رواية عهد الدباغ – الفصل الخامس 5
بعد وقت قليل
بمنزل الدباغ
بـ شقة محسن
دلف وهو يحمل صغيرته الناعسة بين ذراعيه، وخلفه كانت رابيا تتبعه بخطوات هادئة… توجها معًا إلى غرفة الصغيرة، وضعها على الفراش برفق، وتبادلا ابتسامة حين همهمت الصغيرة بكلمات غير مفهومة، وهي تسبح في عالم أحلامها الصغير
جلست رابيا على طرف السرير، وبدأت في تحريرها من فستانها الوردي الصغير، ثم نهضت وأحضرت منامة أخري لها ، وألبستها لها برفق، كانت الصغيرة مستسلمة تمامًا لسُباتٍ عميق…
ظلّ محسن واقفًا يرقبهما في صمتٍ مبتسمً كأن المشهد أمامه لوحة مكتملة المعاني…
حين اعتدلت رابيا من جوار الصغيرة، اقترب منها بخطوات بطيئة لف يده حول خصرها وضع قُبلة على وجنتها… إتسعت عيني رابيًا ونبض قلبها بجنون..
رفعت عينيها له، وابتسمت بخجلٍ دافئ..
مرّر أنامله على وجنتها، شعر بسخونه..إبتسم وذهب نحو الصغيرة،إنحني وضع قبلة على وجنتها برفق، ثم إعتدل وذهب نحو رابيا عاود وضع يده حول خصرها وجذبها للسير طاوعته رابيا، أطفأت ضوء الغرفة الا من مصباح الصغير بجوار السرير، لتغمر الغرفة سكينة ناعمة لا يُسمع فيها سوى أنفاس الصغيرة المنتظمة…
خرجا معًا بخطواتٍ هادئة، وارب محسن الباب خلفهما في صمتٍ يشبه الوعد بالطمأنينة.
سارا بخطواتٍ هادئة نحو غُرفتهما، تتقدمه وهي تُمسك طرف وشاحها بخفة، وما إن دلفا حتى أغلقت الباب خلفهما…
تنفّس محسن بارتياح وهو يخلع سترته، ألقى بها على احد المقاعد،، ثم التفت إليها بعينين دافئتين وقال بنبرةٍ مرهقة لكنها مليئة بالحنان: كنتِ تعبانة النهارده… باين عليكِ مجهدة.
أجابت بابتسامة خفيفة وهي تفك حجابها:
شوية بس، اليوم كان طويل. بس دلوقتي… كل التعب راح.
اقترب منها بخطواتٍ بطيئة، حتى صارت المسافة بينهما أنفاسًا متقاطعة، رفع يده يُبعد خصلةً انسدلت على وجهها، يمسكها بين انامله وتحدث بصوت خافت يشبه الهمس:
إنتِ حلوة أوي يا رابيا… فاكر لما كنا صغيرين كانت ماما بتحب تسرح لك شعرك… كان نفسي أحس بملمس شعرك.
رغم سنوات زواجهم تبسمت بخجل، يخفق قلبها
اقترب أكثر، ضمها إليه برفق، بتلقائية استندت برأسها على صدره في سكون مطمئن، وتناوبت أنفاسهما على نسج لحظة من الدفء الخالص… لحظة لم يكن فيها سوى حديث صامت… لكن قلب رابيا ينبُض بعشق وهي بين يديه يُقبلها لمساته الناعمة… كأنها المرة الأولى لهما معًا، مشاعر مختلفة لأول مرة كذالك صراع غير معروف سببه يشعر به محسن الليلة لا يعلم سبب لذلك الهدوء النفسي الذي إفتقده منذ سنوات…لأول مره يكون مع رابيا بالفراش،لا يشعر أن ما يحدث بينهما مجرد تأدية واجب… أو بالاصح مشاعر سهل حدوثها بين أي إثنين بلا مشاعر… كنزوة… او حتى نزعة إنسانية…
الليلة كل ذلك لا وجود له، حتى بعد إنتهاء تلك اللحظات، لم يفعل كما كان بالسابق.. يستلقي على الفراش ينظر للا شيء… الليلة نظر نحوها ابتسم، وليس ذلك فقط… بل جذبها عليه يضم رأسها لصدره…
لوهلة فوجئت من ذلك وكأنها فقدت الإدراك للحظات قبل أن تضع يدها فوق صدره، تتلمس بأناملها ذلك الخط الذي بمنتصف صدر محسن…
خط أو أثر ندب… مازال محفور فوق جِلد صدره، رغم مرور سنوات على سبب ذلك الجرح العميق.
شعر بلمساتها أغمض عيناه وكأن الذكري تمُر أمام عيناه
بالعودة لسنوات بعيدة
كان بعمُر الثالثة عشر طفل ليس مُدلل كذالك يعيش طفولته مع أخواته… يمرحون ويلهون لكن فجأة سقط أرضًا يتنفس بصعوبة
لهاث والنفس ينقطع… صرخت يارا فجاء فاروق… ذُهل هو الآخر من منظر محسن، هرول للداخل وجذب والدتهم ذهبت معه الى مكان محسن، بمجرد أن رأته كاد قلبها أن يخرج من صدرها، تحاملت على نفسها وحملت محسن وخرجت للشارع أشارت لسيارة أجرة… وضعت محسن بها ثم نظرت الى فاروق قائله بأمر:
خلى بالك من إخواتك.
بالفعل ضم فاروق يارا، كذالك كينان الصغير الباكي وقتها، حاول تهدئته حتى نعس…
بينما إجلال كأن هنالك صبرًا نزل على صدرها،وهي تحاول تدليك صدر محسن ربما يتنفس بروية…الى أن وصلا أمام إحد المشافي الخاصة،ترجلت سريعًا صرخت فى الإستقبال تطلب المساعدة التى تمت سريعًا ودخل محسن الى غرفة العمليات…وضع على جهاز التنفس قبل أن يكشف عليه الطبيب،ويطلب عمل إشاعة بصورة سريعة…بعد وقت خرج الطبيب تلهفت عليه إجلال سائلة بلوعة:
إبني يا دكتور.
أجابها بعمليه:
الحمدلله التنفس تقريبًا رجع بصورة أفضل،وعملنا إشاعة عالصدر،ومنتظر نتيجتها،وإن شاء الله خير.
كلمات قليلة لكن لا تُعطي
الطمأنينة الكاملة.. التي تود سمعها كأُم تتشبث قلبها بخيط من الرجاء…
ظلت واقفة أمام باب الغرفة، كأنها تنتظر أن يخرج محسن بابتسامته المعتادة ويخبرها أنه بخير، أن كل هذا مجرد حلمٍ مزعج…
لكن صوت الأجهزة الطبية، وصفير الأوكسجين، وأنين الأجهزة الباردة جعلها تشعر بأن الأرض تميد تحت قدميها…
رفعت يديها تدعو بصمت، بينما عيناها لا تبرحان ذلك الباب المغلق…
كانت تتنفس بصعوبة كأنها هي من تختنق، كأن كل نفسٍ يخرج من صدر محسن يسحب من صدرها هي الأخرى نسمة حياة…
لحظات مرت ببطءٍ ثقيل، كأن الزمن نفسه يراقبها دون رحمة…
حتى عاد الطبيب، يحمل بين يديه أوراق الأشعة، وملامحه لا تُقرأ…
اقتربت منه خطوة، ثم خطوة أخرى، وابتلع حلقها الخالي من اللعاب وسألته بصوتٍ مرتجف:
ـ طمّني يا دكتور… محسن إبني بخير.
أجابها الطبيب بنبرة حاول أن يجعلها هادئة قدر الإمكان:
للآسف
الأشعة بينت إن عنده كسر فى عضمة من الصدر والعضمة إخترقت في عضلة القلب، الحالة محتاجة تدخُل جراحي،لازم نعمل له عملية فورًا وهحتاج مسؤول يمضي على أوراق دخوله العمليات..
نزلت الكلمات على سمعها كانها وقع على صدرها صخرة ثقيلة، ارتجفت شفتاها، لكن لم تخرج صرخة…. مدت يدها تتحسس الجدار خلفها لتستند إليه، بينما عيناها تجمدتا على الباب المغلق من جديد، تهمس لنفسها كأنها تعاهدها:
إزاي العضمة دي إتكسرت… ده هو بالذات دون عن ولادى كلهم من صغره عمره ما إشتكى من حاجه بتوجعه، حصل كده فجأة… إزاي … قولي يا دكتور أنه هيعيش.
أجابها الطبيب برأفة قلب:
إن شاء الله،كل شئ بأمر الله،والعمليات دي مبقتش صعبة زي زمان،وكمان المريض بيتعايش بصورة جيدة،خلي عندك أمل فى الله.
بلا وعي رددت:
وأنا حيلتي غير الأمل فى ربنا…
وكان أملها هو الحياة الجديدة التي عاد لها محسن…لكن كان لذلك..أضرار أخرى رغم شفاؤه بدرجة كبيرة..ددون أثر غير ذلك الندب الكبير فى جسده…لكن ظل ذلك الحادث له تأثير،فالبعض ظن أن ما حدث انه أصيب بداء العُضال “القلب” وان لذلك تأثير على حياته مستقبلًا…كذالك والديه اللذان خلف ذلك رهبة وخوف دائم عليه… حتى والده لم يقسو عليه بالعمل وكان يختار له العمل الخفيف عكس فاروق الذي كان يُثقل عليه… كان هو واجهه أنه الأقرب الى والده فقط كمنظر لبث القوة فيه… لكنه يُدرك جيدًا، أن فاروق الأقوى بدنيًا وذكاءً… رغم ذكاؤه هو الآخر فى الإدارة،وفكرة إنشاء مصنع للجلود،ليرفع من إمبراطورية محي الدين الدباغ.
على أنفاس رابيا الدافئة فوق صدره فتح عينيه،وترك خيال الماضي…نظر نحو وجه رابيا…
جميلة…وهادئة…ودائمًا تحاول أن تنال لو جزء صغير فى قلبه…راضية بمشاعره القليلة التي يجود عليها بها…ربما ما جعله يتغاضي عن سبب زواجه منها أنها بالتأكيد لم تُشارك فى نصب ذلك الفخ…وأنه من صُنع زوجة خاله،وهما الإثنين وقع ببراثن الفخ…لكن رغم مرور سنوات مازال قلبه لم ينبض نحو رابيا،فقط يراها زوجة لطيفة المعشر… لكن لديها نواقص،لا يدري ما هي،هو كان يود زواج عن حُب،أو حتى إعجاب أو إقتناع،لا زواج مفروض عليه من فتاة كان يراها بصورة أخرى كأخت،حتى لم تصل لمرتبة صديقة يستطيع التحدث معها دون شعور بالحرج أو تكلف، دائمًا هناك مسافة تفصل بينهما، مسافة غير مرئية لكنها قاسية…
هو لا يكرهها، لكنه أيضًا لا يحبها… يعيش معها بروتين بارد، وهدوء خال من الشغف…
ربما لأنها لم تُشعل فيه يومًا شرارة الحب، أو لأنها تشبه الأمان أكثر مما تشبه الحب…
كان يتمنى امرأة تُربكه، تُغضبه، تُثير فيه الفضول والرغبة في الفهم… لا امرأة كالمهد، تسكنه كأنها تضعه في غيبوبة عاطفية طويلة…
ومع ذلك، كان يُدرك أنها ليست السبب في فتور قلبه، بل هو، ذلك القلب الذي انكسر حين سُلب منه اختياره، ولم يُمنح فرصة أن يختار بقلبه قبل عقله.
أما رابيا فالليلة تشعر كأنها تهيم فوق السحاب، هي راضية بالفتات من مشاعره.
❈-❈-❈
بغرفة فاروق
إستلقى على فراشه رفع يده وضعها فوق رأسه، لمع بعينيه ذلك الخاتم الذي ببنصره…
تأمل النظر فيه وهو يتذكر قبل وقت قليل
بعد إنتهاء عقد القران..وضعت والدته أمامه علبة مُخملية…وفتحتها تبسمت قائلة:
خلاص بقت مراتك رسمي لبسها الشبكة…
بالفعل لم يعترض، ولبسها إياها بسرعة كآنها مهمة يود الانتهاء منها حتى خاتم الخطوبة وضعه بوسط بنصرها ، لكن لتوتر فرح حين جاء دورها بوضع خاتم الخطوبة ببنصره، إرتعشت يدها وسقط من بين أصابعها.. إبتسم الجميع، كذالك عهد التى إلتقطت الخاتم وذهبت به وأعطته لـ فرح فأخذته منها وهي تبتسم، وضعته ببداية بنصر فاروق الذي سحب يده حين شعر برعشة يدها، وأكمل سحب الخاتم لنهاية إصبعه… لحظات كان يتمناها بشكل آخر، بل بصورة أخري كانت اليوم أمامه تتجول تبتسم وتُجامل برِقة، ووهج خاص بها، عكس خجل فرح المُستفز.
ترك النظر للخاتم، حين سمع صوت طرق على الباب ثم فتحه ورأس كنان تظهر من خلفه مُبتسمًا يقول:
أدخل ولا هتنام.
ابتسم فاروق قائلًا:
براحتك، أنا بقول تخلي عندك ذوق وتروح تنام، أنا مُرهق.
بإستفزاز من كنان دلف الى الغرفة قائلًا:
أنا كمان مُرهق، كفاية تدريبات العسكرية لكن إنت،الليلة كنت “الملك”عروستك قمر عرفت تختار،بس خجولة أوي،عكس أختها حسيت إنها إجتماعية أكتر،وإتصاحبنا وخدت رقم موبايلها…أخوك مش بضيع وقت،شكلنا هنبقي نصايب فى المستقبل.
شعر فاروق ببوادر غِيرة ونظر له بعدم فهم سائلًا:
نصايب إيه.
تدارك كنان قائلًا:
غلطة لغوية،قصدي نسايب،إنت تاخد الكبيرة وأنا أخد الصغيرة،خلاص هانت وقربت أخلص فترة الجيش،وهستلم تعيني كـ معيد فى الجامعة و..
فهم فاروق مغزى حديث كنان،لو لم يعلم أن أكثر من نصف حديثه مزح لكان نهض وخنقه،لكن نظر له باستخفاف قائلًا:
لا تأكد مستحيل نبقي، لا نصايب، ولا نسايب لأن الصغيرة مخطوبة، فوفر رغيك وقوم روح اوضتك وسيبنى أنام أنا مش صايع زيك وعندي أشغال لازم تخلص، يلا قوم.
بإستفزاز، تمدد كنان قائلًا:
أشغال إيه.. أنا هنام هنا… بعدين مالك اتعصبت عليا كده ليه، هتعمل زي أخوك محسن من يوم ما إتجوز وهو بقي عصبي، هو الخطوبة والجواز بقوا ببجبوا عصبية ولا إيه.
نظر له فاروق بضيق قائلًا:
بكره تجرب بنفسك ودلوقتي عاوز تفضل، تفضل ساكت أنا مصدع.
نظر له كنان قائلًا:
هو فى إيه البيت ده ماله، روحت للـ البت يارا عشان أغلس عليها شوية، لاقيتها متشقلبة رأسًا على عقب،بسألها تقولى يوجا
البت قربت تختفي،واتعصبت عليا وطردتني،مفيش قدامي غير أروح أنام فى حضن ماما،بس بس الحج فاروق ممكن لو غلست عليه يحرمني من الميراث.
غصبً ضحك فاروق قائلا بوعيد :
وملقتش غيري تغلس وتنكد عليه…عارف أنا مصدع وكلمة كمان أنا هقوم أخقنك،عاوز تنام هنا تنام ساكت،غير كده كلمة واحدة أنا مش هقول أخويا الصغير،أنا هقوم أتمرن فيك بوكس هتعامل معاك معاملة كيس الرمل.
أشار كنان بيده على فمه علامة الصمت،فأغمض فاروق عيناه لكن سرعان ما فتح عيناه حين تحدث كنان،نهض يجذب وسادة ودثار قائلًا:
انا سايب لك الأوضة هروح أنام فى أوضة الجنينة.
فتفوه كنان بحماقة:
اللى جنب أوضة الكلب بتاعي اللى إغتالته ايادي الشر.
نظر له فاروق قائلًا بإستهزاء:
إغتالته إيه.
فأجابه:
كان كلب لولوه ورقيق،مش ذنبه الفضول وحب يتعرف على اهل الشارع،وعض الواد صبري وكدب وقال إن الكلب إتسعر،وبدأ يطارده لحد ما إندهس بين عجلات موتوسيكل الواد صبري..هو قاتل وكان قاصد بينتقم من الكلب.
نظر له فاروق قائلًا:
كلب لولوه ده كان نص طولك،وكان كلب شوارع وجربان
دا أنا لو مكان صبري كنت ضربته بالرصاص،وكان مسعور فعلًا.
-قلوبكم قاسيه،يلا ربنا يرحمه،بفكر لما أخلص جيش أربي قطط شيرازي،بتعجب البنات.
نظر له فاروق وزفر نفسه بصمت وغادر يصفع الباب بقوة،إرتج كنان قائلًا:
معرفش ليه اتعصب وساب الاوضة…
سُرعان ما ضحك قائلًا:
أكيد حجة عشان يروح يكلم الموزة خطيبته.
❈-❈-❈
بعد مرور عِدة اسابيع
صباح
وقفت إجلال أمام فاروق قائله بلوم:
على فكرة إنت غلطان قولى خاطب مكملتش شهر، قولى فى الشهر ده روحت لخطيبتك كام مرة، خدتها وخرجتوا سوا… دي بنت ناس وهتبقي، أو شبة بقت مراتك خلاص لازم تكلمها عشان تتعودوا على بعض شوية.
تنفس فاروق بملل قائلًا بجمود:
ماما أنا مش فاضي للخوارات التافهه دي، ولا ليا فيها، أنا كلمتها عالموبايل كذا مرة.
رمقته إجلال بنظرة حادة قائلة له بغضب :
كلمتها عالموبايل، وده هيقرب بينكم، والشغل مش أهم حاجة فى الحياة، فين المشاعر الإنسانيه.. إنت بقيت شخص مسؤول عن خطيبتك اللى تعتبر مراتك دي بنت ناس ومتحملة برودك… كتر خيرها إنها متحملة تجاهلك لها، فترة الخطوبه هي أحلى فترة بين أي إتنين مرتبطين ببعض،فيها الوِد والفرحة، بكره فى المستقبل هتندم إنك ضيعت زهوة الفترة دي… فرح بنت زي بقية البنات محتاجه تحس بشوية إهتمام منك، إتصل عليها واطلب منها تخرجوا سوا، أو حتى تزورها فى بيت أهلها، أنا وباباك وشنا بقي فى الأرض منك، ناقص يقولوا إنك إتغصبت عالجوازة، مبقاش ينفع إنت كاتب كتابك على فرح هتتحسب عليها جوازة قدام الناس، حاول تدي لـ فرح مساحة ومتأكده هتحبها، لكن طول ما إنت قافل على قلبك ومشغل عقلك هتخسر كتير، أنا بقولك بلاش تضيع أحلى فترة فى حياتك، الشغل مش هيخلص، لكن القسوة بتفضل معلمة فى القلوب.
تبدلت ملامح فاروق للحظة، كأن كلمات إجلال اخترقت جدار الجمود الذي بناه حول نفسه، لكنه سرعان ما أخفى اضطرابه بنفس عميق وزفرة ثقيلة، ثم تحدث ببرودٍ مقصود:
ماما، الموضوع مش قسوة… أنا مش ضد فرح، بس مفيش بينا حاجة تخليني أتعامل معاها كأننا متجوزين خلاص…
أنا… بحاول أديها حقها، بس مش عايز أمثل مشاعر مش موجودة.
تفوهت إجلال بحدة ممزوجة بالألم:
ومين قالك تمثل المشاعر بتتولد بالاهتمام، بالرعاية، مش بالسكوت والتجاهل
صمت هو، ينظر أرضًا، وصوتها يجلجل في أذنه كأنها تصفعه بالحقائق التي يهرب منها.
مرت ثوانٍ طويلة قبل أن يقول أخيرًا بنبرة إستسلام :
حاضر يا ماما… هحاول.
ابتسمت إجلال رغم الشك في عينيها، قائلة بنعومةٍ تخفي تعبها:
هو ده اللي عايزاه منك يا ابني، بس جرب… جرب تفتح باب قلبك شوية… ومتأكدة هتحب فرح.
غادر فاروق يتردد بعقله حديث والدته
تداخلت في رأسه كلماتها:
فرح بنت محتاجة تحس بشوية اهتمام منك…
جملة بسيطة، لكنها استقرت في أعماقه، تثير داخله جدلًا لم يكن يريد خوضه… لكن لابد من بداية وهو ليس ضعيف… ولا يخشي مقابلة عهد… كل ما كان يشعر به نحوها مجرد اعجاب وتلاشي.
❈-❈-❈
مساءً
إستقبل توفيق فاروق يرسم ابتسامه باهته، تحمل فاروق تلك الابتسامة وجلس معه يتحدثان، أوضح فاروق سبب إنشغاله لم يكن تجاهلًا بل كان بسبب تراكُم العمل… تفهم توفيق ذلك، كذالك فرح…
بعد قليل تركهما توفيق معًا وغادر الغرفة
جلس فاروق على طرف الأريكة وكأنه يجلس فوق شوكٍ خفي، عيناه تتفادى النظر إليها، وصوته جاف لا يحمل ودًا ولا رغبة في حديث.
قطع الصمت بسؤال يبدوا ودود
عاملة إيه.
ابتسمت فرح بتوتر، تخفي ارتباكها خلف هدوء مصطنع:
الحمد لله… وإنت عامل إيه.
أجاب بلامبالاةٍ ثقيلة:
شغل وضغط كالعادة.
ساد الصمت بينهما مرة أخرى، حتى بدا صوت عقارب الساعة طاغيًا، كأنها تُعنفهما على ذلك الجفاء الذي خيم بين جدران الغرفة.
تنحنحت فرح بخفوتٍ تحاول قطع الصمت:
طنط اجلال كانت هنا إمبارح، وقالت إنك مشغول الشغل كتير الفترة دى.
هز رأسه، ألقى بكلمة مقتضبة:
فعلًا.
تبادل الصمت والأنفاس بينهما، كأن الهواء نفسه تهيّب المرور من بين الحواجز التي نسجها البرود…
رفعت نظرتها نحوه، بعينين تفيض بأسئلة لا تجد طريقها إلى لسانها…
هو بدوره عدل جلسته، طالع ساعته في توتر واضح، كمن يبحث عن حُجةٍ للمغادرة.
قالت بخفوتٍ يحمل شيئًا من العتب:
إنت وراك حاجه…ليه كل شوية تبص فى الساعة
أجاب سريعًا:
لاء ببص عادي.
ابتسمت بسخريةٍ حزينة، كأنها تهمس لنفسها أكثر
التقت نظراتهما للحظة قصيرة، لكنها كانت كفيلة بأن تُعلن ما لم يُقال. بينهما وجعٌ صامت، يختنق في منتصف المسافة…
دار بينهما حديث شبه رسمي، ليس
خطيب وخطيبته… مواضيع ليس بها رابط سوى أنها تحاول جذبه للحديث،طال الوقت هكذا شعر
نهض فاروق قائلًا:
عندي ميعاد مع عميل كمان ساعة.
نظرت بابتسامة صامدة… تنكسر على شفتيها:
ماشي…هبقي أتصل عليك أطمن انك وصلت البيت بالسلامة .
أومأ رأسه غادر نحو باب الشقة فتحه…
كانت فرح خلفه… حتى وصل الى بداية السُلم…
لم ينتبه لخطواته المتسارعة، فاصطدم بـ عهد التي كانت تحمل بعض الأغراض بين يديها، لتنفرط من بين ذراعيها وتتبعثر على الأرض…
رفعت رأسها نحوه بعينين تقدحان شررًا، وتحدثت بنبرة حادة امتزج فيها الغضب بالدهشة:
مش تفتح عنيك وتشوف قدامك أفرض كنت واقفة على السلم كنت وقعت بسببك.
تراجع للخلف خطوة، يتأمل فوضى الأغراض المبعثرة وصوتها الغاضب الذي أربكه أكثر من الصدمة ذاتها. انحنى سريعًا يجمع ما سقط وهو يقول بصوت هادئ، محاولًا تهدئة الموقف:
آسف مخدتش بالي.
نظرت له بغضب واضح وهي تنتزع من بين يديه أحد الأكياس:
طبعًا ما كنتش واخد بالك، باين عليك مستعجل في حاجة أهم من إنك تبص قدامك.
تدخلت فرح سريعًا تحاول السيطرة على عصبية عهد… بالفعل
ساد صمت قصير، لمحت فيه عهد لمعة غامضة في عينيه جعلتها تتراجع قليلًا، ثم التقطت آخر قطعة من الأرض ونظرت له بجفاف.. ثم توجهت الى داخل الشقة… توقفت تنظر، لنظرات فرح لـ فاروق، شعرت بغرور وبرودة نظرات فاروق مقابل هيام فرح به، تضايقت منه ومن تجاهله لتلك النظرات الرقيقة شعرت بالشفقة على أختها فتحدثت بإستهجان:
فرح هتدخلى ولا هتفضلي واقفة قدام السلم كده، مفيش داعي لوقوفك كده، فاروق وقته ثمين، طبعًا الشغل واخد كل عقله، بلاش تعطليه، هو مستعجل، كمان أنا عاوزه أقفل باب الشقة من دخول التراب فيه.
نظر لها فاروق بغضب، وظل صامتً
تحركت فرح بخطوات بطيئة نحو الداخل، بينما ظلّ فاروق للحظات يُتابعها بنظرةٍ عابرة، لا دفء فيها ولا اهتمام، فقط نظرة مجاملة باهتة .. يُخفي غضبه من حديث وتلميحات عهد الواضحة.
لم يبالى، كذالك عهد تعمدت بمجرد دخول فرح غلق باب الشقة دون إستئذان منه…
لوهلة ود كسر باب الشقة والدخول وصفعها، لكن تمالك نفسه بصعوبه وغادر..
بالداخل
لامت فرح عهد قائلة:
على فكرة كده قلة ذوق، فاروق يقول إيه، وبعدين هو مش غريب عشان تعامليه بالطريقة الجامدة دي، أنا عارفه إنك مش بتستلطفيه بس على الاقل إتعاملى معاه بذوق… هو مغلطش فيك، وإلاصتطدام حصل غصب.
نظرت لها عهد ودت أن تقول لها أن ضيقها منه أنه لا يُقدر مشاعرك نحوه،لكن خشيت على جرح مشاعرها تنهدت بجمود قائلة:
لا غصب ولا رضا، أنا راجعه مصدعة، هدخل الحاجات دي أوضتي.
غادرت عهد لغرفتها ببنما فرح مازالت تشعر بغضب من فجاجة عهد مع فاروق.
❈-❈-❈
بعد لحظات على الطريق
قبض بيديه بقوة على مقود السيارة، حتى ابيضت مفاصله من شدة العصبية.. ارتسم الغضب واضحًا على ملامحه… كلمات عهد تلك المتغطرسة الجافة تتردد في أذنيه بتكرار.. تُشعل في صدره نارًا لا تهدأ…
زفر أنفاسه بعنف، وضرب بكفيه على المقود بقوة، اغمض عينيه محاولًا كبح جماح انفعاله، لكن عبثًا… فصوتها الحاد يتردد في رأسه
زفر بغضب بين أسنانه قائلًا:
هي فاكرة نفسها مين.
شد نفسًا عميقًا، ثم تركه يخرج ببطئ حارقًا كصدره… قائلًا لنفسه بلوم:
أنا اللي غلطان،مكنش لازم أوافق على الخطوبة دي أساسًا..
نظر في المرآة للحظة، رأى انعكاس وجهه المشدود، وعروق عُنقه البارزة… فابتسم بسخرية مُرة قائلًا:
لاول مره فى حياتك يا فاروق تبقي مش عارف إنت رايح لفين… الموضوع ده لازم يتحل.
توقف عن حديث نفسه للحظات ثم سحب نفسًا قويًا وإختزنه للحظات قبل أن يعود ويتنفس بهدوء قائلًا بحسم:
الموضوع ده لازم ينتهي قبل ما يبدأ… أنا حاسس إني مخنوق زي اللى متقيد حريته… مع نهاية خطوبتي لـ فرح هتطلع عهد من حياتي نهائيًا.
إستقر عقله على ذلك القرار ولن ينتظر، كل شئ سينتهي الليلة ويتحرر من تلك المشاعر الواهية.
….. ــــــــــــــ
بعد قليل بمنزل محي
تبسم لـ إجلال وهي تُعطي له كوب الشاي قائلة:
شوفت لما عاتبت فاروق الصبح وقولت له يعمل طريق وِد بينه وبين خطيبته، سمع كلامي وراح لها.
أخد محي منها الكوب وإرتشف قليل من الشاي قائلًا:
ربنا يهديه… واخد الشغل كل همه، كمان اوقات بحس إنه مش مرتاح الخطوبة دي..يمكن بيحب عهد.
نظرت له إجلال بنفي قائلة:
لاء طبعًا،معقول كلامك ده،لو بيحب عهد هيوافق على فرح،اكيد كان رفض الإتنين،هو بس الموضوع جديد عليه، قبل كده مكنش حاسس بالتزمات، يخرج فى اي وقت ويرجع فى اي وقت، لكن دلوقتي بقي له خطيبة وهي أولي بوقته، كمان لما يتقابلوا كتير، هيولفوا على بعض، وبكره ينسي الشغل بسببها، هو بس عامل تقيل.
تنهد محي قائلًا:
ياريت يكون كلامك صحيح، أنا عندي إحساس عكس كلامك…
توقف محي عن الحديث حين دخل عليهما فاروق، مُلقيًا السلام…
تنهد فاروق قائلا:
كويس إن حضراتكم الإتنين قاعدين مع بعض فى موضوع مهم لازم تعرفوه…
قبل أن يسترسل فاروق حديثه توقف بسبب صوت رنين هاتف والده، نظر محي للهاتف وتبسم قائلًا:
ده عمك توفيق هرد عليه، وأبقي قول لينا موضوعك المهم، عندي فضول أعرفه، بس هرد عليه الأول.
تبسم محي حين سمع حديث توفيق:
فاروق كان عندنا ونسيت أقوله إن خطيب عهد نزل أجازة وإننا خلاص حددنا ميعاد الخطوبة بعد يومين، طبعًا إنتم مش محتاجين عزومة.
وافقة محي قائلًا:
إحنا أهل يا توفيق، وألف مبروك وربنا يتمم بخير، وهنجي طبعًا بدون دعوة.
اغلق محي الهاتف وتبسم لـ إجلال، ثم نظر الى فاروق قائلًا ببساطة:
ده عمك توفيق بيقول إن خلاص حددوا ميعاد خطوبة عهد بعد يومين، ها قول لينا بقي الموضوع المهم اللى عندك.
يتبع.. (رواية عهد الدباغ) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.