رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل السابع عشر 17 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السابع عشر

الفصل السابع عشر(تُركَ وحيداً مُهاجَر)

الفصل السابع عشر(تُركَ وحيداً مُهاجَر)

أقاتلُ كلَّ جبارٍ عنيدٍ __ ويقتلُني الفِراقُ بلا قِتالِ”

-عنترة بن شداد

____________________

_

“اللي هقوله دلوقتي هي..هيفاجأك أكيد،بس أنا مقدرتش أحتفظ بي لنفسي..أكتر من كده..،هتحسيه غريب وده حقك،بس أنا عايزك تعرفي إن..إن اللي هاقولهولك دلوقتي حقيقي..حقيقي جدا وطالع من قلبي..”

سكت للحظات يطالعها في صمت وهي تتابعه بترقب للقادم بوجهٍ لم تظهر عليه أي ردة فعل حتي الأن،إلي أن تنهد من جديد ليقطع هذا الصمت ويستأنف حديثه وأخيراً:

“فيروز..أنا..أنا ب..”

انقبضت ملامحه فجأة وتوقف عن التحدث واتسعت مقلتيّه عندما وصل إليه صوت جده يهتف بصوت مرتفع مذعور اخترق مسامعه:

“مصطفى!!”

حدّق بها بصدمة ووجه منقبض،وأنفاس تكاد تنقطع مما يخطر علي باله في هذه اللحظة،لاحظت هي ملامح الذعر والصدمة تلك فسارعت في سؤاله بذعرٍ وخوف:

“مالك ياموسى؟؟ايه اللي حصل؟؟”

ابتلع ريقه وحاول جمع كلماته ليجيبها،فخرجت منها الكلمات برجفة:

“ج..جدي بي.بينادي علي عمي مصطفى”

“مش المفروض عمو مصطفى سافر النهاردة”

“الم..المفروض أه”

“طب ادخل بسرعة شوف اللي حصل!”

أومأ لها بالإيجاب بحركات سريعة ثم هرول للداخل تحت نظراتها القلقة والمتوجّسة،وقد دار في عقلها ألف قصة وقصة بعد حديثه هذا.

بينما الأخر دلف للداخل وهو يردد بهلعٍ:

“ايه اللي حص ياجد..”

انقطعت كلماته واتسعت حدقتيّه عندما رآه يقف أمامه مجاوراً للباب،وهتف بصدمة وغير تصديق:

“عمي مصطفى!!”

تنفس مصطفى هو يوزع نظراته علي والده وموسى ثم تقدم نحوهم وهو يسحب حقائب سفره خلفه ثم وضعهم جانباً واتجه نحو والده حتي توقف في مقابلته وقبل أن ينبس بحرف كان موسى قد سبقه وهتف بإستغراب:

“مش حضرتك المفروض تكون في الطيارة دلوقتي”

نظر مصطفى نحوه وضمّ شفتيه ثم قال:

“المفروض..بس حصل ظرف ومنعني أكون عليها”

لم يفهم أحدهما مايقصده بحديثه المُبهم هذا وظل يتبادلان النظرات معه بجهلٍ وتعجب.

_____________________

كانت تتحرك في غرفتها ذهاباً وإياباً في حالة من التوتر والقلق قد سيطرت عليها بعد ما سمعته منه منذ دقائق،أخذت تفكر فيما قد حدث؟؟،ومامدى سوء الأمر؟؟.

هاجمتها الأفكار السيئة دفعة واحدة وهي تتخيل أسوء القصص،فنفذ صبرها للإنتظار وشرعت في الخروج من الغرفة وهي تقول:

“لا انا مش هقدر استني،لازم أعرف ايه اللي حصل”

فتحت الباب وتقدمت للخروج،ولكن أوقفها صوت هاتفها الذي دلّ علي وصل رسالة لها،فغلقت الباب سريعاً وتقدمت نحو فراشها والتقطت هاتفها من عليه لتجد رسالة نصية علي تطبيق”الواتساب” قد أرسلها لها،فسارعت في فتح الهاتف وقراءة الرسالة والذي دون بها:

“ماتقلقيش عمى كويس الحمد لله،هو بس ماسفرش ورجع،اطمني”

تنفس فيروز الصعداء بعد قراءة رسالته تلك واختفت الأفكار السيئة التي رواغتها،ثم جلست على طرف فراشها وردت علي رسالته برسالة نصية أخري:

“الحمد لله”

.

.

.

علي الجهة الأخرى كان يجلس ممسكاً بهاتفه علي مقعد مقابل لأريكة جلس عليها كل من والده وجده وعمه مصطفى،بينما جلس علي يمينه كل من محمد وأحمد،بعدما أعلموهم بعودة الأخير وعدم سفره.

تفاعل مع رسالتها بقلب أحمر،ثم أغلق هاتفه ووضعه في جيب بنطاله،وانتبه لوالده الذي سأل شقيقه بهلعٍ:

“ايه اللي حصل يامصطفى فهمنّا!”

وضع مصطفى كوب الماء الذي كان يحتسي منه علي المنضدة الصغيرة أمامه ثم طالع وجوه من حوله وتنهد وقال بنبرة هادئة:

“اللي حصل..إن بعد ماأنتوا وصلتوني أنا دخلت علشان أخلص إجراءت السفر،وبعد ماخلصت قعدت في قاعة الإنتظار لحد مايجي وقت إقلاع الطيارة وكده..،المهم يعني وأنا قاعد جه شاب صغير وقعد جنبي..”

Flashback

جلس علي إحدي المقاعدة الحديدة في قاعة الإنتظار حتى يحين وقت الصعود إلي الطائرة،عاد بجسده للخلف علي المقعد ثم أخرج هاتفه وأخذ يطالع الصور التذكارية التي التقطها مع عائلته في هذه الإجازة الطويلة،والتي كانت معظمها خاصة بحفل زفاف شقيقته الصغرى.

استمر في التمرير بين الصور من هذه إلى هذه ببسمة هادئة ارتسمت علي وجهه،إلى أن لاحظ جلوس أحدهم جواره،فرمقه سريعاً فوجده شاباً يافعاً في العشرين من عمره تقريباً،لم يكن فضولياً بشأنه وعاد لما كان يفعله ولكن سرعان ماانتبه لتوتر ذلك الفتى وحركة قدميه المستمرة،بجانب فركه لكفيّه مما دل علي قلقه وتوتره الشديد،فأغلق هاتفه ثم طالعه وسأله بفضول:

“أول مرة تسافر؟؟”

تفاجأ الشاب من سؤاله ونبس بتلقائية:

“ايه؟!..آه،آه أول مرة أسافر”

أومأ له مصطفى بالإيجاب بحركة بسيطة،وأردف برتابة:

“اتوقعت كده برضه،أصلك متوتر أوي”

فهم مايرمى له بحدثه فتوقف عن هزّ قدميه ثم أجابه بهدوء:

“آه يعني،بحاول ماقلقش بس غصب عني”

“طبيعي طالما دي أول مرة،هو أنت مسافر مع حد؟؟”

سكت الفتى قليلاً وبدا عليه التردد،ثم ابتلع ريقه وأردف بصوت خافت:

“لأ..،مسافر لوحدي”

رفع حاجبيه بدهشة،ثم حرك رأسه بالإيجاب وهو يردف بتعجب:

“بس أنت صغير على إنك تسافر لوحدك!”

