رواية عازف بنيران قلبي الفصل السابع والعشرون 27 – بقلم سيلا وليد

رواية عازف بنيران قلبي – الفصل السابع والعشرون

البارت السابع والعشرون

البارت السابع والعشرون


اللهم استرنا فوق الارض وتحت الارض ويوم العرض عليك

ماتت حروف الحب من دفتر الكلمات فقد ظُلمت مثلما ظلمتُ، مثلما حكم الجميع على قلبي وحالي من بعيد، دون أن يسمع أحد أو يرى في عيني انكسارات قلبي السابقة، حكموا على مشاعري دون أن يلمسوها في العلن، حكموا على إحساسي دون أن تدخل قلوبهم لقلبي..أصبحت قلوب الجميع قاسية لا تعرف عن الحب شئ، إلا استغلال الفرص إن كانت لصالحة أو لاء، ، مات الحب مثلما قتلوا قلبي أمام عيني، ثم تركوني أبكى وحدي في جنازتي…!

❈-❈-❈

اتجه توفيق إلى درج مكتبه وفتحه، ثم ألقى إليه بعض الصور قائلًا بصوتٍ مرتفع:

-عشان أحافظ على شرفك ياحضرة المستشار، عشان شرف البنداري يفضل مرفوع متجيش بنت تمرمطه في الأرض..

دنا ينظر إلى راكان الذي فتح الصور ينظر إليها ورفع نظره إلى جده كالذي فارقت روحه جسده عندما تحدث توفيق:

-عشان لو اتأخرت يوم واحد كانت الصور دي في كل وسائل الأعلام، ومفيش غير الست اللي خانت جوزها..

هنا هوى على مقعده وكأن أنفاسه سُلبت منه، عندما شعر بانسحاب الأكسجين من رئتيه، وهو يراها بأوضاعٍ مخلة..

أطبق على جفنيه حتى تساقطت عبراته رغما عنه وهو يهمس باسمها “ليلى”،

دلفت الشرطة بعد قليل ينتظرون أوامر راكان، الذي جلس وكأنه فاقدًا للوعي ولم يفعل شيئًا سوى همسه باسمها..

صراع عنيف اندلع بداخله وخز قلبه بأشواك الحسرة مما فعله جده بزوجته..رفع نظره وانتابه شعور كره وحقد مما جعله ينهض متجهًا إليه.. وفجأةً قبض على عنقه حتى تحول لون وجهه إلى شحوبٍ مثل الموتى، متحدثًا من بين أسنانه:

-قولي أعمل فيك أيه، يعني أموِّتك وأريح الناس منك، إنت إيه شيطان!!

صرخ بها راكان عندما فقد سيطرته بالكامل، حتى أسرع الضابط المسؤول على القبض عليه…

يجذب راكان من ذراعيه، في حين وصل خالد عمه وزوجته التي صرخت بعدما وجدته بتلك الهيئة..

تحرر توفيق من يد راكان وهو يسعل بقوة، حتى يلتقط أنفاسه بصعوبة..

اقترب خالد يصيح بغضب على راكان قائلًا:

-اتجننت ياراكان!! عايز تقتل جدك يابني..

ظل راكان يرمق توفيق بنظراتٍ نارية كادت أن تحرقه، وهو يقاوم نفسه حتى لا يخرج سلاحه ويطلق عليه طلقة نارية ويتخلص منه، ولكنه اقترب منه بخطا سلحفيه بثت الرعب لقلبه:

-تعرف أنا ممكن أموتك وأرتاح منك، بس لو موِّتك هيبقى برحمك، سمعت عن رصاصة الرحمة، دي مش في قاموسي..

أشار للضابط:

-خدوه وممنوع حد يشوفه ولا حتى محامي، صرخ بها حتى اقترب من الضابط لسحبه..

حدق به توفيق بعينين متسعتين وكأنه صفعه بقوةٍ فتحدث غاضبًا:

-عايز تسجن جدك ياراكان؟!..مسح راكان على وجهه بغضب حتى يسيطر على نفسه:

-أنا قولت خدوه..صرخ بها بصوتٍ مرتفع..

صاح توفيق غاضبًا:

أنا هروح يابن ابني، بس خليك فاكر إنتَ عملت إيه في جدك..

استنى ياحضرة الظابط..قالها خالد متجهًا إلى راكان قائلًا بهدوء:

-إيه اللي بتعمله دا يابني، إنتَ عارف نتيجة اللي بتعمله دا؟..

قاطعه توفيق مزمجرًا:

– خالد سيبه خليه يغلط كويس، بكرة يعرف الحقيقة، ويعرف أنا عملت إيه عشانه..

طالعه بنظراتٍ مشمئزة قائلًا بصوتٍ كاد أن يخرج من بين شفتيه، عندما فقد شعور بأن هذا الرجل لا ينتسب إليه:

-خده يابني بلاش توصلني لمرحلة تخليني أفقد عقلي..اقترب خالد يترجاه:

-راكان فهِّمنا بس إيه اللي حصل؟..

قبضة قوية اعتصرت قلبه عندما تذكر مافعله بزوجته، رفع نظره لعمه قائلًا:

-قصدك تقولِّي إيه اللي معملوش، دا مستحيل يكون بني آدم..

تحرك مغادرًا بعد خروج توفيق مع الضابط متجهًا إلى زوجته..

❈-❈-❈

عند ليلى..

جلست على فراشها ونبضاتها الهادرة تتخبط بعنف بين ضلوعها وكأنها فقدته للأبد..

ضمت ركبتيها واضعةً رأسها عليها، وعبراتها تنذرف على خديها بصمت، تتذكر حديثها له الذي شوه قلبها قبله، همست من بين بكائها:

-ليه ياليلى قولتي كدا وإنتِ هتموتي لو بعد عنك، من إمتى وإنتِ قاسية كدا..

دفع باب غرفتها ودلف، آلمه قلبه عندما وجدها بتلك الحالة، ورغم ذلك جلس بمقابلتها:

-توفيق خطف والدك وهددك بيه مش كدا؟!

ظلت كما هي كأنها لم تستمع إلى شيء، تنهد بألمٍ ثم أكمل حديثه متسائلًا:

-هددك بإيه تاني؟.ماهو مش غبي.. عارف ومتأكد موضوع الخطف دا مش كافي عشان يضغط عليكي بيه..

أخذ يملأ رئتيه بالأكسجين الذي يحتاجه حتى يهدأ من حرقة صدره، نهض متجهًا يجلس بجوارها على الفراش ثم أخرج الصور وألقاها أمامها:

-أو ممكن عشان يضغط عليكي عشان الصور دي..رفعت نظرها إلى الصور التي ألقاها أمامها وأطبقت على جفنيها تهز رأسها وارتفعت شهقاتها قائلة:

-مش أنا وحياة ربنا الصور دي مش بتاعتي معرفش هو عملها إزاي، أه الهدوم بتاعتي والأوضة كمان بس وحياة ربنا ماأنا، أنا عارفة إنك ممكن متصدقنيش..

جذبها بعنف يضغط على ذراعها:

-اخرسي ياليلى..اخرسي مش عايز أسمع صوتك خالص.

عانقته بقوة وهي تبكي بشهقات حتى مزقت نياط قلبه؛ مما جعله يضغط عليها بقوةٍ داخل أحضانه حتى شعرت بسحق عظامها..

تركت نفسها له يفعل بها مايشاء..دام صمتًا بينهما لدقائق مرت على كلٍّ منهما يشعر باحتياجه للآخر حتى قاطعه راكان حينما أردف:

-إزاي قدرتي تتحملي دا كله لوحدك، إزاي قدرتي تخبي عليا دا كله مع إني سألتك مليون مرة..

-مقدرتش أتكلم، مقدرتش والله ياراكان حاولت أقولك..بكت بصوتٍ مرتفع..

ربت على ظهرها فالقلوب الآن تحترق بهدوءٍ قاتل والألسنة عاجزة عما يحدث لهما..أطبقت على جفنيها  تعتصره ثم همست وهي بين أحضانه:

-قالي لازم تطلبي الطلاق من راكان، وإلا هخرَّجك من البيت دا بفضيحة، أنا كابرت ودافعت عن جوازنا، حتى قالي إنك مش جوزي دا مجرد عقد عشان أمير، بس مصدقتوش عشان عارفة ليلى بالنسبة لراكان إيه..

شهقة خرجت من فمها، وهي تقص له، مسد على خصلاتها الناعمة:

-أشش اهدي..خرجت من أحضانه ونظرت لعينيه وأكملت من بين بكائها:

-جالي بعد فترة هنا وجابلي ورق الطلاق وقالي لو ممضتيش هاخد منك أمير وأعملك قضية شرف، وفعلًا خد أمير مني ورمى الصور دي قدامي، وقفل الباب عليا وهو بيقولي:

-لو ممضتيش قبل راكان مايرجع صورك هتغرق السوشيال، وأبوكي هيموت وأختك وحمزة..

شهقة مرتفعة خرجت منها مما جعلها تضع كفها على فمها لتمنعها وهزت رأسها وهي تطالعه:

-مكنتش عارفة أعمل إيه إنت مش موجود، غير الفيديو اللي وصلني إنتَ ونورسين، وكلام عايدة إنكم بتقضوا يومين حلوين..

وقعت ياراكان ومعرفتش الصح فين والغلط فين، أبويا اللي بيموت من الألم، ولا أختي اللي لسة بتفتح عيونها لحياة جديدة، أنا مهمنيش نفسي..كل اللي همني أبويا وبس، عشان عارفة حتى لو إنتَ مش هتصدقني كنت هعرف أبرء نفسي..

تجمد جسده من حديثها، ابتعد بعدما فاق من مشاعره المتضاربة من قربها،  فتحدث وهو يطالعها:

-ليه شايفاني ضعيف ومقدرش أخد حقك؟..رفعت نظرها وتحدثت وعيناها متعلقة بعينيه قائلة:

-الموضوع مش موضوع إنك ضعيف ولا قوي..نهض متحاملًا على نفسه وكأنها تصفعه في كل مرة فأردف:

-الموضوع مفيش فيه ثقة بينا للأسف، عمرك ماوثقتي فيا..

نهضت تقف بمقابلته:

-ولما أشوفك في حضن واحدة، وأكذب عيوني واستناك لما ترجع وتفهمني دا يبقى ماوثقتش فيك؟..

وضع يديه بجيب بنطاله ثم ابتسم متهكمًا:

-أيوة استنتيني فعلًا، دا من وقت مارجعت وأنا في نظرك الراجل الخاين اللي مقضيها..

اقتربت منه وصاحت بغضب:

-ودي مش الحقيقة..أشارت بيديها بغضب:

عملت إيه غير إنك جريت على واحدة مفيش بينك وبينها أي ارتباط..وحضن وبوس عشان بس تنزل بكرامتي الأرض وتعرفني إنك متجبر وتقدر تعمل كل حاجة قدامي، وكأن الست اللي قدامك دي معندهاش قلب، أهم حاجة اكسر ليلى اللي دايمًا توقف قدامي وتقول لا.

تجمد بمكانه لايعي ماذا يفعل لها حتى تتأكد أنه بيعاقب نفسه قبلها، نظر إليها وألم هائل اجتاح كيانه من اتهاماتها الشنيعة دائمًا، قاطعه رنين هاتفه..استدار وخرج بجسدٍ بلا روح وهو يجيب صديقه:

-راكان، أسما مش موجودة، ومش عارف أوصلها.

توقف راكان عن الحركة متسائلًا:

-مش فاهم يعني إيه مش موجودة؟..اتصل بيها شوفها فين، قاطعه نوح صارخًا:

بقولك من الصبح وهي مختفية، والعربية لقيتها على أول الطريق، ومش موجودة فيها.

-تمام يانوح أنا جايلك عشر دقايق وأكون عندك..استدار ودلف إلى غرفته، دلف مرحاضه وخرج بعد قليل، وجدها تدلف الغرفة تفرك كفيها، توقف ينظر إليها متسائلًا:

-عايزة إيه؟! وبعدين مش قولت متدخليش الأوضة دي تاني..

اشتعلت نيران الغيرة بقلبها واقتربت منه كقطةٍ شرسة:

-أوعى تفكر جايلك عشان أتحايل عليك، توقفت عن الحديث تلتقط أنفاسها بصعوبة بعدما وجدته يخرج ثيابه ويقوم بخلع البورنس..

صرخت به:

-إنتَ بتعمل إيه، أنا بكلمك مش صابر لما أخرج..

فوجئت به يطوق خصرها يجذبها بعنف وهو يرمقها بتسلية:

-جاية ليه أوضة واحد بتكرهيه وواقفة قدامه وبتبص عليه وهو بيلبس هدومه؟..

لكمته بصدره حينما فقدت قدرتها على الوقوف وأصبحت ساقيها كالهلام عندما استنشقت رائحته، وشعور يتسرب بداخلها الاقتراب أكثر وأكثر حتى تشبع روحها المفقودة من قربه..

ترقرق الدمع بعينيها وارتجف جسدها بين ذراعيه حينما فقدت قدرتها، انزلقت عبراتها رغمًا عنها:

-مش قصدي أزعلك بكلامي والله، أنا لما بكون متعصبة بقول أي كلام وخلاص، عمري ماتمنيت أطفال من غيرك ولا عمري فكرت أبعد عن أمير،  حتى لو كلفني إن أعيش في نار حبك.. عايزة أكدلك، دا كلام أهبل قولته من غيرتي ونار قلبي..

بكت من حالتها الغريبة التي تعيشها في خضم أحاسيس أرهقتها وأثقلت تجاهلها بعشقه الندي لقلبها لا تعلم ماذا عليها أن تفعل..

مسح على شعرها بكفه ثم ضم رأسها إلى صدره وأطلق نبرةً جياشة قوية:

-تعباني معاكي ياليلى، معدتش عارف أخد قرار، ليه دايمًا مصرة توجعينا كدا، من أول مرة شوفتك لحد دلوقتي وإنت ِفي حضني وبرضو بتوجعيني..

يود لو يصرخ من أعماقه بكل ماأوتي من قوة حتى تشعر بعذابه، هي لا تعلم بأنه يبذل كميات مضاعفة من الصبر عليها حتى لا يخسرها للأبد..

ظل الاثنين في خضم أحاسيسهم، هي تنعم بقربه ورائحته ودقات نبضه، وهو يريد ألا يخرجها من أحضانه حتى لا يفقدها، لديه شعور يملأ كيانه أنه سيخسرها بعد فعلتها الأخيرة..

رفعها من خصرها متجهًا لأريكته، جلس وأجلسها بأحضانه بعدما وجدها فقدت قدرتها على الحركة، رفع خصلاتها التي غطت وجهها،  وتعلقت شمسه بليلها الدامس:

-وبعدين هنفضل نعذب في بعض كدا، هتفضلي تدوسي عليا لحدِّ إمتى؟..

رفعت نظرها إليه:

-مش عارفة صدقني مش عارفة، عايزة أفضل في حضنك طول الوقت، وفي نفس الوقت عايزة أبعد عنك وأضربك وأموِّتك وكل كل حاجة..

احتضن وجهها بين راحتيه:

-لو دا هيريحك اعمليه، بس ضعفك دا مش عايزه، قلبي بيوجعني لما بشوفك كدا.

دنا يهمس لها أمام شفتيها:

-عاقبيني ماهو أنا هعاقبك برضو، تفتكري هسيب حقي وكسرتك ليا..

دنا حتى كاد أن يلمس شفتيها وأكمل:

-مش بالسهولة دي يالولة قلبي، لازم أدوقك حرقة قلبي وأشوف عذابك لما تلاقي حبيبك في حضن واحدة تانية،  عشان قبل ماتعملي حاجة تفكري مليون مرة إن الراجل دا اللي دوستي عليه، على قد حبه على قد وجعه..

هبت فزعة من أحضانه تهز رأسها بعنف رافضةً حديثه:

-بعد اللي عرفته، بعد خيانتك ليا، هو فيه وجع أكتر من كدا..نصب عوده واقترب منها:

-أه فيه، فيه اللي يوجع أكتر يامدام، لما تكوني ورايا هنا..أشار إلى غرفتها وأكمل بقلب يأن:

-تكوني هنا لوحدك تعاني من فقدان حبيبك اللي بينك وبينه جدار واحد، وإنتِ عارفة هو بيعمل إيه مع مراته..

اخرررررس، صرخت بها بقهر ودموعها تنزلق كالشلال على وجنتيها تحرقها، ورغم ماقاله إلا أن دموعها نزلت فوق صدره تشحذ طبقات جلده طبقة طبقة..

دنت بخطواتٍ سلحفية وهي تحرقه بنظراتها:

-أنا اللي أستاهل حبيت واحد زيك، واحد ميعرفش قيمة القلب اللي يحب ويعشق، ميعرفش وجع القلب من الحبيب بيكون إزاي، رغم عمايلك السودة جتلك واتكلمت معاك قولت نفتح صفحة جديدة، بس كالعادة..

اتجه لغرفة ملابسه:

-اطلعي برة عايز أغير هدومي، أما لو عايزة نقضي وقت لذيذ في أوضة ضرتك معنديش مانع..

اقتربت منه بهدوء ماقبل العاصفة:

-طلقني ياراكان..زم شفتيه وابتسم بسخرية وتحدث متهكمًا

-متخافيش هطلقك بس لما نتعذب شوية مع بعض.

وقفت تكاد تخرج مقلتيها من محجريها وقلبها يأن وينزف من كلماته…أشار على باب الغرفة:

-إيه أخلع معنديش مانع لو ..قاطعته عندما استدارت متحركة وهي تصفع الباب خلفها بقوة حتى كادت أن تخلعه..

وصلت غرفتها ويكاد قلبها يتوقف من الوجع، وضعت يديها على صدرها، لعل ذاك الألم يتوقف، ثم وضعت يدها على أحشائها:

-طيب ياراكان، لو معلمتكش الأدب مكنش ليلى.

قامت بخلع ردائها وألقته بغضب على الفراش، ثم اتجهت لتنعش نفسها بحمامٍ دافئ بعدما حرق أعصابها ذاك المتجبر كما أطلقت عليه..

ولكنها توقفت عن السير بعدما استمعت لصرخات..

اتجهت  سريعًا للأسفل متناسيةً ثيابها التي كانت ترتديها عبارة (عن برمودة باللون الأبيض وكنزة بحملات باللون الأحمر..)

وصلت إلى زينب التي تجلس تضم أسعد على ركبتيها، فصاحت لليلى:

-اتصلي بالدكتور بسرعة يابنتي..اتجهت ليلى لمحاكاة الطبيب في تلك الأثناء وصل راكان:

-ماله بابا ياماما، أُغمى عليه ليه؟!

قالها راكان الذي حاول حمله متجهًا به لغرفته، محاولًا إفاقته، وصل الطبيب بعد قليل..

كانت ليلى تقف بجوار زينب، لم ينتبه راكان الذي يعتني بوالده لإفاقته، استمع لصوت العاملة:

-الدكتور وصل ياباشا أدخَّله؟..التفت للعاملة:

-أيوة دخليه، ولكنه توقف وهو يراها تجلس تنزل برأسها للأسفل وخصلاتها تغطي وجهها، فصاح بغضبٍ للعاملة:

-استني يانعيمة لما مدام ليلى تطلع أوضتها.

رفعت نظرها تحدجه بنظراتٍ نارية متناسيةً ماترتديه فأجابته:

-ليه إن شاء الله هو حرام أستنى أشوف الدكتور وهو بيكشف على عمو؟..

هب من مكانه يجذبها بعنف ويجرها خلفه، قائلًا:

-لا يامدام يابتاعة الحجاب، حرام يشوفك بلبسك دا اللي المفروض يكون فوق مش تحت للكل، أقول إيه بس يمكن عايزة تغريني، عبيطة متعرفيش الحاجات دي متأثرش فيا..

❈-❈-❈

دفعته بغضب بعيدًا عنها، بعدما باتت كلماته تعصب جروح قلبها، فغاصت في عتمة عناده وحيله، فاستدارت له تحدجه بشموخٍ وكبرياء ولم تمنحه إلا نظرة تمرد فقالت:

-مش مستنية ألبس حاجة عشان أغريك، دنت مقتربةً منه ورفعت كفيها على صدره موضع نبضه قائلةً وعيناها متعلقةً بعينيه:

-مجرد لما تشوفني من بعيد دا كافي إنك تتحول ياحبيبي وتتمنى القرب،

جذبته بعنف من قميصه حتى خلعت زر قميصه بيديها وتحدثت:

-متلعبش معايا ياحضرة المستشار عشان محرقكش بنار لعبك..قالتها واستدارت بخطواتٍ ثابتة تتحرك أمامه بخيلاء كأنها لم تكن التي تبكي بأحضانه منذ قليل..

تجمد بوقفته وهو يفترسها بملامحه الحادة، يود لو أغلق عليها الغرفة لكي يخرس تلك الشفاه التي أرهقته..

فاق من شروده على رنين هاتفه، نظر إليه متذكرًا نوح..

تأفف بضيق وهو يمسح على وجهه:

-ياربي دا كفاية عليا عروسة المولد بتاعتي هي ناقصة نوح وأسما..

أرجع خصلاته للخلف كاد أن يقتلعها:

-بابا تعب يانوح، الدكتور يطمني وهجيلك..قالها ثم أغلق هاتفه..متجهًا لوالده.

ارتدت ليلى إسدالها وهبطت للأسفل حتى تكون بجوار زينب..بينما بالأسفل كانت زينب تجلس بجواره على تخته، وراكان يقف بجوارها أثناء كشف الطبيب عليه..

تحدث الطبيب متذمرًا:

-مش قولنا بلاش نتعصب ياأسعد باشا، ضغطك مرتفع للأسف، متنساش إن القلب تعبان..

تحدث أسعد بصوتٍ مجهد:

-هو فيه حد يتمنى التعب لنفسه يادكتور..نظر الطبيب إلى راكان وتحرك للخارج..

-لازم يتحول عناية، ويعمل فحوصات كاملة للقلب..قاطعته زينب:

-هو مكنش خف يادكتور ليه رجع يتعب تاني؟.،

أجابها الطبيب:

-للأسف شكله اتعرض لصدمة وغير أزمته القلبية، شاكك يكون فيه حاجة في الشريان التاجي، عشان كدا لازم نعمل فحص كامل، ونبعده عن التوتر..

اتجهت بنظرها لابنها:

-ينفع كدا، قولتلك بلاش..ودع راكان الطبيب وهو ينظر لوالدته بغضب:

-ابنك اتقتل..مستنية إيه تاني، نسيتي عمو وخالتو، أينعم هو مقتلهمش بس كان عارف إنهم هيموتوا، بلاش تضغطي عليا ياماما لو سمحتي، الراجل دا وجوده أذية للي حواليه،

أشار بسبَّباته:

-بلاش توصليني إني أقتله بإيدي، دا خطف أبو ليلى عشان يضغط عليها.. والأستاذة رفعت قضية طلاق على ابنك.

شهقت زينب وهي تضع كفها على فمها وتحدثت مذهولة:

-بتقول إيه!!.ليلى رفعت قضية طلاق؟..أومأ برأسه متنهدًا بألم وأردف بصوتٍ مختنق:

-ياريت كدا بس، دا مركب صور ليها ولابن عمها..

حد يديني عقل بعد كدا أصبر على الراجل دا..توقفت زينب قائلة:

-عشان كدا أخد منها أمير اليوم اللي قفل عليها الباب..

مسح راكان على وجهه بغضب:

-إنتِ قولتي أهو ياماما قفل عليها وأخد ابنها، وضربها، دا كله ليه عشان الفلوس، ملعون أبو الفلوس اللي تعمل فينا كدا..

تحرك خطوتين وأشار بسبَّباته:

-تعرفي لو جه قالي، كنت مستعد أتنازله عن كل حاحة، بس نعيش مرتاحين..لكن كالعادة بيخنق فيا مش عايزني أعيش..

ربتت زينب على كتفه:

-معلش ياحبيبي استحمله، ماهو مهما كان جدك، أنا استحملت السنين دي كلها عشان باباك ميجيش يقولي موِّتي أبويا، وشوف أهو ماستحملش لما خالد اتصل بيه ووقع من طوله،  ومفيش على لسانه غير

“راكان هيقتل جده” تحرك راكان للداخل حتى يطمئنَّ عليه، وجد ليلى بجواره تقوم بمساعدته لاعتدال نومه،

رفع نظره لبنه قائلًا:

-ينفع اللي عملته دا يابن أسعد، وصل بيك الحال تسجن جدك!..اغرورقت عيناه بالدموع وقال بصوت يملؤه الألم:

-عايزهم يقولوا ابنه سجن أبوه ومات في السجن، هتفضل متعلقة في رقبتي لحدِّ ماأموت يابني..كانت تقف بجواره ولا تعلم عن أي شيء يتحدث حتى تحدث راكان:

-جدي يستاهل يابابا، للأسف الراجل دا بيفكرني بالديب اللي في الكتب.. بيقولوا بيدعي الديك عشان يصلي الفجر وهو بيخطط لأكله..

اقترب من والده ونظر إليه بوجع:

-قولِّي حاجة واحدة عاملها معايا من يوم مافهمت الدنيا، كل ماأخرج من مصيبة يدخلني مصيبة تانية..

أطبق على جفنيه حتى كاد أن يمزق عيناه من الألم، وحياته أمامه كشريطٍ سينمائي قائلًا بصوتٍ يملؤه الألم:

-ضغط على أول بنت حبتها وبعدها عني في أجمل يوم بيستناه أي شاب، موِّت مراتي وهي في حضني وكأنها فرخة ولا همه حتى إزاي هتكون حالتي، نسيت عمل إيه في تولين لما قررت أتجوزها، ياريت يتهد بعد دا كله، دخل يئذيني في شغلي وشغل حمزة مجرد إنه صديقي وبس..

حاول يضغط على سلمى عشان تبعد عنه، وراح عايز يجوز يونس لسارة مع إنه عارف ومتأكد بحب يونس لسيلين، وصَّل عدي لشخص مالوش غير في السهر والبنات، عمل من سارة بنت مهماش غير نفسها وبس..

ياريت يسكت على كدا، لا عمال يضغط ورجع يدبح فيا، ورجع عايزني أطلق مراتي مجرد إنها بقى ليها في ورث سليم..

– آسف يابابا، الراجل دا جاب آخره معايا، ولازم يتعاقب، أنا صبرت عليه لحد مافاض بيا، وأوعى تفكر سكوتي عليه السنين دي ضعف، لا عشان خاطرك، بس لعند مراتي ولازم يتعلم لكل فعل رد فعل..ومش هضحك عليك وأقولك قضيته سهلة، بالعكس أقل حاجة عشر سنين…قاطعهم دلوف العاملة:

-فيه اتنين ظباط برة ياباشا طالبين مدام ليلى، بيقول عايزين أقوالها..

اعتدل راكان متجهًا للخارج وهو ينظر لليلى:

-الحقيني على برة وتقولي كل اللي قولتيه فوق..

ترجاها أسعد بعينيه بعدما فقد محاولته مع ابنه..

تحركت خطوتين، ولكن توقفت بعدما استمعت لحديثه:

-أنا عارف أكيد بابا آذاكي بدل وصل راكان للجنون دا، بس أنا  أب يابنتي وبترجاكي متخليش جوزك يدمر جده، وقبل جده هيدمر العيلة..

سعل أسعد بشدة حتى فقد تنفسه، أسرعت زينب تضع جهاز التنفس على وجهه، وانسدلت عبرة من عينيها لما يحدث، وقفت عاجزة لا تعلم ماذا تفعل..زوجها المريض، أم ابنها..

مسدت على رأسه وتحدثت وهي تنظر إلى ليلى بمغزى:

-ليلى عاقلة ياأسعد ومستحيل تعمل حاجة تئذيك بيها، هو راكان زعلان عشانها، بس لما يروق هيندم ماهو مهما كان جده، والضفر عمره مايخرج من اللحم مش كدا ياحبيبتي؟..

أومأت برأسها وتحركت للخارج، وجدته يجلس بهيبته بجوار الضابط،  وشخص آخر نفس مظهره كأنه يعمل وكيل نيابة، ألقت السلام..

نهض راكان يبسط يديه إليها:

-تعالي ياليلى، ثم اتجه لصديقه:

-حسن مشكور مرضاش تروحي النيابة وجه لحد هنا ياخد أقوالك..أجلسها بجواره وضم كفها ينظر إليها:

-عايزك تحكي لحسن كل حاجة، كأنك بتحكيلي أنا..قاطعهم رنين هاتفه، فنهض من مكانه:

-هعمل تليفون ياحسن، ومدام ليلى هتقولك اللي حصل..

جلست خائرة القوى وكأن روحها تُزهق من جسدها، وكأنها داخل متاهة لا تعلم ماذا عليها فعله..قطع شرودها حسن عندما أردف لمساعده:

-افتح واكتب اللي مدام ليلى هتقوله، اكتب اسمها، وكل مايتعلق بها:

-سامعك مدام ليلى، حضرتك قدمتي بلاغ في توفيق حسين البنداري على إنه خطف والدك وابتزك بصور مركبة للضغط  عليكي وتهديدك بالانفصال عن زوجك..

هنا تذكرت نظرات أسعد الراجية، وكلمات زينب لها، فهبت واقفة وتحدثت بأسف:

-محصلش أنا مقدمتش بلاغ في حد، معرفش مين اللي قال لحضرتك كدا..

أنا..صاح بها راكان بغضب وهو يقترب منها وعيناه تحرقها بنظراتٍ نارية،  وتحدث وهو يجز على أسنانه:

-أنا اللي عملت البلاغ، ودلوقتي جدي موقوف في السجن، وإفادتك لوكيل النيابة هتأكد التهمة عليه، احكي اللي قولتيهولي ياليلى..

تراجعت للخلف وهي تهز رأسها رافضةً حديثه:

-محصلش، معرفش إنتَ بتقول كدا ليه، دا عشان رفعت قضية طلاق وعايزة أمشي من هنا..

صدمة شلت جسده حتى شعر بفقدان اتزانه في حين تسارعت نبضاته من كلماتها المفاجأة التي جعلت قدمه تتجمد بمكانها، ابتلع جمراته الغاضبة وقال بصوتٍ كاد أن يخرج:

-يعني أنا كذاب..قالها بصوتٍ متألم ولسانٍ ثقيل..

هزت رأسها وارتجفت شفتيها وهي تناظره بأعين مشوشة فتحدثت بقهر:

-مقولتش كدا.

وضع كفه أمامها وتحدث بصوتٍ كالجليد:

-اطلعي فوق..ثم اتجه إلى صديقه، ورسم ابتسامة امتنان على ملامحه التي أهلكتها تلك الغبية من الحسرة والألم فأردف بهدوء:

-خلاص ياحسن، شوف شغلك بدل المدام أنكرت يبقى اللي بتعمله مالوش لازمة..

نهض حسن متحركًا للخارج دون حديث، بعدما استشفَّ الألم الظاهر على وجهه.

ظل واقفًا بجسدٍ متيبس فاقد قدرته على الحركة أو الكلام..وصلت والدته تنظر إليه بحزن بعدما أحست بما حدث، اقتربت تربت على ظهره:

-متزعلش منها ياحبيبي باباك اللي طلب منها كدا، مش معقول بعد السنين دي كلها نقهره على والده، مهما يعمل هيفضل أبوه..

تحرك للخارج بجسدٍ واهن وكأنه يتحرك على جمراتٍ من النيران، وصل بعد قليل إلى نوح الذي ينتظره مع الضابط الذي أرسله راكان إليه..

ترجل من سيارته وتحول كليًّا عن ماكان عليه، اتجه للضابط متسائلًا:

-فيه جديد حصل؟..مسح نوح على وجهه بغضب وكأنه فقد عقله:

-هتجنن، معرفش راحت فين، ولا حد خطفها..

اتجه راكان للضابط:

-شوفت الكاميرات اللي في الشارع عند العربية؟..

هز الضابط رأسه بالرفض..أشار بيده:

-شوف شغلك ياحضرة الضابط،  وشوف كانت بتكلم مين قبل ماتنزل، ثم اتجه إلى نوح متسائلًا:

-تليفونها معاها؟..

جلس نوح بكتفين متهدلين، وجسدٍ يأنُّ وجعًا قائلًا:

-لقيته في العربية، رفع نظره إلى راكان يترجاه بعينيه:

-راكان لو سمحت أنا هتجنن وأنا معرفش عنها حاجة..أشعل راكان تبغه وسحب نفسًا طويلًا حتى يسيطر على حالته من الغضب متسائلًا:

-سألت والدك؟..مايمكن بيعمل حركات استعباط عشان يضغط عليك.

سألته وقالي روح دور عليها شوفها باعتك لمين.

قوس راكان فمه وتحدث بسخرية:

-كنت هتتوقع منه إيه غير كدا..توقف نوح وأمسك هاتفه:

-ليلى، إزاي مجاش في بالي إنها ممكن تعرف مكانها..وكأن حديث نوح ضغط على جرحه المتقيح فصاح بغضب:

-متعرفش حاجة وماتتصلش بيها دي مابدفتش حد، انفلتت ضحكة موجعة وأكمل:

-دي توجع بس، تهدم بس تفيد لأ..

طالعه نوح وتساءل بشك:

-أنتوا متخانقين تاني؟..

أطلق زفرةً حارة من أعماق قلبه عله يخفف من أوجاعه التي لا تنتهي ثم أجابه:

-لا هنتخانق ليه..نصب عوده ووقف متجهًا للضابط المسؤول حتى يعلم أي شيء عن أسما..

-الكاميرا لقطت مسلحين هجموا على العربية.

-طيب خد رقم العربية وتجبها من تحت الأرض.

بعد عدة ساعات توصل الضابط المسؤول عن مكان السيارة:

-العربية في مزرعة على الصحراوي، تبع رجل أعمال يدعى عزت السمري..

وصلت سيارات الشرطة بعد قليل لتلك المزرعة وحرب بين رجال الشرطة، والخارجين عن القانون، انتهت بالغلبة لرجال الشرطة البواسل..

دلف نوح سريعًا يبحث بقلبٍ متلهف،  وهو يصيح بصوته عليها:

-أسماا…حتى وصل لغرفة تُغلق بالخارج..وقف أمامها ينظر بقلبٍ منتفض إلى راكان:

-خايف أدخل..فتح راكان الباب بهدوء و بجواره أحد العساكر، فاقتحموا الغرفة..

تسمر نوح بوقفته، بينما خرج راكان هو والعسكري سريعًا للخارج مغلقًا للباب..

استغرق نوح لحظات وهو متيبس بمكانه ينظر لتلك التي تجلس تحاوط نفسها بشرشف، وهي تجلس كفاقد الحياة وعيناها تزرف دموعها بصمت..اتجه بساقين مرتعشتين حتى وصل إليها..رفع كفه المرتعش يحاوط وجهها..

وتحدث بصوتٍ متقطع متألم:

-أسما..أطبقت على جفنيها ولا تفعل شيئًا سوى سقوط دموعها..

ابتلع غصةً منعت تنفسه، حتى تغير لون وجهه من الألم وقام بجذب ثيابها وقام بارتدائها إياها وجسدها يرتعش بين يديه..

ظل يحاوطها بأنظاره الحزينة، حتى انتهى وقام بحملها للخارج وهو يكاد أن يتحرك حتى وصل للخارج، تلقفها منه راكان بعدما وجد حالته المزرية:

-نوح مش وقت صدمة، لازم تاخد مراتك للدكتور قبل أي حاجة، مع إني عارف ومتأكد محدش عمل فيها حاجة دي مجرد قرصة ودن.

اتجه بها راكان لسيارته منتظرًا وصول نوح الذي يتحرك وكأنه يسير على بلور يخدش قدمه، حتى وصل إلى سيارة صديقه وجلس بالخلف يضمها لأحضانه..وهنا انسالت دموعه على خديه وهو يراها تنظر للخارج دون ردة فعل، كأنها جسدًا بلا روح..ضمها بقوة واضعًا رأسه بعنقها متحدثًا:

-عملوا فيكي إيه ياقلبي؟..

بمشفى يونس جلست سيلين بجواره متشبثةً بكفه، تمسد على خصلاته وترسم ملامحه المحببة لقلبها..تتذكر أفعاله منذ طفولتها حتى الآن، وضعت رأسها بجوار رأسه إلى أن غفت بجواره، فاق يونس بعد قليل، وجد كفه معلق به المحاليل، اتجه بنظره لتلك التي تجلس بالقرب منه ورأسها بجواره..رفع كفه المتحرر يمسد على وجهها:

-سيلي حبيبتي قومي ضهرك هيوجعك..فتحت عيناها التي تشبه موج البحر فابتسمت كأنها تحلم به قائلة:

-حبيبي إنت صحيت..ابتلع ريقه بصعوبه من هيئتها حيث كانت كالحورية أمامه..دنا مقتربًا وكأنه يتعافى بالقرب منها..نظر إليها بأعين تفيض ولهًا فهمس وهو يلمس وجنتيها:

-تعرفي من وقت ماحبيتك وتمنيت أصحى من النوم وألاقي الجمال دا في حضني..

أحست بالحرارة تزحف لوجنتيها تشعر بالخجل من كلماته، حاولت الاعتدال بعدما أفاقت، ولكنه رفع كفه الآخر يضم وجهها:

-لسة بتحبيني ياسيلين، قلبي وجعني قوي من كلامك ليا، سيلين ثقي مفيش حد اقتحم أسوار قلبي غيرك، وسواء رضيتي ولا لأ، هتجوزك ياإما تموتيني زي ماقولتلك.

-أكيد بحبك يايونس، مش معقول حب السنين دي كلها هيتنسي بسهولة، كان لازم أوجع قلبك زي ماوجعتني..

أطلق ضحكات صاخبة، وبلحظة جذبها حتى أصبحت بأحضانه يداعب وجهها بأنفه:

-طيب ماأنا عارف، هو لو مكنش كدا كنتي زمانك عايشة لحد دلوقتي ياحبيبة يونس..

لكمته بكفها الصغير بصدره:

-لا والله، مغرور..جذبها وغمز بعينيه:

-دا مش غرور أد ماهو ثقة في الحب ياحبيبي..

وضعت رأسها على صدره وهي تتنهد براحة، فكأن عشقهما مثل الورد الجوري تتطاير حوله الفراشات لتزهو بألوانها الجميلة، وطائر البلبل الذي يتحرك بين الأزهار يتغنى ويعزف أجمل الألحان..

❈-❈-❈

مساء اليوم ظلت تجلس بشرفتها تنتظره ولكنه لم يعد، نظرت بساعة يديها وجدتها الثانية صباحًا، زفرت بغضبٍ والغيرة تتآكل بأحشائها، ضمت ابنها الذي ارتفعت حرارته..

حملته تضع له بعض الكمادات لخفضها، ظلت بعض الوقت على ذاك المنوال، وهي تحاول الاتصال به ولكنه لم يجب على اتصالاتها، نهضت متجهةً للخارج حتى تأخذه للطبيب، بعدما فشلت في الوصول إليه، وكذلك سيلين التي لم تعود إلى الآن، قابلها عدي دالفًا بسيارته..ترجل من السيارة سريعًا:

-مدام ليلى رايحة فين دلوقتي لوحدك؟!

سحبت نفسًا محاولةً السيطرة على دموعها حتى لا تسقط، فتحدثت بصوتٍ مرتجف:

-عدي ممكن توصلني أقرب مستشفى، أمير سخن من المغرب، وحرارته مبتنزلش وراكان تليفونه مقفول..

أومأ متفهمًا، استقلت السيارة بجواره متجهةً للطبيب..

بعد عدة ساعات مع إشراقة الصباح عادت مع عدي، دلفت السيارة لحديقة القصر، في تلك الأثناء ترجل راكان من سيارته التي دلفت للتو،

وزع نظراته بينهما وبفظاظة تساءل:

-كنتوا فين، راجعين منين؟..

حدجته بنظرةٍ حزينة وأجابته بهدوء:

-كنت بكشف على أمير، استدارت تبتسم لعدي:

-شكرًا ياعدي تعبتك معايا ..قالتها وتحركت للداخل دون حديثٍ آخر..

تحرك خلفها للداخل وقبل صعودها الدرج، صاح غاضبًا:

-استني عندك، صرخة مدوية خرجت من فمه وهو يقترب منها:

-إزاي تخرجي مع عدي من غير إذني، متنسيش إنك لسة مراتي..

بنظرات تحمل بين طياتها الكثير من العتاب اقتربت منه وهي تربت على ظهر طفلها الذي استيقظ يبكي؛ وقفت أمامه بعيونها المشتعلة وأجابته:

-آسفة ياحضرة المستشار، مكنش ينفع أسيب ابني يموت لحد ماحضرتك ترجع من نزواتك، لو كنت اتكرمت ورديت على اتصالتي كنت عرفت بتصل ليه..

توهجت عيناه واقترب يضغط على ساعديها بقوة غير مكترثٍ لبكاء الطفل، وتحدث من بين أسنانه:

-برضو مكنتيش تخرجي إلا لما أرجع، مش تجري في نص الليل مع ولد صايع سكير..

دفعته بعنف وهي تقاتل بضرواة ألم قلبها القاتل، الذي يضرب أنحاء جسدها ناهيك عن عبراتها التي تلألأت قائلة:

-المرة الجاية، يبقى استنى معاليك..قالتها ثم تحركت لأعلى..وهذا جعله غاضبًا حد الألم الذي يشعر به في حضرتها..

صباحًا باليوم التالي، وصل توفيق بجواره فريال وخالد، ملقيًا تحية الصباح وهو يتحاشى بنظره بعيدًا عن راكان..

-سمعت إن أسعد تعبان ماله، وهو فين؟..

نهضت زينب تشير على غرفته قائلة:

-هو نايم ياعمي، لسة واخد علاجه ونايم، شوية كدا راكان هياخده عشان يعمله فحص وإيكو..

أومأ برأسه متفهمًا، استدار ليغادر، ولكن أوقفه راكان..نهض راكان متجهًا له ووقف أمامه:

-آسف لحضرتك، إنت كنت صح وأنا غلط، وبعتذر منك قدام الكل، ماهو حضرتك جدو برضو وزي ماما ماقالت، الضفر عمره مايطلع من اللحم..

صاعقة نزلت على توفيق من حديث راكان ونظراته الحزينة، فاقترب توفيق يضمه لأحضانه:

-ربنا يبارك فيك ياحبيبي، أنا مسامحك ياراكان.

تجمدت زينب بمكانها محاولةً استيعاب مافعله ابنها، هي تعلم إنه لن يرضخ لجده، رمقت ليلى الصامتة التي تجلس تطعم ابنها..تنهدت بحزن بعدما علمت ردة فعل راكان على تنازل ليلى على القضية..

بعد قليل دلفت غرفة مكتبه:

-ممكن نتكلم شوية، كان ينظر بجهازه، فتحدث ومازالت عيناه على الجهاز:

-قولي سامعك..سحبت نفسًا وطردته ثم تحدثت:

-هنفضل لحد إمتى كدا؟..جاوبها ومازال على وضعه:

-كدا إزاي مش فاهم؟!

راكان لو سمحت مينفعش الحياة بينا كدا، ياإما نطلق ياإما نصحح من حياتنا، فيه حاجة مهمة لازم تعرفها..

استدار بنظره إليها ثم أردف:

-إحنا يعتبر اطلقنا، من وقت مارفعتي القضية وإنتِ في حكم طليقتي، يعني إنتِ هنا أم لأمير وبس،

❈-❈-❈

هبت فزعت وتحدثت بغضب:

-يعني إيه كلامك دا؟!..أنا مستحيل أقبل بكدا، خلاص سبني أمشي..عاد لجهازه وأجابها:

-مش دلوقتي بعد ماأتجوز، وهتسألي ليه هقولك مزاج، عجبك مش عجبك اشربي من البحر.. ولو خلصتي كلامك سبيني أكمل شغلي.

-أكيد إنتَ مجنون..قالتها بقهر..

نهض وجذب ذراعها بغضب وصاح مزمجرًا:

-غلط كمان هنسى إنك ست، بعد كدا كلامك معايا باحترام وأدب، إنتِ هنا أم أمير بس..

-غلطان ياحضرة المستشار، فيه الأقوى من أمير..

دنا ينظر إليها مشمئزًا:

-لو قصدك عن الحب تبقي عبيطة، أنا رميتك من وقت ماطلبتي الطلاق، أشار بسبابته وأكمل:

لو عايزة تطلقي اعملي تنازل عن الولد زي ماقولتي، غير كدا مااسمعش صوتك..قاطعهم دلوف نورسين:

-إيه ياراكي جاهز، هنتأخر..

استدار إليها وتحدث غاضبًا:

-مش تخبطي قبل ماتدخلي، اطلعي استنيني برة..استدار إلى ليلى وتحدث:

-مش شايفة بتكلم مع مراتي..غادرت نورسين الغرفة دون حديث، ولكن داخلها يكتوي بنيران الغيرة من ليلى، نزعت يدها بعنف وأشارت بسبابتها:

-أنا مش مراتك، ودا بناءً على كلام حضرتك، ماشي ياحضرة المستشار، هستنى لما تتجوز، ودا عشان أثبت لنفسي قبلك، إنك اكبر غلطة في حياتي، فليذهب حبك للجحيم ياراكان يابنداري..

جلس وهو ينظر إليها متهكمًا:

-إنتِ دلوقتي ولا حاجة في حياتي سامعة، ولا حاااجة، وياله عطلتيني بدل مفيش حاجة تخص أمير ماتدخليش عندي، إياكي تقربي من حاجة تخصني، برررة..

عند أسما..

-تجلس بشرفتها صامتة تنظر بالخارج وكأنها لم تشعر بما يدور حولها، خرج الطبيب النفسي وتوقف متحدثًا:

-النهاردة أحسن شوية، خرجت من أوضتها، وسمعتني وأنا بتكلم دا كويس.

أومأ نوح وهو يطالعها بنظراته الحزينة، ثم شكر الطبيب وهو يتحرك معه للخارج:

-شكرًا لحضرتك.

بفيلا الكومي..

دلفت راندا تفرك كفيها بعدما طلبها يحيى، حمحمت بصوتها حتى ينتبه لها، أشار بيديه:

-تعالي ياراندا..جلست أمامه دون حديث، طالعها وهو ينقر بقلمه على سطح مكتبه، ثم نصب عوده ونهض متجهًا يجلس بمقابلتها:

-سؤال هسأله بس ياريت تكوني صريحة معايا..

-مين خطف أسما؟! إنتِ قولتي في التحقيقات إنك متعرفيش الولاد دي، وكمان المزرعة لحد من أصدقائك، إزاي طيب عزت يخطف أسما ومفيش بينهم معرفة..

ارتبكت أولًا في حديثها، ثم طالعته مجيبة:

– أيوة أنا اللي خطفتها وأنا اللي عملت كدا، ماهو مش هسبها تخطف جوزي وأتفرج عليها..

بلع ريقه بصعوبة متسائلًا:

-فيه حد قرب منها؟..توسعت عيناها بذهول، وهي تهز رأسها رافضةً سؤاله:

-ومال حضرتك خايف أوي كدا؟!.

بقصر البنداري..

بعد مرور عدة أيام ومازال الوضع بين راكان وليلى كما هو..

ذهبت ليلى إلى زيارة والدها بعدما رجع من السفر، جلست بجوار والدتها حزينة:

-مالك ياليلى؟..تساءلت بها والدتها..

رجعت بجسدها للخلف تتكئ بظهرها على المقعد قائلة:

-أنا وراكان مش متفقين خالص ياماما، واحتمال كبير نطلق.

شهقت والدتها قائلة”:

-يالهوي إيه اللي بتقوليه دا، هو ميعرفش إنك حامل لسة؟..

انسدلت عبراتها وهي تهز رأسها:

-لا ياماما معرفش ومش هقوله دلوقتي، عشان ميجبرنيش أقعد معاه..

جذبتها والدتها بعنف:

-اتجننتي ياليلى، إنتِ واعية بتقولي إيه،؟..

دي عيلة البنداري تفتكري هيسيبوا أحفادهم تتربى برة؟..

مسدت على ظهرها وتحدثت بحنان أمومي:

-إيه اللي راكان بيعمله مزعلك حبيبتي؟..

أنا شايفة الراجل كويس وبيحبك، أنا شوفت دا في عينه يابنتي، بلاش تخربي على نفسك..

هزت رأسها رافضةً حديث والدتها:

-ماما لو سمحتي، خليني أقرر حياتي زي ماأنا عايزة، نهضت سمية غاضبة وهتفت بصياح:

-ليلى ولادك هيعيشوا في حضن أبوهم ودا آخر كلام عندي، ياإما لا إنتِ بنتي ولا أعرفك..

اطبقت على جفنيها فنهضت متأهبة  للخروج:

-خلي معاكي أمير لحد ماأروح مشوار وأرجع، وبعدين نتكلم..

خرجت متجهةً للطبيبة النسائية، ترجلت من السيارة، وجدت آسر أمامها:

-ليلى!!.بتعملي إيه هنا، تحركت من أمامه سريعًا:

أنا في مشوار، إنتَ إلي بتعمل إيه هنا؟..

-كنت عند واحد صاحبي، دلفت إلى المبنى ثم توقفت:

طيب أنا طالعة للدكتورة فوق، ممكن تمشي إنت..استدارت للمصعد ولكنها تفاجأت به يدخل معها قائلًا:

-لا، هروح معاكي، مالك تعبانة ولا إيه؟..

زفرت غاضبة:

-آسر أنا رايحة لدكتورة النسا، هتيجي معايا بصفتك إيه..ضغط على زر المصعد قائلًا:

-حتى ولو، لازم أطمن عليكي مش ينفع أسيك لوحدك ودا آخر كلام..

توقفت أمام الممرضة تسأل عن الطبيبة، جلست للحظات ثم نهضت، توقف حتى يدلف إلى الطبيبة، نظرت إليه بغضب:

-أكيد مش هتدخل معايا، خليك هنا وأنا شوية وهخرج..

تدارك توترها فأومأ برأسه:

-تمام ادخلي وهستناكي..دلفت إلى الطبيبة التي ابتسمت ونهضت تحييها:

-عاملة إيه ياليلى؟..هزت رأسها مبتسمة:

-دي إنتِ اللي هتقوليها يانورة، عايزة أطمن على الجنين، معرفش المرادي غير المرة اللي فاتت، يعني مفيش ترجيع ودايمًا عايزة آكل هو دا طبيعي؟..

اتجهت الطبيبة للكشف وهي تبتسم قائلة:

-كل حمل وله اختلاف، بما إن المرادي مختلفة، يمكن المزاج عالي، أو نوع الجنين مختلف..

ابتسمت ليلى ساخرة:

-أيوة فعلًا المزاج عالي على الآخر..بعد قليل اعتدلت والطبيبة تتحدث إليها:

-كل حاجة تمام..اهتمي بأكلك الصحي عشان خلاص داخلين على الشهر الرابع، وبقولك احتمال مش أكيد، المرة الجاية هيبان أكتر..النونو تكون بنوتة قمر شبه مامتها.

لمعت عيناها بالسعادة وهي تضع يديها على أحشائها:

-وأنا نفسي في بنوتة أوي يانورة، مش مصدقة تيجي..أخذت تعليمات الطبيبة وتحركت للخارج:

وجدت آسر ينتظرها وهو يتفحص هاتفه، تحرك بجوارها بصمتٍ للأسفل..ثم قطع صمتهم:

-مش غريب راكان يسيبك تيجي للدكتورة لوحدك؟..

رمشت بأهدابها قائلة:

-آسر، راكان ميعرفش بحملي، وأنا وهو هنطلق، بس بما إن في حمل مش عاوزة أطلق حاليًا، فلو سمحت متدخلش..

تسمر بوقفته وهو يطالعها بغموض، ثم تحدث:

-راكان ميعرفش إنك حامل، وكمان هتطلقوا، بجد ياليلى، يعني هو هيطلقك؟..

أمسك كفيها وابتسم:

-أنا موافق أتجوزك بالولاد ياليلى، بس اطلقي إنتِ..

نزعت كفيها منه بعنف:

-إنتَ اتجننت، مش معنى إني بقولك.. يبقى ناوية أتجوز تاني، وبعدين الحمل مش هيتخبى كتير، هقوله أكيد..بس بعد مانتفق على كل حاجة عشان ميرجعش في كلامه تاني،

أشارت بسبابتها:

-إياك تقوله من غير ماأعرفه، أنا قولتلك عشان عارفة إنك هترجع لنورة وتسألها..قالتها وتحركت متجهةً لسيارتها سريعًا..

❈-❈-❈

مرت عدة أيام أخرى، استيقظت تشعر بألمٍ أسفل بطنها، حاولت النهوض متجهةً لعلاجها وأخذت مثبت حملها،  بعدما شعرت بألمٍ شديد..

تذكرت حديث الطبيبة:

-داومي على مثبت حملك ياليلى، عشان التقلصات اللي بتشكي منها، بما إنك بتقولي مفيش علاقة زوجية يبقى الحمل ممكن نفقده، عشان كدا لحد ماندخل الشهر الرابع هتاخدي المثبت..

أطبقت على جفنيها وهي تتمنى قربه الآن، لقد اشتاقت له حد الجحيم، مر أكثر من أسبوعين لم تراه، حتى شعرت بفقدانه لسنواتٍ متتالية،رغم مافعله معها إلا أنها مازال قلبها ينبض له..

نهضت متجهةً إلى غرفته بعدما فقدت سيطرة اشتياقها له، ولكنها عادت ولم تستطع الدخول بسبب مافعله معها.

انسدلت دمعةً غادرة بعدما خانها قلبها مشتاقًا إليه بهذا الحد..وضعت يدها على أحشائها:

-شوفتي بابي بيعمل في مامي إيه، مش مصدقة تيجي عشان نربي أبوكي بتاع الستات، ابتسمت حينما تذكرت حديثه على هاتفه قبل  مقابلتها الأخيرة له:

-إنتَ اتجننت ياحمزة، بتقول إيه؟!..لا طبعًا ليلى مهما تعمل هتفضل ليلى اللي حبها مالي قلبي وحياتي ومستحيل أخونها، أنا بس بحرق دمها، أطلق ضحكةً صاخبة وأكمل حديثه لصديقه:

-أيوة كدا بالضبظ زي مابتقول بعشقها، وهي عاملة تنينة ومتعفرتة عليا..

خرجت من شرودها تنظر للغرفة بحزن، ثم تنهدت بوجعٍ متذكرة آخر حديثه وهو يتحرك للسفر:

-هسافر كام يوم خروج برة لا، تفضلي هنا لحد ماأرجع، وآه كمان عشان مترجعيش تصوَّتي في وشي وقت ماأرجع..هتجوز نورسين، وحياة ربنا لأتجوزها ياليلى، ودا مش تهديد أد ماهو وجع منك..قالها ثم تحرك من أمامها دون شيءٍ آخر..

خرجت من شرودها مع انسدال عبرةً غادرةً على وجنتيها، ظلت لبعض الدقائق ثم اتجهت لغرفتها بعدما استمعت لقرآن الفجر، دلفت إلى مرحاضها، وقامت بالوضوء متجهةً لركنها الأساسي إلى الصلاة، سجدت إلى ربها تبث شكواها للحي القيوم الذي لا يغفل ولا ينام..

ظلت لفترةٍ بالسجود وهي تدعوه ببكاء قلبها قبل عيونها..

انتهت من صلاة الفجر وجلست كعادتها تتلو وردها اليومي بعد قرائتها للأذكار الصباحية، ثم نهضت تتنفس بهدوء جمال الطبيعة حولها..

كان المنظر الرباني حقًّا رائعاً للقلب قبل العين..قطرات الندى التي تغطي أوراق الشجر وتبدأ التلاشي بشعاع الشمس..وقفت بعد الانتهاء تنظر للزروع التي تحاوط القصر من كل مكان..تتنفس نسيم الصباح بنداها الطيب..لم تحب في هذا القصر سوى المساحات الخضراء الكثيرة التي تحاوطه..

أمسكت دفترها وبدأت تدون به بعض الجمل التي تشعر بها:

-“لا بأس أيها العاصي..مرحبًا بحياة..   نلتقي فيها..كل يومٍ ألف مرة..دون لقاء ..”

-“حقا ‏لا شَـيء أسهَل من الكراهـيّة..

‏أما الحبّ فهو يحتَـاج نفوساً عظِيمة ..”

قطع اندماجها بالكتابة..

إشعار رسالة وصلت لهاتفها..أمسكت الهاتف تنظر من الذي راسلها بهذا الوقت المبكر..نهضت كالملدوغة وأحست بغصةٍ بحلقها تمنع تنفسها عندما وجدت بها:

“ليلى لو مش عايزة راكان يعرف إنك حامل، وممكن يقتلك لازم نقعد مع بعض ونتكلم..وعلى ماأعتقد إنك مؤمنة وعمرك ماتفكري تنزلي البيبي…”

لوَّنت الصدمة وجهها ونظرت حولها كالذي يُسحب على المشنقة..

جلست وعيناها تحجرت بالدموع عند ذكراها لآسر، عندما وصلت إلى سيارتها جذبها بعنف ونظر إليها:

-لازم تطلقي من راكان، أنا مكنتش أعرف جوازكم حقيقي، صدمتيني كنت مفكر إنه متجوزك عشان ابن أخوه، بس دا راكان البنداري برضو، عمره مايسيبك، واللي فهمته من حالتك دي يبقى الحمل دا جه في وقت غصب عنك، وإنك مش عايزة تعرَّفيه..

دنا يحدجها بمغزى قائلًا:

-لو مطلقتيش منه ممكن ألعب عليه ياليلى وأشككه فيكي، وقبل ماتتكلمي دا من حبي فيكي..أنا أولى واحد بيكي..

صفعته بقوة على وجهه وأشارت بسبباتها:

-إنتَ حيوان ياآسر، قالتها واستقلت سيارتها تتحرك بها ودموعها تنسدل بقوة على وجهها، وهي تقرر أول شيء ستفعله أنها تخبره بحملها..

أزالت عبراتها وتهكمت فالشخص

الذي اعتقدت أنها تستمد قوتها وحمايتها منه… واعتقدت إنه ملاذها الأول..ولكنه صفعها بشدة كما صفعها القدر..سواءً من زوجها الراحل أو من زوجها الحالي…ليظهر وجهه كذئبٍ بشري أودى بها لغيابت الجب..

مسحت عبراتها التي انسدلت على وجنتيها تحرقها كما تحرق النار سنابل القمح..أمسكت هاتفها وجسدها يترنح، تلعن اليوم الذي فعل بها ذلك، ثم هاتفته صارخةً به:

– إنتَ عايز مني إيه، مش كفاية اللي حصلي بسبك..بتهددني براكان..الله ياخدك إنتَ وهو في لحظة واحدة.. ربنا ينتقم منكم..وهنزل الولد..يارب تكون مرتاح، قالتها بقهر وعجز في آنٍ واحد..لم تعطه فرصة للرد وأغلقت الهاتف ثم وضعت يدها على أحشائها وهي تبكي بنشيح:

– أعمل إيه يا ربي في المصيبة دي..أكيد مش هيوافق يطلقني بعد مايعرف، ولَّا ممكن ياخد مني ولادي، آه قالتها عندما شعرت بعجزها..فلقد فعل بها القدر وأسقطها في بئرٍ مظلم لا نجاة منه وهي مكبلة الأيدي..

ظلت على حالتها لبعض الوقت إلى أن استمعت لطرقاتٍ خفيفة على باب غرفتها..وإن دلت خفتها فتدل على صاحبتها بحيويتها وجمال روحها وابتسامتها الخلابة، سمحت بالدخول بعدما أزالت عبراتها..

دلفت سيلين بمرحها كالفراشة وابتسامتها العذبة تُزين ثغرها:

– صباح الخير يالولة..أنا قولت أكيد صاحية..رسمت ابتسامة على وجهها لم تصل لعيونها بعدما شعرت بانهيار قواها الداخلية فأجابتها:

– صباح الخير ياسيلي..طالعتها سيلين بتقيم فتساءلت:

– إنتِ كنتي بتعيطي ياليلى؟!..هزت رأسها بالنفي وهي تتجه لبنها بعدما استيقظ وأجابتها:

– مش العياط اللي في دماغك..أنا بس بابا وماما وحشوني أوي وطبعًا أخوكي اللي معرفش مستحملينه إزاي.. محاوطني  بسجن من حديد..كانت إجابة واهية كاذبة علها تهرب من تساؤلات سيلين..

ربتت سيلين على ظهرها فهي تشاطرها أحزانه، فتعثرت الكلمات عند شفتيها ولا تعلم كيف تخفف عنها..تنهدت وهي تنظر لذاك الطفل..

ظلت الثنتان صامتتين لبعض اللحظات..أخرجهما من صمتهما” أمير “الطفل الذي يبلغ من العمر سنة ونصف وهو يتحدث بكلماتٍ طفولية:

– ماما.. ماما.. سين.. سين.. اتجهت سيلين إليه تحمله وتقبله من وجنتيه:

– قولي أعمل فيك إيه، عايزة أكلك ياولا ياأمير..اتجهت بنظرها تطالع ليلى فتحدثت علها تخرجها من حالتها الحزينة فناغشتها:

– معرفش ليه حاسة أمير قلب لعمه راكان..حتى شوفي عيونه بقت تهبل وتجذب زي عمه..

برقت ليلى عينيها وهي توزع نظراتها بين سيلين وأمير، وشعرت وكأنها أسقطت دلوًا من الماء المثلج فوق رأسها  بليلٍ شديد البرودة..

جذبت أمير تحدق نظراتها به وداخلها رجفة تسري بجسدها من اشتياقها الكامن له، ثم دفعت سيلين بيدها بوهن وهي تتمتم بلسانٍ ثقيل كأنها تتعلم الحديث:

– إنتِ بتفرسيني ياسيلين..وعايزاني أكره الولد..بتشبهي ابني بالتنين المجنح دا؟!..

قهقهت سيلين عليها وأمالت بجسدها تحدقها بغموض:

– بقى راكان اللي سيدات مصر كلها يتمنوا منه نظرة واحدة تشبهيه بالتنين يالولة؟..والله قلبك قاسي أوي أوي..

اشتعل غضبها من حديث سيلين،  فرمقتها بنظرةٍ تحذيرية:

– بالله عليكِ مش عايزة صباحي ينتزع على الصبح..في سيرة اسم الله عليه أخوكي دا..وبلاش تجيبي سيرته مع إنه مسافر ومرتاحة منه..بس ممكن تلاقيه ناططلي هنا..بيجي على السيرة زي الشيطان لما بيجي على المزمار كدا..

ضحكة صاخبة أفلتتها سيلين من فمها حين استمعت لحديث ليلى..فجلست تمسك بطنها من كثرة ضحكاتها..

أخرجت ليلى زفرةً حادة وهي ترمق سيلين:

بطلي ضحك يابنتي..واحمدي ربنا  إنه مش موجود..مش بقولك ياجمال الحياة وهدوءها..طيب تصدقي بالله أنا بشعر بالراحة زي صفاء المية في البحر الأحمر كدا..وإنتِ بتشوفي فيه جميع الشعاب المرجانية..وأخوكي مش هنا..يالهوي دا عليه تناكة إلهي يعدمها ياشيخة، وكل شوية ستات مصر بتجري عليه..

وضعت سيلين يدها على فمها حينما شعرت بتوقف قلبها من كثرة ضحكاتها..

نهضت سيلين وهي تراقص حاجبيها مردفةً مماجعلها كالكتكوت المبلول:

– لولة..راكان تحت وعايز يشوف أمير… ثم تلقفت الطفل من يديها وهي تطالعها بشقاوتها:

– هاخد أمير لراكان صحي من النوم  وبيسأل عليه، وإنتِ اجهزي وانزلي يازوجة راكان البنداري اللي هتجنن بسببكم إن شاء الله..

صاعقة قوية ضربت قلبها فبعثرته لأشلاء..

وبعينين زائغتين وقلب فتته الوجع  من شدة قساوة قلبه الذي بدأ يتعامل معها به طالعتها وهمست بتقطع:

– هو جه؟!..أشفقت سيلين على حالتها كثيرًا، فهزت رأسها ترأف بها وتحدثت سريعًا:

– ليلى أنا معرفش إيه اللي حصل بينكم، بس حاولي تقربي من جوزك، هو مبقاش بيقعد في البيت خالص، شوفي إيه الغلط وصححيه..

رغم كلمات سيلين  البسيطة التي قالتها إلا أنها نجحت بإخراج نيرانها فأردفت:

– أخوكي عايز يدفني بالحياة وبس ياسيلين..تصدقي بقيت أكرهه، ولو اتجوز زي مابيقول صدقيني هاخد ابني واهرب، ربتت على كتف سيلين وأردفت:

– سيلين متزعليش مني بس أنا بجد بموت من عمايل راكان، بيحاول يدوس عليا بكل قوته..

نظرت بعيونها وأكملت:

-ياريتني كنت زيك وبعدت عنه، يابختك قدرتي تبعدي عن يونس..

أشفقت عليها حينما وجدت عبرات متكورة بعينيها..

-بتحبيه ياسيلين، يعني بتحبي يونس؟..وواثقة إنه هيتخلى عن حياته عشانك؟. لو مش واثقة ابعدي،عشان هتتعذبي زيي بالظبط، مش هتقدري تتخيلي يكون قريب من واحدة غيرك.

تراجعت سيلين خطوةً للخلف وهي تهز رأسها:

– عندك حق ياليلى..علشان كدا أنا بعدت عنه فترة، بس بجد مقدرش أعيش من غيره..

سيبك من يونس وحاولي تصلحي حياتك مع راكان.

-إن شاء الله، ربنا يسهل..قالتها ليلى..

دفع الباب بقوة فدخل بهيبته وهيئته الجذابة وعطره الذي تسلل لرئتيها، ثارت زعابيب غضبها فأردفت تطالعه بعينين تطلق شزرًا:

– هتفضل لحد إمتى تدخل بالطريقة الهمجية دي؟..رمقها بنظراتٍ نارية لو تحرق لأحرقتها بالكامل..دارت عينه لأخته وتحدث بهدوء مميت:

– ساعتين عشان تجيبي الولد ياسيلين، ولا المدام رفضت..

هزت سيلين رأسها وهي تطالع ثوران ليلى وغضبها فتحدثت:

– لا ياأبيه دا كان نايم وبنصحيه..أشار بيديه وتحدث:

– سيلين انزلي بأمير..قالها من بين أسنانه، خطت سيلين وهي تحمل الطفل بين يديها، ولكنه أوقفها وتلقفه بين يديه يقبله:

– حبيب عمه عامل إيه؟…وحشتني ياأميري..أمسك أمير لحيته الكثيفة وهو يتمتم:

– بابا.. بابا.. طبع قُبلةً مطولةً وعيناه على التي تطلق شزرًا والغضب يتملكها..ناوله لأخته وأشار بعينيه للخروج..

غادرت سيلين الغرفة بينما تسمرت ليلى بمكانها، تستجدي طريقة تحاول التملص من قبضته ورائحته..

أوشكت على الالتفات فوجدت قبضته القوية التي أوقفتها بمكانها وعيناه تبحر فوق ملامحها وهو يزمجر:

– أنا مش مليون مرة أقولك ماتتكلميش معايا بالطريقة دي..نسيتي إنك لسة مراتي وأدخل في أي وقت..إيه عايزاني أستأذن قبل ماأدخل أوضتي؟..ليه دايمًا بتخليني أتعصب..

تصاعد غضبها للحدِّ الذي جعلها  تنفض يديه بعيدًا عنها وتقول:

– أنا مش مرات حد..متنساش إننا هنطلق، ودي أوضتي أنا..خليك في نزواتك وابعد عني..

برقت عيناه..لقد تجرأت على كبريائه للمرة التي لم يعد يستطيع إحصاءها..فأشعلت كلماتها جحيم غضبه والذي تجلى بعينيه، فخطى إلى أن توقف أمامها ودنا منها حتى اختلطت أنفاسهم:

– لا مراتي ياهانم..لحد دلوقتي إنتِ في حكم مراتي، قدام الكل، بدل ورقة طلاقك مش في إيدك، بس طبعًا بينا ولا تهميني ودا غصب عنك مش برضاكي..ولو كنتي نسيتي أفكرك.. ودلوقتي لازم تجوبيني..

– خرجتي من يومين وكسرتي كلمتي ليه؟

قالها عندما جلس على الأريكة يضع ساقًا فوق الأخرى، وقام بإشعال تبغه الغالي ونفثه وهو يقيّم حالتها..

بللت حلقها تحاول أن تجيبه بردٍّ مقنع حتى لا يشك بها..فهي تعلم إنه

سيعلم.

– كنت تعبانة ولازم أشوف دكتور.. قالتها وهي تفرك يديها وتهرب من نظراته..

توقف يدور حولها ونظراته مثبتة يحدقها بتمعن…لهجتها المتقطعة وعيناها الزائغة..جعل الشك يتسرب لقلبه فتحدث:

– ودكتور النسا دا معرفة آسر برضو؟..

أفلتت شهقة من جوفها فلقد بلغ الغضب ذروته، فلم تعد تستطع تحمل  حديثه المسموم الذي أصاب احترامها..لذا اشتد صوتها وزادت حدتها فصرخت:

– احترم نفسك، إحنا اتقابلنا صدفة وعلى ماأعتقد اللي سايبه يراقبني قالك..ألقت كلماتها بملامح مرتجفة وعينين تهتز من ثقل العبرات المحجرة بها..

– والله، والمفروض أنا الأهبل أصدق صح…بداخله نيران تغلي وتحرق أوردته حينما علم بمقابلتها بذاك الآسر الذي يود لو يخنقه ويلقيه صريعًا…

– ماهو مش معقول تقابلي الأستاذ صدفة وكمان يطلع معاكي لدكتورة نسا..دكتورة نسا مع راجل غريب يامدام..وكمان قريبتكم..قالها عندما تحولت عيناه لجحيمٍ من النيران وبدأ يركل كل مايقابله…

رمقها بنظرةٍ حارقة وأردف مسترسلًا:

– أنا مراتي تروح مع راجل غريب لدكتورة نسا!!..ليه مش متجوزة راجل، وكمان راجل بيحبها وعايز يتجوزها..جذبها من رسغها:

-إنتِ بتضحكي على مين بالضبط،  أوعي تفكري إني ممكن أطلقك عشان الحقير دا، طيب مفيش طلاق وخليكي كدا في البيت هنا ولا متجوزة ولا مطلقة..

راكان لو سمحت بلاش تكرهني فيك..

أطلق ضحكةً صاخبة وأشار على نفسه:

-تكرهيني، ليه حد قالك أنا طالب حبك؟..فوقي من الوهم دا، إنتِ زيك زي أي واحدة عجبتني وقعدت معاها شوية وانتهينا، بس الفرق بينكم إنك أم لابن أخويا..

اقتربت منه تلكمه بصدره وتحدثت بنيران قلبها:

-اخرس، أنا مش زي حد، سمعت..

سحب نفسًا من تبغه ونفثه بوجهها،  وهو يتلذذ بغضبها قائلًا:

طيب جاوبي يامحترمة، ابن عمك كان بيراقبك من وقت ماخرجتي من بيت أبوكي، ياترى بعلمك ولا لأ؟.

اتجهت إليه وطالعته بغضب أنثى داس بكل جبروت على شرفها:

– “أخرس” مفكرني واحدة زي نزواتك..

قالتها وهي تدفعه بكل قوة ٍوتنظر إليه باشمئزاز، فقد كانت كلماته كنصل سكينٍ بارد تبتر عنقها ليجعلها تموت بالبطيء..

أمسك ذراعيها يعقدها  خلف ظهرها، ودنا يهمس بجوار أذنها، فتقابلت عيناه التي بلون شعاع الشمس وهي تطلق كراتٍ ملتهبة بسواد ليلها الذي ألقته كتعويذةٍ على قلبه..خرج من سواد عينيها وناظرها بجمود:

-نزواتي!..على الأقل دول ستات معروفين بيعملوا إيه، إنما المدام اللي تروح مع راجل غريب عند دكتورة نسا.. نقول عليها إيه؟..

صفعة قوية هوت على خده وصرخت:

-اطلع بررررة مش عايزة أشوف وشك..

اقترب يجذبها من رسغها:

– من الآخر كدا مفيش طلاق، إلا لما يكون عندي مزاج، دا لو هطلقك، أما عن الألم اللي إيدك الحلوة دي علِّمته على وشي مش هنساه، احمدي ربنا إنك مراتي..وإنك ست..دا اللي شفعلك عندي..لأن من قوانيني ممدش إيدي على واحدة ست، فتخيلي بقى مش أي ست لا دي مراتي، وحطي تحت مراتي دي مليون خط، بس مش معنى كدا مش هعرف آخد حقي..

دنا منها وأكمل:

– إنتِ مغلطيش بس يالولا…لأ دا إنتِ اتجاوزتي حدودك…جبتي أخرك معايا يا ليلى راكان البنداري..افتكري اللقب دا كويس لأنه هو اللي بيشفعلك في كل مرة..بس احترسي رصيدك خلص بالكامل..

طالعته بأعينٍ مرتجفة وجسدٍ هاوي محاولةً استيعاب مدى قسوته وإهانته لها..

ورغم أنها في موقف الضعف إلا أنها تحدثت كقطةٍ شرسة:

– متخفش اسمك محفوظ بعيد، مش حبًّا فيك ياديستينجويشنج..لا بس علشان مش عايزة أفتكر اسمي مرتبط بشخص زيك..عايزة أفقد الذاكرة ياسوبر مان..

❈-❈-❈

صمت يطالعها بنظراتٍ كالذئب وكأنه لم يستمع لماقالته أو كأنه ادعى ذلك..

دنا مرةً أخرى إلى أن اقترب من أذنها يهمس:

– متخلنيش أوريكِي المميز والسوبر مان يعمل فيكي إيه..هنفذ كلامي اللي قولته قبل كدا وخصوصًا بحالتك دي..

شعور مقيت يجعل دقاتها تتقاذف بين ضلوعها من قرب أنفاسه التي تحرق رئتيها دون رحمة؛ تقابلت نظراتهما هو بتمنيه قربها وهي بنفورها من نفسها بسبب سيطرته الطاغية لروحها..

لحظات فقط كفيلة لتغرق كل واحدًا بجبروت عناده..أكمل وعيناه مثبتة بعينيها..

ثم سحب نفسًا وطرده حتى لفحت أنفاسه وجهها واستطرد:

– خليني بعيد عنك ياليلى لو سمحتي،  مش عايز أأذيكي وترجعي تكرهيني تاني..لو سمحتي متخرجيش الوحش اللي جوايا  ناحيتك..

اللعنة على صوته الذي ذبذب جسدها بالكامل..وهمسه الهادئ باسمها،  ارتجفت شفتيها تحاول الحديث.. ولكن حروفها قد هربت بالكامل.. انتشلها من سيطرته الطاغية وأنفاسه القريبة ونظراته التي خدرتها بالكامل، طرقات  الباب..

اعتدل تاركًا إياها..محاولًا السيطرة على نفسه، فخرج صوته متزنًا بعض الشئ:

– ادخل…دلفت العاملة وهي تتحدث بوقار لشخصه:

– توفيق باشا والعيلة كلها وصلت يافندم..والست زينب بعتتني عشان الست ليلى تنزل…أشار بكفيه بانصرافها، فتحركت العاملة سريعًا وعيناها تلازم الأرض..ثم استدار للتي جلست على الفراش تهرب بنظراتها في كافة الاتجاهات..

مسمعتيش قومي اجهزي…عشر دقايق وألاقيكي تحت وإياكي تتأخري.. وقتها هطلعلك وبلاش أكملك…

تحرك خطوتين فتوقف عندما تذكر شيئًا:

– آه بلاش تحتكي بسارة وسلمى نهائيًا..قالها وهو يغادر بخطواته المهرولة كأنه ينأى بالهروب بعيدًا عن عينيها..

أخيرًا استطاعت التنفس الذي سحبه بالكامل من حولها..وقفت تضع يدها على صدرها وهي تحادث نفسها:

-” وبعدهالك ياليلى هتفضلي لحدِّ إمتى كدا..لازم تخلصي منه ومن كل اللي يربطك بيه..وضعت يديها على أحشائها:

– وإنت كمان هخلص منك إزاي؟..يارب ساعدني..قالتها بقلبٍ يأن وجعًا..

بعد قليل هبطت إلى غرفة الطعام التي تضم العائلة بأكملها…بهيئتها الخاطفة للقلوب، بفستانها الأبيض الذي يصل لكاحلها بنقوشه الزرقاء التي بلون السماء..رمقها الجميع  بنظراتٍ منها الحنينة ومنها نظرات كره وغيرة…كان الجد توفيق يترأس الطاولة وبالمقابل أسعد وبجواره أخواته وزوجاتهم وأولادهم..

– صباح الخير…قالتها ليلى بهدوء..

– صباح النور ياحبيبتي تعالي أقعدي جنب جوزك..هزة عنيفة أصابت جسدها عندما خصتها زينب بزوجته بعدما صار بينهما..رمقها الجد بسخرية وأردف:

– تعالي أقعدي شوية قبل مامراته الجديدة تستحوذ على المكان..مع إنه مش ملكك من الأول..أخذت جرعةً كبيرةً من الهواء تحبسه بداخلها، علها تهدئ من نيران الغضب الممزوج بالحزن الذي ظهر على ملامح وجهها وعيناها التي رمقته وهو يتناول طعامه بهدوء، وكأنه لم يستمع لحديث جده..

ابتسمت سلمى بحبور وهي تطالع ليلى التي مازالت واقفة وأجابت جدها:

– قولها ياجدو..وعرَّفها إن نورسين مبتحبش اللي يقرب من ممتلكاتها.. جذبت ليلى المقعد بعنف عندما شعرت بانهيارها وجلست بجوار سيلين وتحدثت:

– لا نورسين ولا غيرها، خليها تيجي وتاخد القصر بأكمله..أنا هنا عشان ابني وبس..أومأ الجد برأسه وطالعها بغموض:

– برافو عليكي خليكي دايمًا متذكرة كدا.. إنتِ هنا عشان أمير ولا إيه ياراكان؟..

استدار راكان لجده:

– عارفين الموضوع دا وحافظينه، ليه دايما بتحسسنا إننا في حصة وبتسمعلنا الدرس..

غيره ياتوفيق بيه..قولي إيه سبب الجمعة الحلوة دي، هو مكنش يوم الجمعة ولا أنا غايب بقالي سنين وغيرت النظام؟..

إذداد غضب توفيق واستشاط داخله فرمقه قائلًا:

– هشام النمساوي اتصل وقال نحدد فرحكم قبل اجتماع مجلس الإدارة.. وطبعًا أنتَ عارف يقصد إيه..إحنا عايزينه شريك للمشروع الكبير..

أنهى طعامه واتجه إلى يونس وتساءل:

– هو نوح مش بيحضر الاجتماعات ولا إيه..مال النمساوي باجتماعات الشركات؟..

وبعدين حضرتك دخلت يحيى الكومي قبل كدا ودلوقتي النمساوي..إيه ياباشا عايز تاخد اقتصاد البلد كلها..

قوس فمه وأكمل:

على فكرة تفكير غبي..لأنك كل مالحاجة تبقى بتاعتك لوحدك أحسن من الشركاء، وبعدين نسيت إنك مريض..

أظلمت أعين توفيق وارتسمت عيناه بنظرةٍ قاسية:

– أنا اللي وطدت العلاقات بينا..وكدا كدا إنت هتتجوز بنته فعادي إنه يحضر..غبي ولا غيره..إنت مش عندك شركاتك، مالك ومال شغل العيلة ولا عشان نصيبك الأكبر، هتتفرعن على جدك ياحضرة النايب زي كل مرة، وبعدين أنا متابع مع الدكتور مالكش دعوة بمرضي..

زفر بهدوء محاولًا السيطرة على غضبه عندما حثته والدته بعينيها بعدم الغضب..

– تمام ياتوفيق باشا اعمل اللي حضرتك عايزه شغلكم ماليش دعوة بيه..والفرح حدده معنديش مانع.. قالها وهو يرمق تلك التي جلست تتلاعب بطعامها بعينين تقطران ألمًا، وملامح يكسوها الحزن الذي تغلغل لروحها..

❈-❈-❈

قاطعهم دلوف نورسين:

– جود مورننج جدو..جود مورننج للجميع..

اتجهت لراكان:

– حبيبي حمدالله على سلامتك وحشتني أوي..قالتها عندما قبلته على وجنتيه..

أشار توفيق على المقعد الذي يجاور راكان:

– صباح الخير ياحبيبتي..اقعدي، بنت حلال كنا لسة بنجيب في سيرتك..

طالعت راكان وأردفت:

– إيه ياراكي..أوعى تكون كنت بتقول لجدو إني وحشتك..

ابتسم بجانب فمه بسخرية..فأجابها دون النظر إليها وتحدث:

– أيوة طبعًا ياحبيبي كنت بقوله نورسين دي مفيش زيها وحشتني، لدرجة هنعمل الفرح بعد أسبوع..

هنا رفعت ليلى عينيها سريعًا إليه فتلاقت بعينيه..شيعها بنظرةٍ خبيثة وأكمل:

– كفاية تأجيل..إحنا كنا هنتجوز من فترة لولا موت سليم الله يرحمه..

رمقت نورسين ليلى فاستطردت قائلة:

– وياترى ليلى هتفضل معانا فوق..سوري لكن من حقي ياجدو..مش كدا ولا إيه؟..

حمحم راكان وطالع ليلى مردفًا:

– مدام ليلى أصلًا مش هتكون موجودة في إسبوع الفرح..معنديش مانع لو عايزة تقضي أسبوع الفرح في بيت المزرعة، وأكيد مش هعرَّفها الجو هناك بيكون عامل إزاي الأيام دي..

كان وقع كلماته على مسامعها كصدى صوت رعدٍ بليالي الشتاء القاسية بعواصفها…لم يرحم قلبها فأكمل:

– مش عايز الناس يفهموا علاقتنا غلط..وجودك هيثير الشك..ودا عكس شخصيتي أبين حاجة وأعمل حاجة تانية..

استقرت كلماته القاسية وسط قلبها  فمزقته لأشلاء، حتى شعرت بآلام  شديدة بأنحاء جسدها مما جعلها تتشبث بيد سيلين بجوارها..

طالعتها سيلين وهمست إليها:

– إنتِ كويسة؟…هزت رأسها وغشاوة من دموعها احتُجزت بعينيها منعتها من التحرر، ولكن أكمل ماهشم الباقي من كرامتها حينما أردف:

– ماما ممكن تنقلي ليلى وأمير للجناح التاني عشان حضرتك عارفة نورسين وغيرتها، وأنا مش عايز دوشة حريم..

قبلته نورسين مرةً أخرى على وجنتيه أمام الجميع..وهمست له:

– راكي خلص فطارك بسرعة، عندنا فسحة هتغير مود الشغل اللي خطفك مني بقاله أسبوعين..

❈-❈-❈

رفعت نظرها وعبرة غائرة انسدلت عبر وجنتيها، مسحتها سريعًا حتى لا يرى ضعفها..فأجابته وهي توزع نظراتها عليه وعلى نورسين:

– أنا اتكلمت مع طنط زينب من فترة كبيرة من بعد موت سليم وحضرتك رفضت..يعني أنا اللي طلبت من الأول.. ودلوقتي مستحيل أخرج من جناحي، دا بتاع جوزي واللي مش عاجبه ممكن ينقل في مكان تاني..ووقت مايجيلي مزاج ياحضرة النايب أنقل هنقل مش هستنى حد يتأمر عليا..

ذُهل الجميع من شراسة حديثها بل شعر بصفعةٍ مدويةٍ فاتجه بنظره لوالدته:

– كلامي يُنفذ ياماما..سليم مات ومش موجود بينا ودلوقتي مينفعش.. قاطعته عندما هبت كالملسوعة توزع نظراتها بين الجميع:

– سليم مات عندكم بس..لكنه لسة عايش جوايا..عايش في ابنه دا..مش من حق حد فيكم يجبرني على حاجة مش عايزاها…أنا اتجبرت مرتين ياحضرة المستشار..المرادي لأ..دا حق ابني إحنا هنا اللي لينا الحق الأكبر..

وقف أسعد محاولًا تهدئتها:

– ليلى حبيبتي اقعدي يابنتي هنعمل اللي إنتِ عايزاه…إزاي ياأسعد؟..

أردف بها توفيق بقوة..هتسمع كلام أرملة ابنك!..رمقها الجد وأردف:

– إنتِ بأي حق تتكلمي كدا..نسيتي نفسك..

عايزة تحطي نفسك بنورسين…

إلى هنا وقد طفح الكيل وصرخت كالذي مسها جنيًّا وضربت على طاولة الطعام:

– أنا فعلًا مش زي حد..وعشان كدا خلي حفيدك المغرور دا يطلقني،  ويتجوز سليلة الشرف والنسب…أنا مش عايزة أعيش هنا..أدوني ابني خلوني أمشي..

هبَّ كالملسوع ورفع سبابته أمام وجهها قائلًا بنبرةٍ آمرة:

– مفيش خروج من البيت دا بأمير إلا بأمر مني..ومتنسيش حضانة الولد معايا..عايزة تمشي اتفضلي الباب مفتوح، غير كدا مسمعش صوتك..

تساقطت دموعها بقوة عبر وجنتيها وهي ترمقه بنظراتٍ احتقارية، ثم تحدتث بصوتٍ مرتجف:

– إن شاء الله تتعذب في حياتك ياراكان وتتوجع زي ماوجعتني كدا..ضرب الجد بعصاه الأبنوسية  على الأرضية:

– احترمي نفسك يابنت المحجوب،  متنسيش نفسك واعرفي إن اللي بتغلطي فيهم دول يبقوا إيه..

ظلت مسلطةً بصرها تنظر إليه ببغضٍ شديد..استدار لجده والغضب استحوذ عليه كليًّا وصاح:

– متنساش إن دي مراتي ياتوفيق باشا..ومش معنى إني ساكت يبقى تهنها، اللي يغلط فيها كأنه بيغلط فيا..

صفقت ليلى بيديها فلقد فقدت السيطرة بالكامل حينما دعسوا على  كبريائها..

– لا برافو..زادني شرف والله ياحضرة النايب..اتجهت إليه تدفعه بيديها:

– أنا مش مرات حد..وأعرف آخد حقي كويس..اتجهت بنظراتها لنورسين:

– هوَّ على بعضه مايلزمنيش ياحبيبتي.. ولو فعلا شايفاه راجل ويستحقك خليه يطلقني..

توقف مجرى الدم بعروقه وتثلجت أوصاله، حينما ألقت سهامها وداست على رجولته بكل جبروتها..استدارَ إليها وجذبها من رسغها:

– اقعدي واسمعي آخر الكلام يابنت الناس..أنا بحاول أتغاضى عن كلامك مش عشان أنا مش راجل..أبدًا..

تنهد وأخذ نفسًا فأكمل:

– علشان أخويا المرحوم أولًا..وعشان إنتِ مراتي…فبحاول مغضبش عليكي ياليلى، مطلعيش الغضب اللي جوايا.. صدقيني هكرَّهك في نفسك..

– إيه ياراكان مش إنتَ من شوية كنت بتقولها هعمل وأسوي ماترسى على حل يابني..قالتها فريال وهي تنظر اليه بسخرية..

نهضت ليلى من مقعدها سريعًا.. تحتضن ابنها الذي بكى من أصواتهم المرتفعة..

صاح راكان بغضبٍ على مربيته:

– خدي أمير..ضمته ليلى لأحضانها:

– لا محدش هياخده مني..سحب الطفل منها بقوةٍ وصرخ:

– خدي الولد أوضته وبعد كدا ممنوع يبات مع والدته..نفذت المربية أمره سريعًا..

انتفضت ذعرًا تقول بفزع:

– متبعدش الولد عني ياراكان لو سمحت..

