رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الحادى والثلاثون 31 - بقلم نعمة حسن
_٣١_
~ طوق نجاة ~
_________
تجلس الآن بمقعدها بجواره في السيارة بهدوء تام، تنظر من النافذة المجاورة لها نحو اللاشيء، وهو يجلس بجوارها يتأملها من فينةٍ للأخرى، لا يدري أهذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟ أم أنه هدوء ما بعد الصدمات المتلاحقة التي أفقدتها المقاومة تماما.
بداخله خوفًا كبيرًا، يخشى فقدانها، يخشى أن تتخلى عنه ويقف هو في مهب الريح بمفرده يتخبط بين صراعاته، يخشى الغرق ببركة الظلام التي تسحبه أكثر وأكثر وحياة هي طوق النجاة الوحيد بالنسبة له.
نظر إليها بقلق فرآها وقد أغمضت عينيها وأسندت رأسها للخلف فقال :
_ حياة، هل أنتِ بخير؟
لم تتحدث، فقط فتحت عينيها ونظرت إليه نظرة مليئة بالاستهجان والاستنكار. نظرة ذات مغزى وكأنها تقول " كيف تسأل سؤالًا كهذا!".
تنهد بقلة حيلة وصب تركيزه على الطريق أمامه مجددا حتى وصلا إلى مدينتهما فقالت:
_ خذني لبيتي، لن أذهب معك.
كان هذا المتوقع أساسا، لذلك لم يعقب أو يجادل أو يتفوه بحرف حتى.
أخرج هاتفه من جيبه وقام بالاتصال بالسيد أكثم الذي أجاب مسرعا وقال:
_ مرحبا قاسم.
_ مساء الخير سيد أكثم، أو صباح الخير للأسف الساعة تخطت الرابعة صباحا.
_ لا يهمك قاسم، أنا مستيقظ وكنت سأتصل بك على كل حال، لقد بلغني الخبر.
تنهد قاسم متسائلا:
_ أي خبر بالتحديد ؟ للأسف الأخبار السيئة كثيرة.
_ خبر موت سماهر
تنهد بتعب وضيق وقال:
_ هذا ليس آخر الأخبار للأسف، ابنة عمي متهمة بقتل زوجها وأريد منك أن توكل لها المحامي الذي تعاملنا معه سابقا.
تحدث أكثم بذهول وقال:
_ هل تقصد عبدالله ؟ عبدالله مات؟!!
تنهد بأسف قائلا:
_ أجل.
_ لا حول ولا قوة إلا بالله ، صحيح أن لكل ظالم نهاية.. على كل حال سأفعل ما بوسعي لا تقلق.
_ أشكرك جدا سيد أكثم ، سأتحدث إليك لاحقا.. مع السلامة .
أنهى الاتصال ورمقها مرة أخيرة فوجدها تغمض عينيها وتبكي بصمت، فأكمل طريقه متجها لبيت العائلة وكلما اقترب منه ازداد توتره وخوفه.
نعم هو يشعر بالخوف فعلا ليس تعبيرا مجازيا. يعلم أن بانتظاره مواجهات عديدة سيكون وقعها عليه أثقل من خبر موت عبدالله نفسه.
أجاب الاتصال أخيرا وكان المتصل عزيز الذي قام بالاتصال به عدة مرات وقال بإيجاز:
_ عزيز نحن باتجاه بيت العائلة، يجب أن نتحدث فورا، انتظرني هناك.
أنهى الاتصال ونظر إلى حياة التي نظرت إليه وقالت:
_ ماذا ستقول له؟ وماذا سأقول لأمي؟ هل سأقول لها ابنتك قتلت زوجها وألقي القبض عليها؟ أم سأقول لها أبي تعرض لجلطة وحالته خطرة؟ ماذا سأقول لها؟
لم يجبها ؛ لأنه كان بنفس حيرتها، بداخله إحساسًا بالذنب والندم لذلك يخشى مواجهتهم ولا يعرف كيف سيقف أمامهم ويبلغهم بما حدث!
