت فكراني معدومة الكرامة زيكم.

اتسعت عيناها في صدمة، وقالت بصوت مرتعش: ايه اللى أنتِ بتقوليه دي؟! أنا معنديش كرامة؟! وبعدين متتكلميش على أمك كده عيب.

نظرت لها بثبات، وملامحها قاسية: أيوة معندكيش كرامه، إللي تقبل على نفسها تترمي تاني في حضن واحد عمل فيها إللي سليم عمله فيكي وفي أهلك تبقى معندهاش ريحه الكرامة.

مررت عيناها عليها من الأعلي إلي الأسفل باستهزاء: وبعدين أنتِ ايش ضمنك إنه ميرجعش يعمل معاكي اللى عمله تانى؟!

اطرقت ماسة قليلا، ثم قالت وهي ترفع رأسها بنظرة حائرة: ما الأسبوع ده في حاجات كتير هنقيمها سوا في علاقتنا كأنها اختبار، والدكتور كمان هيعلمني إزاي اقدر أتجاوز إللي حصل آخر ليلة.

قاطعتها بحدة وغضب: هي دي مشكلتك بس، ضربه ليكي بالحزام؟ وإنه حاول يغتصبك؟! هي دي بس إللي أنتِ مش عارفة تعديها نفسيا؟! لكن مجرد ما الدكتور يعالجك منها يبقي خلاص كده؟!

ضحكت باستهزاء وتهكم: وطبعا لأن ده أسلوبه، هيبدأ يبهرك بكلمتين وهتسامحيه، وبمجرد ماتستسلميله خلاص كده!

ماسة بعصبية مكتومة: على فكرة، أنتِ ظالمة سليم خالص، ولو أنتم متهمونيش زي ما بتقولي مكنتش هربت منه كذا مره من خوفي عليكم، ومكنتش فضلت زعلانة منه سنة! بعد اللى عمله مع عمار.

رفعت سلوى حاجبيها، ونبرتها امتلأت اشمئزازا: دي اللى بتحاولى تقنعي نفسك بيه علشان متقرفيش من نفسك وأنت نايمه في حضنه، أنا أصلا مش عارفه إزاى هتقبلي على نفسك تعيشي مع واحد قواد.

شهقت ماسة، واتسعت عيناها، وصوتها خرج خافتا لكنه غاضبا: وطي صوتك، وبعدين سليم مش قواد! قولتلك أنا مش مصدقة الموضوع ده، الحاجة الوحيدة إللي ممكن تكون صح حوار السلاح والآثار والماس، وبعدين قولتلك إنه تاب خلاص.

مالت سلوى بجسدها للأمام، وتساءلت بتهكم واستهزاء: وأنتِ إيه إللي مخليكي متأكدة أوي كدة إنه تاب؟

ارتبكت للحظة، زفرت ببطء، ووضعت يدها على صدرها، وقالت بصوت هادئ: لإني بثق فيه، وسمعته وهو بيتكلم مع مكي وقال إنه تاب، ما أنا حكيتلك وقتها.

أمالت سلوى رأسها بسخرية خفيفة: وأنتِ صدقتيه؟

هزت رأسها بابتسامتها مرتعشة: آه صدقته، يمكن في البداية كنت لسة تحت تأثير صدمة الصور والفيديوهات إللي شوفتها، بس أنا دلوقتي متأكدة إن سليم خلاص تاب زى ما أنا شايفاكي قدامي دلوقتي..

رفعت يدها تلقائيا، تشير لسلوى كأنها تثبت الواقع أمامها: سليم مش قواد ولا تاجر أعضاء يا سلوي، وتاب وبعد عن كل حاجة حرام كان بيعملها، وأنا مصدقاه.

قهقهت سلوى بضحكة تهكميه ساخرة: مش بقولك بتحاولى تجمليه، علشان لما تسامحيه متبقيش قرافانة من نفسك، صدق اللى قال مرايه الحب عاميه.

تجمدت ماسة، واتسعت عيناها بصدمة حزينة كمن تلقى طعنة غير متوقعة، فصاحت بنبرة ترتجف بين الغضب والجرح: خدي بالك من كلامك يا سلوى، واعرفي بتقولي ايه كويس..

التمعت نظرات سلوي بقسوة لا تخطئها العين، كأنها تقذف الحقيقة في وجهها عمدا لتجرحها، وقالت بسخرية مرة: أللي أعرفه حاجة واحدة بس، إنك بعتي نفسك وخنتينا.

سقطت الكلمات على ماسة كالصفعة، انعقد فكها فجأة، وجزت على أسنانها بحدة، ويدها ارتجفت قليلا وهي تحاول تهدئة نفسها.

خفضت عينيها للحظة، ثم رفعت نظرها بثبات موجوع، وملامحها تصلبت كصخرة تحاول ألا تنكسر، وقالت بصوت منخفض يخنقه غصة واضحة: الظاهر إنك لسة أعصابك تعبانة، خلينا نتكلم وقت تاني، أنا ماشيه.

وقفت ببطء، ووجهها ممتلئ بالوجع والغضب، كأن ملامحها تخفي صرخة كانت على وشك الانفجار، أمسكت حقيبتها بقوة، واستدارت بخطوة حادة نحو الباب، كأنها تهرب من سكين لا تقدر على تحمله

لكن سلوى لم تتركها، واتجهت خلفها بخطوتين سريعتين، وصوتها أنطلق كأنه ضربة مفاجئة شقت الجو، وعيناها تلمعان باستفزاز جارح وهي تقول: هو للدرجة دي حضن سليم خلاكي تنسي أهلك؟ هو إللي حصل بينكم عجبك أوي لدرجة إنك كنتي مستنياه يعملها، علشان تلاقي سبب يخليكي تترمي في حضنه تاني من غير ماتقرفي من نفسك؟

اتسعت عينا ماسة بصدمة فالكلام كان أصعب من استيعابها، رفعت رأسها ببطء، وصوتها خرج متقطّع بين الذهول والغضب: أيه إللي أنتِ بتقوليه ده؟ أنتِ اتجننتي؟!

أشارت بيدها في وجهه سلوى بنبرة لازعة: مش هقولك تانى حاسبي على كلامك معايا يا سلوى!

لم تتراجع سلوى، بل وقفت في مواجهتها، ورفعت ذقنها بثقة وقالت ببرود: أنا بقول الحقيقة، إنك واحدة رضيتي بالمهانة ورضيتي تعيشي مع واحد مجرم زي سليم.

ثم نظرت اليها بنظرة مليئة بالاستحقار، وقالت بنبرة لاذعه حادة كالسكين: قولي لي، محسيتيش بأي ندم أو خيانة وأنتِ في حضنه بعد إللي عمله في أهلك؟ احترمتِ نفسك؟ ولا حضن سليم للدرجة دي نساكي كل إللي عمله؟ طب مخوفتيش القواد اللى راميه نفسك في حضنه يبيعك بعد ما يزهق منك زى ما بيبع ويتاجر في غيرك…

اتسعت عين ماسة بصدمة، شهقت وهي تحاول أن تستوعب كلماتها، ولم تشعر بنفسها إلا ويدها ترتفع وتصفع سلوى على وجهها بقوة وهي تصرخ: بس كفاية!

تراجعت سلوى خطوة للخلف، وضعت يدها على خدها، وعيناها متسعتان من المفاجأة.

رفعت ماسة يدها وهي تشير بإصبعها بتحذير حاد مرتجف، وعيناها تلتمع بالدموع: أوعي تقلي أدبك معايا كده تاني! دي أول وآخر مرة تقولي لي كلام زي ده، أنتِ متعرفيش أنا عملت إيه واستحملت ايه علشانكم! ومسمحلكيش تتكلمي عن سليم كده تاني، دى وأول وآخر مرة تتكلمي عن جوزي بالطريقة دي! فاااهمةة.

نظرت إليها بخذلان: خسارة يا سلوى مكنتش متوقعة أبدا إن الكلام ده يطلع منك أنتِ.

قالت كلماتها وتحركت بخطوات سريعة نحو الخارج، كان قلبها ينبض بعنف، ودموعها محبوسة في عينيها، فتحت باب السيارة بعنف، جلست على المقعد، أغلقت الباب بقوة، وانطلقت دون أن تلتفت خلفها.

أما سلوى، فظلت واقفة مكانها، لا تشعر بالندم، بل بالغضب، وعيناها تراقبان ماسة وهي تختفي في الطريق.

ظلت ماسة تقود السيارة وهي تبكي بحرقة وهي تري الطريق أمامها مشوش من كثرة دموعها.

منزل لوجين، 5:00مساء.

توقفا لوجين وياسين عند الباب، متلاصقين كأن المسافة بينهما لم يخلق لها وجود، أصابعهما متشابكة بقوة، ويد ياسين تمسك يدها كمن يخشى أن يفلت منه الفرح فجأة، ضغط ياسين الجرس، ثم مال ينظر إليها بحماس طفل على وشك اكتشاف هدية العيد.

انفتح الباب بعد لحظات، وظهرت الخادمة تنظر إليهما بإستغراب خفيف.

لوجين بإبتسامة رقيقة، وعينيها تتحركان بخجل: مساء الخير.

دخل الأثنان معا، كتفهما يلمس الآخر دون أن ينتبها، ودفء خفيف ارتفع في الهواء من شدة قربهما.

داخل الريسبشن

كانت نغم ووالدتها تجلسان أمام التلفاز، وهدوء المساء يملأ الغرفة، حتى انفتح الباب فجأة.

رفعت الأم رأسها بحدة، حاجباها ارتفعا بدهشة، وعيناها تتساءلان عن المشهد أمامها: يدين متشابكتين، وقرب لم تعتد رؤيته من قبل!!

لكن نغم بخلاف أمها، ابتسمت ابتسامة واسعة ونظرت اليهما بفرح صادق، كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ زمن، ثم قالت بلهجة مليئة بالحماس والسعادة: إيه ده، إيه إللي أنا شايفه ده؟!

خفضت لوجين عينيها بخجل لطيف، بينما شد ياسين قبضته على يدها بخفة، كما لو يطمئن نفسه قبلها.

رفعت لوجين وجهها وقالت بإبتسامة خجولة: ماما أنا وياسين قررنا نتجوز آخر الأسبوع.

قفزت نغم من الفرح، ركضت نحوها وضمتها بحرارة: ألف مبروك يا لوجين! إيه الأخبار الحلوة دى!

أما نهى فظلت صامتة، وجهها متجمد يحاول فهم ما يحدث.

لاحظ ياسين جمودها، فإبتسم بخفة وقال: مساء الخير يا هانم، مسمعناش رأيك يعني!

لم ترد، فاقتربت منها لوجين خطوة، وعينها تبحث عن الموافقة: ماما أنا هفهمك كل حاجة.

جلست نهى على الكرسي وقالت بتهكم: ياريت تفهموني.

نظرت اليها لوجين موضحه بحركة يد مطمئنة: أنا بحب ياسين ووافقت أتجوزه.

نهى بحدة: بس ده مكانش قرارك!

ابتسمت بإبتسامة صادقة: صح بس اكتشفت إني كنت غلطانه.

أخذ ياسين نفسا عميقا، وحرك يديه في محاولة لتوضيح كل شيء بعقلانية: نهى هانم، أنا ولوجين حبينا بعض من غير قصد ولا ترتيب، حاولنا نبعد ونسيطر على مشاعرنا، بس مقدرناش، ليه نحرم نفسنا من السعاده، ونحرم حاجة حلال؟ أنا بحب لوجين وعايز أتجوزها وهي كمان.

نهى بحذر: ده بس عشان السكينة سرقاك، وهي كمان..

قاطعها بإبتسامة مطمئنة: لا طبعا، أنا لما طلبت من لوجين نبقى سوا وأنا بطلق، هي رفضت وقالت إني موهوم وحبي ليها مجرد احتياج علشان لقيت معاها المشاعر اللى نقصاني مع هبة.

صمت لحظة، وزم شفتيه بإرتباك وهو يومأ برأسه: أخويا كمان كان عنده نفس الرأي وقتها، قولت يمكن عندهم حق، سافرت علشان أعرف أفكر بهدوء وأخد قرار صح مظلمش بيه هبة ولا لوجين، ولما سافرت مكنتش بفكر غير في لوجين، حاولت أجبر نفسي وقتها في التفكير في هبة وفي الذكريات الحلوة اللى بينا، بس لوجين مكانتش بتفارق خيالي لحظه، وقتها فهمت إن المشاعر إللي جوايا مشاعر حب حقيقية.

رفع نظره لها بيقين وحب: رجعت وطلبت من لوجين نبقى سوا بس رفضت لنفس السبب، وقتها حاولت أبطل أفكر فيها، بس مقدرتش، لحد ما هبة طلبت فرصة، وافقت علشان بنتي، بس للأسف طول الكام يوم إللي أنا كنت فيهم معاها، مكنتش مبسوط وحاسس إني بضحك علي نفسي، لحد ما عرفت موضوع إنها أجهضت نفسها تاني، ساعتها كل حاجة انتهت، بس صدقي عاجلا أم آجلا كان هيحصل، كانت مسألة وقت لأني مكنتش مبسوط وهبة مكانتش مساعداني ولا بتحاول تصلح من نفسها، أنا وهبة العلاقة بينا انتهت من فترة كبيرة بالرغم من كم المحاولات بس خلاص انتهت، ومش هترجع تانى بأي شكل من الأشكال، ودلوقتي أنا بحب لوجين بجد وعايز اتجوزها وأكمل حياتي معاها.

نهى بقلق: بس الناس مش هتقول كدة…

قاطعها بحزم: الناس كده كده بتتكلم، واحنا مش هنعمل حاجة حرام علشان نخاف، أنا مخنتش مراتي، أنا مراتي بنفسها هي إللي نهت كل حاجة بينا، وميهمنيش الناس تقول إيه المهم أنا عارف لوجين على إيه، وإننا فاهمين إن إللي حصل ده مش بإيدينا، وإن طلاقي من هبة ملوش أي علاقة بيها ولا بحبي ليها.

نغم بتأكيد: بالظبط هو ده إللي أنا بقوله يا ماما.

عدلت لوجين جلستها وهي تمسك يد والدتها، بثقة ورجاء: ماما أنا بحب ياسين وعايزة أتجوزه، من فضلك وافقي.

نهى بخوف وحذر: أنا خايفة عليكي يا لوجين، مش عايزاكي في يوم تسمعي كلمة تجرحك، أنتِ دلوقتي السكينه سرقاكي وأنا واجب عليا اوعيكي.

لوجين بابتسامه: أنا عارفه والله يا ماما بس أنا واثقه من قراري المرة دى، مش أنت أهم حاجه عندك إني أكون مبسوطه وسعيده!؟ وأنا بحب ياسين وعايزه ابقي معاه، وافقي بقي.

نهى بتردد وقلق: بس يا لوجين آخر الأسبوع ده بسرعة أوى ليه الاستعجال؟! علي الأقل اعملوا فترة خطوبه.

ياسين بلهفه: وهنستني ليه، لازمتها ايه الخطوبه أصلا، أنا وهي بنحب بعض وكل حاجه سهل تجهز في أقل من أسبوع كمان.

نغم بحماس: أيوه يا ماما إيه المشكلة؟ ما هما عارفين بعض كويس، خلينا نفرح.

ياسين بإبتسامة مطمئنة: بالضبط، أنا عارف لوجين كويس ومحتاجها في حياتي، وهي كمان محتاجاني، ونفسي يكون القرب ده رسمي.

لوجين بحزم وابتسامة: ماما أنا موافقة، ولو سمحتي علشان خاطري وافقي، وسيبينا نعمل إللي إحنا عايزينه، أنا مبعملش حاجة حرام ولا عيب، أنا هتجوز الراجل إللي حبيته، وأنا مسئولة عن قراراتي.

رمشت نهى بعينيها لثواني، ثم هزت رأسها بابتسامة خفيفة على وجهها تدل على رضاها الداخلي: خلاص، أنا موافقة طالما دى هيسعدك..

صمتت لوهلة قالت بتعجب: بس أسبوع مش قليل !؟ النهارده الأربعاء هتلحقوا تجهزوا كل حاجه في أسبوع!؟

ياسين بحماس: إن شاء الله من بكره تيجوا مع لوجين القصر علشان تشوفوا الأوضة، وتتختاروا الديكورات وكده، ولو الأوضة مش عاجباكي لأنها بتاعة جوازي الاول؟! وحابة تختاري أوضه تانية أنا معنديش مشكلة، وبالنسبة للفستان برضو أمره سهل أي حاجة لوجين عايزاها هتبقى عندها، وكل حاجه هتكون جاهزه على الخميس الجاي نتجوز.

نغم بإبتسامة واسعة: أنا متحمسة للموضوع بجد مامي قولي موافقة بقى، خلينا نفرح؟!

صمتت للحظة وهي تنظر في أعينهم التي تترجاها أن توافق، تنهدت وابتسمت بإستسلام: أقول إيه طيب، مبروك يا ولاد.

اتسعت عينا ياسين بسعادة، ونهضت لوجين تعانق والدتها بفرح غامر ودموع تترقرق في عينيها، ثم التفتت لتعانق نغم بالسعادة ذاتها.
💞_______________بقلمي_ليلةعادل
فيلا عائلة ماسة، 5:30 مساء.

توقف التاكسي أمام البوابة، فتحت سلوى الباب بعجلة، وترجلت منه ووجهها مبلل بالدموع، دفعت الأجرة سريعا، كأنها تهرب من كل ما حدث قبل دقائق، تحركت للداخل بخطوات مرتجفة، لكنها حاولت أن تبدو ثابتة وهي تعبر باب الفيلا الذي فتحته لها الخادمة.

وما إن دخلت حتى قالت سعدية متسائلة: بت يا سلوى، شوفتي أختك؟

مسحت دموعها بظهر يدها بسرعة قبل أن تقترب، تحاول جاهدة أن تخفي انهيارها: أه، شوفتها.

تأملت سعدية ملامح ابنتها باستغراب: مالك يا بت؟ أنتِ معيطه؟!

خفضت رأسها، وصوتها خرج متكسرا رغم محاولتها للتشبث بقوتها: مفيش يا ماما، أنا كويسه، هطلع أوضتي علشان عندي شغل.

سعدية بقلق صادق وهي تتابعها بعينيها: طب أختك كويسة؟

توقفت لحظة عند أول الدرج، دون أن تلتفت، ومرة نبرة غيظ خافت في صوتها: أه كويسة، كويسة أووى، متقلقيش عليها خالص.

تمتمت سعدية بدعاء وهي تضع يدها على صدرها: يارب دايما تبقوا بخير، ويهديها هي وجوزها.

صعدت إلى غرفتها، وما إن أغلقت الباب حتى انهار كل ما حاولت التماسك به، جلست على الفراش، والدموع تنهمر من عينيها بلا مقاومة. كلما عادت إليها صورة ماسة – كلماتها القاسية، صراخها، يدها التي ارتفعت عليها – انكمش قلبها كأنها تتلقى الضربة من جديد.

كانت مؤمنة بأنها لم تخطئ، وأن ماسة هي من خانتهم لأجل سليم، وفضلته عليهم بعد كل ما فعله بها وبهم، فكل ما أرادته فقط أن تنصحها، وتجعلها تفتح عينيها لترى الحقيقة، بعد أن أعماها الحب.

دفنت وجهها بين كفيها، وتحدرت كلماتها كأنها نزيف:
ليه يا ماسة؟ ليه تعملي فيا كده؟أنا خايفة عليكي! تمدي أيدك عليا علشان سليم؟ سليم اللي بيهينك ويوجعك وعمل فيكي اللي عمله؟ اخص عليكي يا ماسة، أنا بجد زعلانة منك وعمري ما هسامحك على القلم دي.

ومع كل كلمة كانت تشعر أن قلبها ينكمش أكثر، ليس من الضربة، بل من الخسارة التي بدأت تتسلل بينهما بصمت موجع.

فيلا سليم وماسة،5:30مساء.

دخلت الفيلا، ووجهها لا يزال مبلل بالدموع، أخذت تبحث بعينيها عن سليم، حتي تذكرت حديثه عن إنهاء بعض الأمور الخاصه بعمله حتى تعود، فتوجهت إلي مكتبه.

في المكتب.

كان جالسا منهمكا في إنهاء بعض الأعمال، وفجأة فتح الباب ودخلت ماسة، فرفع رأسه مبتسما، وبمجرد أن لمح ملامحها المتحطمة الباكية، تجمد في مكانه للحظة، ثم وقف ببطء متقدما نحوها، وهو يتساءل بقلق: في إيه مالك؟ بتعيطي ليه؟!

لم تستطع الرد، فركضت نحوه وألقت بنفسها في حضنه، وانفجرت باكية بحرقة أشد.

ضمها بين ذراعيه، وربت على ظهرها بحنان واحتواء، محاولا تهدئتها،قال بصوت هادئ: طيب، أهدي يا عشقي، فهميني ايه اللى حصل طيب، سلوي زعلتك؟!

لم تستطع الكلام، واستمرت بالبكاء في حضنه بصمت، وقلبها مثقل بكل ما حدث.

ابعدها قليلا، وضم وجهها بين كفيه، ومسح دموعها برفق، ثم قال مطمئنا إياها: ماشي، مش عايزة تتكلمي؟ مفيش مشكلة، أنا معاكي.

جلس بها على الأريكة، وظل محتفظا بها بين ذراعيه، يربت على شعرها بحنان، وكأن العالم كله اختفى من حولهما، تاركا فقط دفء حضنه وطمأنينة قلبه.
وظلا هكذا لبعض الوقت، ربما لساعات، وسليم يحتضنها في صمت دافئ، يداعب شعرها برفق، ويضغط على كتفها بحنان، محاولا تهدئتها.

بعد قليل، نظر لها قائلا: تيجي نطلع فوق؟

هزت رأسها بالموافقة، ووقفت وكادت أن تتحرك، ولكن فجأة حملها بين ذراعيه، وتحرك بها إلى الأعلى دون أي تعليق منها فقط لفت يدها حول رقبته والقت رأسها على صدره بهدوء وسكينه.

في الغرفه.

ووضعها على الفراش برفق، بطريقة لا تناسب إلا أميرة قلبه، وساعدها في خلع حذائها والجاكيت الذي ترتديه، ثم قال بإبتسامة حنونة: هجيبلك حاجة تلبسيها.

احضر لها بيجاما قطنية مريحه ووضعها على الفراش أمامها، ثم نظر اليها متسائلا بإهتمام: تحبي أساعدك تغيري هدومك؟!

هزت راسها بإيجاب، وبالفعل بدأ يساعدها في تبديل ملابسها، وبعد الانتهاء، نظرت له نظرة تحمل في طياتها الأمان والراحة.

مال عليها وهو يمسح على خدها بحنان: نامي يا حبيبتي وارتاحي، تصبحي على خير.

كاد يلتفت ويغادر، ولكن أمسكت بكفه فجأة، وقالت بصوت منخفض: خليك معايا، متمشيش، عايزة أنام في حضنك النهاردة.

نظر لها بإستغراب للحظه، فتابعت هي بنبرة مترددة باكيه: ولا هتقولي مش عايز بقايا مشاعر؟!

ابتسم لها بحنان ولم يعلق، ثم تمدد بجانبها وأخذها في أحضانه، وتساءل بهدوء: طب، مش هتقولي لي مالك؟ أحيانا بالفضفضة الواحد، بيرتاح قلبه، سلوي ضايقتك؟

رمشت بعينيها وهي تبتلع غصتها، فهي تعرفه جيدا، وتعلم أنه إن علم أن سلوي سبب حزنها، فبالتأكيد سيذهب ويفتعل شجارا معاها، وهي في غني عن كل هذا، فهزت رأسها نافيه وهمست: لا، بس أنا بطني بتوجعني لسه ومش راضيه تبطل وجع.

نظر لها بعدم اقتناع، قال باهتمام: طب تحبي اعملك نعناع؟!

هزت رأسها نافيه: لا مش عايزه، أنت بس خليك جمبي وأنا هبقي كويسه.

صمتت لحظة ثم رفعت عينيها متسائلة وكأنها تريد أن تنسى: هو أنا بكرة ممكن أروح الجامعة؟!

هز رأسه مبتسما: أيوة طبعا ممكن تروحي.

هزت راسها وقالت بصوت دافئ: خلاص، ماشي، أنا هنام، تصبح على خير.

وضعت رأسها على صدره، فأحاطها بين ذراعيه برفق، ظل هكذا لدقائق، أحس بنبضها يهدأ تدريجيا، ودفء جسدها يملأ حضنه بالسكينة، مع مرور الوقت، بدأت تغفو ببطء، فوضع رأسها على الوسادة برفق، وأحكم الغطاء عليها، ثم تمدد بجانبها، وأخذها بين ذراعيه بحنان، حتى نامت وهي مطمئنة، تشعر بالأمان الكامل، وهو أيضا أغلق عينيه بسلام، عالمهما أصبح صغيرا، هادئا، وآمنا، بعيدا عن كل ما سبق، يملؤه فقط دفء هذه اللحظة والطمأنينة المتبادلة.

على جانب آخر في الحديقة

جمع عشري الحراس في الساحة الخلفية، ووقف بينهم بثبات يحمل سلطة واضحة، تحدث بصوت خشن: طبعا كلكم عارفين الأوامر الجديدة اللي قالها سليم باشا، وبما إن مكي واخد إجازة كام يوم، فأنا اللي هتولى حراسة الباشا، وصبحي ورفعت معايا، والباقي زي ما هما.

حرك رأسه للجهه الأخري وتابع: وبالنسبة لماسة هانم هنبقي معاها من بعيد من غير ماتحس بينا، هتبقي معاها يا راوية زي ما أنتِ

هزت راوية رأسها تأكيدا، فتابع: ومعاكي صابر ومحسن وعبدالسلام.

رفع عثمان يده بتذمر خفيف، وتقدم خطوة: طب وأنا بقى أعمل إيه؟ هقعد أشوي درة هنا ولا إيه؟ ما تخليني مع الهانم بما إنك موجود مع الباشا أنا برضه من الحراس القدام هنا وفاهم النظام كويس.

توقف عشري لحظة يفكر، ثم هز رأسه بإقرار: ماشي خليك مع الهانم يا عثمان مفيش مشكلة، أنا كنت بس بظبط توزيع الحراسة حوالين الفيلا.

عثمان بخفوت ورضا: حراسة الهانم أهم، لحد ما مكي يرجع.

هز عشري رأسه إيجابا: تمام أنت هتبقي مع حراس الهانم، لحد ما مكي يرجع.

صفق بيديه بقوة، معلنا انتهاء التعليمات: طب يلا يا رجالة، كل واحد على شغله.

أومأ الحراس وتفرقوا في أماكنهم.

قصر الراوي، 6:00 مساء.

امتد الصمت في الهول الكبير، حيث اجتمع جميع أفراد العائلة، كانت الأعين متجهة نحو ياسين، الذي جلس في صدر المجلس، يربت بإصبعه على ذراع المقعد بتوتر خفيف، كانوا قي انتظار رشدي، وبالطبع غاب سليم عن المجلس.

انحني طه للأمام وقال بجدية: يا ريت يا ياسين، تقولنا بقي أنت مجمعنا كده ليه؟

رفع نظره، وصوته خرج ثابتا: استنوا لما رشدي ييجي.

وما هي إلا ثواني حتى دخل رشدي مسرعا وهو يلهث قائلا بمزاح: معلش يا جماعة، إيه بقى خير؟ إحنا مبنتجمعش كده غير لا في جواز لا في مصيبة!

ابتسم ياسين بخفة: فعلا هو خبر جوازي من لوجين.

ساد صمت قصير، قبل أن تقطعه فريدة بضيق: يعني لسه مصر على قرارك؟

أجابها بثقة: أيوة واتفقت مع لوجين، وفرحنا الخميس الجاي.

تهامست العيون بدهشة، قبل أن يقطعها رشدي وهو يضحك بمرح طبيعي: إيه السرعة دي ؟ يا بختك! وهي وافقت كده؟

هز ياسين رأسه: آه، أيه المشكلة!؟

عقدت فريدة حاجبيها وقالت باعتراض: هو في إيه يا ياسين مالك؟

التفت لها بحدة خفيفة، وارتفع حاجباه بدهشة متحفظة:مالي؟!

تنهدت، وقالت وهي تشير بيديها: مش شايف إنك الفترة دي بتاخد قرارات سريعة ومتهورة اوي؟

ضيق ياسين عينيه، واعتدل في جلسته وهو يقول بنبرة متحفزة: هو جوازي من الإنسانه إللي بحبها، قرار سريع ومش صحيح؟

كادت فريدة أن ترد، ولكن تدخل طه وهو يميل بجسدة للأمام: فريدة مقالتش كده يا ياسين، بس إنك تطلق وتعلن الخبر بالسرعة دى، وبعدها بساعات تعلن خبر إرتباطك وجوازك في نفس الأسبوع؟! الناس هتقول ايه؟!

رمقهم بنظرة حادة، وزفر قائلا بضيق: وإحنا من إمتى بيهمنا كلام الناس؟

رفع صوته وصاح بغضب: لو سمحتم مش عايزه مناقشات كتير ولا اعتراض، احترموا قراري.

ساد صمت قصير، قبل أن تتدخل فايزة وتتساءل بحذر: طب هي وأهلها وافقوا؟

أخذ ياسين نفسا عميقا، هز رأسه بإيجاب، صوته صار أهدى لكن ثابت: أيوه كلمت مامتها ووافقت، وفرحنا هيكون في فندق الهرم الخميس الجاي.

مالت صافيناز برأسها، وهي تتساءل بفضول: مش ده اللي عمل فيه السليم الفرح بتاعه زمان؟

هز ياسين رأسه إيجابا بصمت، فتساءلت فايزة: طب والأوضة؟ هتعملوا إيه في ديكوراتها؟ هتلحقوا أصلا تخلصوا كل حاجه في أسبوع؟!

ياسين موضحا: لوجين هتيجي مع مامتها وأختها، يشوفوا الأوضة وتشوف عايزه تعمل إيه فيها وكل حاجه هتخلص قبل الأسبوع كمان متقلقيش يا هانم، كلها حاجات أمرها سهل.

رشدي بحماس طفولي: اعمل حسابك، أنا هبقى معاك يا ياسين!

ألتفت له عزت بحدة: إزاي يعني؟

رفع حاجبيه بثقة مشاكسة، واتكأ على ظهر الكرسي قائلا: هقول لمي نتجوز معاهم! يعني إيه يبقى إللي لسه مطلق ومرتبط يتجوز قبلي؟ أقسم بالله ما تحصل، انا لفيها لاخفيها!

نظرت له فريدة بصجر: ما تبطل جنان يا رشدي، وخليك عاقل شوية.

أشار لها بيده كأنه يدافع عن حق مسلوب: يا سلام؟ هو حلو لياسين، ووحش لرشروش؟ والله أبدا!

حاولت صافيناز إخفاء ضحكتها وهي تضع يدها على فهما، بينما رد عزت وهو يهز رأسه: سيبيهم يا فريدة يعملوا إللي هم عايزينه، هو من إمتى حد فيهم سمع الكلام؟

تنحنحت فريدة، ثم قالت بنبرة جادة غير معتادة منها: طيب بما إننا قاعدين كلنا، أنا عندي قرار مهم أنا كمان عايزه أبلغكم بيه، أنا هسيب القصر قريب، وهروح أعيش في أي فيلا من الفيلات بتاعتنا، عايزة أبقى مستقرة شوية أنا وجوزي وأولادي، بعيد عن القصر.

ألتفتت لها فايزة بسرعة، مستنكرة: ومن امتي القرارات دى يا فريدة؟!

زفرت بهدوء: من فترة يا مامي وكذا مرة أقولك عايزة أتكلم معاكي في موضوع مهم، وكل مرة تقوليلي مشغولة، بس بما إننا كلنا حاضرين وكله بياخد قرارت وبتوافقوا عليها وتحترموها، يبقي توافقوا على قراري كمان وتحترموه.

ارتفعت نبرة عزت فورا، كعادته حين يشعر بتهديد لسلطته: إنسي الموضوع ده! مفيش حد هيمشي من هنا.

رفعت فريدة حاجبا بدهشة: اشمعني أنا اللى بيتقالي لا! وبعدين ما سليم مش عايش معانا ومحدش قاله حاجه!؟

قهقه طه بخفوت وهو يهز كتفيه: هو من إمتى سليم بنحطه في جملة مفيدة في أي حاجة تخص العيلة أصلا؟ ما طول عمره بييجي ويمشي براحته، والوحيد إللي محدش يقدر يقوله كلمة.

قاطعه عزت بإشارة من يده: مين قالك إن سليم هيفضل بعيد؟ إن شاء الله قريب، هيرجع.

ثم اتك على الكلمه بيقين: وقريب أوي.

حاولت فريدة الاعتراض والتمسك بقرارها: بس…

قاطعها عزت بضربة على الطاولة، وعلى صوته بحدة: مفيش بس، قولت مفيش مشي من هنا يا فريدة، كلامي انتهي.

ساد المكان صمت ثقيل، زمت فريدة شفتيها بضجر ولفت وجهها نحو إبراهيم زوجها، ونظرت له نظرة طويلة كأنها تستنجد به.

لكنه ظل متجمدا، لا يعلم ماذا عليه أن يفعل: هل يقف معها ويدافع عن القرار الذي اتخذاه سويا؟ أم يظل صامتا كعادته داخل هذا القصر!؟

عيناه تهربان منها، ثم تعودان إليها، وخطوط وجهه تتقلب بحثا عن كلمة يقولها، لكن الكلمة لم تخرج!؟

وبعد تناول العشاء، صعد كل منهم إلي غرفته.

في غرفة رشدي.

وقف في الشرفة متكئا على السور الحجري، وعيناه معلقتان في الفراغ البعيد، وسيجارته تتوهج بين أصابعه قبل أن يرفعها إلى شفتيه ببطء، وهاتفه ملتصق بأذنه ينتظر أن يسمع الرد.

جاء صوت مي أخيرا وهي كانت جالسة في غرفتها، تستند بظهرها إلى الفراش براحه وهي تقرأ أحدى الروايات: الو يا حبيبي.

اتسعت ابتسامتة، وانفرج صدره كأن صوتها بعث في صدره الراحة: حبيبة قلب حبيبك، وحشتيني يا مشمش.

مي برقة: وانت كمان، بتعمل إيه؟ وفين؟

هز رأسه، وضحك وهو يزفر دخانا: هكون فين يعني؟ في الحرملك! في قصر عزت آغا.

ضحكت بخفة وهي تقلب صفحة الرواية بلا اهتمام: يابني بطل، بتعمل إيه يعني؟

اعتدل ومد وجهه قليلا كأنه يقترب من صوتها: ولا حاجة قعدنا نتكلم شويه واتعشينا وكل واحد طلع أوضته، أصل ياسين كان عاملنا اجتماع النهارده علشان يقولنا خبر مجنون.

وقفت عند النافذة، والستارة تتحرك من خلفها، وأصابعها تلهو بخصلات شعرها: خير؟ إيه الخبر؟

القي عقب سيجارته بعيدا، قال بنبرة أقرب للمفاجأة: ياسو هيتجوز آخر الأسبوع.

ثم تابع بلهجة مازحة ممتزجة بالمعارضة: شوفتي؟ أخويا الصغير هيتجوز بعد أسبوع، وأخويا اللي أكبر اتجوز مراته بعد شهر واحد من معرفته بيها، وأنا اللي بقالي أكتر من ست شهور عارفك مباخدش خطوة! هم بيعلوا على بعض وأنا واقف أتفرج؟

وتابع بصرامه مازحه: ياسين علي علي سليم وقال يتجوز في أسبوع، يبقى خلاص، أنا كمان لازم أعلي على ياسين، ونتجوز بعد بكرة اعملي حسابك علي كده.

ضحكت ضحكة مكتومة، وغطت فمها بكفها: يخرب عقلك، أنت بتقول إيه؟

رد بنبرة حازمة لا تخلو من الدلال: بقول اللي هيحصل، اعملي حسابك، إحنا هنتجوز مليش دعوة، بقولك ياسين عرف لوجين من كام شهر وفركشو، ورجعوا، وهيتجوزوا في عشرين يوم! عشرين يوم يا مي!

ضحكت وقالت مازحه: أخوك مجنون ووهي أجن منه، احنا ملناش دعوة بالناس المجانين دي، احنا ناس عاقلة، صح؟

رفع حاجبه بسخرية محببة: مين دي اللي عاقل؟ متقوليش الكلام ده عيب

ثم أضاف ضاحكا: لأ معلش الجنان ده معروف باسمي أنا أصلا، المهم بكرة لازم نتقابل ونتكلم في الموضوع دى، وكمان نعوض الفترة اللي مكناش بنخرج فيها يا مشمشة، قشطة؟

انخفض صوتها وتورد خدها: قشطة، طب إيه رأيك تيجي بدري؟ نقضي اليوم مع بعض.

ساد صمت قصير، رفع خلاله رشدي عينيه نحو السماء كأنه يحسب موعدا في رأسه، ثم قال: لأ مش هينفع، عندي مشوار مهم الصبح، خليها علي سبعة.

مي: تمام يلا باي.

انتهت المكالمة، وبقي الليل يحوم حول رشدي، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة لم يستطع إخفائها مهما حاول.

فيلا سليم وماسة،7:00صباحا

غرفة النوم

بدأ سليم يتململ في نومه كمن يحاول الإفاقة من حلم دافئ، فتح عينيه ببطء ليجد ماسة مستقرة بين ذراعيه، رأسها على صدره، وإحدى يديها ملتفة حول خصره كطفلة تبحث عن الأمان.

ارتسمت إبتسامة حب على شفتيه وهو يتأمل ملامحها بعين لا ترمش ونظرات تذوب عشقا، وظل يحدق فيها طويل كأن الزمن كله توقف عند هذه اللحظة.

وبعد قليل أراد إيقاظها، فهمس بصوت دافئ ونبرة عاشقة: ماستي، يا عشقي، يلا يا قطعة السكر أصحي.

تحركت جفونها قليلا، ثم فتحت عينيها ببطء، لتجده يبتسم لها وهو يمسح خدها، فقالت بنبرة ناعسة: صباح الخير

أعاد خصلات شعرها للخلف وهو يقول: صباح النور، يلا قومي يا كسلانه نفطر علشان تلحقي تروحي الجامعه، وأنا أروح المجموعة.

هزت رأسها وهي تدعك عينيها بكسل، وما إن لاحظت المسافة بينهما حتى قطبت حاجبيها بغضب متدلل، وتساءلت وهو تبتعد عنه قليلا: سليم أنت نمت جنبي ليه؟ مش اتفقنا مفيش تلامس؟! طلعت مش قد وعدك.

ضحك، وأجابها مازحا: ودى أسميه انفصام في الشخصيه ولا إيه دى بقي!؟

قلبت وجهها بضجر: إحنا اتفقنا على حاجة، ولازم تبقى قد الاتفاق.

اجابها بمزاح ساخر: والله أنا فيه واحده بالليل قعدت تتحايل عليا وتقولى خدنى في حضنك يا سليم عايزه انام في حضنك، ولا هتقولي بقايا مشاعر!؟ فصعبت عليا وقولت اكسب فيها ثواب وانيمها في حضني اللى شبطانه فيه أوي كده.

ماسه بارتباك وتوتر: أنا؟! لا ده أنا كنت باختبرك، وأنت سقطت في الاختبار.

ضحك بقوة ممزوجه بالخبث: لو هي دي الاختبارات إللي لازم أسقط فيها، فبالله عليكي أعمليها علطول، وأنا أوعدك هتلاقيني دايما بجيبلك صفر.

لم تستطع منع ابتسامتها، وضحكت ضحكة قصيرة ناعمة هزت قلبه، فاقترب منها، يحدق في عينيها بنظرة حارة ترتعش لها الأبدان، وقال بصوت منخفض: أنا قولتلك قبل كده، لو أنتِ إللي بادرتي بأي حاجة، أنا عن نفسي وعد مش هخذلك. ثم غمز لها بخفة

تبادلا النظرات للحظات طويلة، وأنفاسهما تتسارع في صمت دافئ، اهتز داخلها من وهج عينيه، ذلك اللمعان الذي يشعل النار في صدرها كلما اقترب، ارتجفت قليلا، قبل أن تتملك نفسها، وابتلعت ريقها محاولة السيطرة على اضطرابها.

مالت برأسها بخفة، وقالت بدلال مازح: آه جاي على هواك الموضوع، ماشي يا كراميل.

ثم ضيقت عينيها، أشارت له بخبث: ما تقرب شوية كده.

رفع حاجبه بمشاكسة: وأقرب ليه؟ عايزة تتحضني تاني؟

هزت رأسها بتأكيد طفولي: أيوة عايزة آخد حضنك.

ابتسم بعبث واقترب منها وقبل أن يلمسها أمسكت رأسه فجأة و عضته من خده بقوة!

سليم بألم: آآاه !!! ياعضاضه؟! ليه كدة؟!

ابتعدت وهي تقول بتحدي: كل ما تتخطى الاتفاق، هعضك أنا بقولك أهو.

ابعدها عنه ووقف يدلك خده، قائلا بضيق: هروح أشتغل إزاي دلوقتي باسنانك المعلمه في وشي دي؟!

ماسة بوعيد: مش باينة من دقنك ومتطولش علشان مقومش اديك واحدة كمان.

رفع حاجبيه مرددا بصدمه: مطوله!!! طب تعالي هنا…

سحبها من كاحلها بخفة، وألقاها على السرير، وجلس فوقها وهو يضع أسنانه على خدها خدها بخفة تهديدية، فصاحت ماسة بدلال: أقسم بالله يا سليم لو عضيت، هزعل منك وهخاصمك 3 أيام!

ابتعد عنها قليلا: أيوة! أنتِ تعضي عادي، وأنا تقوليلي هخاصمك 3 أيام!

ابتعدت عنه لتقف: إذا كان عاجبك، ويلا بقى نلبس قبل ما نتأخر أنا متحمسة خالص إني هروح الجامعة.

هز رأسه موافقا ونهض، وبدءآ في تجهيز أنفسهما، ثم نزلا للإفطار.

على السفر

جلسوا يتناولون الإفطار في جو دافئ مليء بالحب

تساءل وهو يمضع الطعام: هتعملي إيه النهاردة؟

قالت وهي تحتسي الشاي: ولا حاجة محاضرات.

سليم وهو يحتسي الشاي: أنا أقصد بعد كده.

قالت وهي تتناول ما في الشوكة: مفيش حاجة.

ترددت قليلا، ثم قالت برجاء ممزوج بدلال: بقولك إيه؟! أنا عايزة أروح لوحدي، أجرب أسوق العربية وأتعود.

رفع حاجبه باعتراض خفيف: بس أنتِ متعرفيش الطريق !!

حاولت إقناعه: ما هو النهاردة هتقعد جنبي وأنا بسوق توريني الطريق، وبعدين أنا إمبارح روحت الكافيه لوحدي وأنت معايا على التليفون، هروح وأجي زي إمبارح.

سليم بهدوء: الكافيه كان قريب ياعشقي في اخر الشارع.

عدلت جلستها في زاويته بإصرار: ما أنت النهاردة هتبفي جنبي، وحياتي وافق.

تنهد متسائلا بقلق خفيف: يعني أفهم من كده إنك بعد كده لما تتعلمي الطريق، هتروحي الجامعة وترجعي لوحدك؟

هزت رأسها بثقة وهي تقطع قطعة صغيرة من الطعام، ثم مدت يدها لتطعمه إياها في فمه، بدلال ممزوجة بعتاب خفيف: أيوه مش أنت قولتلي الحراس هيبقوا معايا؟ من غير ما أحس بيهم زي زمان؟ خلاص هم بقى ياخدوا بالهم مني لو حصل حاجة؟! وبعدين يا سيدي متخافش، أنا فضلت ست شهور بروح وباجي لوحدي من غير حراس ومن غيرك أنت شخصيا.

اومأ باستسلام: ماشي، بس أنا خايف تتوهي.

أجابته مطمئة: متخافش، لو توهت هكلمك مش هغلب.

ثم رفعت كوب الشاي ورشفت منه بهدوء وتساءلت باهتمام: وأنت بقي هتعمل إيه النهاردة؟

أجابها بهدوء: ولا حاجة هروح المجموعة وأخلص الشغل اللى ورايا.

هزت رأسها وأكملت طعامها، لكنه لم يستطع كبح فضوله، فقال وهو يراقب ملامحها: مش هتقولي برضو إمبارح كنتي زعلانة ليه؟ حصل حاجة بينك وبين سلوى؟

تجنبت النظر إليه، وأدارت الشوكة بين أصابعها وقالت بتوتر خفيف: ما قولتلك مكنتش زعلانه بطني كانت وجعاني بس.

هز رأسه بعدم اقتناع، فرفعت نظرها أليه وقالت بدلع: طب بقولك إيه يا كرملتي.

رفع حاجبه وعلق مازحا: كرملتي! أنا عارف أنا الداخله دى عايزه ايه !؟

ابتسمت وقالت بارتباك خفيف: يعنى بما إننا أحنا الاتنين فاضين إيه رأيك نروح لدكتور ياسر النهارده، هو قالي لو اتصالحتوا تعالوا مع بعض.

اشاح بوجهه بعيدا بصمت وعدم رضا، فتابعت برجاء والحاح: علشان خاطري يا سليم خلينا نروحله، متغلطش نفس غلطة مروان، أنا معرفش أنت قلبت عليه فجأه كده ليه، والله دى دكتور شاطر جدا وهيساعدنا نبقي أحسن، ها قولت إيه.

نظر إليها طويلا بصمت دون رضا، لكنها ظلت تنظر إليه برجاء يفيض من عينها ببراءة طفولية، كأنها طفلة صغيرة تتوسل والدها بالموافقة.

لم يستطع مقاومة تلك النظرات، فتنهد وقال بهدوء بابتسامة: حاضر يا ستي، هعملك اللي أنتِ عايزة.

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وهي تقول: أنت أحلى كراميل في الدنيا.

وتابعت بدلال: هعمللك بسبوسة ورز باللبن لما نرجع.

ثم مدت يدها واعطته هاتفه بحماس: يلا، خدلنا معاد.

ابتسم وهو يهز رأسه، مستمتعا ببراءتها ورقتها التي تذيب قلبه، ثم رفع هاتفه ليأخذ موعدا مع الطبيب، محتفظا بدفء اللحظة في قلبه.

وأكملا الفطور بصمت لطيف، وبعد دقائق نهضا وتوجها للخارج، كانت السيارات مصطفة أمام الفيلا، والسائقون واقفون بانتظارهم.

لوح بيده وهو يصدر تعليماته: حسن روح أنت محدش يركب معانا خليكم في العربية ورا، وأنت يا عشري اركب في العربيه بتاعتي وتعالي ورايا، أنا هركب مع ماسة.

صعدت ماسه السيارة وجلست خلف المقود بحماس طفولي واضح، بينما جلس سليم بجانبها، وصعد باقي الرجال في السيارة الخلفية وتحركت ماسة بالسيارة.

على إتجاه آخر خارج الفيلا.

توقفت سيارة سوداء معتمة النوافذ على بعد في الجهة المقابلة، جلس داخلها رجل ببدلة سوداء، عيناه تتحركان بدقة، ويده تسجل ملاحظات على ورقة صغيرة بخط مرتب

نقترب من ملامحه…فنرى ذلك القناص الذي اتفق معه عزت علي قتل ماسة، رفع نظارته قليلا حين رأى سيارة ماسة تغادر البوابة، ثم ابتسم بسخرية باردة، وحرك المفتاح وأدار المحرك ببطء، متتبعا سيارتها وسيارة الحراس من بعيد، بحرفية رجل يعرف كيف يختفي رغم حضوره!!

كانت ماسة تقود السيارة بتركيز بينما سليم يوجهها طوال الطريق بهدوء: يمين، شمال، أطلعي الكوبري أرفعي رجلك شوية براحة، حتى وصلت أخيرا لباب الجامعة.

ابتسمت بفخر طفل صغير: قولي شطورة؟

ضحك وقرص خدها بمداعبع: شطورة يا ماستى الحلوة.

تنهدت بسعاده وقالت مودعه: طب نتقابل بعد المحاضرات بقي، أنا بصيت في الجدول بتاعي، لقيت عندي محاضرات لحد الساعة تلاته.

هز رأسه بإيجاب: ماشي، أنا مش عارف هخلص شغل الساعة كام، بس هحاول أخلص بدري علشان متأخرش عليكي.

نظرت له بفضول أنثوي وهي تضيق عينيها: هموت وأفهم أنت ناوي تعمل إيه؟ مش معقول، توصلني الجامعة وتضيع كام ساعة بعيد عني، لا وكمان هروح لماما وأخرج مع أصحابي براحتي؟! امال هتخليني أغير رأيي إزاي؟!

انحنى نحوها قليلا، وقال بجدية فيها دفء: بالعكس، هو ده إللي عايز أوريهولك، إني فعلا اتغيرت، وإننا هنرجع زى زمان، وإنه مش تغيير لحظي، قبل ما تتكلمي.

نظرت له، وقالت بخجل نصف مازح: ماشي، بس أنا مكنتش هقول كده والله.

ثم ضحكت ومدت كفها تصافحه مودعه، فنظر لها لوهلة، ثم مد كفه وصافحها، فقالت بدلال محبب: خد بقى يا سلوملوم، أركنهالي هناك.

ابتسم وهز رأسه موافقا، ونزلت من السيارة بخفة، حقيبتها على كتفها، واتجهت نحو باب الجامعة.

راقبها حتى اختفت وسط الزحام، وهبط من السيارة بعد ركنها، وصعدت سيارته متجها إلى المجموعة

بينما توقف القناص المأجور في الجهة المقابلة خارج الحرم الجامعي، بمسافة لا تثير الشك ولا تسمح بالسهو.

رفع هاتفه، وقال بصوت منخفض وحازم: هي الآن في الجامعه ومعها سليم، لا لم استطيع فعل ذلك، سانتظرها حتى تخرج، لا تقلق أنا أتذكر التعليمات جيدا ولن أفعل شيء وسليم معاها.

ثم أغلق الهاتف، وعيناه لا تترك بوابة الجامعه.

منزل القلج: 10:00صباحا.

دخلت سيارة إلى الشارع الضيق بصوت محرك خافت، توقفت على الجانب بالكاد، ثم هبط منها رشدي، وهو يسحب أنفاسا عميقة، ينظر حوله وكأنه يتأكد من أن لا أحد خلفه، فتح صندوق السيارة، أخرج شنط الهدايا واحدة تلو الأخرى، يرفع كل حقيبة بيدين ممتلئتين بالحماس والسعادة، كأنه يحاول تعويض غياب طويل، أغلق الصندوق بقوة خفيفة، ألقى نظرة سريعة حول المكان، ثم توجه نحو باب البيت.

طرق… وانتظر…

ثم فتح الباب، وظهرت السيدة العجوز بملامح شاحبة يكسوها الحنان.

رشدي بابتسامه: مساء الخير، إزيك يا حاجة إسعاد؟ ولا تحبي أقولك يا أم خالد؟

رفعت إسعاد يدها لتلمس كتفه بحنانأم: قولي اللي انت عايزه يا ابني اتفضل تعالى وحشتني والله.

دخل ووضع الحقائب بجانب الأريكة الاسطنبولي القديمة، ثم جلس وهو يمسح يده على قدمه بخفة، وعيناه تتأملان المكان بحب: عاملة إيه؟ وأخبارك إيه؟ عملتي العملية؟

هزت إسعاد رأسها ببطء وتبتسم ابتسامة متعبة: لسه، روحت حجزت معاد وادوني قطرة أمشي عليها، وشوية أدوية للضغط وإن شاء الله هعملها أول الشهر الجاي.

تساءل بقلق: طب وجنة؟ هتعملي فيها إيه وقت العملية؟

تنهدت إسعاد ونظرت نحو الغرفة الداخلية: الدكتورة قالت لي هخرج في نفس اليوم، وهي هتبقى مع رحمة يومين لحد ما اتحسن.

تجول بعينه في المكان، وكأنه يبحث عن شيء مفقود: طب وهي فين؟ عند رحمة؟

ضحكا إسعاد ضحكة قصيرة متعبة: لأ دي قاعدة جوه على الكمبيوتر، من ساعة ماجبتهولها وهي عليه صبح وليل، مبتقومش من عليه خالص وتعبتني معاها، استنى أخش أناديهالك، دي هتفرح أوي، أصلك وحشاها خالص، وكل يوم تسأل عليك ونفسها تشوفك متغبش عليها كده تاني يا ابني.

رفع كفه بسرعة كأنه يعتذر: غصب عني والله العظيم، بس استنى أنا هروح وأعملها مفاجأة.

أشارت إسعاد بيدها وهي تبتسم: اتفضل يا ابني، البيت بيتك.

تحرك بخطوات هادئة، ويده تلمس الحائط بخفوت وكأنه يتحسس ذكريات المكان، مد رأسه من الباب نصف المفتوح، كانت جنة جالسة أمام الكمبيوتر، ظهرها منحني قليلا، وأصابعها تنقر على الأزرار بإيقاع مرح، وضحكتها تملأ الغرفة وتطغى على ضجيج اللعبة.

رشدي، بصوت خافت ودافئ: جننننننننة.

أضف تعليق