جلس وكأنه لم يستمع لتوسلاتها،

اتجهت بعينيها تراقب ابنها الذي صدح بكائه بالمكان حتى اختفى، ثم استدارت تسلط أنظارها تستجديه بعينيها علها تجد بهما رأفةً لحالها.. ولكن كيف وهو الذي أوجع وأبكى قلبها وأدماه منذ لقائهما الأول..

سحب كف نورسين التي جلست تطالع الجميع بصمتٍ مريب وتحرك بعض الخطوات..

شعرت بآلام تنخر بجسدها وشيئا

مايسقط من بين ساقيها..ضغطت بقوة على يد سيلين التي تساءلت:

– ليلى مالك؟..انتبه الجميع لحديث سيلين..

اتجهت لتحركه تطالعه بنظراتٍ متألمة، رمقها سريعًا وتحرك خطوةً وهو يردف:

– ماما متعملوش حسابي النهاردة مش هرجع..

هنا شعرت بآلامٍ أشد قوة، فخار  جسدها وضعُف حتى هوت جالسةً تأنُّ وجعًا وتصرخ..

دنا يونس إليها عندما وجد تعرقها وأنينها..جلس بمقابلتها وأردف متسائلًا:

مالك يامدام ليلى؟ قالها عندما تغيرت ملامح وجهها وتحولهِ لشحوب كشحوبِ الموتى…أمسك كفها ليرى نبضها..ولكن جحظت عيناه واستدار يطالع راكان الذي وقف

متصنمًا بمكانه من صرخاتها  فسألها:

مدام ليلى إنتِ حامل؟..تساقطت دموعها بغزارة تحرق وجنتيها كلهيبٍ يقضي عليها..

فهمست عندما فاق الألم تحملها:

– الحقني يايونس أنا بنزف…رجفة قوية أصابت جسده، فعقد حاجبه يفهم سؤال يونس ومعنى حديثها:

– همست ليلى أنا حامل..قالتها ودموعها أغرقت وجنتيها بالكامل..

صدمات وشهقات وهمهمات من الجميع عندما استمعوا لحديثها.. بينما ذاك الذي تصنَّم جسده وكأن أحدهم سكب عليه دلوًا من المياه، التي وصلت لدرجة غليانها وحولت جسده كحممٍ بركانية..

اتجه ليونس كالضائع بغيابت الجبِّ واستمع لسؤاله، عندما ازداد سوء حالتها وبدأت قواها تتهاوى بفقدانها للوعي..

– ليلى إنتِ حامل في الشهر الكام؟.. تساءل بها يونس الذي بدأ يقيس ضغطها ونبضها..

أطبقت على جفنيه متألمة وكأن روحها تنسحب منها وغمامه سوداء تطاردها فهمست:

– التالت..لم تكمل كلمتها فسقطت بين ذراعي يونس فاقدةً للوعي..نظر يونس تحتها وجحظت عيناه من آثار الدماء التي لطخت فستانها الأبيض.. فصاح بأخته وهو يحملها متجهًا لغرفتها:

– سلمى هاتي لي شنطتي بسرعة.. بينما سيلين التي وقفت كالمتصنمة تبكي على وضعها..الكل بدأ ينظر إلى راكان..هناك نظرات شفقة وهناك نظرات شماتة..ولكن عنده، لقد هوى قلبه وزهقت روحه، تمنى لو صرخ من أعماق قلبه حتى ينقطع نفسه..أومأ رأسه رافضًا حديثها بقوة، وشعور بفقدان وعيه…نظر بضياع حينما أردفت فريال:

– إيه ياراكان أرملة أخوك اللي ميت بقاله أكتر من سنة ونص حامل إزاي؟.. وإحنا كلنا عارفين طبيعة جوازكم… هنا لم يجد كلمات تعبر عما يجيش في صدره من آهاتٍ صارخة..

تحرك يونس خطوتين وهو يحملها بين ذراعيه متجهًا لغرفتها..

هبَّ فزعًا وكأن صراخ سيلين باسمها أيقظه من صدمته، فهرول يلتقطها من بين ذراعيه وصاح بغضب:

– رايح فين؟..أنا هوديها المستشفى.. قالها وشعور الاختناق يعيق خروج تنفسه..كيف يتنفس وصفعات القدر المتوالية لم ترحمه..

خطا يونس بها للخلف وهو يضمُّها حينما وجد الغضب ونيران عينيه ووجعه بآنٍ واحد..فتحدث بهدوء:

– راكان، ليلى ممكن تموت، ننقذها الأول..ممكن يكون الطفل مات… وممكن يكون عايش..أرجوك ابعد غضبك دلوقتي وخليني أنقذها..وبعد كدا حاسبها زي ماإنتَ عايز..

تلقفها منه بقوة وغضب..وهو يدفعه بجسده:

– ابعد عني عشان غضبي مايولعش فيك يايونس..إياك تقرَّب مني..

توقفت والدته وعمته سميحة حينما وجدا حالته، فاتجهت زينب لأسعد ووالده:

– هتسبوه ياخدها؟..

تحدثت سميحة:

– بابا…رمقها الجد بنظرةٍ غاضبة  وأشار بسببابته:

– مش عايز أسمع صوت حد فيكم… اتجه بنظره لأسعد:

– شوفت مجايب ولادك؟..أهو شرفهم بقى في الطين..

هبت زينب وصاحت بغضب:

– إيه مالكم خلاص حكمتوا إن البنت خطيت..إيه أنتوا ناسيين إنها متجوزة؟..

طالعتها فريال بسخرية:

– أه وعارفين كمان إن ابنك مش طايقها، ومفيش حاجة حصلت بينهم..واللي يثبت كلامي حالته المجنونة دي..بينما جلست نورسين وهي تضع ساقًا فوق الأخرى:

– لا دي مش أشكال راكان، دا مبيكهرش في حياته أدها..وبعدين ياأنطي متنسيش إنها السبب في موت سليم..

بالخارج عند السيارة..

تحرك بها يحاول إخفاء مزيج المشاعر التي اجتاحت كيانه مما استمع إليه..يحاول أن يحرق الأخضر واليابس وكل مايقابله، خرج سريعًا وهو ينادي على سيلين:

– الحقيني بسرعة للعربية…بينما بالداخل هناك حرب شعواء بين الجميع..

تحدثت يارا ابنة عمته:

– معقول ليلى تكون غلطت مع حد!..لا أنا مش مصدقة…بينما هز الجد رأسه وهو يردف:

– وآدي الأشكال اللي ضحكوا على أولادك يازينب قبل كدا بنت صياد، والتاني جايبلي بنت محاسب..لا وواقفة تجادلي وتقولي إنها متجوزة..

طالع زينب بسخرية:

-هي تربيتك هتجيب إيه غير كدا..قالها ساخرًا ثم أكمل:

– ادعي ربنا إن ابنك مايموتهاش، ويدخل السجن في حاجة ماتستهلش… تحرك يونس سريعًا يستقل سيارته عله يحاول السيطرة على راكان..

أما بالسيارة..جلست سيلين بالخلف..تبكي  وجسدها يرتعش  عندما وجدت تغير ملامح ليلى ليصبح شاحبًا كالأموات فاهتزت شفتيها وحدثت أخاها:

– راكان بسرعة..ليلى هتموت..

أنهت كلماتها المتألمة وأنفاسها المتقطعة بالبكاء..

هل شعر أحدكم كيف يكون حال العاشق حينما يرى موت معشوقه أمامه وهو عاجز؛ هذا ما شعر به راكان عندما شق طريقه بسرعة جنونية، ودَّ لو يحرقها ويحرق نفسه معها…كور قبضته يضرب على قيادة السيارة،  ونيران صدره تشتعل بداخله تحرقه بالكامل وهو يصيح بغضب:

– ليه…ليه ياليلى ليه..صرخ بها بغضب..نظرت سيلين إليه بالمرآة فلا تعلم كيف تهدئ من روعه وهو محقًّا في غضبه ولكن الى أي حد سيؤدي به غضبه، جراء نيران قلبه النازفة…هل حقًّا ليلى دعست على رجولته وخانته بهذه الطريقة الشنعاء؟!..

مسحت عينايها وهي تهز رأسها رافضةً حديثها مع نفسها..

❈-❈-❈

وصل بها إلى المشفى وحملها بين يديه وصاح بالممرضة:

-شوفيلي دكتورة بسرعة، مراتي بتنزف..وصلت الطبيبة وقامت بفحصها وأمرت الممرضة:

-جهزي العمليات بسرعة..تحركت سريعًا، دلفت ليلى إلى غرفة العمليات..

وصل يونس إليه يوزع نظراته بينه وبين سيلين:

-إيه اللي حصل..هب واقفًا:

-ادخل طمني، عرَّفني اتأخرت ليه؟..دي قالت هتكشف..

أشار بيديه ليهدئه قائلًا:

-اهدى هدخل أشوف وراجعلك..مرت نصف ساعة أخرى والحال كما هو ..وقف متحركًا وهو يأكل الردهة ذهابًا وإيابًا، حتى خرج يونس إليه..سحب نفسًا طويلا وتحدث:

-ليلى فقدت الجنين..هزة عنيفة أصابت جسده حتى هوى على المقعد عندما فقد القدرة على الحركة، انزلقت عبرة غادرة وهو يهمس لنفسه:

-الولد نزل..طالع يونس بنظراتٍ حزينة وهمس بلسانٍ ثقيل وصوتٍ متقطع:

-فقدته، يعني نزل خلاص..تقدم يونس منه عندما تأكد أن الولد ابنه، ربت على ظهره:

– مالكش نصيب فيه ياراكان، والحمد لله على كدا..قاطعهم وصول الطبيبة، وقفت تنظر إلى يونس بأسف:

-فيه مشكلة عند المدام، النزيف شغال، ولو فضل الوضع على ماهو عليه مضطرين نعمل استئصال للرحم..

صاعقة نزلت على رأسه حتى شعر بانشطار جسده فأغمض جفونه، عندما شعر ببرودةٍ تجتاح جسده بالكامل..

فرفع نظره إلى يونس ليفهم ماتقوله الطبيبة..

تحركت الطبيبة بعدما أشار يونس لها:

-راكان لو فضل الوضع كدا، لازم العملية ياإما هنفقد ليلى.

هز رأسه رافضًا:

-لا يايونس اتولى إنتَ حالتها، أنا عندي ثقة كاملة فيك، أهم حاجة عندي تكون بخير، هو عقاب ربنا ولازم أتعاقب..

جلس بجسدٍ محني وكتفين متهدلين، وهو يشعر ببرودة في أطرافه كأنه ينتظر خروج روحه..وضع رأسه بين كفيه:

-بس العقاب صعب أوي، أوي يايونس مش قادر أتحمله، انقذلي ليلى يايونس عشان خاطري، اتأكد لو حصلها حاجة هموت بعدها..

مرت عدة ساعات، جلست سيلين تضمُّ أخيها الذي لم يتحدث ولا يتحرك من مكانه..ينظر فقط لتلك التي تغفو كالذي يغفو على فراش الموت..

مسح على وجهه، ولكنه هبَّ من مكانه عندما استمع إلى صوتها يهمس باسمه:

-راكان..كررتها عدة مرات..جثا على ركبتيه أمامها يمسد على خصلاتها:

-أنا هنا ياليلى افتحي عيونك..همست باسمه مرةً أخرى وهي تغلق عينيها..

تحركت سيلين تربت على كتف أخيها:

-لسة تحت المخدر ياحبيبي، سبها ترتاح..هز رأسه رافضًا:

-لا، هيَّ فاقت بس مش عايزة تكلمني، هيَّ زعلانة مني..

دلفت الطبيبة وتحدثت:

-ممكن أكشف عليها لو سمحت؟..

أومأ برأسه وتحرك للخارج ينظر إلى سيلين:

-مش تسبيها لوحدها، هشوف يونس..خرج بساقين يجرهما للخارج بصعوبة وعيناه متعلقة بها..

باليوم الثاني..

جلس أمام يونس متسائلًا:

-يعني إيه مفيش حل تاني، دلفت الطبيبة إليهم:

-لازم عملية يادكتور يونس، المدام من إمبارح والنزيف مبيوقفش، ودا خطر على حياتها، لازم استئصال للرحم..

كلمة بسيطة نزلت على قلبه كالبلور المكسور لتشحذ قلبه بل جسده كاملًا، حاول تنظيم أنفاسه وكأن الهواء سُحب من الغرفة، فتوقف بجسدٍ مترنح:

-اعملوا اللازم يايونس، المهم تكون كويسة..

أجابته الطبيبة:

-المدام رافضة تمامًا بتقولِّي سبيني أموت..تحرك وهو يخطو بخطواته الواهنة، وكأنه يخطو على جمراتٍ من النيران قائلًا:

-مش بكيفها، حضروا نفسكم، استدار بجسده ليونس:

-مراتي عندك وصية يادكتور..

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية عازف بنيران قلبي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق