رواية حب فى الدقيقة تسعين الفصل الثامن عشر 18 - بقلم نعمة حسن
_ ١٨ _
~ أم بكماء! ~
______________
بعد أن خرج قاسم من غرفة سارة، اتجه إلى فتون التي كانت تجلس على مقعدها بثبات، وبمجرد أن وقف أمامها تساءلت بلهفة ممزوجة بالكبرياء:
_ ما بها سارة؟ هل عرفت ما سبب حالتها تلك؟
مسح وجهه بضيق وحاول التحدث بهدوء بالرغم من الضجيج الذي يملؤه وقال بلهجة غريبة عليه:
_ من فضلك كوني أمًا حقيقية ولو لمرة واحدة فقط!
نظرت إليه بتعجب واستياء مخلوطان بالدهشة وقالت:
_ عفوا؟ ماذا تقصد؟
زفر بقوة وهو يشعر وكأن بركانًا بصدره على وشك الثوران وقال بصوت مهزوز لأول مرة:
_ قصدي أنتِ تفهمينه سيدة فتون، تلك المسكينة ابنتك ليس لها ذنبًا أبدا كي تواجه كل تلك الصدمات وتخوض كل تلك الأزمات فقط بسبب مشكلة بينك وبين والدها جعلتكِ تتنصلين من أمومتك وتنكرين حقوقها عليكِ كأم! ما ذنب سارة فيما بينك وبين سيد حبيب؟ لمَ تبتعدين عنها وتتركيها تلاطم الموج وحدها بهذا الشكل؟
نهضت بحدة، ووقفت أمامه محاولةً الدفاع عن نفسها وهي تقول:
_ أنا لم أبتعد عنها ولم أتخلى عن دوري كأم، قلتُ لك سابقا لقد عرضت عليها المساعدة، وحاولت أن أقرب منها ولكنها رفضت!
أومأ موافقا وقال بإصرار جعل صوته يرتفع ويبرز عاليا مدويًا في أرجاء المكان كله:
_ لذلك أطلب منكِ أن تكوني أمًا حقيقية! لأن الأم الحقيقية لا تمل أبدا، الأم الحقيقية لا يعجزها شيئا عن التودد وكسب قلوب أبناءها، الأم الحقيقية لا تيأس ولا تكتفي بعدة محاولات هزيلة، الأم الحقيقية تدافع عن حقها في أولادها بشراسة، الأم الحقيقية تدافع عن أمومتها باستماتة، الأم الحقيقية تحاول مرة وعشرة ومليون مرة حتى تكسب ثقة أولادها، الأم الحقيقية تحارب من أجل راحة أولادها بأظافرها إن تطلب الأمر!
وهدر صوته عاليا بقوة وهو يتمهل في نطق كلماته علّها تستيقظ من تلك الغفلة:
_ لذلك أرجوكِ أن تكوني أمًا حقيقية ولو لمرة واحدة!!!
اهتز بدنها وارتجفت وهي تستمع إليه يتحدث إليها بذلك الانفعال ويستطرد بحدة أقل:
_ لقد مررتِ بأيام قاسية أعرف، يمكنني أن ألتمس لكِ العذر لأنك لا تعرفين كيف تتعاملين معها، لا تجيدين توجيهها، لا تجيدين تقييمها، لا تجيدين نصيحتها، ولكن…
تنهد وتهدل كتفيه بحزن وعجز وهو يقول بيأس:
_ ولكن ألا تجيدين ضمها؟
امتلأت عيناها بالدموع وجلست على مقعدها مرة أخرى وهي تشعر بوهن قد أصابها فجأة وأسقطت رأسها أرضا وهي تستمع إليه يقول:
_ ضمة واحدة تكفي! عناقًا واحدًا يدفء قلبها ويشبع إحساس الفقد واليتم اللذان تعيشهما، عناقًا واحدًا يطمئنها، عناقًا واحدًا يعيدها للحياة .
ارتجفت شفتيها بحزن وابتلعت ريقها باضطراب بينما تابع هو قائلا:
_ كيف تتعامل الأم البكماء مع أولادها؟
رفعت إليه عيناها المحتقنتين باستغراب واستفهام فقال موضحًا:
_ إذا كانوا لا يجيدون فهمها فهي لا تستطيع توجيههم، لا تستطيع مدحهم أو حتى ذمهم، لا تستطيع نُصحهم، لا تستطيع فعل شيء سوى الاستماع إليهم وعناقهم!