بعد قليل.. توقف بسيارته أمام بيت العائلة، نزلت حياة و صف سيارته ثم نزل بدوره؛ وفورا وقعت عينيه على المحل الخاص بعبدالله بعد أن قام هو ببيعه للمالك الحالي وشعر بوخزات في قلبه تخبره بأنه قد أخطأ.
صعدا إلى حيث شقة صالح، دخلا فكان كلا من صفية وحنان وعزيز بانتظارهما.
وقفت صفية بلهفة وهي تنظر حولها وخلفهما وإلى جوارهما وهي تقول:
_ أين ابنتي؟ أين عنبر؟ لماذا لم تأتِ معكما؟ وأين صالح؟
تهاوت حياة على المقعد بتعب شديد وفعل قاسم المثل فنهض عزيز من مكانه وجلس بجواره وقال بقلق:
_ لماذا الصمت قاسم؟ لماذا طلبت أن نتحدث هنا وطلبت مني الحضور؟ ما الذي حدث؟ أين عمي وعنبر ؟
نظر قاسم وحياة لبعضهما البعض وكلا منهما ينتظر أن يكون الآخر أجرأ منه ويبدأ هو بالحديث فصرخت بهما صفية بنفاذ صبر وخوف:
_ فليخبرني أحدكما ماذا حدث لابنتي؟ هل ماتت عنبر؟
قالتها وهي تضرب على صدرها بيدها بخوف فقالت حياة مسرعةً:
_ لا، لم تمت.
هدأت قليلا وتنفست الصعداء ثم قالت بخوف لم يَزُل:
_ إذا أين هي؟ وأين والدك؟
أطرق قاسم برأسه أرضا فتولت حياة الحديث وقالت:
_ لقد ألقي القبض على عنبر لأنها..
ونظرت إلى عزيز بأسف وشفقة وأكملت بصوت مرتجف:
_ لأنها قتلت عبدالله.
وانسابت دموعها بصمت وهي تنظر إلى أمها التي جحظت عينيها بصدمة وشهقت بفزع وقالت:
_ ماذا؟ ماذا فعلت؟ تقولين قتلت عبدالله!!
كتمت حنان صوت شهقتها الفزعة وهي تنظر إلى عزيز الذي يجلس مأخوذا بصدمته، لا ينطق ولا يتحرك، فقط يحدق بهم كلٌ على حدة وكأنه لم يلتقط ما قالته حياة بعد.
مدت يدها وأمسكت بيده وهي تبكي فقال :
_ لماذا تبكين؟ أساسا ما هذا الذي قالته حياة؟ لم أفهم قصدها، ماذا يعني عنبر قتلت عبدالله ؟ ما هذا الهراء؟
ونهض من مكانه متجها نحو حياة التي وقفت بجوار أمها وتحتضنها فقال وهو يقترب منها بشدة:
_ ما هذا الذي قلتِه؟ ماذا يعني عنبر قتلت عبدالله ؟ هل عبدالله أخي؟ عبدالله أخي هو من قتلته؟ مستحيل!
وأشار بسبابته أن لا وقال بثقة:
_ لا، أنتِ تكذبين.
نهض قاسم على الفور ووقف أمام حياة كفاصل بينهما وهو يقول:
_ عزيز اهدأ لو سمحت..
هدر به عزيز صائحا بغضب وهو يقول:
_ كيف أهدأ؟ بربك قاسم ألم تستمع لما قالته؟
وضحك بغير تصديق وقال:
_ تقول أن عنبر قتلت أخي؟ هل هذا كلامًا يصدقه عقل؟
وأخذ يتحرك حول نفسه بعشوائيه وفجأة ضرب قبضته بالجدار أمامه وصرخ يقوة وهو يقول باكيا:
_ هذا هراء ليس إلا، أخي لم يمت ولم يُقتل، لا أعرف من أخبركم بتلك الترهات اساسا؟!