أبعد الفتي نظره بتوترّ ورهبة،فسأله الأخير بجدية:

“وهو أنت عندك كام سنة؟؟”

ابتلع ريقه بخوف ثم عاد إليه بنظره من جديد وهو يردف بتوتر:

“٢٣”

طالعه مصطفى بشكٍ ثم أردف:

“حاسك أصغر من كده مش عارف ليه،يعني شكلك مايدلش إنك عندك ٢٣ سنة”

“لا أنا عندي ٢٣ سنة،ممكن بس علشان رفيع شوية”

“ممكن”

نبسها بشكٍ في حديث الأخر،ولاحظ الأخير ذلك فسارع في تغيير الموضوع بقوله:

“وطب وحضرتك عندك كام سنة؟؟”

“٥٣ سنة”

اتسعت حدقتيه بدهشة وأردف بغير تصديق:

“أوه..مش باين عليك خالص إنك في الخمسين”

ضحك مصطفى بخفة عليه بينما الأخر استانف حديثه بقوله:

“بجد اللي يشوفك يفكر إنك لسه في الاربعين ولا حاجة،يعني أخرك ٤٠ و٤١ كده يعني”

رد عليه مصطفي من بين ضحكاته:

“لا أنت بتبالغ أوي”

“لا مش ببالغ ولا حاجة،أنا بتكلم بجد،حضرتك أصغر من سنك،أنا أعرف ناس في نفس سنّك تحسهم في التمانين بسبب شكلهم”

“الناس دي بتكبر من الهموم،يعني ممكن يبقى شاب صغير زيك في نفس سنك وتحسه راجل عجوز أيامه في الدنيا معدودة بسبب إن شايل حِمل كبير فوق كتافه،هم زي عيلته،حياته،مستقبله وهكذا يعني..فاهمني؟؟”

حرك الفتى رأسه بالإيجاب لتفهمه لحدث الأخير الرتيب،وللحظة شعر أنه يوصفه بهذا الكلام،فصمت بشكل أثار ريبة الأخر فسأله:

“مالك سكت ليه؟؟”

خرج من شروه وعاد للأخير وحرك رأسه بالنفي مع قوله:

“لا مفيش حاجة أنا معاك..،صح هو دي أول مرة تسافر فيها زيي ولا سافرت قبل كده؟؟”

حرك له مصطفة رأسه بالنفي تزامناً مع قوله الرتيب:

“لا مش أول مرة،أنا سافرت كتير،بقالي أكتر من ٢٠ مسافر أصلا،يدوبك برجع في المناسبات العائلية”

هتف الفتي بغير تصديق:

“٢٠ سنة!!”

“آه”

“دول كتير أوي،إزاي قدرت تبعد كل ده”

رد عليه مصطفى بنبرة هادئة رتيبة:

“اتعودت،تقدر تقول اتعودت..،كنت قلقان كده زيك أول مرة بس بعد كده اتعودت،وبقا الموضوع عادي بالنسبلة لي”

“يعني أنا كمان بكره هتعود؟؟”

“ليه أنت ناوي تسافر قد ايه هناك؟؟”

سكت الفتى قليلا ثم تنهد وقال:

“مش عارف،ماحددتش المدة،اللي أعرفه إني مش هرجع غير بعد ماحقق اللي أنا رايح علشانه”

أومأ له بالإيجاب وهو يقول:

“واضح إنك عندك حلم بتسعي إنك تحققه”

“هو مش حلم علي قد ماهو هدف،هدف عايز أحققه بأي تمن”

“فهمت،علي العموم ربنا معاك ويحققلك كل بتتمناه واللي بتسعى له طالما خير ليك”

ابتسم له الفتى بإمتنان وقال:

“شكرا”

“العفو ياسيدي..،مظبوط ماسألتكش عن اسمك”

“أدهم..اسمي أدهم صبري نور الدين”

مد مصطفى يده وصافح الفتي مرددا ببسمة هادئة:

“أهلا وسهلا ياأدهم اتشرفت بمعرفتك،أنا اسمي بقا مصطفى،مصطفى محمد عمران”

فتح أدهم فمه بصدمة وهتف بغير تصديق:

“حضرتك من عيلة عمران؟؟”

“آه،في حاجة؟؟”

“هو..هو أنت تعرف المعلم داود صاحب ورشة النجارة؟؟”

“آه أعرفه،ده أخويا الصغير”

أبعد أدهم يده عن مصطفى وهو يطالعه بأعين متسعة وصدمة كبيرة ظهرت واضحه علي ملامح وجهه،بينما الأخر عقد بين حاحبيه وسألت بإستغراب:

“أنت تعرفه منين؟؟،هو أنت من المنطقة؟؟”

“يعني..،ساكن في المنطقة اللي جنبكم،وباجي في الحتة كتير عندكم”

ابتسم مصطفى بسعادة وأردف بإندهاش:

“ايه الصدفة الغريبة دي!!،مش معقول بجد”

“هو حضرتك أخوه اللي مسافر صح؟؟،أنا أعرف إنه عنده أخ مسافر دايماً غير عمو أحمد وعمو محمود”

أومأ له مصطفى بالإيجاب مع ابتسامة وهو يجيبه:

“مظبوط،أنا هو أخوه اللي مسافر”

“صدفة غريبة أوي فعلا”

“صح،احنا الاتنين نعتبر جيران واتقابلنا واتكلمنا وماكناش نعرف ده”

“ماهو علشان حضرتك مسافر علي طول،فاأنا تقريباً عمري ماشوفتك هناك خالص”

“علشان زي ماسبق وقلتلك،أنا مش بنزل غير في المناسبات،لما يبقى في فرح أو كتب كتاب حد قريب أوي يعني،وأحيانا بنزل في الأعياد بس مش دايما يعني”

أومأ له أدهم بالإيجاب مع قوله الهادئ:

“فهمت..،بس صدفة حلوة إن شوفتك وأخيرا،دايماً كان بيبقى عندي فضول أشوفك،بس حضرتك علي فكرة مش شبه اخواتك أوي،علشان كده ماعرفتكش”

“بيتهيألك،أنا شبه داود شوية لو ركزت،نفس الطول تقريبا،والمناخير ولون العين نفسه برضه”

اقترب أدهم منه قليلا وحدق به ثم أردف بمراوغة:

“فعلا في شبه،انا ماركزتش في البداية،لو كنت ركزت كنت عرفتك”

ضحك مصطفى على حديثه هذا،فضحك الأخر كذلك علي الأمر،ولكن سرعان ماانتبه كلاهما لصوت الرجل في السماعات يعلن عن سرعة التوجه للبوابة الخاصة بالمسافرين إلي “الكويت”.

توقف كلاهما عن الضحك ونظر مصطفى للثاني عقب انتهاء الرجل مباشرة وقال:

“أنا لازم استأذن بقا علشان طيارتي”

“أنا كمان مسافر الكويت”

طالعه مصطفى بدهشة وهتف بإستعجاب:

“مش معقول!!”

“آه والله”

“لا ده الموضوع بقا أكبر من مجرد صدفة”

“أنا كمان مندهش بصراحة”

ضحك مصطفى بصوت عالي نسبياً ثم نهض وأشار له وحثّه علي النهوض بقوله:

“طب قوم يلا خلينا نلحق الطيارة،لينا نصيب مانفترقش دلوقتي”

ضحك الأخر علي حديثه،وشرع بالنهوض وهو الأخر ولكن فجأة وضع يده علي قلبه وتأوه بصوت عالي نسبياً،وصل إلي مسامع الأخير فاستدار له سريعاً،واتسعت مقلتيّه بمجرد أن رأي حالته تلك وهتف بذعرٍ وهو يمسك بذراعيه:

“في ايه؟!،مالك؟؟”

لم يصل إليه أي إجابة،وكل ماحصل عليه كان جسد مرتعش سقط بين ذراعيه فاقداً للوعي،مما جعل جسده يسقط أرضاً والأخر يسكن بين أحضانه،فإزدادت صدمته أكثر وكذلك خوفه،وهتف يطلب المساعدة:

“حد يساعدنا بسرعة!”

Back

“طلعنا بيه علي أقرب مستشفى،وماقدرتش أسيبه لوحده وأمشي فافضلت معاه،شوية والممرضة طلعت وعطتني الحاجات اللي كانت معاه ومن ضمنهم بطاقته وموبايله،أخدتهم منها واتفاجأت لما عرفت سنه الحقيقي وإنه لسه ماكملش ١٩ سنة،فأخدت موبايله واتصلت علي الرقم اللي مسجله في الطوارئ ووقتها..والدته اللي ردت عليا”

طالع داود أشقائه ثم عاد لمصطفى وقال بتوتر:

“أنت عرفت مين والدته صح؟؟”

سكت للحظات دون ردة فعل،ثم اومأ بالإيجاب مع قوله الرتيب:

“عرفت..شكيت الأول في صوتها،وبعدين لما جات عرفت..إنها شمس”

Flashback

جلس علي مقعد حديدي مقابل لباب الغرفة التي يكمن بها الأخير،كان يراقب الباب عن كثب في انتظار خروجها منه،استمر في ذلك دون ملل حتي فُتح الباب وخرجت هي منه،فوقف تلقائياً وراقب تقدمها إليه،حتي أصبحت أمامه بمسافة صغيرة بينهما وحينها سألها بلهفة وقلقٍ:

“عامل ايه دلوقتي؟؟”

“الحمد لله فاق من شوية،وأول ماالمحلول يخلص نقدر نخرج”

“الطب الحمد لله،ألف سلامة عليه”

“الله يسلمك..،وشكرا علي اللي عملته”

حرك رأسه بالنفي سريعاً وهو يجيبها:

“لا ولا شكر ولا حاجة،أنا عملت اللي كان لازم يتعمل،المهم إنه بخير دلوقتي..،بس عندي  سؤال”

سكت قليلا وابتلع ريقه ثم قال بنبرة هادئة:

“هو بيتعب كتير كده؟؟”

أومأت له شمس بإماءة بسيطة ثم قالت:

“مع الأسف آه،هو..عنده القلب”

تفاجأ مصطفى مما قالته،وطالعها بدهشة للحظات ثم ضم شفتيه وأردف بحزنٍ:

“ربنا يشفيه ويخلهولك”

“تسلم”

“بس..بس هو إزاي كان هيسافر بالوضع ده؟؟”

نبس السؤال بتلقائية دون تفكير،بينما هي سكتت وكأنها تأبى إجابته،وأدرك هو ذلك سريعاً فتفهم الأمر وأومأ لها بالإيجاب مرددا:

“أنا أسف واضح إنه شئ شخصي،بعتذر”

سكتت ولم ترد عليه بينما هو استأنف حديثه بقوله:

“المهم إنه كويس دلوقتي،والحمد لله إن ماتعبش في الطيارة وإلا كان الوضع أسوء”

“مظبوط،الحمد لله”

تنهدت براحة بعد كلماته تلك ثم أضافت وهو تنظر إليه هذه المرة:

“أنت تقدر تمشي،احنا هنمشي لما المحلول يخلص،كفاية تعبك معانا لحد كده”

حرك رأسه بالنفي سريعاً وهو يجيبها:

“لا ولا تعب ولاحاجة،انا هفضل معاكم وهوصلكم،أنا عرفت من أدهم إنكم ساكنين ورانا فأنتم علي طريقي يعني”

“ليه هو أنت مش هتسافر؟؟”

سكت للحظات يفكر،ولكن لم يطل تفكيره كثيراً حينما أردف:

“مفيش نصيب حالياً بقا”

لم تفهم مايرمي إليه بحديثه ولكن لم ترد أن تتطرق إلي خصوصتيه،فأومأت له بالإيحاب بتفهمٍ،بينما هو نظر صوب باب الغرفة ثم عاد إليها وقال وهو يحثها علي الجلوس والراحة:

“تعالى اقعدي،ارتاحي شوية”

امتثلت لطلبه وجلست حيث أشار لها علي المقعد،ثم جلس هو الأخر بجوارها تاركاً مسافة شخص بينهما،وظلت هي تراقب باب الغرفة التي يكمن بها صغيرها،بينما هو استمر في محاولتها بإبعاد عينه من عليها.

Back

“بعدها بنص ساعة خرجنا من المستشفي،طلعنا علي المطار أخدت حاجاتي وحاجاته،وبعدين وصلتهم علي بيتهم وجيت علي هنا علي طول،بس اللي استغربته غياب والده،حتي طول ماأنا معاهم ماتصلش ولا مرة يطمن عليه”

طالع الخمسة بعضهم بنظرات مبهة للأخير،حتي عاد موسى إليه وأردف بجدية:

“عمي!”

انتبه مصطفى له فاستانف حديثه بقوله:

“عمي صبري متوفي،بقاله أكتر من ٣ سنين”

اتسعت حدقتي مصطفى وصُدم مما سمعه من الأخير،ثم مرر نظره علي أشقائه فتأكد من تعبير وجوههم من صحة حديث موسى،فزفر بقوة ثم ابتلع ريقه وتحدث بصوت مختنق:

“أنا أنا ماكنش عندي علم بالموضوع ده”

رد عليه أحمد مرددا برتابةٍ:

“طبيعي ماتعرفش،أنت كنت مسافر لما حصل ده،ولما كنت بتنزل إجازة ماكنتش بتيجي مناسبة نقولك ونعرفك فيها”

أومأ له مصطفى بتفهم ثم قال بنبرة جاهد لتخرج طبيعية:

“فهمت..،أنا اصلا ماكنتش أعرف إنها اتجوزت غير من فترة،ودلوقتي عرفت إنها كمان..فقدت جوزها”

“طب ناوي تعمل ايه؟؟”

نظر باستغراب لشقيقه داود الذي نبس هذا السؤال وسأله بتعجبٍ:

“اعمل ايه في ايه؟؟،هي دلوقتي عايشة مع ولادها..”

قطع داود حديثه بقوله الهادئ:

“أنا كنت بتكلم علي موضوع سفرك يامصطفى”

شعر مصطفى بالإحراج لسوء الفهم هذا،وحاول إخفاء إحراجه وإدعاء الثبات بقوله:

“ماأخدتش قرار”

سأله محمود بعدم فهم:

“مش فاهم،قصدك ايه؟؟،مش هتسافر؟؟”

نظر صوب شقيقه وتنهد ثم قال:

“حاسس إني محتاج وقت أفكر في سفري من تاني يامحمود،عايز أقعد وأراجع نفسي، وأشوف هسافر ولا أستقر هنا من تاني”

رُسمت الإبتسامة علي أوجه أشقائه ووالده بسبب فكرة بقائه معهم وعدم ابتعادهم عنهم مجدداً،ونبس والده برتابة:

“ومالو ياابني،فكر وخد وقتك واللي شايفه في مصلحتك اعمله،واحنا معاك في أي قرار هتاخده”

نظر مصطفى صوب والده وأومأ له بالإيجاب ببسمة هادئة،بينما الأخر وضع يده علي قدمه ثم قال:

“يلا ادخل ارتاحلك شوية أكيد تعبان من اللي حصل النهاردة”

“هرتاح،بس في شقتي فوق،عايز أفضل لوحدي شوية بعد اذنك طبعاً ياحج”

“ومالو يابني،اعمل اللي يريحك”

أومأ له مصطفى بالإيجاب ثم نهض من مجلسه ومرر نظره عليهم مرددا:

“عن اذنكم”

اتجه صوب الباب عقب حديثه وخرج من شقة والده قاصداً شقته،بينما البقية رافقوه بنظراتهم حتي اختفى أثره تماماً.

_____________________

ولج إلي شقته وتحديداً إلي غرفة نومه،وألقى بجسده علي مقعد هزاز مجوار للفراش،أخذ يهزّ جسده للخلف والأمام بحركات رتيبة تتنافى مع الأفكار في عقله التي كانت أشبه بأمواج البحر المضطربة في يوم عاصف.

استمر في فعل هذا لدقائق معددوة حتي توقف فجأة ونهض من عليه ثم اتجه لخزانة ملابسه وقام بفتحها ودسّ يده في إحدي الأدراج وأخرج منها صورة ورقية تطل بها “هي” عندما كانت شابة.

عاد لمجلسه من جديد وأخذ يهتز بالكرسي وهم يمسك بالصورة بيده ويحدق بها كأنها لوحدة فنية جذابة

.

ثم تنهد بعمق ونبس بنبرة هادئة خافتة:

“وأنا اللي كنت فاكر إن هبعد وأنسى..طلعت عبيط أوي ياشمس،ولا قدرت أنساكِ ولا أنسى حبي ليكِ ولا حتي أيامي معاكِ،ودلوقتي..مش قادر حتى أبعد..حاسس إني عايز أكون معاكِ”

أغمض عينه ببطء وابتلع ريقه بغصة،وتنفس الصعداء ثم فتح عينه وتأمل صورتها من جديد،وشريط ذكرياته معها يُعاد أمام عينه في هذه اللحظة.

ظن أنه ينسي أو سيقسى ولكن كل ماحصل عليه كان شوق زائد وحب دائم،وكان خيار البعد من البداية دون فائدة له.

____________________

_

دلفت إلي شقتها بواسطة المفتاح الخاص بها برفقة ابنها فوجدت ابنتها بإسقبالها تردد بخوف وهلع:

“ايه اللي حصل ياماما؟؟..أنت كويس يا أدهم؟؟”

نظرت شمس لإبنتها ولم ترد عليها،بل ولجت للداخل بوجهه عابس وواجم،بينما الأخري اقتربت من شقيقها وكررت سؤالها عليه بخوفٍ:

“أنت كويس؟؟”

أومأ لها بالإيجاب مرددا بصوت هادئ متعب:

“أنا كويس ماتقلقيش”

“طب ايه اللي حصل فهمنّي؟؟أنت كنت فين؟؟وحصل معاك كده ازاي؟؟”

نظر لها في صمت دون أن يرد عليها،فيأست هي منه والتفت لوالدتها وكررت السؤال عليها:

“ايه اللي حصل ياماما؟؟،حد يفهمني حاجة”

التفت لها شمس وطالعت ابنها بعتاب ثم أجابتها بنبرة هادئة تتنافى مع العواصف داخلها:

“أخوك كان ناوي يسبنا ويسافر ياعالية”

شهقت عالية بصوت مرتفع ونظرت لشقيقها بصدمة،بينما استانفت شمس حديثها بنفس الوتيرة:

“الأستاذ كان مختفى من الصبح،رنيت عليه ماردش،سألت صحابه وجيرنا عليه كلهم قالولي ماشفنهوش لحد مابقيت هموت من القلق عليه،دخلت أوضته لعلي ألاقي حاجة توصلني ليه لقيت دولابه فاضي..،وفوقيها طلع واخد دهبي وتقريبا باعه علشان يقدر يسافر،ولو ماكنش تعب في المطار كان زمانه في بلد تانية دلوقتي”

“يانهارك أسود،أنت ازاي تعمل كده ياأدهم!!”

نظر أدهم لشقيقته التي هتفت بتلك الكلمات،وحاول تبرير موقفه بقوله:

“أنا عملت كده علشانكم مش علشاني،كنت عايز أسافر علشان نقدر نعيش،كنت هشتغل هناك أي حاجة وأبعتلكم فلوس تقدروا تعيشوا بيها”

أتته الإجابة من والدته تردف بإستنكار:

“وأنت شايفنا مش عايشين ياأدهم؟؟ بلاش دي أنت كنت هتقدر تشتغل بحالتك الصحية دي؟؟”

“أنا كنت عايز أعمل أي حاجة تساعدنا ياماما”

“تقوم تسرق حتتين الدهب اللي شيلاهم لعمليتك وتبعيه وتسافر من غير ماتعرفنا،كنت ناوي تسيبنا بحسرتنا عليك وتمشي يا أدهم،كنت ناوي تحرق قلبي عليك يابني”

اقترب أدهم من والدته وحاول أن يمسك بذراعها ولكن ابتعدت عنه بسرعة وهي تقول بإنفعال:

“ماتلمسنيش،أوعي تلمسني..أنت مالكش الحق إنك تلمسني بعد كل اللي عملته النهاردة واللي عيشتني فيه،أنت موتني بالحيا النهاردة ياأدهم من غير ماتحس”

“انا عملت كل ده ياماما علشانك أنت وعالية والله،أنا كنت عايز أنفعكم بحاجة،بدل ماانتوا بتشتغلوا وأنا قاعد زي قلّتي هنا”

اقترب منه عالية وهي تردد برتابةٍ:

“أنت عندك ظرف،وضعك الصحي مايمسحلكش تشتغل ولاتعمل أي حاجة ياأدهم غصب عنك”

“قوليلي ياعالية،فهمي أخوكِ علشان الأستاذ مش فاهم وضعه الصحي،فاكر نفسه يقدر يشتغل ويروح وييجي”

هتف أدهم بغضبٍ ونفاذ صبر:

“ياماما افهميني انا عايز أساعدكم،عايز أعمل أي حاجة علشان نطلع من الخرابة دي بقا..أنت عاجبك حالنا واحنا تحت رحمة اللي اسمه عمي ده،عاجبك واحنا عايشين في بيتنا شفقة منه،عجبك واحنا بنقضى الشهر بالعافية بالفلوس اللي بتطلعيها من شغلك ومعاش جوزك،جوزك اللي بسببه وصلنا للحالة دي،بسبب إنه راح باع كل حاجة يملكها لأخوه قبل مايموت وسابنا احنا من غير ولا قشاية،سابنا ومات وارتاح..واحنا بنموت في اليوم بدل المرة ألف”

صرخت عالية في وجهه أخيه بغضبٍ:

“ماتعليش صوتك علي ماما ياأدهم هي مالهاش ذنب في اللي بابا عمله”

“ولا احنا لينا ذنب عالية،أنتِ مالكيش ذنب إنك تسيبي كليتك علشان مش قادرين ندفع المصاريف،ولا أنا ليا ذنب إن أسيب الدراسة لنفس السبب..”

أشار علي والدته وهو يضيف بنفس النبرة المرتفعة:

“ولا هي ليها ذنب إنها تقعد طول اليوم تطبخ وتنزل توزع لده وده..احنا شلنا هم مش همنا والسبب أبونا اللي جابنا علي الدنيا ياعالية،هو السبب في اللي وصلنا ليه دلوقتي..ياريتك ماتجوزتيه ياماما..ياريتك بجد”

هدأت نبرته في نهاية جملته،التي بمجرد أن أنهاها دلف لغرفته بخطوات سريعة ولحقت به شقيقته فوراً بعدما حثتها شمس بنظراتها علي فعل ذلك.

ولج كلاهما لغرفة الأول وأغلق الباب خلفهما،بينما هي وقفت كتمثال في مكانها دون حراك ليس من صدمتها مما سمعته من ابنها الأن،بل أنها تعلم أن كل ماقاله كان حقيقي،وأنهم الأن يعيشون في أسوء وضع والسبب يعود لزوجها المتوفي الذي باع كل شيئ يملكه لشقيقه وتركهم تحت رحمته.

سقط جسدها علي الأريكة خلفها كسقوط صخرة كبيرة في بئر عميق،ثم أخرقت رأسها ودفنت وجهها بين كفيها،ثواني قلية وارتفع صوت شقهاتها وأجهشت في البكاء ورددت من بين شهقاتها:

“مش هو السبب لوحده..أنا كمان السبب..أنا غلطانة كمان إني اتجوزته..،أنا غلطانة إن اتجوزت شخص طيب وغلبان زيه ضيعنا بالشكل ده..أنا السبب”

____________________

_

في الجهة الأخرى…

دلف إلي غرفة نومه في شقة جده،بعدما ذهب البقية للنوم كذلك،اقترب من الفراش وهو يخرج هاتفه من جيب بنطاله،ولكن بمجرد أن فعل ذلك وجد أنه نفذت طاقة بطاريته فنبس بضيق:

“لا مش معقول،هكلمها إزاي أنا دلوقتي!!”

زفر بقوة ثم اقترب من مفتاح الكهرباء وشرع في شحن بطارية هاتفه،ثم التقط ساعة يده من المنضدة القريبة من الفراش فوجد أن الساعة اقترب من الثانية عشر

صباحاً،فتنهد بيأس وهو يقول:

“أكيد هتكون نامت دلوقتي..،هبقى أكلمها بكره وخلاص،بكره هكلمها إن شاء الله،يارب بس شجاعتي ماتروحش”

تنهد بعمق ثم أعاد الساعة إلى موضعها،واقترب من الفراش وألقى بجسده عليه،ثم تنفس الصعداء وأخذ يطالع سقف الغرفة بحزن وحيرة،وخوف من ابتعادها عنه وعن قلبه،وأصبحت الأفكار السيئة ترواغه من جديد بأنه سيفقدها،فزفر بضيق وحرك رأسه بالنفي محاولاً إبعاد تلك الأفكار عن ذهنه وهو يقول:

“مش هيحصل ده،مش هتبعد عني أكيد”

اعتدل بجسده وجلس في منتصف الفراش ثم مد يده تحت الوسادة وأخرج الحاسوب الخاص به،وشرع في العمل عليه محاولاً عدم التفكير في تلك الأمور السيئة التي تزعجه وتحزن قلبه،وتجرح روحه.

_____________________

في صباح اليوم التالي…

خرج من المرحاض في شقة والده بعدما انتهي من الإستحمام وتبديل ملابسه،وأخذ يسير متجهاً لغرفته حتي توقف أمام الباب وطالع التقويم الشهري الذي عُلق علي الحائط بجوار الباب،ثم نبس بصوت خافت يكاد يسمع:

“فاضل ٤ أيام بس”

ابتلع ريقه بغصة،ثم رفع يدي وأشار بسبابته نحو اليوم الأول من الشهر القادم،والذي سيصادف يوم سفرها الذي سبق وأخبرته عنه.

استمر في مطالعة ذلك التقويم،وقد ثُبتت عينه علي ذلك اليوم بالتحديد،وكانت نظراته كلها عبارة عن حزن دفين،وخوف من خسارتها ورحيلها عنه هذه المرة أيضاً.

وفي هذه اللحظة خرجت والدته من المطبخ ورأته يقف أمام الحائط وعندما اقتربت منه قليلا وجدته يضع سبابته علي ذلك اليوم تحديداً،فانكمش حاحبيها بإستغراب ولم يخطر في بالها سوا شيئ واحد فقط.

اقتربت منه أكثر ونادت عليه لتجذب انتباهه:

“موسى!”