وأدت هاتين الدمعتين العالقتين بأهدابها وحاولت رسم الجمود على ملامحها بينما قلبها يهتز بين ضلوعها وتكاد أن تسمع صوت دقاته الصاخبة
_ إذا استطعتِ كوني أمًا بكماء كل ما تجيدين فعله هو الاستماع إليها وعناقها، هذا يكفيها وبشدة.
وتابع بعد أن زفر بيأس:
_ سارة تحتاجك، تحتاجك وتحتاج حنانك، تحتاج حضنك، سارة أشد الفاقدين للحنان والطمأنينة، أرجوكِ لا تبخلي عليها بأبسط حقوقها.
وتركها وغادر دون أن يضيف كلمة أخرى، حينها نظرت فتون إلى الطابق العلوي حيث تقف ابنتها تستند على السور الخشبي وتراقب ما يحدث بأعين نازفة.
أغمضت فتون عينيها بقهر وأسندت رأسها على ظهر المقعد من خلفها وقبضتيها تشتدان حول يدي المقعد بشرود.
بينما أسرعت سارة إلى غرفتها مجددا وهي تبكي شعوراً دوربالوحدة والضياع يملؤها بعد أن حفر قاسم مخالبه بعمق في جرحها الغائر.
///////////////////
في اليوم التالي..
استيقظت عنبر من نومها ونظرت إلى جوارها فلم تجد عبدالله، شردت وهي تتحدث إلى نفسها وتقول:
_ أين ذهب هذا منذ الصباح!
نهضت وخرجت من غرفتها وهي تبحث عنه فوجدته يقف بالشرفة وبيده الهاتف ويتحدث به بصوتٍ خافت ويقول:
_ أجل، وعندما تجد المشتري عمولتك جاهزة، ولكن أرجوك في أقرب وقت!
أنهى الاتصال وتفاجأ بها وهي تقف خلفه وتقول:
_ مع من كنت تتحدث؟ وعن أي مشترٍ تبحث ولماذا؟
طالعها ببرود ورمقها بنظرة استفزازية وقال:
_ صباح الخير زوجتي العزيزة، أعدي لي الفطور سريعا، لدي موعدا هاما.
تجاوزها متجها للغرفة مرة أخرى فذهبت إليه وقالت:
_ أريد الذهاب لرؤية أبي وأمي اليوم، لا توصد الباب رجاءً.
_ لا، بإمكانك الاتصال بهما والاطمئنان عليهما. هذا يكفي.
نظرت إليه بغضب، وتوسعت حدقتيها الرماديتين بضيق واضح، ووقفت أمامه بتحدي وقالت:
_ لقد تماديتَ كثيرا عبدالله ، أنا لا أعرف على أي ذنبٍ أُعاقب! أنت تمنعني من الخروج وترفض أن تزورني أمي، حتى هاتفي وهاتف المنزل استوليت عليهما وكأنني أجرمت وارتكبت ذنبًا أستحق عليه هذا العقاب، في المقابل أنا لم أفعل شيئا من الأساس، هل سأظل مدى الحياة حبيسة هنا ومعزولة عن العالم؟
نظر إليها بضيق وضجر، واقترب منها قائلا:
_ نعم، إلى أن يروق لي الإفراج عنك، أو يزول ذلك الشك بداخلي، اعذريني عزيزتي لا زال الشك يساورني أنكِ ارتكبتِ خطأّ ما وللأسف لا أعرفه، فلذلك من الأفضل أن تتقبلي الأمر الواقع. ثم إن العزلة غنيمة لا تقدرين قيمتها كما لا تقدرين قيمة أشياءً أخرى كثيرة.
واتجه نحو الخزانة وهو يستعد لتبديل ملابسه وقال:
_ لا تعدي الفطور، أساسا فقدت شهيتي.
خرجت من الغرفة وجلست تبكي وهي تراه يخرج متأنقا ثم يوصد الباب من الخارج كالمجنون. انهارت وزاد بكاءها وهي تحدث نفسها وتقول:
_ يا إلهي، لقد سئمت، هذا الظلم.
/////////
كانت حياة تستعد للخروج لشراء بعض مستلزمات الكلية، رن هاتفها برقم قاسم فاتسعت ابتسامتها وهي تجيب:
_ صباح الخير قاسم.
_ مرحبا حياة، لقد اتصلت بكِ كي أطلب منك طلبا، اليوم لن أستطيع زيارة صبر، لدي مهامًا متعددة، هل يمكنك القيام بذلك من فضلك؟
لاحظت نبرته التي يفوح منها الضيق فتساءلت باهتمام:
_ قاسم هل أنت بخير؟ صوتك يبدو مهمومًا.
