رواية كارثة الحي الشعبي – الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
أنظر جيدًا.
كارثة الحي الشعبي.
فاطمة محمد.
الفصل الثاني والثلاثون:
تهز قدميها بعنف وهي تقف على مقربة من باب المكتب الموصد تنتظر خروجه من الداخل واخبار والدها لها بأنه يرغب بتركها والانفصال عنها..
عضت على شفتيها تفكر في الاقتراب والاستماع لما يتحدثون به..
وبالفعل عزمت على التنفيذ وتحركت صوب الباب لاصقة اذنيها بالباب علها تسمع شيء…
لكن لا شيء… كأنهم صامتين لا يتحدثون..انكمش وجهها انزعاجًا، وقالت بخفوت متذمر:
-بيوشوشوا في ودان بعض دول ولا ايه، مش قادرين يعلوا صوتهم شوية، يخربيت القرف..
قالت الاخيرة محركة اذنيها واضعة اياها في اتجاه آخر علها تنصت إلى شيء، يريح قلبها ويزيل ما يجثو عليه..وكانت النتيجة كسابقتها…
ابتعدت وهي تتأفف بصوت مسموع..ملتفته كي تبتعد ولا تشغل ذهنها فالفراق قد جاء وقته، وقرر تركها وليس باليد حيلة…قائلة بلامبالاه كاذبة:
-كدة كدة هو مش عايزك، ومش هفرض نفسي عليه، يغور في داهية…هو و
بترت حديثها وابتلعت بقيته بجوفها بعدما رأت والدتها تقف خلفها ويتضح رؤيتها لمحاولتها التنصت إليهم..
-تصدقي فعلا هو ده اللي كان ناقصك تنضفي اوكر..
أشارت على نفسها تستنكر كلمات والدتها:
-أنا بنضف اوكر..طب على فكرة أنتِ ظالمة وربنا مش هيباركلك عشان الافترا بتاعك ده…
وضعت يدها بخصرها تستفهم منها:
-يا شيخة، اومال كنتي واقفة بتعملي ايه عندك؟؟
ازدردت ريقها بتوتر وببطء محاولة عصر ذهنها لإيجاد الجواب المناسب، او الهروب من أمامها…
وهذا ما فعلته، اتسعت عيناها وارتكزت نظراتها خلف والدتها متمتمة بصدمة:
-يا مصيبتي ايه ده؟؟؟؟؟
صدقتها الأخرى والتفتت كي ترى عما تتحدث، فاستغلت هذا وفرت هاربة من أمامها..
كزت رحمة على أسنانها عندما ادركت بأنها قد تلاعبت بها، مطلقة سبابة خافته…
-يا بنت الكدابة والله لوريكي يا وعد..
خرجت الحديقة تتنفس الصعداء…سارت بضعة خطوات وهي تستنشق الهواء محاولة كبح دموعها التي تريد التحرر من مقلتيها وملامسة وجنتيها الناعمة..مشجعة ذاتها:
-أنتِ هتعيطي ولا ايه، ايه الهبل ده من امتى وأنتِ بتعيطي، وبعدين هتعيطي على ايه؟
رمشت بأهدابها عدة مرات رافعة يدها محركة إياهم أمام عيناها كي لا تبكي، وبتلك الاثناء التقطت عيناها الكلب الخاص بهم وهو يركض خلف شيء ما لم تستطع تميزه..
تابعته فوجدته حقًا يلاحق شيء ما، محتجزًا إياه مستعدًا للانقضاض عليه وهو ينبح بصوت عالي…
تناست كل شيء..و اندفعت نحوه كي ترى ماذا يحتجز..
-في ايه ياض يا شيكو ياض بتجري وتحلق على ايه وريني.
ضيقت عيناها باحثة عما يركض خلفه ويرغب في النيل منه فوجدت قط صغير للغاية ربما لم يتخطى عُمره الشهر..
انكمش وجهها تعاطفًا واعجابًا بهذا القط رمادي اللون، متمتمة بنبرة عالية وهي تميل كي تلتقطه ضاممة إياه لاحضانها:
-يغتي صغنون يا ناس…انت جميل خالص، عندك كام يوم انت يا بيضا أنت…يا كوكو..يخربيت طعامتك…
انتهت مقبله إياه أعلى راسه ويدها تتلمس عليه بحنان مما جعله يطلق مواء بسيطًا ناعمًا يشبه..
نظرت نحو “شيكو” تنهره على تتبعه له مرددة:
-قدك ده يا مفتري..اتقي الله متعملش زي اللي جوه ده وتبقى قاسي ومعندكش دم.
**************
-ها يا عمي قولت ايه؟؟ حضرتك موافق ولا إيه !
رددها “أشرف” بترقب واضح ملتقطًا تردده على ملامحه.
مال أخيه على أذنيه قائلًا بخفوت:
-حسبي الله ونعمة الوكيل فيك يا أخي، شكله مش هيوافق، وهيخلي حمايا الطيب يعصلج، انا مني لله عشان انسحبت من لساني ده وقولتلك أتكلم الاول..
لكزه بذراعيه على تلك الثرثرة، مراقبًا تبادل النظرات الذي حدث بين سليم وأيهم، وكأنه يشاوره في هذا القرار..
هز سليم رأسه له بخفوت يشجعه على الموافقة، أخذ أيهم نفسًا عميقًا قبل أن يشرع بالحديث يوضح له وجهة نظرة:
-أنا مش هكدب عليك بس أنا متردد، يعني خايف اوافق وأندم بعدين يعني المفروض فترة الخطوبة عشان تعرفوا وتفهموا بعض وعشان لو لقيتوا انكم مش متفاهمين تبقوا لسة على البر، يعني لو فكرنا فيها بالعقل ولقدر الله حصل مشكلة بينكم بنتي ساعتها هتبقى مطلقة، طب ليه؟؟؟
تنهد الآخر يقنعه مخبرًا إياه:
-فاهم وجهه نظر حضرتك ومحترمها وفاهم خوفك والله، بس ممكن تبصلها من جانب تاني، كدة كدة لو اتخطبنا لازم نخرج ونتكلم عشان نفهم بعض اكتر و كل ده مش صح مدام مش تحت بند الجواز، وممكن كمان حضرتك متحبش ومتوافقش على ده وتتضايق من خروجاتنا وكلامنا ده لو حصلت اصلا يعني شايف انها لو بقت مراتي وخدت حريتي معها هيبقى أفضل كتير وكمان كدة مش هنغضب ربنا وهتبقى حلالي..وصدقني لو كنت مش عايز وعد مكنتش خدت القرار ده نهائي..ولا كنت اتقدمتلها من الاول..
صمت يبتلع ريقه، ثم أضاف قبل أن يتحدث اي منهم:
-أنا أبويا علمني ان بنات الناس مش لعبة وإني لو عايز واحدة ومتاكد من قراري أدخل من الباب.. أنا عارف ربنا وهراعي ربنا في بنت حضرتك، انا بس مش عايز غير ثقة حضرتك في ربنا وفيا..اكتر من كدة أنا مش عايز..
لا يدري لما ازداد إعجابه بذلك الشاب، حديثه يدخل القلب مباشرة دون استئذان..اقنعه ببساطة مستشعرًا بأنه رجلًا حقيقيًا وبإمكانه الوثوق به….
ابتسم له مانحًا إياه موافقته:
-وانا موافق يا أشرف.
شعر بالراحة والسعادة بآن واحد، مبتسمًا له هو الآخر…فتحدث سليم يبارك له:
-الف مبروك يا أشرف، ربنا يتمملكم على خير يارب..
شارف على الايجاب عليه ويشكره لولا نضال الذي سبقه مرددًا بصوت متلهف:
-طب ينفع اكتب كتابي على بنتك…داليدا يعني..اصل يعني كدة اشرف وعابد هيكتبوا وانا اشبك بس، وربنا ما ينفع، وبعدين أنا جاي الاول ومستنيك..قصدي يعني مستني حضرتك من قبل ما هو يجي ويستنى عمو ايهم عشان افاتحك..موافق صح، قول موافق وفرحني انا كمان.
ضحك سليم عاليًا، فتهلل وجهه نضال قائلًا بلهفة شديدة:
-اعتبرها موافقة طيب…
****************
تقف “دلال” مع جارتها القديمة على أعتاب منزلها رافضة الدخول متحججة بضيق الوقت، وضرورة عودتها إلى المنزل، راغبة في دعوة الكثير والكثير كي يرون هذا التحول بحياتهم…
-عرفتي العنوان خلاص؟؟ لو نسيتي ابقي كلميني، ومتتاخريش هزعل لو مجتيش والله..
-لا كله الا زعلك إن شاء الله هاجي..والف مبروك مرة تانية يا ام أشرف.
انتهت معها ثم هبطت من البناية محملقة بـ مدخل بناية “زينة” رسمت بسمة خبيثة على وجهها وتركت العنان لقدميها قاصدة منزلهم..
وقفت قبالة الباب، رافعة يدها ضاغطة على الجرس..ثوانِ وكانت تفتح لها عفاف…
اتسعت بسمتها الماكرة تدريجيًا وهي تردف بسعادة على غير العادة :
-ازيك يا عفاف..اخبارك إيه؟
تهللت الاسارير الأخرى ولم ترغب بإظهار سعادتها بمجيئها إلى بابها، فـ ربما ستتوسلها الآن كي تعود ابنتها إلى ابنها وتخبرها بأنه لا يتحمل البُعاد اكثر ويريد الرجوع إليها…
لكن مهلًا إذا كانت جاءت من أجل هذا لما تلك البسمة؟!!!!
تبخرت أحلامها وآمالها مجيبة على استفسارها:
-كويسة..اتفضلي..
لوحت بيدها المليئة بالأساور الذهبية معقبة باعتذار:
-لا معنديش وقت، انا جيت اعزمك على خطوبة أشرف حبيب قلبي، و عابد و نضال كمان الثلاته في ليلة واحدة بسم الله ماشاء الله…
ظهرت بوادر الصدمة على وجه الأخرى مما تتفوه به تلك المرأة ولم تستطع تلك المرة من السيطرة على لجام لسانها مرددة بسخرية:
-بجد؟! اومال ايه كان بيحب زينه..وقرفني بـ أنه بيحبها؟؟ كان بيلعب بيها يعني ولا إيه..
ضربت على صدرها تستنكر حديثها، مدافعة عن فلذة قلبها باستماته:
-فشر يا حبيبتي مش أشرف اللي يعمل كدة، ابني مبيلعبش بحد، ده اطيب منه مفيش، عشان كدة يا قلب امه اضحك عليه وقلبه وجعه، بالك ده لو لافف كدة وداير مكنش حصله اللي حصله، بس يلا الحمدلله ربنا رزقه بـ بنت الحلال، سرقت قلبه على طول، مستحملش تضيع من ايدة، وجه قالي وقال لابوه أنه عايزها…
صمتت قليلًا سعيدة بما تراه على ملامح الأخرى، مضيفة بنبرة بريئة:
-بيني وبينك انا مصدقتش لما قالنا، قولت ده اتجنن في عقلة ده ولا ايه مش كان لسة بيحب اللي تنشك في قلبها قصدي يعني الدكتورة الحلوة زينة، معقول لحق ينساها..بس يلا قضاء ربنا…المهم هستناكوا و لو مجتوش هزعل…
قالت الأخيرة وهي تملي على مسامعها العنوان الذي سيقام به الخطبة والذي لم يكن سوى منزل الحلواني…
وقبل أن ترحل تاركة اياها تحترق بنيران الغضب، قالت بنبرة ذات مغزى:
-على فكرة ابو العروسة دكتور أسنان، لو احتجتي تخلعي ولا تحشي ابقي قوليلي اخدك عنده…سلام عليكم…
عقب رحيلها بصقت عفاف مكانها مدركة معنى كلماتها فقد رغبت بأن تخبرها بأن والد تلك العروس طبيب مثل ابنتها، و لم يمانع على ابنها العاطل والفاشل سابقًا بوجهة نظرها.
انتهت دلال أخيرًا من دعوة جميع من تعرفهم، وقبل أن تغادر وجدت من توقفها وتعيق طريقها فابتسمت لها متبادلة السلام معها بحرارة:
-ازيك يا حبيبتي عاملة إيه؟
وبعد انتهاء تلك الأحاديث التقليدية بينهم ودعوتها هي الأخرى إلى الخطبة، تساءلت تلك المرأة:
-صحيح مش عايزة واحدة تساعدك في شغل البيت؟؟
-يختاي بتفكريني ليه بس ده البيت من كبره بيقطملي وسطي اه والله..
اقترحت المرأة عليها:
-طب وايه اللي جبرك على كدة، ما تشوفي واحدة تساعدك.
ضحكت دلال بخفوت معقبة:
-يا مصيبتي السودة عايزاني اجيب نتاية البيت وانا عندي خمس شباب كل واحد فيهم شحط وعرض الباب، طب بلاش الخمسة، اجيبها ازاي واثق في جابر ازاي ده يجبلنا مصيبة..
نفت المرأة، مغمغمة:
-ما أنتِ ما تجبيش عيلة صغيرة ولا حلوة.. والواحدة دي عندي، فاطمة أختي، واهو تشتغل بدل قعدتها في البيت، وأنتِ عارفة فاطمة..
ارتفع حاجبيها و استحسنت تلك الفكرة، متسائلة:
-بتعرف يعني في شغل البيت ونضيفة؟؟
-دي لبلب وهتريحك اوي واهم حاجة أنها كبيرة وعيالك مش هيبوصلها وفوق ده هادية ومع نفسها آه، هتريحك اوي صدقيني…
تنهدت براحة مرددة:
-توكلنا على الله، هي فين عشان تيجي معايا..
**************
عادت إلى الداخل وهي تحمل ذلك القط الصغير لا تبعده عن أحضانها، فتقابلت معهم وهم يخرجون من المكتب…
حملق ” أشرف” بذلك القط بدهشة بينما علق والدها:
-ايه القط ده جبتيه منين؟؟
-لقيته برة شيكو كان بيحلق عليه المتخلف، اصله مبيفهمش، ومبيشغلش عقله، مش شايف حجمه الصغير جمبه، بس هنعمل فيه ناس كدة بتستقوى على الضعيف، يلا حسبي الله ونعمة الوكيل..
اتسعت عين والدها وسرق نظرة نحو أشرف مستشعرًا بانها توجه كلماتها نحوه.
رمقت أشرف بنظرة شاملة من أعلاه لأسفله مرددة بلامبالاه وبرود:
-ها اتكلمت معاه خلاص قولتله على اللي عايزه فيه وارتحت..يارب تكون هديت..
التوى فم ابيها مبتسم بذهول فقد ظن بأنها تعلم عما كانوا يتحدثون، فتساءل:
-أنتِ مش موافقة ولا إيه يا وعد؟
-وانا مش هوافق ليه، موافقة طبعا، اللي استاذ اشرف قالك عليه انا موافقة عليه وعلى كل حرف، هو اصلا معاه حق…
ابتسم سليم بينما ربت نضال على كتف اخيه الذي كان يحاول قدر الإمكان كبح ضحكته والا تفلت..
بارح ايهم مكانه مقبلًا اعلى جبينها متحدث بسعادة مباركًا لها:
-طيب طمنتيني، ربنا يتمملكم على خير يا حبيبتي..يلا بقى يا شباب عشان ناكل، صحيح عابد فين؟ ما تكلموه يجي يتغدا معانا..
قال الأخيرة وهو يتحرك قاصدًا الصالون، انصاع له نضال وأخرج هاتفه محادثًا اخيه كي يأتي ويأكل معهم..
تاركين تلك المذهولة خلفهم من مباركته لها، وقف أشرف أمامها، متمتم بهدوء وبسمة سلبتها قلبها و حروفها:
-مبروك يا رعد..
استجمعت شتاتها بصعوبة مندفعة به بتلعثم مسببة في فزع القط:
-مبروك على ايه انت كمان..
-على خيبتك يا عيوني، أنتِ عارفة أنتِ عملتي ايه دلوقتي؟؟؟
هزت كتفيها تنفي فعلها لأي شيء:
-معملتش انا شايله القط..
نفى برأسه، مصححًا لها ببسمة خبيثة وعيناه تجوب على قسماتها، فتلك الحمقاء، المتمردة، صاحبة اللسان الطويل ستصبح زوجته بعد اسبوع فقط:
-لا عملتي ولو عرفتي عملتي ايه هتولعي في نفسك..
-هي فزورة ما تقول هببت ايه أنا، ما أنا متنيلة واقفة وشايلة القط..
عض على شفتيه قبل أن يجيب بأعين تلمع ببريق المكر:
-أنتِ وافقتي على كتب الكتاب من غير ما تعرفي يا حلوة..عرفتي انك مغفلة..وعرفتي اني هعاقبك على كل كلمة وكل حرف نطقتيه بلسانك اللي عايز قصه ده..هوريكي التدخل بيبقى ازاي على حق..هندمك بطريقتي الخاصة..
تسارع قلبها، بل رفرف وتراقص لا تصدق ما قاله، من المفترض أن تغضب من موافقتها دون أن تدرى لكن هذا لم يحدث بل سعدت من تلك الخطوة فكل ظنونها وشكوكها باتت سراب..فهو لن يتركها بل سيعقد قرآنه عليها..لم تبالي بكل ما تفوه به من تهديدات تعلم أنها لن تحدث…
-انت بتكلم جد؟؟ يعني انت مفسختش و احنا هنتجوز مش كدة..
ضيق عيناه يتأمل رد فعلها التي لم يتوقعها بالمرة فقد توقع أن تثور وترفض وان يرى الغضب يعتلي قسماتها…
مال بوجهه للامام قليلًا حتى باتت انفاسه تلفح وجهها، متمتم بترقب:
-أنتِ مبسوطة ولا إيه؟
-أنا ومبسوطة انت مجنون فين ده الانبساط، ده انا مضايقة انت ايه اعمى مبتشوفش….انا مش موافقة أنا مش هتجوزك…
أظهر اعتراضه على كلماتها الكاذبة، متمتم:
-كدابة لسانك بيكدب، بس عيونك لا…
حاولت إخفاء مشاعرها فمن الواضح بأنه قد كشف أمرها وشعر بما تكنه نحوه، متمتمة بانفعال محتضنة القط اكثر لاتبالي بانزعاج الصغير من ضمها له حتى الآن:
-لا وانت بتفهم اوي، بقولك ايه انا مش هتجوزك، مش انت اللي أنا عايزة اتجوزه، انت واحد مفتري…انت عامل زي شيكو بضبط وأنا عاملة زي القط الجميل ده، علطول فارض عضلاتك وبتستقوى عليا، اكمني غلبانة، بس متعرفش أن الغلبانة دي ممكن تخربشك…
ضحك من جديد، يرفض تلك الترهات:
-اتنيلي، بقى أنتِ القط الغلبان ده ، أنتِ هبلة يا بت، ده أنتِ علطول حرقة دمي ومعصباني يبقى مين اللي مفتري أنا ولا انتِ..بذمتك رعد مبتعصبكيش..
-بتعصبني عشان وحش ده اسم ولد وانا بنت، لكن أنت بقولك اشف ماله اشف، ده حتى جديد، هاتلي واحد بس بيدلع يتقاله أشف….مفيش مش هتلاقي..يا ترى ليه؟؟ عشان اسم مميز…
قلب عيناه متمتم بنفاذ صبر قبل أن يلحق بوالدها:
-اتنيلي تاني….
***************
مد “عابد” يده دون أن يفتح عيناه محاولًا الوصول إلى هاتفه المعلن عن اتصال ما..
وجده اخيرًا مجيبًا بصوت ناعس واعين مغلقة:
-ألو..
وصل إليه صوت “نضال” يخبره بهدوء:
-واد يا عابد صحصح ياض وقوم تعالى تتغدا معانا عند
قاطعه عابد متناسيًا أمر تواجده بمنزل عائلة معشوقته، يخبره بانزعاج راغبًا في استكمال نومه:
-طفحت يا عم ومش جعان، سبني أنام ع
توقف عن إتمامها لتحدث الآخر يخبره بخفوت:
-خلاص انا غلطان، وحبيبة القلب لما تنزل هقولها انك مردتش تيجي وبتقول اتغديت…
انتبه وهب من نومته فاتحًا عين واحدة، متسائلًا بعدم فهم:
-مش فاهم، براحة عليا عشان كنت نايم..
تنهد نضال، موضح له:
-هو مش انا في بيت حمايا؟
حك رأسه متذكرًا تواجده هناك:
-اه صحيح ده انا نسيت..
-اه ما أنا واخد بالي، المهم اقفل بقى عشان بيحطوا الغدا، وانا هقولهم انك اتغديت و بتوصل سلامك للمحبوبة..
كاد يغلق ليصل إليه صوته المتلهف، مغمغم:
-انت ياض متقفلش يالا ومتقولش حاجة انا جاي، انا اساسا جعت…
ابتسم نضال وقال يسخر منه:
-اه سبحانه من شوية كنت مش جعان دلوقتي بقدرة قادر جوعت..يلا صدق اللي قال الحب بهدلة..
*************
التفتت روفان إلى وعد التي دخلت المطبخ للتو، كادت تتحدث وتخبرها بمساعدتهم بملئ الصحون، لولا ذلك القط التي رأتها تحمله وآثار دهشتها:
-ايه القط ده يا وعد جبتيه منين؟
أخبرتها بما حدث تحت مسامع والدتها و زوجات اعمامها، انفعلت رحمة وآمرتها وهي تتحرك لا تتوقف عن تعبئة الصحون بالطعام اللواتي اعدوه:
-طلعي القط ده برة، وبعدين تعالي اغسلي إيدك وحضري معانا، وخلي حد يطلع ينادي البنات من فوق…
قطبت حاجبيها وتمسكت به أكثر، متحدثة بإصرار:
-لا مش هطلعه حرام ده صغنن، ده هيفضل معايا هنا، وهسميه وهحميه وهينام جمبي على سريري كمان، انا خلاص اتبنيته ومش هسيبه…
-وعد متعصبنيش..
ضربت بقدميها الأرض واصرت على موقفها مخبرة إياها بحسم قبل أن تفارق المطبخ دون أن تساعدهم:
-مش بعصبك، بس انا لقيته واتعلقت بيه، شيكو برة عنده بيته بينام فيه بليل، ده ملوش مكان، بس اوضتي بقت مفتوحاله وبقت اوضته هو كمان من انهاردة…
خرجت معه مداعبة رأسه الصغير مهمهمة بكلمات مداعبة مرحة:
-اسميك إيه يا نونو أنت…اسميك ايه رد عليا…
وصلت إلى حجرة الصالون غافلة عن أعين اشرف المتربصة لها، موجهه حديثها لـ داليدا:
-بت يا داليدا اطلعي نادي الباقي من فوق..
جاء هذا الطلب على صحن من ذهب، فقط كل ما ترغب به هو الهروب من جوار نضال..
دنت “وعد” من والدها تتساءل بمرح:
-بابا، إيه رأيك في اسم ميشو..
ابتسم لها ايهم معلقًا:
-حلو..هو أنتِ هتخليه هنا.
أكدت بنبرة متحدية فقد ظنت بأنه سيعارضها مثل والدتها:
-اه هيفضل هنا عشان هو غلبان لو سبته هيتبهدل..ده من هنا ورايح ابني..
هنا وعلق أشرف بضحكة مكتومة:
-اللي جابلك يخليلك..
لم تعقب وطالعته بنظرة مستاءة، بادلها إياها بأخرى مرحة…
بعد وقت وصل عابد وتركت وعد القط أخيرًا بغرفتها، ثم اجتمعوا حول السفرة، حيث جلست كل منهم جوار خطيبها وشرع سليم بالحديث مخبرًا إياهم بما حدث، وأن عقد قرآن الثلاث سيقام معًا..
وأثناء انهماك أشرف بالطعام استرقت “وعد” نظرة نحوه ليخرج سؤالها المباشر الخافض نوعًا ما:
-قولي ايه هو فيلمك المفضل..
ابتلع ما بفمه، مجيب بلامبالاه ودون أن ينظر صوبها:
-معنديش افلام مفضلة، مبتفرجش على افلام أصلا..
تضايقت نوعا ما من إجابته، لتطرح سؤال آخر على أمل أن يجيب عليه:
-طب بلاش فيلمك المفضل، بتحب مين من الممثلين؟
-محدش برضو..
حقًا أوشكت على الانفجار من إجابته، فلجأت إلى الصمت بالوقت الراهن وهذا ما لم يحبه هو فقد اراد ان يستمع إلى صوتها أكثر، فطرح عليها ذات السؤال:
-وانتِ ايه هو فيلمك المفضل..
ردت ببرود دفعة واحدة كي لا يتحدث أكثر:
-شركة المرعبين المحدودة، ومبحبش ممثلين، بس بحب مارد وشوشني عارفه؟
نفى برأسه، فأجابته:
-احسن عنك ما عرفته.
على الجانب الآخر..
همس نضال لـ داليدا بنبرة كانت تحمل من العبث والمرح ما يكفي:
-ايه رأيك فيا، مش قولتلك هيوافق.
سخرت منه متمتمة بخفوت وعيناها تجوب على الجميع عداه:
-اه قولت، بس متفرحش اوي كدة يا عالم ايه اللي ممكن يحصل في السبع أيام دول..
صُعب عليه فهم كلماتها، انعقد حاجبيه وتوقف عن تناول الطعام يناظرها وسؤاله المستفسر يخرج من فوهة:
-قصدك إيه؟
التوى ثغرها للجانب مرددة بمرح:
-يعني ربنا قادر يأخدك..
تنهد بارتياح، مغمغم بفكاهة:
-من ورا قلبك على فكرة، ده انا لو جرالي حاجة هتموتي ورايا…
رمقته باستنكار ولم تعلق، بل تابعت طعامها..
أما “عابد” فأستغل انشغال الجميع ومال على أذن “وئام” متمتم بنبرة سريعة كي لا ينتبه أحد، وفي ذات الوقت كانت نبرته منخفضة لم تصل إلا لها:
-وحشتيني.
لم تظهر ابتسامتها وسعادتها بتلك الكلمة الصادقة، بل أظهرت غضب طفيف، معلقة:
-كان نفسي اقولك وانت كمان، بس ده مش حقيقي، انا مضايقة منك لسة، وكل ما افتكر منظرها وهي واقفة قدام البوابة بتعصب..
-طيب ما تقف، هحبها مثلا يعني لما تقف وتستناني..وبعدين ما هي قدامي من زمان وعُمري ما فكرت فيها ولا شغلت دماغي، مفيش غير واحدة بس…وشكلها زي القمر وهي غيرانة، الا قوليلي هتعترفي امتى انك غيرانة عليا..
نظرت له باستهجان تام، تنفي حديثه بغرور بسيط:
-بتهزر مش كدة، انا غيرانة عليك !!! مش غيرانة خالص على فكرة واي واحدة مكاني كانت هتعمل كدة…
زيف متابعته وانشغاله بالطعام الموضوع امامه، يفكر بها وبكلماتها، يهاب كثيرًا أن تعود مثلما كانت ولا تبادله عشقه…….
مضى الوقت وانتهوا من تناول الغداء والجلوس معهم، مستأذنين بالذهاب وأثناء وقوفهم بالقرب من الباب على اتم استعداد للمغادرة يودعون إياهم…قرع جرس المنزل..فُتح أحمد الباب فوجد أمامه مهرة وأبنائها “مؤنس” “زيدان”.
تهلل وجه الجميع وتعرفت مهرة على الشباب..
-اهلا وسهلا، مبسوطة عشان شوفتكم، ربنا يتمملكم على خير..
بارحت وعد مكانها وتقدمت من مؤنس هامسة له:
-كنت عايز تشوف أشف واديك شوفته ايه رأيك في قلبه وشه؟؟ بذمتك مش تقطع الخميرة من البيت.
أطلق ضحكة خافضة فقد كان أشرف مكفهر الوجه، عيناه تلمع ببريق مخيف لا ينتبه لاحد ولا يتابع سوى هذا الاثنان اللذان يتهامسان ويتقاربان أمامه بهذا الشكل..
استطاع مؤنس معرفة ما يعتريه فكان يظهر بوضوح، قائلًا لها متجنبًا النظر إليه:
-ده غيران عليكي يا اغبى أخواتك، انا اقسم بالله لولا منظري قدام الكل كنت جريت من قدامه..
لم تبالي بأي من كلماته وما استوقفها هي كلمة “غيران عليكي”.
تهللت أساريرها وكادت تتحدث لولا أشرف الذي تقدم ومد يده للاخر يرغب في مصافحته:
-اهلا انا أشرف سلطان…
ازدردت ريقه واستجاب إلى رغبته ومد يده كي يبادله السلام وليته لم يفعل..
فقد ضغط على يده بقوة ألمته، فلن نبالغ إذا قولنا بأنه اعتصر يده بين قبضته..
رد الآخر بصعوبة وهو يحاول ألا يظهر شيء من ألمه:
-وانا مؤنس إبراهيم، إبن خالها..
عقب أشرف من وراء قلبه وهو يكز على أسنانه:
-عرفت.. أهلا.
تسلل القلق إلى نفس عابد ونظر نحو نضال الذي لم تقل غيرته شيء عن اخيه الاكبر، فالتقط الشماته على وجهه مدركًا ما فعله أشرف به..
تقدم عابد من أخيه وجذبه من ذراعيه يرغمه على ترك يد الشاب، ماددًا يده كي يصافحه ويعرف ذاته..
تركه أخيرًا ولكن لم تتركه عيناه، فـ صافحه عابد ولم يغفل اي من رجال عائلة الحلواني عما حدث بين أشرف ومؤنس..
وترتب عليه ابتسامه مروان وهمسه لـ ايهم:
-حاسس كدة أن الواد غيران على بنتك..
وصل همسه هذا إلى بسام أخيه، فقال ساخرًا بنبرة منخفضة:
-لا وانت بتحس أوي..
غادر الثلاث أخيرًا واتجهوا نحو منزلهم، وبطريقهم صرخ عابد عليه:
-انت اتجننت يا أشرف، ايه اللي هببته جوه ده..
تصنع عدم إدراكه وهتف:
-هببت ايه، مهببتش حاجة!
-يا شيخ مختوم على قفايا انا مش كدة، على فكرة كنت مفقوس اوي.
انتهى دوره ليأتي دور نضال، صارخًا به هو الآخر:
-وانت واقف ومبسوط اووي، ومهنش عليك تسلم على الواد..
-يا عم انا حر هو انت شريكي، عجايب صحيح..
ايده أشرف معقب:
-بضبط هو انت شريكه، خليك في حالك انت يا حنين..ايه ده مش دي امكم؟!
حدق نضال وعابد بسيارة الأجرة التي تهبط منهم والدتهم، لكن ليست بمفردها بل معها سيدة يعلمون هويتها..
أكد نضال مردفًا بدهشة وهو يتقدم من والدته:
-اه هي..
اقتربوا منها فـ تساءل عابد اولًا:
-كنتي فين ياما؟
-روحت الحارة وعزمت كل حبايبنا من هناك، ومردتش اجي بأيدي فاضية جبت فاطمة معايا هتساعدني في شغل البيت..
صمتت قليلًا منتبه لقدومهم من منزل الحلواني فتساءلت بغيرة طفيفة:
-هو انتوا كنتوا فين؟ اقصد يعني جايين منين؟!
أجابها أشرف وهو يشير نحو نفسه ثم اخواته:
-من عند حمايا، وحماه، وحماه كنا بنتغدا معاهم..
ضربت بيدها على صدر نضال وهي تصيح بـ أشرف وانظارها مرتكزة عليه هو فقط:
-يا سلام، هو أنت مش لسة متغدي وقعدت اقولك اللقمة دي راحة على بُق مين، ومردتش تاخدها من ايدي، جرا ايه يا أشف مالك؟؟
عقب نضال منزعجًا من ضربها له هو:
-مالك أنتِ ياما، بتكلميه هو أنا بضرب مكانه ليه!!!!!
اغمض”أشرف” عيناه يتمالك نفسه، ثم تركهم و ولج للداخل غير مبالي بهتافها..
علقت “فاطمة” بصوت عالي وهي تمصمص شفتيها متابعة أشرف بحدقتاها:
-يختي هو ماله ده، مركب عجل في رجله…عيني عليا بمشي زي البطة..
وفجأة تعثر أشرف اثناء سيره وكاد يسقط على وجهه لولا إلحاقه لذاته…جحظت عين نضال وصاح رافضًا:
-لا…لا..اكيد دي مش صدفة..كدة هيبقى كتير أنتِ وهي كتير علينا…انا اجيب تربة وادفن نفسي أرحم…
بينما التفتت لها دلال بكامل جسدها رافعة كف يدها أمام وجهها:
-جرا ايه يا فاطمة خمسة في عينك يا حبيبتي، قولي ما شاء الله هتجبيلي أجل الواد…لا انا هخاف منك…
كاد عابد ونضال يضربون على وجوههم مما يحدث ومما هو قادم مع هاتان الأثنان….
**************
أشارت “ابرار” لـ داليدا بعيناها تجاه الأعلى، دلالة على رغبتها بالحديث معها، تفهمت الأخرى ورضخت لطلبها وصعدت معها إلى غرفتها..
دخلوا إلى الغرفة وما ان أغلقت ابرار الباب حتى التفتت لتلك المتسائلة عما يحدث:
-في ايه يا ابرار؟؟
زفرت قبل أن تخبرها بما حدث اليوم:
-اللي اسمه جابر ده مش هيجبها البر مش سايب ثراء في حالها…
كزت الأخرى على اسنانها بغيظ، وكادت تتابع ابرار وتخبرها بأنها قد قصت ما فعله معها على ثراء، لولا حديث داليدا تحذرها:
-اسمعي يا ابرار، انا فكرت قبل كدة ولقيت اني مش هعرف احكي لـ ثراء ومحدش غيرك لازم يعرف، عشان كدة هكلم نضال وهخليه يتصرف معاه، بس اوعي تفكري تقولي حاجة لـ ثراء، سمعاني يا أبرار؟ اوعي..
يتبع.
فاطمة محمد.
رأيكم وتوقعاتكم.❤️💫
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية كارثة الحي الشعبي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.