ثم اقترب من قاسم وهو يبكي وقال برجاء:
_ قاسم بالله عليك أخبرني الحقيقة، هل مات فعلا؟
أومأ قاسم وهو يجاهد كي لا ينفجر باكيا هو الآخر وقال:
_ أجل، للأسف هذه هي الحقيقة.
وقف مذهولا يحدق بوجوه الجميع بتشويش، وحانت منه التفاتة نحو حنان التي تقف بجواره وتبكي فهدر صارخا:
_ لا تبكِ، أخي لم يمت..
احتضنته بقوة فارتمى بحضنها منهارا وبكى كما لم يبكِ من قبل.
هي ليست المرة الأولى التي يرتمي عزيز على صدرها ويبكي، هي تعرفه بطبيعته إنسانًا هشًا جدا ومتزعزع القوى ودائما ما يصاب بنوبات انهيار مثل تلك ولكن هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها منهارا بذلك الحد!
ضمته إليها بقوة وامتزج صوت بكائهما سويا مما جعل قاسم يشعر بالاختناق أكثر فخرج إلى الشرفة مسرعا وأخذ يدخن بشراهة ودموعه تتسابق أيهما يشق خده أسرع.
نظرت صفية إلى ابنتها التي تحتضنها وكأنها استيقظت من صدمتها للتو وقالت:
_ هل والدك معها؟ هل هو برفقتها الآن؟
هزت رأسها بنفي وأسف واحتضنت أمها أكثر وهي تقول:
_ أبي بالمشفى.
_ لماذا؟ ماذا حدث له؟ هل تعرض لذبحة صدرية من جديد؟
أومأت بنفي مرة أخرى وقالت بصوت مرتجف:
_ لا، فقط انخفض ضغطه والدكتور أمر أن يبقى لحين استقرار حالته.
_ سأذهب إليه، أود الذهاب إليه حالا وأود رؤية عنبر ، سأذهب لأرى ابنتي أولا ومن ثم أذهب للاطمئنان عليه.
وأخذت تبكي وتنوح بقهر:
_ ابنتي، ماذا فعلتِ بنفسك عنبر؟ لم يستحق يوما أن تلوثي يدك بدمائه ، ماذا فعلتِ عنبر؟
ثم نظرت إلى قاسم وفجأة وقفت أمامه وأمسكت بكفيه في توسل لأول مرة وقالت:
_ أرجوك قاسم لا تتخلى عنها، لا تتخلى عن ابنة عمك أرجوك، أنت الآن تستطيع فعل أي شيء، لديك معارف وأناس موثوقون يمكنهم مساعدتها.
أومأ مؤيدا وقال:
_ لقد فعلت ما بوسعي فعلا ووكلت لها محامٍ سيحضر معها التحقيق غدا.. إن شاء الله سيفعل قصارى جهده كي يحصل لها على أخف حكم.
نظرت إليه بعينين فزعتين وقالت:
_ ماذا؟ حكم؟ هل ستسجن ابنتي؟
هنا انفجر عزيز بنفاذ صبر وهو يمسح وجهه متحدثا:
_ بالتأكيد، في النهاية من قتلته هذا إنسانا وليس دجاجة.
وتركهم وخرج من البيت فنظر إليها قاسم وقال بإيجاز:
_ أنا وحياة سنأخذ بعض الأغراض لعمي ونذهب إليه، وبعدها سنذهب لعنبر، عزيز سيتابع إجراءات المشرحة وتصريح الدفن، وحنان ستبقى برفقتكما أنتِ وكريم.
تكلمت صفية قائلة:
_ لا، سأذهب لرؤية ابنتي، أود رؤيتها.
هم قاسم بالتحدث ولكن نظره وقع فجأة على كريم الذي كان يقف بزاوية باب الغرفة التي كان يغفو بها يستمع إليهم وهو يبكي.
قطع قاسم حديثه فورا وقال بصدمة:
_ الولد.
نظروا جميعهم حيث ينظر هو وصعقوا عندما رأوه يقف مفطورا من شدة البكاء فهرولت إليه حياة واحتضنته وهي تقول:
_ كريم، حبيبي.
نظر إليها كريم وهو يبكي ويقول:
_ هل أمي قتلت أبي؟
أغمضت عينيها وهي تبكي بقهر وتلعن غبائها وغبائهم جميعا وقالت وهي تمسح على رأسه:
_ لا حبيبي لم يحدث.
_ ولكني سمعتكم تقولون أنها قتلته والشرطة قبضت عليها.
_ لا، لم نقل هذا لقد أخطأت فهمنا بالتأكيد.
اقتربت حنان منهما وجثت على ركبتيها أمامه وهي تقول:
_ كريم حبيبي، ما رأيك أن نبقى سويا ريثما يذهبون لزيارة جدك بالمشفى.
صرخ كريم باكيا وأخذ يتحرك بعشوائية لكي يبتعد عنهما وهو يقول:
_ أنتم جميعكم كاذبون، أبي مات وأمي من قتلته. لقد سمعت حديثكم سويا.
اقترب منه قاسم وهو يحاول تهدأته وهو يقول:
_ كريم عزيزي من فضلك اهدأ، سأقترح عليك اقتراحا، ما رأيك أن تذهب للبقاء بشقتي الجديدة ؟ هي جميلة وواسعة جدا ويمكنك أن تتسلى هناك أنت وخالتك حنان وجدتك كذلك، وأعدك في الصباح سيكون لديك ضيفا لذيذا جدا ستحبه أنا واثق من ذلك .
نظر إليه الطفل بتمرد وغضب قائلا بنبرة حادة:
_ لا أريد الذهاب لبيتك، أريد الذهاب لأمي وأبي.
نظر قاسم إلى حياة بقلة حيلة وقال:
_ يجب أن نتحرك حالا..
أدخلت حنان الطفل إلى غرفته قسرا وهي تحاول تهدأته ومحايلته، بينما دخلت حياة إلى غرفة والدها وأخذت بعض الأغراض وخرجت فوجدت أمها بانتظارها وهي تقول بتصميم:
_ لن أجلس هنا وأترك ابنتي تواجه مصيرها بمفردها، سأذهب برفقتكما.
انطلقوا جميعهم بسيارة قاسم وكلٌ شارد فيما يشغله، حياة وأمها اللتان يفكران فيما سيؤول إليه حال عنبر من جهة، ومن جهة أخرى حالة صالح الصحية، أما عزيز الذي يبكي بصمت وهو لا يستوعب الخبر للآن وكيف أن أخاه لم يعد موجودا! حسنا .. هو كان يشعر بالحقد تجاهه لأنه كان شخصا أسودا مليئا بالكره والشر ويحيك الخطط الشيطانية التي يقف لها الشيطان متعجبا، ويدبر المكائد، ولكنه شقيقه في النهاية، وبالرغم من أنه لم يرَ منه إلا الشر والسواد ولكن الآن بالتحديد لا يتذكر سوى اللحظات الجميلة التي جمعتهما في طفولتهما.
أما قاسم، فكان شاردا يفكر بكل ما يفكرون به، عنبر ومصيرها ماذا سيكون، عمه وحالته إلى أي حد ستصل ؟ عبدالله وموته الذي كان مفاجأة القرن بالنسبة له، إضافةً لإحساسه بالذنب والشفقة لا يبارحانه.
/////////////////
في تمام السابعة صباحا كان قاسم قد توقف أمام المشفى الموجود بها صالح.
نزل وبرفقته حياة وصفية، بينما ذهب عزيز للمشرحة .
دخلوا إلى المشفى وهرولت حياة نحو الغرفة الموجود بها والدها وكانت صفية أيضا تركض بعزمٍ ضئيل حتى وصلت لغرفته.
دخلت حياة ولحقت بها والدتها التي صُعِقت عندما رأت صالح يجلس طريح الفراش، يده اليسرى مضمومة إلى جانبه قليلا، ونصف وجهه مرتخي للأسفل.
شهقت صفية بصدمة عندما رأت زوجها وقد أصيب بشلل نصفي، ووضعت يدها تكمم بها فمها، ثم استندت إلى الباب وهي تنظر إليه بغير تصديق، بينما سارت حياة نحوه وهي تحاول أن تبدو متماسكة لأبعد حد، جلست بجواره وقبلت يده ووجنته فنظر إليها بقلة حيلة وعجز مميت وحاول التحدث بصعوبة فقال:
_ عنبر..
أجهشت صفية بالبكاء وخرجت من الغرفة فورا وانفجرت في نوبة بكاء شديدة، بينما حاولت حياة تهدأة والدها وقالت وهي تمسك بيمناه:
_ ستكون بخير أبي لا تقلق، لقد وكلنا لها محامٍ ولن نتركها أبدا.
أغمض صالح عينيه بتعب وألم وسالت دمعة على جانب خده باستسلام، مما جعل حياة تبكي بقهر وشعرت بحقدها يزداد ويزداد تجاه قاسم.
قاسم الذي كان يقف على باب الغرفة يسند يده على إطار الباب ويطالع عمه الذي يرقد عاجزا مقهورا.
كان يرغب أن يذهب إليه ويقبل يده ويعتذر إليه، يقول له سامحني لقد تسببت لكم في كل المتاعب لأنني كنت فقط أريد حقي.
كان يرغب في الاعتذار بشدة ولكن الاعتذار لن يفيد؛ لذا وقف مكانه عاجزا قليل الحيلة يتطلع حوله بيأس وكأنه لا يجد مخرجا أبدا .
بعد دقائق خرجت حياة من الغرفة، كان ينوي احتضانها فور أن تخرج، يشعر بها ويدرك أنها تحتاج لضمةٍ منه كي تشحذ بها قواها الخائرة كان ينوي فعل ذلك ولكنها فاجأته عندما تجاهلته واتجهت لوالدتها التي كانت تبكي بانهيار واحتضنتها بقوة وانفجرتا سويا في بكاءٍ مرير.
قام بالاتصال بحنان كي يطمئن على حالة كريم، فأجابت الاتصال بصوتٍ مرهق للغاية وقالت:
_ نعم قاسم، ماذا فعلتم؟
_ نحن الآن بالمشفى، سنذهب بعد قليل للقسم، أخبريني ماذا فعلتِ مع كريم؟
تنهدت بتعب وقالت:
_ لن تصدق قاسم، لقد اضطررت أن أعطيه دواءً للسعال بكمية مضاعفة حتى يغلبه النعاس، الولد لم يتوقف عن البكاء والصراخ لحظة وظل يردد أمي قتلت أبي لدرجة أنني خشيت أن يسمعنا الجيران!
تنهد مستغفرا:
_ أستغفر الله العظيم ، كان الله في عونه. على كل حال اهتمي به جيدا ريثما نعود.
_ لا تقلق. قاسم، كيف حال عزيز؟ أتصل به لا يجيب.
_ لا تضغطي عليه أكثر، سيكون بخير.. لقد اتصلت بكِ لأنهم هاتفوني من المشفى الموجود بها صبر.
_ ومن هو صبر؟
تنهد بنفاذ صبر وقال:
_ سأخبرك عنه فيما بعد، الطفل خضع لعملية زرع نخاع منذ شهر تقريبا وحان موعد خروجه اليوم. لقد جهزت له غرفة معقمة ستكون خاصة به. أرى أنه سيكون مناسبا لو أنكِ أقنعتي كريم كي تذهبا وتصطحبانه سويا لبيتي وأن تنتظرا هناك لحين عودتنا.
_ حسنا، سأفعل ذلك.. بعد أن يستيقظ كريم سأحاول إقناعه بذلك.
_ حسنا، كان الله في عونك.
_ إن شاء الله، مع السلامة.
أنهى الاتصال وتلقى اتصالا من أكثم يبلغه فيه أن المحامي موجود الآن بقسم الشرطة وجاهز للحضور مع عنبر فانتقلوا ثلاثتهم إلى القسم على الفور.
///////////////
تقف الآن بمكتب الضابط.. مطرقةً برأسها أرضا في حالة جمود، لا يظهر عليها الانهيار أو الندم كما من المفترض أن تكون حالتها.
نظر إليها الضابط قائلا:
_ اسمك بالكامل؟
_ عنبر صالح فضل الحداد .
_ ما ردك على التهمة المنسوبة إليكِ بقتل زوجك عبدالله ناجي الحداد عن طريق وضع السم له بالطعام؟
أجابت بهدوء شديد:
_ نعم فعلت ذلك.
_ تقصدين أنه كان قتلا عمدا؟
أومأت بموافقة وقالت:
_ أجل.
_ وما الذي دفعكِ لوضع السم له بالطعام ؟
_ لأسباب كثيرة، أهمها أنه لا يستحق العيش.
_ تحدثي مباشرةً وبدون مراوغة ، ما هي دوافعك لقتل زوجك؟
نظرت إليه ببرود ثم قالت:
_ لأنه لا يستحق العيش، شيطان مثله لا يستحق العيش لأنه يفسد كل شيء حوله، هل هذا سببا غير كافٍ؟
نظر المحامي إليها وحثها على التحدث ثم قال:
_ موكلتي تعرضت للابتزاز من المجني عليه، المجني عليه كان يزرع كاميرات مراقبة في منزله وبداخل غرفة نومه ليقوم بابتزاز زوجته وتهديدها بتلك الفيديوهات ، وفي الفترة الأخيرة ضغط عليها كي تعطيه مبلغا كبيرا كان ينوي استخدامه للهرب إلى اليونان عبر هجرة غير شرعية ، وكما هو موضح لديك حضرة الضابط أنه كان مطلوبا على ذمة قضيتين ، تهمة تحريض على الخطف، وتهمة قتل راقصة كانت تجمعه بها علاقة غير شرعية.
استمع إليه الضابط بهدوء وهو يقلب قلمه بين يديه ثم نظر إليها وقال:
_ هل ما قاله الأستاذ وجدي المحامي صحيح؟
أومأت بموافقة وقالت:
_ نعم صحيح.
_ ولماذا لم تقومِ بالإبلاغ عنه عندما قام بابتزازك؟
لمعت عيناها بحزن وقالت:
_ لأنني خفت أن ينفذ تهديده وينشر الفيديو.
_ كيف خططتي لقتله؟
تحشرج صوتها بتوتر وقالت:
_ كان بيننا اتفاقا مسبقا بأن نلتقي بذلك الفندق بالتحديد، فاشتريت السم ومن ثم اشتريت الطعام وذهبت إلى الفندق وأبلغته أنني قد وصلت فأتى وأكل من الطعام المسموم ومات. هذا كل شيء.
_ هل تعرفين أن هذا يعد قتلا مع سبق الإصرار؟ هل تعترفين أنكِ خططتي لقتله بالسم واستدرجتِه لغرفتك بالفندق وأطعمتِه الطعام المسموم متعمدةً وأنتِ بكامل قواكِ العقلية؟ أي أنكِ لم تكونِ تحت تأثير المخدر أو ما شابه؟
أومأت بنفي وقالت:
_ لا، كنت بكامل قواي العقلية.
تحدث المحامي قائلا:
_ موكلتي تعاني من الضغط النفسي والعصبي منذ فترة بسبب ضغط المجني عليه عليها وبسبب تعرضها للتعنيف بصفة مستمرة إضافةً لبعض الأحداث المأساوية التي تعرضت لها كخطف أختها والتي كان المجني عليه مساهما في تلك الواقعة بشكل كبير، ومؤخرا ابتزازها وخيانة المجني عليه لها مع القتيلة التي قتلها المدعوة سماهر. وكل تلك الأحداث المتلاحقة أثرت بشكل كبير على صحتها النفسية وجعلتها تعاني من التشوش والتخبط، لذا أرجو الاهتمام بحالة الاضطراب النفسي لموكلتي.
نظر الضابط إلى عنبر وقال:
_ هل لديكِ أي أقوال أخرى؟
_ لا.
_ إذًا تقدمي وامضي على أقوالك.
ونظر إلى المحامي قائلا:
_ هل لديك أي طلبات أخرى؟
_ لا.
فنظر إلى الكاتب وأملى عليه قائلا:
_ بعد الاستماع لأقوال المتهمة حول التهمة المنسوبة إليها واعترافها بقتل زوجها قتلا عمدا مع سبق الإصرار قررنا نحن حبس المتهمة أربعة أيام على ذمة التحقيق على أن يراعى لها التجديد في الميعاد، وأقفل المحضر في ساعته وتاريخه.
خرجت عنبر من المكتب منكسة الرأس، لا تشعر بشيء، وكأن شعورها قد أصيب بخدر كامل فأصبحت كالجسد الخاوي بلا روح.
هرولت كلا من صفية وحياة نحوها وقامتا باحتضانها فقالت صفية ببكاء:
_ عنبر، حبيبتي ، ماذا فعلتِ بنفسك أمي؟ ماذا فعلتِ بنفسك؟ لماذا ضيعتي عمرك هباءً ؟
احتضنتها حياة بقوة وقالت:
_ عنبر لا تخافي، لقد وكل لكِ قاسم محاميا ممتازا سيفعل قصارى جهده ليساعدك.
نظرت عنبر إلى قاسم الذي كان يقف على بعد خطوات يطالعها بنظرات مبهمة، خليطًا من الشفقة والندم والأسف والحزن، وكأن كل الحقد الذي كان يكنه إليها قد تبخر فجأة.
نظرت عنبر إلى حياة وقالت بهدوء:
_ لا أريد محاميا، كل ما أريده أن تعتني بكريم.
وتحركت مع العسكري وهي تنظر للخلف حيث يقفون وقالت برجاء:
_ لا تخبروه الحقيقة رجاءً.. اعتني به أمي، كريم في أمانتكم.
غابت عن أنظارهما فانهارت حياة وتشبثت بعنق أمها وهي تبكي بحسرة وتقول:
_ يا إلهي، ما هذا الذي يحدث لنا؟ عنبر يا أمي.
احتضنتها صفية بكل قوتها وهي تبكي وتقول:
_ أختك ضاعت حياة، لقد ضاعت عنبر للأبد.. يا ويلي، يا أسفي عليكِ ابنتي.
تقدم منهما بعد قليل وقال:
_ حياة، لا بد أن نذهب، وجودنا هنا لن يفيد بشيء .
أومأت بموافقة وأشارت إلى أمها ليغادرا فاصطحبهما قاسم بسيارته إلى حي فخم جدا أثار تعجب حياة التي توقعت أن يذهبا للانتظار بالمشفى أو للبقاء بفندق مثلا.
توقف أمام بناية أقل ما يقال عنها أنها بناية فخمة وراقية جدا مما ينم عن أن هذا المكان لا يقطنه سوى الأغنياء .
طلب منهما الصعود ففعلتا فاصطحبهما إلى شقة في الطابق الثاني، دخل ولحقت به صفية وحياة التي تعجبت المكان جدا ولكنها لم تعقب .
_ تفضلوا، سنبقى هنا لحين الاطمئنان على صحة عمي.
نظرت إليه حياة بشك ولكنها تجاهل شكها وقال:
_ حياة، خذي والدتك لغرفتها لترتاح، وبعدها الحقي بي من فضلك.
أخذت والدتها إلى الغرفة حيث أشار وطلبت منها أن تستريح لبعض الوقت وبالفعل لم تمانع صفية نظرا لشعورها القاتل بالألم والإرهاق ، ثم ذهبت حياة إلى الغرفة التي دخلها قاسم فرأته يتمدد فوق الفراش كجثة هامدة، باسطا ذراعيه بجواره بتعب واضح.
_ اغلقي الباب حياة.
أوصدت الباب كما أمرها وتقدمت منه تطالعه بتعجب، ثم نظرت إلى الغرفة من حولها بتعجب أكبر، حاولت كبح جماح فضولها اللعين ولكنها لم تنجح فقالت:
_ هل هذه الشقة ملك لك؟
_ نعم.
أجابها باختصار، مما زاد ارتباكها وخوفها فقالت بترقب:
_ متى اشتريتها؟
_ منذ فترة.
لم تكن إجابته شافية لفضولها أبدا، فتقدمت منه أكثر وجلست بجواره على الفراش وقالت:
_ منذ متى بالتحديد؟
صمتت، وصمت هو أيضا، هو يعرف مغزى سؤالها، ويعرف إلى أين تريد الوصول تماما، ولكنه يعرف أيضا أنه إذا أجابها الإجابة التي تنتظرها ستخرج من هنا حالا ولن تنظر خلفها حتى.
لذا؛ جذبها من ذراعها لتسقط فوق صدره فجأة، فرفعت رأسها تنظر إليه باستغراب وقالت:
_ ماذا تفعل؟
تنهد بتعب مغمضا عينيه وقال بنبرة مرهقة:
_ أحتاج لقربك.
توترت بشدة، اهتز جسدها وانتفض قلبها الخائن الذي لا يكن له سوى الحقد كما تعتقد، وابتلعت لعابها بتوتر وهي تطالعه بتشتت فقال:
_ أحتاج إليكِ بجواري، أشعر كأنني على حافة الانهيار وأنتِ وحدكِ طوق نجاتي.
كانت كلماته بمثابة مخدر لمشاعرها المنهارة، فأسندت رأسها على صدره كما كانت وصمتت، أغلقت عينيها وسالت دموعها بغزارة ولكن بصمت.
لو كان الأمر بيدها لانفجرت وأطلقت الصراخ عاليا حتى يهدأ قلبها ويعود إليه نبضه من جديد، ولكن احتياجه لها واعترافه بذلك جعلها تشعر بالمسؤولية تجاهه لأول مرة، وكأنها أم وتخشى أن تزعج طفلها الذي أعلن حاجته لدعمها بكل وضوح.
مد يديه ومسح دموعها وهو يقول:
_ لمَ تبكين؟
صمتت فصمت بدوره لأنه شعر بسذاجة سؤاله، ثم تكلمت هي قائلة:
_ لمَ تحتاجني بجوارك؟
فتح عينيه وشخص بهما بالسقف، ثم نهض بجذعه ومال نحوها فأصبح ينظر إليها من علوٍ ووجهيهما متقابلين.
ارتبكت وشحب وجهها لأنهما متقاربان لذلك الحد، ابتلعت لعابها بتوتر وهي تراه ينظر إليها بتفحص، يدور بعينيه حول معالم وجهها الفتان لأول مرة، ظل يتجول في ملامحها طويلا، وما لا تعرفه هو أنه كان يتحدث إليها حديثا صامتا، حديثا نابعا من قلبه ولم يجد القدرة على النطق به، حديثا لو سمعته لمسحت كل ذرة حقد بقلبها نحوه .
كان يتأمل عينيها الكهرمانيتين، يحدثهما ويشرح لهما كم أنه بحاجة لنظرة اللوم بهما كي تكون تلك هي الرادع الأقوى، يخبرهما أنهما سيكونان مستودع أسراره، سيكونان دوما ملجأه وملاذه.
وتحدث أخيرا بدون وعي وقال:
_ أبدا لا تتركيني حياة.
أومأت بضعف وهي تنظر لعينيه التي تخترق وجدانها وهمست:
_ أبدا لن أتركك.
أسند جبهته فوق جبهتها وأغمض عينيه وقال:
_ أشكرك كثيرا، أشكرك على كل شيء.
ثم ابتعد وأسقط جسده مجددا على الفراش وأحاطها بذراعه وفورا استمعت إلى انتظام أنفاسه فعلمت أنه غط بالنوم فأوصدت جفنيها وسقطت في النوم.
__________
يتبع..
حب_في_الدقيقة_التسعين!
• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين " اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق