رواية العار – الفصل الثاني
لم تلبث الدهشة أن تخيم على المكان قبل أن تنشق كالبرق فتظهر فتاة من ظلال الرواق، تجري بخطواتٍ حاسمة، وقد التفتت إليها العيون كلها كأنها تزلزلت السكون. كانت الفتاة ممسكة بسلاح لا يخشى أحدا في يديها ووجهها محمر بالغضب والخوف معا قم توقفت عند عهد الملقاه على الأرض، رفعتها بين ذراعيها كمن يلتقط زهرة مكدرة، وألقت نظرة خاطفة على جراحها ثم همست بخوفٍ مطمئنٍ:
جومِي يا عهد…جومي بالله عليكي .. إنتي حوصلك اي جومي
نهضت عهد متألمة ويد نجمة ترعفها وتتحسس جبينها وذراعها بعنايةٍ خشية أن تكون الرصاصة قد خلفت أكثر مما يبدو. ولما أمسكت عهد نفسها وحاولت الكلام، وقفت نجمة فجأة ونظرت في عيون الرجال المتجمهرين، ثم صفعت الهواء بصوتٍ يقطع القلوب مردده :
بجا انتوا رجاله انتوا… وانت يا خالب ازاي تحاول تجتل أختي
تقدم خالها محمود بخطوةٍ متهدجة وعينيه باردة كقِطعة حديد، وقال لها ببرودٍ صارخ:
أختك هي ال جابتلنا العار… أختك ال العيلة كلها هتموت بسببها… بجا دي اخت ولا ابنه ولا اي حاجه.. البنت دي طول عمرها مصيبه فوق راسنا
ارتجفت يد نجمة على السلاح، لكن صوت والدتها قاطع الموقف من خلفها التي اقتربت منها بخطى مترددة وملامحها محشوة بالخوف والحزم معا و نهضت وكأن قلبها يتقاتل بين الأمومة والذعر، وقالت لها بصوتٍ مكلمٍ بنبرةٍ لا تخلو من اللوم:
نجمة! الزمي حدودك، انتي مش جاية من بره تعلمينا الصوح من الغلط… احنا مش ناجصين كفايه جوي ال احنا فيه دا
قاطعتها نجمة بحدةٍ تقطر غضبا وحبا في آن واحد، وأخذت تقترب من محمود حتى كادت أن تلمس صدره بوجهها وهتفت :
بتجولوا كده وبتخرجوا سلاح علي بنتكم علشان شويه كلام ؟! أختي دي دمها مش لعبه! انتوا سايبين المذنبين وماسكين في الضحية! مش هسامح إن حد يهددها أو يجتلها.. مش هسمح ان حد يلمس اختي كفايه ظلم بجا اكده
ردد محمود وهو يرفع صوته محاولا أن يسترد هيبته أمام الجميع:
احنا مش بنعمل حاجة غير إننا بنحافظ على سمعة العيلة. لو معملتش ال لازم يتعمل، العيلة كلها هتهلك. دي ضريبة الشرف… عايزه الناس بتكلموا عننا اكتر من اكده اي عاد
تقدمت أم نجمة بخطواتٍ مترددة بين ابنتها واخيها وأمسكت بكتف نجمة بقوه أمومية، ونطقت بصرامةٍ مرت على كلماتها المرارة:
أختك لازم تعمل ال احنا عايزينه… ابن الدالي وابن المحمدي مش هنعرف نوجف جصادهد هما حلفوا انهم يجطعوا نسل العيله وشايفين صاحبهم مظلوم .. لازم ننفذ ال هما عابزينه علشان تنقذ العيلة.
اشتد وجه نجمة، كما لو أن فكرة السماح بذلك قد أشعلت فيها نارا لا تطفأ فصرخت فيهم بصوتٍ يجلجل، فجأة و يعلو على كل الأصوات مردفه:
مستحيل! مش هرضى أسمح إن أختي تضر نفسها علشان أي حد لو محدش يجدر يوجف جدامهم، أنا هتصرف
نظرت إليها أمها بعينينٍ حائرةٍ بين الرجاء والخوف، ثم ترددت لحظة قبل أن تتركها، وكأنها تعرف أن هذه الابنة لن تغير قرارها بسهولة اما نجمة فمسكت السلاح أكثر والتفتت إلى عهد بنظرةٍ مليئةٍ بالعهد والوعد:
جومي يا عهد. أنا معاكي ومهما كان، مفيش حد هيلمسك
لم تنتظر نجمه إجابة، واخذت خطواتٍ حاسمة نحو باب الدار وبعد فتره خرج جلال من البيت على عجلةٍ وقلبه مشحون بعاصفةٍ من كوابيسٍ وغضب ةقاد سيارته في شارع ضيق والنار تشتعل في صدره؛ لم يكن يعلم أن خطوة تلو الأخرى ستقوده إلى مواجهةٍ لم يتوقعها. لم تكن نجمة قد ترددت طويل عندما رأت السيارة تبتعد فاندفعت وراءها و خطواتها سريعة وقلبها رافض أن تترك أختها تهان وهي تلاحقه بسيارتها وجلال يحاول الابتعاد، ونجمة تضيق الخناق وتتخطى السيارات، لا تبالِي بالخطر. كانا يلعبان لعبة خطيرة حيث الطريق وحده من يقرر المصير وفجأة، وعلى منحنىٍ ضيق، ضغطت نجمة بكل ما أوتيت من قوة على المقود و اصطدمت بسيارة جلال بقوةٍ هزت المكان فـ توقف الصوت للحظة، ثم ارتفع هدير المحرك، وفتحت الأبواب بسرعةٍ ونزل جلال مهاجا من السيارة، ورؤية نجمة أمامه بدت كصدمةٍ تطن في صدره. كانت هي أيضا واثقة ولكن بوجها علامات الانفعال المفاجأة، والغضب، والارتباك حيث نظرت نجمة إليه بذهول فردظ جلال بحده:
إنتي إزاي تعملي اكده في العربية دي؟! مش هتبطلي جنان؟
اقتربت نجمة أكثر، حتى أصبح وجهاهما قريبين، ونبرتها احتقنت بالأسئلة:
إنت كنت خارج من بيت جلال الدالي؟ ازاي؟
نظر إليها جلال كما لو أن كلماتها أطلقت شررا في داخله، ثم نطق:
علشان أنا اصلا جلال الدالي.
تراجعت نجمة خطوة وعيناها تفتحان على اتساع و أصابها بالذهول، ثم همست بمرارةٍ لا تخفيها:
إزاي؟! أنت جاسر… إنت كنت معيد عندي في الجامعة في القاهرة، إنت جاسر مش جلال
ابتسم جلال ابتسامة لم تزلها الشفقة، وأجاب بهدوءٍ قاتل:
لع، أنا مش جاسر. أنا جلال… وكنت في الجامعة علشان… إنتي كنتي هناك، واكيد اكده عرفتي السبب
ارتجفت شفتا نجمة، وانفجر صدقها المختلط بالألم وهتفا :
أي سبب؟! إني أخت عهد؟ بتضحك عليا… انت كنت بتضحك عليا
سكن الجو للحظة، ثم امتلأت عيناهما بمزيج من الذكريات والمشاعر المعقدة. وشعرت بجرح قديم يعاودها، وبأن في قلبها خيوطا من شعور لم تفهمه، لكنها لم تسمح للحيرة أن تنتصر و في لحظةٍ قررت أن تنهي كل التوههمات وأشهرت مسدسها صوب رأسه و يدها لا ترتجف إلا لنبضةٍ في صدرها فضحك جلال بسخريةٍ قاتلة :
يا ألف أهلا وسهلا… عايزة تجتليني؟ اجتليني! مش فارق معايا خالص. حتى أمين واحشني جوي وانا اصلا عايز اروحله
لمع بريق من الألم في عينيها، ولكنها قبضت على دموعها ومنعتهما من السقوط وقالت بحدةٍ مقطوعة:
آه! أمين الحبوان..المجرم.. ال ربنا لا يسامحه ابدا
احمر وجه جلال ، وارتفعت عروقه، ثم طوى غلاف الصبر في ثواني وأخرج مسدسه هو الآخر ووجهه نحو رأسها ملوحا:
والله أجتلك من غير ما يرفلي جفن. إنتي عارفاني كويس جوي ال بجوله بنفذه
نظرت إليه نجمة بعينين تغليان غضبا وكرامة، وردت بنبرةٍ باردةٍ قاطعة:
للأسف.. أنا معرفكش خالص. إنت واحد حقير وغدار، زي صاحبك بالظبط. واسمع مني كويس أنا جايه أحذرك ابعد عن أختي وأهلي.
ابتسم هو ابتسامة مرعبة ثم اقترب بخطواتٍ هجوميةٍ وهتف بصوت يشبه فحيح الافاعي :
لو أختك منفذتش ال جولته والله ما هسيب حد في عيلتكم عايش. دا آخر تحذير
القي جلال كلماته ثم تقدم نحو سيارته وفتح الباب و التفت إلى نجمة و مسدسه يلمع في يده للحظة قبل أن يطلق طلقة نحو إطار سيارتها الذي اصبح متساوي بالارض وقال بصوتٍ جافٍ كصقيع:
دا عقاب إنك أخرتيني على شغلي. واوعي تعترضي طريجي تاني، بدل ما الرصاصة التانية تبجى في نص جلبك يا طالبتي المجتهده
ركب جلال سيارته بسرعةٍ واندفع في شارع عريض، يبتعد وترك وراءه نجمة واقفة وجهها محمرّ من البكاء والغضب، ويدها ترتعش على السلاح وصرخت بحنجرةٍ ممزقةٍ بين الألم والعزم:
مش هسيبه! مش هسيبه ولا هسكت.. جسما بالله لـ هجتلك يا جلال
وفي المساء كانت نجمة تجلس في غرفتها، عيناها متورمتان من البكاء، والدموع ما زالت تبلل خديها. تشابكت أصابعها في حجرها، وارتجفت أنفاسها وهي تتذكر…
(فلاش باك)
كانت في مكتبة الجامعة، تجلس خلف أحد الرفوف تقرأ في هدوء، حين اقترب منها جاسر او جلال باسمه الحقيقي وابتسم ابتسامة دافئة وهو يقول:
إنتي دايما بتستخبي هنا… كل شويه الاقيكي موجوده في المكتبه
رفعت رأسها بارتباك، وصوتها يتهدج قليلا:
لع انا بس بحب الهدوء… الكتب بتخليني أنسى كل حاجه وحشه بتوحصلي
جلس جلال قبالتها دون دعوة، وأسند ذقنه على يده ناظرا إليها بعينين تلمعان بالاهتمام:
اي ال بيحصلك يا نجمه… انتي قوليلي اي الوحش وانا احله علطول.. ميهونش عليا طالبتي المجتهده تبقي مضايقه وانا موجود
احمر وجهها، وخفضت نظرها إلى الكتاب، تخفي ارتجاف ابتسامتها الخجولة. كان كل تصرف منه، كل نظرة، كل كلمة… كأنها وعد خفي بشيء يشبه الحب وفي تلك اللحظة فقط، شعرت نجمة أن قلبها وجد من يسمعه و
فلاش بااك
انهمرت دموعها مجدددا، وضربت صدرها بيدها وهي تهمس بمرارة:
غبية… انا كنت غبية إزاي أصدج انه ممكن يوحصل بينا حاجه ؟ إزاي أحبك؟! كله كان تمثيل وخطة منك.. اهه طلع بيلعب بيا وانا زي الهبله
وفجأة، دوى صوت صراخ من الخارج كان صوت عهد. فـ انتفضت نجمة ومسحت دموعها بسرعة، وفتحت الباب لتجد أمها تمسك بيد عهد بقوة فقالت بخوف:
في إي يا حجه.. مالك اي ال حوصل
أجابتها الأم بعينين دامعتين وصوتٍ حاسم:
علشان نوجف الدم يا نجمة… أختك لازم تتجوز… العريس والمأذون تحت
شهقت نجمة، بينما حاولت عهد التملص وهي تصرخ:
أنا مش هتجوز…. مش هتجوز
لكن الأم سحبتها بعنف وهي تهمس بجنون:
دلوجتي… حالا حولت العريس تحت يلا
نزلن الدرج وسط توتر يخنق الأنفاس، حتى توقفت عهد فجأة عند أسفل السلم .وتجمدت نظراتها، وصرخت بصوتٍ يرتجف:
مستحيل… مستحيل أتجوزه!”
نظرت نجمة إلى الأم، ثم إلى العريس لتصعق حين رأت جلال يقف هناك بثباتٍ مريب، يبتسم لها ابتسامة انتصار باردة. فقالت عهد وهي تتراجع للخلف:
إزاي دا يوحصل.. مستخيل اتجوزه مهما حوصل و
لم تنهي عهد كلماتها حتي رفعت الأم سلاحا بيدٍ مرتجفة، وصاحت والدموع تخنقها:
يا تتجوزيه .. يا هجتل نفسي دلوجتي حالا
ساد الصمت… وارتجف الجميع، وحدقت عهد في وجه أمها ثم نظرت إلى جلال، قبل أن تهوي على الأرض منهارة وتهمس بصوتٍ مكسور:
موافجه… خلاص موافجه يا ماما
التفت جلال نحو نجمة ونظراته تخترقها بثقة المنتصر، بينما كانت هي واقفة متصلبة، عيناها مشتعلة بالغضب والانكسار وامتزجت دموعها وفجاه و
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية العار) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.