انتبه لها سريعا والتفت نحوها مرددا:

“نعم!”

“مالك؟؟”

حرك رأسه بالنفي سريعاً وهو يجيبها بهدوء:

“ماليش”

“متأكد؟؟”

“آه،متأكد”

أومأت له بالإيجاب وادعت تصديقها له،ثم أردفت:

“طب فطرت؟؟”

“ماليش نفس،عن اذنك”

أنهى جملته ثم التفت وولج لغرفته مباشرة وأغلق الباب خلفه،بينما هي نظرت لأثره بقلق وحزن،ثم تنهدت واتجهت نحو غرفة النوم الخاصة بها هي وزوجها،والذي وجدته يرتب خصلات شعره أمام المرآة ويستعد للنزول إلي العمل.

اقترب منه وهي تنبس اسمه بنبرة هادئة:

“داود!”

انتبه لها الأخير ووضع فرشاة الشعر جانباً ثم وقف في موجهتها وقال ببسمة هادئة:

“أؤمري”

سكت قليلا ثم أردفت بنفس الوتيرة:

“أنا عايزة أطلب منك طلب،هو طلب بس مش ليا”

انكمش حاحبي داود وسأل مستفسراً:

“أومال لمين؟؟”

“لموسى”

“ماله المحروس؟؟”

“من شوية شوفته وهو واقف قدام التقويم وباصص علي أول الشهر،وواضعحكده إنه مزنوق في قرشين وتقريباً علشان إيجار السايبر اللي معاده أول الشهر..،وغير كده أنا بقالي كام يوم ملاحظه عليه إنه مهموم ومضايق،حتي امبارح ماقعدش معانا خالص،وكان مختفي طول اليوم تقريباً،وأظن إنه ده السبب يعني”

رد عليها بحنقٍ:

“مش من عادته الحاجات دي،طول عمره لما بيتنزق في فلوس بيلف علينا واحد واحد وياخد مننا من غير مايتكسف من حد،ولا هو حس علي دمه اليومين دول وخد باله إنه كبر خلاص”

“معرفش بقا ايه اللي غيره،بس بجد هو صعبان عليا فلو تساعده المرة دي بس وتدفعله إيجار السايبر الشهرى هكون شاكره”

سكت داود وبدا عليه الضيق،فاقتربت هي منه أكثر وأردفت بهدوء لتستعطفه:

“علشان خاطري،علشاني أنا المرة دي”

ضعف أمامها كالعادة فافي النهاية هي محبوبته الأولي والوحيدة،فتنهد بقلة حيلة ثم أردف بنبرة هادئة رتيبة:

“ماشي..،الفلوس في الدولاب عندك خدي اللي أنت عايزها”

ابتسمت بسعادته وهتفت بإمتنان:

“طول عمرك الخير وبالبركة،أومال أنا بحبك ليه!!”

ابتسم علي حديثها ثم أمسك وجهها بكفيّه ولثّم رأسها بقوله لها:

“وأنا كمان بحبك ياست الكل،وست قلبي وستهم كلهم”

ابتسمت بسعادة أكبر بعد كلماته تلك،وهي تري حبه الكبير لها يتدفق من عيونه ليخترق طريقه لقبلها مباشرة،ويزيد من حبها له أكثر فأكثر،فالنهاية كلما أحببتني أكثر أحبتتك أكثر وأكثر.

_____________________

في جهة أخري…

كان يجلس في مكتبه الجديد يمسك قلم بيده ويكتب به علي ورقة وضعت أمامه وبالأصح ينقش عليها خطوط عشوائية متداخلة،بينما يمسك باليد الأخري هاتفه ويتحدث مع صديقه محسن:

“زي مابقولك كده يامحسن،هو قالي إن وصله قرار إنه يرجعني ويرقيني قبل حتي مايبلغهم بإستقالتي،وهما عرفوا إزاي اصلا إن سبت الشغل؟؟،الموضوع في إنٍ ياصاحبي”

كان محسن يجلس في مكتبه يضع قدميه فوق المكتب أمامه،ورد علي الأخير بهدوء:

“هو كده مافهوش إنٍ،كده فيه واسطة”

عقد كارم بين حاجبيه وأردف بإستغراب:

“قصدك ايه مش فاهم؟؟”

“قصدي إن كده في حد كبير كده وليه كلمة بيعزك وهو اللي اتوسطلك ورجعك الشغل ياباشا”

رد علي كارم مستنكراً من حديثه:

“يعني انا سبت الشغل علي شغل الواسطة أقوم أرجع بواسطة!..،ومين أصلا اللي ممكن يعمل كده علشاني،أنا معرفش حد في المقام ده،كل اللي أعرفهم حالهم من حالي”

“أهي دي بقا أنا معرفهاش،والمطلوب منك أنت بقا تعرفها،أو تفتكر ممكن تبقى ساعدت حد كده ولا كده من الجماعة دول وشلهالك جميلة”

“أنا ساعدت حد منهم؟!،لامفتكرش بصراحة،أنت عارف صاحبك خشيم في الحاجات دي”

“فكر ياصاحبي وراجع نفسك كده،مممن تبقى ناسي ولا حاجة”

سكت كارم قليلا ثم أومأ بالايجاب مرددا:

“ماشي هافكر يامحسن”

وصله صوت الأخير يجيبه:

“تمام ياصاحبي،يلا أكلمك بعدين أنا بقا..سلام”

“سلام”

أغلق هاتفه ووضعه علي المكتب أمامه بمجرد أن انتهت المكالمة وبيه وبين صديقه،ثم عاد بجسده للخلف علي الكرسي واخذ يفكر بصوت مسموع في الأمر:

“مين ياترى اللي ساعدني؟؟..مين اللي ليه مصلحة من رجوعي؟؟”

وضع كفيه علي وجهه وهتف بضجر:

“يارب بقا،مش متعود علي التفكير الكتير ده”

“مالك؟؟”

انتبه لصوتها الهادئ الذي اخترق اذنه،ونظر صوب الباب فوجدها تدخل منه وتنظر له بإستغراب وتعجب،فاعتدل في جلسته علي المقعد وحرك رأسه بالنفي مرددا:

“ماليش،أنا تمام أوي”

نظرت له بشكٍ وريبة،ولكن حركت رأسها بالإيجاب وادعت تصديق حديثه،فتحدث الأخر حينها:

“أنت جاية ليه؟؟”

أشار بعينها علي ملف في يدها وتقدمت نحوه بقولها:

“جيت علشان عايزة حضرتك تراجع الملف ده”

تناول منها الملف التي أعطته إياه وشرع في قراءته ثم رمقها سريعاً وسألها:

“أنت اللي عامله الملف ده؟؟”

“آه”

“برافو عليكِ،شغلك حلو بالنسبة لوحدة لسه بادئة شغل من يومين”

هتفت بسعادة كأنها طفلة صغيرة:

“بجد!!،يعني عجبك؟؟”

ابتسم علي تصرفها التي ظهر طفولي بالنسبة له،ثم أومأ بالإيجاب مرددا:

“آه مبدئيا عجبني،أحسنتِ ياآنسة ميرنا”

ردت عليه بعفوية:

“Merci beaucoup”

“De rien”

اتسعت حدقتيها من إجابته السريعة ونطقه الصحيح للكلمة،فابتسم هو علي صدمتها وأردف وهو يطالع الملف في يده:

“مصدومة كده ليه؟؟”

“ماتوقعتش إن حضرتك بتعرف فرنسي”

طالعها من جديد ثم أردف بنبرة هادئة مماثلة لبسمته لها:

“أنا بعرف آه،بس علي القد يعني،شوية مصطلحات لزوم الشغل والثقافة وكده”

“فهمت،بس حاجة حلوة إنك بتعرف تتكلم لغة تانية وكده حتي لو حاجات بسيطة”

“مظبوط معاكِ حق،ولمعلوماتك انا بعرف أتكلم إنجليزي كويس كمان”

“Oh really?”

“Yes ma’am”

ضحكت بخفة علي أسلوبه المرح،فضحك هو الاخر ثم قال بفخر وزهو:

“أنا أبهرك علي فكرة”

“مش محتاج تقولي،أنا already شايفة بعيني”

“This is a simple thing, my dear” دي حاجة بسيطة عزيزتي

ضحكت مجدداً علي طريقته تلك،وظل هو يتابعها ببسمة هادئة وأعين لامعة حتي توقفت عن الضحك وحمحمت لتستعيد ثباتها ثم قالت:

“أنت عحبتني بجد..أقصد أبهرتني”

عاد لطبيعته وأردف بمشاكسة:

“لسه ماشوفتيش حاجة ياحلوة”

“أنت بتتحول في شخصياتك بطريقة غريبة،شوية مهذب وشوية بحس إنك..”

قاطع حديثها وهو يضيف:

“سرسجي؟؟”

“آه هي الكلمة دي”

ضحك ضحكة مكتومة ثم قال بمرح:

“طالما شوفتي تحولي ده،يبقى أنت كده بدأتِ تفهميني ياعسل،ولو علي شخصيتي فأنا الاتنين مع بعض،بس كل شخصية ليها ناسها”

رد عليه بعدم فهم:

“مش فاهمه!!”

“مش مهم،هتفهمي مع الوقت..المهم دلوقتي انا هراجع الملف ده ولو في ملاحظة ولا حاجة هبقى أبلغك”

أومأت له بالإيجاب مرددة ببسمة هادئة:

“D’accord” تمام

“Je te verrai plus tard” أراكِ لاحقا

ضحكت ضحكة مكتومة ثم اومأت له بالإيحاب وخرجت من المكتب،بينما هو رافقها بنظراته ثم نبس بمشاكسة:

“صاروخ ياناس،ايه الجمال وحلاوة الروح دي!!”

ضحك بخفة عقب جملته تلك ثم طالع الملف في يده وبدأ بقراءته بعدما لبس ثوب الجدية وأبعد عقله عن الأفكار الأخرى التي كان تشغل عقله قبل مجيئها.

_____________________

سارت في طريقها متجهة لوجهه محددة،داخل منطقة قريبة من المنطقة خاصتهم،استمرت في السير حتي وصلت لوجهتها وكانت عمار مكونة من ثلاث طوابق،صعدت إليها عبر الدرج حتي وصلت إلي طابق الأول وهو المقصود.

طرقت علي الباب طرقات بسيطة حتي وصل صوت أحدهم تحثها علي الإنتظار فوقفت تترقب خروجها،وكان لها ماأرادت بعد ثواني قليلة،فافُتح الباب وطلت منه امرأة في الستين من عمرها تقريباً والتي ابتسمت بمجرد أن رأتها ورحبت بها بقولها:

“عبير!،ازيك ياحبيتي عامله ايه؟؟”

ابتسمت لها عبير كذلك وردت عليه:

“الحمد لله ياحجة يُسرية،أنت عامله ايه؟؟”

“كويسة والحمد لله،تعالى اتفضلي”

أشارت لها في نهاية جملتها تحثّها علي الدخول،فسارعت الأخر بتحريك راسها بالنفي مرددة ببسمة هادئة:

“لا خليها مرة تانية علشان انا مستعجلة دلوقتي..”

دست يدها في حقيبة اليد الصغيرة خاصتها (البوك) وأخرجت منها مبلغ من المال وشرعت في إعطائه للسيدة مرددة:

“انا جيتلك علشان أديكِ دول؟؟”

عقد السيد بين حاجبيه وأردفت بإستغراب وهو ترمق المال في يد الأخيرة:

“ايه دول؟؟”

“ده إيجار السايبر بتاع الشهر ده،ماتاخديش من الشباب بقا”

“إيجار ايه يابنتي!،أنا بايعة البيت من زمان”

انكمش حاحبيّ وأرفت بإستغراب ودهشةٍ:

“بعتيه ازاي!!،ولمين؟؟”

“بعته لموسى بقالي سنتين أهو”

انقبضت ملامح عبير بصدمة مما وقع علي مسامعها وأردف بصوت متقطع بغير تصديق:

“مو..موسى مين؟؟”

“موسى ابنك يابنتي،شاري الدورين منّي من سنتين وكاش كمان،أنت ماكنتيش تعرفي؟؟”

صمتت من هول الصدمة وكأنها فقدت النطق بعد ماسمعته،ولكن تمالكت نفسها سريعاً وعادت للأخيرة تسألها بشكٍ:

“أنتِ متاكدة إنك بتتكلمي عن موسى ابني!!”

“أومال هتكلم عن مين يابنتي!،هو أنا أعرف موسى غيره”

وضعت يدها علي صدرها ووابتلعت ريقها بصعوبة،ونبست بصوت منخفض مرتجف غير مصدقة ماسمعته لتوها:

“موسى ابني أنا شاري بيت!!”

_____________________

وقف في شرفة شقته يستند بجسده علي السور وهو يطالع شرفة شقتها من الأعلي

بعد عدم تمكنه من مكوثه في شرفة شقة جده لجلوس الأخير بها رفقة

أعمامه مصطفى وأحمد وعمته سهير.

استمر في مراقبة شرفتها بأعين بدا بها الحيرة والإشتياق،ومشاعر تضاربت مع بعضها،تنفس الصعداء وأغمض عينه ببطء ثم دس يده في جيب بنطاله وأخرج هاتفه وفتح سجل المكالمات وطالع رقمها لثواني في تردد بات واضحاً علي ملامحه.

زفر بقوة وأبعد نظره عن الهاتف وطالع شقتها من جديد ثم قال:

“شوية كده وابقى أكلمها..،أكون استجمعت نفسي تاني”

تنهد بعنق ثم وحرك رأسه بالإيجاب ثم نظر لشاشة هاتفه مجددا وقال:

“هاتصل بسامي دلوقتي وبعدين أبقى أكلمها”

حرك اصبعه علي الشاشة وهاتف صديقه،ثواني ووصل إليه صوت الأخير يقول:

“ألو”

“أيو ياسيمو،أنا خلصت الشغل وبعتهولك من شوية”

“بجد!،طب كويس أنا أول ماأوصل هشوفه وأبعته للجماعة”

عقد بين حاجبيه وأردف بإستنكار:

“توصل!،ليه هو انت مش في الشغل دلوقتي؟؟”

“لأ،أنا استأذنت علشان أروح أوصل بابا وفيروز المطار واديني راجع أهو”

دلو من المياه الباردة سُكب عليه،وكلمات كالصاعقة اخترقت مسامعه،جعلت ملامحه تنقبض ويردف بصوت مختنق يكاد يُسمع:

“تو..توصلهم ازاي؟!،مش مش هما لسه قدامهم ٤ أيام”

وصله صوت الأخير يجيبه بهدوء:

“لا ماهو الحج جاله شغل مستعجل وحجز في أول طيارة علشان يسافروا،كل حاجة حصلت بسرعة..”

لم يصل إليه أي رد من الأخير،وكل ماسمعه كان صوت هدوء تام تبعه مباشرة صوت إغلاق الخط،فنظر لشاشة هاتفه وأردف بتعحبٍ:

“قِفل ليه ده!!”

بينما الأخر هرول سريعاً نحو الخارج بخطوات تتنافس مع سرعة دقات قلبه في تلك اللحظة،ارتدى حذائه في ثواني معدودة وفتح الباب ليخرج وينطلق إليها،ولكن وجد والده يقف أمامه بالمرصاد ويسأل بتعجبٍ:

“رايح فين؟؟”

عبر موسى بجواره وهو يجيبه:

“مشوار ياحج”

“أجّله وادخل علشان عايز أتكلم معاك في موضوع مهم”

التفت إليه وأجابه سريعاً:

“بعدين ياحج،لما أجي هاقعد معاك ونتكلم براحتنا”

شرع في السير عقب كلماته تلك ولكن أوقفه قول والده الصارم:

“قلت ادخل علشان اتكلم معاك ياموسى،ماتخلنيش أعلي صوتي أكتر من كده”

تنفس بقوة محاولاً تهدئة أعصابه ثم رد علي والده سريعاً بنبرة جاهد لتخرج طبيعية:

“مش فاضي والله ياحج،لازم امشي دلوقتي عندي مشوار مهم”

“من امتى ومشاويرك مهمة،كلهم ملهمش فايدة زيك بالظبط،انجز ادخل بقا خليني اتكلم معاك في كلمتين يخصوا شغلك،ممكن ينفعوك وتحس علي دمك بقا وتنزل تشتغل”

مسح وجهه بغضب وأردف بغضب مكتوم:

“لما أرجع،لما أرجع صدقني هنتكلم ونتخانق زي ماتحب ياحج،ودلوقتي علشان خاطري سيبني أمشي بقا”

“مش ماشي غير لما أتكلم معاك وأقولك الكلمتين اللي عندي،يلا ادخل!”

صرخ بغضبٍ في نهاية جملته،وكانت صرخته تلك كفيلة من بإثارة ثورة الأخر ليهتف هو الأخر بنفاذ صبر وغضب أشبه بعاصفة هوجاء:

“مش داخل،ومش سامع كلامك،أنا تعبت خلاص من كلامك اللي مالوش اي فايدة معايا،ولا ليه أي أهمية بالنسبة ليا،ارتحت كده؟؟،سيبني بقا أمشي،حل عني وسيبني أمشي!”

التفت وترجل علي الدرج بخطوات سريعة أقرب للركض،تاركاً الأخر ينظر لأثره بغضب وصدمة من ثوارنه هذا.

_____________________

خرج من سيارة الأجرة كالقذيفة ودلف إلي المطار ركضاً،وأخذ يبحث عنها بعينه لعله يلمح طيفها حتي،بينما كان يمسك الهاتف بيده ويحاول التواصل معها،ولكن وصل إليه أنه مغلق فهتف بغضب:

“مغلق!،كان مشغول الأول وبعدين مغلق..ايه الحظ ده!”

أغلق هاتفه ووضعه في جيب بنطاله واستمر في الركض هنا وهناك بحثاً عنها ولكن بدون فائدة؛وقف في نقطة في الوسط وأخذ يدور حول نفسه وهو مستمر في البحث عنها وهتف بجدية:

“أنتِ فين يافيروز؟؟..أنتِ فين؟؟”

تقدم للأمام قليلاً وتابع بحثه وهو يردد:

“يارب،يارب ماتبقاش سافرت يارب..يارب مش هقدر أعيش من غيرها..يارب ماتكسرني فيها يارب”

توقف عن السير ومسح وجهه بكفيّه وحاول ضبط أنفاسه ولكن بدون فائدة،فكان توتره في هذه اللحظة أقوي من أي شيئ وأضحى هذا واضحا من رجفة يديّه المستمرة.

ركض مجددا أسرع وأسرع وهو يدور بعينه هنا وهناك وقلب يدعى بأن يجدها قبل فوات الأوان،ولكن كل أماله تحطمت عندما وقعت عينه علي شاشة كبيرة دوّن عليها أسماء ومواعيد الرحلات..،وكانت من بينها رحلتها والتي كانت من ضمن الرحلات التي غادرت.

توقف الوقت بالنسبة له في هذه اللحظة،وكأن أبواب الحياة قد أُغلقت جميعها في وجهه،وغادرت روحه جسده بعدما غادرت هي،وانتهى المطاف بجسده علي مقعد حديدي جلس عليه بوجه شاحب وملامح منقبضة وقلب قد فارق الحياة ليصبح ميت مدفون في قبر أسفل الأرض.

ابتلع ريقه بغصة ودار بعينه أمامه وأخذ يرفرف بأهدابه بحركة بطيئة خالية من الحياة وهو يلتقط أنفاسه حتي توقف فجأة كأن تنفسه قد انتهى،ولكن ثواني قليلة وارتفع صدره من جديد ليأخذ نفساً عميقاً كأنه كان غريق خرج لتوه من المياه.

نظر في اللاشئ أمامه بتيهٍ ثم أطرق رأسه ودفن وجهه بين كفيّه..ولم يُسمع وقتها سوا صوت شهقاته والتي ارتفعت شيئا فشيئا لتخترق الأذان..

بكى بكاء طفل صغير تاه في مكان غريب،بكى بكاء الأحبّة وقت الفراق والوادع..بكى بعد سنوات من القوة والثبات..لتأتي هي وتغادر وتتركه كعصفور صغير تُرك وحيداً مُهاجَر.

#يتبع…

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق