رواية العار – الفصل الثالث
انطلقت صرخة نجمة كالسهم تخترق جدار الصمت وهي تهجم نحو أختها عهد، تسحبها من ذراعها بقوة وكأنها تنتزعها من فم مصير أسود، وهتفت بصوت ممزق:
مستحيل! مستحيل أسيبك تتجوزيه! دا جلال… دا موت مش جواز.. الموت هيبجي ارحم من جوازك بيه
توقفت الأعين كلها عند الطفلة التي حاولت أن تتمسك بظل الحياة، بينما ارتسمت على شفتي جلال ابتسامة باردة، كابتسامة من اعتاد أن يرى الدم ولا يرف له جفن. وتقدم خطوة وقال بنبرة أثارت قشعريرة في المكان:
ليه؟ مش عايزين توجفوا الدم؟ ولا… تكوني إنتي الغيرانة يا نجمة.. غيرانه اني هتجوز اختك ومش هتجوزك
ارتجفت كتفاها، واتسعت عيناها بذهول غضب، قبل أن تجيب بحدة يختلط فيها الخوف :
انت بتجول إي؟ انا هغير ليه ان شاء الله
ثم التفتت نحو خالها محمود.. تمسك بجلبابه كمن يستغيث بآخر خيط نجاة، وقالت بصوت يغالب رجفته:
يا خالي… بالله عليك بلاش.. جوازها منه هيدمر حياتها، هيموت روحها وهي لسه بتتنفس….دا شيطان
لكن الخال هز كتفيه ببرود، وصوته أعمى لا يسمع غير لغة الثأر:
حياتها ولا موتها… المهم الدم يوجف
وجاء صوت الأم ليدق آخر باب للأمل، لكنه كان بابا من حديد:
كفاية كلام! احنا مش ناجصين فضيحة أكتر من اكده. جوازها هو ال هيستر العيلة… اكتب يا شيخنا
انحنى المأذون يمد يده بالأوراق، يستعد لكتابة مصير لا رجعة فيه، وقبل أن ينطق الشيخ مرددا :
موافج يا ابني
رفع جلال كفه منزعججا وقال بصوت واضح صادم:
لع مش موافج
حبس الجمع أنفاسه، وتساءلت العيون قبل الأفواه، بينما أكمل ببرود لا يحتمل:
أنا هتجوز واحدة تانية
سقطت الكلمات كالفأس على رقاب الجميع، وانشقت الأبواب عن شاب يدخل بخطوات ثابتة. كان صديق جلال، يحمل اسما يليق بعتمته رائد الحنفي و في يده ظرف أسود، وضعه أمام خال نجمة ببطء يثير الارتياب ففتح محمود الظرف… وتشققت ملامحه حين رأى الصور كان يوجد بها نجمة وجلال… يضحكان، تتقارب الأعين و تشتعل ابتسامة لا تخطئ معناها فتراجع الخال خطوة، وصوت رائد يخترق الهواء مرددا:
متعرفوش إنها كانت بتحبه؟ بنتكم نجمه كانت بتحب جلال في الجامعه
انقضت أم نجمة عليها، وصفعتها صفعة سمعت لها جدران الدار وهتفت:
ياا جليلة العقل والربايه… فضحتينا
وقبل أن تستطيع نجمة الدفاع عن نفسها، كان خالها قد أشهر سلاحه وصوبه نحو رأسها ويده ثابتة كأنها اعتادت الحكم بالموت مردفا :
يا تتجوزي جلال، يا ينتهي اسمكم من الدنيا
لكن جلال رفع يده وأوقف السلاح قبل أن يجيء الرصاص، وقال بهدوء يمزق:
انا هتجوز نجمة.. واعتقد هي هتوافج صوح يا نجمه
صرخت نجمة، والسواد يحتشد خلف عينيها:
مستحيل
لم يمهلها الخال كلمة أخرى حتي جذبها من شعرها بعنف أرعن، ودفعها أرضا أمام المأذون قائلا :
توافجي… ولا أجتاك إنتي وأختك دلوجتي
رفعت نجمة عينيها نحو جلال… لم تري انتصارا بل رأته، شبح رجل أحبته يوما فخانت روحها ذاكرتها وانكسرت نظرتها، وانطفأت النار للحظة، ثم همست بصوت ميت:
موافجه
وتحرك القلم… لا ليكتب زواجا بل ليحفر قبرا جديدا داخل قلبها.
وفي المساء كان الليل ثقيلا فوق المقابر، والضباب يزحف بين الشواهد كأن أرواحاً تائهة تعبر الطريق نحو عالم آخر. حيث وقف جلال أمام قبر أمين، عيناه ثابتتان لا ترمش، وصدره يعلو ويهبط بأنفاسٍ محملة بالغضب والحنين حتي مرر أصابعه على الحجارة الباردة وهمس بصوت بالكاد يسمع:
انت واحشتني جوي يا امين… ياريتك كنت معايا دلوجتي و
وفجاه خطوات سريعة قطعت الصمت من خلفه، وقبل أن يلتفت جلال، كان رائد يقف أمامه… لم يكد ينطق حتى انطلقت قبضته لتستقر على وجه جلال بضربة عنيفة أربكت توازنه فصرخ رائد بصوت متحشرج بالغضب:
انت اتجننت؟! دا مكنش اتفاجنا! الانتجام مش لعب عيال إزاي تتجوزها
مسح جلال الدم عن شفته وحدق فيه بعينين مشتعلتين:
علشان انتجم من أختها… كان لازم أتجوزها
اقترب رائد منه أكثر وصوته يرتفع:
لع انت بتضحك على نفسك… انت بتحبها يا جلال
تشنج فك جلال، ولم يمهل صاحبه لحظة حتى رفع يده وردد له الضربة مردفا:
أنا مستحيل أحب أخت عهد! مستحيل
صرخ رائد، وكأن الكلمات كانت تحترق داخله:
اللحظه ال هتحبها فيها… هتنسى فيها بتار أمين
ساد صمت ثقيل. تقدم جلال نحوه بخطواتٍ بطيئة كمن يقترب من جرح مفتوح وقال بصوت منخفض لكنه قاطع:
دا مستحيل يوحصل… أمين كان أخويا. هثبت براءته جدام الكل… وهآخد بتاره. مستحيل أسمح بغير اكده
هز رائد رأسه، بعينين يملؤهما الألم لا الغضب وقال:
افتكر كلامي… لو دا حوصل، انت هتخسرني أنا كمان
تجمد جلال في مكانه وضربات قلبه تتسارع وقال بذهول موجوع:
اوعي… اوعي تجول الكلمة دي تاني. انت صاحبي… وأخوي ومستحيل أسمح إن أي حاجة تبعدنا عن بعض
لم يستطع رائد الرد وخطوة واحدة كانت كافية ليقترب ويطوق جلال بذراعيه وهمس وصوته يتكسر:
أمين واحشني… واحشني جوي يا جلال
أغمض جلال عينيه ودفن وجهه في كتف صديقه والوجع يعتصره:
واحشني أنا كمان… ومش هرتاح غير لما آخد حقه
وظلا واقفين هناك، بين ظلال القبور، رجلين يلتقيان على الحزن قبل الانتقام… وبين صدريهما، اسم واحد لا ينسى:
أمين.
وبعد فتره من الوقت كان الليل ما يزال ينسدل على أرجاء البيت ككفن صامت، بينما اجتمعت في غرفة جلال عاصفة من غضب لم يعرف لها أحد سبيلا للتهدئة. كانت نجمة تقف في منتصف الغرفة، شعرها مبعثر، وعيناها مشتعلة كجمر داست عليه العواصف ويداها ترتجفان وهي تنتزع كل ما تقع عليه عيناها.. مزهرية ترتطم بالأرض، مرآة تنشق كقلبها، وصوت صراخها يشق الجدران مردده :
خرجوني من اهنيه.. ابعدوا عني
ركض الخدم نحوها يحاولون الإمساك بيديها ومنعها من تدمير المزيد، تتعثر خطواتهم بين الزجاج المتناثر وصوتها الذي يضرب صدورهم كرعد لا يهدأ قائله :
سيبوني…. سيبوني انا مش عايزة حاجه منكم
وفجأة… انفتح الباب ودخل جلال بخطوات هادئة كأن ما يحدث مجرد فوضى صغيرة لا تستحق أن يرفع من أجلها صوته وألقى نظرة واحدة على الغرفة، ثم قال ببرود :
اطلعوا برا
خرج الجميع في لحظة وبقيت نجمة وحدها في مواجهته نظر إلى الزجاج المتناثر وقال بسخرية هادئة:
ارتاحتي؟ لما كسرتي كل حاجه؟
اندفعت نحوه و أمسكت بثيابه بكل ما بقي فيها من قوة، وصوتها يهتز:
ليه اكده ؟! انت شيطان مش كفايه ال عملته فيا؟
لم تزل الابتسامة الباردة عن شفتيه وهو يجيب:
لسه معملتش حاجه… لو أختك مراحتش واثبتت براءة أمين… أنا لسه هعمل
شهقت، كأن الهواء انقطع من صدرها وهتفا :
مستحيل! مستحيل يوحصل! وانت هتطلجني… مش هسمحلك تسيطر عليا
وفي لحظة خاطفة… سحبها نحوه حتى كادت تسمع دقات قلبه المتوحش، وقال وهو يحدق في عينيها:
زعلانة اكده ليه؟ مش دا كان حلمك انك تتجوزيني؟
حاولت أن تدفعه بعيدا لكن قبضته كانت كالقيد:
مش انت… مش انت ال كنت بحلم بيه! انت واحد تاني… واحد معرفوش انت شيطان… ومستحيل أكمل معاك مهما حوصل
تركها فجأة كأن وجودها بين يديه لم يكن سوى عبءٍ عابر، وقال ببرود يغتال إرادتها:
مش انتي ال تحددي. أنا ال أجول. ومن دلوجتي… انتي ملكيش أي رائي. واختك… هتعمل ال أنا عايزه
صرخت، ودموعها تحرق وجنتيها:
اختي مظلومة
ابتسم ابتسامة كسكينٍ انغرس في جرحها، وردد بنبرة مميتة السخرية:
أختك… أكبر ظالمة شوفتها في حياتي
ثم استدار وخرج يغلق الباب خلفه ببطء… تاركا إياها تتنفس كأنها تغرق في هواءالغرفة وبعد منتصف الليل كانت عهد تسير في ممر البناية بخطوات حذرة، تلفت رأسها بين الحين والآخر، تلتقط أنفاسها بصعوبة، وكأن الهواء نفسه قد صار شاهدا على ما تقدم عليه فوقفت أمام باب شقة في الطابق العلوي ومدت يدها ترتجف على المقبض وترددت لحظة و الخوف عالق في أطرافها، لكن نظرة حاسمة عبرت عينيها، فدفعت الباب ببطء، حتى انفتح بصوت خافت يشبه تنهيدة نجاة ودخلت وهي تتفقد المكان بعينين مضطربتين والهدوء يخيم على الشقة كأن الزمن قد أوقف نبضه داخلها فـ اغلقت الباب خلفها واستدارت وخطت خطوة… ثم ثانية… حتى رأته.
كان يقف في عمق الغرفة، نصف ملامحه غارق في الظلال، لكن ملامحه تلك لم تخدع قلبها يوما. لم تنتظر منه كلمة، لم تنتظر تفسيرا..فـ هرولت نحوه كمن وجد روحه بعد غياب طويل، وألقت بنفسها بين ذراعيه.
وارتجف كتفه حين أحاطها بذراعيه، واختلطت أنفاسهما في صمت حارق. وأغمضت عهد عينيها، وقالت بصوت مكسور لكنه مفعم بالحنين:
واحشتني… واحشتني جوي ياأمين و
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية العار) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.