_ أنا بخير لا تقلقي، هل يمكنك زيارة صبر؟
تعجبت إصراره وأنه تجاهل الشق الثاني من سؤالها، مما أكد لها أنه فعلا ليس بخير فقالت:
_ نعم بكل تأكيد.
_ حسنا، أشكرك حياة، مع السلامة.
أنهى الاتصال فجأة ولم ينتظر حتى جوابها فأخذت تنظر إلى الهاتف بيدها بتعجب وقالت:
_ ماذا به هذا الرجل الغامض!
رفعت حَشيّة السرير حيث تخفي اللوحة بأسفلها وأمسكت بها وهي تنظر إلى نصف وجه قاسم وتحدثه قائلة:
_ صباح الخير سيد قاسم، أرجو ألا يكون النوم أسفل الحَشيّة مرهقا!
ضحكت ببلاهة وهمّت بإعادة اللوحة مكانها من جديد ولكن والدتها فتحت الباب فجأة ودخلت فارتبكت حياة وأخفت اللوحة وراء ظهرها وهي تقول بعصبية:
_ صباح الخير أمي، من فضلك هلّا طرقتِ الباب قبل الدخول؟ ما فائدة الباب المغلق إذًا طالما أنه لا يُطرق؟
_ ما الذي تخفينه وراء ظهرك؟ ها؟
أغمضت عينيها بضيق وقالت:
_ هذا شيء يخصني.
اقتربت منها أمها وهي تقول :
_ وما هو هذا الشيء؟ أريني إياه.
تراجعت حياة للخلف وهي لا زالت تمسك باللوحة خلف ظهرها وتقول:
_ أرجوكِ أمي كفاكِ اقتحاما لخصوصياتي، من فضلك أخرجي الآن!
نظرت إليها صفية بضيق وحدة وهي تقول:
_ تطردين أمك؟ هل هذه تصرفات فتاة محترمة؟
دبت حياة بقدمها الأرض بغيظ وضيق وهي تقول:
_ من فضلك أمي أخرجي، يا إلهي.. لمَ تتطفلين على خصوصياتي بهذا الشكل؟
طالعتها بحنق وقالت بلهجة ساخرة ممزوجة بالتعنت:
_ خصوصياتك؟! وهل هناك خصوصيات تخفينها عن أمك؟
صرخت حياة بكل ما أوتيت من قوة وهي تستغيث بوالدها قبل أن تنفجر باكية وقالت:
_ أبـــي!!! من فضلك تعال!
خرج صالح من غرفته متجها إلى غرفة حياة وهو يتطلع نحوهما باستغراب ويقول:
_ ماذا بكِ حياة؟ لمَ تصرخين بتلك الطريقة ؟
سالت دمعاتها بضيق وقالت:
_ من فضلك أبي، أمي لا تحترم خصوصيتي، هل من حقها أن تنتهك حريتي بهذا الشكل؟
زاد جنون صفية واشتعل فتيل غضبها وهي تقول بانفعال مماثل:
_ حسنا حياة هانم، اركضي فورا واستغيثي بأبيكِ لأنكِ تعرفين أنه حتما سيقف بجوارك حتى لو كنتِ مخطأة نكايةً بي.
ونظرت إلى زوجها الذي يقف متعجبا الموقف وقالت بإصرار:
_ والآن يا والدها، ابنتك تخبئ خلف ظهرها شيئا ولا تريدني أن أراه، هيا اذهب وانظر ما الذي تخفيه بذلك الإصرار.
_ وما شأنكِ أنتِ؟
قالها بهدوء فنظرت إليه بصدمة وقالت:
_ عفوا منك؟ ماذا يعني ما شأني؟ شأني أنها ابنتي ويحق لي معرفة كل شيء يخصها.
_ لا، لا يحق لكِ، حياة ليست طفلة، حياة بالغة عاقلة، لها خصوصياتها كما لكِ أنتِ خصوصياتك التي لا تريدين لأحد التعدي عليها.
ارتفع حاجبيها بضيق وانزعاج وقالت:
_ ولكن أنا متأكدة أن الشيء الذي تخفيه خلفها هذا سيثير جنوني إذا رأيته، لذلك هي تخفيه، لأنها تعرف أن ردة فعلي لن تكون لطيفة بالمرة.
وحاولت الاقتراب من حياة وهي تقول:
_ ماذا تخفين يا فتاة؟ أقسم أن أقيم قيامتك.
نظرت حياة لوالدها وتوسلتهُ بعينها فهدر صوته حاسمًا وهو يقول:
_ توقفي صفية، هل جننت؟ اتركيها وشأنها.
وأشار إلى الباب وقال:
_ هيا أخرجي حالا.
نظرت إليه زوجته بغضب فقال بتصميم:
_ حالا.
نقلت صفية بصرها بينهما بانزعاج وخرجت من الغرفة وهي ترغي وتزبد، بينما انفجرت حياة باكية وأخذت تشهق بضيق وهي لازالت تتشبث باللوحة و تخفيها وراء ظهرها بإصرار.
اقترب منها والدها وضمها إليه وقال:
_ لا بأس عزيزتي، أنا آسف لكِ بالنيابة عنها.
أسندت حياة جبهتها على كتف والدها وظلت تبكي، وبينما هو يحاول تهدئتها مدت يدها إليه باللوحة على استحياء وهي تتحاشى النظر إلى عينيه.
أمسك صالح اللوحة ونظر بها واستغرق منه الأمر ثوانٍ حتى استوعب أنها عبارة عن نصف وجه لكل من قاسم وحياة ممزوجان بحرفية عالية.
قطب جبينه متعجبا وبدأ تعجبه ذلك يتحول إلى دهشة عندما أدرك القصة وراء تلك اللوحة، ثم نظر إلى حياة بحيرة وهي تنظر أرضا كالمذنبة وتقول:
_ خشيتُ أن تراها أمي، إذا رأتها لن ترحمني وستحيل حياتي إلى جحيم.
_ حياة.. ابنتي.. ماذا وراء تلك الرسمة؟ هل كنتِ تعبثين فقط وقمتِ برسمها؟ أم أن هناك سببا آخرا؟
ألقى سؤاله الأخير وهو بداخله يرجو أن يكون جوابها منافيا للإجابة التي يستحضرها ذهنه الآن، ولكنها لم تجب، انخرطت في نوبة بكاء جديدة ووضعت كفيها أمام عينيها وأخذت شهقاتها ترتفع؛ فجلس بجوارها وربت عليها قائلا بحنوٍ بالغ:
_ حبيبتي لا تبكي، في النهاية هي مجرد لوحة لا تستحق ذلك الانهيار، اهدئي من فضلك.
سكنت فجأة وتراجعت عن البكاء، ومسحت آثار الدموع وأمسكت باللوحة وشقتها إلى نصفين وهي تردد بلا وعي:
_ أجل، هي مجرد لوحة، لا ينبغي أن تكون أكثر من ذلك.
وأخذت تمزقها لأجزاء بعشوائية وهي لازالت تبكي وتتمتم:
_ هي مجرد لوحة ، ها قد قطعتها وانتهى الأمر.
فتحت درج مكتبها وأخرجت كيسًا وبدأت بجمع أجزاء اللوحة الممزقة ووضعتها بذلك الكيس ونظرت إلى والدها وقالت:
_ والآن مكانها الصحيح هو القمامة.
وألقتها بسلة مهملات غرفتها ونفضت يديها وهي تقول بابتسامة ممزوجة بالحزن:
_ ها قد انتهينا.
وهمت بالخروج من غرفتها إلا أنها عادت والتقطت الكيس من القمامة وهي تنظر إلى والدها وتقول:
_ لا يمكنني تركها هنا، أمي ستعود وتبحث عنها لا شك في ذلك.. أفضل حل أن أُلقيها في أي مكب نفايات بطريقي.
وخرجت وتركت والدها جالسًا في حالة يرثى لها.
اتجه إلى غرفته ودخل وأوصد الباب ثم جلس على مقعده وأمسك برأسه في تعب وهو يهز رأسه بغير تصديق ويقول:
_ لا، لا يمكن أن يكون هذا صحيحا، أيعقل؟ حياة تحب قاسم؟!
أوصد عينيه بعجز مردفا:
_ لا، يا إلهي أتوسل إليك، هذا مستحيل!
///////////////
خرجت حياة وهي تمسك بالكيس بيدها وتسير في الطريق وهي تبكي وتقول:
_ سامحكِ الله أمي، ظللتِ تضغطين علي حتى قمتُ بتمزيقها في النهاية.
وتوقفت عن السير وفتحت الكيس وأخرجت منه أحد أجزاء اللوحة ونظرت إليها وشهقت بفزع وهي تقول:
_ يا إلهي! هذا أنف قاسم!
وعادت تبكي بانهيار من جديد وتقول:
_ بربك أمي ماذا فعلتِ!
استوقفت سيارة أجرى واستقلتها وطلبت منه أن يوصلها للمشفى، وشردت وهي تنظر من النافذة ولا زالت دمعاتها تتسابق على خديها وتهمس بداخلها:
_ أرجوك يا إلهي لا تجعل أبي يشعر بشيء.
وتحدث صوتًا آخر بداخلها يقول:
_ أي شيء حياة؟ أساسا ليس هناك شيئا ليشعر به!
أومأت بموافقة وراحة ومسحت دموعها وهي تردد:
_ صحيح، ليس هناك شيئا ليشعر به ، هي مجرد لوحة كما قال.
ونظرت إلى الكيس الذي تفاجئت أنه لا يزال بيدها وقالت:
_ وأنت، هل سأتجول في الطرقات برفقتك هكذا وكأنني أحمل باقة ورد؟
وعادت لتحدث نفسها بحيرة وضيق وتقول:
_ ولكن .. يا إلهي.. لقد أفنيتُ عدة ساعات في رسم تلك اللوحة، لا يمكنني إلقاءها بتلك البساطة.
وفتحت حقيبتها ووضعت بها الكيس، ثم مسحت دموعها وهي تقول:
_ سأحتفظ بها لحين إشعار آخر.
/////////////////////
كان قاسم قد توقف للتو أمام فيلا سيف، ترجل من السيارة بغضب واتجه نحو الحارس الذي تذكرهُ فورا فقال بترحيب:
_ مرحبا بك.. لقد تذكرتك.
طالعهُ قاسم بعصبية وقال:
_ جيد إذًا، هل السيد موجود بالداخل؟
أجابه الرجل بتعجب:
_ لا، سيصل اليوم مساءا.
_ حسنا، افتح الباب.
_ ماذا؟
هدر به قاسم بعنف قائلا:
_ قلتُ لك افتح الباب!!
على الفور انفرج الباب على مصراعيه فدخل قاسم وهو ينادي باسم سيف الذي خرج متعجبا وازدادت دهشته وهو يرى قاسم مقبلًا نحوه كالثور الهائج ويقول:
_ هل أنت سيف؟
_ أجل أنا سيف، من أنت أيها الغبي ومن سمح لك بالدخول…؟
بتر حديثه وفجأة باغته قاسم بلكمة قوية أسقطته أرضًا، فانحنى ورفعه عن الأرض ولكمهُ مرةً أخرى بأنفه حتى سالت الدماء منها وقال:
_ الأولى لأنك أخطأت تقديري، والثانية لأنك أخطأت بحق سارة.
أمسك سيف بأنفه وهو يترنح بألم وقال:
_ سارة! تذّكرتُك.. أنت حارسها الخاص!
أومأ قاسم بتأكيد وقال:
_ جيد إذًا أنك تذكرتني…
وأمسك بتلابيبه وهو ينظر بعينيه بغضب قاتل وقال:
_ إذا تجرأت وتعرضت لها مرةً أخرى صدقني سألحق بك أشد العذاب، من الآن فصاعدا سارة خطًا أحمر، هل فهمت؟
أومأ سيف بتعب وهو يكتم الدم النازف من أنفه بيده بينما تابع قاسم تهديده قائلًا:
_ وإلا.. أقسم أنني سأخبر والديك بكل حقاراتك وأولها تعاطي المخدرات..
نظر إليه سيف بفزع وهلع وقال:
_ لا، لا أرجوك لا تخبر أبي.
أومأ قاسم متمهلا وقال:
_ الأمر يتوقف عليك، إذا لم تبتعد عن طريقها وتتجنبها تماما وتكف لسانك وعينيك عنها صدقني ستعض يديك ندمًا!
تحدث سيف بخوف واضح وقال:
_ أعـ.. أعِدك أنني.. لن أتعرض لها أبدا، صدقني لن أزعجها ثانية.
أومأ متوعدا وهو يمرر لسانه على أسنانه بوحشية وقال:
_ ممتاز، والآن.. أحضر تلك الورقة اللعينة أيها الغبي.
_ ماذا تقصد؟ أي ورقة؟
_ أقصد ورقة الزواج المزيف يا حقير.
أومأ سيف بانصياع وقال:
_ حسنا، حالا.
هرول إلى الأعلى وأحضر الورقتين وعاد بهما إلى قاسم وقال:
_ ها هما.. صدقني أنا لم أكن أنوي إيذائها أبدا.. أنا أحبها حقا .
انتزع قاسم الورقتين من يده وأخرج قداحته وأشعل النار بهما وهو يقول:
_ هذا هو مصير الوهم! الوهم الذي كنت تخدعها به.. يسرني أن أخبرك أن هذا لم يكن زواجا، ما لا تعرفه عزيزي الموهوم أن تلك الورقة لا تسمن ولا تغني من جوع!
كانت النار قد التهمت كل الورقة ما عدا جزءًا بسيطًا فألقاها قاسم أرضا فتحولت إلى رماد، فأشار إليه وقال:
_ الحب لا يصبح رمادا، ولكن الوهم يفعل! الزواج بدون ولي وشهود باطل يا حضرة المراهق، أما بالنسبة لتلك الورقة الخبيثة فها هي!
وداس رماد الورقة المحترقة بقدمه بقوة في إشارة منه لانعدام قيمتها وفائدتها، ثم غادر واستقل سيارته وتحرك منطلقا إلى الهدف التالي.
/////////////////
خرج صالح من غرفته فوجد زوجته تجلس تحاول الاتصال برقم ما ويبدو على وجهها الضيق فقال:
_ بمن تتصلين؟
_ عنبر.
جلس بجوار الهاتف وقال:
_ حسنا، أخبريها أن تأتي لتتناول الغداء برفقتنا غدا.
توترت وتلجلجت أحرفها وهي تقول:
_ وما السبب؟
نظر إليها متعجبا وقال:
_ وهل ينبغي أن يكون هناك سببا قويا يستحق مجيئها لبيت والدها؟
_ لا، ولكن .. أقصد منذ ما حدث وأنت تتجاهلها.. تفرض عليها عقابا قاسيا وتتجنبها وكأنها أول وآخر الخطائين، هل تتراجع عن عقابك الآن؟
تنهد بحزن وقال:
_ إن كان هناك من يستحق العقاب فهو أنا، منذ بادئ الأمر أنا من أخطأت التصرف وسمحتُ لكِ بتضليلي عن الحق، أنا وأنتِ الخطائين الحقيقيين يا صفية.. أما عنبر يكفيها عقابها الذي تناله يوميا بوجودها بجواره.. هيا اتصلي بها.. علينا أن نحسن علاقتها بأختها، لا ينبغي لتلك الفجوة بينهما أن تتسع أكثر.
حاولت الاتصال مجددا دون جدوى فقالت بيأس:
_ الهاتف مغلق.
بدأ القلق يساوره فقال:
_ وهاتف المنزل؟
_ لا تجيب.
قطب جبينه متعجبا وسألها:
_ ربما تكون بالخارج.. أو ربما تكون مريضة. هيا اذهبي واطمئني عليها.
ابتلعت ريقها بتوتر ونظرت إليه بتردد فقال بشك:
_ ما بكِ يا امرأة؟ ما الذي تعرفينه وتخفينه عني؟ تكلمي.
_ عبدالله ، عبدالله يوصد الباب من الخارج ويمنعها من الخروج.
حدق بها مذهولا ونهض عن مقعده وقال:
_ ماذا؟ هل يحبسها؟ هذا الحقير الوغد!
رأته يتجه نحو الخارج وعينيه تتوهجان بالشر فوقفت أمامه تمنعه من الخروج وهي تقول:
_ صالح توقف، أرجوك لا تفتعل المشاكل.
دفعها بعيدا عنه وهو يقول:
_ ابتعدي عن وجهي وانتظري عقابك.
وتركها ونزل متجها لشقة ابنته وهو ينادي بانفعال:
_ عبدالله!!!!!
طرق بقوته على الباب وهو يردد اسمه فاستمع لصوت ابنته وهي تبكي وتقول:
_ عبدالله ليس هنا أبي، ولا أعرف أين ذهب، لقد أوصد الباب وذهب.. أرجوك أبي ساعدني، أخرجني من هنا أرجوك لقد سئمت هذا الحال، عبدالله يمنعني عن زيارتكم ويمنعني من الخروج تماما، حتى أنه سحب مني هاتفي وهاتف المنزل.. بتُ أشعر كأنني في سجن أرجوك لا تتخلى عني أبي أرجوك.
ارتفع صوت بكائها فشعر بالنار تلتهم صدره وبلغ منه الغضب مبلغًا بعيدًا وقال وهو يحاول تهدأتها:
_ لا تقلقي ابنتي، أقسم أني سأحاسبه حسابا عسيرا.
خرج متجها للمحل الخاص به فوجده يجلس واضعا قدمًا فوق الأخرى، أمسك بتلابيبه بعصبية وهو يقول:
_ أنت أيها الحقير الجبان، ماذا تظن نفسك فاعلا؟
_ مرحبا عمي.
قالها متعمدا استفزازه وإثارة حفيظته بينما هتف عمه منفعلا:
_ عمى الدبب يا حقير، كيف تجرؤ وتحبس ابنتي وتمنعها عن زيارتنا وسحبت منها هاتفها، هل جننت أم أي لعنة أصابتك؟
نزع تلابيبه من يد عمه وقال ببرود:
_ زوجتي ولي مطلق الحرية في كيفية التعامل معها، أحبسها، أضربها، أو أقوم ببلها وأشرب ماءها أنا حر!
نظر إليه صالح بغضب عاصف وقال:
_ أقسم بالله إن لم تذهب معي حالا وتفتح ذلك الباب اللعين وتعطِني ابنتي سأذهب لمركز الشرطة وأحرر بلاغا ضدك واتهمك بحبس ابنتي وتعذيبها.
كان الجيران وأهل الحارة قد بدأوا بالتجمهر حول المحل، وأخذوا يتهامسون ويتسائلون فيما بينهما مما أثار غضب عبدالله فانصاع لأمر عمه وذهب برفقته إلى البيت.
////////////////////
نزلت حياة من السيارة أمام المشفى، دخلت واتجهت للطابق الموجود به غرفة صبر. توقفت أمام الغرفة تراقبه من خلف الجدار الزجاجي بشفقة ودموعها تنساب على خديها بغزارة.
انتبه صبر للتو لوجودها فأشار لها بيديه بترحيب فلوحت بكلتا يديها بترحيب مماثل، ثم رسمت قلبا بسبابتيها على الجدار الزجاجي وابتسمت فصنع لها قلبا مماثل.
حينها انهمرت دموعها بقوة وشعرت بقلبها يتآكل من فرط الحزن لأجله.
أتت الممرضة التي كانت بصدد الدخول للغرفة وهي تحمل الطعام الخاص بصبر ورأت حياة وهي تسند رأسها على الجدار وتبكي فقالت بابتسامة:
_ هل هو أخاكِ؟
ابتسمت حياة بتردد ثم أومأت بموافقة وقالت:
_ هو كذلك.
_ سيشفى إن شاء الله لا تقلقي، مئات الأطفال يقومون بعمليات زرع النخاع يوميا.
هزت حياة رأسها بأمل وصمتت وهي تراقب صبر الذي يقوم ببعض الحركات البهلوانية قاصدا إضحاكها ويرسل لها الابتسامات عن بعد، فقالت الممرضة بابتسامة:
_ يا إلهي، صبر هذا مشاغب جدا.
ضحكت حياة وقالت:
_ صحيح.
_ هل تودين مهاتفته؟
نظرت إليها حياة بفرحة وقالت:
_ هل يمكنني مهاتفته فعلا ؟
_ أجل، تفضلي هذا هاتفي، اكتبي رقمك وسأتصل بكِ فور دخولي إليه.
وبالفعل دخلت الممرضة فقامت بالاتصال برقم حياة وأعطت الهاتف لصبر.
أجابت حياة الاتصال سريعا وقالت:
_ مرحبا صبري.
_ مرحبًا حنان.
رفعت حاجبها وقالت:
_ حياة ولستُ حنان.
_ وأنا صبر ولست صبري.
ضحكت بقوة وقالت:
_ حسنا كنت أمزح يا قصير القامة يا طويل اللسان، كيف حالك؟
_ بأفضل حال، ولكن البقاء هنا ممل بعض الشيء.
_ لا بأس عزيزي، ستمر الأيام سريعا وتخرج من المشفى إن شاء الله
_ حياة، ألم يتصل والدي؟
فاجأها سؤاله وتوترت قليلا ثم قالت:
_ نعم، لقد اتصل ليطمئن عليك، وقاسم أخبره أنك بخير وأنه سيعتني بك، ويبلغك سلامه الحار ويقول لك اعتن بنفسك.
أومأ مبتسما وقال ؛:
_ حسنا، وكيف حال قاسم؟ أخبرتني الممرضة أنه يأتي للاطمئنان عليّ ولكنني أكون نائما في ذلك الوقت.
_ أجل، هو أيضا يبلغك سلامه الحار وسيأتي لرؤيتك غدا لأنه اليوم مشغولًا للغاية.
_ فيما هو مشغول؟ هل مع الجارة الهيفاء؟
تنهدت وزفرت بقلة راحة وقالت ببؤس:
_ في الحقيقة أخي صبر لا أعرف فيما هو مشغول، هل مع الهيفاء أم الشقراء أم الحسناء؛ صديقك هذا كالمغناطيس أينما يمشي يجذب النساء إليه.
ضحك صبر قائلا:
_ أجل، ولكنه يملك قلبا كالذهب.
ابتسمت بحنان ولمعت عيناها بدفء وقالت:
_ نعم هو كذلك.. على كل حال أنا مضطرة للمغادرة الآن وسأعود لاحقا، اعتن بنفسك صبر.
ابتسم وهو يلوح بيده ويقول:
_ وأنتِ أيضا اعتنِ بنفسك، وأبلغي سلامي للرجل المغناطيس!
////////////////
توقف قاسم بالسيارة أمام صيدلية خالد، أقبل عليه مهتاج النفس، منتفخ الأوداج، محمر العينين وكأنه أصيب بنوبة من الجنون.
انتبه خالد لوجوده فنظر إليه متعجبا وبدأ القلق يتمكن منه وهو يرى ملامحه التي لا تنذر بالخير أبدا.
انقض قاسم فوقه وأمسك به ثم دفعه للحائط من خلفه فتساقطت إحدى علب الأدوية من فوق الأرفف.
سقطت نظارة خالد الطبية ونظر إلى قاسم مغتاظا وقال:
_ أنت أيها الهمجي، ماذا تفعل هنا؟ وكيف تتهجم علي بتلك الطريقة ؟
نظر قاسم بعينيه بتحدٍ وقال:
_ اسمعني يا هذا، أقسم بالله الذي لا أقسم باسمه على باطل أبدا، إن لم تنته عن حقارتك وقذارتك تلك سألقي بك في المكان الذي تستحقه.
وأطبق على عنقه قائلا:
_ سيف وأصدقائه وشوا بك إلي وعلى استعداد لتقديم شهاداتهم للشرطة واتهامك ببيع المخدرات يا طبيب الغفلة، ولك أن تتخيل عندما يتحرر ضدك محضرًا بتهمة كهذة! لن يكون هناك صيدلية ولا مهنة ولا دكتور خالد من الأساس.
ابتلع خالد ريقه بخوف ونظر إليه بغضب أعمى وقال:
_ أنت تهددني كي لا أفضح علاقتك بحياة…
لم يكمل حديثه عندما أطبق بقوة على عنقه بقبضة من حديد وقال بغضب هادر:
_ اسمعني يا قذر، إياك والنطق بحرف آخر عن حياة، حياة خطًا أحمر!
تشنجت عروقه بغيظ وحقد شديدين وقال:
_ الآن شكوكي كلها تأكدت، حياة تركتني لأجلك.
_ حياة تركتك لأنها تستحق شخصًا صادقًا، تستحق شخصًا نقيًا يشبهها.. والحمد لله أنك ظهرت على حقيقتك وظهر وجهك الأسود المختبئ خلف قناع الطبيب المحترم.
_ أنت أيضا سيسقط قناعك ذات يوم يا مجرم، وستعرفك حياة على حقيقتك وستكرهك، هي الآن تحبك لأنها معمية عن حقيقتك، تحبك لأنها لم ترَ وجهك الآخر بعد، حياة تحبك ولكنها ستكرهك عندما تنقشع تلك الغمامة عن عينيها ووقتها فقط كل ذلك الحب سيتحول لحقد وكراهية.
كان قاسم قد أرخى قبضتيه عن عنقه بعد أن استمع لحديث خالد الصادم بالنسبة له، وابتعد للخلف وابتلع ريقه بتوتر وتشتت وكلمات خالد يتردد صداها بعقله بعدم استيعاب!
هل حياة تحبه فعلا؟! هل اعترفت بحبها هذا لخالد وتركته لأجل ذلك السبب؟ هل اعترفت فعلا أم أن خالد هو من يخمن ذلك!! ألف سؤال يدور برأسه ويعصف به وفعل به الأفاعيل.
نظر إلى خالد وأشهر سبابته بوجهه بتحذير أخير وقال:
_ ما لدي قلته، إن لم تنته وتكف أذاك عن المراهقين الذين تبيع لهم السموم بكل حقارة صدقني ستدخل السجن وتنتهي أسطورة الطبيب المحترم تلك إلى الأبد، هذا أولا.. أما ثانيا وآخرا وأخيرا… إلا حياة، حياة خطًا أحمر!
_______
يتبع
حب_في_الدقيقة_التسعين!
• تابع الفصل التالى " رواية حب فى الدقيقة تسعين " اضغط على اسم الرواية
تعليقات
إرسال تعليق