رواية فوق جبال الهوان الفصل الثامن 8 – بقلم منال سالم
الفصل الثامن
حرصت على بث كل ما يحتاج إليه لتوقظ بداخله الرغبة، ونجحت في استثارته بالطريقة التي تجيدها لتتمكن من سلب الحقيقة من بين شفتيه أثناء ممارسته لطقوس الحب معها، في الزاوية الخلفية بالمطبخ. بالطبع لم يضيع “سِنجة” الفرصة التي واتته بلا عناء، واستغلها بالكامل، فأخذ ينهم من الشهد المصفى أضعافًا مضاعفة، إلى أن بلغ الذروة، وأصبح على حافة الانهيار، آنئذ فقط سألته “وِزة” بصوتٍ لاهث، وخافت:
-ما تريحني يا “سِنجة” وتقولي ابني فين؟
أفضى إليها بالسر الذي لا يعرفه سواه، وهو يخمد النيران المتأججة في جسده:
-مــات يا حلوة.
ظنت أنه يلاعبها بكلماته المراوغة، ليضللها، ويستفيد في نفس الآن مما تقدمه له، فسألته وقد تصلبت أطرافها:
-هي الست “توحيدة” موصياك تقولي كده؟ خليك صادق معايا.
انقضت الحاجة، وانطفأت شعلة الرغبة، فابتعد عنها قائلًا بجمود، وهذا التعبير الساخط يسود كامل وجهه:
-اقري عليه الفاتحة، ربنا رحمه من أم زيك، كان هيتعاير بيكي لما يكبر.
إهانته كانت قاسية للغاية؛ لكنها لا تفوق تصريحه الذي لم يكن بالمزاح مطلقًا، فهتفت تسأله بقلبٍ يدق في خوفٍ:
-إنت بتقول إيه؟
أجابها صراحةً، ودون تجميلٍ للحقائق الصــادمة، مشيرًا بكفيه:
-بجيبلك الناهية، أنا بإيدي دول قضيت عليه.
برزت عيناها في محجريهما، وأمسكت به من تلابيبه تسأله في نبرة صارخة، وقد فاض الدمع الغزير من طرفيها:
-حرام عليك؟ ليه كده؟ عملك إيه؟ ده كان حتت لحمة حمرا، إيه ذنبه؟
أمسك بقبضتيها، وأزاحهما قائلًا في استحقارٍ:
-ذنبه إنك خلفتيه.
وكأنها امتلك قوة جسدية هائلة، سيطر عليها غضبها الممزوج بحسرتها وقهرها فانقضت عليه لتخنقه من عنقه وهي تتوعده:
-أنا هـــموتك، هقتلك زي ما قتلته يا ابن الـ …..
تفاجأ بهجومها الضاري عليه، وحاول تخليص نفسه من براثنها، خاصة أنها راحت تخمش في وجهه وجلد عنقه بأظافرها لتؤلمه، وتشوهه.
أتى على صوت صراخها الهائج “خضرة”، وبعض الشابات، تدخلن على الفور للفصل بينهما، والأولى تلومها بشدة:
-إنتي اتجننتي يا بت، إيه اللي بتعمليه ده؟
واصلت “وِزة” الصراخ بمشاعر أم مكلومة، وقلبها قد انكوى بلوعة خسارة فلذة كبدها:
-ابنـــي، ضنـــايا!
بالكاد نجا “سِنجة” من بين يديها، لتشكل الشابات حائلًا فاصلًا بينهما، سحبته “توحيدة” نحو الخارج وهي تكلمه:
-امشي يا واد من هنا دلوقت.
تحسس وجهه الملطخ ببقع دماءٍ متفرقة جراء النزف الحادث من الخدوش الموجعة التي طالت وجهه، وأخذ يبرطم في غيظٍ:
-فوقوها المجنونة دي، بدل ما تحصل ابنها.
لكزته “توحيدة” في كتفه وهي لا تزال تأمره:
-روح من هنا بقى.
لو كان في مواجهةٍ مع غيرها من الرجال لما تركها هكذا دون أن يرد الصاع صاعين؛ لكن يكفي عليه –حاليًا- احتـــــراقها بنيران فقدان رضيعها.
……………………………….
الأوقات الطيبة تمضي كسرعة البرق مهما امتدت لساعات، وهذا ما حدث معها، كم تمنت “إيمان” ألا ينقضي نهارها الهانئ مع أسرتها أبدًا؛ لكنها مضطرة للذهاب والعودة إلى منزلها قبل أن يجن عليها الليل. احتضنت والدتها في محبةٍ صافية، وخاطبتها بصوتٍ بات إلى حدٍ ما مهمومًا:
-كان نفسي أقعد معاكو أكتر من كده، بس علشان الوقت ما يتأخرش عليا وأنا برا.
تفهمت “عيشة” لوضعها المتأرجح ما بين محاولة إرضاء ذويها، وعدم إغضاب زوجها، فقالت:
-ماشي يا حبيبتي..
تراجعت عنها وأوصتها:
-خديلك مواصلة من على أول الشارع، وكلمينا لما توصلي.
هزت رأسها مرددة:
-حاضر.
التفتت بعدها موجهة أمرها إلى ابنتها الصغرى:
-روحي معاها يا “دليلة”، وديها من مطرح ما جت، واتأكدي إنها ركبت.
أطاعتها هي الأخرى قائلة:
-ماشي.
علقت “إيمان” حقيبة يدها على عضدها، واستطردت في نبرة شبه حزينة:
-بابا واحشني جدًا، معرفش هو اتأخر ليه؟ كان نفسي أشوفه أوي.
بدت تعبيرات أمها مزعوجة إلى حدٍ كبير عندما تحدثت إليها:
-أبوكي ده بأحوال، بيختفي ومحدش بيعرفله سِكة.
حررت تنهيدة عميقة من صدرها لتقول بعدها:
-طيب سلمولي عليه، وأنا هحاول أفوت عليكم تاني.
ربتت “عيشة” على ظهرها في حنوٍ، وقالت وهي توصلها إلى باب المنزل:
-بإذن الله.
مجددًا انحنت “إيمان” على والدتها تقبلها من وجنتيها، وبالطبع تلقت منها عشرات التوصيات أثناء هبوطها على درجات السلم، ومن خلفها تبعتها “دليلة” وهي تأمل ألا تلتقي مرة ثانية بجارتهما المتطفلة اللزجة.
…………………………….
العودة إلى التَبَّة بعدما فرغ من الظفر بلحظات حميمية عاصفة كان مستبعدًا، فقد أتت الأوامر من “عباس” بالجلوس في المقهى الرئيسي، ومراقبة حركة المارة، لمعرفة إن كان أحد أتباع “العِترة” لا يزالون متواجدون بالمنطقة، لهذا استغل “سِنجة” الفرصة، واسترخى على كرسيه الخشبي أمام دراجته النـــارية، يدخن النارجيلة، ومتابعًا بعينين حادتين كالصقر كل من يعرج إلى داخل الشارع.
لمح من موضع جلوسه شابتين، تقفان على مسافة ليست ببعيدة عنه، وجهيهما ليسا مألوفًا عليه، فاستنفرت حواسه، وركز بصره معهما فقط دونًا عن البقية.
……………………………..
لم يكن من السهول العثور على سيارة أجرة شاغرة في هذه المنطقة النائية، حتى باستخدام التطبيق الخاص باستئجار العربات. زفرت “إيمان” في ضيقٍ من انتظارها غير المجدي؛ لكن ما لبث أن تبدلت تعبيراتها للتوتر حينما وردها اتصالًا هاتفيًا من زوجها، انتفضت تخاطب “دليلة” في توجسٍ قلق:
-ده “راغب” بيتصل.
ردت عليها بعدم مبالاة:
-وفيها إيه دي؟
سددت لها نظرة أكثر قلقًا وهي تخبرها:
-ما هو يعرفش إني هنا، إنتي ناسية ولا إيه؟
تذكرت “دليلة” ذلك، وسألتها في اهتمامٍ:
-طب هتقوليله إيه؟
ارتبكت أكثر، وهتفت بملامحٍ عبرت عن قلقٍ زائد:
-مش عارفة.
ارتعش الهاتف في يد “إيمان” وهي تخاطب شقيقتها:
-خايفة ماردش عليه يعملي مشكلة.
تشدقت مقترحة عليها:
-خلاص قوليله إنك في الشارع بتجيبي طلبات للبيت.
استحسنت فكرتها قائلة:
-طيب.
سحبت في التو نفسًا عميقًا، لفظته دفعة واحدة، لتجيب على اتصاله بصوتٍ جاهدت ليبدو ثابتًا وطبيعيًا:
-أيوه يا حبيبي، إيه أخبارك؟
جاء صوته صلدًا وغير ودي:
-إنتي فين؟
نظرت إلى شقيقتها الصغرى بتوترٍ، وأجابته بهدوءٍ:
-في السوبر ماركت، بجيب بقالة، وشوية طلبات نقصاني.
أمرها في جديةٍ:
-طيب افتحي الكاميرا.
تصلب بدنها، وسكتت لهنيهة قبل أن تخبره كذبًا:
-مش معايا نت، الباقة عايزة تتجدد.
بدت حجتها مقنعة نوعًا ما، فتنفست الصعداء لأنه لم يصر عليها، وإلا لوقت في مأزق كبير، سمعته يسألها:
-ماشي قدامك أد إيه وتطلعي البيت؟
أجابته في الحال رغم عدم يقينها من حدوث ذلك:
-ربع ساعة بالكتير.
قال بعدها بلهجته الآمرة:
-كلميني أول ما توصلني.
ردت في طاعة، وكالعادة:
-حاضر.
انتهت مكالمته، ودقات قلبها تكاد تصم أذنيها من فرط خوفها، لتهتف بعدها في غير تصديقٍ:
-الحمدلله، قلبي وقع في رجليا، كنت خايفة لأحسن يعرف إني هنا.
بدت “دليلة” منزعجة من الأمر، وسألتها:
-وهو إيه اللي مضايقه إنك تيجي عندنا؟
حاولت اختلاق الأعذار له، ودافعت عنه:
-لسه مش واخد على الوضع الجديد.
لوت ثغرها معقبة باستهجانٍ:
-تقولش أخدين أمير الأمراء، ما احنا عارفين حاله وماله!
في نبرة أقرب للرجاء طلبت منها:
-مش وقته يا “دليلة”، خلينا نشوف تاكسي يروحني.
…………………………………..
ما زالت نظراته مثبتة عليهما، أو تحديدًا على حقيبة اليد المنتفخة التي تعلقها إحداهما على ذراعها بإهمالٍ، كانت بالنسبة له غنيمة سهل الاصطياد، فقط إن تصرف بمهارة، واختطفها منها في لمح البصر، وما زاد من رغبته تلك رؤيته لهاتفها المحمول الذي ألقته بداخلها، حتمًا سيجني حفنة لا بأس بها من النقود حينما يبيعه. تصلب في جلسته، وبدا مستعدًا لتنفيذ خطته التي رسمها في عجالةٍ.
هتف في انتشاءٍ، وهذه اللمعة الخبيثة تصدح في عينيه:
-شكلها هتحلو معاك.
نهض “سِنجة” من على كرسيه، وسار تجاه دراجتـــه النـــارية، أدارها بعدما ركب فوقها، والتف بها من طريق جانبي ليصبح على مقربة أكثر من ضحيته الجديدة، وراح ينتظر لحظته المناسبة للانقضاض على الحقيبة واختطافها.
لم تبدُ “إيمان” منتبهة لمن يراقبها خلسة، كانت مشغولة بالبحث عن سيارة أجرة تعيدها إلى بيتها، وبدأت تظهر تبرمها:
-مش معقولة مافيش عربيات هنا.
بشكل عفوي التفتت بنظرها للجانب عندما سمعت صوت الدراجة النـــارية يقترب منها، وقبل أن تفهم ما الذي يدور، انتُزِعت حقيبتها من يدها، فتمزق حاملها الجلدي، وشعرت بألم عظيم في عظام ذراعها، لتنطلق منها صرخة مفزوعة.
تداركت “دليلة” ما حدث للتو، وأمسكت بشقيقتها قبل أن تنكفئ على وجهها مرددة بصــــراخ:
-الحقونا يا نـــاس، حـــــرامي ……………………….. !!!
……………………………………….
منال سالم
• تابع الفصل التالى ” رواية فوق جبال الهوان ” اضغط على اسم الرواية