رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل السادس عشر 16
الفصل السادس عشر❤️🤫
[بعنوان: الصمت الموجوع]
دخلت فتاة بخطوات هادئة وثابتة، وقفت أمام مكتبه.
رفع رشدي رأسه باستغراب، وهو يقول باندهاش: أنتِ؟
ظهرت ملامحها بوضوح؛ كانت لمياء، صديقة مي.
ابتسمت بخجل: أنا آسفة إني جيت من غير ميعاد، بس مكانش عندي رقمك، فقولت أعدي على المقر، وبصراحة استخدمت اسم زيزي علشان أعرف أدخل المجموعة أصلا.
ابتسم وهو يشير نحو المقعد لتجلس: تيجي في أي وقت، متقوليش كده. اتفضلي أقعدي، تشربي إيه؟
لمياء بهدوء وهي تجلس: ولا حاجة، أنا بس عايزة أقولك كلمتين وأمشي.
جلس رشدي مبتسما بخفة: لا، لازم تشربي حاجة الأول.
لمياء بخجل لطيف: حقيقي مش عايزة، خليني أقول إللي جاية عشانه.
أومأ لها بصمت، فتنفست بعمق وقالت بعقلانية: بص يا رشدي، أنا أعرف مي من زمان، دي مش بس صاحبتي، دي أختي، بنت طيبة أوي، وحساسة بطريقة أنت متتخيلهاش لدرجه ممكن كلمة تجرحها، يمكن شكلها يبان جامد، بس هي جواها طفلة، وفوق كده، مرت بوجع كبير، فقدت والدتها قدام عينيها وهي صغيرة، وشافت حاجات كسرتها، مي مليانة ندوب يا رشدي، وجراح مش باينة.
نظر لها بإهتمام وقال بنبرة فيها استغراب بسيط: وبعدين؟
أكملت بهدوء عقلاني بنبرة لطيفة: بص يا رشدي، أنت مختلف عنها تماما، وبصراحة، أنا كنت مصدومة لما مي وافقت تديك فرصة، كل حاجة بينكم حصلت بسرعة الخطوبة وعلاقتكم وكل حاجة، أنا مش جاية أهاجمك، بالعكس، أنا جاية أطلب منك طلب بسيط، تاخد بالك منها..
أضافت برجاء بنبرة حالمة: أرجوك، أوعى تقسى عليها، ولا تغدر بيها، ولا تأذيها في قلبها، أو تجرحها حتى لو بالغلط.
رفع حاجبه وقال بهدوء متحفظ: هو صدر مني حاجة تخليكي تقولي كده يا لمياء؟
لمياء بإبتسامة حزينة: لأ لسة، بس ممكن يصدر بعدين.
اقترب بجسده للأمام، نبرته هذه المرة فيها فضول ممزوج بدهشة: وليه شايفة إن ممكن يحصل كده؟
أشاحت بنظرها للحظة ثم عادت تنظر له بثبات قالت بنبرة حازمة لكنها دافئة: علشان زي ما قولتلك، أنت مش شبهها، التغيير عندك بياخد وقت، وممكن في لحظة تعمل حاجة عادي بالنسبالك، بس هي تشوفها نهاية العالم؛ يعني مثلا لو كنت شارب، أو زعلان وغلطت فيها من غير قصد، هي مش هتفهم إن ده عن غير قصد، هتتوجع وبس، فخد بالك يا رشدي، مي مش زي أي بنت.
ظل صامتا للحظه، عيناه تتحركان بين ملامح وجهها وكأنه يعيد كل كلمة في ذهنه.
ثم أضافت بنبرة أصدق، وعينيها ثابتة عليه ممزوجة برجاء: خليك فاكر كويس إنها سمعت عنك حاجات كتير وعدتها، ووثقت فيك، وراهنت على ثقتها فيك قدام الدنيا كلها، فرجاء يا رشدي، بلاش تجرحها، ولا تكون سبب أذاها، لو هتعمل حاجة تجرحها، فكر قبلها ألف مرة، البنت دي حاربت علشانك، وآمنت بيك، أوعى تخذلها..
زمت شفتيها بأسف ممزوج بخجل: لأن يعني واحد زيك سوري ممكن يصدر منه أي شيء ممكن يزعلها، لأنك لسة في مرحله التغيير.
ظل رشدي صامتا للحظات، ينظر إليها بعينين لا تُقرءان، ثم قال بهدوء صادق: بصي يا لمياء، أنا مش هعارضك في كل إللي قولتيه، بس والله العظيم أنا كمان بحبها، ومستحيل أكون سبب في وجع مي، أنا فعلا بحاول أتغير، آه يمكن ببطء بس بحاول، متقلقيش عليها، هي تهمني زي ما تهمك ويمكن أكتر، أنا عمري ما أسمح لنفسي إني أكون سبب وجعها في يوم.
وقفت وعدلت حقيبتها بخفة، وقالت وهي تتنفس بعمق: أتمنى كده فعلا يا رشدي، ولو سمحت متقولهاش إننا اتقابلنا.
ابتسم بخفة وهو يومئ برأسه متوقفا: متقلقيش، رغم إني مبحبش أكذب عليها، بس طول ما هي مسألتش، مش هقول.
لمياء بإبتسامة خفيفة: هي مش هتسألك، لان مش هيجي في بالها إن أنا جيتلك، شكرا يا رشدي، وآسفة لو عطلتك.
خرجت لمياء، تاركة وراءها صمتا غريبا، كأن كلماتها لم تكن مجرد حديث عابر، بل مرآة وضعتها أمامه، فرأى فيها نفسه لأول مرة دون تبرير.
ظل جالسا في مكانه، وعيناه معلقتان في الفراغ، وصوتها لا يزال يرن في رأسه: “البنت دي حاربت عشانك وآمنت بيك، أوعى تخذلها.”
مد يده بهدوء، أغلق الحاسوب، وأسند ظهره إلى المقعد، ثم زفر أنفاسه بعمق كمن يخرج ما تبقى من ضجيج في صدره، وهمس بصوت خافت أقرب إلى السؤال منه إلى الاعتراف: أأنا حقا أستحقها؟
💞_______________بقلمي_ليلة_عادل
مجموعة الراوي، الواحده ظهرا
مكتب سليم.
جلس خلف مكتبه العريض، الأوراق مبعثرة أمامه، يراجعها بعناية وتركيز شديدين بينما أحد المديرين يجلس أمامه يعرض آخر التقارير، دقائق قليلة، ثم أنهى حديثه وغادر.
ارجع ظهره على المقعد لحظه بارهاق، فمر وجه ماسة بخاطره فجأة، تجمدت نظراته وحاول أن يطرد الفكرة، فأمسك قلما وأعاد عينيه إلى الأوراق من جديد، راغبا في إغراق نفسه في العمل، ليهرب من وجع يعرف جيدا أنه لا دواء له.
وبعد قليل فتح الباب ودخلت نور بخطوات سريعة تحمل بين طياتها النظام والانضباط.
قالت وهي تقف أمامه: سليم بيه، أنا بعت الإيميل خلاص.
أجاب من دون أن يرفع عينيه عن الأوراق: تمام، ظبطي مواعيد النهارده؟
هزت رأسها بإيجاب: أيوة يا فندم، ظبطتها لحضرتك لحد الساعة أربعة تقريبا.
سليم بهدوء وهو يدون ملاحظة صغيرة على الورقة: تمام، أنا كمان هعدي على الورش وبعض المصانع النهارده، فمتاخديش مواعيد بعد كده، عملتلي إيه في موضوع البلاتينيوم؟
فتحت الملف الذي تحمله، وأخرجت ورقة وضعتها أمامه قائلة: دول يا فندم أحسن خمس مهندسين فاهمين في موضوع البلاتينيوم.
رفع الورقة بعينيه، تفحصها سريعا ثم قال بتركيز: تمام.
ابتسمت بخفة: حضرتك شكلك راجع بعد الإجازة عندك طاقة شغل كبيرة النهاردة.
رفع رأسه نحوها، وبدت على وجهه ملامح ابتسامة مقتضبة: طبعا.
ساد صمت قصير، ثم ترددت قبل أن تقول: سليم بيه، كنت عايزه اتكلم مع حضرتك في موضوع مهم؟
رفع عينيه نحوها ببرود: مش فاضي يا نور.
نور بسرعة: مش هعطلك، دي حاجة تخصني أنا.
أجاب بفتور: اتفضلي.
نور بتردد واضح: أصل نسمة “نانا” مختفية من فترة، من وقت خطوبة مستر رشدي تقريبا.
عاد للخلف ونظره للأوراق: طب وأنا مالي؟
قالت بخفوت ممزوج بتوتر: ما هو اختفائها غريب، يعني هي مش بتختفي كده إلا لو مع عزت باشا،م أقصد في شغل.
تساءل متعجبا: طب متسألي أهلها؟
هزت رأسها: ما أهلها ميعرفوش حاجة، كل علاقتهم بيها فلوس وبس، هي ملهاش غيري، وأنا خايفة أسأل الباشا عليها.
رفع نظره إليها مطولا، كان يراقب ملامحها بعناية، وشعر في نبرتها بشيء أكثر من الفضول، كأنها تعرف شيئا لا تريد أن تصرح به، فأدرك في تلك اللحظة أنها تعلم بعلاقة عزت بنانا، تلك العلاقه التي لا يليق أن تذكرها أمامه، فتنفس بعمق وقال بنبرة حاسمة: طب سيبي الموضوع ده عليا، ومتتكلميش فيه تاني.
نور بخضوع: تمام، شكرا يا فندم.
غادرت المكتب بهدوء، بينما ظل سليم جالسا مكانه، يطرق بأصابعه على سطح المكتب، غارقا في التفكير.
مكتب عزت، الرابعه عصرا
كان جالسا خلف مكتبه، يداه تميل فوق الأوراق كأنما يوقع على مصائر صغيرة، ينظر إلى بعضها ويمضي على الأخري ببطء وحزم، فيما يسود المكان سكون ثقيل لا يكسره سوى صوت الورق تحت قلمه.
انفتح الباب ودخل سليم بإبتسامة صغيرة، وقال وهو يتقدم بخطوات هادئة: مساء الخير يا باشا، قولت أعدي عليك قبل ما أروح ألف على الورش.
رفع عزت نظره، ورد بصوت منخفض لكنه حاد: نفسي ترجع تركز في الشغل، زي زمان.
ثم صمت للحظة وتساءل: مش ناوي ترجع القصر أنت وماسة؟
جلس سليم أمامه وقال ببرود متزن: توء، كدة أفضل.
أجاب عزت بلامبالاة مبطنة: ماشي، على راحتك.
ساد صمت قصير قبل أن يسأل سليم بفضول واضح: هي نانا فين يا باشا؟
عزت وهو ينظر إلى الأوراق أمامه: واخدة إجازة.
ضحك سليم ضحكة قصيرة وقال بنبرة خبيثة: يا باشا على سليم الكلام دى بردوا، دى أنت لو حورت على الدنيا كلها مش هتحور عليا، إحنا بنفهم بعض بنظرة عين.
ثم تابع وهو يغمز بعينه: قولى وديتها فين.
تصلب وجه عزت فجأة، وقال ببرود قاتل: قتلتها.
اتسعت عينا سليم بدهشة مفاجئة وهو يحدق فيه: قتلتها؟ ببساطة كده؟! طب ليه؟؟
عزت بإستهجان ساخر: هي اللى غبية، أنا قولتلها متلعبيش معايا، بس افتكرت إنها ممكن تلعب على عزت الراوي، وتجبره على حاجه مش عايزها.
سليم بنبرة هادئة: هي كانت نفسها تاخد لقب غير العشيقة؟!
ثم نظر له تابع بنبرة مقصودة: الصراحة حقها، 15 سنة في الضلمة، كتير برضه يا باشا.
صمت لحظه، ثم مال برأسه قليلا وتساءل: قتلتها إزاي؟
عزت ببساطة قاتلة: رصاصة ودفنتها.
فتساءل سليم بتعجب: اشمعني؟! ليه مخلتهاش موته طبيعيه علشان لو حد شك في غيابها وسأل عليها؟!
عزت بلا مبالاة: فايزة إللي دبرت الموضوع.
ابتسم سليم بسخرية خفيفة: ومن إمتى بقينا بنمشي ورا كلامها؟
رفع عزت نظره نحوه بنظرة متعجبة: وأنت بتسأل وشاغل نفسك ليه؟ ما أنت من بعد الحادثة بعدت نفسك وبقيت عملنا فيها الشيخ سليم.
سليم بنبرة لازعة: علشان في ناس بتسأل عنها، وعارفين كتير.
حرك عزت وجهه بلا اكتراث: تقصد نور؟ سيبهالي.
مال سليم للأمام وقال بسخرية ثقيلة: إيه، ناوي تقتلتها هي كمان؟!
عزت ببرود مخيف: لا، بس أنا هعرف أسكتها، هي عندها ابن في المدرسة، أكيد هتخاف عليه أكتر من إنها تسأل عن نانا.
همس سليم متسائلا: أمم، طب وأهلها؟
عزت ببرود تام: أهلها هيسكتوا بالفلوس.
هز سليم رأسه بيأس منه ونهض بهدوء، ثم قال وهو يتحرك نحو الباب: طب، هقوم أنا ألف على الورش، سلام يا باشا..
كاد أن يخرج، ألتفت له برجاء: كفاية قتل يا باشا علشان مش أنت إللى بتدفع الثمن، وأنا والله معنديش استعداد أدفع ثمن أخطاء عملتها تاني.
خرج من المكتب بخطوات ثابتة، لكن ملامحه كانت مضطربة، يشعر بضجر من أفعال عائلته.
بينما بقى عزت وحده، يحدق إلى الأمام بعينين تلمعان بوهج غاضب، ثم رفع هاتفه بيد رشيقة كمن يوجه أمرا ستنفذه الريح
توجه سليم إلى الورش الخاصة بالمجموعة، مر عليها واحدة واحدة، فحص آلاتها، راقب العمال، شد على بعض المديرين بعنف أحيانا وبصرامة أحيانا أخرى، كأنه يفرض وجوده فجأة بعد غياب طويل، كانت ماسة طوال اليوم تحاول الاتصال به وهو لا يجيب.
قصر الراوي
غرفة هبة وياسين، السادسة مساء
دخل ياسين الغرفة، فوجد هبة جالسة على الأرض، تمسك هاتفها وتضع ماسك على وجهها، ونالا تلعب بدميتها الصغيرة بجانبها، ابتسم وهو يراقب الطفلة، ونظر إلى هبة بإبتسامة هادئة.
ياسين بنبرة مرحة: مساء الخير.
هزت رأسها وهي ترفع عينيها: مساء النور!
اقتربت نالا من ياسين فجأة، احتضنته ووضعت رأسها على صدره: بابي وحشتني!
ضحك وهو يمسح شعرها بخفة: وأنتِ كمان وحشتيني خالص بتلعبي إيه؟!.
نظرت نالا إلى ألعابها، ورفعت دماها للأعلى بحماس: بلعب بالعروسة بتاعتي.
ابتسم، ووضع قبلة خفيفة على رأسها: ماشي يا حبيبتي، روحي ألعبي يلا.
ثم جلس بجانب هبة، ولاحظ الطين على وجهها، وأشار إليه بإصبعه: إيه اللى عملاه في وشك دى؟
أجابته بخفة، دون أن ترفع عينيها عن الهاتف: ماسك طمي أعملك!
ضحك وهو يهز كتفيه: لا.
أجابت وهي تنظر لهاتفها: اخبار يومك ايه.
تنهد بتعب، واتكأ على ظهر الأريكة: عندي شغل كتير الفترة دي، وبفكر أعمل مشروع خاص بيا، بس مش عارف اعمل ايه، عندي أكتر من فكرة.
كانت منشغله بالكتابه في أحد المحادثات ولم ترد، مما جعله يرفع صوته قليلا: هبة أنا بكلمك.
رفعت عينيها وابتسمت، وهي تحرك رأسها بخفة:أيوه، عظيم الفكرة دي، أنا معاك، شوف أنت محتاج إيه.
بدأ يشرح، وهو يحرك يده قليلا لتوضيح كلامه: بفكر أعمل حاجة ليها علاقة بالسياحة، النشاطات الترفيهية، والرحلات…
لكنها لم تكن منتبه لما يقول، وكانت عينيها مثبتة على الهاتف، فذم شفتيه وهو يتساءل: شكل في موضوع مهم شاغلك أوى كده؟!
حركت راسها بإيماءة صغيرة: صاحبتي بتكلمني عن البوي فريند بتاعها عامل معاها مشكلة.
ياسين وهو يبتسم بمحاولة جذب انتباهها: طب مقولتيش إيه رأيك؟ أنا مش متشجع اوي على الموضوع ده.
رفعت كتفها بخفة: أنا بصراحة مش بفهم في الكلام ده، بس السياحة حلوة.
تحدث بحماس مره أخري وهو يحرك يده: الفكرة التانية بقى ليها علاقة بالميديا، ممكن كمان في الإلكترونيات، محتار شوية، وحاسس إن كل الأفكار مش تمام..
لاحظ أنها مازالت منشغلة وتتجاهله، فشعر بالضجر، وقال بنبرة حازمة وهو ياخذ منها الهاتف: ركزي معايا شوية، بقولك ايه تيجي نروح سباق الأسبوع الجاي في سقارة؟
هزت راسها برفض: لا يا ياسين الحاجات دى خطر، ولو اتصابت فيها مين هياخد باله من البنت.
اومأ برأسه موافقا: عندك حق، طب تعالى معايا اتفرجي عليا وشجعيني مش لازم تشاركي.
هبة برفض: بصراحة يا ياسين أنا الكلام ده مبقاش يستهويني خالص بقيت بحس بالملل..
ضحك بخفة يحاول إقناعها: يا ستي أنا بحب الكلام ده، وعايزك معايا فيه.
أجابته بملل: روح لوحدك، ولو في أي حاجة تانية هبقى معاك.
زفر بإختناق ثم أنتقل الحديث إلى العشاء: طب اتعشيتي ولا لسة؟
هزت رأسها ورفعت يدها بخفة: لا مستنياك، أستنى خمس دقايق أغسل وشي وننزل نتعشي.
ياسين وهو يتوقف: لا أنا هطلب العشا هنا.
هزت رأسها بالموافقة، وأعادت الهاتف لمحادثتها.
توجه إلى غرفة الملابس يغير ملابسه، وفجأة تذكر حديث لوجين وهي تقول: “عارف أنا بشوف الجواز مش نهاية السعادة لاتنين اهتمامتهم مختلفه، بالعكس بيكملوا بعض، لان طبيعي نختلف في اهتماماتنا ومش كل حاجة هنعرف نتشارك فيها، بس ده ميمنعش إن أكون جنبك وأنت بتعمل إللي بتحبه”
ابتسم للحظات وهو يتذكر كلمات لوجين، وسرعان ما هز رأسه وكأنه يطرد الأفكار عن ذهنه، وعاد بسرعة إلى نالا وهبة قائلا بمزاح، وهو ينحني تجاه هبة: أنتِ لسه ماسكة الفون زي ما أنتِ، تعالي هنا بقى.
بدأ دغدغتها بخفة، محاولا الهروب من التفكير في لوجين.
هبة ضاحكة: ياسين بس الماسك!
ياسين وهو يضحك: مسك إيه بس! نالا تعالي نزغزغ هبة
ضحكت نالا، ومدت يديها: يلا!
بدأ ياسين ونالا يدغدغان هبة، وضحكوا معا، ثم أخذوا يركضون ويلعبون في أجواء عائلية لطيفة ودافئة، مليئة بالحب والمرح.
في هذه اللحظات، حاول ياسين أن يمنح نفسه فرصة كاملة لعلاقته مع هبة، ويعيش اللحظة العائلية بكل دفئها، محاولا أن ينسى كل ما يخص لوجين
فيلا ماسة وسليم، التاسعه مساء
توقف السائق بالسيارة أمام الفيلا، هبط عشري أولا، ثم فتح السائق الباب الخلفي لسليم بإحترام.
فور هبوطه من السيارة، اقترب منه مكي متسائلا بقلق: إيه يا سليم؟ فينك طول اليوم؟
رفع عينيه نحوه قائلا بنبرة لاذعة: عايز تفهمني إنهم مقالولكش خط سيري؟
تساءل مكى بقلق: بس أنت من الصبح مختفي، وكلمتك كذا مرة ومرديتش.
حاول سليم تغير الحديث فتساءل وهو ينظر له بإهتمام: دراعك عامل ايه؟
هز كتفه بلا مبالاة، وقال بصوت واهن: الحمد لله، أحسن.
ثم رفع نظره نحو عشري وقال بنبرة هادئة: بقولك يا عشري، سيبني مع سليم شوية.
ضحك عشري بخفة وقال بمزاح: ليه يا عم، في سر عليا ولا إيه؟
قاطعة مكي بحدة: خلص بقى يا عشري، روح شوف شغلك.
رفع عشري حاجبيه وقال وهو يتراجع: ماشي، هروح أعمللي حجر كده وأروق دماغي، أعمل حسابك؟
هز مكي راسه بإيجاب: ماشي.
تحرك عشري مبتعدا بخطوات بطيئة، حتى أختفت صورته تماما، ظل مكي صامتا للحظه، يراقب سليم من طرف عينه، وسليم ينتظر أن يبدأ مكي حديثه
نظر له مكي نظرة عميقة، تحمل شيئا بين الضجر والاستهجان، قائلا بنبرة نصيحة حنونة: على فكرة إللي بتعمله ده مينفعش، حتى لو هي قالتلك كلام يزعلك.
نظر له سليم بنظرة حادة: أنا مش عايز أتكلم في الموضوع ده.
أصر مكي بنبرة حاسمة: يا سليم أسمعني؟!
اتسعت عين سليم ببحة رجولية حاسمة: قولتلك مش عايز أتكلم، روح نام ولا شوف هتعمل إيه.
تحرك سليم إلى الداخل، وظل مكي ينظر إليه بضجر وخيبة.
في الداخل
استقبلته سحر بإبتسامة: حمد لله على سلامتك يا سليم بيه.
رد مقتضبا: الله يسلمك يا سحر، من فضلك أعمليلي قهوة.
سألته بدهشة: حضرتك مش هتاكل؟
أجاب وهو يلوذ بالصمت: أكلت برة.
حينها ظهرت ماسة خارجة من الـ«ليفينج روم»، كانت تمسك كوب عصير بيدها، وما إن رأت سليم يدخل حتى وضعت الكوب على الطاولة المجاورة بسرعة، ونظرت إليه نظرة تجمع بين القلق والاهتمام.
ماسة بصوت يحمل عتابا رقيقا: حمد لله على السلامة، ايه يا سليم، طول اليوم برة أتصلت بيك كتير؟مش بترد ليه؟! قلقت عليك؟!
لكنه لم يرد عليها، ولم ينظر حتى في اتجاهها، كأنها ليست موجودة.
وتابع بهدوء جاف موجها كلامه لسحر: هاتيلي القهوة في المكتب يا سحر.
كاد أن يتحرك لكن وقفت ماسة أمامه وتساءلت بإهتمام: هو أنت مش هتتعشى؟
لم يرد وواصل سيره نحو المكتب
فلحقت به وامسكت ذراعه، ورفعت صوتها قليلا: سليم، أنا بكلمك!
تجاهلها بشكل مقصود ونظر إلى سحر قائلا بنبرة حادة: يلا يا سحر، لسة واقفة ليه؟
هزت سحر رأسها بسرعة وقالت بخفوت: حاضر يا بيه، حالا.
ثم تحركت نحو المطبخ، بينما سليم أزال يد ماسة ببرود وتحرك مبتعدا نحو غرفة المكتب، متجاوزا إياها دون أن يمنحها نظرة واحدة.
ظلت واقفة في مكانها، تتابعه بعينيها في ذهول، شعرت بوخزة في صدرها، لا تعرف ماذا عليها أن تفعل، كانت تعلم أنه غاضب منذ تلك الليلة، لكنها لم تتوقع أن يصل التجاهل إلى هذا الحد.
مكتب سليم
دخلت خلفه بخطوات مترددة، فرأته يجلس أمام الابتوب بملامح جامدة.
قالت بصوت منخفض يحمل عتاب: هو أنت مبتردش عليا ليه؟ دى مش أسلوب يا سليم، وبعدين هو من إمتى أصلا وأنت بتعاملنى بالطريقة دي؟! دى أنت حتى عملت معايا كدة قدام سحر، هي حصلت؟!
مررت عينيها عليه تنتظر منه أي أجابة أو حتى التفاته لما تقول، لكنه اصطنع التركيز فيما يفعله دون رد، فتنهدت وتابعت بضجر: سليم بطل بقي الأسلوب دى، أنا بكلمك رد عليا، أيه شغل العيال الصغيره دي؟!
رفع نظره نحوها وقال ببرود قاطع: أنا مش عايز أتكلم معاكي، أنا حر.
عضت خدها من الداخل بإنزعاج من طريقته، ثم أقتربت خطوة وقالت بأهتمام: طب أكلت؟
لم يرد، وظل يكتب على اللابتوب، وكأنها مجرد هواء يمر بجانبه.
تابعت محاولتها، وهي تمد يدها لتلمس طرف كمه بحذر، لكنه سحب ذراعه بحدة، دون كلمة واحدة.
نظرت له، وعينيها تلمع بخيبة صامتة، وقالت بهدوء: طب غير هدومك الأول، أنت طول النهار بره بالشكل ده؟ وكمان القهوة إللي أنت عمال تشربها كتير دى، مينفعش على صحتك.
لكنه لم يرد، وواصل الكتابة بصمت، فشعرت بقسوة صمته تثقل صدرها، وكأنها لا وجود لها أمامه.
وفجاه توقف وأمسك هاتفه بيده وأعطاها ظهره، وتظاهر بإجراء مكالمة: آه تمام، الإيميل هيكون عندك بعد خمس دقايق.
صمتت لحظة، تدرك أنه يتصنع الحديث ليجعلها تغادر، فعضت خدها من الداخل بحزن، وهبطت دمعة من عينها، مسحتها بسرعة.
ثم وقفت خلفه، ومدت يديها وسحبت الهاتف من أذنه برفق، ألتفت ينظر لها بعينه بصمت، قالت بنبرة موجوعة والدموع تلمع في عينيها: أنت أكبر من إنك تعمل حركة زي دي ياسليم، أنا آسفة لو كنت بزعجك.
ثم أضافت بصوت مجروح باكي لكنه متماسك: بس غير هدومك، وبعدين كمل شغلك ولوسمحت كل عشان علاجك والعملية على الأقل.
قالت كلماتها تلك وخرجت بهدوء من المكتب، وأغلقت الباب خلفها وهي تبتلع وجعها بصمت، ودموعها تنهمر من عينيها، كما لو كانت تريد أن تخفي أثر ألمها عن العالم.
جلس سليم وحيدا، يختنق بألم شديد يحاول تجاهله، يحاول أن يرتب أنفاسه كي لا يضعف، فهو مازال منزعجا ومجروحا من قسوة حديثها، كانت كلماتها قصيرة لكنها أثقلت قلبه بما لم يتخيل أن يسمعه منها، لهذا أختار الصمت، صمتا يقيه من فتح جروح أعمق، يدرك أن أي كلمة قد تؤذيه، وقد تؤذيها أيضا، ففضل أن يتحمل وحده ثقل هذا الليل، كي لا يزيد الألم بينهما.
توجهت ماسة نحو المطبخ، تحاول الحفاظ على ثباتها، رغم ارتجاف خطواتها، فوجدت سحر هناك، تضع الصينية على الرخامة.
ماسة بصوت هادئ متعب: أعمليله لبن يا ماما سحر، بلاش قهوة.
رفعت سحر نظراتها إليها بإستغراب: لبن! بس يا هانم؟
أومأت ماسة بإيجاز: آه لبن دافئ، وحطي عليه شوية عسل، وأعملي له سندويتشات وفاكهة.
هزت سحر رأسها موافقة، بينما تحركت ماسة بخطوات بطيئة نحو غرفتها، وجلست في الشرفه بصمت تفكر ماذا عليها أن تفعل، وهي تشعر في داخلها بدوامة تعصف بها، كأنها تبحث عن خيط واحد تنجو به من ثقل ما بينهما.
بعد دقائق، دخلت سحر المكتب من جديد، وضعت الكوب أمام سليم وقالت بخفوت: ماسة هانم إللي أمرت، يا بيه.
نظر سليم إلى الكوب لحظة، ثم اومأ لها وأخذ القلم من على المكتب، وواصل الكتابة، يحاول التغلب علي مشاعره.
قصر الراوى، التاسعه والنصف مساء
غرفة صافيناز
جلست قرب النافذة على المقعد الخشبي، ظهرها مائل، وسيجارتها تحترق ببطء بين أصابعها، خيوط الدخان ترتفع كسحابة رمادية تتلاشى بكسل فوق رأسها.
على الطاولة بجوارها كوب قهوة لايزال ساخنا، لكنها تكتفي برشفات صغيرة متقطعة، وكأن مذاقه يثقل عليها بدل أن ينعشها، كل بضع ثواني ترفع يدها إلى جبينها، تضغط عليه كأنها تحاول كتم الألم الذي يسكن رأسها منذ أيام.
بعد لحظات، انفتح باب الحمام، وخرج عماد بشعر مبلل تلتصق خصلاته بجبينه، يجفف شعره في المنشفة ببطء وثقة، دون أي استعجال.
تساءل وهو يمر بجانبها: ايه دى القهوة جت.
هزت رأسها بصمت دون أن تنظر إليه، فتوقف أمامها، وانحنى قليلا محاولا التقاط ملامح وجهها المحني.
عماد بقلق مصتنع: مالك يا صافي؟
صافيناز بصوت مبحوح وتعب: مفيش صداع، بس صداع فظيع، والأقراص اللي باخده مبقتش تعمل حاجة، أنا لازم أكشف يا عماد.
نفخ بضيق وهو يترك المنشفة على الكرسي: مش محتاجة دكتور، متكبريش الموضوع يا صافي، ده من كتر الاسترس اللي أنتِ حاطاه على نفسك فيه.
قالن بعينين زائغتين: معرفش بس أنا مش مظبوطة، وتعبانة، تعبانة اوي.
وقف أمامها مستقيما، وقال بنبرة حاسمة كأنه يغلق باب النقاش: طب خلاص، هكلم الدكتور ييجي دلوقتي، علشان تطمني.
ثم توجه نحو الشرفة، وأغلق الباب خلفه، وأخذ يتحدث بهاتفه بصوت منخفض ومقتضب
في أحد المستشفيات الحكومية، العاشرة مساء
كان مصطفى مستلقيا على الأريكة، يبدو التعب واضحا على وجهه، وعيناه شاخصتان في الفراغ، مازال يفكر فيما حدث، في تلك اللحظة التي رفع فيها المسدس، وكان على وشك أن يقتل أحدهم، أغلق عينيه للحظة، متنهدا، حتى قطع صمته تعالي طرق سريع على الباب، ودخول فتاة ترتدي زى التمريض وتقول بأنفاس متقطعه: دكتور مصطفي، فيه حالة في الاستقبال وعايزين حضرتك تشوفها حالا.
اعتدل في جلسته وهو يضيق عينيه متسائلا باستغراب: أنتِ تعين جديد ولا ايه؟
أجابته بخجل: لا، أنا طالبه وشغاله هنا بعقد مش متعينه.
هز رأسه بتفهم، ونهض من جلسته، أرتدى معطفه الأبيض بخطوات متعجلة، وأمسك سماعته الطبية، ثم خرج معها إلى الممر الطويل.
