رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع 7 – بقلم منال سالم
فوق_جبال_الهوان
>>>>>>>>>>>>>>>
قبل القراءة، نذكر القراء الكرام في #البحيرة بانطلاق #معرض_دمنهور_للكتاب قبل يومين في دمنهور .. وتوافر رواياتي الورقية في جناحنا إبداع بالمعرض، والمقام بداخل مكتبة مصر العامة ..
أترككم الآن مع الأحداث المشوقة وفي انتظار تفاعلكم الطيب
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
الفصل السابع
بُهتت ملامحه، وزاغت نظراته بمجرد أن علم بحجم الكارثة التي حلت فوق رأسه، لم يكن ينتمي لفئة الباحثين عن المشاكل ليتورط في واحدة منها، بل على العكس كان مسالمًا لأقصى درجة، يحاول حل الأمور العالقة والمشاحنات العادية بالسِلم والود. أحس “فهيم” بالعرق البارد يغمر كامل جسده ويغرقه، تساءل في صوتٍ خفيض محاولًا عدم لفت الأنظار إليه:
-طب إيه الحل دلوقت؟
رد عليه “كيشو” بنبرة منزعجة:
-مش عارف.
توسله على الفور في رجاءٍ شديد:
-بالله عليك يا “كيشو” ما تسيبني في الليلة دي لواحدي، أنا مش هعرف أتصرف…
اختطف نظرة سريعة تجاه “رجائي” قبل أن يكمل وصلة استجدائه:
-ده أنا راجل كبير، وماشي جمب الحيط.
استطاع سماع أنفاس “كيشو” الثقيلة قبل أن يخبره:
-هشوف كده، وادعي ربنا تعدي على خير.
أنهى معه المكالمة، وهسهس مع نفسه في توجسٍ شديد:
-سترك يا رب.
لاحظ “رجائي” تبدل حالة مخدومة من الهدوء إلى الارتباك والاضطراب، فناداه من موضع جلوسه متسائلًا في استفهام:
-في حاجة يا عم “فهيم”؟
ابتلع ريقًا غير موجودٍ في حلقه، وأجابه بوجهٍ شاحب:
-لأ، كله تمام.
أمره في لهجةٍ شبه حازمة:
-طب شوف شغلك، ومتعطلش مصالح الناس.
رد عليه بصوتٍ متقطع، وهو يحاول استعادة رباطة جأشه بعدما سابت أعصابه وانفلتت:
-حـ.. حاضر.
…………………………………..
مؤخرًا، وبعد انتشار خبر هروبها من المنزل بين أهالي بلدته، أصبح يسير بين الناس متجهمًا، عابسًا، وقلما يختلط بأحدهم، فقد كان مُحرجًا من الفضيحة التي تسببت بها شقيقته الصغرى، وجعلته في قمة شعوره بالخجل. ودَّ بشدة لو استطاع محو هذا العـــار المشين الذي لحق بسمعةِ العائلة، وتلطيخها بالوحـــل.
ناداه أحد رفاقه عدة مرات، فلم يبدُ أنه يسمعه، فأسرع الأخير في خطاه ليلحق به متسائلًا في استعتابٍ:
-يا “موجي” بناديك من بدري، إنت مطنشني ولا إيه؟
توقف عن المشي ليستدير إليه قائلًا بوجوم:
-والله ولا سمعتك من الأساس.
مازحه في بساطةٍ:
-اللي واخد عقلك.
جاء رده مغلفًا بالحنق، خاصة وتعبيراته تشي بانزعاجه الشديد:
-هو في غيرها بنت الـ ….!
مد يده ليربت على كتفه مُظهرًا تعاطفه معه:
-معلش يا “موجي”، هون على نفسك، هي بردك صغيرة ومالهاش خبرة في الدنيا.
كور قبضة يده، وضغط عليها حتى ابيضت مفاصل أصابعه، ثم كز على أسنانه متوعدًا:
-أه لو بس أوصل لأراضيها، ولا أعرف كانت ماشية مع مين!
رد عليه رفيقه مومئًا برأسه بشكلٍ آلي:
-مسيرك تعرف.
تابع “موجي” مضيفًا في استهجانٍ متعاظم:
-هتجنن، دي كانت طول الوقت تحت عيني، وأنا والله كنت ناوي أجوزها للي يصونها، ويعيشها ملكة في بيتها، بس هي مصبرتش على رزقها.
سأله في شيءٍ من الاستفهام، وهو يطالعه بهذه النظرة الحائرة:
-طب في حد معين في دماغك يكون شاغلها وضحك عليها، وخلاها تعمل كده؟!!
صمت للحظاتٍ، وكأنه قد استغرق في التفكير، ليجيبه بعدها مسترسلًا في شرح ما يدور في خلده:
-مش متأكد، بس في واد كده شاكك فيه، لمحته نواحي بيتنا كذا مرة، وكانت هي بتبقى واقفة في الشباك، وتتلبخ أول ما تشوفني جاي، وارد يكون ليه صلة بيها، وخصوصًا إنه ما هوبش ناحية المكان من ساعة ما طفشت.
عاد ليسأله رفيقه مستوضحًا:
-طب إنت فاكر شكله؟
أكد له بما لا يدع مجالًا للشك:
-ده أنا أطلعه من وسط ألف.
عقب عليه في رجاءٍ:
-ربنا يعترك فيه!
همَّ “موجي” بالمغادرة؛ لكن استوقفه رفيقه مرة ثانية مقترحًا عليه:
-تعالى نقعد على القهوة شوية.
اعتذر منه بنفس أسلوبه الواجم:
-ماليش مزاج، خليها وقت تاني.
أصر عليه بتصميمٍ:
-يا عم ما تحبكهاش، دي ربعاية، هو أنا بقولك نبات فيها؟
على مضضٍ اضطر للتخلي عن عناده، وواقف على الذهاب معه مرددًا:
-ماشي.
سار كلاهما تجاه مقهى البلدة الشهير، ليكملا تسامرهما هناك، ورغم شعور “موجي” بالحرج من ظهوره علنًا، وفي تجمعات يعرفها فيها أهل بلدته، إلا أنه لم يُحادثه أي شخص في شأن شقيقته، فالجميع يعلم من طباعه الصارمة أنه لن يترك الأمر يمضي هكذا دون أن يصل إلى ما يعيد للعائلة مكانتها.
…………………………….
توقع أن يقوم أحدهم بتدبير مكيدة ما، واستدراج شقيقه للإيقــاع به، ومن ثم جره للمشاكل مجددًا، لضمان استمرار المشاحنات والعداوة؛ لكنه لم يظن أن يبادر “العِترة” بهذا، ويسبق غيره وهو الذي لم يعلن بعد عن خروجه من محبسه، إذا هناك من ينقل عن عمدٍ أخباره إليه، من باعه مقابل طمعه في كسب المزيد من المال.
أراد معرفة ذلك الخائن المندس بين رجــاله في أقرب وقت؛ لكنه لن يتعجل في كشف الستار عنه، سيتربص به، وينتظر اللحظة المناسبة للإيقــاع به في شر أعماله، ولحظتها فقط سينال ما يستحق.
استقل الشقيقان سيارة أخرى تابعة لـ “كرم”؛ لكنه لم يتجه إلى التَبَّة، بل قادها إلى منتصف المدينة تقريبًا، حيث تتواجد المراكز التجارية والمطاعم الشهيرة. استغرب “زهير” من تغيير وجهتهما، وسأله:
-رايح فين كده؟ مش ورانا مصالح؟
أجابه وقد لاحت ابتسامة باهتة على زاوية فمه:
-كله يستنى، المهم نكون سوا.
علق ساخرًا:
-ومن إمتى الاهتمام الزايد ده؟
خاطبه في لهجة لينة، لا تناسب طبيعة شخصيته غير المتساهلة:
-سبني أفرح بخروجك، وإنت من ساعة ما طلعت لابس معايا في المشاكل.
أتى رده كالعادة متهكمًا:
-وهي من إمتى سابتنا؟ دي زي ما تكون بتطاردنا كأنا عاملين معاها اتفاق.
ضحك “كرم” بعفويةٍ قبل أن يعقب عليه:
-على رأيك، خلينا نفك شوية، ونبعد عن الواغش اللي حوالينا.
وافقه الرأي، واسترخى في مقعده مرددًا بعد تنهيدة بطيئة:
-ماشي.
………………………………….
بداخل إحدى القاعات المتسعة التي تعج بعشرات الأفراد الذين اتفقوا فيما بينهم على ارتداء البدلات الرسمية، انتهى المُحاضر من إلقاء كلمته، فبدأ الجمع في الافتراق والتجمع على هيئة تشكيلاتٍ صغيرة لا تتجاوز في مجملها من أربعة إلى خمسة أفراد. لمح “راغب” مديره وهو يفرقع بأصابعه له، فأسرع تجاهه محنيًا رأسه قليلًا في احترامٍ مبالغ فيه، ليصغي إليه بانتباهٍ كامل وهو يخاطبه:
-مش هوصيك يا “راغب”، عايزك تستفيد من كل لحظة هنا، مش مجرد جاي تضيع وقت والسلام.
هز رأسه في طاعة، فأكمل مديره كلامه الجاد إليه:
-إنت لو مشيت ورا كلامي، هتمسك مناصب مهمة جدًا، مش مجرد مدير فرع عادي.
تكلم مُبديًا امتثاله لنصائحه الذهبية:
-أكيد يا فندم ده هيحصل بتوجيهات سيادتك ونصايحك.
استمر في إعطائه المزيد بقوله:
-عايزك تبص لقدام، اللي معاك هيجروك لتحت، وإنت أفضل من المستوى ده بكتير، مفهوم؟
تلقائيًا اختطف نظرة عابرة نحو مجموعته، كانوا يتمازحون فيما بينهم ويتضاحكون بأريحية تامة لا تليق مع جدية الوضع، عاود النظر في وجهه وهو يرد بلا ابتسامٍ بعدما فهم المغزى من عباراته الموحية:
-حاضر يا فندم.
ظل كلاهما يتحادثان بخفوتٍ لعدة دقائق قبل أن ينصرف المدير لينضم إلى رفاقه، في حين سار “راغب” بتكاسلٍ عائدًا لزملائه، انتبه لقول أحدهم المتحمس:
-شايف الأبهة والعظمة؟
رد عليه آخر، ولمعة الانبهار تتجلى في نظراته:
-احنا مكوناش عايشين يا ابني.
بينما سأله ثالث في فضولٍ:
-المدير كان بيقولك إيه يا “راغب”؟
تحفز في وقفته، وارتدى قناع الجمود قائلًا بلا تعبيرٍ واضح:
-مافيش، بيسألني عن الدورة، والتدريب، كويس ولا لأ، في حاجات نقصانا، ولا محتاجين حاجة، يعني كلام عادي.
ردوده كانت منمقة، مرتبة، فلم تجعلهم يرتابون في أمره، ليقول رابع بتشوقٍ:
-كويس، عايزين نشوف البوفيه، الواحد واقع من الجوع.
في التو تحولت أنظارهم نحو القاعة الجانبية التي تتواجد بها موائد الطعام، اتجهوا إليها معًا بخطواتٍ شبه سريعة، في حين تعمد “راغب” التلكؤ في خطاه لينظر إليهما بتأففٍ وانزعاجٍ، غمغم من بين أسنانه بامتعاضٍ:
-هي دي أشكال الواحد يشتغل معاها؟ المدير معاه حق، المفروض أبص لفوق.
……………………………..
كانت لا تزال على حالتها المصدومة، لا تقوى عيناها على الرمش، ولا جسدها عن التوقف عن الارتجاف، فما تمر به منذ قرارها الطائش بترك مسكنها والهرب من أجل الزواج الأهوج يفوق قدرتها على الاحتمال أو التصديق، لقد كانت أضعف بكثير من هذا. بدون أدنى مقاومة، سحبتها “خضرة” كالبهيمة، مع فارق أنها بلا قيد يحيط بعنقها، لتعود إلى منزل “توحيدة” بصحبة “سِنجة” أيضًا، كسيرة الخاطر، ذليلة النفس، وفاقدة لأهم ما يميز المرأة الحُرة الشريفة عن غيرها. لم تنظر “مروة” إلى من تكلمها هامسة بحقدٍ وحسد عندما دفعتها دفعًا إلى مخدعها:
-بيضالك في القفص يا بنت المحظوظة، محدش لا أدك ولا زيك.
أجلستها على طرف الفراش، ثم التفتت ناظرة إلى ربة عملها لتخبرها:
-الريس “الهجام” موصي عليها يا أبلتي.
تنهدت “توحيدة” مرددة بهزة خفيفة من رأسها:
-وصلني الخبر من “عباس” يا “خضرة”.
ثم أعطت أوامرها الصارمة إلى الجميع وهي تشير بإصبعها:
-دلعوها وهننوها، دي اللي هتخلي الكبير يرضى عننا.
تطوعت إحداهن لترد عن البقية:
-حاضر يا أبلتي.
غادرت “توحيدة” الغرفة، لتجد “سِنجة” ما زال متواجدًا بالصالة، فسلطت ناظريها عليه عندما طلب منها:
-ملاقيش حاجة عندك أشربها يا ستنا، لأحسن ريقي ناشف.
من موضع وقوفها هتفت منادية:
-بت يا “لوزة”، إنتي يا بت.
جاءت الأخيرة تلبي ندائها الآمر:
-أيوه يا ست “توحيدة”.
سرعان ما تعلقت عيناها به، وراحت تومض في عقلها كلمات “حمص” الأخيرة عن علاقته المباشرة برضيعها المفقود، عليها أن تبذل ما في وسعها لتقصي أي معلومات منه عنه، فتأهبت حواسها، وعمدتٍ إلى اللجوء لبعض الحيل المستهلكة لإبقائه مشغولًا بها. ركزت سمعها مع “توحيدة” عندما أمرتها:
-هاتي لـ “سِنجة” حاجة باردة يشربها.
ابتسمت في تدللٍ، وردت وهي تمسك بطرف منديل رأسها لتلفه حول إصبعها في ميوعةٍ افتقدتها في الآونة الأخيرة:
-تعالى معايا، وأنا أعملك الساقع والسخن كمان.
تبعها بعدما منحته “توحيدة” الإذن للحاق بها، لتشيعهما الأخيرة بنظرات مهتمة وهي تهمهم بصوتٍ خفيض:
-شكلها عقلت، ورجعت لدماغها.
راقبت “خضرة” مثلها حركاتها المكشوفة لاستدراج أحدهم لفخ الإغواء المحكم، لتقول بعدها كنوعٍ من التأييد لها:
-يا ريت يا أبلتي.
……………………………..
لم يستطع إغفال نظرات الاستحقار وأمارات الاشمئزاز والنفور الظاهرة على أعين ووجوه كل من يتطلع إليهما منذ أن ولجا إلى داخل هذا المطعم الشهير، المعروف بنوعية رواده الذين ينتمون لفئة الأثرياء وعلية القوم بالمدينة، فالأمر ببساطة يعود إلى هيئتهما غير المهندمة، ومظهرهما البسيط الذي يناقض طبيعة المتواجدين به.
شعر “زهير” بالضيق من طريقة تحديق الآخرين به، ورأى كيف تقدم أحد الندلاء تجاههما على مضضٍ، ليوجه سؤاله إليهما وهو يوزع نظراته بينهما، كأنما يحاول صرفهما من المكان بشكلٍ غير مباشر قبل أن يفسدا بوجودهما أناقته:
-في حجز يا فندم؟
انقض عليه “كرم” ليطوقه من عنقه، وسأله بلهجةٍ هجومية:
-ولو مافيش؟ هتمنعنا يعني؟
ارتاع النادل من أسلوبه العنيف في التعامل، وحاول أن يبدو منضبطًا قدر استطاعته:
-لأ يا فندم، بس آ…
قاطعه قبل أن ينهي كلامه قائلًا بلهجة من يقرر لا من يُخير:
-من غير بسبسة، شوفلنا أجدعها تربيذة عندك وأقعدنا فيها…
وقبل أن يوشك على رفض مطلبه، أو حتى الاعتراض عليه، جذبه من عنقه بقساوةٍ ناحيته، ليهمس في أذنه بغير تفاهمٍ:
-بدل ما أجيبلك سقف المكان ده في حلقه.
ازدرد النادل ريقه، وقال في طاعة تامة:
-حاضر يا فندم.
حرره بعدما ربت على جانب عنقه مبتسمًا بسخافةٍ:
-تعجبني.
اضطر إلى اصطحابهما إلى أكثر الأماكن تميزًا بداخل هذا المطعم، ما إن تأكد من استقرارهما حتى فر هاربًا ليبلغ عن وجودهما المزعج إلى رئيسه في العمل. استنكر “زهير” طريقته محتجًا:
-مش لازم الأسلوب ده يا “كرم”، ما كنا نشوف حتة تانية.
في نبرة مملوءة بالزهو والعجرفة تكلم شقيقه الأكبر مشيرًا بيده:
-اللي إنت ما تعرفوش أنا شريك في أم المخروبة دي، يعني أقعد في أتخنها حتة تعجبني، وعلى مزاج مزاجي.
اندهش للمفاجأة، وسأله بتعبيرٍ شبه واجم:
-وإزاي معنديش خبر؟
أعطاه ردًا مقنعًا:
-أومال أنا جايبك هنا ليه؟ علشان تشوف وتعاين بنفسك على الطبيعة، وتقولي يستاهل اللي اتدفع فيه ولا لأ.
مسح بنظرة شمولية محيط المطعم ليردد في قدرٍ من الإعجاب:
-مش بطال، بس لازمًا أشوف ورقه وأطمن.
هز رأسه هاتفًا في إذعانٍ معتاد لتحقيق مطالبه:
-حقك يا خويا.
جاء مدير المطعم على وجه السرعة بناءً على ما أخبره به النادل ليتعامل مع هذين الدخيلين بصرامةٍ وحزم؛ لكنه في التو عرف هوية أحدهما، فتراجع عن طريقته المتحفزة قبل أن يمارسها حتى، ليقول في ترحيبٍ شديد، وهو شبه مطأطئ لرأسه:
-المطعم نوع يا فندم، مش كنت تدينا خبر سيادتك علشان نستقبلك كويس.
رد عليه بتعالٍ:
-أنا أحب أطب على اللي يخصني من غير إحم ولا دستور.
تصنع الابتسام، وقال في تهذيبٍ:
-مكانك يا فندم.
جاء رده وقحًا كعهده مع كل من يحاول استخدام معسول الكلام في الحديث إليه بتوددٍ:
-ما هو مكاني فعلًا.
لم يسعَ لقول المزيد مما قد يضعه في موقفٍ سخيف، واكتفى بسؤاله:
-أوامر سيادتك؟
رفع “كرم” يده أعلى رأسه ليفركها في حركة سريعة، واستطرد:
-عايزين ناكل أنا وأخويا، شوفلنا إيه ينفع عندك هنا.
عقب عليه بأسلوبه المتأدب في التحاور مع الغير:
-كل حاجة متاحة يا فندم.
لحظتها وجَّه “كرم” سؤاله إلى شقيقه:
-في دماغك حاجة معينة تاكلها؟
حرك رأسه بالنفي مرددًا:
-لأ، مش فارقة.
آنئذ التفت ناظرًا إلى مدير المطعم يأمره:
-هاتلنا أجدعها أكل، وأوام مش ناقصين لكاعة.
رد عليه مبديًا فروض الطاعة:
-حاضر يا فندم، دقايق وهيكون الأكل عند سيادتك.
صرفه “كرم” بإشارة من يده، ليعاود التحديق في وجه شقيقه، وجده مشغولًا بالتطلع في تركيزٍ مريب نحو بقعة بعينها، فاستدار برأسه ناظرًا إلى حيث يحدق، فأبصر شابة متأنقة الثياب، تجلس بصحبة أحدهم، وتبتسم إليه في لطافةٍ ورقة، فظن بديهيًا أنه يعاكسها، وأفصح عن ذلك ممازحًا إياه:
-عينك رايحة فين؟
انتبه “زهير” لكشف أمره، وانعكست علامات الانزعاج على تعابير وجهه قبل نبرته عندما خاطبه:
-ولا حاجة.
مجددًا سأله “كرم” في وقاحةٍ جريئة:
-عجباك ولا إيه؟
تجهم أكثر حينما اقتضب في رده:
-لأ.
مرة ثانية عاود شقيقه الأكبر التحديق في الشابة؛ ولكن بنظراتٍ متفرسة أكثر، فبدت نوعًا ما مألوفة إليه، لذا راح يخبره بعفويةٍ:
-وشها مش غريب.
اعتصر ذهنه ليتذكر أين رآها قبل سابق، لم يستغرقه الأمر أكثر من لحظاتٍ ليقول في الحال في صيغة تساؤلية:
-مش دي البت بتاعة الكلية؟
حسنًا، لم تكن هذه المسألة تحديدًا من الأمور التي يحبذ “زهير” الحديث عنها، لكونها تمثل مصدرًا للحرج والإزعاج، فلم يتجاوز بعد نظرتها المتعجرفة المتعالية عليه حينما عبر لها ببلاهةٍ وحماقة في أول عام دراسي له عن إعجابه بها، وقتئذ صدته، وعاملته بازدراء، وسخرية، وتعمدت الحط من شأنه للإمعان في مضايقته وإزعاجه، ليعلم بعدها شقيقه بالأمر، ويتعامل مع عائلتها شخصيًا، وبالطريقة التي جعلتها تعتذر له علنًا، قبل أن تنتقل فورًا من الجامعة، وتغادر المدينة بأسرها؛ لكن بقيت أطلال ما مر به قابعة في دواخله.
واليوم تفاجأ بوجودها هنا، في نفس المكان معه، لو كان يعلم لما فكر في المجيء تجنبًا لتلك الذكريات المزعجة التي انهالت عليه كالسيل لتذكره بما حاول نسيانه. انقلبت تعبيرات وجهه بوضوح، وحذره بضيقٍ:
-“كـــرم”، قفل على سيرتها، كإنها مش موجودة.
رد مستهزئًا من الأمر برمته:
-أهوو، على يدك المشاكل هي اللي بتيجي لحد عندنا.
ظل “زهير” على تكشيرته الكبيرة وهو ينذره:
-إنت لو عملت اللي يضايقني همشي.
رفع كفيه للأعلى قائلًا:
-خلاص، احنا جايين نتبسط أصلًا.
لاحظته الشابة حينما مررت عينيها بشكلٍ عابر على أرجاء المطعم، فتبدلت في التو قسماتها للقلق والخوف، ثم راحت تميل على من معها لتهمس له بشيءٍ، قبل أن تنهض فجأة وتجمع متعلقاتها الشخصية، وتهرع مغادرة للمطعم بأقصى سرعة، وكأن هناك من يطاردها به.
سخر “كرم” من الطريقة التي ذهبت بها هاتفًا:
-أهي طفشت من نفسها.
مجددًا عاتبه “زهير” في انزعاجٍ بائن على نبرته، وكذلك وجهه:
-برضوه هتتكلم عنها؟
راح يمازحه باستظرافٍ زائد:
-خلاص، خلينا في “سمارة” طيب.
ضجر منه مرددًا في استياءٍ:
-برضوه؟
……………………………………
منال_سالم
• تابع الفصل التالى ” رواية فوق جبال الهوان ” اضغط على اسم الرواية