كانت تتحرك بجانبه بخطوات سريعه تحاول مجاراة سرعته، وهى تشرح له ما فعلته مع الحالة محاولة أثبات كفائتها في العمل: هى ست عندها 56 سنه، جت بتشتكي من دوار شديد وقيء، طبعا قيستلها العلامات الحيويه لقيتها مظبوطه، ولما لقيتها عرقانه وعرفت إنها مريضة سكر، شكيت أن ممكن يكون سكرها واطى وداخله على غيبوبه سكر فسألت إمتى آخر مره اكلت قالوا من ساعتين ولما قيسته لقيته 150 يعنى مظبوط، فقولت اعملها اختبار أعصاب اشوف المشكله مخ واعصاب ولا لا ولقيت استجابتها طبيعيه جدا، فعلى الأرجح هى يا بتعاني من مشكله في الأذن الوسطى بما إنها المسؤوله عن الاتزان في الجسم، أو ممكن يكون عندها قسور في الدورة الدموية بحكم تقدم السن.
توقف وهو يرمقها من أعلي لأسفل بنظرة فاحصة، ثم قال بسخرية: ولما أنتِ عملتى كل دى مناديالى أعمل ايه ؟!
ابتسمت بخجل، تلملم أطراف طرحتها بتوتر: علشان حضرتك تشخص الحالة وتشوف اللازم يتعمل.
ضحك بخفوت، وقال بمزاح: ما أنتِ شخصتيها خلاص.
أجابته بعفوية: لا يا دكتور، أنا توقعت بس.
رفع حاجبه مبتسما: طيب يلا، نشوف توقعات صح ولا لا، يا …
أجابته بابتسامه خجولة: آلاء.
هز رأسه مبتسما: ماشي يا آلاء يلا بينا.
آلاء فتاه بملامح مصرية أصيلة ذات اثنين وعشرين ربيعا
تنتمى للطبقه الفقيرة تعيش بمنطقة المرج مع والدتها وأخيها تدرس في كلية تمريض عين شمس في السنة الأخيرة
تعمل لتساعد نفسها وعائلتها.
دخلا معا غرفة الاستقبال، ألقى نظرة سريعة على المريضة، ثم بدأ بفحصها بدقة، وبعد دقائق قليلة، قال بإطمئنان للفتاة المرافقه للمريضه: تمام، الحالة بسيطة بإذن الله، هى غالبا بتعاني من مشكله في الأذن الوسطى ومحتاجه تتعرض على دكتور أنف وأذن، وأنا هكتبلها دلوقتي على أنبول منشط للدورة الدموية تاخده على محلول ملح علشان الدوخه تروح لحد ما تتابع مع دكتور، وألف سلامة عليها.
ثم وجه نظره الى آلاء، وحرك رأسه كي تتحرك معه، فتوقفت على جنب، تنتظر توجيهاته.
مصطفى بإنبهار، وتشجيع: برافو عليكي، فعلا تشخيصك صح.
شعرت بسعادة وحماس: شكرا يا دكتور.
فتساءل بفضول: أنتِ بتدرسي ماستر ولا دكتوراه؟
أجابته بضحكه خفيفه: لا يا دكتور أنا لسة طالبة في رابعه جامعه.
اتسعت عيناه بذهول: ماشاء الله في سنه رابعه ومعلوماتك الطبيه كده؟! لا بجد برافو استمري.
هزت رأسها بابتسامه رقيقه من إثناؤه على شطارتها، بينما مد هو يده مشيرا نحو الممر: طب تعالي معايا نلف لفة كده في القسم نطمن على باقي المرضي.
أومأت برأسها وتبعته، ليبدأوا جولتهم في تفقد أحوال المرضي
قصر الراوى، العاشرة والنصف مساء
غرفة صافيناز
دخل الطبيب بخطوات هادئة، يحمل حقيبته الصغيرة، واتجه مباشرة نحو صافيناز، وبدأ يفحصها بعناية وهو يطرح بعض الأسئلة، وهي تجيب بنبرة خافتة وكأنها تسحب من بعيد.
وحينما انتهي من فحصه وأخذ يجمع أشياؤه، سأله عماد بقلق مصطنع: خير يا دكتور؟ طمني صافي مالها؟
الطبيب: ولا أي حاجه الهانم بس شكلها بتدلع عليك علشان تشوف غلاوتها عندك، أنا كتبتلها على شوية تحاليل، وغيرتلها الدوا لنوع تانى تاخده عند اللزوم، ويفضل لو تبعد خالص عن أي ضغط، وسلامتها ألف سلامة.
ثم أخرج حقنة، وقام بغرسها في ذراعها وهو يقول: الابرة دى هتهدي الصداع شوية، ألف سلامة يا هانم.
ما إن حقنها حتي شعرت بالارتياح والنشوة تتغلغل في سائر جسدها، فأغمضت عينيها بارتياح شديد، بينما رافق عماد الطبيب إلي الخارج.
خارج الغرفه.
أعطي عماد الطبيب نقوده وهو يتساءل بنبرة خبيثه ذات معني: غيرتلها الدوا لنوع أقوى؟
هز الرجل رأسه بخبث: اه يا باشا، وكل فتره لازم تعلي الجرعه.
عماد بصوت منخفض وحاد: وايه والتحاليل اللي قولت عليها، أنت بتجود؟
ابتسم الرجل بخفة وسخرية: تمويه يا باشا، علشان متشكش، هنعملها في العيادة وهنطلعها كلها تمام.
هز عماد رأسه ايجابا بصمت، ثم عاد إلي الغرفه بخطوات هادئة، وابتسامة لا تمتد إلى عينيه، اقتربها، ومد يده يمسح على شعرها بحنان مصطنع: شوفتي؟ قولتلك مفيش حاجة، كله من موضوع ماسة والشغل، والدوشة اللي حواليكي.
جاهدت لفتح عينيها، وهي تقول بخفوت: الحقنة هدتني شوية، بس أنا مش عايزة أعود نفسي على المسكنات والمهدئات يا عماد.
ثم أغمضت عينيها ببطء، وارتخت ملامحها للمرة الأولى منذ أيام، وهي تستسلم للغشاوة الثقيلة التي صنعتها الإبرة
بينما وقف عماد يراقبها بصمت، لا يمكن تحديد إن كان قلقا حقيقيا أم شيئا أعمق، وأكثر غموضا.
فيلا سليم وماسة، الحادية عشر مساءا
غرفة نوم ماسة
كانت جالسة في الشرفه، تنظر في الفراغ الممتد أمامها بشرود، تفكر فيما آلت إليه حياتها، وكيف يمكنها أن تنتشل سليم من جدار الصمت الذى يحيط به نفسه، وترمم ما تهشم بينهما عن غير قصد.
ما زال ما حدث في المكتب قبل قليل يضغط على صدر ماسة… خصوصًا حين تظاهر سليم بالانشغال في هاتفه هربًا من الحديث معها، فشعرت بوخزةٍ موجعة في قلبها.
بعد لحظات، فتح الباب ودخلت سحر تحمل كوبا من الكاكاو الدافئ بين يديها، ووضعته على الطاولة.
سحر: عملتِّلك الكاكاو يا بنتي.
التفتت لها واقتربت منه بابتسامة: شكرا يا ماما سحر، هو سليم طلع أوضته ولا لسه تحت؟
هزت رأسها نافيه: لأ لسه في المكتب بيشتغل.
امتلئت عيناها بالدموع من قسوة الصمت الذى طال بينهم، ثم زفرت بضجر كأنها طفله غاضبه من والدها ولكنها غير قادرة على العيش دون أحضانه.
اقتربت منها سحر، وربت على كتفها بحنان ومواساه: ربنا يصلح ما بينكم يا بنتي، معلش دى شيطان ودخل بينكم
هزت رأسها، وصمتت تفكر للحظه، وفجأه لمعت عينيها بوميض غامض وكأن فكرة ذهبية طرقت رأسها فجأه، فالتفت لسحر وهى تقول بحماس طفولى: بقولك إيه يا ماما سحر كنت عايزه منك خدمه.
ردت بحنان: اؤمري
همست وكأنها تشرح خطة مصيرية محكمه: عايزاكى تكدبي معايا كدبه بيضا، وانزلى قولى لسليم إن ماسة تعبانة خالص وبطنها بتوجعها وبترجع وداخت وأغمي عليها!
ضحكت بصوت عالى: دى كده مبقتش كدبه بيضا، كده بقي فيلم هندي كامل الدسم.
نهضت ماسة واقفة بسرعة: اسمعي بس اللى بقولك عليه، وشيلي الكاكاو دى وهاتي ينسون، وأنا هعمل نفسي عيانة، بس اظبط الدور أزاى؟
أجابتها ضاحكه: بسيطة حمري وشك، وادعكي عينك شوية، ولو عندك قطرة حطي نقطتين.
فقالت بحماس طفولى: يا بنت الايه يا ماما سحر!
ثم وقفت بسرعه أمام المرآه، وأخذت تدعك خديها وعينيها بقوة.
ثم نظرت لسحر وتساءلت: ايه رأيك احط المج بتاع الكاكاو على وشي عشان يديني سخونيه؟!
لم تنتظر ردها واخذته من على الطاولة ووضعته على خدها وهي تكرمش عينيها من شدة سخونته، وحينما شعرت بارتفاع سخونة خدها الأيمن واحمراره، نقلته إلي الخد الأيسر.
فنظرت لها سحر بقلق: خلاص يا بنتي كفايه لاحسن خدك يتحرق.
تنفست بعمق قبل أن تلتفت لها: كده تمام ولا فيه حاجه تانيه اعملها؟!
أجابتها ضاحكه: لا كده كويس أوى شكلك بتموتي بجد، يلا نامي بقي وغطى نفسك وارتعشي شوية.
اومأت برأسها، وتمددت وسحبت الغطاء حتى كتفيها، وبدأت تصطنع الارتعاش، وهو تؤكد عليها: انزلى بقي قوليله ومثلي عليه كويس، خليه يصدق، أوعى تخليه يشك فيكى.
أومأت ضاحكه وهى تغادر الغرفه: متقلقيش
في مكتب سليم
جلس أمام أوراقه منغمس في العمل يجبر نفسه على التركيز، حتى قاطعه ارتفاع طرق الباب تبعه دخول سحر بخفة، وهي تقول بتوتر مصطنع: مساء الخير يا سليم بيه.
رفع رأسه، وتساءل بتعجب: مساء النور، في حاجة يا سحر؟
ردت بتمثيل محكم: بصراحة أه، الست ماسة تعبانه أوي وبطنها وجعاها وعماله ترجع، مش عارفه ايه اللى حصلها فجأة.
انتفض من كرسيه بفزع، وهو يصيح بلهفه: من أمتي الكلام دى مهي كانت كويسه من شوية؟
رفعت كتفيها وهى تحاول اتقان الدور: مش عارفه، أنا دخلت عليها دلوقتي، لقيتها بتترعش وسخنة وبطنها وجعها جامد وعمالة ترجع
اتجه نحو الباب بخطوات سريعة: طب كلمي الدكتور خليه يجي بسرعة وأنا طالع لها.
غرفة ماسة
كانت تراقب الباب بتوجس وهي تحبس أنفاسها، منتظرة لحظه دخوله، وفجأة فتح الباب بعنف، دخل سليم وجلس إلى جوارها، يضمها لصدره دون تفكير، وهو يتساءل بلهفه وقلق: مالك يا ماسة؟ حاسة بإيه؟
فتحت عينيها التى اغمضتها بتمثيل لحظه دخوله، وهى تقول بنبرة متكسره محاولة تمثيل التعب: س.. سليم، أنا تعبانة أوى يا سليم.
رفع يده يتحسس خدها المحمر، وقال بقلق: وشك سخن قوي، مالك ايه اللى حصل؟
همست بنبرة متعبة أكثر من اللازم: كل حاجة بتوجعني.
ثم وضعت يدها على بطنها: وبطني بتوجعني أوي.
نهض وهو يقول بلهفه: طب ارتاحي وانا هكلم الدكتور يجي حالا.
أمسكت يده بقوة على عكس هزلها التى كانت تصطنعه منذ قليل، وهزت رأسها بسرعة أثارت شكه: لا لا، دكتور ايه مش مستاهله، سحر هتجيبلي ينسون، وخليك بس قاعد معايا، وهبقى كويسة.
نظر إلي يدها الممسكه بيده بشك وهو يضيق عينيه، فحاولت تشتيت انتباهه لفعلتها وهى تضع يدها على رأسها متصنعة الصداع: آه يا راسي، دماغي مصدعه خالص يا سليم.
نظر اليها مطولا من أعلى لأسفل، وهو يقول بسخرية: راسك ولا بطنك!؟ ارسيلك على حل ؟
قالت متصنعه التعب: الاتنين واجعني، أنا تعبانه خالص يا سليم شكلى هموت ولا ايه..
ثم وضعت يدها على رقبتها متصنعه الاختناق، وهي تهمس بصوت متهدج: حاسه نفسي بيروح ومش قادرة اتنفس، خليك جنبي أنا خايفه، احضني خلينى اموت جوه حضنك.
كان ينظر إليها بشك وهو يضيق عينيه، ظن أنها تعطي الأمور أكثر من حجمها لكن لم يستطيع تركها وهى مريضه على أي حال، فذهب للحمام واحضر وعاء به القليل من الماء وفوطه، واقترب منها ووضع الفوطه على جبهتها وجلس بجوارها.
فنظرت إليه بتعب مصطنع، وهي تقول بعتاب ولوم: كان لازم اتعب يعني علشان تحن عليا وتكلمني وتبطل وضع الصامت اللى أنت فيه دى!؟
نظر إليها بطرف عينه قائلا: مين قالك إني بطلبته، دى انسانيه مني مش أكتر.
قلبت وجهها بطفوله، فاخذ الفوطه من على جبينها ليغمرها في الماء ولكنه لاحظ برودة الفوطه!!
فنظر إليها بشك ثم أخذ يتحسس جبينها ورقبتها فوجد حرارتهم طبيعيه، فعاد بيده إلي خدها مره أخري فشعر بحرارة موضعيه غير طبيعية، فتساءل بتعجب: إيه دى؟!
نظرت إليه بتوتر: في ايه؟!
تساءل بشك وهو يضيق عينيه: خدك بس هو اللي سخن، وبقية جسمك عادي!!
ارتبكت ووضعت يدها على خدها بسرعة: طبيعي، علميا السخونية بتبتدي من هنا وبعدين تنتشر.
رفع حاجبه بسخرية، بعد أن فهم لعبتها: علميا!؟ لا اذا كان كده هدخل احضرلك ابره قبل ما تنتشر بقي.
ردت عليه بسرعه وهلع: لا ابرة ايه استني، كمل بس الكمادات، وهبقي كويسه.
رد عليها بسخرية: لا اسمعي مني الأبرة بتجيب من الأخر.
فصاحت بضجر متناسيه ادعائها المرض: يووووه ما قولتلك كمل كمادات وهبقي كويسه.
فرقع حاجبه وهو ينظر إليها نظره ذات معنى، فتوترت ورفعت يديها تحاول تداركت الموقف: متبصليش كده استنى بس هفهمك، أنا تعبانه خالص أهو.
ثم ألقت بنفسها على الفراش باستماته، قلب عينه بحده، ثم قال بنبرة صارمه: من امتي يا ماسة الكدب والتحوير دى، متعمليش كده تانى، قولتلك اصبري لحد ما أهدى واحترمي قراري، ومتلعبيش بعواطفي كده تانى
ثم خرج وصفع الباب بحده، فجلست على الفراش تنظر إلي الباب بعينان تمتلئان بالدموع، فهي لم تقصد اللعب بمشاعره كما قال ولكنه أرادت فقط اذابة جليد صمته الذي بات يثقل قلبها.
أما سليم، فما إن أغلق الباب حتى وجد سحر أمامه، فصاح بغضب: بتسمعي كلامها وتمثلي عليا يا سحر، أول وآخر مره تعملى كده.
فنظرت إليه بخجل تحاول التبرير: أنا كان غرضي أصلح بينكم.
فنظر إليها نظره حاده: أنا مش هعيد كلامي تانى، اتفضلي.
وما إن غادرت حتى ضرب الحائط بيده بقوة اهتز لها الممر، كان يحاول كبح ضيقه وغضبه، وخيبته من قلبه الذى مازال يضعف أمامها، كلما حاول التماسك، ورسم حدودا تحمي ما تبقى من كبريائه.
يكره ضعفه أمامها، ويكره أكثر أنه لا يستطيع النجاة منه، فكلمة واحدة منها تكسره، ونظرة واحدة منها تعيده إليها رغما عنه.
ظل ينظر أمامه بغضب وملامحه تقول كل شيء؛ فهو موجوع، بقدر ما هي موجوعة.
💞__________________بقلمي_ليلةعادل
مجموعة الراوي، الثانية عشر ظهرا
غرفة الاجتماعات
جلست العائلة بأكملها حول الطاولة، يخيم عليهم جو من الترقب والقلق، العيون تتبادل النظرات، والسكون يطول كأن الأنفاس نفسها تنتظر، منذ شهرين ونصف وهم ينتظرون الخبر الذي وعدهم رشدي بإحضاره، وها هو اليوم المنتظر قد حضر أخيرا.
جلس الجميع في أماكنهم يترقبون لحظة دخوله، بينما كان سليم بينهم حاضرا بجسده فقط، وعقله وقلبه غائبان في مكان آخر.
طه بنبرة لازعة وهو يحرك كرسيه: طب يا باشا إحنا قاعدين مستنيين كده ليه؟ منتصل ونعرف الخبر من أي حد من حبايبنا هناك.
عزت بشدة: لا، أنا لو كنت عايز أعرف كنت عرفت وقتها أنا قافل السوشيال ميديا وقافل كل حاجة علشان مش عايز الخبر يوصل، عايز أسمع من رشدي.
فجأة دخل رشدي وملامحه تفيض ثقة ورضى، حدق فيه عزت بتوجس، ونظرات فايزة ملأها الفضول.
عزت بصوت متوتر: خير عملت إيه؟
رشدي بتفاخر وهو يرفع ذقنه: أخدنا المناقصة.
صفق عزت بضربة قوية على الطاولة: برافو يا رشدي! حقيقي برافو، حاجة مكناش متوقعينها منك، عشان كده مدورتش على الخبر بطرق تانية واستنيت اسمعه منك.
أقترب رشدي وجلس أمامه، وهو يضع قدم فوق قدم بثقة: طول عمرك يا باشا معندكش ثقة فيا؟ بس اعتقد جه الوقت إن كلكم تحطوا ثقتكم فيا وتدوني مشاريع كبيرة.
فايزة بإبتسامة متفاجئة: حقيقي أنت أختلفت كتير يارشدي الفترة الأخيرة، وفعلا لازم نبصلك بنظرة تانية.
فريدة بجدية: والمشاريع إللي قولت عليها كويسة جدا، صحيح هتضغط على المجموعة شوية، بس فعلا هتفتح لنا مجال في العمل مع الدولة بشكل مختلف.
وجه عزت نظره لرشدي بصرامة: أسمع يا رشدي كل المهندسين هيبقوا تحت أمرك، التسليم لازم يكون في الميعاد إللي اتحدد، المشروع دى مهم ومينفعش في أي دلع أو استهتار.
ثم وجه حديثه لسليم بنبرة أمرة: سليم، أقعد مع رشدي وأفهم منه ايه الخطة اللى حاططها وهيمشي إزاي..
وأضاف بنبرة ساخرة قليلا: معلش، إحنا عارفين إنك الفترة دي مشغول مع مراتك، بس محتاجين من وقتك ساعتين.
قلب رشدى وجهه بازدراء دون رد، بينما أجاب سليم بهدوء مقتضب: الفترة الجاية هبقى مركز.
مالت فايزة واقترحت عليه مصطنعه الاهتمام: طب متعرضها على أخصائي كويس مادام كل شوية تتعب كدة؟ أنا أعرف دكاترة كويسة.
رفع حاجبه بإستنكار: مين قال إن ماسة تعبانة؟ ماسة كويسة؟!
تساءل عزت بنبرة لاذعة: أومال بتختفي كتير وسايب شغلك ليه؟!
رد سليم بنبرة لازعة: مش مجبر أبررلكم، بس عموما
أنا بعلم اخواتي يتحملوا المسئولية، أنا مش هفضل طول عمري أنا إللي شايل الشغل لوحدي، لازم يشاركوا.
نظر اليه عزت بصمت ثم صوب نظره إلى رشدي: رشدي تقعد مع سليم النهاردة، مش عايز أقولك تاني لازم التسليم يكون في الميعاد، إحنا داخلين مع الدولة.
رشدي بنبرة متهكمه: متقلقش يا باشا كله تحت السيطرة، أنا عامل دراسه كويسه وممكن اسلم نسبة أكبر كمان من النسبة المتحدده بس حبيت اسيب لنفسي مساحه وقت تحسبا لأي ظروف.
طه بتدقيق ونبرة ذات معنى: بس الأفكار الرائعة إللي قولتها دي يا رشدي فكرت فيها لوحدك ولا بمساعدة حد؟
نظر رشدي إلى سليم مترقبا أن يقول إنه صاحب الفكرة، لكن سليم ظل صامتا، فأجابه رشدى بنبرة لاذعة: هتفرق معاك في ايه يا طه؟ المهم إننا خدنا الصفقه وبس.
فريدة بابتسامة: عندك حق.
وجهه سليم نظراته نحو رشدي وقال وهو يقف ليهم بالمغادرة: مبروك يا رشدي، هستناك في المكتب علشان نتكلم في التفاصيل.
غادر سليم المكان، واستأذن ياسين وغادر خلفه، وتبقي أفراد العائلة يتبادلوا أحاديث جانبية.
كان سليم يتحرك في الممر بجانب ياسين، نظر سليم نحوه وقال بنبرة هادئة لكن تحمل معنى واضح: كويس إللي أنت عملته مع مراتك.
أجابه ياسين بعد لحظة صمت، وهو يزفر بخفة: رغم إني كنت حاسم قراري وكنت عايز أكون مع لوجين، بس هي رفضت وقالت لى أنت موهوم، وبعدها بيومين لقيت هبة بتقولي تعالى ناخد فرصة علشان نالا ماتعش مشتته بينا…
ثم تابع بصوت مبحوح: بس أنا مش موهوم يا سليم، أنا بحبها، وطول ما أنا مسافر مكنتش بفكر غير فيها.
توقف سليم لثواني، نظر إليه مطولا، كأنه يحاول قرأة ملامحه قبل أن يتكلم: أسمع مني يا ياسين، أدي لمراتك فرصة أخيرة علشان هو ده الصح صدقني، أنا مش عايزك تندم بعدين ولا تظلم هبة ولا تظلم نفسك ولا تظلم لوجين، صدقني أنا يهمني سعادتك.
ابتسم ياسين ابتسامة قصيرة: وأديني أهو بديها فرصة، وبفكر اعملها مفاجأه النهارده.
ابتسم سليم وهو يربت على كتف ياسين بخفة: ربنا يسعدكم.
ركز ياسين نظره في ملامح سليم الباهتة، فتساءل بقلق صادق: هو أنت كويس؟
أومأ سليم برأسه بإيجاب، وابتسم ابتسامة صغيرة محاولا اخفاء ارهاقه بها: آه، أنا تمام، ويلا بقي روح خلص شغلك، علشان تلحق تحضر المفاجأة لمراتك.
اومأ ياسين برأسه، وقال بابتسامه: ماشي يا سليم.
ثم تحرك بخطوات هادئة نحو مكتبه، وقف سليم يراقب ابتعاده بصمت لبرهة، قبل أن يكمل طريقه هو الآخر نحو مكتبه، فبالرغم من أن كلاهما يحمل في صدره حكاية مختلفة إلي أن التعب كان يجمع بينهما، وإن اختلفت أسبابه.
بعد قليل، مكتب سليم.
كان سليم منشغل بمراجعة الأوراق أمامه بكل تركيز، حتى قاطع تركيزه تعالى طرق الباب تبعه دخول رشدى بخطوات هادئه.
جلس رشدى أمامه بصمت للحظه ينظر إليه بترقب، ثم بدأ الكلام وهو يتساءل باستغراب وشك: ليه مقولتش إنك صاحب الفكرة؟ ولا عملت كدة عشان يبقى ليك جمايل عليا؟!
سليم بهدوء عملي: ملهوش لازمة الكلام ده يا رشدي، أنا فتحتلك الأبواب وأنت بشطارتك عرفت تشتغل مع المهندسين وتوظف الفكرة صح بطريقه تخدم مشروعك، أنت لو مش شاطر مكنتش كسبت المناقصة.
صمت رشدى للحظة، يتأمل حديثه وهو يضيق عينيه بشك، ثم قال وهو ينظر أمامه: أنا هقولهم إنها فكرتك، عشان متقولش إني بسرق أفكارك.
تنهد سليم بملل ثم قال بعملية وهو يميل إلى الأمام:
طب سيبك من الكلام ده وركز معايا، قولي ايه الخطه اللى حاططها في التنفيذ، أنا طبعا مش هبقى معاك طول الوقت، أنت هتبقى لوحدك، ففهمني علشان لو في مشكله نحلها مع بعض من دلوقتي.
رشدي بعمليه: أنا بلغت المهندسين اننا هنجتمع بيهم كمان عشر دقايق.
هز سليم رأسه ايجابا بصمت، وأعاد نظره للأوراق أمامه.
أخذ رشدي يرمقه من أعلى لأسفل، يطيل النظر إليه، والأفكار تتلاطم في رأسه بقلب مثقل، كان يتساءل داخله: لماذا يفعل سليم كل هذا معه؟ لماذا ساعده؟ ولماذا لم يتفاخر أمامهم بمساعدته له؟ وحتى بينهم يمتدح مجهوده ويثني عليه؟ هل لأنه فعلا بذلك النبل؟
أم لأنه يدبر لشيء آخر لا يعلمه حتى الآن؟!
كان قلبه مغمور بألف علامة استفهام، لكن يقينا واحدا بدأ يترسخ بداخله: أنه عاش حياته كلها سجينا لعدو من نسج خياله، وأن سليم لم يكن يستحق يوما ما فعله به.
قاطع سيل أفكاره طرق الباب ودخول المهندسين، فبدأوا في الاجتماع بتركيز شديد.
في الجامعة الأمريكية، الثانية ظهرا.
كانت سيارة رشدى تتوقف أمام البوابه، مربوط على سطحها مجموعة كبيرة من البالونات الحمراء المملوءة بالهيليوم، جلس رشدي على الكبوت المربع، ممسكا بوكيه ورد، والأغاني الناجحة تتعالى من السيارة بصوت عالي وكأنها تعلن للعالم كله فرحته.
أتصل بمي: أنتِ فين يا ميوشتي؟
أجابته بهدوء: قاعدة في الكافيتيريا مع صحابي.
رد عليها بحماس: طب أطلعيلي عايزك في حاجة مهمة، أنا برة.
استأذنت مي من أصدقائها وخرجت، وعندما وصلت للبوابة، صدمت بالمنظر الذي أمامها، اتسعت عيناها، ورفعت يديها على فمها من الدهشة.
مي بتعجب: إيه ده؟!
اقترب منها، قائلا بإبتسامة عريضة: قوليلي مبروك يا أحلى رشدي في الكون، عشان كسبت المناقصة يا مااااااي!
اتسعت عينيها بدهشه، وقالت وهي تنظر اليه فرحه: بجد!! مبروك يا رشدي!
رشدي بتفاخر ممزوج بالتهكم: إيه مبروك يا رشدي دي؟! هو أنا نجحت في عمل صينية المسقعة باللحمة المفرومة؟!
ابتسمت بصدق وقرصته من خده بدلال: والله العظيم أنا فرحانة جدا عشانك، مبروك يا رشدي!
ثم رفعت عينيها نحو البالونات: بس إيه البالونات الحلوة دي؟ تحفة! دي ليا أنا؟
ابتسم وهو يقدم لها الورد: أكيد طبعا جايبها ليكي؟ واتفضلي الورد كمان يا أحلى وردة.
أخذتها منه وهي تشم رائحته وتضمه بابتسامه واسعه، ثم علقت بمزاح: بس إيه حنة شيماء، إللي أنت عاملها دي يا رشدي؟ يخرب عقلك!
رفع يده كأنه يعلن خبرا مهما: لازم أعمل فرح طبعا، بقولك كسبت المناقصة! عارفة يعني إيه كسبت المناقصة؟ يعني مش هنفرش في العتبة، مش هنخسر فلوسنا، يعني هنسافر المالديف في شهر العسل مش جمصة!
ضحكت بشدة: والله العظيم أنا بجد فرحانة ليك أوي أوي! نفسي دايما أشوفك كدة مبسوط وسعيد وناجح.
رشدي بإبتسامة فخر: خلاص، النجاح عرف طريقه فين ومش هسيبه تاني طول ما أنتِ معايا!
ثم أضاف وهو يفتح لها باب السيارة: يلا بينا نروح نحتفل، أنتِ النهاردة ملك إيدي ومن غير اعتراض؟ لازم نعوض الفتره اللى فاتت، ونصيع براحتنا؟ أتصلي بالحج وقوليله إنك معايا باقي اليوم!
اومأت برأسها بابتسامه محبه: حقك يارشروش
وبالفعل قاد رشدي سيارته، واتجها معا إلى أحد المطاعم لتناول الغداء.
في المطعم
جلس رشدي ومي على أحد الطاولات يتبادلون الحديث وهما يتناولون الطعام.
ارتسم على وجه رشدي ابتسامة مشرقة بالحماس، وهو يتحدث بانطلاق ويحرك يديه بحيوية، كأن الكلمات وحدها لا تكفيه ليعبر عن فرحته، حكى لها كيف حصل على تلك المناقصة، وكيف أن عائلته قدرت جهده لأول مرة بهذا الشكل، حتى المشاريع الجديدة التي كانت فكرة سليم ذكرها بفخر واضح.
كانت تستمع إليه وهي تميل برأسها أحيانا وتضحك بخفة احيانا اخري، وتطالعه بابتسامه محبه لامعه فقط لأنها تراه سعيدا بهذه الطريقة.
قالت وهي تضع كفها على الطاولة: أنا فخورة بيك بجد يا رشدي، الفترة الجاية لازم تركز عشان تسلم كل حاجة في مواعيدها.
عاد بظهره على الكرسي بارتياح، وقال بابتسامة خبيثة: أكيد، بس خلاص بقى فضلتك يا مشمش، ومفيش اعتراض على الخروجات تانى، بقولك إيه متيجي نتجوز؟
ضحكت وهي تهز رأسها بابتسامه: نتجوز؟! أنت الفرحه جننتك ولا ايه؟
وضع كفه على صدره بصدمة: اتجننت علشان عايز أتجوزك !
ضحكت بتعجب: إحنا لسة مكملناش شهرين على خطوبتنا.
مال للأمام، وقال بصوت أكثر هدوءا: مش مهم الوقت، المهم إننا نكون سوا، ولا أنتِ لسه شايفاني مستحقش أكون جوزك؟
أطرقت بنظرها لأسفل للحظة، ثم رفعت عينيها نحوه: مش دي القصة، بس مش كل حاجه تطق في دماغك يبقي لازم تحصل، التسرع مش حلو في كل حاجه.
زفر ببطء، ثم أطلق ضحكة صغيرة ومسح على الطاولة بيده وكأنه يطرد التوتر: طب سيبك، مش هضيع علينا اليوم في النكد، خلينا نكمل أكلنا علشان عاملك مفاجأة.
هزت رأسها بحماس وهو تعاود تناول طعامها: ماشي يا سيدي، خلينا نخلص علشان نشوف أخرتها معاك أنت ومفاجأتك.
على اتجاه آخر.
في أحد المطاعم الفاخرة المطلة على النيل، الخامسة مساء.
كانت الأضواء الذهبية تنعكس على صفحة الماء الهادئة، فيما يملأ المكان عبير الزهور الموزعة على الطاولات، المطعم شبه خالي، لا يسمع في سوى صوت العازفين الذين يجهزون آلاتهم على الجانب، وفي الركن المخصص، كان بعض العمال يربطون بالونات حمراء ويهيئون الطاولة بعناية خاصة.
جلس ياسين يراقب كل شيء بنفسه، ويوجه العاملين للتفاصيل الدقيقة، ثم جلس بعدها للحظة، وأخذ وردة وصنع منها خاتما صغيرا بخفة يده.
(يبدو أن هذه العائلة كلها تمتلك موهبة غريبة في تشكيل الأشياء، من سليم إلى رشدي، لكنهم فقط لم ينتبهوا لها يوما.)
وبينما كان يتأمل الورد بين أصابعه، أخرج هاتفه وأتصل بـ هبة.
كانت هبة في مقهى صغير مع صديقتها، يضحكن ويمزحن بصوت عالي.
هبة: ألو؟
ياسين بنبرة لطيفة: حبيبتي، عاملة إيه؟ فينك؟
هبه بابتسامة: تمام، قاعده في الكافيه قاعدة مع أصحابي.
نهض من مكانه وهو يتأمل المكان، قال بنبرة رومانسية: طب مطولة ولا إيه؟ أصل عاملك مفاجأة حلوة، عشا خاص لينا إحنا الأتنين، في مطعم سيتي لايت.
مدت وجهها بذهول، وقالت بابتسامه: طب خلاص، هخلص معاهم، وعلي الساعة سبعة هتلاقيني عندك.
أجابها بحماس: متتأخريش بقى، بااي
أغلق الهاتف بابتسامه، ثم عاد لينهي التحضيرات، وبعد دقائق، جاءه أحد العاملين يحمل مجموعة صناديق قطيفة، فتحها أمامه؛ كانت تحتوي على خواتم وأساور وعقود من الألماس.
الرجل بإحترام: مستر ياسين، اتفضل أختار إللي يناسب حضرتك.
تفحص ياسين القطع بعناية، حرك عينيه بينها حتى استقرت على إسورة أنيقة، أخذها، أغلق العلبة ووضعها في جيبه، تحرك العامل، ثم كتب بخط هادئ على بطاقة صغيرة “أتمنى لينا فرصة تانية من السعادة.”
كان يشعر أن كل شيء أصبح جاهزا، جاءت إحدى العاملات وقالت بإبتسامة: البدلة جاهزة يا فندم.
هز رأسه بإيجاب، ثم دخل المرحاض الخاص بالمطعم، وأبدل ملابسه، كان المكان مهيبا، تحيط به المرايا والإضاءة الدافئة، وضع عطره المفضل وعدل ياقة القميص أمام المرآة، بدا أنيقا للغاية.
كانت الساعة تقترب من السادسة والنصف، اتصل بـهبة، لكن لم تجب، فجلس على الطاولة ينتظرها بصبر.
على اتجاه اخر، سيارة رشدي.
قاد رشدي السيارة مبتعدا عن المدينة، في طريق متسع وفارغ يشبه الصحراء، تحيط به رمال صامتة تمتد بلا نهاية، كانت مي تلتصق بالمقعد وتنظر من النافذة بقلق متزايد، تعبث بأصابعها في حقيبتها دون وعي.
توقف بالسيارة في منتصف الطريق، فاتسعت عينيها، وقالت بحذر: وقفت ليه؟ إحنا فين يا رشدي؟
أجابها بمزاح: مالك كاشه في نفسك زى الكتكوت المبلول كده ليه، أكيد مش خاطفك يعنى، أنا جايبك هنا لسببين.
مدت وجهها بتساؤل: وايه هما السببين اللى في مكان زى دى؟!
لوح بيده أمام الأفق: أول سبب إني ناوي أعمل هنا مشروع مدارس دولية، وجزء منها هيكون خيري لأطفال الملجئ.
فتحت الزجاج بدهشة صادقة، وصوتها خرج متقطعا من الفرحة: بجد يا رشدي؟ دي فكرة جميلة أوى.
أومأ بثقة وتابع وهو يضغط على المقود: أنتِ أول واحده اقولها الفكره، لسة محدش يعرف هفاتح العيلة في قريب.
ابتسمت برقة ونظرت له بإعجاب: حلو أوي بجد، ربنا يوفقك يا رشدي، لأنك فكرت في الغلابة.
ضحك بخفة، ثم رفع يده بحماس: من اليوم اللى ودتينى هناك وأنا حبيتهم أوى وحسيت إن نفسي أعملهم حاجه، هما يستحقوا يبقي لهم فرصه في مستقبل كويسه، على الأقل بعد ما يسيبوا الملجئ.
نظرت له بصمت طويل، وعيناها تلمعان بخليط من الدهشة والفخر، فيما ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، للحظة شعرت أن رشدي الذي أمامها ليس هو نفسه الرجل المتهور القديم، بل شخص جديد بدأ يرى الدنيا بشكل أوسع من نفسه.
تابع رشدى بابتسامة واثقة وهو يرمقها من طرف عينيه: ده أول خبر !
ألتفتت إليه باستغراب، وتساءلت بدهشه: أول خبر!؟
اومأ برأسه وهو يبتسم بخفة ويضغط على المقود بيده: تاني خبر، إني نويت أعلمك السواقة، وهنبدأ نتحدى خوفك سوا.
ضحكت وهي تلوح بيدها : لااا إنسى، متشكرة جدا.
ضحك وهو ينظر اليها باصرار: هتسوقي يعني هتسوقي، مفيش اعتراض.
نظرت له بخوف حقيقي: والله يا رشدي بخاف، بجد بخاف.
قال وهو يرمقها بإبتسامة دافئه: ما أنا معاكى أهو، لازم نتحدى الخوف وتتعلمي السواقة
ردت وهي تمسك في يده بخوف: ما هو يا أذكى أخواتك، أنا معنديش مشكله في السواقة أنا عندي مشكلة في السرعة؟!
نظر لها بطرف عينه: تصدقي صح؟! أنا هاتحدى خوفك الأول، في السرعة.
ثم أدار المحرك وانطلق بالسيارة يشق الطريق بسرعة متوسطة.
وضعت يديها على صدرها، وصوتها ارتفع برجاء باكي: أقسم بالله يا رشدي هزعل منك!
ضحك وضغط أكثر على البنزين، فاندفعت السيارة تشق الطريق بسرعة عالية، صرخت مي بفزع وهي تمسك بذراع المقعد: رشدي! متهزرش! والله العظيم هموت!
ألتفت نحوها وهو مازال مبتسما: موتي؟! ده إحنا بنحارب الخوف يا بنتي، مفيش حاجة هتحصل.
صرخت ببكاء، وهي تضربه على ذراعه: طب وقف! وقف يا بارد! وحياتي يا رشدي! علشان خاطري هدى السرعة بقي.
خفض السرعة قليلا وهو يضحك: عايزانى أوقف يبقي توافقي تتعلمي السواقة؟
قالت بإنفعال وهي تضربه في ذراعه: طيب ماشي موافقة أتعلم! بس وقف بقي!
توقف ببطء، ونظر إليها رافعا حاجبه بإبتسامة جانبية ساخرة: أهو كده ستات متجيش غير بالعين الحمرا.
نظرت له بغضب وقالت بحدة: أنت حيوان على فكرة!
ابتسم بثقة وهو يمد يده يفك حزام الأمان: شكرا.
قالت وهي تضحك رغم توترها: وبارد! وتنح!
ضحك بخفة وهو يشير لها تقترب: يااه، قديمة أوي الكلمة دي، يلا تعالي أقعدي مكاني، علشان نبدأ درس السواقة الرسمي.
هبطت من السيارة في هدوء مائل للارتباك، وهي تمسك طرف الفستان حتى لا تتعثر.
وقف رشدي بجانب الباب المفتوح يراقبها بإبتسامة فخورة: يلا يا بطلة، أقعدي.
جلست على المقعد بتوجس، تلمس المقود كأنه غريب عنها، ثم نظرت إليه بتردد: رشدي أنا خايفة.
ضحك بخفة، إنحنى بجانبها، وأشار إلى المقود: أجمدي بقي إحنا لسه معملناش حاجة.
حاولت أن تضحك لكنها كانت مضطربة، أصابعها ترتجف وهي تمسك بالمقود.
تحرك بخفة لإتجاه الآخر وجلس على المقعد بجانبها وهو يقول بدعم وتشجيع: متقلقيش أنا جنبك ومش هسيبك لحظه، يلا اتشجعي واتحدى خوفك، أنتِ قدها يا مشمش.
نظرت له بعينين واسعتين كطفلة في أول يوم مدرسة:طب لو العربية جريت مني؟
رفع حاجبه بثقة، يده على المقود بجانب يدها قال بمزاح: هنجري وراها
ضحكت رغما عنها: رخم
تابع وهو يتحدث بتركيز: المهم يلا ركزى.
أخذ يشرح لها بعض الأشياء، وهي تتابع ما يقوله وتنفذه بارتباك، وفجأءة تحركت السيارة ببطء شديد، فخفق قلبها وصرخت بفزع وهى تتشبث بعجلة القيادة: يلهوي! دى اتحركت
هز رأسه بتشجيع: أهو، شوفتي؟ مش صعبة كملي.
لكن السيارة اهتزت فجأة، فشهقت مي بقوة: يا نهار أبيض، وقفت!
ضحك بصوت عالي، ثم حاول كتم ضحكته وهو يقول: لأ كده تمام وقفنا، أهو ده أول درس، إنك متقلبيش العربية.
ابتسمت رغما عنها، وقالت وهى تقلب وجهها بسخرية: دمك تقيل على فكرة.
أجابها بثقة وهو يشير إلى الطريق أمامها: ودمي التقيل ده إللي هيخليكي تسوقي بعد أسبوع، وترمي الخوف وراكي، لإني واثق في ميوشي إنها قوية ومش هتسلم لخوفها.
تبادلا النظرات للحظة، ثم استقامت على المقعد وقالت بإصرار طفولي: طب خلينا نجرب تاني، وأنا مش هخاف المرة دي.
ابتسم بفخر حقيقي هذه المرة، ونظر إليها بحنان صادق وهو يقول بهدوء هامس: أهو ده إللي كنت عايزه من الأول، تشوفي إنك تقدري.
نظرت اليه للحظه، ثم أدارت المحرك ببطىء، وتحركت السيارة بثبات أكبر هذه المرة، فقال رشدي مبتسما وهو ينظر إليها: شطوره يا ميوشي.
ضحكت بخجل، وقالت بمزاح: بس كده؟ يا خسارة الرعب إللي كنت فيه، كنت فاكراها صعبة.
ابتسم لها بهدوء، وعيناه تلمعان بصدق ناعم: الرعب هو أول طريق الشجاعة يا ميوشي.
غمز لها، ثم بدأ يشرح لها بعض التفاصيل داخل السيارة، وصوته يحمل نبرة صبر غير معتادة منه.
كانت مي تحاول أن تلتقط أنفاسها بين كل محاولة وأخرى، تتشبث بالمقود كأنه حبل نجاة كلما اهتزت السيارة قليلا وهى تطلق ضحكة متوترة، أما هو فكان يراقبها بعيون يملؤها الحنان، وهو يقول بهدوء: بالراحة يا مي، أنا جنبك.
مر الوقت، حتى بدأ توترها يهدأ قليلا، وصارت أكثر اتزانا، لم تصل إلى الشجاعة التامة، لكنها على الأقل لم تعد الفتاة نفسها التي بدأت قبل ساعة.
وحين انتهيا، أوقفت السيارة بإرتياح، وألتفتت نحوه بإبتسامة صغيرة وقالت بنغمة فخورة: أنا لو قولتلهم إنك علمتني السواقة وأني سوقت، مش هيصدقوني! المرة الجاية لازم تصورني!
ضحك بخفة وهو يفك حزام الأمان: بس كده؟ عنيا ليكي يا ميوشي، المرة الجاية هنعمل خمسات كمان، ونخلي الواد ياسين يدونك معانا في السباق.
ضحكت وتساءلت بتعجب هي تميل برأسها: هو أنت بتعمل سباقات بتاعة العربيات
هز رأسه موضحا: لا هفهمك، عندك ياسين مجنون بالعربيات وأنا مجنون بالإسكواش، سليم بقى في السباحة، بس إصابة رجله منعته شوية.
صمت وشرد بعيدا كأن الذكرى لسعت قلبه، بتأنيب ضمير، فهو السبب في تلك الحادثة، لمحت التغير المفاجئ في ملامحه، ونظراته التي شردت فجأة، عض شفته دون قصد وهو يحاول استعادة توازنه.
قالت بهدوء حذر، وهي تميل ناحيته قليلا: مالك يا رشدي؟ افتكرت الحادثة؟
ابتسم بتعب، وهو يشيح بعينيه بعيدا عنها: فعلا كانت مؤلمة اوي.
فقالت بأسف وتأثر: ربنا يشفيه ويرجع أحسن من الأول.
أجابها داعيا بابتسامه مهتزه: يارب.
ساد الصمت لحظة، حتي قطعه فجأة وهو يقول بحماس: بقولك إيه تيجى نروح نركب مركب ونطير البالونات، احتفالا بالمناقصة والسواقة.
هزت راسها إيجابا بحماس: ماشي يلا.
هبط الأثنان من السيارة وتبادلا الأماكن، فتولى رشدي القيادة، بينما جلست مي إلى جواره وقد بدا على ملامحها شيء من الاطمئنان، انطلقت السيارة بهما، والطريق أمامهما بدا أكثر سلاسة من أي وقت مضى، كأنه يفسح لهما المجال ليعيشا لحظة خفيفة بعد أيام ثقيلة، لحظة تليق بسعادتهم بعد انتصارهما الكبير.
على إتجاه آخر عند ياسين في المطعم.
المكان أصبح متوهجا العازفون في أماكنهم، الطاولة مضاءة بالشموع، والموسيقى الهادئة بدأت تملأ الجو،
فكل شيء أصبح جاهزا في انتظار هبة، لكن الساعة بلغت السابعة، ولا أثر لها.
اقترب أحد المديرين وسأله: نبدأ يا فندم؟
أجابه وهو ينظر إلى الباب: لأ، لما المدام تيجي، ولما تيجي، أعملوا إللي قولت عليه بالضبط.
مرت عشر دقائق، فاتصل بها مجددا ولكن لا رد، ثم مرت نصف ساعة فاتصل بها مرة أخرى دون أجابة منها.
في الناحية الأخرى.
كانت لاتزال غارقة في الضحك مع صديقاتها، هاتفها داخل الحقيبة على وضع الصامت يرن بلا توقف، وهي لا تشعر بشيء.
الوقت مر سريعا صارت الساعة الثامنة.
في تلك اللحظة، شعر ياسين بالضيق في صدره، جز على أسنانه بخيبه أمل، ثم نهض ألتقط معطفه، وغادر المكان دون كلمة واحدة.
ركب سيارته وأخذ يقود ببطء على الكورنيش، محاولا تهدئة نفسه.
على إتجاه آخر عند هبة، كانت تضحك مع أصدقائها وكأن شيئا لم يكن.
ألتفتت إيناس إليها وقالت بدهشة: هو أنتِ مش عندك ميعاد مع ياسين؟ الساعة بقت تمانية ونص!
اتسعت عيناها بصدمة: يا نهار أبيض! ده المعاد كان الساعة سبعة!
قفزت من مكانها بسرعة وهي تجمع أشيائها في حقيبتها: باي باي يا بنات! أشوفكم بعدين!
خرجت مسرعة، يدها ترتجف وهي تتصل بياسين،
رد بعد ثواني، بصوت هادئ لكنه بارد: نعم؟
هبة بإعتذار،: أنا آسفة يا حبيبي والله، أنا خلاص، دقيقتين وهكون عندك، أصل الكلام خدنا، والقعدة كانت حلوة..
أجابها بإقتضاب: ولا يهمك.
وأغلق الخط.
لم تكن تعرف أنه غادر بالفعل.
بعد خمس دقائق وصلت إلى المطعم، استقبلها النادل بإبتسامة رسمية: مدام هبة، اتفضلي.
دخلت بخطوات مترددة، فتجمدت في مكانها حين رأت الطاولة المضاءة بالشموع، الورود، البالونات الحمراء، الكلمة المكتوبة بخطه، كل شيء كان ينتظرها.
اقترب منها النادل ووضع أمامها الكأس والطبق الرئيسي، فتسألت وهي تجلس: هو ياسين بيه فين؟
أجابها النادل بإحترام: مش عارف يا فندم.
هزت رأسها بإيماءة خفيفة، رفعت شوكة صغيرة وتذوقت قطعة من البطاطس، شربت رشفة من الكأس، ثم رفعت هاتفها أتصلت بياسين: ألو، ياسين، أنت فين؟ في التواليت ولا إيه؟
اجابها ياسين الذي مازال في سيارته بنبرة مقتضبة: لأ أنا روحت، كملي إنتِ عشاكي، وأبقي تعالي، سلام.
سقط صوته علي أذنها كصفعة باردة، فتنهدت ووضعت يدها على جبينها هامسة بضيق: يخرب بيت القمص…
نظرت حولها، ثم تابعت طعامها في صمت، كأنها تحاول اقناع نفسها أن الأمر لا يستحق، بينما في الحقيقة، كان يستحق وأكثر.
في إتجاه آخر عند مي ورشدي
توجها إلى أحد المراكب على ضفاف النيل وصعدا إليه، كان الجوّ ساكنا يحمل نسمات رطبة من قلب الماء، جلست مي تتأمل الموج المتلألئ، وهي تشعر بسعادة غامرة، كطفلة وجدت لعبتها المفضلة أخيرا، بينما رشدي كان يعيش معها لحظات لم يألفها من قبل؛ كأنه أصبح شخصا آخر، غير ذالك الذي يعرفه الجميع.
أطلقا معا بضع بالونات ملونة نحو السماء، كأنهما يودعان بها خوفا قديما، ويتعاهدان على أن يظلا معا حتى ينتصر كل منهما على ما يخفيه قلبه من وجع أو قلق.
تبادلا الأحاديث والضحكات، والسعادة تكسو ملامحهما، وفي نهاية اليوم، أوصلها إلى منزلها، ودعته بإبتسامة هادئة، بينما ظل هو للحظة يراقب باب البيت بعد أن دخلت، يشعر بأن هذا اليوم ترك فيه أثرا لا يشبه ما قبله، كأنه بداية صغيرة لحياة جديدة لم يتوقعها.
فيلا سليم وماسة، التاسعة مساء
غرفة نوم سليم
دخل الغرفة بخطوات متعبة، خلع جاكيت بدلته وألقاه على الفوتيه، ثم تحرك ببطء ثقيل، وألقى بنفسه على الفراش متنهدا، فقد كان اليوم طويلا وشاقا، وكل ما أراده الآن هو بعض الصمت والراحة.
بعد لحظات، طرق الباب بخفة، ثم دخلت سحر وهي تقول بإبتسامة خفيفة: حمد لله على السلامة يا سليم بيه، تحب أعملك حاجه؟!
أجابها دون أن يفتح عينيه: الله يسلمك يا سحر، اعملي لي قهوة وهاتيها هنا.
تساءلت سحر بإهتمام: مش هتاكل يا بيه؟
فتح عينه، وأجاب بنبرة متعبة: لا مليش نفس، وأعملي حسابك، بكرة في كذا بنت هيجوا علشان يساعدوكي.
نظرت له بإستغراب: مش محتاجة يا بيه، كفاية الست إللي بتيجي تنظف.
قال بنبرة هادئة لكن حاسمة: لا، لازم يبقى معاكي حد يساعدك، شوفيهم، وإللي تعجبك فيهم خليها.
هزت راسها إيجابا بإحترام: تمام يا بيه، مش عايز حاجة تاني؟
هز رأسه بالنفي، فخرجت بهدوء وأغلقت الباب خلفها.
سكنت الغرفة تماما، ولم يبقَ سوى ضوء خافت يتسلل من الأباجورة وصوت أنفاسه المرهقة، أغمض عينيه محاولا أن يريح جسده، لكن فجأة شعر بيد ناعمة تمرر أصابعها على صدره برفق حنون.
أنقبض صدره للحظة، قبل أن يسمع صوتا يعرفه تماما، ذلك الصوت الذي لا يخطئه قلبه: حمد لله على السلامة، مش هتغير هدومك؟
فتح عينيه ببطء، وعيناه تتسعان في ذهول صامت، ثم ألتفت بجانبه.
كانت ماسة متمددة على الفراش بجواره، تبتسم له تلك الابتسامة التي طالما أربكته وأذابته معها.
تمرر أناملها على صدره ولحيته بحنان بالغ، وعينيها تلمعان بخليط من الشوق والخوف: عامل إيه؟
تكملة الفصل
رمش بعينيه، وقلبه يخفق بعنف حتى كادت دقاته تسمع، رفع عينيه نحو المرآة المقابلة للفراش، فوجدها فارغة!! لم يكن هناك أحد!!
ارتجف جسده بالكامل، ثم نهض فجأة وجلس على حافة السرير، يميل بجسده إلى الأمام، يضغط رأسه بين كفيه، وهو يتمتم بصوته المبحوح: لا لا، أنا مش هعيش بخيالات تاني، مفيش خيالات تاني، أنتِ مش حقيقية.
رفع نظره، فوجدها مازالت ممددة على الفراش، على أحد جانبيها، بأنوثتها الطاغية، ترتدي قميص نوم أسود وتبتسم له بهدوء قاتل.
نهض وهمس بصوت مرتجف: أنتِ مش حقيقية، وأنا مش هقبل اعيش في خيالات تاني…
اتجه نحو الحمام مسرعا، فتح الماء ومرره على وجهه بعنف، كمن يريد أن يغسل شيئا داخله، لكن حين رفع رأسه نحو المرآة رآها خلفه، تنظر إليه بإبتسامة عاشقة، وهي تقترب بخطوات بطيئة مليئة بالأنوثة والحنين..
تجمد مكانه، اتسعت عيناه، وألتفت يصرخ بصوت مخنوق غاضب: أنتِ مش حقيقية! مش حقيقة!
رفع يده في الهواء، كمن يحاول أن يمسحها من الوجود، وفجأة اختفت، صر بأسنانه، وأنفجر في لحظة من الغضب العاجز، وضرب المرآة بقبضته بكل ما تبقى فيه من وجع، ضربة جعلت زجاجها يتناثر، وسال الدم من يده، لكن الجرح في قلبه كان أشد وجعا وأعمق بكثير من أصابة يده
على اتجاه آخر في غرفه ماسة.
كانت جالسة في غرفتها، ساقاها تهتزان من شدة التوتر، وعيناها تتجهان بين الحين والآخر إلى الساعة؛ فقد تأخر سليم، ولا تعرف عنه شيء، وكعادته في الليالي الماضية، لا يجيب على اتصالاتها، مما زادها غضبا، شعرت بوخزة في بطنها، فتمتمت بضيق واضعة يدها عليها، ثم نهضت لتعد كوبا من النعناع عله يهدئها قليلا.
فتحت الباب بخطى متثاقلة، فإذا بسحر أمامها تحمل فنجان من القهوة، فتساءلت باستغراب: لمين القهوة دى يا سحر؟!
أجابتها بهدوء: لسليم بيه.
تساءلت بدهشة: هو سليم جه؟
هزت رأسها بإيجاب: آه، لسه جاي من شوية، وطلب فنجان قهوة.
ضمت شفتيها بضيق، وتساءلت بنبرة متعبة: طب
هو أكل؟
هزت رأسها نافيه: لا قال مليش نفس، وطلب قهوه بس
هزت رأسها بانزعاج: طب رجعي القهوة واعملي له لبن بالعسل.
ثم تابعت بأدب، وهي تضع يدها المرتجفة على معدتها التي تؤلمها: ومعلش هتعبك، اعمليلي نعناع، علشان تعبانة شوية.
ابتسمت بخفة: عنيا، الف سلامة عليكي.
وابتعدت بهدوء، وبقيت ماسة واقفة تحدق بباب غرفة سليم وهي تعض شفتيها في محاولة لكبح الغضب الذي يغلي بداخلها، ثم تحركت بخطوات حادة نحو غرفته، وعيناها تتقدان شررا بعد أن نفد صبرها من بروده وجفائه المقيت.
دفعت الباب بقوة، تبحث عنه بعينيها في كل زاوية، لكن الغرفة كانت خالية تماما، تقدمت ببطء ونظرت لمعطفه الملقى بإهمال، وفي تلك اللحظه خرج من الحمام وشعره لايزال رطبا، وعلى ملامحه أثر الإرهاق.
رفع عينيه نحوها وتجمد في مكانه لحظه، لا يعلم أهي طيف من انفعاله المكبوت أم واقع ملموس يخشي مواجهته.
تقدمت نحوه وصوتها خرج حادا، وعينيها تتلألأ بشرارة غضب مكتوم: طب والله كويس إنك جيت بدري النهاردة، حمد لله على السلامة.
مرر كفه على وجهه يحاول طرد خيال ثقيل يظنه من نسج ذهنه المتعب، لكن نبرتها الصارمة أعادته إلى الواقع، وهي تتقدم نحوه وتصيح بغضب: أنا بكلمك رد عليا، أنا مش هتحمل أسلوبك ده أكتر من كده!
في تلك اللحظة، تأكد أنها حقيقية وليست خيال؛ فالطيف الذى ينسجه خياله يتعامل معه برقه وحنان يشتاقه منها وليس بتلك النبرة الغاضبه، لكنه ظل على صمته، وتحرك ببرود متعمد نحو الطاولة، وأخذ منديلا ووضعه على يده المجروحة بحذر واضح.
لم تلحظ جرح يده، فاقتربت منه بعصبية متصاعدة: أنا عايزة أفهم ايه اللي بتعمل ده؟ إزاي تخرج طول اليوم وترجع آخر الليل كده، لا وكمان ومبتردش عليا؟! هو ده الأسلوب الجديد؟! أنت بتعاند مين عايزه افهم؟!
لم يلتفت إليها، ولم ينطق بكلمة، كأنه اختار أن يعاقبها بصمته المدروس، مدركا أن صمته هذا يؤلمها أكثر من أي حديث، وربما وجد فيه راحته بعد الوجع الذي لايزال ينزف داخله منذ تلك الليلة.
صاحت وهي تمسك كتفه بغضب مكبوت لتجعله يستدير لها: سليم! بصلي وأنا بكلمك!
استدار ببطء يرمقها بملامح متصلبة، لكن ما إن التقت عيناها بيده حتى تجمدت الكلمات في حلقها، واتسعت عيناها وهي ترى الدم يتسرب من بين أصابعه، فأمسكت يده وهي تتساءل بلهفة وقلق: إيه الدم دى يا سليم، إيدك مالها؟!
سحب يده بسرعة كمن يهرب من النار، وقال ببرود: ملكيش دعوة، ولو سمحتي اطلعي بره.
أمسكت بيده مره أخري، وهي تقول بصوت مرتجف قلق: خليني أشوفها طيب! إيه اللى عمل في إيدك كده؟
تنهد بعمق، ثم استدار يعطيها ظهره وكأنه يغلق بابا داخله، وقال بنبرة متهكمة: قولتلك اطلعي برا، أنا مش عايز أتكلم، احترمي اللي أنا عايزه.
ساد الصمت لحظة، وهي ترمقه بعينين تلمعان غضبا وخذلانا، لا تدري أتبكي على جرحه أم على الجدار الذي بناه بينهما.
اما هو فاقترب منها فجأه، وعيناه لا تفارقان وجهها، وهمس بصوت خافت مشوب بالوجع يعيد عليها كلماتها: اصبري عليا شوية استوعب، أصل أنا كمان مش عارف أتخطى.
ارتجفت أنفاسها، حاولت التماسك والرد بهدوء، لكن الغضب غلبها فانفجرت كلماتها بحرقة مكتومة: سليم، الطريقة اللي بتستخدمها معايا دي متنفعش! أنا معملتش حاجة تستاهل كل ده! لو التعبير خاني، فأنت كمان غلط، ومكانش ينفع ت…
وضع إصبعه على شفتيها مقاطعا استرسالها بنظرات حادة كالسيف: هششش، مش عايز أسمع منك حاجه، قولت اطلعي بره.
تجمدت مكانها لحظة، تنظر إليه بذهول وجرح عميق، ثم أطرقت تخفي دمعة ثقيلة على وشك الانحدار، ثم رفعت رأسها فجأة وردت بعناد واضح: لا، مش هطلع بره، دي مش أول مرة تعملها معايا! امبارح عملت نفس الحركة وسكت وعديتها، بس كده مينفعش دي مش أسلوب، أنت كده بتدخلنا في دوامة خصام ووجع ملوش آخر.
رمقها بنظرة ساخطة لتمسكها بدور الضحية وإلقاء اللوم عليه دائما، وقال ببرود حاد خالي من الانفعال: دي اللى عندى، أنت مش هتعلميني أتكلم ازاى، ومش هقول تانى اطلعي بره، عشان أنا على أخري منك ومش طايق أتكلم معاكي.
حدقت فيه بعيون دامعة، تبحث في وجهه عن بقايا دفء تعرفه، ثم تساءلت بنبرة جاهدت لجعلها هادئة تحاول بها فتح أي نطاق للحديث بينهم: طب أنا بكرة عندى معاد عند الدكتور ياسر الساعة اربعة، مش هتيجي معايا؟
رد ببرود قاطع، دون أن ينظر إليها: لا، خدى عشري وراوية معاكي.
قالت بصوت باكي: وهروح لماما بعد ما أخلص عند الدكتور.
رد على نفس ذات الوتيرة الباردة: روحي.
صمتت لحظه وهي تنظر الى يده النازفة بقلق، وقالت بنبرة مهتزة: طب إيدك مالها؟
انفجر صوته فجأة، حادا قاسيا كالسف: ملكيش دعوة، واطلعي بره.
تجمدت للحظة لا تصدق قسوته في التعامل معها، فعضت خدها من الداخل وردت بعناد وهي تمسك بيده النازفه مره أخري: مش هخرج الا لما اعالج ايدك الأول.
ضغط على شفتيه الاماميه بغضب، وجذبها من ياقة بيجامتها، متجها نحو باب الغرفه وهو يقول بغضب بالغ: مش هتخرجي؟! طيب.
حاولت الاعتراض: يا سليم ميصحش اللى بتعمله دى، سيبنى طيب اشوف ايدك مالها ومش هتكلم معاك تاني والله.
أخرجها خارج الغرفه وصفع الباب في وجهها بقسوة، فأخذت ترمق الباب بنظرة منكسرة قبل أن تهز رأسها باستسلام، وتغادر بخطوات ثقيلة دون أن تنبس بكلمة.
في غرفتها، جلست على الفراش، تضع كفيها على وجهها، تحاول أن تهدأ، لكن الدموع لم تنتظر الإذن،
وانهمرت في صمت ثقيل، لا تعلم أتبكي من ألم قلبها لقسوته الشديدة معاها، أم من ألم معدتها الذى اشتد عليها بعد المواجهه المشحونه بينهم.
أما سليم، فالقي جسده المتعب على السرير بارهاق وهو يطلق زفرة طويلة ويمسح وجهه بكفيه بتعب واضح، فقد كان الصراع بينهما أثقل من احتماله، لكنه اختار الصمت، ذلك الصمت الذي يؤلم، وربما – في نظره – فيه الشفاء.
سيارة ياسين، التاسعة مساء
كان يقود سيارته ببطء على الكورنيش، يدور بعينين شاردتين، يتأمل كل شيء حوله، بينما يده الأخرى تمسك الخاتم الوردي الذي صنعه لهبة، ضغط عليه بكفه فجأة، كأنه يفرغ فيه كل شعور الغضب الذي بداخله.
وبعد الكثير من اللف بلا وجهه محدده، عاد إلى القصر، وصعد إلي غرفتها ووقف في الشرفه ينتظرها.
بعد قليل دخلت هبة بخطوات مرحة، مع قليل من الخجل الذي لم يظهر إلا في وهلة قصيرة.
لكن ما إن رأته واقفا حتى تجمدت للحظة، ثم قالت بارتباك: أنا آسفة يا ياسين، بس أنت عارف، بقالي كتير مشفتش البنات.
ابتسم وهو يحاول كبح انزعاجه: ولا يهمك.
نظرت إليه، وتساءلت بشك: يعني مش مقموص مني؟
أجابها بنبرة جاهد أن يخرجها هادئة: لا مش مقموص، عارف إنه غصب عنك.
سألته وهي تركز النظر في ملامحه: أمال شكلك مكشر ليه كده؟
تنهد وهو ينظر بعيدا: أكيد متضايق، يعني لما أعمل لمراتي كل إللي عملته ده وفي الآخر متجيش، طبيعي أكون متضايق.
ترددت قليلا ثم قالت محاولة التبرير لنفسها: أنت ليه مشيت ومستنتنيش؟ حتى لما كلمتك مرجعتش؟!
نظر لها نظرة حادة، قائلا بنبرة لازعة: أنا فضلت مستنيكي ساعة، ميعادنا كان الساعة سبعة، وأنتِ وصلتي الساعة تمانية ونص، ده اسمه إيه؟
أجابته بضجر: شوفت بقى إنك مقموص، قولتلك الوقت سرقني
عقد حاجبيه متعجبا: وحتى لو كنت مقموص، مش شايفه إني ليا حق؟
تنهدت بلامبالاة: عادي نبقي نعوضها مرة تانية يا ياسين.
ثم أضافت وهي تتثائب: أنا هروح أنام، تصبح على خير، وميرسي بجد على إللي كنت عامله هناك.
وضعت قبلة خفيفة على خده، ثم اتجهت لغرفة تبديل الملابس.
نظر إليها للحظة، ثم تنهد وقال كمحاولة منه لإزالة الخلاف وتلطيف الأجواء: الجو حلو النهارده، إيه رايك ننزل نقعد تحت شوية.
هزت رأسها رافضة وهي تتحرك: لا، أنا تعبانة، وبكرة عندي اجتماع مهم جدا، تصبح على خير.
هز رأسه موافقا، محتفظا بابتسامة صغيرة بالكاد ترى، بدا له في تلك اللحظة أن والدته كانت على حق؛ فهبة لم تعد إليه حبا، بل عادت لشيء آخر لا يعرفه بعد، ولهذا بدا كل ما فعله، وكل ما يخفق في صدره، بلا قيمة في نظرها.
ظل واقفا في الشرفة بملامح متجهمة، قبل أن يقرر النزول إلى الحديقة، رغم برودة الجو وبدء تساقط الأمطار، لكنه أحب تلك الأجواء، فجلس على المقعد تحت المطر، غارقا في أفكاره، حتى بدأ يسعل قليلا، عندها عاد إلى الداخل، مقررا طي صفحة هذا اليوم عند ذلك الحد.
💞__________________بقلمي_ليلةعادل
في صباح اليوم التالي، غرفة النوم
استيقظ ياسين وهو يسعل، أنفه أحمر قليلا، وملامحه تحمل علامات التعب وبوادر البرد، جلس على حافة السرير، محاولا أستعادة توازنه قبل أن يتحرك.
خرجت هبة من الحمام، ترتدي برنصا وتمسك منشفة لتجفف شعرها، وعيناها تلمعان بخفة: ايه يا ياسين، عمال تكح كدة ليه؟
نظر إليها، وهو يحاول أن يقف لكن جسده لم يستجب: شكلي خدت برد، جسمي مكسر ومش قادر أتحرك خالص.
مدت يدها بتحذير: طب أوعى تمسك البنت النهاردة.
وقفت عند التسريحة، تنظر إلى نفسها في المرآة وهي تصفف شعرها، ثم قالت بصوت منخفض: والله كويس إني منمتش جمبك إمبارح، كان زماني اتعديت منك، وعديت البنت.
تنهد ياسين بصعوبة: محسيتش بيكي أصلا وأنتِ بتقومي في نص الليل.
ثم تمدد على الفراش وهو يضع رأسه على الوسادة: شكلي مش هقدر أروح المجموعة النهاردة.
اقتربت منه، ولمست وجهه برفق: الحمد لله مفيش حرارة، هخليهم يعملولك يانسون، واقعد ارتاح فعلا.
ثم تابعت بنبرة حذرة: بس أوعى بالله عليك تيجي جنب البنت…
هز رأسه بصمت، وعيناه مغمضتان من التعب، فأضافت بصوت متردد، وهى تركز نظرها عليه: كنت عايزه أقعد معاك النهاردة، بس والله عندي اجتماع مهم أوي.
رفع عينيه نحوها، لكنه وجد نفسه عاجزا عن الكلام، هل يترجاها لتجلس معه؟ أم يستجدي منها بقايا المشاعر والاهتمام؟ بالطبع لا، فقال بنبرة ثابتة: روحي شغلك يا هبة، أنا كويس.
تنهدت وهي تهز بأسف: هحاول أخلص بسرعه ومش هتأخر، وهقولهم يبعتولك فطار وحاجه دافيه ودوا للبرد خده ونام على ما أجي، بس متجيش جنب البنت.
أجابها بنبرة حادة: خلاص يا هبة، قولتيها ثلاث مرات لحد دلوقتي، مش هاجي جنب البنت.
ثم وضع الوسادة فوق رأسه وتنهد بتعب، بينما بدأت هبة بتغيير ملابسها ونزلت إلى الأسفل، تاركة له فرصة للراحة، دخلت المطبخ وطلبت من الخدم أن يعدوا له فطورا وشيئا دافئا، مع دواء للبرد، ويهتموا به لحين عودتها.
وخلال اليوم، بدأ التعب يزداد عليه تدريجيا، حتى أصبح واضحا في ملامحه وحركته البطيئة وصوته المبحوح، بينما على الجانب الآخر، ظل ذهن هبة مشغولا بمواعيدها وأعمالها، ولم يخطر في بالها الأتصال بياسين ولو لمرة للإطمئنان عليه.
💕_________________بقلمي_ليلةعادل
فيلا سليم وماسة الثانية عشرة ظهرا
هبطت ماسة الدرج ببطء، وملامح وجهها تشي بإرهاق خفي، كانت تبحث بعينيها عن سحر، فانتبهت إلى فتاتين جديدتين تعملان في المكان، توقفت أمام إحداهن، وتساءلت باستغراب: أنتِ مين؟
ألتفتت الفتاة بسرعة، ملامحها أجنبية، وقالت بعربيه متكسرة: أنا ليزا، المساعدة الجديدة.
وفي تلك اللحظة، خرجت سحر من المطبخ، تلوح بيدها وهي تقول: روحي خلصي إللي وراكي يا ليزا…
ثم ألتفتت إلى ماسة توضح بإبتسامة بسيطة: على فكرة، بتفهم عربي كلميها عربي.
نظرت نحوها وتساءلت بإستغراب: مين دول يا سحر؟
سحر موضحة: دول اتنين سليم بيه جابهم يساعدوني.
هزت رأسها بتأييد: كويس إنه عمل كدة، الفيلا كتير عليكى وأنتِ بتتعبي جامد.
ضحكت سحر بخفة وهي تلوح بيدها: يا ستي هو أنا بعمل إيه يعني؟ غير شوية الأكل بس، والتنضيف فيه اتنين بييجوا كل يومين.
ابتسمت ماسة بلطف: ربنا يديكى الصحه يارب، بس معلش كده أفضل
ثم تتنهد بعمق وهي ترفع يدها إلى بطنها بتعب: ممكن تعمليلى نعناع، بطنى وجعاني أوى.
سحر بلهجة حنونة: سلامتك يا حبيبتي الف سلامه، تحبي أعملك فطار خفيف الأول؟
هزت رأسها وهي تحاول الاتكاء على طرف الكنبة: لأ، لأ، مش قادرة أفطر خالص، اعمليلي نعناع بس.
توقفت لحظة وكأنها تذكرت شيئا: هو سليم فطر قبل ما ينزل؟
هزت سحر رأسها موضحة: أيوة فطر، بس شكله كان تعبان.
خفضت عينيها، وقالت بصوت مبحوح بضجر: طبيعي لازم يتعب، بيفضل برا طول اليوم ويجي آخر الليل وهو مش قادر، مش عارفة بيعمل في نفسه كده ليه.
سحر بحنان أمومي: ربنا يكون في عونه بس شكل رجله رجعت تتعبه تاني، النهاردة كان ماشي بالعافية.
هزت رأسها بحزن، ثم خرجت إلى الحديقة، وجلست على أحد المقاعد الخشبية، أغمضت عينيها للحظة وهي تفكر ماذا عليها أن تفعل؟! ، فهو لا يرد على حديثها، ولا يتقبل منها أي اعتذار أو تبرير.
بعد دقائق، جاءت سحر تحمل صينية عليها كوب نعناع وبعض الأطعمة، ووضعتها أمامها بلطف: اتفضلي يا ستي.
فتحت عينيها ببطء، ونظرت إلى الطعام بضيق واضح: مش أنا قولتلك نعناع بس يا سحر؟ شيلي الأكل دى مش قادرة أشم ريحته، بطني بتوجعني أوي.
رفعت سحر حاجبيها بسعاده: لحسن تكوني حامل يا ست ماسة؟
ضحكت ضحكة قصيرة ممزوجة بالحزن: حامل إزاي بس؟ ما أنتِ عارفة إللي حصل لسليم.
ضربت على صدرها بندم خفيف: أيوه صح، يقطعني نسيت! ربنا يشفيه يا رب.
رفعت نظرها نحوها بجدية خافتة: الكلام ده ميتقالش قدامه يا ماما سحر، أحسن يزعل على نفسه.
هزت راسها مسرعة: لا طبعا، عمري ما أقول، بس برضو كلي لقمة صغيرة، علشان متدوخيش.
هزت رأسها نافيه، ثم مدت يدها إلى كوب النعناع، تشرب رشفة صغيرة وهي تغمض عينيها من الوجع.
في إحدى الشركات التابعة للمجموعة لإنتاج الحديد، الثانية ظهرا
كان سليم يتجول بين الأقسام، يتفقد الماكينات ويتابع سير العمل، قبل أن يتجه إلى مكتبه يراجع بعض الأوراق الخاصه بالحسابات بعيون مرهقة لكنها دقيقة.
ترك الباب مواربا، فدخل منه مكي بخطوات مترددة، وهو يقول بخفه: ممكن ادخل؟ ولا مشغول؟!
رفع نظره إليه بإستغراب: أنت إيه إللي جابك، وأنت تعبان؟
ابتسم بخفة وهو يقترب: وحشتني يا عم، قولت أجي أشوفك.
رفع حاجبه بعدم تصديق: جايلي مخصوص؟
جلس أمامه وهو يقول بجدية يشوبها الود: عايز أتكلم معاك شوية.
وضع القلم على المكتب، وأسند ظهره إلى الكرسي، نظر له مطولا بقلق: فيه حاجة؟
هز رأسه مبتسما: لا مفيش، أنا بس حابب أقعد مع أخويا شوية، فيها حاجة دي؟
ابتسم بهدوء: لا مفيهاش.
ضحك بخفة: طب تعالي نطلع فوق على الروف، علشان نعرف نتكلم على رواقه.
نهضا معا وصعدا بالمصعد حتى وصلا إلى السطح الواسع للشركة، ووقفا بجانب السور الحديدي يتأملان المدينة الممتدة أمامهما.
مكي وهو ينظر للأفق: قولي بقي إيه حكاية رجوعك متأخر وسكوتك ده؟
كاد سليم أن يرد بحدة، فأشار مكي بيده، وتابع بعناد: ومتقوليش مش عايز أتكلم، علشان المرة دي مش هسكت.
أطلق سليم زفيرا طويلا، ثم قال بوجع مكتوم: أنا فعلا مش عايز أتكلم يا مكي، علشان دى أفضل ليا وليها، لو اتكلمنا هنتجرح تاني، آخر مرة اتكلمنا قالتلي كلام وجعني أوي، حسيت إن السكوت هو الحل، مؤقتا على الأقل، وبحاول أركز في الشغل، علشان أعوض إللي فات، وأشغل دماغي في أي حاجة بعيد عنها.
مكي بعقلانية: بس ده مش حل يا سليم، بقالك 4 أيام لا بتكلمها ولا بتكلم حد، المشكلة حصلت يوم ما رجعتلها الذاكرة، يعني كانت لسه مشوشة، ممكن تكون قالت كلام من غير قصد، واختيارك للسكوت ده هي شايفاه بعد وجفا، هي دلوقتي زعلانة ومش فاهمة أنت بتفكر في إيه، يعني بتحل؟ ولا بتهرب؟
نظر له بضيق: يعني أنا الغلطان برضو؟
مكي بهدوء: لأ، مش غلطان، بس إللي بتعمله مش حل، هو يا إما تعتذر كتير، يا إما تبعد زيادة لحد ما توجعها؟! معندكش وسط؟!
صمت لحظة، ثم نظر للمدينة وقال بهدوء: صدقني يا مكي، أنا محتاج أهدى شوية، خايف أتكلم معاها تقولي كلمة توجعني تاني، وأنا أرد بعصبية أوجعها أكتر، فنرجع لنفس النقطة، الصمت مؤقت بس ضروري.
تمتم مكي بتساؤل: مؤقت لحد إمتى؟
رفع كتفه وهو يمد وجهه بعدم معرفى: معرفش..
ثم تساءل بشك: هي اتكلمت معاك في حاجة؟
هز رأسه بسرعة مفسرا: لا، من يومها مفتحتش الموضوع.
ثم ربت على أعلى صدره بهدوء: بس المهم، أنت متضغطش على نفسك.
ابتسم سليم بخفة وحاول تلطيف الأجواء، فتساءل بمزاح: قولي بقى يا أبو إيد ونص، الجرح عامل إيه؟
مد يده وهو يحركها: أهي بتتحرك، يعني تمام.
ضحك وربت على كتفه: سلامتك ألف سلامة، ويلا روح بقي ومفيش خروج من الجيست هاوس الا لما تخف خالص
اومأ بإبتسامة: ماشي، وأنت هدى عقلك شوية.
تبادل الأثنان نظرة صامتة، قبل أن يعود السكون ليغمر السطح، بينما كانت المدينة في الأسفل تزدحم بالضوء والضجيج، وداخل سليم لا يزال الضجيج الحقيقي مستمرا.
في العيادة النفسية، الثالثة عصرا
دخلت ماسة المكتب بابتسامة تخفي ألما يعتصر قلبها، فاستقبلها الطبيب باحترام: أهلا مدام ماسة.
أومأت برأسها بابتسامة: أهلا بحضرتك.
أشار الطبيب نحو المقاعد مبتسما: تحبي تقعدي على الكرسي، ولا الشازلونج؟
رفعت كتفها بخفة وخجل: عادي أي حاجه، ممكن على الكرسي هنا كويس؟
أومأ موافقا، فخطت ماسة نحو المقعد بخطوات هادئة، جلست برفق، وضعت حقيبتها الصغيرة بجوار قدميها، وشبكت أصابعها في حجرها بتوتر تحاول إخفاءه.
جلس على المقعد المقابل، فتح دفتر ملاحظاته، ونظر إليها بإبتسامة مطمئنة: حمد لله على سلامتك يا ماسة هانم.
رفعت رأسها نحوه وابتسمت بخجل: الله يسلمك.
تأملها لثواني قبل أن يقول بنبرة هادئة محاولا فتح مجال للحوار: تعرفي، أنا كنت متشوق أشوف ماسة إللي قاعدة قدامي دلوقتي.
ارتسمت الدهشة في عينيها، وأمالت رأسها قليلا بإستغراب: ليه؟ هو في فرق؟
أجابها موضحا: طبعا فيه فرق كبير، ماسة إللي شوفتها وهي فاقدة الذاكرة كانت مليانة حياة، طفولة، براءة، لكن ماسة إللي قدامي دلوقتي، شايف فيها وجع سنين.
لمعت عيناها بالدموع، وحاولت أن تبتسم لتخفي ارتجاف شفتيها، ثم تنفست بعمق لتستعيد تماسكها وقالت بصوت مبحوح لكنه متماسك: سليم قالي إن حضرتك متابع معاه من زمان، وأكيد عارف إللي حصلنا.
أومأ ببطء، وقال بنبرة عملية هادئة: عارف من وجهة نظر سليم، بس حابب أسمع منك أنتِ.
صمت لحظة، يحدق فيها بعينين تلمعان بترقب مهني واهتمام حقيقي، ثم تابع بنبرة ألين: بس قبل مانبدأ، قوليلي، أنتِ جاية النهاردة ليه؟ علشان نشتغل على علاقتك بسليم؟ ولا فيه سبب تاني؟
أخفضت بصرها نحو الأرض لا تعرف من أين تبدأ أو ماذا تقول، ثم قالت بصوت خافت متعب: أنا جاية علشان فيه حاجات أنا عايزه اتخطاها ومش عارفه، وكنت عايزاك تساعدني اتخطاها.
توقفت قليلا، شردت نظراتها في الفراغ ثم أضافت بنبرة غائمة: فيه صور بفتكرها ومش عايزة تسيب دماغي خالص، خاصة آخر ليله بيني أنا وسليم قبل ما امشي آخر مره
ظل صامتا للحظة، وهو يتأمل ارتجاف أصابعها، ثم هز رأسه بتفهم وتساءل بنبرة عملية: تقصدى الليله اللى مشيتي فيها قبل ال 6 شهور؟!
أومأت برأسها في صمت، فتساءل وهو يركز النظر في ملامحها، كأنه يحلل ما وراء الكلمات: هل بتشوفي حاجة محددة في الليلة دي؟ ولا المشهد كله بيجي مرة واحدة؟
أطرقت برأسها، وانحنت شفتاها بخجل واضح وهي تهمس: لحظة ما سليم، حاول يعني…
رفع كفه مقاطعا بنبرة هادئة تحمل احتراما لخجلها: تمام، وصلت الفكرة.
ثم دون ملاحظة سريعة قبل أن يرفع نظره إليها من جديد، وتساءل: فيه حاجة تانية بتشوفيها؟
خفضت رأسها، وأصابعها تعبث في طرف بلوزتها كأنها تبحث عن مهرب من ذاكرتها: لا مفيش صور تانيه بتيجي في دماغي، بس في حاجات انا يمكن اتخطها او يعني عرفت اتعايش بيها، بس أحيانا لما ببص ف عينه بفتكر اللي عمله معايا ومع أهلي، فبتوجع
قال بتفهم: طبيعي جدا يا ماسة، لأن دي من أشد المواقف إللي سببتلك ألم نفسي.
ثم مال للأمام قليلا، وأضاف بصوت هادئ وهو ينظر داخل عينيها بثبات: إحنا رحلتنا لسه طويلة لأن الجرح الحقيقي جواكي، وده إللي مأثر على كل حاجة حتى علاقتك بسليم، ومخليكي مش عارفة تبتدي منين ولا إزاي تبنيها من جديد، بس إحنا هنا علشان نحاول نرجع العلاقة دي على أسس صحية.
ثم ابتسم ابتسامه صغيرة وهو يتساءل برفق: ولا أنتِ مش عايزة ترجعيها؟
هزت رأسها، وصوتها خرج مرتجف كمن يبوح بما يكتمه منذ زمن: لأ أكيد عايزة، بس عايزة أسألك سؤال.
الطبيب بهدوء واحترام: اتفضلي.
رفعت نظرتها إليه للحظة، ثم خفضتها سريعا، وكأنها تخشى الحكم عليها، فهمست بصوت واهن يقطر ذنبا: هو أنا كده مش طبيعية؟
تساءل باستغراب: يعني إيه مش طبيعية؟ وضحيلي أكتر.
أشارت إلى نفسها بإيماءة مرتجفة، وقالت بوجع يخنق صوتها: يعني علشان لسه موجوعة، ومش قادرة أتعامل مع سليم بالطريقة إللي هو محتاجها، ده معناه إني مش طبيعية؟ إني أنانية؟ ومحبيتهوش بجد؟! ومكبرة الموضوع؟
زفرت أنفاسها المضطربة، ثم أكملت بصوت مبحوح تكسوه المرارة: أنا مش فاضل تقريبا غير الشجر، وحيطان البيت، إللي لسه ملامونيش وغلطوني، فهل أنا كده مش طبيعيه؟ قولى؟
تأملها بعين فاحصة، ثم تساءل وهو يركز النظر في ملامحها: أنتم اتخانقتوا يوم ما رجعتلك الذاكرة؟
هزت رأسها نافيه، وقالت بنبرة مكسورة: متخانقناش بس هو مفهمنيش وزعل، ومن ساعتها وهو مخاصمني.
ابتسم بأسى وقال: ومخاصمني أنا كمان، طب أنا محتاج أعرف منك إيه إللي حصل بالضبط، لإن سليم كان جالي يومها وهو ثاير جدا، ومفهمتش منه غير إنك تقريبا رفضتيه، واتهمتيه إنه استغلك.
هزن رأسها نافيه بسرعة، وكأنها تدافع عن نفسها أمام تهمة قاسية: أنا مرفضتوش، والله مرفضته، كل الحكاية إني قولتله بلاش تنام جنبي دلوقتي، أنا لسة تعبانة ومحتاجة وقت، بس هو اتجنن، ومفهمش إني قصدي وجع مش جفا، وفضل يقولي “هصبر لحد إمتى؟”.
توقفت لحظة، تنفست بإرتباك، ثم تابعت بصوت أقرب للهمس: وأنا وقتها كنت موجوعه ومش عارفه بقول ايه، فقولتله إنه استغل إني كنت ناسية عشان يحصل بينا علاقة، يمكن خانني التعبير ومكانش ينفع أقول كده، بس أنا كنت موجوعة وحاسة أنه استغل ضعفي، خصوصا إني…
ترددت، وعضت على شفتها السفلى بخجل، وحركت يديها في اضطراب صامت.
لاحظ ارتباكها، فمال للأمام قليلا وقال بلطف واطمئنان: مدام ماسة، مفيش داعي للإحراج بينا، أحكيلي زي ما أنتِ حاسة، أنا عايز أفهم علشان أقدر أساعدك.
مسحت وجهها بأنامل مرتجفة وقالت بنبرة مهتزة بعينين تترقرق بالدموع: أنا متأكدة إن أول مرة فعلا كان عايز يساعدني أفتكر، بس تكرار ده حسيته كأنه بيحاول يثبت إن لسه ليه مكان جوايا، يمكن لأنه عارف إن ده صعب يحصل بينا لما ترجعلي الذاكرة، وعارف إن لما أفتكر، مش هقبل ده بسهولة.
صمتت لحظة وهي تنظر في الأرض، ثم رفعت نظرها نحوه: على فكرة، أنا مش رافضاه.
رفع عينه من الورق، وسأل وهو يدون ملاحظة: أمال إيه؟
نظرت إلى الفراغ بصمت لحظه كأنها تفتش عن إجابة: أنا مش رفضاه بس غصب عني كل ما يقرب مني بتيجى صور الليله دى في دماغي فبخاف.
ثم تابعت وهى تمسح دمعه سالت على وجنتها: وهو مش قادر يفهم إن دى غصب عني.
أومأ الطبيب بتفهم، وتساءل بنبرة هادئه: طب يوم المشكلة احكيلي ايه اللى حصل بالتفصيل؟
زفرت بإختناق، وأمالت رأسها إلى الأسفل، كأنها تحاول أن تخفي ارتجاف شفتيها، ثم رفعت رأسها ببطء، نظرت إليه بعينين دامعتين وقالت بصوت واهن: أنا هحكيلك إللي حصل بالظبط.
بدأت تسرد له كل شيء، بصوت مبحوح متقطع بالدموع، وكان الطبيب يصغي اليها بصمت، حتى انتهت.
رفع عينيه نحوها وقال برفق: ماسة أنتِ لا غلطانة، ولا مش طبيعية زى ما بتقولى، أنتِ بس موجوعة، إللي جواكي مش ضعف دي جروح محتاجة وقت، كل إللي محتاجينه شوية صبر منك ومنه.
أطرقت برأسها، والدموع تلمع في عينيها، وقالت بصوت مبحوح: بس هو مش عايز يسمعني ولا يفهمني، قولتله تعالي نروح للدكتور، أكيد هيفهمنا نعمل إيه، بس مرضيش، ومخاصمني و مبيكلمنيش، وبيعمل نفسه مش شايفني بقاله كام يوم.
قال موضحا بهدوء، وهو يرمقها بنظرة متفهمه: رد فعله طبيعي جدا، سليم دلوقتي في حرب نفسية، هو فاكر إنكم هتبدأوا من الصفر تاني، مش شايف إن جواكي حاجات كتير اختلفت المرة دي، أنا نفسي مكنتش متوقع إنك توصلي للدرجة دي من التقبل، كنت فاكر أني هبدأ معاكي من مرحلة أصعب شوية، بس سليم تعب ومش قادر يقيم الأمور صح، الانتظار أنهكه، والوجع جواه مخفش، هو كمان محتاج يطمن ويرتاح شويه، عارفة هو عامل زي إيه، زى اللى طلع على قمة الجبل وقبل حتى ما ياخد نفسه قالوله يلا أنزل علشان في رياح، وملحقش حتى يفرح.
نظرت اليه بعينين تلمعان بدموع مكبوتة وقالت بوجع: يعني هو هيطمن لما أخليه ينام جنبي وأقوله كلمتين حلوين؟ صدقني سليم ذكي وحساس جدا، ومينفعش معاه الطريقه دى.
هز رأسه بتأييد: عندك حق، سليم فعلا مينفعش يتعامل بالطريقة دي، سيبيه يهدى شويه، هو دلوقتي في معركة جواه، وأنا متأكد إنه قريب جدا هو إللي هييجي يقولك “إيه آخر إللي بينا ده” وساعتها قوليله كل إللي أنتِ حساه.
ثم اعتدل الطبيب في جلسته، وصوته صار أكثر جدية:
بصي يا ماسة، أنا حاسس إن فيه حلقه مفقودة في القصه، وفيه حاجه أنت مخبياها، الفتره اللي بعد الحادثة، أنتِ حاولتي تمشي 4 مرات، صح؟
رمشت بعينيها بتوتر، وهزت رأسها إيجابا بصمت.
تابع بتساءل واستفسار: طب إيه الأسباب؟ إيه إللي خلاكي تحاولي تمشي 4 مرات، بالطرق دي؟ سيبك من الأخيره لان اسبابك فيها واضحه، لكن ال3 اللى قبلها كانت إيه اسبابك؟
قالت بصوت منخفض، وعينيها تهرب منه: لا هما مرتين بس، علشان أول مرة اتراجعت.
رفع حاجبه وهو يتساءل: واتراجعتي ليه؟
تنهدت وضغطت أناملها معا قبل أن تهمس: عشان بحب سليم وخوفت عليه.
تساءل بنبرة هادئة وهو يدون ملاحظاته: والمرتين أللي بعدها كان ما بينهم مسافات بعيدة ولا قريبة؟
رفعت عينيها تحاول التذكر: متهيألي بينهم شهر؟ ويمكن أقل مش فاكرة، بس حاجه في الحدود دي.
أومأ ببطء، وهو يتساءل: طب وإيه إللي خلاكي تغيري قناعتك بالسرعة دي؟ حسيتي إن سليم ميستحقش حبك؟
هزت رأسها نافية على الفور، ثم عضت شفتها قبل أن تقول بتردد: لا، بس…
ظهر عليها التوتر بوضوح، وأصابعها تلعب في طرف الثوب قبل أن تهمس: أنا مش مستعدة أتكلم في الموضوع ده دلوقتي.
رفع عينيه نحوها بتفهم: ماشي، وأنا هحترم قرارك، بس عايز اسأل على حاجه، بعيدا عن المره الأولى اللى اتراجعتي فيها المره اللى بعدها كنتوا متفقين تكونوا كويسين مع بعض مش كده؟ طب هل سليم عمل حاجة زعلتك علشان كده كنتي عايزه تمشي؟
ساد صمت ثقيل لا يسمع فيه سوى صوت أنفاسها المتقطعه، ثم قالت بصوت مضطرب وهي تهز رأسها نافية بقوة؛ فمازال الخوف يسيطر عليها: لأ يا دكتور، أنا مش عايزة أتكلم في الموضوع ده دلوقتي.
لاحظ ارتباكها الشديد، فمد يده في إشارةٍ هادئة وقال بلطف: خلاص أهدي، مش هنتكلم في الموضوع ده دلوقتي، بس عايزك تبقي عارفه إننا مش هنعرف نبدأ رحلة العلاج طول ما فيه حتة جواكي لسه مستخبيه ومش راضيه تطلعيها، لأن أول ما تطلعي السر إللي جواكي، ساعتها نكون قطعنا ٦٠٪ من طريق الشفاء.
ثم أغلق الدفتر وضعه بجانبه، ونظر اليها وتحدث بهدوء وكأنه يحلل لها شيئا عميقا: بالنسبة بقي لموضوعك أنت وسليم، فأولا هو مستغلكيش، إللي حصل مكانش أنانية أو رغبة لحظية، هو معملش كده غير بعد ما أنا طلبت منه ده، وكان متردد جدا في البداية.
ثم تابع بصوت أكثر دفئا: وتكرار إللي حصل، مكانش علشان يشبع رغبة، لكن لإنه كان بيحاول يتمسك بالإحساس اللي عايشه معاكي، كأنه خايف يفقده، هو صدق إنك خلاص نسيتي، وإنك بدأتي صفحة جديدة معاه، وعاش ال65 يوم دول بكل تفاصيلهم، كأنه بيحاول يعيش الحب إللي اتحرم منه سنتين.
تنفس بعمق، وأضاف بتوضيح: تعرفي لما افتكرتي رشدي في الحفلة، هو اتلخبط، وكان حاسس إنك كرهتيه، علشان عقلك مفتكروش حتى وهو بيخوفك، أنتِ شايفة هو قد إيه ضعيف! لدرجة إنه كان بيتمنى تشوفيه وأنتِ فاقدة الذاكرة حتي لو بصورة مشوهة؟! يومها جالي بالليل وكانت حالته مزرية جدا، وأنا حاولت أهديه وأقنعه إنك مش كرهاه، بدليل أنك مشوفتيهوش في الصور المشوهه اللى كانت بتيجيلك، ولما مشي من هنا واضح إنه نسي الخوف، وأفتكر الحب، وعقله الباطن أقنعه إن وجودك جنبه خلاص كفاية، وإنك لما تفتكري، هتفتحي دراعك له تاني لإنك طبعا خلاص شوفتي قد إيه هو أتغير.
قالت بصوت متهدج وهي تلوح بيديها بتوتر، كأنها تزيح تهمة عن نفسها: على فكرة أنا مش شايفاه متهم علشان تدافع عنه، أنا بس موجوعه ومش عارفه اتخطى حاجات معينه حصلت بينا، والكلمه لما طلعت والله العظيم طلعت غصب عني مكنتش اقصدها.
ابتسم بهدوء، وأومأ برأسه يطمئنها: مش محتاجه تبرري، أنا متفهم شعورك، متقسيش على نفسك، ومتديش ودنك للناس إللي حواليكي، الناس دايما بتشوف إللي من بره، بس محدش بيحس باللي جوا إلا إللي عاش التجربة بنفسه، مش عايزك تتأثري بهجوم الناس إللي حواليكي وجعك يحترم وطبيعي جدا، حتى لو مش طبيعي إحنا هنقدر نتجاوزه سوا
مسحت وجهها بيد مرتجفة وقالت بصوت خافت متهدج: أنا بس كنت عايزة إجابة واحدة بدور عليها، إني مش مهولة الموضوع، ولا ظالمة سليم إحنا الاتنين اتظلمنا، واتوجعنا مع بعض.
أغمضت عينيها للحظة، ثم قالت بصدق ممزوج بالألم: عارف لما مصطفى ضرب نار في لحظة غضب؟ مكنتش مصدقه، لاني عارفه إنه إنسان هادي بطبعه، يمكن عصبي أوقات بس مش بالشكل ده، قعدت بعدها أفكر، ففهمت إن أحيانا الخوف الشديد على إللي بنحبه بيخلينا نتصرف غلط ومن غير وعي، ووقتها فهمت، إن سليم عمل إللي عمله مش لإنه قاسي، لكن لأنه بيحبنى وكان خايف يفقدني.
اومأ بتفهم: أنتِ محتاجة تقعدي مع سليم، وتتكلمي معاه بصدق، وتفهميه كل أسباب وجعك، أنا عارف إنكم قعدتوا واتكلمتوا قبل كده، بس لسة فيه جزئية أنتِ مخبياها، وهو لازم يعرفها.
صمت لحظة ثم قال بصوت حذر وكانه قرأ حجم ذلك الحديث على وجهها: وواضح إن السر إللي جواكي كبير، لدرجه لو اتقال فيه حاجات كتير هتتغير.
هزت رأسها بشرود: هو فعلا لو قولته فيه حاجات كتير هتتغير، بس أنا خايفه عليه وخايفه من رد فعله، الحاجة دى لو عرفها ممكن يتجنن، ويولع في الدنيا كلها أنا مش ببالغ.
هز رأسه بتأييد: عندك حق فعلا سليم لما بيثور بيبقى شخص تاني تماما وعلشان كده إحنا محتاجينه يهدى لأول، هو كان ماشي بخطوات كويسة جدا، بس إللي حصل وجعه، وخيب أمله، بس أنا واثق إنه قوى وهيعرف يقوم نفسه تاني.
ثم تنهد وهو يبتسم بأسى: ومع ذلك، عجبني موقفه الأخير جدا، يمكن قال كلام في لحظة غضب، لكن إللي خرج منه وقتها عجبني، وحسيته إنه كده بدأ يحبك صح.
نظرت له بإستفهام حذر: ليه هو قال ايه؟
ابتسم وهو يقول بهدوء: دي اسرار بيني وبين مريضي، والسر إللي أنتِ مخبياه ده، ممكن تقوليه ليا الأول، وأنا أساعدك تتشجعي وتقوليهوله، بس طبعا مش دلوقتي لما تبقي مستعدة.
ثم اعتدل في جلسته وقال بإعجابٍ صادق: على فكرة يا ماسة أنتِ شخصية قوية جدا، وسليم فعلا محتاجلك جنبه.
ارتسمت على شفتيها إبتسامة مستخفة: أنا قوية؟
أومأ بتأكيد: أيوة قوية، إللي تمر بكل إللي أنتِ مريتي بيه ولسة واقفه على رجليها، ده إنسانة قوية جدا.
ثم أخذ نفسا عميقا وقال بعملية: إحنا هنقعد مع بعض كتير الفترة الجايه، بس عايز اطمنك أنت مشكلتك أخف من سليم بكتير، لإن انت مشكلتك صدمات ومواقف مش قادرة تتخطيها، يعنى مجرد اضطراب نفسي من الصدمات اللى اتعرضتيلها ودى سهل الاستشفاء منه إن شاء الله، وإحنا هنمشيها خطوه خطوه مع بعض.
هزت رأسها، وقالت بنبرة مترددة: يعني أنت رأيك محاولش اتكلم مع سليم دلوقتي؟
هز رأسه: لا أستني يومين، خليه يهدى الأول، لحد ما تحسي إنه مستعد للكلام.
وقفت ترتب ملابسها بتوتر، وهي تقول: شكرا لحضرتك يا دكتور.
أجابها بنبرة عملية وهو يمد لها بورقة صغيرة: وده واجب بسيط عايزك تكتبي كل مشاعرك ناحية سليم، سواء زعل أو حب أو خوف، كل حاجة حتى لو بسيطة اكتبيها كأنك بتحكي لنفسك، ولو حصل حاجة تستاهل نتكلم فيها، تعالي خلال الأسبوع ده نحكي سوا، وطبعا لو اتصالحتوا تعالوا مع بعض.
ثم تابع بنبرة عمليه: وزي النهاردة الأسبوع الجاي إن شاء الله أشوفك.
أمسكت الورقة بإبتسامة خفيفة: تمام، شكرا لحضرتك مره تانيه.
فقام يصافحها بإبتسامة، وقال بصوت واثق: أنا إللي بشكرك يا ماسة، خلي بالك من نفسك، ومن سليم.
هزت رأسها بخفة، ثم ألتفتت نحو الباب، وغادرت بخطوات هادئة بينما ظل هو يراقبها بابتسامة لم تفارق وجهه، كأنه يرى في خروجها بداية جديدة.
قصر الراوي، الرابعه عصرا
غرفة ياسين.
وخلال اليوم اشتد المرض علي ياسين، فتناول بعض الأدوية واحتسى مشروبات دافئة، ولم يهتم به أحد، سوى الخدم، وهذا كان طبيعيا في العائلة؛ لم يشعر أحد بأنه مريض أو حتى موجود في القصر، لم يخرج من غرفته طوال الوقت.
دخلت هبة إلى الغرفة وهي تتساءل بلهفة مصطنعة: ياسين عامل إيه دلوقتي؟
فتح عينيه بصعوبة ثم اغمضهما مجددا من شده التعب، وقال بصوت مبحوح: تعبان خالص، مش قادر.
وقفت بجانبه وقالت: طب أجيبلك دكتور؟
هز رأسه معترضا: لا لا، أنا خدت دوا، وهبقى كويس.
قالت وهى تغادر الغرفه: طيب، أنا هروح أشوف البنت وبعدين أجيلك.
خرجت لتطمئن على نالا، ثم عادت بعد قليل حاملة صينية عليها شوربة، وقالت: خليتهم يعملولك شوربة.
وضعتها على الكومودينو بجانبه، لكنها لم تقم بمساعدته على الجلوس أو الاعتدال، وقالت بإبتسامة خجولة موضحة: معلش يا ياسين، أنا مش عايزة أقعد جنبك عشان متعديش، والبنت أنت عارف إن مناعتها ضعيفة.
قال وهو يحمل الصينية ويضعها على قدمه: ولا يهمك، عادي، حتى متقعديش معايا في الأوضة، روحي أقعدي معاها.
هزت رأسها نافيه: لا مينفعش أسيبك لوحدك.
هز رأسه بهدوء، وهو يتناول الشوربة: لا لا، روحي.
اومأت بإيجاب وهي تضع الهاتف بجانبه: طب بص التليفون جنبك اهو، علشان لو عايز تكلمهم تحت أو حاجة، وأنا كمان هرجع أطمن عليك بعد شوية، ألف سلامة عليك.
رد عليها بنبرة متعبه: الله يسلمك.
غادرت، وبدأ هو بتناول طعامه ببطء، عيناه تكاد تنغلقان من التعب، وما هي إلا لحظات قليلة حتي دخلت الخادمة تحمل كوب يانسون، وضعته على الطاولة بجانبه، ثم مدت له الدواء، فقبض على الكوب بيد مرتعشة وتناول الدواء، ثم تمدد على الفراش بارهاق وتعب.
ومع مرور الوقت، شعر بتحسن تدريجي، وانخفضت حرارته قليلا، لكن قلبه ظل مثقلا بشعور غريب بالوحدة، كأن الجدران حوله تهمس بعدم اكتراث أحد لألمه، فهبة التي يفترض أن تكون ملاذه، لم تطمئن عليه إلا نادرا، نظرة سريعة هنا أو هناك، دون شعور حقيقي بما يمر به، كل ذلك جعله يشعر وكأنه مجرد ظل لا أهمية له عندها
فيلا عائلة ماسة، السادسة مساء
غرفة نوم مجاهد وسعدية
كان مجاهد ممددا على الفراش، وجهه شاحب، وماسة تجلس بجانبه وتمسك يده بحنان، بينما تجمع حولهما إخواتها وسعدية.
ماسة بإنفعال: عيب عليكم بجد! إزاي محدش يقولى إن بابا تعبان، بقي أجي واعرف بالصدفه؟!
ابتسم مجاهد بخفوت: يا بنتي دول شوية برد، بس أبوكي كبر بقى وشوية البرد بقوا يرقدوه، خلاص بقي حسن الختام
نظرت إليه ماسة بحدة: أوعى تقول كده تاني يا بابا، والله هزعل منك!
تدخلت سعدية بتوضيح وحنو: الحمد لله يا بنتي هو بقى كويس اهو، إحنا مكناش عايزين نقولك علشان متقلقيش، وإحنا عارفين إنك تعبانه فمحبناش نزود عليكى.
اومأت بإبتسامة: ماشي، هعديها المره دى، بس لو اتكررت تاني هزعل منكم بجد
ثم أشارت نحو اشقائها، وقالت بنبرة حادة معاتبة: وبعدين تعالو هنا أنتم الاتنين، أنتم أزاى محدش فيكم فكر ييجيلي! غير مرتين بس، حتى بعد ماخفيت؟! طب ماما قاعدة مع بابا، وسلوى عندها شغل، إنما إنتم إيه؟!
عمار ببرود وهو يشيح بنظره بعيدا عنها: أنتِ عارفة إحنا مبنجيش ليه يا ماسة.
نظرت له بإرتباك: بس أنت جايلي أنا، مش جايله هو.
زفر بغضب بعينين مثقلتين بالحزن: مش طايق أشوفه، كل ما بشوفه بفتكر إزاي رفع المسدس علينا! والرصاصة إللي ضربها عليا لما لفيت ضهري، ومنعه إننا نشوفك سنة؟!
سعدية بتهكم وهي تلوح بيدها: ولازمته إيه الكلام دى دلوقتي.
تدخل يوسف بنبرة هادئة: فعلا يا عمار، مش وقته، حمد لله على سلامتك يا مسموسة.
ثم أضاف بإبتسامة موضحة: بس والله كنت مشغول، أنتِ عارفة علينا جمعيات، وبصراحة كنت خايف أقول كلمة قدامه وتحصل مشكلة.
تنهدت وهي تؤمئ براسها: ماشي عموما إحنا لينا كلام مع بعض كتير في موضوع سليم.
نظر لها عمار بريبة: شكلك بتفكري تسامحيه.
ردت سعدية بتهكم حاد: ومتسامحوش ليه يا عين أمك؟ مش جوزها.
ثم نظرت لمجاهد باستهجان: متقول حاجة يا راجل!
مجاهد بصوت متعب: يا ابني، ملكش دعوة بأختك، تعمل إللي هي عايزاه، وبعدين متسامحوش ليه، ما الراجل بقى كويس!؟
أشار لها عمار بنبرة قاسية: أعملي إللي أنتِ عايزاه، بس طول ما أنتِ مع سليم أنا عمري ما هدخل بيتك تاني.
قالت بتأثر وصوت مبحوح: عمار أبوس إيدك، أنا تعبانة والله، أهدى شوية عليا.
قاطعتها سلوى وهى تتساءل: أنتِ أصلا كنتي فين النهاردة؟
تنهدت ونظرت لها وما زال تأثير حديث عمار واضح عليها: كنت عند الدكتور النفسي بتاع سليم، علشان اتابع معاه لحد ما ابقي كويسه.
ربتت سعدية على قدمها بحنان: إن شاء الله يا حبيبتي تبقي كويسة ويحفظك ربنا أنتِ وجوزك، يارب، الا صحيح هو عامل إيه دلوقتي؟
هزت راسها بابتسامة حزينة: الحمد لله كويس.
ثم زادت ابتسامتها اشراقا وهي تضيف: هو أنا مقولتلكوش مش سليم عمل العملية، وهو ده إللي خلاني أتخبطت ووقعت على دماغي..
يوسف بصدمة: يعني إنتي فعلا اتعصبتي على سليم عشان مقالكيش إنه عمل العملية؟
أومأت برأسها بإيجاب مفسرة: أيوه، كنا بنتكلم واحنا واقفين على السلم، وفجأة قالي إنه عملها من غيري، فاتجننت ومن عصبيتي اتكعبلت ووقعت وأنا بشد ايدى منه!
ثم أضافت بحزن وهي تمد وجهها: أصل العملية دي كانت خطيرة، ونسبة النجاح فيها قليلة، بس الحمد لله عدت على خير، وهو دلوقتي كويس، أنا ساعتها بس اتجننت لما افتكرت إن كان ممكن مشفهوش تانى.
وجه مجاهد نظراته لأبناءه بعتاب: شوفتوا بقى؟ إن جوز أختكم مكدبش.
قلبت سعدية شفتيها يمينا ويسارا وهي تقول بسخرية متهكمة: أنا أصلا معرفش إيه إللي كان في دماغكم يوم ما كذبتوه، بقى سليم الراوي هيخاف مننا ويكدب؟!
نظرت لهم ماسة بتعجب: هو أنتم فعلا اتهمتوه؟
هزت سلوى رأسها بايجاب: بصراحة اه، ومكناش مصدقينه، وكنا شاكين إن هو اللى عمل فيكى كده.
هزت ماسة راسها بسرعة موضحة: حرام عليكم والله العظيم، ملوش ذنب في أي حاجة.
مالت سعدية عليها وهي تتساءل: سيبك منهم وقزلى لي، أنتِ لسه زعلانة مع جوزك؟
نظرت لها للحظة بصمت، والدموع تلمع في عينيها، قالت بنبرة مهتزة: أنا حاولت أكلمه كتير، بس هو مش بيرد عليا، والدكتور قالي أسيبه يهدي شوية.
سعدية بلوم: الصراحة عنده حق، كلامك وجعه، بس أسمعي كلام الدكتور.
ضحك مجاهد وهو يمازحها: إيه يا وليه مش هتعملي لبنتك أكل؟
سعدية ضاحكة: عينيا، هقوم اعملها كل اللى بتحبه، أنت هتقعدي معانا لحد بالليل يا ماسة صح؟
هزت رأسها إيجابا بإبتسامة: أيوة، بس متتعبيش نفسك مش قادرة أكل حاجه
ثم وضعت يديها على بطنها: مش عارفه ليه بطني وجعاني بقالها فتره ومليش نفس أكل.
وضعن سلوى يدها على كتفها: ألف سلامة عليك يا حبيبتي.
هزت رأسها قائلا: الله يسلمك يا سوسكا.
قضت اليوم مع عائلتها في أجواء دافئة، ومع حلول المساء، غادرت عائده إلي فيلا المعادى المطله علي النيل.
في السيارة
كان عشري يجلس بجانب السائق، وماسة في الخلف.
عشري وهو يلتفت للخلف: إحنا رايحين الفيلا الجديدة إللي على النيل، الملك إدانا أمر بكده، وقال إنك حابة تروحي هناك، ولا غيرتي رأيك؟
ابتسمت وهي تهز رأسها نافيه: لا مغيرتوش، بس الحاجات بتاعتي مين هيجيبها؟
أجابها عشري موضحا: أكيد سحر جابتهالك.
ابتسمت وهي تهز رأسها: خلاص أطلع علي هناك.
……………
فيلا سليم وماسة الجديد، الثامنة مساء
استقبلتها إليزا بابتسامة، وقالت بعربية متكسرة: حمد لله على السلامة، مدام.
أجابتها بخفة: الله يسلمك، هو سليم بيه رجع؟
هز رأسها نافيه: لا، مدام.
هزت رأسها وقالت باشتهاء وهى تضع يدها على معدتها: طب أنا هطلع أوضتي ارتاح شويه علشان تعبانة، وأنتِ هاتيلي شوية فاكهة، نفسي أوى في فراولة وموز.
قالت كلماتها وتقدمت خطوة، ثم عادت مرة أخري تنظر لإليزا من أعلي لأسفل بغيره مبطنه: بقولك إيه يا حببتى ابقي طولى الجيبه دى شويه والبسي بكم، لو ناقصك حق القماش اديهولك بس مشوفكيش بالمنظر دى تانى، وابقي بلغي التانيه نفس الكلام.
ثم غادرت بخطوات غاضبه نحو غرفتها، وهي تمتم بكلمات غير مفهومه، جلست على حافة الفراش بغضب وهي تقول: رايح جايبلى اجانب صغيرين وحلوين علشان يفرسني، ماشي يا سليم أن ما وريتك، أبقي المحك بس بتبص على واحده فيهم.
قامت لتبدل ملابسها، وبعد فترة جلست أمام التلفاز تشاهده دون تركيز، فالأفكار كانت تعصف بداخلها كالأمواج، وهي تتذكر حديث الطبيب معاها.
وفجأة شعرت بوجوده في الغرفة المجاورة، فزفرت بضيق، ونهضت تتحرك في الغرفة ذهابا وإيابا، قلبها يتصارع بين القبول والرفض: هل تستمع إلى كلام الطبيب وتبتعد؟ أم تستمع إلي قلبها الذي يريد الاطمئنان عليه؟ قررت أخيرا أن تتبع نصيحة الطبيب، فعادت وجلست على الفراش، تتنفس ببطء محاولة تهدئة أنفسها.
في الغرفة الأخرى، عند سليم
غير ملابسه لملابس منزليه مريحه، وجلس على الأريكة، يحاول مقاومة خيالات ماسة التي تطارده، فأغمض عينيه لبرهة، ثم فتحهما يراقب الباب بتوجس، يخشى أن تأتي كما في الأيام السابقة، لكن الدقائق مرت، ولم تطرق الباب، فحمد الله على ذلك، فهو لم يكن مستعدا لأي مواجه اليوم، رغم أنه يشتاق إليها بشدة.
رفع يده على صدره، كما لو كان يحبس شعوره بداخله، فياليتها تشعر بما يشعر به من وجع وحزن، فصمته ليس عقابا لها، بل تعبيرا عن ألمه الداخلي.
وفجأة ارتفع صوت طرق الباب، فنظر إليه بتوجس، وزفر بارتياح، حينما دخلت سحر بخطوات هادئة، وهي تحمل صينية صغيرة: حمد لله على سلامتك يا سليم بيه.
ابتسم بخفة: الله يسلمك يا سحر.
سألت بخفة: هتتعشى ولا زي كل يوم؟
أجاب بإيجاب: ممكن تجيبيلي حاجة بسيطة كده.
صمت للحظة، ثم سألها وهو يبتلع ريقه: هي ماسة في أوضتها صح؟
اومات براسها بإيجاب: أيوه، من ساعة ما جات وهي فوق، عملتلها شوية فاكهة واكلتهم بألف هنا.
هز رأسه بإيجاب: تمام يا سحر.
اقتربت منه بحنان، وسألته بعطف: هو أنت كويس دلوقتي يا بيه؟ أصل أنا كنت شايفاك الصبح تعبان.
أجابها بهدوء: لا مش تعبان الحمد لله، هو بس شوية إرهاق من ضغط الشغل
ابتسمت بخفة، وقالت بدعاء صادق: ربنا يكون في عونك، ويديك الصحة، ويحققلك كل ما تتمناه، ويفتحلك الأبواب المقفولة يارب
ابتسم وهو يقول بتهذيب: آمين، شكرا يا سحر. روحي أعمليلي كده حاجة خفيفة آكلها بقي.
اومأت برأسها، والتفت لتغادر، ولكن قبل أن تخرج سألها: البنات اللى جم كويسين معاكي؟ أنا نسيت أسألك معلش.
أجابته بتأكيد: آه، كويسين يابيه، بالأذن.
غادرت إلي المطبخ، بينما أسند هو ظهره على الأريكة، وهو ينظر لسقف الغرفة بشرود.
على الطرف الآخر من الباب المشترك، كانت ماسة ملاصقة بأذنها للباب، تحاول ألتقاط كل همسة وكل نفس، وعندما سمعت أنه بخير، وأنه سيتناول طعامه، شعرت وكأن ثقلا قد أنحسر عن صدرها، وانسكبت فيها موجة من الطمأنينة، فاستدارت وجلست على الفراش، وضمت ركبتيها إلى صدرها، كأنها تحضن قلبها بيديها، شاعرة بالهدوء والسكينة يتغلغلان في عروقها، بعد هذا الاطمئنان البسيط الذي صار فجأة كنسمة دافئة تعبر روحها.
💞___________بقلمي_ليلةعادل
مجموعة الراوي التاسعة صباحا
مكتب ياسين
كان ياسين يجلس خلف مكتبه، بجانبه الاسيستنت الجديدة، تناقش معه بعض الأمور الخاصه بالعمل، بعمليه ورتابه، زفر بملل وهو يصيح بضجر: ولما أنا هعمل كل دى أومال حضرتك موجوده هنا بتعملى ايه، إيه مش عارفه تشوفي شغلك ؟!
كادت أنا ترد وتوضح له، لكن قاطعها دخول رشدى بخفته ومرحه المعتاد: مالك يا عم ياسين صوتك جايب آخر المجموعه ليه، دى أنت كنت أليف ومحدش بيسمعلك صوت.
رمقه ياسين بصمت، بينما قالت مروة توضح له: والله يا مستر رشدي أنا مش عارفه أعمل إيه تانى مفيش أي حاجه في شغلى عجباه وأنا والله ما مقصرة.
رمقها رشدى بنظره جانبيه قائلا: طب روحي أنت دلوقتي وسبينا لوحدنا.
غادرت مروى، بينما جلس رشدي على الكرسي المقابل، وأسند ذراعيه على طرف المكتب، يراقب ملامح ياسين الحزينه وهو يتساءل باهتمام: مالك كئيب كده؟ فيه إيه؟ وبعدين فين القطة الشيرازي بتاعتنا؟
رفع حاجبه بإستغراب خفيف: القطة الشيرازي؟
ضحك رشدي بخفة وهو يومئ برأسه: أقصد لوجين.
تنهد بعمق، وأخذ يدير القلم بين أصابعه بعصبية دون أن يرفع عينيه عن الورق: سابت الشغل من فترة.
مال رشدي للأمام قليلا، صوته أنخفض وصار أكثر جدية: هي فعلا بقالها فترة مختفية من ساعة ما أنت سافرت..
ثم نظر إليه نظرة فاحصة، وقال بتساؤل: طب إيه إللي حصل؟ كنت حاسس إن الدنيا تمام بينكم، وفجأة هي اختفت، وأنت رجعت لمراتك؟! إزاي؟!
تجمدت يده فوق الأوراق، كأن السؤال لامس جرحا لم يندمل بعد، ثم قال بهدوء متماسك: متشغلش بالك.
مال رشدي برأسه قليلا، وحاجباه مرفوعان بإهتمام ممزوج بأستغراب: لا، هسألك. هو أنا مش بقولك كل حاجة؟ أحكيلي يمكن أديك نصيحة ولا مش واثق فيا.
تنفس ببطء، وأسند ظهره إلى الكرسي، عيناه زائغتان كأنه يفتش عن الكلمات المناسبة، ثم هز رأسه بإيجاب، وأخذ يروي له ما حدث، ظل رشدى يستمع إليه بصمت، بعينين متسعتين ونظراته تتغير من الدهشة إلى الضيق، وحين انتهى ياسين، أطلق رشدي زفرة حادة، ونظر إليه باستغراب ممزوج بالاستنكار.
رشدي باستهجان: إيه يا عم ده؟! ما تطلقها وتخلص! روح للي قلبك مرتاح معاها، إيه المشكلة؟
ثم رفع يده بإشارة حاسمة: مش هتبقى أول ولا آخر واحد يطلق، طول ما أنتم سوا بتتخانقوا، وحياتكم معقدة، لا هي مبسوطة ولا أنت مبسوط! طب إيه لازمتها؟!
مال إلى الأمام أكثر، وتحدث بعقلانية وهدوء: الواحد مبيتجوزش علشان يعاقب نفسه ويعيش تعيس، بيتجوز عشان يسعد نفسه ويستقر!
توقف لحظة، ثم أكمل بنبرة أكثر حزما، فيها جدية صافية: عاجبك يعني تعيش مع مراتك غصب عنك؟ طلقها يا ياسين…
نظر له بثبات وأضاف متعجبا: أنا أصلا مش فاهم ليه اديتها فرصة تانية من الأساس.
ياسين موضحا بنبرة مثقلة: ما أنا قولتلك لوجين رفضت عرضي، ومفاتش وقت طويل لقيت هبة بتكلمني، بتقولي “خلينا ناخد فرصة”.
تنهد بعمق، مرر يده على وجهه: وقتها لقيت كلام سليم بيرن في وداني، إني لازم أدي لهبة فرصة، واديني أهو بقالنا أسبوع تقريبا.
رفع عينيه إلى السقف لحظة، كأنه يهرب من أعتراف صعب، وقال بنبرة يغلبها الحيرة: بس أنا مش مرتاح، ولا مبسوط.
زم شفتيه بضجر: وهبة هي هبة مفيش تغيير.
اقترب رشدي بجسده للأمام قال بهدوء: بص أنا يمكن مش أنسب حد ينصك، بس اللى أقدر أقولهولك متعملش حاجة غصب عنك، أعمل إللي أنت مرتاحله وبس.
صمت لحظة، عيناه تغيم بشيء من الذكرى، قبل أن يقول بنبرة ثقيلة خرجت من عمق مجروح: بلاش تخلي بنتك تبقى مشوهة زينا…
حرك رأسه ببطء، كأنه يري ماضيه أمامه: كفاية المناظر إللي شايفها حواليك، أمك عاشت مع أبوك عشان المصلحة، عشان دايما تفضل “فايزة” إللي فوق الكل، مرات عزت الراوي، وأبوك؟ كل همه كان يكبر الفلوس والإمبراطورية، واحنا؟ إحنا الستة دفعنا التمن، وطلعنا مشوهين، دول حتى معرفوش يعلمونا أزاى نحب بعض.
رفع عينيه نحوه بثبات مرير، وأكمل: بلاش تعمل في بنتك كده، حتى لو الصورة شكلها مختلف، أي بيت فيه زوج وزوجة مبيحبوش بعض، وعلاقتهم ميتة، أكيد ده بينعكس على الأولاد، حتى لو قولت “إحنا مختلفين عن بابا وماما”،صدقني بنتك هتدفع التمن، هتعيش في بيت كله صمت وجليد، وأنتم فاكرين إنكم بتعملوا الصح وأنتم بتضيعوها وأنتم مش واخدين بالكم.
أغمض ياسين عينيه للحظة، كأن ثقيل الحديث عليه أكثر من احتماله، ثم قال بصوت واهن مبحوح: ما أنا برضو مش عايز أظلم هبة، عايز أديها فرصة حقيقية، بس مشكلتي إن دماغي تعباني أوي، مش قادر أشيل لوجين من تفكيري وحشتني، ومشغول عليها.
ثم خفت صوته بانزعاج: ودى في حد ذاته مضايقنى لأن مجرد تفكيري فيها دى خيانه لهبة، وأنا مش عايز أكون راجل خاين، وفي نفس الوقت عايز أدي فرصة لهبة، ومش عارف أعمل ايه؟!
رفع نظره نحو رشدي، وعيناه تلمعان بإرتباك حزين، كأنه يطلب منه مخرجا لا وجود له.
رشدى بتأكيد: أعمل اللى قلبك مرتاحله، صدقني دى هيبقي أفضل ليك وليها ولبنتك كمان.
هز ياسين رأسه إيجابا ببطيء، كأنه يستوعب نصائحه واحدة تلو الأخرى، وهو ينظر أمامه بشرود.
💞___________بقلمي ليلةعادل
في مستشفي حكومية، الواحده ظهرا
في أحدي ممرات المستشفي، كانت آلاء تجلس على أحدي المقاعد المعدنية، رأسها منحني للأمام، ودموعها تتساقط في صمت، كانت تحاول أن تخفي بكاءها بمنديل صغير، لكن ارتجاف أناملها فضحها.
مر مصطفى من الممر بخطوات سريعة، يحمل ملفا بين يديه، وحينما استمع لبكاء أحدى الفتايات، اقترب منها متسائلا بقلق: بتعيطي ليه؟
رفعت عينيها المحمرة من البكاء نحوه بصمت، فاتسعت عيناه بدهشه وهو يتساءل: مش أنتِ البنت بتاعة تشخيص امبارح؟
هزت رأسها إيجابا، وهي تمسح دموعها بكفها المرتجف، وقالت بصوت مبحوح باكي: أيوه يا دكتور أنا آلاء.
فتساءل باستغراب: وبتعيطي كده ليه يا آلاء؟
ثم أضاف بمرح محاولا تلطيف الأجواء: المريضة إللي شخصتيها امبارح ماتت ولا إيه؟
ضحكت رغما عنها، وغطت فمها بيدها بخجل، فابتسم وقال: أيوة كده أضحكي، وقوليلي إيه إللي حصل؟ مالك؟
أجابته بنبرة باكية: مس شيرين خصمتلي يومين.
تساءل بتعجب: وخصمتلك يومين ليه؟
تتحدثت من بين شهقاتها: عشان خلصت خلصت علبتين من شكاكة اختبار السكر ومرضتش استخدم شكاكه واحده لكل المرضي زى ما بيعملوا، فقعدت تزعقلي وتقولى إني بهدر موارد المستشفي وخصمتلي.
اتسعت عينيه، ورفع صوته بدهشة خفيفة: يخرب عقلك! العلبتين دول بيقعدوا معانا شهر وزيادة! خلصتيهم في يوم واحد أزاى؟
حاولت التبرير لنفسها، فشرحت له بإستهجان: عشان مينفعش نستخدم نفس الشكاكة لكل المرضى!
ثم أضافت بأعتراض حاد، وهي ترفع يديها: كل مريض لازم يبقى ليه الشكاكه بتاعته علشان العدوى! أنا قولتلها كده، لإن ده إللي درسته وده إللي أنا مقتنعة بيه وحتى جبتلها الكتاب ووريتها بعينيها إن دى الصح واللى المفروض يتعمل، وحتي من غير كتاب بالمخ كده يا دكتور مينفعش والله، ولا يعني علشان هما ناس غلابة ومش عارفين يتعالجوا في مستشفيات خاصة نتعامل معاهم كده..
بدأ صوتها يرتجف والدموع تتجمع في عينيها مره أخرى وهي تكمل: ماما جالها فيروس C وبتتعالج بسبب الموضوع ده، إزاي قسم كامل يستخدم نفس الشكاكة يا دكتور؟ أنا استحالة أعمل كده واضر الناس.
تغيرت ملامحه، ونظر لها نظرة مطولة فيها تقدير حقيقي، وقال بهدوء صادق: أنا مش مختلف معاكي، وأنتِ صح.
ثم تنهد وأكمل: بس يا آلاء، إللي المفروض يحصل مش دايما بيحصل في أرض الواقع، أنتِ هنا في مستشفى حكومي، والموارد بتاعتها محدوده فغصب عننا بنشتغل بالإمكانيات إللي موجودة.
رفعت رأسها برفض وإصرار: يعني أأذي الناس عشان الإمكانيات قليلة؟
هز رأسه موضحا: لأ طبعا بس لازم نوازن، يعني ممكن نعقمها برشه كحل قبل ما نشك بيها حد تاني.
رفعت حاجبها بإعتراض: بس نسبة الخطر والإصابة بالعدوى، هتفضل كبيرة برضو يا دكتور.
ثم تابعت وهي تمسح دموعها بخفة: وبعدين هي أصلا بتتلككلي وحاطاني في دماغها من أول يوم!
ابتسم لها متسائلا بخفة: ليه؟ حصل إيه تاني؟
استرسلت باستهجان واضح، وهي تلوح بيدها في الهواء: إمبارح برضو كانت هتغيبني، والدكتورة نرمين الله يسترها هي إللي وقفت معايا، وكل ده عشان خمس دقايق!
ثم أضافت بسرعة، وكأنها تريد أن توصل كل تفاصيل الظلم: والله يا دكتور، أنا كنت واقفة تحت من بدري عشان أمضي بس الدنيا زحمه، وأول ما دخلت القسم قالتلي أنتِ اتأخرتي خمس دقايق، يبقى غياب! وهتشتغلي برضو؟!
ثم ابتسمت إبتسامة صغيرة، وكأنها تلتمس العدل: بس الدكتورة نرمين ربنا يكرمها شهدت بالحق وقالتلها “أنا شايفاها واقفة من بدري قدام مكتب التمريض علشان الإمضاء” والحمد لله اتحسبلي.
ثم رفعت كتفيها بإحباط: بس هي مش راضية تسيبني في حالي ومن أول ما جيت، وهي بتعاملني بطريقة وحشة كأني قتلتلها قتيل.
هز رأسه بتفكير، وقال بهدوء: أنتِ جديدة هنا صح؟!
هزت راسها بإيجاب: أيو يا دكتور، بقالي أسبوع بس.
فقال بمزاح: أسبوع؟ وكنتي هتتغيبي امبارح واتخصملك يومين النهاردة؟ ده رقم قياسي والله.
ضحكت بخجل وهي تنظر للأرض: أعمل إيه يا دكتور؟ أبيع ضميري؟ وأذي الناس يعني؟.
ابتسم وقال بصوت هادئ فيه دفء واضح: خلاص يا آلاء، متزعليش نفسك، وأهدي كده، وصلي على النبي.
ثم مد يده وقدم لها منديلا: خدى أمسحي دموعك ومتعيطيش، أنا هكلم شرين بنفسي، وهشد عليها شوية علشان متضايقيش تاني.
رفعت رأسها بسرعة، وقالت توتر: لا لا بالله عليك يا دكتور، بلاش! هتفتكرني بشتكي.
ابتسم وهو يهز رأسه مطمئنا: ملكيش دعوة، هي أصلا عاملة مشاكل مع كذا حد قبل كده، وأنا نبهتها كذا مرة، بس دماغها ناشفة، هي في يوم من الأيام كانت زيك فلازم تبقى رحيمة بيكم.
ثم أشار بإيده ناحية الحمام: يلا أغسلي وشك، وروحي كملي شغلك.
قالت بابتسامة باهتة وهي تمسح دموعها: حاضر يا دكتور، شكرا بجد.
راقبها وهي تبتعد بخطوات مترددة، وارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة دافئة، فيها شيء من الراحة.
مكتب مصطفى
كان جالسا بهدوء خلف مكتبه، عيناه متجهتان نحو الأوراق أمامه، وبعد لحظات، دخلت شيرين، تحمل ملامح التوتر.
رفع عينيه نحوها، وقال بنبرة حادة وتهكم خفيف: إيه يا شيرين؟ مزعلة البنات ليه؟ كل شوية بسمع شكوى منك، وكده ما ينفعش.
رفعت كتفيها بتوتر: يا دكتور أنا معملتش حاجة، هما ال
قاطعها بحزم: لا عملتي!
زمت شفتيها وأضافت بتبرير خافت: دول بنات متدلعة يا دكتور، ولازم أشد عليهم.
رفع أحد حاجبيه متسائلا: وآلاء برضو من البنات المتدلعة؟
حاولت الدفاع عن نفسها: دي بنت لسانها طويل وبترد عليا.
مصطفى بعينين صارمتين: بترد عليكي بمعلومه اتعلمتها، والمفروض إنك عارفه قلة خبرتها يبقي تعلميها مش تخصميلها.
شيرين بنبرة ساخرة: فهمتها؟ وقعدت تقولي “أصل ماما مش عارفة مالها…”
قاطعها بنبرة صارمة وحادة: شيرين أتكلمي بأدب، وأوعي تقللي أبدا من جرح أي إنسان…
ارتجفت قليلا، ثم قالت بتقليل: يا دكتور دي حتة بت بيومية، ممكن تمشي بكرة، هي بس شغالة واسطه علشان الدكتور محسن موصي عليها، ال إيه علشان من أوائل دفعتها.
رفع صوته قائلا بحسم: شيرين أنا عايز أسمع كلمة حاضر، وملكيش دعوة ببنات التمرض الصغيرين ولا تحاولى تستقوي عليهم تاني، أوعى تنسى إنك في يوم من الأيام كنتي زيهم، فمتضطرنيش أقول لدكتور محمد بكر، ولو سمعت إنك ضايقتي ألاء أو غيرها بعد كلامي، العقاب هيزيد. أنا مش أول مرة أنبهك واقولك خليكي رحيمة على البنات، هما لسة صغيرين، وكلنا كنا كده، مطلعيش عقدك النفسية عليهم، ده آخر إنذار ليكي، يلا أتفضلي.
ضغطت على أسنانها بشدة، قبل أن ترفع رأسها وتخرج من الغرفة، بخطوات غاضبه تطوي الأرض تحت قدميها.
امام مجموعة الراوى، الخامسة مساء
نرى نور الاسيستنت الخاصة بسليم تتحرك نحو سيارتها، وبمجرد أن فتحت باب السيارة وهمت بالدخول، انفتح الباب الخلفي فجأة، وجلس رجل ضخم إلى جوارها دون، ورجلان آخران تسللا إلى المقعد الخلفي بسرعة خاطفة.
نور بفزع: ايه دى؟! انتم مين؟!
كادت ان تصرخ طلبا للنجدة: لكن وضع أحدهم فواهة مسدسه فوق رأسها.
الرجل بهدوء خطر: اطلعي، وسوقي من سكات.
أمسكت نور المقود، ويداها ترتجفان وقلبها وقع في قدميها وهي تتساءل بارتعاش: طب انتم مين؟ وعايزين مني ايه؟!
الرجل بنفاذ صبر: سوقي وأنتِ ساكته قولت لو باقية على حياتك وعايزه تعيشى.
نور بفزع وصوت لاهث من الخوف وهى تهز رأسها إيجابا بسرعة: حاضر حاضر.
قادت السيارة باضطراب، تتبع تعليماتهم حتى وصلت إلى مخزن قديم في أطراف المنطقة.
توقفت السيارة، وفتح الباب وسحبت نور إلى الخارج، بخطوات متعثرة على الأرض الخشنة.
تساءلت نور بزعر وهي تتلفت حولها: عايزين مني إيه؟! أنا معملتش حاجة!
دفعها الرجل بعنف وهو يقول : امشي وانتِ ساكتة.
دفعت نحو باب حديدي، فتحه أحدهم، وزجوا بها إلي الداخل حيث كانت الأضواء خافتة، والهواء محمل برائحة غبار قديم.
وفي منتصف المكان كان عزت واقفا، يديه خلف ظهره، وكتفيه ثابتين، ونظره حاد يخترق السكون.
وحينما رأته تجمدت نور مكانها، واتسعت عيناها بدهشة ورعب.
وقالت بنبرة ملتاعه وخوف: ع… عزت باشا؟!
اقترب منها خطوة، وقال بلهجة ثابتة لا تحمل أي شفقة: بصي يا نور أنتِ بتدوري على نانا صح؟ هي صاحبتك وحقك تقلقي عليها، بس من رأيي تبطلي تسألي كتير وخليكي في حالك أحسن.
نور بتوتر وهى تنظر من حولها: حضرتك تقصد إيه؟! انا مش فهمه حاجة؟!
رفع عزت حاجبه، وصوته ازداد برودة كحد السيف: أصل لو مبطلتيش تدوير عليها، هتلاقي نفسك بتدوري على ابنك و جوزك كمان اللى اختفوا في ظروف غامضه، ومحدش عارف راحوا فين، ايه رايك؟!
ارتعشت نور، وقالت بتوسل وخوف: لأ لأ، ابوس ايدك يا باشا، ملكش دعوة بابني وجوزي، أنا مش بدور على حد، وحاضر مش هسأل عليها تانى، بس ملكش دعوة بابنى وجوزي.
أشار بيده بحركة خفيفة للرجال وقال وهو ينظر في عينيها بتهديد خطر: طول ما أنتِ ساكتة هيفضلوا بخير، بس ولو فتحتي بوقك، هتتحسري العمر كله عليهم، واضح ولا أعيد تانى؟
هز رأسها بسرعة وبكاء: واضح يا باشا، حاضر والله حاضر، مش هسأل عنها ولا هجيب سيرتها تانى.
ابتسم عزت ابتسامة جانبية باردة: شطورة يا نور،
يلا روحي بقي على بيتك، واعتبرينا متقابلناش.
هزت راسها بسرعه برعب: حاضر يا باشا، بس بالله عليك، اوعى تأذي جوزي وابني.
أشار لها نحو الباب ببرود، فخرجت مسرعة بخطوان متعثرة، ودموعها تهبط بلا توقف، والخوف يلتصق بها كظل ثقيل.
حين اختفى صوت خطواتها، انقلب وجه عزت لابتسامة خبيثة وهو يوجه أوامره ببرود وجبروت لرجال.
عزت بغلظة لرجاله: خلوا عينكم عليها، ولو عملت أي مشكلة؟ أو فكرت تلعب بديلها، خلصوا عليها فورا
قصر الراوى، السادسة والنصف مساء
غرفة ياسين وهبة.
جلس ياسين على طرف الفراش وهو يبحث داخل درج الكومود على دواء للبرد، لم يجده فزفر بإختناق، وفتح درج آخر خاص بهبة، فوجد بداخل بعض عبوات، قلب بينها لعله يجد دواء مناسب يأخذه، وفجأة وقع أمامه شريط دواء يعرفه جيدا، فقبض عليه بشدة حتى برزت العروق في كفه.
خرجت هبة من الحمام مرتدية بيجامتها، وهي تقول:
إيه دى أنت لبست؟ طب عشر دقايق وهبقى جاهزة للعشا، أنا عارفة إن الهانم مواعيد العشا عندها مقدسة.
توقف ياسين فجأة، وألتفت إليها بعينين متقدتين، ورفع ما في يده أمامها، وهو يتساءل بغضب مكتوم، باتساع بؤبؤ عينه الذى غام بسواد خطر: إيه البرشام دى يا هبة؟؟
نظرت له هبه بارتعاش، واتسعت عينيها بتوتر أخفي ملامح وجهها وهي تنظر لما يحمله بين يديه..
تكملة الفصل 3
تساءل بعينين متقدتين بسواد خطر، وهو يرفع يده بشريط الدواء أمامها: بيعمل ايه عندك ده؟؟
اتسعت عينيها بصدمة وهي تنظر لما يحمله بين يديه، وسرعان ما تداركت الموقف قائلة بحدة مصطنعه: أنت إزاي تفتح الدرج بتاعي وتفتش فيه؟ مش عيب؟
ضغط على أسنانه بغضب مكتوم: مش هكرر سؤالي يا هبة.
اهتزت شفتاها للحظة: ده دواء نزيف.
ياسين باستهجان: ما أنا عارف، بيعمل ايه في الدرج عندك؟!
على صوته أكثر وصاح بغضب: انطقيييي!
انتفض جسدها، وقالت بارتباك وهي تتحاشي النظر الي عينيه: كنت باخده من فترة، وبعدين خلاص.
رفع حاجبه مستنكرا: وبتاخديه من فترة ليه؟ ليه تاخدي دوا يسببلك نزيف؟!
أدركت أن لا مفر منه وهو يحاصرها بأسئلته بإصرار، فقبضت على طرف بيجامتها بتوتر، وقالت بسرعة وصوت منخفض: علشان كنت حامل من فترة وسقطت.
اتسعت عيناه من الصدمة: كنتي حامل وسقطتي!!! وده حصل إمتى وازاى؟!
وضحت أنفاس متقطعه: في الفترة إللى كنت بتسهر فيها مع رشدى وبترجع آخر الليل سكران، حصل بينا مرتين وأنا مش عامله حسابي فحملت، إيه نسيت؟! ولا مكنتش داري بنفسك؟!
نظر لها بحدة، وقال بضجر ممزوج بالمرارة: أنا مش ناسي ومش بسأل على الحمل حصل أزاي؟! أنا بسأل أزاي جالك قلب تعملي كده تاني وتقتلي ابننا؟!
أجابته بتبرير زائف: عملت إيه تاني؟ دي مرة واحدة، وإحنا كنا بنتطلق أصلا، ومكنتش متأكدة إني هرجعلك.
أنفجر بحدة وغضب: دي مش المرة الأولى يا هبة بلاش استعباط، أول مرة ضحكتي عليا وقولتي نزفت لوحدي رغم إني كنت فاهم إن الموضوع غير كده، وكنت شاكك فيكي لإنك لما حملتي مكنتيش عايزة الطفل ده.
اتسعت عينيها وحاولت أن ترد، ولكن قاطعها وهو يتابع بغضب مكتوم: متنطقيش ولا تكدبي، أنا جبت الدكتور وسألته وقال كل حاجة، وهو اللى قالي إن الدوا دى كان دوا نزيف، وعديتها بمزاجي..
ثم علي صوته أكثر وهو يصيح بنبرة غاضبة جهورة: لكن تحملي وتعملي كده تاني؟! أنتِ ايه معندكيش قلب! إزاي جالك قلب تقتلي ابنك بدم بارد كده؟!
رفعت عينيها وقالت بحدة: ياسين، وطي صوتك، علشان نعرف نتكلم، ومتتكلمش معايا بالأسلوب ده.
نظر لها بزهول وقال بإتهام لازع: يابجاحتك، أنتِ مينفعش معاكي إلا الأسلوب ده، أنتِ قاتلة ومجرمة، وإللي ساعدك مجرم زيك.
اهتز شيء داخلها، وهبطت دمعة على خدها، وقالت بصوت مكسور مرتجف: أنا مكنتش ينفع أحمل منك تاني، وأنت عارف السبب؟
هز راسه بمرارة: لا معرفش السبب اللي يخلي أم معدومة الضمير والإحساس زيك تقتل ابنها للمرة الثانية!! مفيش أي سبب في الدنيا يخليكي تعملي إللي عملتيه ده.
نظرت اليه بغضب وقالت بحدة لازعة: لا فيه، أنا مش هينفع أخلف منك تاني، وولادي لما يكبروا يلاقوا عيلتهم مجرمين وقتالين قتلة، اعتقد كفايه غلطه واحده ومش هسمح إنها تتكرر تانى، خليك واثق أن كل مرة يحصل حمل هعمل كده.
ضحك ضحكة جافة، وقال ببرود جليدي: غلطة!!! بقي حملك مني بتسميه غلطة!! لا متقلقيش أنتِ أصلا مش هتحملي مني تاني، علشان أنتِ طالق يا هبة.
سقطت الكلمة كالجمر على قلبها، ورنت في أذنيها كقضاء نهائي، فتمتمت بصدمه: أنت قولت إيه؟!
اقترب منها، وقال بحزم كأنه ينطق حكما لا رجعة فيه: بقولك أنتِ طالق يا هبة…
أضاف ببرود وهو يضغط على كل كلمه: أقولهالك تاني علشان تسمعي كويس، أنتِ طالق، طالق، طالق…
مرر عينه عليها بخذلان واحتقار: أنا غلطت لما فكرت أدي واحدة زيك فرصة، أنتِ متستحقيش أي فرص، ولا حتى تستحقي تكوني أم..
تابع بنبرة حاسمة وكأنها تلك المره أخرجت منه الوحش الذي يكمن بداخله: ورحمت ولادي إللي موتيهم يا مجرمة، لأعرفك مين هو ياسين الراوي؟! مش أنتِ بتقولي على أهلي ناس مافيا ومجرمين، حاضر أنا هوريكي الإجرام على أصوله، تلمي هدومك وتروحي على بيت أبوكي ولوحدك!!!
تتساءلت بنبرة مهتزة: يعنى ايه لوحدى؟!
أجابها بهدوء قاتل: يعنى بنتي هتفضل في بيتي مش هتخرج منه، ومش هتشوفيها الا لما يجيلي مزاج.
ارتفع صوتها بنفس حاد، تقاوم الانهيار: أنت متقدرش تعمل كده، القانون معايا وحضانة البنت من حقي.
ضحك ضحكه قصيرة، وقال بسخرية قاسية: قانون!! طب خلى القانون بقي ياخد مجراه، فوقي وشوفي أنتِ بتكلمي مين، أنا ياسين الراوى، وأهلي ناس مافيا زى ما بتقولى، يعنى القانون دى إحنا إللى بنعمله.
حاولت استعطافه بنبرة مهتزه: إللي بتقوله دى يا ياسين مش في مصلحة البنت، وال..
قاطعها بحدة: ملكيش دعوة أنا عارف مصلحة بنتي كويس، في الأول لما اتفقنا علي الطلاق كنت هسيبهالك علشان متبعدش عن أمها، لكن دلوقتي أنتِ مجرمه ومتستحقيش تبقي أم وأنا أخاف على بنتي من واحدة مجرمة قتلت أخواتها بدم بارد وسلبتهم حقهم في الحياة…
نظر لها باحتقار، واشارة بيده بنبرة حازمه: أنا هنزل تحت أطلع بعدها مشوفش وشك، علشان قسما بجلالة الله يا هبة، لو طلعت لقيتك لأخلي الخدم ترميكي بره وهوريكي بقى الوش التاني.
نظرت له بتحدي، وقالت بنبرة لاذعه ترد له أهانته: ده مش وشك التاني دي حقيقتك، وبنتي استحالة تخدها مني.
نظرة اليها نظرة جامدة، وقال بهدوء حاد: مش هعيد كلامي تانى، لو طلعت لقيتك متلوميش إلا نفسك.
غادر مسرعا، وصفع الباب بقوة اهتزت لها الجدران، وبقيت هي في الغرفة تلهث بأنفاس متقطعه، شفاهها ترتجف، وعيونها تلمع بدموع تحاول ألا تسقط، شعرت أنها خسرت كل شيء، ومع ذلك لم تستطع أن تترك ابنتها.
فهرعت نحو الهاتف، وقلبها يخفق بشدة، وبعد قليل قالت بنبرة مرتعشة: الحقيني يا بابا، أنا في مصيبة.
تردد صوت والدها في الهاتف يهدئها: أهدي يا هبة، وفهميني بالراحة إيه اللى حصل…
أخذت تروي له ماحدث وبعد الانتهاء، أجابها بنبرة جامدة: هاتي شنطتك وتعالي فورا.
تشنجت وقالت بارتعاش: أزاي يعني يا بابا بقولك مش عايزني أخد نالا.
كرر بصرامة أكبر: قولت لمي شنطتك وتعالي خلصي.
أغلقت الهاتف وهي تبكي بحرقة، ثم نهضت وأخذت تحضر حقيبتها، وخرجت من القصر وهي تتحرك بسرعة
على الدرج العلوي
وقفت فايزة تراقب خروجها بإبتسامة تمتلئ بالشماتة، ثم هبطت إلي الحديقة، فلمحت ياسين جالسا على أحد المقاعد بحزن يكسو ملامحه وهو يحدق في الفراغ بشرود حزين.
اقتربت منه بنظرات تلوح بالشماته: خير يا ياسين؟ شايفه مراتك ماشية ومعاها شنطتها؟!
رد عليا وهو مازال ينظر امامه: طلقتها
لمعت عيناها بمزيج من الفضول والشماتة: ليه؟ ايه اللى حصل؟
أجابها بلسان ثقيل: كانت حامل وقتلت ابنى، ومش أول مرة تعملها.
صمت للحظة، ثم رفع عينيه نحوها بحزم مضطرب: ماما أنا مش عايز أسيب بنتي معاها، لإن القانون للأسف بيقول إن الحضانة للأم.
ضحكت باستخفاف: قانون ايه يا ياسين؟ القانون أتعمل للضعفاء عشان يحميهم، وإحنا مش ضعاف، إحنا القانون نفسه، وزيدان مستحيل يدخل معانا في أي معركة من النوع ده.
زفر قائلا بضجر: أنا مش عايز الموضوع يوصل لكده مهما كان دى أم بنتي.
رفعت حاجبيها بقسوة وصرامة: بلاش عواطف فارغه يا ياسين، أنت قولت إنها سقطت مرتين؟ دي واحدة تستاهل تتقتل؟ وإحنا مش هنعملها حاجة؟! أحنا هنخليها بس تحترم نفسها، وده الأفضل.
نظر لها بصمت لا يعرف ماذا يقول، فاشاح بوجهه بعيدا.
اقتربت منه ووضعت يديها على كتفه: أنا مش عايزاك تزعل، أصلا أنت غلط لما ادتها فرصة، ركز في حياتك، أنت تستاهل الأحسن.
صمتت للحظة، وتابعت بهدوء بارد: وبعدين في حاجة حصلت، أنا مكنتش عايزة أقولك بس لمحتلك وواضح إنك مفهمتش كلامي، هبة مرجعتلكش غير لما أنا كلمتها وضايقتها شوية بالكلام، فجاتلك يومها وطلبت منك الفرصة علشان تتحداني.
نظر لها بإستغراب، وتساءل بحدة: إزاي متقوليليش حاجة زي كده.
ابتسمت بخبث: مكنتش حابة أعمل بينكم مشاكل، بس لازم أقولك ده دلوقتي، علشان متحسش بالندم، البنت دي عمرها ما كانت تستاهلك، روح بقى للي تستاهلك.
نظر لها من طرف عينه، فهم أنها تقصد لوجين، فتبادلت معه نفس النظرة؛ كأنها تؤكد المعنى.
ثم ألتفتت تغادر بإبتسامة قاتلة، كأنها قد انتصرت في معركه، ثم قالت بصوت داخلي “كده مفاضلش غير ماسة، وقريب أوى هخلص منها هي كمان”
أما ياسين، فظل ينظر أمامه بشرود حزين، لا يصدق كيف أستطاعت هبة أن تقتل أبنائها بهذه السهولة؟ بل وتبرر ذلك بمبررات واهية، من أي طينه خلقت لتفعل ذلك بابنائها بكل دم بارد؟
تأجج داخله ندم مر لأنه أعطاها فرصة، خاصة بعد معرفته سبب رجوعها الحقيقي، فهو طوال الفترة الماضيه كان يلوم نفسه بشدة اذا مرت لوجين بخاطره، كان يظن أن عودتها بدافع المحبة، لكن أتضح عكس ذلك، فعودتها لم تكن سوي بدافع الكبرياء والتحدى الزائف.
رفع هاتفه وأجري اتصالا: بقولك إيه عايز مصر كلها تصحى بكرة على خبر “طلاق ياسين الراوي من هبه زيدان” سلام.
أغلق هاتفه، وأخذ ينظر أمامه بصمت ثقيل وأفكاره تتضارب في عقله.
منزل مكي،5:00مساء.
دخل مكي الذي كان قد حرر ذراعه من الرباط، وما إن أغلق الباب، حتى نادى بصوت مرتفع: يا أمي! أنا جيت.
خرجت ليلي من المطبخ، ترتسم على وجهها ابتسامة دافئة، وذراعاها مفتوحتان بشوق أمومي صادق: حمدالله على السلامة يا حبيبي وحشتني، عامل إيه؟!
اقتربت منه وضمته بقوة، إلا أن يدها ضغطت على كتفه المصاب دون قصد، فظهر الألم واضحا على ملامحه، وتأوه بخفوت، فتراجعت تتساءل بقلق: مالك يا ابني؟! ايه اللى واجعك؟!
هز رأسه سريعا، وقال بابتسامة محاولا اخفاء المه: مفيش يا حبيبتى، أنا تمام.
نظرت له بلوم واشتياق: بقالك أسبوع مبتجيش، هونت عليك تغيب عني كل دى؟!
أجابها بتنهيدة: معلش يا ماما كان عندى شغل كتير.
رفعت حاجبها بلوم: طب وهتقعد معايا ولا هتمشي علطول زى كل مرة؟
أجابها بابتسامه: لا قاعد معاكي يومين، وبعدين متقعديش لوحدك تانى، ابقي روحي اقعدي مع خالتي ونسوا بعض، هي كمان قاعدة لوحدها.
مسحت على صدره بحنان: يا ابني ما أنت بتوحشني! هو ينفع أفضل قاعدة عند خالتك كده؟ مش لو كنت اتجوزت كانت قعدت معايا ونستنى، وكان زمانك رايح جاي علينا.
جلس على الأريكة، ونظر لها بنفاد صبر: لازمته إيه الكلام دى يا ماما ما أنا رايح جاي عليكي أهو، هو أنا قصرت معاكي؟
جلست مقابله وقالت بحنو: نفسي أفرح بيك وأشيل عيالك قبل ما أموت، اللي قدك عيالهم في المدرسة دلوقتي، وأنت أهو بقي عندك 34 سنه والعمر بيجري بيك من غير عيل ولا تيل، وأنا مش عايشه لك العمر كله، هتفضل كده لحد أمتي؟ ولا مستني اللى قلبت عليك قبل فرحكوا ب10 ايام ترضي وتحن عليك؟!
قطب جبينه، وضاق صدره قائلا: ماما، بلاش كلام في الموضوع ده لو سمحتي! وسلوى لو آخر ست في الدنيا، مستحيل نبقى مع بعض خلاص!
ثم تحرك نحو غرفته
غرفه مكي
وقف يخلع قميصه ببطء؛ بسبب ألم كتفه، وما إن خلعه حتى فتح الباب ودخلت والدته قائلة بغضب: أنا مش بكلمك يا واد…
لكنها توقفت فور رؤيتها للجرح في كتفه، فاتسعت عيناها بقلق: إيه ده يا مكي؟!
حاول إبعاد كتفه بتوتر: مفيش.
تساءلت بوجه شاحب: اتضربت بالرصاص؟! عشان كده كنت غايب؟!
هز رأسه بسرعه: لا يا ماما دى شاظية بسيطة، وبعدين الموضوع مش زي ما أنتِ فاهمة.
جلست على الفراش ووضعت يدها على قدميها، قائلة بتهكم وهي تحاول تمالك دموعها: فهمني!
تنفس ببطء موضحا بتوتر وهو يحاول ألا ينظر اليها: رصاصة خرجت من ماسة غصب عنها وأنا بدربها، وبعدين ما أنا كويس قدامك أهو.
ثم أقترب منها محاولا تهدئتها بابتسامه، وهو يقبل باطن كفها: وبعدين أنا راجع ميت من الجوع وواحشني أكلك، مش هتقومي تعمليلي حاجة أكلها من إيدك بقى.
هزت رأسها، وانكسرت نظرتها بخوف وغضب ووجع أم: والله العظيم أنت مش هتبطل غير لما توجع قلبي عليك زي أبوك وأخوك، الله يسامحك يا مكي.
ثم وقفت ببطء، وغادرت الغرفة دون كلمة أخرى، فظل ينظر نحو الباب وكأن آثار خطواتها تبقيه واقفا بين الندم والعجز.
فيلا عائلة هبة،6:00مساء.
دخلت الفيلا وهي تسحب حقيبتها خلفها بعجز واضح، وجهها غارق في الدموع، ما إن عبرت عتبة الباب حتى وجدت والديها في انتظارها، وجهيهما جامدان كالصخر.
تقدم زيدان نحوها بخطوات سريعة، وما إن همت بالكلام حتى دوي صوت الصفعة في أرجاء القاعة.
تجمدت للحظة، ثم شهقت بصوت مبحوح: بتضربني يا بابا؟ بدل ماتروح تضربه هو وتجيبلي بنتي منه؟!
زمجر بغضب: أنتِ بعد اللى عملتيه ده ليكي عين تتكلمي، أنا مش طايق أشوف وشك! أطلعي فوق قبل ما ارتكب جناية!
صرخت برجاء: أنا عايزة بنتي يا بابا، بالله عليك هاتلي بنتي، أنا مقدرش أعيش من غيرها!
نظر إليها بنظرة حادة: بنتك إللي موتي إخواتها؟! ياسين عنده حق يحرمك منها، مش مأمن عليها معاكي!
ارتجفت ساميه وقالت بهدوء متوسل: خلاص يا زيدان أهدى، أطلعي فوق دلوقتي يا هبة، علي ما الدنيا تهدى شوية.
ألتقطت حقيبتها وهرولت نحو الدرج، دموعها تبلل خديها، وصوت تنفسها يعلو مع كل درجة تصعدها.
أغمضت سامية عينيها للحظة، ويدها ترتجف من القلق، قالت بصوت منخفض: هنعمل إيه يا زيدان، مهما كان نالا بنتها ومينفعش تتحرم من مامتها.
زيدان بغضب: بنتك اللى عملت في نفسها كده، هو في الأول كان هيسيب البنت معاها، لكن بعد إللى عملته هى اللى ادته حق يعمل معاها كده ويحرمها من البنت، فاهدى وخلينا نشوف هنعمل ايه في المصيبه دي إحنا مش قد عيلة الراوي!
ظلا واقفين، يتبادلان النظرات في صمت، لا يعلمان ماذا ينبغي عليهما فعله، وقلباهما مثقل بالخوف والحزن.
منطقه القلج،10:00 مساء.
جلست سيدة عجوز على الاريكه بجانبها فتاه تبدو في منتصف العشرينات، ملامحها متوترة، وعيناها تائهتان بين الحيرة والخوف، وفي منتصفهم صينيه عليها كوبين من الشاي.
تساءلت الفتاة بحيرة: طب هو ليه بيختفي كده؟
تنهدت السيدة، وهي تحتسي رشفه من الشاي: معرفش، الله اعلم يا بنتي، الله يصلح حاله أكيد مشغاله كتير.
الفتاه: الله يكون في العون، بس من رأيي تروحيله وتطلبي منه فلوس العملية، مش عيب.
أومأت السيدة بخجل: بس مكسوفة منه.
هزت رأسها: لا، هو قالك لو محتاجة حاجة كلميني.
أومأت ببطء: خلاص هروحله بكرة.
الفتاه بلهفه: بس امانه تسلميلي عليه، أنت بتقوليله اني بسال عليه ولا لا؟!
السيدة بابتسامه: بقوله علطول، والمره اللى فاتت قولتله إنك عايزه تشوفيه بس هو كان مستعجل ومشي بسرعة.
💞_____بقلمي_ليلةعادل
قصرالراوى،8:00صباحا
غرفة ياسين
استيقظ بهدوء، وأمسك هاتفه يتفقد الأخبار، وبالفعل وجد جميع المواقع تتحدث عن انفصاله، فابتسم بخفة والارتياح، ثم نهض وأخذ حماما دافئا واستعد للنزول.
وقبل أن يهبط، مر على غرفة ابنته، وجدها نائمة بسلام تضم لعبتها الصغيرة إلى صدرها، اقترب منها وقبل جبينها برفق، ثم احكم عليها الغطاء وغادر لأسفل.
السفرة
كان جميع أفراد العائلة يجلسون في انتظار الفطور، والحديث يدور حول خبر انفصال ياسين وهبة.
فريدة بهدوء: هي أكيد غلطت، بس مكانش لازم الموضوع ينتشر بالشكل ده.
أجابها ياسين بنبرة حاسمه، وهو يدخل ويجلس على مقعده: وليه مينتشرش؟ أنا عايزه ينتشر، لازم كل الناس تعرف إني طلقتها ومستحيل أرجعلها..
ثم ألتفت لعزت: وبعد إذنك يا باشا، بنتي هتفضل معايا ومحدش هيشوفها الا بإذني، غير كده لأ، علشان لما أنكل زيدان يكلمك تفهمه ده كويس.
عزت بهدوء: أنا هخلص الموضوع ده متقلقش، بس أنت أهدى شوية.
أجابه ببرود وهو يتناول لقمة صغيرة: أنا هادي جدا..
صمت للحظه وتابع بثقه: وعلى فكرة أنا هتجوز قريب.
تجمد الجميع في أماكنهم، التفتت له فريدة بصدمة، بينما شرق رشدي الذي كان يحتسي الشاي وسعل بعنف.
تابع بثبات: هتجوز لوجين، أنا وهي بنحب بعض.
صاحت فريدة مذهولة: أنت اتجننت؟! الناس هتقول إيه؟
رد بعدم اكتراث: يقولوا إللي يقولوه.
فريدة بعقلانية: يا ياسين، في حاجات مينفعش تتاخد بسرعة كده.
ابتسم بثقة: لأ، المرة دي هاخدها كده، وده قرار نهائي مفيهوش نقاش، والنهاردة هفاتحها في الموضوع رسمي.
ضحك رشدي بسخرية وقال وهو يومئ بيده: وتيجي تقول عليا أنا اللي مجنون! هو أنت مالك؟ عامل مكس بين شخصيتي وشخصية سليم كده ليه؟
ابتسم بخفة: ما أنا سمعت كلامك، لما قولتلي“أعمل إللي يريحك وأفرح”، واديني أهو ناوي أفرح.
ساد صمت طويل، تبادل الجميع النظرات، إلى أن قالت فايزة بهدوء حاسم: خلاص يا ياسين، أعمل إللي يريحك.
ابتسم بخفة، وتابع تناول طعامه كأن شيئا لم يكن.
مجموعة الراوي 9:00صباحا.
وقفت السيدة المسنة عند مدخل الشركة، تستند إلى عكازها.
الأمن بنبرة حادة: يا ستي ممنوع تدخلي!
ردت برجاء خافت: قوله بس إني من طرف جنة.
في تلك اللحظة، توقفت سياره سليم وهبط منها، وتحرك للداخل بخطوات واثقة وعشري خلفه.
انتصب فرد الأمن بابتسامة متكلفة: صباح الخير يا سليم بيه!
ثم مال نحو السيدة بصوت منخفض: يلا يا حاجة متعمليش مشكلة الله يكرمك، رشدي بيه لسه مجاش، استنيه بعيد شوية.
استمع سليم للحوار وهو في طريقه الي الداخل، فقال بنبرة منخفضة وهو يشير بيده دون التفات: شوف في إيه يا عشري؟!
تابع سيره نحو الداخل، بينما ذهب عشري تجاه السيده وهو يتساءل: في إيه؟ مين دي وعايزة ايه؟
فرد الأمن متلعثما: الحاجه بتسأل على رشدي بيه.
أومأ برأسه، ثم غادر ليلحق بسليم عند المصعد، توقف بجانبه وقال: بتسأل على رشدي بيه يا ملك.
اوما سليم بعدم اكتراث.
في الجهة الأخرى من المبنى.
توقفت سيارة سوداء لامعة، وهبط منها رشدي بخطوات واثقة، لكن ما إن لمح تلك السيدة عند البوابة، حتى تجمد في مكانه، ارتسمت الصدمة بوضوح في عينيه، فاقترب منها بسرعة، وقبض على ذراعها هامسا بعصبية: أنتِ إيه إللي جابك هنا، تعالي معايا بسرعة.
سارت معه بتردد، وهي تضم حقيبتها الصغيرة إلى صدرها.
عند السيارة، صاح بها بنبرة جافة: إيه جابك هنا؟
أطرقت رأسها وقالت بصوت يخنقه الخجل: معلش يا ابني، حاولت أكلمك كتير، وأنت مبتردش.
زفر بقوة، ومرر يده على وجه محاولا كتم انفعاله: مبردش عشان مشغول، خير؟
ردت بخجل وعجز: والله يا ابني أنا مزنوقة في ستة آلاف جنيه، عندي عملية مياه بيضا في عيني.
انخفضت نظراته للحظة، ثم أخرج محفظته ببطء: مش معايا دلوقتي غير تلاتة كاش، بالليل هبعتلك الباقي.
رفع عينيه إليها، وتساءل بصوت ناعم متردد: قوليلي، جنة عاملة إيه؟
لمعت عيناها للحظة وهي تقول بابتسامة دافئة: زى العسل الحمد لله، وبتسأل عليك ديما، وزعلت إنك المرة اللي فاتت مشيت من غير ماتشوفها، تعالى لها بقى، نفسها تشوفك.
ابتسم ابتسامه دافئة: قوليلها متزعلش وأنا قريب هبقي اجيلها، خلى بالك منها.
ابتسمت بحنو: دى في عنيا.
هز رأسه بتوتر: طيب روحي أنتِ، ومتجيش هنا تاني، فاهمة؟
هزت راسها: حاضر يا ابني.
لكن قبل أن تتحرك، أشار لها بإيده: تعالي هتروحي إزاي؟
السيدة موضحه: معايا توك توك، ابن واحدة حبيبتي ساكنة في الشارع عندنا.
هز رأسه بإيجاب، وتحركت السيدة ببطء، تتعجز على عكازها، ظل رشدى واقفا يتابعها وهي تركب التوك توك وتغادر، أغمض عينيه للحظة، كأن ثقلا قد سقط على صدره لا يعرف كيف يزيحه.
المستشفي، 11:00صباحا
قسم الباطنة.
مصطفى يمر على مرضاه، يمسك التقارير ويقلب صفحاتها بعين يقظة رغم الإرهاق الذي بدأ يثقل ملامحه.
وقف أمام أحدى المرضي، ووضع سماعته برفق على صدره، اصغي للحظات، ثم تساءل: الكحه النهاردة احسن؟
المريض: اه بس لسه بحس بألم.
أجابه بابتسامة مطمئنة: إن شاء الله مع الأدوية هتكون أحسن، ألف سلامة عليك.
وفي تلك اللحظة، ظهرت آلاء تركض عند نهاية الممر بخطوات متعجلة.
اقتربت منه وقالت مبررة من بين أنفاسها الاهثة: أنا آسفة يا دكتور، كنت في الحمام.
رفع رأسه نحوها للحظة، ثم أعادها مرة أخري إلى الأوراق بين يده، دون تعلق فقط هز رأسه بإيماءة قصيرة، ثم تابع فحص المرضى.
ظل يتنقل بين المرضي، والاء معه تجيب على تساؤلاته وتنفذ تعليماته، حتى توقف أمام أحد المرضي ربت على كتفه، وطلب منه أن يتنفس بعمق، ثم أخذ يدون بعض الملاحظات الخاصة به وهو يتساءل: قستي الضغط والسكر لعم محمد النهاردة؟!
هزت رأسها: أيوة يا دكتور.
تساءل: طب أخباره إيه؟
أجابته بعملية: السكر 275 والضغط 110/70
هز رأسه: إديله عشر وحدات إنسولين، وقيسي السكر بعد ساعتين…
ألتفت نحو المريض بإبتسامة خفيفة: ألف سلامة عليك يا حاج.
تحرك بخطوات ثابتة، وآلاء خلفه تنتظر تعليماته، وما إن وصلا عند الباب، ألتفت اليها وتساءل متعجبا: هو مفيش غيرك في الاستاف ولا إيه؟ أنتِ مش كنتي في شفت السهر أمبارح؟ أنا حاسس إني بشوفك كتير اليومين دول.
ضحكت بخفوت ومازحته بإحترام: استحمل بقي، أصلك هتشوفني كل يوم في الأسبوعين الباقين في الشهر.
عقد حاجبه متسائلا: ليه كده؟ شرين شيلتك الشيفتات كلها ولا إيه؟
هزت رأسها نافية: لا، أنا إللي طلبت شيفتات زيادة.
أرتفع حاجباه بدهشة: طب وليه تطلبي كل الشفتات دي؟ ده كتير أوى عليكي؟!
خفضت نظرها، تعبث بطرف الأسكرب: عادي يعني، حضرتك عارف الظروف والعيشة وكده.
تبسم بهدوء وحنو: بس ده غلط على صحتك…
مد يده مشيرا إلى عينيها ووجهها الذي بدى عليه معالم الإرهاق بوضوح: مش شايفة عينيك شكلها عامل إزاي؟ ووشك مرهق جدا، حرام تشتغلي كل ده..
أضاف وهو يزفر ببطء: ده إللي بياخد شيفت سهر بياخد بعده يومين راحة، وأنتِ عايزه تشتغلي اسبوعين من غير ولا يوم راحة، إن لبدنك عليك حق.
أجابته بصوت خافت مرتبك: أصلي محتاجة فلوس.
أنخفض ببصره لحظه، ثم قال بصوت خرج هادئا مشوب بالحنو: طب لو محتاجة حاجة عرفيني، أنتِ زي عائشة أختي.
هزت رأسها سريعا: لالا، شكرا يا دكتور، كتر خيرك.
مصطفي بإصرار: أنا بكلمك جد والله مش عزومة مراكبية.
ابتسمت برقه: عارفة والله، شكرا يا دكتور.
ابتسم بخفة، وتساءل بإستغراب هو يسند جسده على زاوية الحيطة: وبعدين لما بتشتغلي كل دة بتذاكري إمتى؟ مش لسه بتدرسي؟ أنا سمعت من دكتور محمد إنك من أوائل دفعتك!
هزت رأسها موضحة: آه الحمد لله، بجيب الكتب معايا هنا، وبذاكر على قد ما أقدر.
ضحكت ضحكة قصيرة بمرارة مكتومه، وهي ترفع يدها كأنها تبرر عجزها: بتدبر يعني يا دكتور.
هز رأسه بتفكير، ثم أخرج مفتاح من جيبه ومده نحوها، قائلا بحنو: طب بصي، ده مفتاح مكتبي، خدى وروحي ناميلك ساعتين علي الكنبة.
اتسعت عيناها، ورفعت كفيها بسرعة وهي تهز رأسها برفض: لا يا دكتور، مش هينفع والله!
ابتسم قائلا بحزم لطيف: هو إيه إللي مش هينفع؟ أنا الريس بتاعك وبقولك اتفضلي ونفذي التعليمات..
أشار بالمفتاح في الهوا بأمر: يلا أنتِ نص ساعة كمان، وهيغمي عليكى وتبقي محتاجة يعلقولك محلول جنب المرضى!
ضحكت رغما عنها، وتترددت لحظة قبل أن تمد يدها وتمسك المفتاح بأطراف أصابعها: شكرا بجد، مش عارفة أقولك إيه.
مصطفي بلطف: متقوليش حاجة، يلا روحي، تصبحي على خير.
أومأت برأسها بخفة، ثم استدارت تغادر بخطوات سريعة، ظل يتابعها بعينيه حتى ابتعدت، ثم مرر يده على عنقه بتعب، وزفر ببطء، قبل أن يعود إلى مراجعة ملفات المرضي مرة أخري بهدوء وتركيز.
أحد المطاعم الفاخرة، 6:00مساء.
المكان خاليا تماما، وكأنه معد لاحتفال خاص، والموسيقى الهادئة تنساب بخفوت رومانسي.
في الخارج، توقفت سيارة وهبطت منها لوجين وهي ترتدي فستان أحمر أنيق وشعرها منسدل خلف ظهرها.
اخرجت هاتفها وضغطت على اسم لمار صديقتها لتسألها إذا كانت وصلت أم لا ولكن لم تجيب، وفجأة اقترب منها أحد العاملين: لوجين هانم، اتفضلي من هنا لو سمحتي.
نظرت إليه باستغراب، ثم سارت خلفه وهي لا تفهم شيئا، حتى دخلت للدخل، توقفت في منتصف تتلفت حولها بدهشة وارتباك، اختفي ذلك الموظف الذي قادها، وكأنها تركت في مكان معزول عن العالم وحدها.
وفجأة سمعت خطوات خلفها، ألتفتت بسرعة، لتجد ياسين واقفا ببدلتة الأنيقة، وجاذبية حضوره تمليء المكان.
اتسعت عيناها من الصدمة، تحاول فهم ما يحدث !
ياسين موضحا: أنا إللي كلمت لمار واتفقنا تجيبك هنا، وأكيد عرفتي من السوشيال ميديا إني طلقت هبة.
ظلت تحدق فيه للحظات، لا تعرف ماذا تقول.
اقترب منها خطوة حتى توقف أمامها مباشرة، وصوته أنكسر برجاء صادق: أرجوكي مترفضيش عرضي المرة دى يا لوجين، أنتِ طول الفتره اللى فاتت دى مكنتيش بتغيبي عن بالى لحظة، وحاولت على قد ما أقدر ابعد واكون مخلص لهبة…
صمت لحظة، زفر أنفاسه بتعب وتابع بصوت منخفض: لحد لما عرفت إنها أجهضت نفسها، للمرة التانية.
رفعت عينيها نحوه باستنكار ووجع: يعني أنا كان عندى حق لما قولتلك أنك موهوم ومحبتنيش، بدليل أنك قدرت تعيش معاها وسبتها بس علشان أجهضت، فقولت تيجي للبديلة!!
هز رأسه نافيا بسرعه: لا يا لوجين أنتِ فاهمه غلط، أنا لما رجعتلها، رجعت علشان بنتى بعد ما هي نفسها طلبت ده، وبعد رفضك ليا وافقت اديها فرصة علشان بس نالا متعش مشتتة بينا، ومن اللحظه اللى دخلت فيها البيت تاني، حاولت أكون مخلص ليها بقلبي وعقلي، وحاولت اضحك على نفسي واقتنع بكلامك إني موهوم بحبك، بس الحقيقة كانت واضحه وضوح الشمس قدامي أنا مكنتش مبسوط ولا بفكر غير فيكي!!
صمت للحظة، ثم همس وعينيه تغوص في عينيها مباشرة: أنا بحبك يا لوجين، بحبك ومش عايز غيرك، أنتِ البنت إللي عايز أكمل معاها حياتي.
نظرت له بعينين دامعه بصمت، فمد يده نحو جيب بدلته، وفجأة انطفأت الأضواء، ومرت لحظة صمت قصيرة، تبعها أضاءت الأرضية بعبارة ضخمة: Will You Marry Me ثم ركع على ركبة واحدة، وأخرج خاتما لامعا من الماس: تتجوزيني يا لوجين؟
ظلت تحدق فيه للحظة، وقلبها يدق بعنف من الألم والحنين، ووضعت كفها على شفتيها، تحاول كتم شهقاتها، وقالت بصوت مرتجف: مش هينفع يا ياسين…
حاولت الابتعاد، لكنه نهض بسرعة وأمسكها من معصمها، قائلا بنبرة حادة: هو إيه إللي مش هينفع؟! إيه المشكلة؟!
أجابته بحزم باكي: المشكلة أنت عارفها كويس.
ياسين بحدة وضجر: هبة خلاص الموضوع بيني وبينها انتهى.
سحبت يدها من بين يده بشدة: قولتلك قبل كده، أنا عمري ما هبقى الست إللي أخدت راجل من مراته.
رد ببحة رجولية: بقولك طلقتها، طلقتها يا لوجين!
ردت بنبرة مرتجفة: حتى لو طلقتها، كل الناس هتقول إن أنا السبب، وهي كمان هتفتكر كده، وأنا مش هقدر أعيش بالشعور ده.
اقترب منها خطوة، وصوته بدأ ينكسر، كأن كل ما في داخله ينهار أمامها: يهمك الناس ولا أنا؟ أنا إللي بحبك، أنا إللي مش قادر أعيش من غيرك! كفاية إني عارفك، وعارف أنتِ علي إيه، ناس إيه اللى يشغلوكي؟!
أغمضت عينيها، تتنفس بصعوبة، والدموع تترقرق على وجنتيها، همست بصوت مبحوح ممزوج بالرجاء: علشان خاطري يا ياسين، أنا ما صدقت أعرف آخد نفسي، لو بتحبني بجد سيبني وأنساني زى ما أنا كمان بحاول أنساك.
تجمد مكانه، وامسك يديها بعناد، قائلا بصوت مبحوح لكنه صارم: لا مش هسيبك، المرة دي القرار مش قرارك لوحدك، القرار قراري أنا كمان، وأنا مش هسيبك طول ما أنا متأكد إنك بتحبيني وعايزاني زي ما أنا عايزك.
هزت رأسها بوجع لا يوصف: صدقني يا ياسين مش هينفع، أحنا الاتنين حكايتنا انتهت ومش هينفع تتفتتح تاني.
ثم سحبت يديها بسرعة، وابتعدت بخطوات مرتجفة، والدموع تنساب على وجهها.
توقف ينظر إلى أثرها وعيناه تلمعان بدموع محبوسة، كان يعلم في قرارة نفسه أنه لم يخسرها بعد، وأن ما بينهما لم ينته، بل بدأ لتوه معركة جديدة لن يتراجع عنها، مهما كان الثمن.
💞_________________بقلمي ليلةعادل
فيلا سليم وماسة، 7:00مساءا
دخل سليم من باب الفيلا وعشري خلفه، كان يبدو على ملامحه الإرهاق.
استقبلته سحر بإحترام: حمد الله على السلامة يا سليم بيه.
أجابها بتهذب: الله يسلمك سحر.
تساءلت بهدوء: تحب أحضرلك الغدا.
جلس على الأريكة بارهاق قائلا: ماشي بس بسرعه، علشان تعبان وعايز أطلع استريح شويه.
سحر: سلامتك ألف سلامة، تحب أعملك لمون؟
هز رأسه نافيا: شكرا يا سحر، خلصي بس الغدا بسرعة زى ما قولتلك.
اومأت مسرعه: عنيا، هوا والغدا هيكون جاهز.
ثم غادرت مبتعدة وتوجهت نحو الحديقه، فرفع عينه إلي عشري وقال بهدوء: أنا احتمال مخرجش تاني النهاردة.
هز راسه بإيجاب: تمام يا ملك أنا بره، لو احتاجت حاجة كلمني.
ثم غادر بخطوات هادئها، فتنهد سليم وفرد قدمه بارهاق على الأريكه، واسند رأسه علي ذراعها وهو ينظر للسقف بشرود وتعب.
على اتجاة اخر في الحديقة
جلست ماسة على مقعد خشبي قرب ضفاف النيل، تحدق في المياه بشرود، والعديد من الذكريات تعصف برأسها بلا هوادة، فحديثها مع الطبيب أحيا بداخلها أشياء ظنت أنها ستظل كامنه بداخلها إلي الأبد، فهي حقا أصبحت أسيرة بين جدران خوفها، ولم تمتلك الشجاعة بعد للبوح بما يختلج صدرها من ذكريات أليمه، ولكنها أيقنت في قرارة نفسها أن الطبيب على حق، وأنا أولي مراحل شفائها تكمن في تحررها من قيود خوفها تلك، ولكنها لا تعرف كيف يمكنها فعل ذلك؟!
قاطع شرودها، تساؤل سحر وهي تقترب منها: ماسة هانم، هتتغدي مع سليم بيه؟
ألتفت إليها، تتساءل بلهفه: هو سليم رجع؟
أومأت بابتسامة: آه لسه جاي من شوية، وقالي احضرله الغدا، وشكله تعبان خالص.
زفرت باختناق، قالت بصوت خافت: طب اعملي حسابي، هاكل معاه.
هزت رأسها بخفة، وغادرت تاركتها وحدها مع أفكارها المتشابكة.
على اتجاة اخر عند سليم.
كان سليم لايزال ممددا على الأريكه وهو شبه نائم، أقتربت منه ماسة بابتسامتها الرائعة، توقفت بجانبه وانحنت بجسدها ومسحت على وجهه بنعومة: حمد لله على سلامتك يا حبيبي.
فتح عينه ببطئ ونظر لها بإستغراب متعب وصمت، فرفعت كفها ومسحت على شعره مرورا بخده بنعومة وحنان: شكلك تعبان يا حبيبي.
هز راسه إيجابا بصمت غريب، فزادت من ابتسامتها وأمسكت يديه وسحبته من كفه وجعلته يجلس أمامها مباشرة، كان يتحرك معها بصمت واستسلام غريب.
وفجأة وضعت أحد ذراعيها فى منتصف ظهره، والآخري خلف رأسه، وجذبته اليها تضمه بحنان، حتى اسند رأسه على صدرها، وظلت تربت على ظهره وشعره بحنان لدقائق، بينما كان هو هادئ صامت ينظر لإمام بحزن وقلب يخفق بشدة.
قاطعت ذلك الصمت، وهي تتساءل بحنان واهتمام: ها يا حبيبي بقيت أحسن دلوقتي؟
هز رأسه ايجابا وقال بصوت مبحوح: مش بنسى تعبي غير جوا حضنك.
فقالت وهى مازالت تربت على ظهره بحنان: أنا حضني ديما مفتحولك، تيجي وترمي فيه تعب الشغل والأيام وهمومك، أنا جنبك يا حبيبي.
رفع نظره اليها وهو مازال داخل أحضانها، وقال بنبرة محشرجة: ممكن متعمليش فيا كدة؟
تساءلت بابتسامه: معملش إيه؟
أبعدها قليلا، وقال بحزن ووجع وهو ينظر داخل عينيها بعينين لا ترمش: الحاجات إللي بتمناها في الحقيقة متديهاليش في الخيال.
ابتسمت مع أخر كلمة، قالت معلقة: بس أنا مش خيال أنا حقيقة، ليه كل مرة تقولي كده؟!
هز رأسه نافيا بوجع، وعينين تترقرق بالدموع: علشان بتطلعي حلم، وأمنية نفسي أحققها، كل مره بتقولي إنك حقيقة وتعشميني إنك حقيقة، ولما بفتح عيني بلاقيكي أمنية، بس أمنية اتحققتلي جوة حلم، دلوقتي سحر هتيجي وتصحيني وهتمشي وتسبيني زي كل مرة بتمشي وتسبيني لوحدي ضايع وموجوع.
اقتربت منه، وقربت وجهها من وجهه وهى تركز النظر داخل عينه: يمكن المرة دي أكون بجد!
هز رأسه نافيا بنبرة محشرجة وعينين تملأها الدموع: تؤ، أنتِ حلم، إحنا جوة حلم، هو أنتِ ليه بتطلعيلي في كل أحلامي؟! ليه وجعالي قلبي في الحقيقة ووجعهولي كمان في أحلامي؟
قالت بتعجب: أنا بوجعك في أحلامك! بس أنا بحس إني في حلمك ببقى زى ما بتحبني؛ ماستك الحلوة قطعة السكر.
هز راسه بوجع وعينين اغرورقت بدموع: بس لما بتسبيني بتوجعيني، لما بتديني الحاجات إللي بتمناها في الحقيقة في الحلم بتوجعيني.
رفعت أحد حاجبيها بأنثوية وهمست: طب ما يمكن دي إشارة؟
ضيق عينه بتعجب: إشارة إزاي؟!
قالت بتأكيد: إشارة إنك تفضل عندك الأمل إن إحنا نرجع زى زمان، إشارة إنك تفضل متمسك بيا ومتزهقش ولا تحبط.
نظر لها بصدمة بإتساع عينيه وقال بصوت مبحوح: نرجع!!! هو إحنا ممكن نرجع زى زمان؟!
اومات براسها: أمم ليه لا.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة تمني، وقال بوجع ممزوج بالأسي: يارب نرجع.
ارتسمت إبتسامة واسعة على شفتيها: بس كدة، أفضل قول يارب.
هز رأسه عدة مرات بدمعه سقطت من احد عينا: مبقولش غيرها ولا بدعي غيرها.
ابتسمت وأخذت تمسح على وجهه، مدت وجهها وقبلته في عينه عند دمعته التى هبطت.
جذبها نحو أحضانه، يعانقها بشدة وهو يقول برجاء حزين، ووجع خنق صوته: متمشيش خليكي شوية كمان معايا، المره دى مش عايز أصحى، خليكي شوية كمان أرجوكي، متمشيش مش عايز أصحى، خليني.
وهنا نشاهد سليم وهو نائم مغمض العينين ودموعه تهبط على وجنتيه، ويخترف بصوت مؤلم: متمشيش خليكي شوية كمان متمشيش، متسبنيش خليكي معايا، متسبنيش لوحدي.
في هذه اللحظة دخلت ماسة من الباب الزجاجي للحديقة، وأثناء اقترابها انتبهت لنوم سليم وخترفته أثناء نومه، فاقتربت منه ومدت يديها، تحاول ايقاظه: سليم .. سليم
فانتفض وفتح عينه، وظل يحدق بها بصمت وحيرة موجعه، لا يعلم أهي حقيقة أم أنه مازال داخل حلمه المؤلم.
تساءلت بقلق: سليم أنت كويس؟! أنت كنت بتحلم! مين دي إللي متسبكش؟
ظل ينظر اليها بصمت، لا يعلم كيف يتأكد أنه أستيقظ من حلمة الحزين، فهي حتى في حلمه تقوم بلمسه.
ماسة معلقة: بتبصلي كده ليه؟!
مسحت باناملها على لحيته بحنان: أنت كويس؟!
نظرت له لثواني تنتظر إجابته لكنه ظل صامتا مسلط بعينين يغلبها الأسي، فزفرت بضيق وهي تتحدث من بين اسنانها بوجع: هتفضل برضه مبتردش عليا؟! تمام براحتك.
تركته ورحلت ونادت بصوت عالي: سحر فين الغدا.
في هذه اللحظه تأكد أخيرا أنه أستيقظ وأصبح الآن على أرض الواقع، فتوقف وقال مفسرا: معلش كنت بحلم.
ثم تحرك خلفها وهو يمسح دموعه الساخنة بألم
السفرة
حتى جلسا على السفرة،وبدءا في تناول الطعام بصمت ثقيل، كأن الهواء بينهما مشبع بما لم يقل بعد.
وأثناء تناول الطعام كانت تنظر له من طرف عينيها من حين لآخر، يبدو أنها تريد أن تسأل عن شيء، لكنها تخشى ألا يرد عليها.
لكنها لم تستطع الانتظار أكثر، فتنهدت ونظرت له وقالت بتساؤل مرتبك: هو أنا لو سألتك علي حاجه هترد عليا ولا هتفضل برضه ساكت وهتقولي مش عايزه اتكلم.
رمش بعينيه قليلا وهو يتناول الطعام، ثم تنهد قائلا: قولي عايزة إيه؟!
تساءلت بحذر: أنا ملاحظة إن مشيتك رجعت تبقي بطيئة تاني، أنت بطلت تعمل علاج طبيعي عليها ولا إيه؟
لم يجب، فقط رمش بعينيه وتابع تناول طعامه، فنظرت له بتركيز: سليم أنا بكلمك! أنت هتفضل كل ما أكلمك متردش عليا كده، ده مش أسلوب.
رفع عينيه نحوها وقال بفتور: أنا كويس.
تساءلت بإهتمام: طب أنت بتروح العلاج الطبيعي بتاعك؟
نظر أمامه وقال بنبرة خالية من أي روح: اه بروح.
دققت النظر فيه، وضيقت عينيها بشك، ثم قالت بإبتسامة: خلاص المرة الجاية هاجي معاك..
تساءل ببرود وفتور: وتيجي معايا ليه؟
بابتسامة رقيقة، وعيناها تلمعان بوميض خافت: مش جوزي ولازم أطمن عليك؟
فور سماعه تلك الكلمة، رفع نظره اليها وظل يتأملها بصمت وعيناه تموجان بوهج حزين، فهي الآن تريد أن تطئن عليه وتمنحه مشاعر يشتاقها ويتمنى لو يمكنه البقاء فيها، ولكنه يخشي تصديقها والاستجابة لها، يعلم أن في اللحظه التي تليها ستسلبه تلك المشاعر كما لو لم تكن موجودة من الأساس.
فهو لم يعد يطيق ذلك، لا يريد أن يظل ضحية تقلباتها، لا يريد بقايا مشاعر تعطى وتسحب كيفما تشاء، كأنه لعبة بين يديها !!
أخرج أنفاسا متعبة، وأطرق رأسه قليلا قبل أن يقول بصوت خافت مثقل بالتعب: وبعدين يا ماسة؟
مالت برأسها قليلا، تتساءل باستغراب: هو إيه إللي وبعدين؟
رفع نظره نحوها، وقال بصوت مبحوح متعب كأن كل كلمة تخرج بثقل من صدره: إللي أنتِ بتعمليه ده، آخرته إيه؟ دلوقتي افتكرتي إني جوزك وعايزه تطمني عليا؟! هو مش من كام يوم كنت الوحش إللى بيستغل نسيانك وبرائتك علشان يوصل لملاذاته؟!
علا صوته قليلا، وأضاف بحدة: بتهتمي بيا ليه دلوقتي؟! عايزة إيه من الوحش إللى بيستغلك وكان قاصد يخدعك؟!
حاولت التبرير بنبرة مرتبكه وعينين تترقرق بالدموع: أنت اللي مش قادر تفهمني يا سليم، أنا مكنتش أقصد كده، أنا..
قاطعها بنظرة حادة، وصاح بنبرة لازعة: لا أنا فاهم قصدك كويس أوى.
حاولت تهدئته قائلة: طب أنت بتزعق ليه دلوقتي، أنت شايف إن دى أسلوب للمناقشة؟!
صاح بها، وكأنه لم يعد يستطيع التحمل أكثر: أنا هتكلم زي ما أنا عايز لإني خلاص، تعبت..
ثم ضرب بكفه على الطاولة، وصوته أرتفع أكثر: أحنا لازم نحط نهاية للعيشة إللى أحنا فيها دى! أنا مش هفضل كل يوم أصحى ومش عارف الدقيقة الجاية ماسة ناوية على إيه!
صمت لحظة، ثم أكمل بصوت مبحوح خافت: أنا مش هقبل بالوضع ده تاني، مش هقبل بأنصاف المشاعر دي تاني.
تجمدت في مكانها لوهلة، لم تفهم ماذا يقول، فتساءلت باستنكار: يعني ايه أنصاف مشاعر؟!
أجابها ونبرة صوته تتعالي مع كل كلمة بحده موجوعه: يعني شويه تبقي لطيفة وتسألي عليا، وتمدي إيدك تساعديني زي أي زوجة، وفي اللحظه اللى بعدها لو عملت حاجة مش على هواكي، ترفضي وتقولي اصبر عليا أنا لسه متخطتش!
مرر أصابعه في شعره بعصبية، واضاف وهو يزفر: أنا أصلا مبقتش عارف إيه إللي مقبول وإيه إللي مفروض بالنسبه لك؟ وحتي المقبول عندك بعد شوية بيبقى مرفوض! على حسب حالتك ومزاجك.
نظرت إليه بارتباك، وحاولت الرد دفاعا عن نفسها، ولكنه قاطعها بأشار من يده، وتابع بنبرة خافتة، كأن الحديث اصبح يخرج من وجع صادق: يعني دلوقتي حنينة وبتطمني عليا علشان تعبان، ولو اتجاوبت مع حنيتك ومسكت إيدك ممكن تتقبليها عادى، لكن لو نسيت نفسي وحضنتك، أو حتي بوستك هترفضي وتنزعجي، وتقوليلي اصبر عليا يا سليم أنا لسه متخطتش! وأنا المفروض بقي اتعامل عادى كأن مفيش حاجه حصلت؟! وأرجع تانى اطبطب وأدادى علشان ماسة موجوعة ومش قادرة…
اهتزت نبرة صوته، وحاول تمالك دموعه كي لا تخونه وتهبط من شدة الوجع الذي يشعر به: وأنا إيه بقي حجر مبحسش ولا بتوجع؟! أنتِ بس إللى بتتوجعي، وأنا ايه طوبة مبحسش!!!
رفع نظره إليها بثبات مكسور، وواصل بحدة مكتومة: إيه الحياة دي يا ماسة؟ نمشي على سطر ونسيب سطر؟ هنعيش بكتالوج اسمه “اللمسة المسموحة” و”اللمسة الممنوعة”؟
عاد بظهره على الكرسي بتعب، تنهد وهز رأسه برفض: أنا مش هعيش كده، ومش هقبل دي تانى.
كانت تستمع اليه بوجع يقطع نياط قلبها بصمت ثقيل، رفعت عينيها الدامعه نحوه وقالت بنبرة مهتزة: مش الدكتور قال..
قاطعها بإشارة حادة، وصوته ارتفع بخشونة متعبة: لأ، متجيبيش سيرة الدكتور! أنا مش عايز أسمع اسمه، الموضوع بيني وبينك.
نظرت له بدموع تهبط من عينيها تحاول التوضيح بنبرة مخنوق: يا سليم أنت عارف إني لسة تعبانة ومش عارفة أتخطى إللي حصل، ليه مش عايز تصبر وتديني فرصة اشفي من اللي حصلي.
تنهد وصمت لوهلة وكأنه يأخذ أنفاسه، قال بنبرة يملؤها الضيق والوجع: عشان تعبت يا ماسة ومش شايف أي حاجة تحسسني بأمل، أنتِ لسة واقفة مكانك، مبتحاوليش تتقدمي خطوة، بتدوري في نفس الدايرة! وأنا خلاص تعبت، ومش قادر أتحمل أكتر من كده، يأما تخرجي من الدايرة إللى عمالة تلفي فيها حوالين نفسك وتديني مشاعر كاملة، يأما تحطي حد لكل إللى أحنا فيه ده د، لإني مش هقبل منك بأنصاف مشاعر، ولا هحاول لوحدي تاني في علاقة حاسس إن أنا بس إللى متمسك بيها.
نظرت إليه بعينين تغيم فيهما المرارة والحسرة، وقالت بنبرة مليئة بالأنين: أنت مش قادر تفهم يا سليم إن في حاجات جوايا اتكسرت، وصعب إن هي تتصلح بسهولة.
تقلص فكه، ومال برأسه نحوها قائلا بأصرار ووجع: بتتصلح يا ماسة، بيتصلح لو أنتِ عايزاها تتصلح.
ارتسمت على شفتيها إبتسامة موجعه، وهزت راسها نافيه بألم: لا يا سليم إللي بيتكسر صعب يتصلح تاني.
مال بجسده نحوها بعينين يملئهما الإصرار: علشان أنتِ مجربتيش تصلحيه أصلا.
صمتت للحظة، تحدق فيه بصمت مشحون، وهي تتأمل حديثه الذي لايزال يطن في أذنها، بادلها النظرة بثقة هادئة بعين لا ترمش، فأشاحت بنظراتها بعيدا عنه ونظرت للفراغ بصمت وشرود وفي لحظة عابرة وقعت عيناها على مزهرية تقبع في آخر المائدة.
فنهضت بهدوء غريب، تتحرك ببطء محسوب نحوها، بخطوات ناعمة لكنها حازمة، وسليم يتابعها بعينيه، يحاول أن يقرأ ما تنوي فعله.
اقتربت من آخر المائدة، مدت يدها وأمسكت بالمزهرية الزجاجية، نظرت إليها لثواني، كأنها ترى انعكاس نفسها فيها، ثم فجأة وبدون أي إنذار، رفعتها وألقتها أرضا.
تحطمت المزهرية إلى قطع مختلفة الأحجام، فرفع عينيه نحوها مذهولا، لا يدري أتعلن الحرب، أم تختبر صدقه؟
نظرت إليه بثبات ونبرتها خرجت حاسمة وهي تشير نحو الأرض: لو عرفت تصلح الفازة دي، وترجعها زي ما كانت، ساعتها هصدق إن إللي اتكسر ممكن يتصلح وهنفذلك كل إللي أنت عايزه.
صمت للحظة يتأملها بصمت، تنفس بعمق وتحرك نحوها بخطوات واثقة، هبط ببطء جلس جلسة القرفصاء يتأمل قطع الفازة المتناثرة، مد يده وأمسك إحدى القطع، ثم رفع رأسه نحوها، وفي عينيه بريق تحدي.
تساءل بتعجب ممزوج بأمل عاشق: يعني لو رجعتها زي ما كانت، هتديني فرصة حقيقية؟
هزت رأسها بتأكيد: آه.
نهض ببطي وتوقف أمامها مباشرة قال بغموض: موافق، بس بشرط.
ابتسمت بتعجب وهي ترفع أحد حاجبيها مستنكرة: شرط؟ شرط إيه بقى إن شاء الله؟
ارتسمت على شفتيه إبتسامة جانبية، ومال للأمام قليلا، ووضع كوعه على المائدة وهو ينظر لها بثقة وتحدي: هتديني فرصة لمدة يومين ٤٨ساعة، تسمعيي فيهم كلامي، وأي حاجة هقولها هتقولي حاضر من غير مناقشة أو جدال.
ضحكت بخفة ساخرة، وسارت نحوه خطوة قصيرة مستخفة، استندت هي الأخرى كوعها على المائدة أمامه: يومين بس؟ تفتكر هتقدر تقنعني في يومين؟
نظر لها بثقة، وعيناه لا تتركان وجهها، أجابها بتحدى وثقة: هقدر، بس يبقى قلبك وعقلك مفتوحين ليا من غير عند، وتسمعي كلامي وتعملي كل حاجة أنا عايزها وبس، متفقين؟
رفعت حاجبها باستغراب واضح، وقالت بنبرة فيها تهكم خفيف: أيوة يعني، أفرض طلبت أو قولت حاجات مينفعش أعملها؟
ابتسم بثقة خفيفة مستفزا أياها: لا ده شرط ولازم يتقبل، ولا أنت مش قد التحدي إللي بدأتيه.
ضحكت بسخرية، وأزاحت شعرها عن وجهها: أنا عمري ماشوفت حد بيطلب فرصة ويتشرط!
قرب وجهه من وجهها وقال باستفزاز: أنتِ إللي قولتيلي لو عرفت تصلحها، هديك الفرصة وهعمل كل إللي أنت عايزه، بتغيري كلامك ليه؟!
انتصبت في وقفتها، ونظرت له بثبات وهي تشدد على كلماتها: ماشي موافقة بس أنا كمان عندى شرط!
رفع أحد حاجبيه متسائلا: شرط إيه؟!
بارتباك وحسم: هسمع كلامك في كل حاجه، بس من غير لمس.
قطب حاجيبيه بعدم فهم: مش فاهم، يعني إيه من غير لمس؟
رفعت كتفيها لأعلى، وخرج صوتها مهتز قليلا بخجل: يعني من غير لمس، كلامي مفهوش معنى تاني يا سليم.
ضحك بخفة فيها لمحة غزل، وقرب وجهه من وجهها بشدة حتى اختلطت انفاسهما، وعيناه عالقتان بعينيها: طب أنا هذممك ذمة، يعني القمر ده يبقى قدامي، ويقرب مني، وأنا أقوله مينفعش؟ أكيد لأ يعني، ده حتى يبقى عيب في حقي..ثم غمز لها.
تبادلا النظرات للحظة وتسارعت أنفاسها من ذلك القرب فابتلعت غصتها، وأبعدت عينيها بسرعة، واتلفتت بجسدها قليلا لتبتعد عن وهج قربه، وصوتها خرج متوترا: أنا مستحيل أقرب منك أصلا، لو سمحت ده شرطي.
ضحك وأخذ نفسا عميقا، وقال بنبرة صادقة وهو ينتصب: ماشي أنا مش هقولك لأ، بس ليكي وعد مني، أنا عن نفسي مش هقرب، غير لو استأذنتك، وأكيد لو أنتِ إللي قربتي مش هضيع عليا الفرصة يا قطعة السكر.
نظرت له بارتباك واهتزاز لثواني وهي تبعث في سلسلتها، ثم شاحت بوجهها مرة أخرى ونظرت أمامها.
ابتسم سليم الذي يفهمها جيدا، وقال بنبرة مازحة: في حاجة تانية مش عايزاها؟ شوفتي أنا ديموقراطي إزاي؟
نظرت لأعلى بتفكير ثم قالت بحسم: لا مفيش حاجة تانية.
ابتسم بحسم وتحدي: تمام يبقى بكرة الفازة هتبقى عندك وهتبقى أحسن من ما كانت.
نظرت له بشك وقالت بنبرة ساخرة: واثق من نفسك أوي؟
قرب وجهه من وجهها حتى صار بينهما نفس واحد، عيناه ثابتتان لا تهربان: أيوة واثق، زي ما أنا شايفك قدامي كده، يا ماستي المتمردة.
صمتت للحظة وهي ترمقه بنظرة ذات معنى: وأفرض خسرت؟ هتعمل إيه؟
صمت لحظة، كأن السؤال لم يخطر بباله من الأساس، نظر بعيدا، ثم عاد إليها بثبات مصطنع: هنفذلك إللي أنتِ عايزاه مهما كان.
تساءلت وهي تنظر داخل عينه وكأنها تختبره: مهما كان؟!
اوما براسه، وقال بنبرة مهتزة وهو يبتلع غصته: مهما كان.
تبادلا نظرات طويلة صامتة، قبل أن تبتسم ماسة بخفة ساخرة: تمام ويا سيدي لو عرفت تعملها، هديك ٣أيام لا لا، أسبوع جدعنة مني!
رفع حاجبه باستغراب وسعادة مبطنه: أسبوع؟ متأكدة؟
هزت رأسها إيجابا وهي تضع كفها على خاصرتها بتحدي ممزوج بدلال: اممم، بس أنت واثق من الفوز؟ يعني ممكن تستنى يوم اثنين مش لازم بكرة قصادك وقت.
ابتسم بخفة وقال بثقة خافتة: سليم مبيخسرش قولتلك بكره يبقى بكره، المهم أنتِ مترجعيش في كلامك.
بثقة وعيناها تتأمل ملامحه بثبات مريب: وماسة مبترجعش في وعدها، زي سليم.
مد يده نحوها، بابتسامة ثقة: يبقي متفقين، بكرة الفازة هتكون عندك.
نظرت إلى يده لوهله، ثم مدت يدها وصافحته بإبتسامة: اتفقنا.
أخرج نفسا عميقا وجلس من جديد على مقعده، وتناول طعامه بهدوء تام، بينما كانت هي تراقبه بنظرات متقطعة، تستغرب سكونه وثقته وكأن شيئا لم يحدث؟!
رفع عينه اليها باستغراب: يلا أقعدي كملي أكلك، بتبصيلي كده ليه،؟!
هز رأسها وهي تتجه نحو مقعدها: لا، مفيش.
جلست في مكانها، كانت تسرق النظرات اليه بين الحين والآخر، تتأمله في دهشة من هدوئه وثقته الغريبة، لكنها علي أي حال سعيده بإذابة جليد صمته الذي كان يثقل قلبها بشدة.
بدا سليم أكثر سكونا من أي وقت مضى، ربما لأن الأيام الماضية أنهكته بشدة، لكن الليلة تحديدا كان كل شيء مختلفا.
وحين انتهى من طعامه، نهض يجمع القطع المكسورة ونظر إليها مبتسما بخفة: أشوفك بكرة يا ماستي الحلوة.
غمز لها وخرج، فتابعته ماسة بابتسامة صغيرة، ورغم تمردها إلي أن بداخلها أمنية صادقة أن ينجح فيما يحاول فعله.
وبالفعل ذهب سليم إلى إحدى الورش التابعة لهم، وجلس أمام الطاولة، ووضع القطع أمامه، أخذ نفسا عميقا وبدأ العمل، كانت ملامحه مركزة كمن يرسم لوحة فنية، يلم القطع بيدين ثابتتين كأنه يجمع بازل، لم يكل اويمل، والساعات تمر دون أن يشعر، كل ما يريد أن ينهي ما بدأه، وأن يكسب ذلك الرهان، أو تلك الفرصة الأخيرة.
حي المرج، 9:00 مساء.
مظهر عام حيث شوارعه التى تعج بالحياة؛ المحلات الصغيرة، الزحام المستمر، التكاتك التي تتنقل بين الأزقة، محطة المرج القديمة، وبعض الأطفال يركضون بين السيارات والمارة.
احد الشوارع
منزل قديم يشبه بيوت الطبقة الشعبية، شقة بسيطة تتكون من غرفتين وصالة، أثاثها البسيط ودهانها المقشر يعكس فقر ساكنيها، لكن رغم ذلك كانت نظيفة ومرتبة.
دخلت آلاء بملامح مرهقة، وهي تحمل أكياس الخضار، وضعتها على الترابيزة قبل أن تتجه إلى إحدى الغرف.
داخل الغرفة
والدتها (انهار) ممددة على السرير، امرأة في الخمسينيات، تبدو متعبة، وعلى الكومودينو بجانبها مجموعة كبيرة من الأدوية.
آلاء بإبتسامة بشوشة: مساء الخير.
رفعت عينيها نحوها: حمد لله على سلامتك يا آلاء، عاملة إيه يا ضنايا؟! كده يا آلاء يومين مشوفكيش؟
جلست بجانبها بارهاق وهي تزم شفتيها بقلة حيلة: أعمل إيه بقى يا ماما، ما أنتِ عارفه اللى فيها، اضطريت أخد اليومين سهر ورا بعض علشان الكلية، المهم قوليلي عمتي جاتلك؟!
ابتسمت، وقالت بدعاء: عمتك ربنا يكرمها والله جت وعملتلي الأكل، وقعدت معايا شوية ولسة نازلة…
دققت النظر في ملامحها المرهقه، واضافت بتأثر: بلاش تقسي على نفسك في الشغل يا آلاء.
آلاء بتوضيح ورضا: أعمل إيه؟! ما أنتِ عارفه العيشه بقت غاليه أزاي، دى الحمد لله إني لقيت الشغل دى، غيري مش لاقيه.
ربتت انهار على قدميها بحنان وغلب: بس يا بنتي تعب عليكي أنتِ وشك بقى قد اللقمة، بقولك إيه، وفري تمن الأدوية الكتير اللى بتشتريهالي، وحوشيلك يا بنتي القرشين دول وحطيهم في البوسطة علشان لما ربنا يكرمك بابن حلال، تعرفي تشتريلك جهاز وتتجوزي، وأنا سيبيني اديني عايشه أهو لحد ما ربنا يفتكرني.
اتسعت عينا آلاء واهتزت شفتيها وهبطت دموعها فجأة: أوعي تقولي كده تاني يا ماما، والله العظيم هزعل منك، أمال أنا هعيش لمين، أنا لو هلحس الأرض كدة علشان اجيبلك علاجك وتبقي كويسة هلحسها، هو أنا عايشه غير بحسك، ربنا يديكي الصحه وطولة العمر وميحرمنيش منك ابدا..
مسحت دموعها، وابتسمت رغما عن وجعها وعجزها وقالت بخفة: المهم أنا قبضت النهاردة، وجبت شوية حاجات للبيت، وجبتلك الدوا، وعديت على خالتى سعاد دفعت إيجار شهرين، وأنا طالعة خبطت علي أم صفاء ادتها فلوس النور والمياه، لحسن ابنك ياخدهم، وسبت معاها ٤٠٠ جنيه زيادة، علشان لو احتاجتي حاجة وأنا في الشغل تجيبهالك.
تنهدت أنهار بمرارة: منك لله يا محمود، مش ابني بس ربنا ينتقم منه ويخلصنا منه.
سألتها بقلق: عمل حاجة تاني ولا إيه؟
أجابتها بتعب وحزن: عمله أسود ومنيل، جه وعمل مشكلة وفضل يصرخ ويزعق وبهدل الدنيا لما ملقاش فلوس، وأخد 100جنيه إللي أنت كنتي شايلاها.
آلاء بعدم اكتراث: أنا إللي سبتهم هنا أصلا علشان عارفة إن هو هييجي يعمل الحوار ده، يغور بيهم بقى ويسكت، وحقك عليا أنا لو طول لسانه عليكي.
زمت شفتيها بأسف: ما هو هييجي ويشوف الحاجة إللي أنت جبتيها والدواء.
آلاء بهدوء وضجر: إبنك مادام جه وملقاش فلوس وأخد ال100جنيه، يبقي مش هتشوفي وشه، ربنا يخلصنا منه بقى.
ابتسمت بحنان رغم التعب: ربنا يكرمك يابنتي، بعريس كويس يهتم بيكي ويقف جنبك، ويبعد عنك كل شر.
ضحكت بحزن وقالت بإستهجان: وأنا هيجيلي عرسان كويسين علي ايه؟! مش هيجيلي غير الشمامين إللي زي ابنك القمارتي، العريس الكويس هيهرب أول ما يعرف إللي أخويا بيعمله فينا،محدش هيرضى بواحده زي.
أنهار بحزن وهي تربت على قدميها: يا بنتي، أنا بدعيلك دايما، وراضية عنك، وأبوكي الله يرحمه كان راضي عنك، وأنتِ بنت كويسة وألف مين يتمناكي، ليه بتقولي علي نفسك كده؟
تنهدت وقالت بنبرة مهتزة ودموع ترفض الهبوط:
بقول الحقيقة والواقع يا ماما، الراجل لما بيجي ياخد واحدة، بياخد معها أهلها، وبيبص أهلها مين، وابنك بتاع مشاكل، محدش هيحب يتجوز واحده اخوها قمارتي وحشاش، ويجيب لنفسه وجع الدماغ؟
تنهدت أنهار بضيق وعجز، فحاولت الاء تغير الموضوع قائلة: بقولك إيه أنا تعبانة وهموت من الجوع، أعملك أكل معايا؟
أنهار موضحة: لا يا حبيبتى أنا أكلت، مش بقولك عمتك عملتلي الأكل وأكلتني وادتني العلاج قبل ما تمشي.
آلاء وهى تنهض بتعب: طب هروح أكلي لقمة وأنام علشان مش قادرة، تحبي أعملك حاجه؟
أجابتها بحنان: لا يا حبيبتى تسلمي، بس قوليلي مرتاحه في شغلك الجديد؟
ابتسمت بسعادة حقيقية: آه الحمد لله، والدكتور إللي شغال معايا، دكتور مصطفى، ربنا يبارك له محترم أوي، وزعق لشيرين علشان خصمتلي.
ابتسمت بحنان: شوفتي بقى كلها دعواتي ليكي، ربنا يحبب فيكي خلقه ويفتح لك أبوابه ويبعد عنك كل شر ويوقفلك ديما ولاد الحلال يارب، يلا، روحي غيري هدومك وكليلك لقمة، أنتِ شقيانة!
خرجت آلاء بالفعل، وابدلت ملابسها، وتناولت الطعام، ثم استسلمت لنوم عميق، بعد تعب يومان بدون راحة.
في الورشة، 4:00فجرا
انتهى سليم أخيرا، من إصلاح الفازه، لكن لم نر كيف أصلحها، لكنها بين يديه الآن صارت مختلفة، وكأنها ولدت من جديد، فابتسم بهدوء ولمعت عينيه بنظرة انتصار حقيقي، لملم متعلقاته وعاد إلي الفيلا.
وبعد قليل، دخل غرفتها يحمل بين يده الفازة وهي مغطاة بورق أحمر وفيونكة وضعها على الطاولة، ثم جلس على المقعد أمامها يتأملها بعينين تفيضان عشقا.
مر الوقت، وأصبحت الساعه تشير إلي 8:00صباحا.
بدأت ماسة تتململ على الفراش، فارتسمت على شفتيه إبتسامة واسعة، فتحت عينيها بتثاقل، فرأته يجلس على الأريكه أمامها بابتسامه: صباح الخبر.
دعكت عينها، وتساءلت بنبرة ناعسة: صباح النور؟ قاعد كدة ليه؟!
سليم بهدوء: مستنيكي، يلا قومي أغسلي وشك.
هزت رأسها ايجابا وهي تتثائب، نهضت بتكاسل ودخلت الحمام، فقام بفك تغليف الفازة ووضعها على الطاولة، وبعد دقائق خرجت بخطوات هادئة، وفجأة توقفت بانبهار، حين وقعت عيناها علي الفازة التي أعادها سليم أجمل مما كانت عليه؛ كانت القطع المتكسرة تلمع وهي متحدة معا بخطوط دقيقة من ماء الذهب، تتخللها فصوص ألماس صغيرة.
تقدمت ببطء، وأمسكتها بإنبهار: تحفة! حلوة أوي، متقولش إن دى الفازة بتاعة إمبارح؟
هز راسه قائلا بنبرة فلسفية: هي بس بعد التجميل، زمان كانت تسوى حاولي 2000جينه، دلوقتي تسوى مليون ونص، مقصدش من كلامي القيمة المادية بس أقصد القيمة إللي اكتسبتها لما اتصلحت، هي زمان كانت مجرد فازة عادية لكن دلوقتي بقت أجمل وأفخم وليها قيمة..
دقق النظر في ملامحها بثقه: فهمتي بقى إن إللي بيتكسر ممكن يتصلح ويرجع أجمل وأحسن من الأول، لو أحنا عايزين كده.
أضاف بابتسامة جانبية: أعتقد أنا كده كسبت.
هزت رأسها: أه كسبت، مش هنكر إنك رجعتها أجمل من زمان، بس أنا لسه مش مقتنعة إن القلوب أو الأشخاص ممكن يتصلحوا كده، عموما ألف مبروك أنا ملكك اتفضل قول عايز ايه؟
ضحك وأشار بيده بمداعبة: لا معلش أنا منمتش طول الليل، هروح أنام ولما أصحي نبقي نبدأ اللعبة بتاعتنا، أصل أنا مستحيل أضيع مني ثانية في الأسبوع ده.
ضحكت بخفة: واضح إنك ناوي تاخد حقك أوي.
رد بثقة يستفزها: طبعا، أوعى تتحديني تاني يا ماما، لأني هكسبك، كان غيرك أشطر، التحديات دي لعبتنا، وأنتِ لسه في كي جي وان! يلا هروح أنام ونلتقي بعد الفاصل، وياريت تكوني لابسة الفستان الأحمر إللي بحبه.
تساءلت: مش هتفطر؟
مازحها باستفزاز: لا أنا واحد كسبان، مش هفطر مع خسرانين، باي يا خسرانة.
شعرت بالغيظ فعضت على أسنانها وهي تراقب ابتعاده، وفجأة قفزت على ظهره، ولفت ذراعيها حول عنقه وساقيها حول خصره من الخلف، ثم عضت خده بقوة.
صاح بألم وتعجب: آااه! إيه ده يا ماسة؟ أنتِ اتجننتي؟!
ضحكت وهي مازالت تعضه: علشان تبطل تغيظني
حاول تخليص نفسه منها، لكنها كانت متشبثة به بقوة، تعضه وتضحك، فصاح: أوعي! بلاش هبل! آااه يا ماسة، بتعضي جامد بس!
بوعيد طفولي: والله ما هسيبك عشان تقولي خسرانة وتغيظني كويس!
صرخ ضاحكا، ولفها بين ذراعيه وألقاها على الفراش برفق، وأخذ يزغزغها من كل ناحية، فبدأت تتلوى وتصرخ: خلاص يا سليم! بطل! آااه!
حاولت الدفاع عن نفسها، تضربه بكفيها تارة، وتعض أذنه تارة أخري
صرخ ضاحكا: آااه! ودني!
ضحكت أكتر، وشدت شعره وهي تقول وسط الضحك: تستاهل! عشان تغيظني كويس!
حاول إمساك يديها، وهو يضحك بقوة: يا عضاضة! بطلي عض.
كانت متشبثة به بعناد طفولي، تضحك وتقاومه، وكلما زغزغها ردت عليه بعضة صغيرة أو ضربة خفيفة.
امتلأت الغرفة بضحكاتهما المتداخلة، بين صراخها الصغير وضحكه العالي، وحركاتهما السريعة بدت كأنها معركة دافئة بين طفلين يتشاكسان.
وحين شدت شعره للمرة الثانية، صاح ضاحكا: خلاص! استسلمت! دي حرب مش هزار!
ضحكت وهي تلهث من شدة الضحك: أهو كده! علشان تعرف إن أنا دايما إللي بكسب!
استطاع الافلات من قبضتها أخيرا: لااا! لازم نديلك جائزة أحسن حد بيعض في العالم
ركضت خلفه وهي تضحك: تعالى هنا! عضة كمان وخلصنا!
هرب وهو يضحك: هو إيه ده؟ أمشي من هنا يا آكلة لحوم البشر!
رفعت حاجبها متحدية: تعالى بقولك يا جبان!
ضحك وهو يبتعد للخارج: قولتلك مبسخنش، الجري نص الجدعنة! كسبتك في الرهان، وأنتِ كسبتيني في جولة الضرب، كده خالصين!
ركض وأغلق الباب خلفه، فألتقطت الوسادة ورمته بها وهي تضحك بمرح صادق وفي عينيها بريق سعادة خفية؛ لأنه أستطاع كسب التحدي.
دخل غرفته مبتسما، وضحكتها مازالت عالقة في ذهنه كأنها صدى خافت يدفئ صدره.
رمى جسده على الفراش بارتخاء تام، فأخيرا سينام بلا صداع ولا تعب ولا خيالات تطارده، أغمض عينيه وابتسامة مطمئنة لا تزال ترتسم على شفتيه، وسرعان ما غط في نوم عميق يشبه الراحة بعد معركة طويلة.
كان يعلم، في قرارة نفسه، أن هذا الأسبوع هو فرصته الأخيرة ولا مجال فيه للخسارة.
القلج،8:00صباحا
منزل السيدة المجهوله
كانت السيدة تتكئ على عكازيها وتوفف عند عتبه الغرفة، ترفع صوتها بنبرة متعبة تحمل حنانا: يلا يا جنة، الساعة بقت 8، حرام عليكي يا بنتي متتعبنيش معاكي، قومي بقى.
وفي تلك اللحظه تعالى طرق الباب بسرعة والحاح، فتحركت نحوه، تتمتم بنفاد صبر: طيب يا اللى على الباب جايه.
فتحت الباب فظهرت أمامها تلك الفتاة التي رأينها من قبل، فقالت بانزعاج: إيه الدوشه إللي عملاها علي الصبح دى يا رحمه.
أجابتها بابتسامة خفيفة: معلش علشان متأخرة على الشغل، بس قولت أعدى أطمن عليكي علشان رجعت أمبارح متأخر ومعرفتش اجيلك، ها عملتي إيه مع رشدى، اداكي الفلوس؟!
تنهدت وهي تومي برأسها: آه كتر خيره، اداني فلوس، ومكانش معاه كفايه فبعتلي بزيادة بالليل.
نظرت لها بعتاب: طب مقولتليش ليه؟! كنتي قولتيلي أجي أسلم عليه.
السيدة بحنان: يا حبيبتي بعتهولي مع حد، وبعدين شيليه من دماغك بقي يا رحمه يا بنتى، ده أنا سمعت إنه خطب.
تجمدت للحظة، سقط بصرها أرضا، وكأن الكلمة صفعت قلبها: أعمل إيه يخالتي غصب عني حبيته، وهو كمان كان مبينلي أنه حاسس بحاجه ناحيتي.
ربتت على كتفها بعطف: وأهو خطب وهيتجوز، ركزي بقي في حياتك وشيليه من دماغك، والحمد لله إنها جت على قد كده.
اومأت بحزن: حاضر، أومال جنة فين؟
أجابتها بضيق: سهرت طول الليل تلعب على المدعوق اللى اسمه الكمبيوتر، وعماله أصحي فيها مش راضيه تصحي.
رحمة بابتسامة: خلاص سيبيها الجو برد، أنا هروح الشغل بقي، ولما أرجع هعدي عليكي، علشان نروح للدكتور بالليل.
هزت راسها بهدوء: ماشي يا حببتى، روحي ربنا يستر طريقك.
هزت رأسها بإيجاب صامت، وملامحها تتكسر بحزن تحاول ألا أخفاؤه، ولكن أثره كان واضحا في عينيها.
فيلا سليم وماسة،1:00ظهرا.
غرفة ماسة
كانت جالسة على الأريكة، تحدق في شاشة التلفاز بشرود، لا يشغلها سوي سؤال واحد: ما الذي ينوى سليم فعله لترميم جروحها؟ وما سر هذا الهدوء والثقه الذى يتحدث بها؟
قاطع شرودها، فتح الباب فجأة، ودخول سليم مرتديا ملابس كاجوال، وملامحه يكسوها الحماس والغموض!
رفعت عينيها بخضة: بسم الله الرحمن الرحيم!
أشار بيده قائلا بنبرة حماسية حادة: إيه ده؟ قاعدة كده ليه؟ وفين الفستان الأحمر؟
نظرت له بإستغراب وهي ترفع أحد حاجبيها: هو في إيه؟ بالراحة كده وقول صباح الخير الأول!
جلس بجانبها وهو يقول بإستهجان: صباح الخير إيه بس؟ ملبستيش الفستان ليه؟
ضحكت بخفة: أنت مش كنت نايم؟ هلبسه أعمل بيه إيه؟ أنا أصلا مبحبش أقعد بهدوم خروج في البيت و…
قاطعها بإبتسامة خبيثة، ممزوجة بالحماس: بتحبي تقعدي مرحرحة أنا عارف، طب يلا، قومي ألبسي لازم نبدأ أول خطوات الفرصة.
تابع وهو يطالع ساعته وضغط على زر الإيقاف: وبكدة، رسميا بدأ أسبوع الفرصة، وهينتهي التلات الجاي، الساعة ستة وتمانية وأربعين دقيقة بالظبط.
ضحكت باستنكار مازح: طب ماتخليها سبعة، هما ال 10 دقايق دول هيفرقوا في إيه؟
قال بثقة: لأ معلش، مبحبش آخد حاجة مش من حقي، وبالمناسبة، هما 12دقيقة مش10.
ضحكت وهي تهز رأسها: ماشي يا دقيق، هديك13 دقيقة كمان، يا مجنون.
ابتسم وقال وهو يشير نحوها: على فكرة أنا سامعك.
ردت وهي تضحك بمناغشة: قصدي أسمعك، متقلقش.
سليم بنبرة أمر لطيفة: طب يلا، قومي ألبسي الفستان الأحمر.
نظرت إليه باستغراب، وقالت بمزاح ممزوج بالتعجب: هو أنت إللي عليك؟! قومي ألبسي؟ في إيه؟ مالك بقى عندك فرط حركة كده ليه؟! اتعديت مني ولا إيه؟
اقترب منها، وعيناه لا تفارقان وجهها، ثم قال بنبرة منخفضة متحمسة: مش عايز أضيع ولا دقيقة، يلا بدل ما أقوم ألبسك أنا.
ضحكت وهي تتوقف وتهز رأسها: لا وعلى إيه خليك مرتاح، حاجة تانية يا أفندم تحب أعملها غير إني ألبس الفستان الأحمر؟!
فكر قليلا ثم قال وهو يتناول بعض التسالي: أيوه أرسمي عينيك بالطريقة إللي أنا بحبها، وشعرك أعمليه تاج، وأوعى تحطي ميكب. يلا متتأخريش.
ضحكت تهز رأسها: أوامرك يا فندم، خلينا نشوف ناوي على إيه.
غادرت نحو غرفة الملابس، وسليم يتابعها بعينيه بنظرة طويلة، وما إن اختفت عن أنظاره حتى تنهد وقال يحدث نفسه في صمت “يا رب المرة دي متضيعش الفرصة”
وبعد قليل، خرجت ماسة، متألقة كعادتها، بفستان أحمر ينساب على جسدها كأنه خلق لها ، وتركت شعرها ينسدل على كتفها بإنسياب ناعم، وعيناها مرسومتان كما يحبها، ولونت شفتيها باللون الوردي، والابتسامة تزين وجهها.
جلس سليم ينتظرها وما إن رآها حتى اتسعت ابتسامته وقال بنغمة دافئة ممزوجة بمغازلة: إيه القمر ده.
ابتسمت ماسة بخجل ورقة.
مد كفه نحوها بنغمة مزاح: أوعى تقولي ده داخل أوبشن ممنوع اللمس؟
ضحكت بخفة: لا يا حبيبي، متقلقش مش تحت أوبشن ممنوع اللمس.
وضعت كفها في كفه، وتحركا معا بخطوات هادئة والابتسامة لا تفارق وجهيهما.
وصلا إلى السيارة، صعدت أولا، ثم تبعها سليم وجلس بجانبها، عدلت جلستها وقالت بفضول: ممكن أفهم إحنا رايحين فين؟ ناوي تعمل إيه؟
ابتسم بغموض: هتفهمي كل حاجة بعدين، دي أول حاجة كان لازم أعملها من أول يوم رجعتي فيه.
هزت رأسها بعدم فهم: يعني إيه؟ مش فاهمة حاجة.
رد بنبرة غامضة وهو يشير للسائق بالتحرك: لما نوصل، هتعرفي.
تحركت السيارة ببطء، والموسيقى في الخلفية تهمس ببداية أسبوع لن ينسى.
- يتبع.. (رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.