رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل الثالث عشر 13
الفصل الثالث عشر❤️🤫
[بعنوان: مابين النسيان ودفء البقاء ]
أمسك عثمان الصورة بين يديه، نظر إلى ملامح من بها بتأمل، عيناه تترقرقان بالدموع، مرر أنامله على وجهها بشوق يخرج من عينيه، كأنه يتحسس الذاكرة ذاتها، ظهرت ملامح الفتاة التي في الصورة؛ شعر أسود طويل، وعينان سوداوان واسعتان، ووجه رقيق تفيض منه البراءة، أغمض عينيه لحظة، وتنفس بعمق، كأن ذكرى قديمة انتزعت قلبه فجأة.
فلاش باك، قبل سنوات كثيرة.
السيارة تشق طريقها بصمت ثقيل، جلس عثمان خلف المقود، وجهه جامد، لكن عيناه تفضحان صدمة حائرة، إلى جواره، الفتاة نفسها، منكفئة على نفسها، تبكي بحرقة مكتومة، جسدها يرتجف، كانت ترتدي قميص نوم خفيفا وتغطي جسدها بجاكيت عثمان، كأنها تحتمي به من العالم..
من حين لآخر، كان يرمقها بطرف عينه، ثم يعيد نظره للطريق، قبض على المقود بقوة، كأنه يخشى أن ينفلت غضبه من بين أصابعه..
ازدادت دموعها غزارة، وفجأة صرخت، وهزت رأسها بعنف وهي تقول: لا مستحيل اعيش ثانيه واحده.
امتدت يدها نحو الباب، فتحته بقوة، وكادت أن تلقي بنفسها نحو الهاوية، فصاح عثمان وهو يمسك بذراعها بقوة: بتعملي إيه يامجنونة؟!
صرخت وهي تحاول الإفلات من بين يديه: سيبني! سيبني أموت وأرتاح!
توقفت السيارة بعنف، وصرير الإطارات دوى في المكان، جذبها عثمان نحوه بقوة، صوته يرتجف بين الغضب والخوف: أنتِ اتجننتي؟! عايزة تموتي كافرة؟!
إنهارت تبكي، وجهها متورم وصوتها يتهدج: أنا خلاص ياعثمان! ضعت!
أمسك وجهها بكلتا يديه، أجبرها تنظر له، عينيه تلمع فيهما دمعة عنيدة: خلاص يا جميلة، كفاية أنتِ دلوقتي معايا، فاهمة؟ والله العظيم ماهسيبهم.
ارتجفت وهي تتشبث بجاكيته، وصوتها خرج متقطعا من بين شهقاتها المتلاحقة: هو ده جزاتي؟ مكفاهمش إللي عمله فيا ابنهم؟ كمان يرموني كده؟ ويهددوني؟!
اقترب منها بحذر، صوته هادي لكن فيه رعشة خوف: أهدي يا جميلة، هنلاقي حل، متقلقيش.
صرخت وهي تلوح بيديها في الهواء بإنهيار: هتتصرف إزاي؟! هتقوله يتجوزني؟ ولا هتقول لأهله يصلحوا الغلط؟ مستحيل يحصل أنا حتت بت خدامه ملهاش تمن عندهم، سبني أموت وارتاح؟!
قبض على ذراعها بقوة، جذبها ناحيته، صوته مبحوح لكنه ثابت: إنك تموتي نفسك دي مش حل، متخافيش أنا مش هتخلي عنك، وهتجوزك يا جميله.
اتسعت عينا بصدمه قالت بنبرة مبحوحه: انت لسه عايز تتجوزني بعد اللي حصلي!؟
اتبسم بحب خافض: وأنتِ ذنبك ايه؟!
اغرورقت عيناها بالدموع، همست بارتباك: وأنت، ذنبك إيه؟
اقترب أكثر، صوته يتهدج بالعاطفة: أنا بحبك يا جميلة.
إنهارت تبكي على صدره، فضمها اليه بيدين مضطربتين: خلاص بقي يا بنت الناس، كفاية عياط، والله لأجيبلك حقك منهم، ثقي فيا متخافيش.
صمتت ودموعها تنساب في صمت متعب، بينما أدار هو وجهه للطريق وشغل السيارة، وانطلق بصمت أوجع من أي كلام.
فلاش باك آخر
في مكان زراعي مهجور، تقف جميلة، تلف عباءة سوداء حول جسدها، وطرحة تغطي نصف شعرها، تبكي بصوت مخنوق، وكتفاها يهتزان.
أقترب منها عثمان بخطوات متوترة، ووجه مضطرب وصوته ملىء بالقلق: في إيه يا جميلة؟ مالك؟ إيه إللي حصل؟
رفعت رأسها والدموع تتلألأ على وجنتيها: بيهددوني يا عثمان، إنهم هيقتلوني! أنا عملت إيه لكل ده؟ هما علشان معاهم فلوس يدوسوا على الشرف عادي كده؟
قال بصوت متعجب: مين إللي هددك؟ أنا مش فاهم حاجة!
ردت وهي تبكي برجفة خوف: فايزة هانم، وعزت باشا، بعتولي شاكر يهددني! حتى سليم، سليم بنفسه هددني إنه هيقتلني لو فتحت بوقي!
تجمد وجه عثمان، وقال ببطء: بس سليم سافر في نفس الليلة يا جميلة!
شهقت وهي تمسح دموعها بأنامل مرتجفة: لأ، بعتلي مع حد، أنا خايفة ياعثمان، خايفة اوي، مش عايزة منهم غير يسيبوني في حالي.
أجابها بحزم: إحنا لازم نعجل بجوازنا، الجمعة الجاية نكتب الكتاب، جوازنا هيسكتهم، زي ما حصل مع صفاء أنا هقولهم إني هتجوزك عشان تسكتي، كده كده محدش يعرف اللي بينا.
مدت يدها المرتجفة تمسك يده بقوة، نظرت في عينيه برجاء يائس: عثمان انا خايفه، لو قتلوني، دمي في رقبة العيلة دي، خدلي حقي منهم
ثم أنهارت في حضنه تبكي بحرقة مكتومة، وهو يحتضنها بعجز مؤلم، لا يعرف من أين يأتيها بالأمان.
فلاش باك آخر، بعد أيام
تتوقف السيارة بعنف.
ترجل منها عثمان، وهو يهرع إلى داخل مخزن معتم تتردد فيه أصوات رجالية خشنة، تجمد حين شاهد جميلة ملقاة على الأرض، غارقة في دمائها.
خرج صوته مخنوقا: إيه إللي بيحصل هنا؟!
شاكر ببرود قاتل، وهو يمسح يديه بالمنديل الملوثه بالدماء: الباشا أمر، علشان لسانها ميطولش.
تصلب وجه عثمان، قبض كفيه حتى بياض المفاصل.
شاكر بنبرة هادئة باردة: يلا، شيلوها.
تمتم عثمان بصوت مبحوح: هتقولوا إيه لأهلها؟
ابتسم شاكر بسخريه قاتله: حادثة عربية، ونخلي لسانا في بوقنا، علشان نعيش وولادنا يعيشوا.
تحرك شاكر للخارج ومعه الحراس يحملون جميلة وهي جثه هامده زراعيها يترنحان في الهواء.
بقي عثمان وحده بعدما رحلوا، سقطت أمامه توكة شعر صغيرة على شكل فراشة، ملوثة بالدماء،إنحنى ببطء، ألتقطها بيد مرتعشة، نظر إليها طويلا، ودمعة ساخنة هبطت من عينه.
همس بصوت مختنق: ليه يا جميله، كان كلها بكره ونتجوز ليه عملتي اللي في دماغك..
اضاف بغل وقسم: بس والله العظيم، لجيبلك حقك ياجميلة، مش من سليم بس، من العيلة كلها.
العودة إلى الحاضر
فتح عينيه من جديد، الصورة وتوكه مازالا بين يديه، شاهدين على وعد لم ينسَ، زفر نفسا عميقا، ثم أعاد كل شيء مكانه، وأغلق الدولاب بإحكام، مرت نظرة حادة في عينيه، نظرة رجل لم ينس، ولن ينسى.
فيلا سليم وماسة الواحدة ظهرا.
المسبح الداخلي
تتسلل الإضاءة الدافئة من السقف الزجاجي إلى سطح الماء، تعكس بريقا ذهبيا يرقص فوق الجدران الرخامية.
في منتصف المسبح، كانت ماسة تعوم على عوامتها البيضاء على شكل وزه كبيرة، جسدها المبلل يلمع كحبة لؤلؤ في ضوء النهار، وثوب السباحة ذو القطعتين يلتصق بجسدها الرشيق برقة، بينما كان سليم يرتدي مايوه بسيطا، وعيناه لا تفارقها.
كانت ماسة تضحك بصفاء وهي تمسك مسدس الماء وتصرخ بحماس طفولي: خد يا سليم!
اندفع الماء كرشقة مفاجئة صوب وجهه، فأغلق عينيه نصف غلقه ضاحكا، رفع ذراعيه يحتمي، ثم رد عليها برشقة أعنف من مسدسة وهو يضحك بصوت خفيض متقطع كأنهما طفلين يلعبان مع بعضهما.
صرخت ماسة وهي تقهقه، والماء يتطاير حولها كحبات زجاج متكسر من الضوء، وفجاه سقطت من على العوامة وهي تضحك بطفولة.
أقترب منها بخطوات هادئة، أمسك خصرها بخفة، ورفعها للحظة قصيرة قبل أن يلقيها في الماء، صرخت بصوت مرتفع وهي تغوص ثم تطفو ضاحكة، وشعرها المبلل يلتصق بوجهها ضحكت وهي تدفعه وتقول من بين أنفاسها المتقطعة من الضحك: أنت بتغرقني يا كراميل! طب أهو
ثم القت عليه الماء، وهي تضحك: لو مبطلتش تغرقني هغرقك
ضحك سليم باستخفاف وثقه: هتعرفي أصلا؟!
ماسة بتحدي: ايوه متستصغرنيشييي.
حاولت أن تغرقه لكنها لم تستطيع، اخذ يتملص منها وهي تصرخ، ويقوم هو بتغريقها بالماء بمزاح، اقتربت منه، وقالت ببراءة: سليم وحياتي غرق نفسك كأني، آني اللي بغرقك.
ضحك بصوت عالي، وترك نفسه لها فاغرقته واخذت تصفق لنفسها: شوفت قولتك متستصغرنيشي.
ضحك سليم بخفه، واقترب منها مجددا وقبلها على خدها في حركة عفوية حنونة: مقدرش استصغرك يا قطعة سكر.
وظلا يلعبان لوقت طويل، حتى بدأ التعب يظهر في بريق عينيه، فأقترب منها وقال بصوت منخفض: عشقي يلا نطلع نستريح شوية وننزل تاني.
نظرت له بعناد طفولي، وهي ترفس الماء بقدميها وتبتسم بخفة: لأ، آني عايزة ألعب شوية كمان.
رفع حاجبيه وضحك بخفوت،قال بصوت أبوي حنون: مش هينفع أسيبك لوحدك.
اقتربت منه بخفة، وقالت بتوسل طفولي: وحياتي يا سليم خليني شوية كمان.
تنهد، ثم أمال رأسه مبتسما برقة: طيب، بس متروحيش الناحية التانية، سمعاني؟
هزت رأسها بسرعة: حاضر!
ابتسم وقبل جبينها قبلة خفيفة دافئة، ثم صعد إلى طرف المسبح وجلس، أشعل سيجارة بين أصابعه وكوب عصير بارد بجانبه، عينيه تتابعان حركتها في الماء، بمزيج من الحنان والسعادة، وكلما اقتربت من الجهة العميقة، كان يلوح لها بيده محذرا، فتضحك وتبتعد مثل طفلة صغيرة تتدلل على والدها.
مر وقت طويل، فناداها بصوت خافت حنون: يلا يا عشقي، أطلعي بقى.
رفعت رأسها من الماء، شعرها يلتصق بعنقها، نظرت له بعيون متسعة بريئة، وقالت بتعجب طفولي: أطلع ليه؟
ابتسم وصوته يحمل نغمة الجد واللطف: كفاية لعب، بقالك أربع ساعات ياشقية، متعبتيش؟
ضحكت، وهي تسبح في دوائر صغيرة وتضرب الماء بيديها كأنها تثيره عمدا: لا متعبتش! وعايزة ألعب.
رد بصوت حنون لكنه حازم: لا يا عشقي، يلا ناكل ونرتاح، البول موجود كل يوم.
نظرت له بإستغراب، وتساءلت بدهشه: إيه البول ده؟
ضحك وهو يومئ بيده بخفة ساخرة: حمام السباحة بالانجليزي.
أطلقت ضحكة قصيرة، واستدارت واعطته ظهرها بعناد دافئ، تلعب بالماء بطرف يدها: يا كراميل، آني عايزة ألعب، اطلع أنت وسبني ألعب.
قال وهو يناديها بنبرة رجولية عميقة هادئة لكنها حاسمة: أنا قولت يلا، بصيلي هنا يا ماسة، ماسة مش بكلمك بصيلي واطلعي يلا.
ألتفتت نحوه وهي تعقد حاجبيها بعند طفولي، وترد بدلال مرح: وآني قولت لأ، عايزة ألعب.
ارتسمت على وجهه ملامح الصبر المرهق، فقال بنبرة أكثر جدية: ماسة، يلا بقى، بلاش عند.
رفعت ذقنها بعناد طفولي: لأ
رفع حاجبه وصوته اكتسب نبرة أمر خفيفة: هو إيه إللي لأ؟ قولت يلا.
ردت وهي تعبس وتضرب الماء بكفيها بعنف طفولي: يا سليم بطل غلاسة بقى! عايزة ألعب شوية، أوووف! مش هطلع!
أطلق ضحكة قصيرة خبيثة وهو يخلع تيشرته في حركة واثقة، ثم نزل إلى الماء بخطوات هادئة، وعيناه مثبتتان عليها
ارتبكت قليلا لكنها ضحكت، وبدأت تسبح مبتعدة وهي تصرخ: لأ، ابعد عني مش عايزه اطلع.
سليم ضاحكا بصوت عالي: يا بنتي بلاش شغل الأطفال ده! بطلي فرهدة!
استدارت نحوه بدلال واضح ومزاح: إيه، بقيت راجل عجوز علشان عندك 35سنة؟ ومش قادر تجري ورايا؟
ضحك وهو يومئ برأسه: اه هتمسكي في الجملة بقي، من وقتها ما قولتها، ما صدقتي أنتِ؟!
ماسة بخفة وهي تخرج لسانها: أنت اللي قولت إنك مش قد فرهدتي.
اقترب منها بخطوات واسعة والماء يتماوج حوله: طب تعالي هنا بقى يا لمضة.
ابتعدت وهي تضحك، ثم رفعت مسدس الماء وصوبته نحوه بخفة ماكرة: قولتلك هلعب شوية، مش هاجي!
رفع يده ليتفادى الماء وقال بنبرة لاهية متظاهرة بالانزعاج: مش هتسمعي الكلام يعني؟
صرخت ضاحكة بعند: لأ، مش هسمع الكلام!
أخرجت لسانها من جديد وهي تقهقه، فاندفع نحوها بسرعة، حاولت الهروب، لكن الماء أعاق حركتها، فأمسكها من خصرها فجأة، فصرخت وهي تضحك: وحياتي يا سليم ما تطلعني، أنت رخم!
رفعها على كتفه وسط ضحكها وصوتها العالي، وهي تضربه بخفة على ظهره، فيضحك وهو يخرج بها من الماء بخطوات ثابتة.
وضعها على الأرض برفق، والماء يتساقط منهما معا، وقال بإبتسامة تجمع الجد والمزاح: يلا، نطي زي الأطفال وعيطي واتمرمغي براحتك.
قالت بضيق طفولي، وهي تزيح شعرها المبلل عن وجهها: آني مش طفلة.
ضحك بهدوء وهو يجفف كتفيها بالمنشفة بلطف: مش طفلة؟!! و إللي كنتي بتعمليه ده اسمه إيه؟
ماسة بصوت مستاء، وهي تعقد ذراعيها: كنت بلعب.
انحنى نحوها قليلا، وقال بصوت دافئ وفيه حنان أبوي: 4ساعات لعب يا ماسة؟ هتبوشي!
ثم تابع وهو يجفف شعرها بخفة: مينفعش أسيبك لوحدك، الجزء الغويط خطر، وأنتِ مبتعرفيش تعومي وبتسرحي والعومه بتاخدك هناك.
ابتعدت عنه خطوة صغيرة، وهي تحاول أن تخفي ابتسامة طفيفة تحارب للظهور على وجهها: قولتلك مش هروح هناك، وهفضل هنا، والله العظيم، سيبني بقى.
سليم بنبرة حازمة، وهو يثبت نظره عليها: قولت لا.
نظرت له بعناد وهي ترفع ذقنها: غلس! وهخاصمك 3 أيام كمان.
ضحك بخفوت، وألبسها فستان البحر، ثم حملها مجددا على كتفه رغم احتجاجها، صعد بها السلم حتى وصلا إلى غرفتهم، فتح باب الحمام ووضعها على الأرض بخفة وهو يقول بلطف ودفء: هطلعلك هدومك لحد ماتخلصي، وأنا هاخد شاور في الحمام التاني.
نظرت له من فوق كتفها، عيونها تضيق في تمثيل الغضب، وقالت وهي تضم ذراعيها: أنا مخاصماك 3 أيام، متكلمنيش.
ابتسم بخفة دون رد، خرج وأغلق الباب وراءه بهدوء،
عاد بعد لحظات يحمل بيجامتها، وضعها على السرير، وألقى نظرة قصيرة نحو الباب قبل أن يرحل، في الداخل، كان الماء ينهمر على جسدها، وصوتها الخافت يتمتم بكلمات اغنية.
وبعد قليل.
جلست على الفراش، بوجه متجهم وعابس، وهي ترتدي البرنص، وشعرها مازال رطبا من الماء.
دخل سليم الغرفه بعد أن أخذ حمامه، وهو يرتدي ملابس منزليه مريحه، جلس بجانبها، ونظر لها وعيناه تلمعان بالمرح: لسة مكشرة؟ ملبستيش ليه لحد دلوقتي؟
اشاحت بوجهها بتذمر طفولي: آني مش مكشرة.
ابتسم سليم وهو يرفع حاجبه: كده مش مكشرة؟!
ثم أضاف بنبرة حانيه، كأنه يحدث طفلة: ماسة أنتِ بقالك أربع ساعات في الميه مطلعتيش؟ أنا خايف عليكي!
قاطعته ماسة، بنبرة طفولية: آني بحب المية أوي، وقولتلك سيبني، بس أنت غلس، ! آني واخده على خاطرى منك، ومخصماك 3 أيام كمان، متتكلمش معايا.
رفع سليم حاجبيه بمكر، واقترب منها قائلا: ما أنتِ لو فضلتي مكشرة كدة وزعلانة مني 3 أيام، أنا هعرف إزاي أفككك؟
رفعت ماسة حاجبها بتحدي صغير: وهتفكني إزاي بقى؟
اقترب سليم أكثر، وعيناه تلمعان بالمرح والمداعبة، وفجأة، مد يديه وبدأ يدغدغها في جنبها.
صرخت ماسة وهي تتراجع: لالا بس هههههه
حاولت التملص بتوسل: لالا خلاص بس، أوعى!
ضحك سليم بصوت خافت، وهو يواصل دغدغتها: مش هسيبك قبل ماتضحكي!
حاولت التملص وهي تضحك بخفة: بس آني زعلانة منك.
استمر بدغدغتها وهو يهمس: لازم أصالحك، ولو مصالحتنيش، هفضل أزغزك كدة علطول!
انفجرت ضاحكة وهي تحاول ايقافه عن دغدغتها: خلاص! صالحتك، خلاص بقي
ابتسم لها بعينين مليئتين بالشقاوة: يعني اتصالحنا؟ ومش هتخاصميني ال 3 أيام؟
ابتسمت، ومدت يديها تبعده بخفة: أيوه خلاص، بس بعد كده، سبني اللعب في المية براحتي.
اقترب منها، ومرر يده على شعرها برقة، بعينين مليئتين بالحنان والخوف: يا عشقي أنا بخاف عليكي.
ضحكت بخجل خفيف: اصل المية حلوة اووي.
ثبت سليم نظره داخل بحور عينيها، بعينين لا ترمش، مليئة بالغزل والشغف: بس، مش أحلى منك، ولا من عيونك، ولا من ابتسامتك إللي بتذوب قلبي.
صمتا، وتبادلا النظرات بعشق صامت، كأن كل لحظة تمر تثقل قلبيهما بالشوق، كانت رغبة خافتة تتسلل إلى قلب ماسة، تحرك إحساسا لم تعرفه منذ زمن، لم تستطع تحديد شعورها، فلأول مرة منذ فقدانها للذاكرة، تشعر بانجذاب غير مفهوم، وشغف خفي يذوب مع كل لحظة قرب.
ركزت عين سليم على شفتيها برغبة جامحة وبعد ثواني اقترب ببطء، وقلبه يخفق بسرعة، جسده يئن من الشوق، لم يستطع كبح نفسه أكثر، فهو يريد أن يتذوق تلك الكرازتين فالشوق ذبح قلبه، وضع شفتيه على شفتيها، وقبلها قبلة عميقة، عاشقة، مشحونة بالحنان والشوق.
هذه المرة، لم تبادله ماسة القبلة، لكنها لم تتجمد أو تبتعد، بل سمحت لنفسها أن تشعر بدفء تلك اللحظة، مستسلمة لشغفه برقة وحنان.
امتدت القبلة بينهما بهدوء مبهم لا يعرف أهو شوق أم ذوبان، وكأن الهواء من حولهما صار أدفأ من أنفاسهما، انحنى سليم قليلا، يتتبع بأنامله ملامح وجهها، ثم أغرقها بقبلات رقيقة ساخنة متقطعة كأنها تنهيدة حب طويلة، لامست شفتيه خدها، ثم مرت على عنقها برفق يشبه الرجفة الأولى للدفء بعد برد طويل.
كانت ماسة ما تزال ممسكة بطرف الغطاء، ارتجاف خجلها ظاهر، ثم شيئا فشيئا تحركت يداها من تلقاء نفسها نحو ظهره، كأنها تبحث عن طمأنينة لم تفهمها بعد، ضمته بتأثر واستثارة متأثرة بتلك القشعريرة التي لم تفهم معناها بعد.
زدات حرارة الشوق والاستثارة بينهما، وبصوت خافت يشبه الرجاء همس سليم قرب أذنها: بحبك، وحشتيني أوي يا ماسة، وحشتيني.
فتلامست أنفاسه الساخنة ببشرتها وأشعلت دفئا خفيفا في عروقها، رفع وجهه نحوها، كفه يلامس خدها برقة، وعيناه لا تبرحان عينيها المغمضتين: أفتحي عينيك، بصيلي يا ماسة.
فتحتها ببطء، كأنها تخشى أن تهرب اللحظة، كانت نظرتها مليئه بالحياء والارتباك ووميض حب جديد.
ابتسم سليم، وهمس: وحشتني عيونك، وحشتني.
نظرت له بابتسامة خجولة، فوضع سليم قبلة على خدها، ثم على شفتيها، يقبلها برقة كأنه يتذوق اللحظة بعطش قديم، قبل أن تتحول قبلاته شيئا فشيئا إلى دفء عميق، وجنون الاشتياق، يمس قلبها قبل أن يلامس شفتيها.
كانت أنفاسها تتلاحق، تختلط بين الخجل والرغبة، بين ارتباكها ودهشتها من تلك النبضات والاستثاره التي تشتعل بداخلها دون أن تفهمها.
اقترب أكثر وأكثر، وأصبح لا يستطيع المقاومة، لم يعد يرى في العالم سوى ملامحها القريبة، وشعرها المبتل الذي يلتصق برقبتها فيثير بداخله كل ما حاول السيطرة عليه.
صار يريد أن يذوب فيها، أن يحتضنها حتى تصبح نبضه ونفسه، وكلما سمع منها تلك الأهات الخافتة التي خرجت رغما عنها، ازداد يقينا أنه لم يعد هناك مايفصله عنها سوى الهواء الذي بين شفتيهما.
شعر داخليا أن الوقت قد حان ليخطو خطوة أعمق، فرفع عينيه نحوها وهمس، وأنفاسه الدافئة تلامس رقبتها، فتشعل في داخلها حرارة غريبة تداهم معدتها، رغبة لا تفهم معناها.
قال بنغمة خافتة مازحة: قوليلي بقى، تحبي أبدأ معاكي من ليفل واحد ولا من آخر حاجة وصلنا لها؟
نظرت له ببراءة، وابتسامة خجولة ترتسم على وجهها، وهي تتساءل: يعني إيه؟
ضحك بصوت منخفض، ونظر في عينيها نظرة طويلة تذيبها: لا مادام قولتي “يعني إيه”، يبقى نبدأ من أول ليفل، وأمري لله.
أقترب منها أكثر، نظر في عينيها نظرة طويلة، وبدأ يوزع قبلاته بنعومة عاشقة؛ قبلة على عينيها، ثم أخرى على خدها، وأخرى أطول على شفتيها، قبل أن تنزلق شفتاه برقة نحو عنقها، يترك عليها أثرا من الدفء والحنين، ثم أمسك يدها وقبلها برقة، وظل يركز نظره في عينيها؛ بعينان لا ترمشان، مليئتان بالعشق والوله.
شعرت ماسة بتنفسه يتسارع حول عنقها، وارتعاش دافئ يملأ جسدها، حرارة لم تفهمها بالكامل، لكنها تخفق قلبها بعنف.
همس سليم بصوت منخفض: أنا بحبك أوي، أنتِ بتحبيني؟
ابتسمت بخجل، وعيناها تلمعان: أيوة بحبك، وبموت فيك كمان.
ارتسمت على شفتي سليم إبتسامة شغوفة، مد ذراعيه خلف ظهرها، وضمها بقوة، يحاول أن يطمئنها بأمانه وحنانه، بدأ يوزع قبلاته على رقبتها مرة أخرى، تنفسه الساخن على جلدها جعلها تذوب بين يديه، كقطعة ثلج على الجمر، وكل لحظة كانت تزيدها انجذابا وشوقا إليه، بدأت قبلاته تصبح أكثر حرارة وقوة، ثم منحها قبلة عميقة على شفتيها، جعلتها تذوب وتنسى العالم من حولها.
تبادلا القبلات والهمسات، تداخلت أنفاسهما في نغمة واحدة، وكأن العالم من حولهما أختفى، كانت أنفاسها تتسارع، وآهاتها الخفيفة تتسلل من بين شفتيها، تزيده جنونا بكل لمسة.
شعر سليم أن الوقت توقف عندها، وكل شوق خبأه لعامين أنفجر دفعة واحدة، وكأن كل لحظة تؤكد له أن الوقت قد حان للاقتراب أكثر وأكثر، شوقه إليها كان لا يحتمل، عامان كاملان لم يلمسها فيهما، لم يشارك هذا الحنين مع أي امرأة غيرها، هي وحدها كانت دواؤه وعلته، دفؤها هو الوطن الذي ظل يبحث عنه طيلة غيابه.
بدأ سليم بنزع ملابسهما بهدوء، بينما كانت ماسة ساكنة بين يديه كصلصال، تستسلم له وتستمتع باللحظة، كان يهمس لها بكلمات رقيقة، كما اعتاد، كل همسة تحمل حبا وحنانا، وكل لمسة تحمل شوقه الكبير.
كان حريصا في التعامل معها كما لو كانت ليلة زفافهما، برغم أن جسدها قد كبر ويستطيع أن يتحمل لهيب عشقه، إلا أن قلبها من الداخل ظل عاد كما كان الفتاة الصغيرة التي أحبها منذ البداية.
ورغم أنه أحيانا كان يفقد السيطرة أمام شدة شوقه، إلا إنه سرعان مايراجع نفسه، يحميها ويؤكد لها الأمان، فهي حبيبته القديمة، ويجب أن يبدأ معها كما بدأ مع مرور الأيام الأولى، بحذر وحنان، كما لو لم يمر الوقت بينهما.
بعد فترة من الانغماس في دفء اللحظة، ابتعد سليم قليلا عنها، وجهه محمر، وعروقه مازالت تنبض بإيقاع سريع لم يهدأ بعد، أما ماسة، فكانت تستعيد أنفاسها بصعوبة، وجنتاها تشتعلان، وشفتيها متورمتان قليلا من شدة القبل.
نظر إليها بابتسامة يغمرها الحنان والاهتمام والحب: حبيبتي، أنتِ كويسة؟
هزت رأسها بخجل، شفتيها ترسم ابتسامة صغيرة وهي تهمس: آه.
ابتسم بخفة، ومد يده وأمسك بكفها، وضع قبلة طويلة عميقة على باطن يدها، كأنه يشكرها بصمت، ظل ينظر إلى وجهها بعينين لا تفارقانها، ثم مال إليها وقبل شفتيها مرة أخرى، قبلة مختلفة، أهدأ، مليئة بالعشق والامتنان.
أبتعد قليلا، ثم جذبها إليه برفق، حتى استقرت بين ذراعيه، أسندت رأسها على صدره، نصف جسدها مغطى بالبطانية، بينما كان يضمها بحنان، كمن يخشى أن تفلت منه ثانية.
همس بالقرب من أذنها، بصوت خرج متهدجا، كأن الكلمات تخرج من أعماقه: أنا مش قادر أقولك، كنتي وحشاني قد إيه، ولسة وحشاني، حاسس إني مهما ضميتك، مش هشبع منك، مشتاقلك أوى يا ماسة، بس أكتر حاجة وجعاني إنك هنا، بس ذاكرتك مش معايا، كان نفسي تبقي فاكراني، علشان نحسها مع بعض بنفس القلب، بنفس الذكرى، بس المهم، كنتي مبسوطة؟
نظرت له بخجل، وابتسامة هادئة: أيوة كنت مبسوطة.
ثم قلبت وجهها بحزن: بس مفتكرتش حاجة.
هز رأسه بخفة، وابتسم ابتسامة صغيرة يغلفها الحزن، ثم وضع قبلة دافئة على جبينها: إن شاء الله، هنفتكر كل حاجة، سوا.
ظلا هكذا لدقائق، والسكون يملأ الغرفة إلا من أنفاسهما المتداخلة، كانت ماسة تشعر بدفء حضنه، وصدره الذي يرتفع وينخفض بهدوء تحت رأسها.
رفعت وجهها بخجل، تتساءل ببراءة: سليم هو إحنا عملنا كده قبل كده؟
ابتسم ابتسامة صغيرة، وأجاب بعين يملؤها الحنين: أكيد يا عشقي، عملنا كده كتير، بس المرة دي كانت مختلفة، كأنها أول ليلة بينا، سعيد بجد إنك خليتيني أعيش اللحظة دي من تاني.
نظرت له ببراءة، وهي تتساءل بخجل: يعني أنت مبسوط؟
اقترب منها، وقبل خدها برقة، وقال وهو ينظر داخل عينيها: أكيد مبسوط، يمكن أكتر من أي مرة قبل كده.
اخفضت عينيها وهي تهمس بتعب: آني حاسة جسمي مكسر، وعايزة أنام.
ضحك بخفة، ومد يده يمسح على شعرها بنعومة وحنان: طبيعي يا عشقي، متقلقيش.
قربها منه أكتر، وسحب البطانية يغطيها بيها، وقال بصوت دافئ وهو يضمها: تعالي نامي هنا، في حضني.
أسندت رأسها على صدره، وابتسمت بخفوت قبل ما تغمض عينيها، وصوته آخر ماسمعته قبل أنا تنام: نامي يا عشقي، في مكانك هنا، جمب قلبي.
قصر الراوي
غرفة رشدي، الخامسة مساء
جلس على الأريكة الهاتف بين يديه، وعيناه نصف مغمضتين، يحدق في الشاشة بتركيز يشبه من يخوض معركة مصيرية ضد الفتيات.
أخذ نفسا طويلا من السيجارة، وزفره ببطء وهو يتمتم بصوت خافت غاضب: يلا بقى نمسح البطات اللي عندي..
تحركت أصابعه بسرعة متوترة فوق الشاشة، ظهر أول اسم، فقلب وجهه بملل وقال وهو يمط شفتيه: أنتِ مينفعش أشوفك تاني أصلا.
أزاح الاسم التالي، فرفع حاجبه باستنكار ساخر: أما أنتِ، يلا أنتِ وشلتك، دليت.
ضحك ضحكة قصيرة ساخرة، كمن يعاقب نفسه أكثر مما يعاقبهن، ثم توقف عند اسم جعله يتردد، وهو يقرأ بصوت خافت فيه حنين متردد: تمارا، لا تمارا حلوة، أسيبها !؟
ثم عقد حاجبيه فجأة، كمن يحاول إقناع نفسه: لا خلاص، همسحك يا تمارا.
اقترب بإبهامه من زر الحذف، ثم تراجع بسرعة وهو يقطب جبينه، ويقول بنبرة مترددة شبه ضاحكة: لا لا، نخليها، بلاش تسرع، تمارا مزة الصراحة.
مسح جبينه بكفه، وكأن الامتحان لا ينتهي، ثم واصل وهو يمرر الأسماء بعصبية خفيفة: آيات، لا رخمة، باي باي يا آيات.
ضغط المسح بلا تردد، ثم انتقل للتي تليها: نسمة وشلتها يلا، مسح شلة شمال اصلا.
ضحك بخفوت وهو يرى القائمة تقصر، كأن روحه تفرغ من ثقل قديم، لكنه توقف فجأة عند اسم، حدق مطولا في الشاشة، وصوته خرج مبحوحا بخليط من الشوق والتعب: ماريتا آه لا، مقدرش، بس لازم أمسحك.
ظل صامتا لحظة، ثم رفع حاجبه بتردد وهمس لنفسه: بس لا، أنتِ الانتيم، للعيلة هسيبك.
عاد ليقرأ الاسم التالي بصوت أقرب للهمس: نورهان، آه يا نورهان، الواحد موصلكيش بالساهل، بس لازم أمسحك، كل مابشوفك بضعف وأنا وعدت مي اني هبقى محترم.
أغمض عينيه بقوة وضغط زر الحذف، كأنه ينتزع من قلبه خيطا قديما، ظل بعدها يمر بالأسماء بسرعة عجيبة، أصابعه تتحرك بعصبية، كأنه يريد الانتهاء من عملية جراحية في ذاكرته، وبعد دقيقة كاملة من الحذف، ألقى الهاتف فوق الطاولة، مال برأسه للخلف وزفر بعمق، ثم نظر إلى الشاشة بابتسامة نصفها نصر ونصفها ضياع، وتمتم وهو يضحك لنفسه بخفوت: تلاتة أسماء بس بقوا ماريتا، تمارا، زيزي، حلوين كفاية.
رفع السيجارة إلى فمه، أخذ منها نفسا طويلا ثم قال بصوت ساخر متعب: كده توبنا إلى الله.
فيلا سليم وماسة، الخامسه مساء
غرفة النوم
كان الهدوء يعم أرجاء المكان، لا يقطعه سوى أنفاس دافئة تعبق بالسكينة، وعلى الطاولة الصغيرة وضع الطعام الذي طلبه سليم قبل قليل، فيما جلس هو على المقعد المقابل للسرير، يراقبها بصمت هادئ، كأنه يخشى أن يوقظ حلما ناعما.
وبعد قليل، بدأت ماسة تتحرك ببطء، تفتح عينيها بتعب خفيف، وتمد يدها على الوسادة بجوارها، فابتسم سليم، واقترب منها، وما إن ألتقت نظراتها بعينيه، نظرت إليه بخجل، وارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهها، فاقترب منها بخفة، وطبع قبلة رقيقة على خدها، وقال بابتسامه: كل دى نوم!؟ قومي يلا علشان ناكل، أنا طلبتلك الأكل إللي بتحبيه.
غطت نفسها بالغطاء بسرعة وهي تقول بخجل مرتبك: طب أبعد بقى شوية عشان ألبس.
ابتسم وقال مازحا وهو مازال واقفا قريبا منها: أنتِ مكسوفة مني؟
خفضت رأسها بخجل، وقالت بخفوت: أيوة.
ضحك بخفة، وقال بنبرة مازحة فيها دفء: بعد كل ده ولسة مكسوفة؟
ازدادت احمرارا، وخفضت وجهها أكثر، وقالت بخجل متلعثم: بطل بقى، متكسفنيش.
ابتسم وهو يمد ذراعيه نحوها برفق، ثم أحاطها بكلا ذراعيه من الجانبين، وأعتلها دون ملامسه كأنه يغلق عليها العالم، كانت رأسها تميل للأسفل، فرفعت عينيها نحوه بخجل مرتجف وهمست: هتعمل إيه؟
ابتسم بنعومة وهو يهمس: هدوب الكراميل في السكر، عشان تبطلي كسوف
اقترب منها أكثر وووووو
بعد وقت.
نرى سليم يحمل ماسة بين ذراعيه وهما يخرجان من الحمام، يرتديان برانص بيضاء، وضحكتها الخجولة تملأ الغرفة، وضعها برفق على الأريكة، وظل يتأمل وجهها المضيء بإبتسامة رقيقة لا تخلو من الدفء.
قال وهو يشير للطاولة: يلا بقى ناكل، أنا جعان أوي، بدل ما أكلك أنتِ تاني، وأنا بصراحه بتلكك.
ضحكت بخجل وهي تحاول إخفاء وجهها، بينما كان هو مازال ينظر إليها بنفس النظرة، نظرة رجل وجد أخيرا سكينته.
ظل يطعمها بيده، يبادلها نظرات تفيض حبا، ويدللها كأنه يخشى أن تفلت منه من جديد، وبعد انتهاء الطعام، اقترب منها أكثر، بينهما دفء لم يعرفاه من قبل، وحنين يشتعل كلما ألتقت نظراتهما أو تلامست أيديهما صدفة، فهو لم يعد قادرا على الابتعاد عنها، وهي لم تجد في قلبها رغبة في الهرب بعد الآن، فصار الصمت لغتهما، والمكان ممتلئا بأنفاس تختلط دون كلمة.
لم يشعر بنفسه إلا وهو يطبع قبلة دافئة على شفتيها، كأنه يذوب فيها بعد غياب طويل، ثم انجرفا معا في عالم من العشق والحنين، لا يسمعان فيه سوى أنفاسهما المتلاحقة، وصوت قلبيهما المتشابك، فهو مشتاقا لها بجنون، وهي لم تمانع، بل غاصت في سعادتها كأنهما يعوضان معا سنوات ضاعت منهما، ويحاولان استرجاع ماسرقته منهما الأيام الماضية.
لم يخرجا من الغرفة تلك الليلة، ولم يعرفا كم مرة ألتقيا، ولا كم مرة تعانقت أنفاسهما قبل أن يهدأ كل شيء.
وحين تسلل ضوء الصباح من خلف الستائر، كانت ماسة ماتزال بين ذراعيه، تغفو بسلام غريب، كأنها أخيرا وجدت مأواها، لكن رغم كل الدفء الذي غمرها بيه، بقي شيء واحد لم يعد بعد، ذاكرتها…! فما زالت ماسة لا تتذكر.
مجموعة الراوى، العاشرة صباحا
مكتب طه
طه جالسا خلف مكتبه، يتحدث مع ابنه مراد بهدوء وهو يشرح له بعض التفاصيل عن العمل، كان مراد يصغي باهتمام، يحاول أن يظهر جدية الرجل الكبير، بينما يدون ملاحظات صغيرة في دفتره، وبعد دقائق، فتح الباب ودخلت منى بخطوات واثقة وابتسامة راضية: أيوة كده، منظركم يسعد القلب.
جلست على المقعد المقابل لمراد، وقالت وهي تنظر له: ها يا مراد، عامل إيه في الشغل؟
مراد بإبتسامة بسيطة: الحمد لله، النهاردة لفيت على الورش كلها.
مالت منى للأمام قالت بنبرة حازمة: بقولك إيه، أنا مش عايزاك تسيب ياسين لحظة واحدة، ياسين شاطر، ومادام سليم سايبله الجمل كده، يبقى فاهم كويس إن ياسين ينفع يبقى ولي العهد الجديد، حتى رشدي، أفهم منه إزاي هياخد المناقصة، رشدي ذكي، وهيعرف ياخدله مكان عند العيلة.
طه بنبرة هادئة:منى، سيبي مراد، هو بيتعلم، بالراحة عليه.
قالت وهي ترفع حاجبها: هو أنا قولت حاجة؟ أنا بقول يتعلم من عمامه، فين المشكلة في كده؟ وسليم لما يرجع، أوعى تسيبه في أي اجتماع أو شغل، مشوفكش بتقوم من مكتبه، فاهم؟
هز مراد رأسه بإيجاب: حاضر، هعمل كده.
تابعت وهي تميل على الكرسي بثقة: دي فرصتك، وسليم مش موجود، ظبطله شوية حاجات سايبها، وأرجعلي أنا وبابا لو فيه حاجه وقفت قدامك، ولازم تقرب كمان من الباشا الكبير، والهانم.
طه وهو ينظر إليها بنظرة نصف ساخرة: يعني أنتِ مش سايبة له حد مقعدش معاه غير عماته؟
منى بإبتسامة خفيفة وفيها لمحة خبث: تقصد فريدة؟ هيتعلم منها ايه؟! وصافيناز خلاص، خدت الكارت الأحمر.
التفت طه إلى مراد وقال بجدية أبوية: سيبك من أمك، وركز في شغلك، مش عيب تتعلم من عمامك أنا بقولك ياسين فعلا شاطر، وسليم مفيش جدال طبعا، وأنا أعتقد علاقتك كويسة بيهم، وهكون مبسوط لو فضلت قريب من جدك، بس أوعى، أوعى تدخل في الصراعات على الكرسي.
ثم وقف وألتقط بعض الأوراق من المكتب، وقال بضيق وهو يوجه حديثه لمني: عندي اجتماع، هروح أحضره، وخفي شوية علي الولد.
تركهم وغادر المكتب بهدوء، تابعت منى تحركاته بعينيها حتى أغلق الباب خلفه، ثم تمتمت لنفسها بخفوت فيه نبرة سخرية “سلبي”
ألتفتت إلى ابنها، ونظرتها صارت أكثر حدة، وصوتها منخفض لكن ثابت: بقولك إيه يا مراد، سيبك من باباك، هو عنده حق، الكرسي بعيد عنك فعلا، محدش هيقعد عليه غير سليم الموضوع محسوم من بدري..
ثم أضافت بمكر وخبث وطمع: بس إيه المشكلة لما تبقى ذراعه اليمين؟ تفهم منه، وتقربله، خصوصا إن سليم معندوش ولاد، ومبيخلفش.
اقتربت منه وقالت بنبرة أعمق، كأنها تروي سرا بشيطانية: وحتى لو خلف بعد كام سنة، ابنه هيبقى صغير، وأنت هتكون خلاص خدت مكانك أوعى تفضل تابع وترضى بلقمة في الرغيف زي طه، أديك شايفه، زيه زي أي موظف هنا، الكلمة الأولى والأخيرة لسليم، وبعده ياسين، تحب تفضل تقول “حاضر ونعم”، وتعيش على الفتات؟ ولا تاخد الرغيف كله؟
مراد بصوت هادئ لكنه متردد: أكيد أرضى بالرغيف، بس أنا فعلا مش عايز أخش في مشاكل.
ابتسمت بخبث وهي تهز رأسها: ما أنا بقولك، إحنا مش هنخش في مشاكل أنت هتقرب من سليم، تبقى دراعه اليمين، وتخليه هو بنفسه يقولك: “إنت ولي العهد بتاعي، أنت ابني إللي مخلفتوش.
ضحك مراد بخفة، لكن منى قطعت ضحكته بعينين لامعتين: متضحكش كده، سليم لو كان جاب ابن من أول ما أتجوز ماسة، كان زمان ابنه دلوقتي عنده تسع سنين، ولو كانت بنته عايشة، كانت زمانها عندها خمس سنين ونص والسنين بتعدي، بس هو دلوقتي مفيش حد جنبه أنا عايزاك تقرب منه لحد ما هو بنفسه يقولك ” أنت ابني إللي ربنا مكرمنيش بيه” فاهم يا مراد؟
هز مراد رأسه بالإيجاب، صامتا، بينما عينيه تلمعان بخليط من الطموح والارتباك.
مكتب رشدي
كان يجلس خلف مكتبه، يراجع بعض الأوراق بعناية شديدة، قلمه يتحرك فوق السطور بإمضاء سريع، ثم يعود لينتقل إلى ورقة أخرى، كانت عيناه الثابتتين وملامحه المشدودة تنطق بتركيز عميق، جلس إلى جواره أحد المديرين يتحدث معه، بدا النقاش حادا ومتوترا يبدو أن هناك معضله ولا يستطيعون التوصل فيها لحل وسط، فزفر رشدى بتعب: طب لم الأوراق وروح دلوقتي، وفكر تاني في حل، لحد ما اعمل اجتماع مع باقي المهندسين ونشوف أفكارهم.
جمع الرجل أوراقه وغادر المكتب بخطوات سريعة، وما إن فتح الباب حتى وجد سليم أمامه يدخل بخطوات واثقة، وعلى وجهه ابتسامة جانبية خفيفة توحي بالثقة والهدوء.
فقال وهو يمر بجانبه: أهلا يا سليم بيه.
أومأ سليم برأسه بتهذب، واكمل خطواته للداخل وهو يقول بنبرة ودودة: صباح الخير يا رشدي، عامل إيه؟
رفع رشدي نظره عن الأوراق لحظه، ثم خفضها ثانيا وهو يقول بفتور ونبرة ساخره، وعيناه لا تفارقان الأوراق أمامه: الأمير الصغير جاي مكتبي بنفسه، عاش من شافك، أخيرا ظهرت.
اقترب سليم وجلس أمام المكتب، وهو يقول بابتسامة خفيفة: أهو يا سيدي، كنت بمضي شوية أوراق مهمة، قولت أعدي عليك قبل ما أمشي، واشوفك وصلت لإيه؟
اتكأ رشدي إلى الخلف في مقعده، شبك أصابعه فوق المكتب، ونظر له بنظرة متفحصة فيها قدر من التحدي: وأنت عايز تعرف ليه؟
مال سليم برأسه بخفة، نبرته فيها مزيج من الصبر والود: يعني عشان لو محتاج حاجة أساعدك.
نظر له رشدي من أعلى لاسفل، وقال بنبرة لازعه: وتساعدني ليه؟! حد قالك عليا نوغه؟! ولا علشان سليم باشا الملك المنتظر لازم يحط بصماته في كل مشروع، مهو أنت بس اللى بتفهم واحنا اغبيا مبنفهمش، وعلى العموم متشكرين لخدماتك، مش محتاج رأيك في حاجه، أنا هشتغل لوحدي وهكسبها لوحدي، وهثبتلك أنت والباشا إن رشدي يقدر ياخد مشاريع كبيره ويخلصها.
ضحك سليم وضرب كفا على كف، وهو يهز رأسه بيأس: لا لا، أنت حالتك بقت صعبة يا رشدي، أنا بس كان نيتي اساعدك لو حاجه واقفه قدامك؛ لاني عندي خبرة عملية أكتر منك.
ضحك رشدي ضحكة قصيرة جافة، رفع قلمه وهو يشير نحوه: أنا لو محتاج مساعدة، أنت هتبقى آخر واحد ممكن ألجأله، وأنت عارف كده كويس، أنت بس عايز تعرف عشان لما أخلص وأكسب تقول إنك السبب اني افوز بالمناقصة، وتثبت للباشا إن من غيرك مكانش المشروع تم، بس أنا مش هديك الفرصة.
نهض سليم من مكانه ونظر إليه بنظرة فيها مزيج من الأسف والياس: اعمل اللي يريحك، اتمني لك التوفيق يا رشدي.
ثم استدار متجها نحو الباب، تابعه رشدي بعينيه، وهو يقبض على قلمه بعصبية، عض على شفته السفلى بتفكير، كان في داخله صراع عنيف بين غروره ورغبته في النجاح، فسليم محق هو لديه خبره كبيره في هذا المجال.
تردد لحظه، ثم رفع صوته بنبرة حادة يخالطها التردد: طب استنى؟ أنت ما بتصدق.
توقف سليم في منتصف الطريق، وابتسمت على شفتيه نصف ابتسامه جانبيه، التفت نحوه ببطء، على وجهه ابتسامة هادئة، وفي عينيه لمعة ممتزجة بالتعب من جنون رشدي، زفر زفرة طويلة: خير؟
أشار له رشدي بيده وهو ينهض من خلف المكتب: تعالى بس، نقعد ونتكلم بلاش قفش.
عاد سليم بخطوات هادئة، جلس من جديد وأسند ذراعه على طرف المكتب: سامعك، قول.
حرك رشدي رأسه بتردد، ثم بدأ ينقر بأصابعه على سطح المكتب: بص، أنا مش هحكيلك كل التفاصيل، بس عايزك تجاوبني على حاجة، هي المناقصة دي عشان نكسبها، الطبيعي أي عرض إحنا هنقدمه، غيرنا هيقدمه؟ فلازم يبقى عندنا حاجة مميزة!
أومأ سليم برأسه، وعيناه تتابعان كل حركة لرشدي: مظبوط.
اشار رشدي بيده بعصبية خفيفة: طيب، التكلفة وشكل المباني والسرعة في التنفيذ، دي كلها أساسيات، أكيد الكل هيعملها، صح؟
انحنى سليم قليلا للأمام، نبرته هادئة لكنها حازمة: أكيد، الدولة هتختار أقل سعر مع أفضل تصميم هندسي وأسرع تسليم.
ضحك رشدي ضحكة قصيرة وهو يميل برأسه ناحية سليم: والموضوع ده ميمشيش بالشاي بالياسمين عشان اخدها؟ بص أنا قعدت مع المهندسين واتناقشنا، وخلصنا جزء كبير من التصاميم واتفقنا على تسليم 50% منها بعد سنه من البدء، وممكن أخلص في وقت أقل بس أنا قولت أدي لنفسي سنه مساحه…
هز سليم رأسه بايجاب، وانبهار من طريقه رشدي، ثم تابع رشدي بشيء من التوتر: بس أنا خايف شركه تانيه تقدم عرض احسن مننا فنخسرها، فقولت يعني الموضوع ده ممكن نعديه بالرشوه، أنت ايه رأيك؟!
ابتسم سليم بخفة، رفع حاجبه وهو يرد بعملية وعقلانية: الموضوع ده حتى لو قدمت أسوأ تصميم هتعدي، اسمك لوحده يكفي، بس يا رشدي أنت عايز تمشيها كده؟ ولا عايز تبقى ناجح بجد؟
اقترب بجسده للأمام، وصوته أصبح أعمق: صدقني، إنك تكسب المناقصة دي أسهل حاجة اسم “رشدي الراوي” يخليك تكسب أي حاجة، وفلوسك هتفتحلك كل الأبواب المغلفة، بس النجاح الحقيقي في اللي بتقدمه بإيدك، أنت عايز إيه؟ عايز تكسب الصفقة وبس؟ ولا عايز يبقى ليك اسم في السوق الناس تخاف منه من غير “الـ راوي” اللي بيسهلك الطريق؟
ظل رشدي صامتا لثواني، نظراته تتنقل بين وجه سليم والأوراق أمامه، ثم قال بصوت منخفض متردد: عايز أكسبها، ويكون ليا اسم.
ابتسم سليم بخفة، وأمال رأسه للأمام، صوته فيه دفء وتشجيع: يبقى حاول تقدم أحسن حاجة عندك، وممكن كمان تزود عليها حاجة تبهرهم، خليك مبتكر.
صمت لحظة، أطرق بنظره كأنه بيجمع أفكاره، ثم رفع يده لذقنه، حركها ببطء بحركة فيها دهاء وتأمل: يعني مثلا، شوف الأماكن اللي محدش بيبصلها، زى العالمين وسيوة وغيرهم، الأماكن دى ممكن تتحول لأماكن جذب استثماري وسياحي، لو بس اتوفر لها بنيه تحتيه مناسبه، وشبكة طرق تسهل الوصول ليها، ابهرهم بفكره برا الصندوق بعيدا عن حل أزمة المرور وحول التراب لدهب يا رشدي.
رفع نظره نحوه بعينين فيها لمعة حماس: الدولة عايز تزود الجذب الاستثماري والسياحي في البلد الفترة الجايه علشان تحل مشكلة الدولار، فأنا كمستثمر إيه اللى يخليني ادفع فلوس في مشروع ضخم في منطقه الناس مش هتعرف توصلي فيها أصلا؟!
مد سليم يده للأمام وهو يشرح بحماس هادئ، صوته بقى أكثر تركيزا: انت بقى لو قدرت ترمي بذرة وعملت شبكه طرق تربط الأماكن دى بالقاهره، هتخلي عيون المستثمرين تلمع وهيبقوا بيتصارعوا علشان يعملوا شراكه مع الدوله لاستثمار في الأراضي دى، ودى بالتبعيه كمان هيساعد الدوله تقلل نسبة البطالة اللى زادت، وتضمن مليارات تدخلها من أراضي كانت عبارة عن شويه رمله ملهمش لازمه، تفتكر أنت لو قدمتلهم رؤيه بالشكل دى هيبقي فيه نسبة ولو ضئيلة إنك تترفض أو تخسر؟!
أومأ رشدي ببطء، وجهه بدأ يكتسب ملامح اهتمام حقيقي، صوته خرج متفكرا: يبقى أنا لازم أوفر وسيلة تخلي الناس توصل أسرع لأماكن دى.
أشار سليم بيديه بتأكيد، وهو يميل للأمام بخفة: بالظبط، خطة الدولة أصلا هي تطوير الطرق والكباري لحل أزمة الزحمة والمرور، فأنت لو ضفت بند في العرض بتاعك إنك هتربط القاهرة بالأماكن اللى محدش حاطط عينه عليها، يبقي أنت كده بتلعب صح.
ثم مال على الكرسي، رفع حاجبه وهو يكمل: ويا سلام بقى لو دخلت كمستثمر عقاري في أرض من الأراضي دى بالشراكة مع الدولة وتبني عليها مدينة سياحية، هتاخد الأرض بأقل سعر بس هتطلعلك بعد كده مليارات، أراضي الساحل لسه فيها مساحات فاضية كتير، خصوصا ناحية العالمين.
ثم انحنى للأمام، نظره أصبح أكثر جدية وخبث رجل اعمال داهيه مخضرم: يعني أنت مش بس هتخلي البلد تستفيد، لا احنا كمان هنستفيد، وساعتها، هتقدر تقول للباشا بثقة: أنا كسبت المناقصة، ومعاها كمان اتعاقدت علي شويه مشاريع استثمارية هتكسبنا مليارات من مفيش.
رفع رشدي نظره نحوه، وملامحه بدأت تلمع بالإعجاب، صوته خرج أقرب للهمس: يخربيت دماغك دي فكرة عبقرية
صمت لحظه، ثم قال وهو يرفع نظره نحو سليم: طب بقولك إيه، لو أنا عرفت الشركات اللي داخلة المناقصة، واشتريت معلومات عن العطا بتاعهم دي تبقى حركة ذكية؟ يعني أعرف على الأقل بيفكروا في ايه.
هز سليم رأسه بهدوء، وهو يضحك بخفة: هما كمان هيحاولوا يشتروا ناس من عندك علشان يعرفوا معلومات عن العطا بتاعك، أنت ممكن تعمل زيهم، بس لو تسمع رأي؟ بلاش، ركز في ورقك، وخلي بالك من الناس اللى شغالة معاك، وحافظ على سرية أفكارك، وأنا متأكد إنك هتاخدها.
صمت رشدي لحظة، ونظر له نظرة ممتنة لكنها متحفظة: ماشي هعمل كده فعلا، وحالا هجتمع مع المهندسين علشان نتناقش في الفكرة الجديدة، واللى فيهم هينجز في التصاميم هصرف له مكافأة كبيرة، وكل ما يزيد ابتكار التصاميم تزيد المكافأت.
أومأ سليم برأسه، ثم نهض، وهو يعدل جاكيت بدلته: تمام، ولو احتاجت حاجة تاني ابقي كلمني.
اومأ رشدى برأسة، ثم تساءل: هتيجي الخطوبه؟!
نظر له سليم بابتسامة: اكيد هاجي وهجيب ماسة معايا كمان، سلام.
هز رشدي رأسه بإيجاب واستخفاف من ذكر مجيء ماسة،
غادر سليم بخطوات ثابتة، بينما ظل رشدي جالسا في مكانه، ينظر خلفه بتفكير عميق، يعبث بقلمه في يده، وصوت سليم مازال يتردد في ذهنه “عايز تكسب وخلاص، ولا تبقى ناجح بجد؟
فيلا سليم ماسة، الثانية ظهرا
نرى ماسة تجلس على الأرجوحة، وتبدو متذمرة بعض الشيء، وبعد قليل دخل سليم، اقترب منها، وانحنى ليضع قبلة على خدها، وهو يردد بابتسامه: وحشتيني
عقدت حاجبيها، وابتعدت قليلا، وهي تتمتم بغضب: لا، آنى زعلانة منك.
اتسعت عينيه، وهو يتساءل بدهشه، ويجلس الكرفصاء أمامها: ينهار أبيض، ليه كده؟
ماسة بتزمر: عشان قولتلى هتروح الشغل شويه ومش هتتاخر، وبعدين قعدت كتير في الشغل وسايبنى قاعدة لوحدى.
قبل كفها بلطف: حقك عليا، بس كان عندى شغل مهم لازم أخلصه.
تساءلت بتذمر طفولي: وأنت كل يوم هتتأخر كده؟
أجابها بابتسامه: لا، مش هتاخر عليكي تاني.
ربعت يديها بغضب طفولي: برضه زعلانه منك وهخاصمك 3أيام
ابتسم وأدخل يديه في جيبه، واخرج قالب شوكولاتة كبير، وهو يردد بخبث وأسف مصطنع: لا طالما مخصماني 3أيام يبقي كده هضطر أكل الشيكولاته لوحدى، مع إني كنت جايبهالك بس خلاص بقي أنتِ زعلانه.
أخذتها منه بفرحة طفولية: لا خلاص مش زعلانة، صالحتك.
ثم طبعت قبلة على خده، وهي تنهض: هقوم أسخنلك الغدا، عقبال ما تاخد حمام.
كادت أن تغادر، لكن فجأة حملها بين ذراعيه، فصرخت بدلال: بتعمل ايه؟!
ضحك وهو يتحرك نحو الفيلا: حاسس إنك لسه زعلانة، فمحتاج أصالحك بطريقتي.
لوحت بيدها، وهى تضحك وتحاول الافلات منه: لا اتصالحت، نزلني.
اجابها ضاحكا، وهو يحكم ذراعيه حولها: لا لسة زعلانه، أنا عارف.
دخل الفيلا، وصعد الدرج حتى وصل إلى الغرفة، ليتنفس عطر عشقها، فتسكن الأصوات، ويصمت الكون، كأن اللحظة تقدس بعشقهما.
وبعد وقت.
جلس سليم على طرف الفراش، ممسكا بمجفف الشعر، بينما كانت ماسة تجلس على الأرض أمامه بين قدميه، ترتدي قميص نوم باللون الابيض، وعيناها نصف مغمضتين، والدفء المتصاعد من المجفف يحرك خصلات شعرها في انسياب هادئ.
بعد دقائق أغلق المجفف، ومرر أصابعه بخفة بين خصلاتها، فألتفتت له تمسك بيده وتقول بإبتسامة صغيرة: شكلك بتستمتع أكتر مني.
ضحك سليم بخفوت، ونظر داخل عينيها، وهو يمرر أنامله على وجنتيها: طبيعي، أميرة قلبي وروحي قدامي.
ضحكت بخجل، ثم جلست بجانبه على السرير، فاقترب منها وقال بصوت هادئ: على فكرة بكرة خطوبة رشدي.
رفعت ماسة حاجبها بدهشة: بجد؟! آنى مش عارفة أخوك ده إزاي هيخطب أصلا!
هز سليم كتفيه مبتسما: يا ستي ربنا هداه، المهم هتيجي معايا؟
اخفضت عينيها بتوتر: نفسي أجي، بس خايفة.
مال نحوها متعجبا بحنان: خايفة من إيه يا روحي؟
ماسة بصوت خافت بتوتر: خايفة أشوفهم، آني متعودة لما بشوفهم كنت بنخدمهم، دلوقتي أنت فهمتني إني مراتك، فخايفة معرفش أتعامل معاهم، وأكيد هيتنقورا عليا علشان طريقتي في الكلام، فروح أنت وانبسط، وأبقى تعال أحكيلي.
أمسك بيديها وضغط عليهما بحنان: أنا حابب إنك تبقي معايا، وإذا كان على طريقة الكلام، بسيطة، هنتدرب على شوية كلمات ومتقوليش غيرهم.
تساءلت وهي تبتسم بخفة: هنتدرب على كلمات أزاى يعني؟
ضحك وهو يرفع سبابته كأنه يشرح درس: منقولش غير خمس كلمات: “الحمد لله، شكرا، حاضر، تمام، إزيك” وأي حاجة تانية؟ نسكت.
ضحكت بخفة: أزاى يا سليم مينفعش، أفرض حد سألني سؤال فيه كلام وحكاوى ياما، مردش عليه أزاى، عيب.
ضحك بخفه، وقال محاولا اقناعها: ياستي اعتبرى نفسك صايمه عن الكلام، مش أنت بتصومي في رمضان عن الأكل والشرب، أهو أنا عايزاك بكره تصومي عن كل الكلام الا ال 5 كلمات اللى اتفقنا عليهم، وتقفي جنبي، متتحركيش، والأهم من كل ده..
أقترب منها أكثر، وقال بجدية: أي حاجة نفسك فيها، حتى لو كوباية ميه، تطلبيها مني أنا، متشربيش حاجه هناك.
تساءلت، وهي تنظرت له بإستغراب: وده ليه إن شاء الله؟
مال عليها بخبث محبب: قولي حاضر.
قلبت ماسة شفتيها: طب ما آني عايزة أفهم، هو آني حمارة؟
ضحك ومرر أصابعه على شعرها، وهو يقول بمهاوده: لا يا عشقي، أنتِ مش حمارة، بس نسمع الكلام ونقول حاضر.
نظرت له بفضول طفولي:حاضر، بس فهمني.
ضحك وأمسك ذقنها بمداعبة: ماسة، إحنا بنسمع الكلام ونقول إيه؟
قلبت وجهها وهي وترد بخضوع طفولي: حاضر.
ضحك وقرصها من خدها بمداعبة: متقلبيش وشك كده، وأضحكي يلا.
ضحكت بخجل، ثم قالت بصوت مبحوح: آني بحبك أوي يا سليم.
نظر إليها بعينين تمتلئان بالعشق، وضمها إليه بقوة، وهو يهمس قرب أذنيها: وأنا بموت فيكي.
رفع رأسه قليلا، وعيناه تتشبثان بعينيها اللتين طالما سكنهما عشقه، وبينما كانت تغرق في نظرته بذلك الشغف الخجول، اقترب أكثر، وطبع على شفتيها قبلة امتزج فيها الحنين بالسكينة، ثم تحولت شيئا فشيئا إلى قبلة عاشقة دافئة، وانغمسا معا في بحر من العشق، كأن الزمن توقف عند أنفاسهما، وتلاشى العالم من حولهما، فلم يبقَ فيه سواهما؛قلبين يكتشفان بعضهما من جديد.
اليخت المملوك لعائلات الراوي_العاشرة مساء
تعالت الموسيقى، وتراقصت الأضواء الملونة على صفحة النيل، فيما كانت الضحكات الصاخبة تملأ المكان، فتيات وشباب يرقصون بجنون، والكؤوس ترفع، والنبيذ يتطاير في الهواء كأنها لحظة بلا وعي.
كان رشدي في المنتصف، جسده يتمايل مع الإيقاع، يضحك ويصفق، وعيناه تتجولان بين الوجوه؛ نصفهم لا يعرفهم، لكن لا يهم، فهذه الليلة للاحتفال، وتوديع العزوبية.
أقترب منه سامح، وهو يمسك بكأسه ويقول بإبتسامة ساخرة: إيه يا رشدي، مش كنت رافع شعار “لا للسهر” وبتقول خلاص بطلت، وداخل على حياة جديدة ومشروع والكلام ده؟
ضحك رشدي وهو يهز رأسه، ويرد بطريقته المعهوده: دي حاجة ودي حاجة، وبعدين بلاش فصلان متخلينيش أرميك في النيل! ده أنا معزمتش زيزي مخصوص علشان مسمعش الكلمتين دول..
وأضاف بتبربر لنفسه قبل سامح: وبعدين أنا بحتفل بآخر ليلة في السنجله، ومشربتش غير كاس واحد بس، ولسة في الوعي أهو!
ارتفعت الضحكات واشتد صخب الموسيقى، وتراقصت الأضواء الملونة على وجه رشدي، فاقتربت منه فتاة ترقص بخفة، وضحكتها العالية اخترقت أذنه، فبادلها رقصة قصيرة، ثم انسحب مبتسما، وقد بدأ يشعر بالألم يتسلل إلى رأسه، والخدر يسري في جسده.
دخل غرفته في آخر اليخت، أغلق الباب، ووقف أمام المرآة، يمرر يده في شعره، أخذ نفسا عميقا، وقال كأنه يبرر لنفسه بصوت مبحوح: هو نفس واحد صغير علشان مش طالبه صداع وتعب النهارده.
أخرج الطبق الزجاجي من الدرج، وضع عليه البودرة بعناية، ثم إنحنى وأخذ أنفاسا بطيئة متتابعة، ثم أغمض عينيه، وشعر بالحرارة تسري في جسده، ضحكة صغيرة خرجت منه دون وعي، كأنها ارتياح بعد عذاب طويل.
وبينما هو غارق في نشوته، سمع أكرة الباب تغلق من الداخل، ففتح عينيه ببطء، وإذا بنورهان تقف عند الباب، ترتدي فستانا ضيقا باللون الأحمر، ونظرتها تحمل من الجرأة ما يكفي ليوقظ كل ما حاول كبحه في الشهور الماضيه.
اقتربت منه بخطوات بطيئة، ونظراتها تلتهم رجولته ألتهاما، خرج صوتها ناعما كخيط دخان: إيه يا رشروش، بقالك كتير أوي بعيد، إيه موحشتكش؟!
بلع ريقه، وحرك عينيه بعيدا عنها، كأنه يبحث عن مهرب: أنا خلاص هخطب وهتجوز.
ضحكت بخفة، وعيناها تلمعان بمكر أنثوي: طب بما إنك هتتجوز، نعتبر النهارده آخر ليلة في كل إللي فات، مش كده يا رشروش؟
تنهد وصوته بدأ يرتجف رغم محاولته للتماسك: عارفة يا نورهان، أنا مسحت رقمك علشان كده! وسامح ده حيوان علشان جابك أصلا.
ضحكت ضحكة جعلته يذوب كثلج وهي تتقدم خطوة نحوه ببطء، تحاول ان تذبب رجولته قالت بدلال يثيره: أخص عليك يا رشوش، يعني نونه موحشتكش؟
أرتبك وتراجع خطوة للوراء، وصدره يرتفع بإنفعال: يا بنتي أبعدي عني، أنا خلاص مش عايز أرجع تاني!
اقتربت أكثر، حتي أصبحت المسافة بينهما لم تعد تقاس بخطوات، وضحكت ضحكه عالية اخترقت أذنه كطعنة ناعمة، وعيناه لم تعودا قادرتين على مقاومة نظراتها المغرية، اقتربت أكثر بنظرات أكثر حرارة وهي تلمس بأظافرها على صدره بإستثارة تحاول تذبب رجولته: وحشتني يا رشروش
في تلك اللحظة، شعر أنه غير قادر على الصمود أكثر من ذلك، كأن كل وعوده تبخرت أمام عينيها، فضمها بخشونة وقبلها قبلة عميقه حاره ووووو
وأثناء ذلك، قام أحد الحراس بأخذ بعض الصور خلسة لرشدي وهو يرقص مترنحا تحت تأثير السكر، وعندما رأى نورهان تدخل الغرفة تسلل نحو النافذة الصغيرة وواصل التصوير دون أن يشعر به أحد، وأرسل المقطع سرا إلى شخص ما.
اليوم التالي
على الفراش، كان رشدي مستيقظا، يحدق بصمت في الفراغ، وجسده نصف مغطى بالملاءة البيضاء، إلى جواره كانت نورهان نائمة، شعرها منسدل على الوسادة، وظهرها عاري، في مشهد يبرز بوضوح ما حدث بينهم الليله الماضيه.
أغمض عينيه لثانية، ثم فتحهما وهو يزفر ببطء، صوته الداخلي يهمس له باللوم، وكل نبضة في صدره تذكره بخيانته لمي، وبأن ما فعله لا يمكن تبريره.
رن الهاتف فجأة، كأنه صفعة، مد يده ببطء، رأى الاسم على الشاشة “مشمش” ارتبك، وألتفت ناحية نورهان النائمة، ثم نهض بتوتر، ألتقط بنطاله من الأرض وارتداه على عجل، وأتجه إلى الحمام بخطوات حذرة.
أغلق الباب خلفه، وقف أمام المرآة للحظة، ثم ضغط زر الإجابة، وهو يقول بهدوء مصطنع: أيوه يا حبيبتي.
جاء صوتها من الطرف التاني مليء بالقلق والحنان: أنت فين يا رشدي؟ بكلمك من امبارح مش بترد، قلقتني عليك.
ابتلع ريقه، وزاد شعوره بالذنب، فأجاب بصوت منخفض: كنت سهران مع الشباب، ونمت في اليخت.
صمت قصير، بعده جاء صوتها بنبرة فيها خيبة خفيفة: وطبعا شربت!؟
ضحك بخفة، وهو يحاول التبرير لنفسه قبلها: هما كاسين يا مي، ده أنا بقالي أسبوعين مشربتش ولا كاس.
مي بهدوء حزين: طب أنكد عليك دلوقتي وأقولك مفيش خطوبة؟
رشدي بنبرة مبحوحة، وهو يمسح وجهه بإيده: أحترمي صراحتي معاكي يا مي، أنا قولتلك إني هتغير، بس التغيير بياخد وقت.
ردت وهي تتنفس ببطء: بس أنت ضايقتني، عموما أنا شوية وهاجي القصر، الميك أب آرتيست اتصلت بيا وقالت إنهم جايين القصر.
تنهد بتعب: ماشي ياحبيبتي، أعدي عليكى أخدك وأنا مروح؟
تنهدت بثقل: لأ، هاجي مع صحابي ومرات أخويا.
رد بسرعة، كأنه يحاول الهروب: طب ماشي، باي باي ياعروستي.
أنهى المكالمة وهو مطأطئ الرأس، وقف أمام المرآة، نظر إلى وجهه المرهق، حدق في ملامحه كأنه يواجه شخصا غريبا، ثم تنفس بعمق وقال لنفسه بصوت منخفض خافت: هي جت كده بقى، ومش هكررها تاني.
ثم عاد إلى الغرفة، أرتدى قميصه، وألقى نظرة سريعة على نورهان النائمة، فاتجه نحوها وايقظها بضيق، غادرا المكان معا في صمت ثقيل، والنيل في الخلفية يعكس وجوههما المتعبه، كأنه يسخر من وعود لم تحفظ.
في الجهة الأخرى.
كانت مي تقف في شرفة غرفتها، تنظر إلى الشارع بعينين شاردتين، هاتفها مازال في يدها، وصوت رشدي يرن في رأسها رغم انتهاء المكالمة.
دخلت تقى -زوجة أخاها- وهي تقول بمزاح: مسهمه ليه؟ بالذمة دى منظر واحده خطوبتها النهارده؟!
ألتفتت لها بإبتسامة باهتة: متضايقة شوية يا تقى، رشدي قالي إنه شرب إمبارح في السهرة.
رفعت حاجبها، وقالت بنبرة واقعية: ده شيء متوقع يا مي، هو قالك حقيقته من الأول، وأنتِ اختارتي، زعلانة ليه دلوقتي؟
نظرت لها مي بحزن وصمت، فاقتربت تقي وربتت على كتفها بلطف، وتساءلت: هو إللي قالك ولا أنتِ عرفتي لوحدك؟
هزت رأسها موضحة بحزن: لا، هو إللي قالي.
ابتسمت تقى وهي تقول بعقلانية: طب كويس إنه صريح معاكي، متزعليش منه كان ممكن يكذب أو يخبي وميقولش، فكون إن هو صريح معاكي دى حاجه كويسه، خليه على راحته، وإن شاء الله واحده واحده هيبطل خالص.
ابتسمت مي ابتسامة صغيرة، وقالت وهي تلتقط نفسا طويلا: ماشي يا تقى، يلا نجهز بقى، عشان الميك أب آرتيست قربت تيجي.
ضحكت تقى وقالت وهي تسحبها من يدها: تعالي يا عروسة، أفطري الأول علشان اليوم طويل، وبعدها نلبس ونروح القصر.
خرجتا معا من الغرفة، والهواء في الشرفة ظل ساكنا، كأنه يحتفظ بأثر تلك الهمسة الحزينة التي لم تقال.
……..
فيلا ماسة وسليم، السادسة مساء
في الغرفة.
كان صوت الماء المنهمر من خلف باب الحمام يملأ الغرفة، بينما جلست ماسة على طرف الفراش، ترتدي برنص أبيض، حولها تناثرت عشرات الفساتين، ألوانها تتداخل كألوان الورد، لكنها ظلت عاجزة عن اختيار واحد منها، وعينيها تلمعان بدموع صغيرة كأنها طفلة تائهة لا تعرف ماذا ترتدي.
وبعد قليل، خرج سليم من الحمام وهو يلف منشفة حول خصره، ويجفف شعره بمنشفه أخرى، وقعت عينه عليها، فنظر لها بإستغراب، وتساءل بدهشة: أنتِ بتهزري يا ماسة؟ كل دى ملبستيش؟
رفعت رأسها إليه، وخرج صوتها بخفوت فيه دلع وارتباك: مش عارفة ألبس إيه كلهم حلوين!
نظر إلى الفساتين بتمعن كأنه يختار جوهرة، وقال وهو يمد يده نحو واحد منهم بالون الأسود: ده حلو.
هزت رأسها بسرعة: لأ مش حلو.
ابتسم بإصرار: جميل يا ماسة والله، حلو ده.
نظرت له بعينين مترددتين: يعني بجد ألبسه؟
ضحك بخفة وهو يقرصها من أنفها بدلع: اه ألبسيه، يلا خلصي.
تنهدت بابتسامة مشرقة، ثم نهضت تتحرك ببطء نحو غرفة الملابس، وبعد لحظات، جلست أمام المرآة، وتركت شعرها ينسدل على ظهرها، ثم جمعته في شكل تاج بسيط، وضعت قليلا من أحمر الشفاه، وزينت خديها بلون وردي خفيف، ورسمت عينيها بخط أسود رفيع، فبدت جميلة بطريقتها الهادئة، جمال لا صخب فيه، بل سحر ناعم.
فتحت درج العطور، وأخذت تشم زجاجة تلو أخرى، وتضحك بخفوت كأنها طفلة تلعب، ثم بدأت ترش من كل العطور.
خرج سليم من غرفة الملابس مرتديا بدلته الأنيقة، بدا كالقمر في ليلة مكتملة، وقف خلفها يتأملها عبر المرآة، وقال بصوت خافت يحمل غزلا ناعما: إيه الجمال ده؟
ألتفتت إليه بخجل، ووقفت تتساءل بابتسامة خجولة: بجد شكلي حلو؟
أقترب أكثر حتى توقف أمامها مباشرة وهو ينظر داخل عينيها بعشق لا يوصف ممزوج بغزل: قمر…
مسح بأنامله على شعرها هو يمرر عينه عليها، وقال بإستغراب: رجعتي تعملي التسريحة دي تاني؟ والميك أب ده؟! كنتي بطلتي تعمليه من زمان، من بعد الحادثة تقريبا.
نظرت له بتعجب: غريبة مع إني بحبها !
هز رأسه بإبتسامة حالمه: وأنا كمان بحبها، بس ممكن نغير حاجات بسيطة.
أقترب منها، أمسك منديل ومسح برفق أحمر الخدود، فأعترضت بسرعة وهي تزيح يده بخفة: متعملش كده! أنا حاطة حبة صغيرين.
ابتسم بخبث لطيف: أنا أصلا مبحبكيش تحطي ميك أب، وبعدين مطلعة كل البرفانات دي ليه؟
ضحكت وقالت ببراءة: كنت محتارة، ريحتهم كلهم حلوة، فحطيت منهم كلهم.
رفع حاجبه مصدوما وهو يشم الهواء: كلهم!!! طب أقولك غيري الفستان دلوقتي ولا اعمل فيكي ايه!؟ بس حتى لو غيرتيه الريحة خلاص ثبتت على جلدك!
قلبت وجهها بضجر طفولي: بطل رخامة يا سليم.
رفع حاجبه مرددا: رخامة؟
هزت راسها بإيجاب، وتساءلت بطفولة: اه، هو أنت كنت بتقولي كده زمان، وآنى بسكتلك؟
ضحك بخفة، وقال وهو يقرصها من خدها: لا، كنتي بتعترضي وبطولي لسانك كمان، بس بعدين اتعودتي.
ألتفتت ماسة إلى المرآة لكي تتأكد من ملامحها، وتساءلت: بس بجد شكلي حلو؟
ابتسم سليم واقترب منها بخطوات هادئة، ثم ضمها من الخلف، لتستقر بين ذراعيه كأنها خلقت لذلك المكان تحديدا، أسند رأسه بين حنايا كتفيها، وهمس بصوت دافئ عند أذنها: قولتلك زي القمر
ثم تابع بغيره وخبث خادع، لكي تزيل الروج بلا جدال: بس يا ماسة الروج كتير أوى، ومخلي شكلك مش حلو، وأنا خايف يتريقوا عليكى هناك.
نظرت له ببراءه، وهى تمسك المنديل: بجد! طب استنى هخففه شويه.
أمسك يدها باعتراض، وهو يهمس أمام شفتيها: لا مش بيتشال كده.
وقبل أن تتساءل كيف يزال، جائتها الإجابه حين وضع شفتيه على شفتيها، وأخذها معه في قبله عاشقه طويلة، تبادلا القبلة بشغف لبعض الوقت، حتى تأكد من زوال أحمر الشفاه تماما.
ابتعد أمسك بيدها وقادها إلى خزنة الألماس والذهب الخاصة بها، فتحها وهو يقول:اختاري أي حاجة من دول.
ثم أمسك أحدهم: بيتهيألي الطقم ده حلو، إيه رأيك؟
نظرت بانبهار، وعيناها تتلألآن كأنهما تعكسان بريق العقد نفسه، وتساءلت بإعجاب: تحفة، ايه ده؟!
ابتسم وهو يقلب القطعة بين أصابعه، ورد بهدوء: ده ألماظ بفصوص من الزمرد.
رفعت حاجبيها بدهشة، ولمست العقد بأطراف أصابعها، وقالت بصوت خافت: شكله غالي أوي.
ألتف، ليقف خلفها، ويضع العقد عند رقبتها، وهو ينظر لها في المرآه: مفيش حاجه تغلي عليكى ياقطعة السكر.
ساعدها في غلق القلادة خلف عنقها، كان وجهه قريبا من عنقها لدرجة أن أنفاسه لامست بشرتها، فشعرت بقشعريرة دافئة سرت في جسدها أغلقت عينيها للحظة تتنفس إحساسا دافئا.
وحينما انتهي، ابتسم هامسا بجانب أذنها: كده بقى شكلك زي الأميرات بالضبط.
فتحت عينيها وابتسمت بخجل ممزوج بالامتنان، وكأنها وجدت نفسها من جديد في عينيه.
ألتفت وهو يقول بإبتسامة: ممكن بقي يا قطعة السكر، أكمل لبسي.
ابتسمت بدلال: ممكن أساعدك.
هز رأسه بإيجاب، وتحركا نحو التسريحة جلس على المقعد، أمسكت ماسة الاستشوار، وبدأت تُصفف شعره، وهي تضحك بخفوت، ثم ألبسته الساعة وربطت له الكرافتة بحركة أنيقة فيها أنوثة دافئة، وأحضرت حذاءه ووضعته أمامه، فقام بارتدائه، ثم رفع رأسه اليها، ووضع قبلة على جبينها: ربنا ما يحرمني منك يا ماستي الغالية.
ماسة بحب: ولا منك يا كراميل.
نهض ببطء، وقف أمامها يواجهها بعينين تلمعان بالأمل والحنين، مد يده نحوها، فوضعت كفها في كفه، فتشابكت أصابعهما بخفة، كأنها وعد جديد بينهما، وعد بالبقاء.
خرج سويا من الغرفة، كما كانا قديما، بخطوات واحدة، وقلب واحد، وابتسامة لم يعرفا منذ زمن كم اشتاقا إليها.
…….
قصر الراوي، السادسة مساء
كان القصر يعج بالحركة والضجيج، والعمال منشغلون بوضع اللمسات الأخيره علي الحديقة العلوية استعدادا للحفلة.
في إحدى الغرف، جلست مي أمام المرآة، بينما كانت خبيرة التجميل تضع لها اللمسات الأخيرة.
وفجأة، سمع طرق خفيف على الباب، فنهضت تقى لتفتح، فإذا برشدي يقف أمامها مترددا، يرتدي قميص أبيض نصف مفتوح.
قال بصوت منخفض: ممكن أدخل؟
تقى بسرعة: لا طبعا، مي لسة بتجهز.
ابتسم بخفة: طب ناديلي عليها.
عادت تقى للداخل تنادي: مي، رشدي عايزك.
تنهدت مي بهدوء، نهضت من أمام المرآة، وضبطت طرحتها، قبل أن تتجه نحو الباب.
وقف ينظر إليها للحظة، ثم قال بصوت خافت أقرب للندم: أنتِ لسة زعلانة مني؟
تنهدت، وهى تهرب بعينيها بعيدا عنه: زعلت شويه الصبح، بس دلوقتي خلاص.
أقترب خطوة، عيناه تبحثان عن عفوها: بس أوعديني متزعليش مني تاني.
نظرت له بلوم: أوعدني أنت الأول متعملش كده تاني يارشدي.
أخفض رأسه، وصوته خرج مترددا صادقا: هحاول.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، كأنها تصالح صامت، ثم أشارت نحوه بخفة: روح يلا، ألبس عشان نتصور.
أومأ برأسه، وابتسم ابتسامة باهتة: ماشي.
ثم غادر الغرفة، وبقيت تحدق في أثره بإبتسامة حيرت قلبها، لا تدري كيف استطاعت أن تغفر له بتلك السرعة.
سيارة سليم السابعة ونصف مساء
كانت السيارة تتجه نحو القصر، وضوء الغروب يتسلل عبر النوافذ، يلقي خيوطه الدافئة على وجهيهما، أمسكت ماسة بيد سليم، وعيناها تمتلئان بمزيج من الحماس والارتباك.
ألتفت إليها بإبتسامة مطمئنة، وضغط على يدها بلطف: قلقانة يا قطعة السكر؟
هزت رأسها بخفة، بنبرة أقرب للهمس: أيوة شوية.
ضم كفها بين كفيه كأنه يحادث طفلته: لا متقلقيش، إحنا اتدربنا إمبارح، وأنتِ شاطرة، وعارفه هتعملي إيه هناك، صح؟
ردت بجدية طفولية، كأنها تراجع درسا أمامه: هسمع كلامك في كل حاجة، وأقولك حاضر من غير ما أجادلك، وممشيش من جنبك، ومكلش ولا أشرب غير ما أقولك، وأنت إللي تجيبلي.
ضحك بخفة: برافو يا ماسة! وإيه كمان؟
رفعت إصبعها بفخر ظريف، وعينيها تتلألآن: وقولنا كمان هنقول خمس كلمات بس؛ الحمد لله، إزيك، تمام، شكرا…
ثم توقفت لحظة تفكر: إستنى، وكمان إن شاء الله!
ضحك وهو يومئ بإعجاب صادق: شطورة يا قطعة السكر، ولو سمعتي الكلام، هجيبلك كرتونة لاين بالكاتشب.
قالت بلهجة طفولية وهي تمط شفتيها: وهمبرجر كمان! وتسيبني ألعب في حمام السباحة براحتي، متفضلش تظرظر عليا.
ابتسم على براءتها التي تذيب قلبه: مش هتظرظر، حاضر.
رفع يدها إلى شفتيه يقبلها بخفة، وعينيه لا تفارق ملامحها التي يغمرها الحياء.
تكملة الفصل
القصر الساعة الثامنة مساء
الحديقة العلوية
تحولت الحديقة الشاسعة تلك الليلة إلى لوحة من البهجة، أضواء ناعمة تتدلى من الأشجار كأنها نجوم صغيرة، وزهور تفوح بعطرها فتملأ المكان حياة ونقاء، انتشرت الطاولات بين الممرات الأنيقة، والضيوف يتحركون في هدوء وأناقة مع الإستماع لموسيقى، بدا المكان فخما، لكن دون أي مظهر للخمر.
في المنتصف، تزينت كوشة بيضاء بالزهور الوردية، جلس عليها رشدي ومي، يده فوق يدها وعيناه لا تفارقانها، كأن بينهما عهدا صامتا.
ترتدي مي فستانا سكري اللون، حجابها ينسدل برقة على كتفيها، ووجهها يضيء بوداعة تشي بأن السعادة أخيرا وجدت طريقها إليها، أما رشدي فكان وسيما في بدلته السوداء، يفيض وقارا وجاذبية.
تفرقت عائلة الراوي على الطاولات؛ جلس عماد وصافيناز في ركن جانبي يحاولان إخفاء ضيقهما بإبتسامات خفيفة، عزت وفايزة يراقبان بصمت، وطه ومنى وفريدة يتحادثان مع الأقارب.
أما طاولة ياسين، فكانت الأكثر حيوية؛ الضحكات تتعالى، ولوجين في كامل أناقتها والإبتسامة لا تفارقها، بجورها والدتها وشقيقتها وغابت هبة عن الحضور برغم حديث ياسين معها!؟
وفي قلب ذلك الوهج، دخل سليم وهو ممسكا بيد ماسة، يسيران بخطوات بطيئة واثقة، فتلتفت الأنظار نحوهما في لحظة واحدة، كأن الزمن توقف ليمرا هما فقط.
كانت على شفتي ماسة ابتسامة صغيرة بريئة، لا تشبه من حملت يوما كل تلك الندوب، تتعلق بذراع سليم في ثبات كأنها لا ترى في هذا العالم سواه.
ساد صمت ثقيل في المكان، كأن الموسيقى نفسها خفضت احتراما لذلك المشهد المهيب.
وما إن وقعت عينا صافيناز عليهما حتى شهقت، جسدها انتفض في الكرسي، ووضعت أناملها على فمها، وملامحها تموج بين الخوف والصدمة، حتى تجمدت الكلمات في حلقها، وبقيت تحدق بهما كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة.
أما فايزة، فكانت المفاجأة كفيلة بأن تفلت الكأس من بين أصابعها، وهي تحدق فيهما بعينين متسعتين لا تصدق ما ترى، وقد تجمد وجهها بين الذهول والإنكار.
بينما تجمد عزت في مكانه، كأن الزمن أعاده إلى لحظة الذنب القديمة التي حاول نسيانها، فقال بصوت خافت، تغمره الصدمة: سليم لقي ماسة؟!
أما عماد، فجلس في مكانه ينظر إليهما بثبات ظاهري يخفي خلفه ارتباكا لا يقل عمقا عن ارتباك الآخرين، فهو كان يعلم مسبقا أن سليم قد وجدها، لكنه لم يتخيل أن يعيدها هكذا، في ليلة كهذه، وسط القصر، كأنها عودة علنية أمام الجميع، وإعلان واضح بأن ماسة عادت، وأن سليم انتصر.
شد على كفه أسفل المائدة، بينما تتنقل عيناه بين رشدي وسليم بتوتر خفي، بمزيج من الصدمة والخوف مما قد يحدث بعد هذه الليلة.
أما رشدي، فكان آخر من انتبه، ألتفت بخفة أثر نظرات الجميع، وحين رفع رأسه ورآها، تجمد في مكانه، وانسحب الدم من وجهه، فـماضيه كله وقف أمامه في هيئة تلك الفتاة التي تبتسم ببراءة، ولا تذكر شيئا.
كأن شبحا ذنوبه، عاد ليطالبه بالحساب، اتسعت عيناه، وشحب لونه، وبدت عليه رعشة صغيرة، تمتم بصوت خافت يكاد لا يسمع: مم مـماسة..؟ مستحيل…
رفرفت نظرات مي بينه وبين ماسة، لم تفهم شيئا بعد، لكن ارتباك رشدي كان كافيا لتشعر بأن شىء غير مفهوم يحدث.
أما ماسة، فمازالت تبتسم بعفوية، لا تدرك شيئا مما يدور حولها، نظرت حولها باستغراب وقالت بخفوت لسليم: هما بيبصوا علينا ليه كده؟
ابتسم سليم، وشد على يدها بحنان،قال بنبرة دافئة:
سيبيهم يا ماستي الحلوة، سيبيهم يتفرجوا على القمر إللي رجع ينور القصر.
أما مي، فمازالت نظراتها حائرة؛ ألتفتت أولا إلى رشدي، تلمح التوتر في ملامحه وهو يحدق نحو ماسة، فنظرت محل نظراته بعدم فهم، ثم عادت تنظر إليه مرة أخرى، وسألت بصوت خافت متعجبا: رشدي… مالك؟
ظل رشدي في حالة صدمة؛ قلبه يخفق بسرعة، وعرقه يبلل جبينه بتوتر، فعودة ماسة في هذا اليوم، وفي هذا الوقت بالتحديد بالنسبة له كارثة حقيقية، فلو نطقت، سيخسر مي للأبد، وسيكون هلاكه محققا، لم يخطر بباله أن سليم كان صادقا تلك المرة.
لم يعرف إن كان يجب أن يهرع ليهددها إذا نطقت سيدفعها الثمن غاليا؟!، أم يكتفي بالصمت ويتعامل مع الموقف بحذر؟ فهي تعرف الكثير.
كانت الأفكار تقذف في عقله، كأمواج عاتية لا تعرف استقرارا، يشعر بألم يعصف به في منتصف رأسه، كأن أحدا يدق بمطرقة داخل جمجمته بلا هوادة، بينما قلبه يخفق بجنون هائج، وأنفاسه تتسابق في صمت مرعب.
سؤال وحيد يتردد في عقله: ماذا يفعل؟
كل خيار يبدو محفوفا بالمخاطر، وكل حركة قد تغير مجرى الأحداث إلى الأبد.
أما باقي العائلة، فكانوا يتشاركون شعورا مشابها، فقد كان اللقاء خارج كل التوقعات، فإذا نطقت ماسة، سيكون الإعصار محققا٠
تنهدت مي بضجر من عدم فهمها لصمته وتوتره، فمدت يدها وضعتها على كتفه، وقالت بصوت هادئ لكنه مليء بالتعجب: أنت يا بني، مالك بتبص كده ليه على سليم؟
ابتلع رشدي غصته، محاولا الحفاظ على هدوءه رغم الفوضى التي تملأ قلبه: أصل… أصل سليم جه معاه مراته، ومن سنة ونصف تقريبا، مدخلهاش القصر فمستغرب.
ابتسمت مي ونظرت نحو ماسة: والله، بس ما شاء الله عليها، جميلة.
ابتسم رشدي ورد بابتسامة هادئة وحنونة يحاول إخفاء توترة: بس أنتِ أحلى.
ابتسمت مي برقة وخجل، بينما ظل رشدي غارقا في اضطرابه، غير قادر على الثبات، ثم قال فجأة بلهجة خفيفة: بقولك إيه؟! هروح الحمام.
هزت رأسها بإيجاب، وتحرك هو سريعا، فيما تقدم ماسة وسليم بخطوات هادئة وسط الحديقة، ومازالت العائلة تتابعهما بنظرات متوجسة، كأن شبح الماضي قد بعث حيا أمام أعينهم.
كل ذلك لم يستغرق سوى ثواني معدودة، مرت كدهر ثقيل، لكنها كفيلة بأن تسقط في القلوب رجفتة، وتزلزل ماتبقى من ثباتهم.
نهض ياسين، ووجهه يحمل مزيجا من الذهول والفرح حتى توقف أمامها، وقال بصوت يحمل فرحا ممزوجا بالدهشة: أخيرا ظهرتي يا ماسة،كنتي فين يا بنتي؟ وحشتينا.
رفعت ماسة رأسها نحوه بعينيها الواسعتين، نظرت له لثواني، ثم قالت بصوت هادئ يشبه الآله:تمام،الحمد لله.
ابتسم ياسين وقال بصوت لا يخلو من دهشة: مصدقتش بجد إنك هتجيبها المرة دي!
ابتسم سليم وقال مازحا: أنا علطول غير متوقع.
في تلك اللحظة اقتربت فريدة بخطى سريعة وابتسامة عريضة، وقالت بحيوية: ماسة! أخبارك إيه؟ وحشتيني!
ردت ماسة بلهجة مرتبكة تحاول أن تخفي توترها بإبتسامة صغيرة، ونفس ذات النبرة الأليه: الحمد لله، إزيك؟
سألت فريدة بإبتسامة حنونة: تمام، كنتي مختفية فين بقى؟!
نظرت ماسة إلى سليم، فلم تستطع أن ترد وهي ترمش بعينيها
بادر سليم بالرد علي فريدة، وهو يحاط باحد ذراعيه حول خصر ماسة كإيماءة حماية، محاولا إخراجها من هذا الموقف المحرج: موجودة، بس الأفضل تبعد عن القصر شوية، صح يا عشقي؟
ماسه بتأيد ابله: أممم صح.
فريدة بنبرة مرحة: بس مفيش اختفاء تاني بقى.
ماسة بصوت آلي: إن شاء الله.
ياسين بحماس: لازم نتقابل ونتغدى كلنا سوا، هتيجي يا ماسة؟
أجابت ماسة بصوت آلي: تمام، إن شاء الله.
ياسين بمرح: وتعمليلنا أكل من إيدك عشان وحشني.
ماسة على نفس ذات الوتيرة الآليه: إن شاء الله.
ياسين بمزاح: هو أنتِ مش حافظة غير جملتين.
ماسة بابتسامة: لا، أنا تمام.
كتم سليم ضحكته على طريقتها الميكانيكية كأنها روبوت، ثم غير الموضوع بدهاء؛ حتى لا يضع ماسة في مأزق، فتساءل وهو ينظر حوله متفحصا: هي هبة فين؟ مش شايفها؟!
أجاب ياسين موضحا: جاية في الطريق، أصلها عند مامتها.
هز سليم رأسه بنقد ممزوج بالأسف: برضه عملت إللي في دماغك.
ابتسمت فريدة وهي تهم بالابتعاد يبدو رأت شخصا وقالت بخفة: طب عن إذنكم.
تبادل ياسين وسليم النظرات، فقال ياسين بثبات: صدقني ده الصح، حاولنا ومعرفناش، وأنا قررت أطلقها، وفاتحتها في الموضوع وهي رحبت، فواضح إنه قرار مشترك.
اتسعت عيني سليم بدهشة: أنت بتتكلم جد؟!
هز ياسين رأسه بإيجاب قال بتوضيح: هفهمك…
وأخذ يروي له ما حدث…
في الجهة الأخرى، عند صافيناز وعماد
كان قلب صافيناز يخفق برعب، وهي مازالت تنظر إلى ماسة بقلق ثم ألتفتت إلى عماد تتساءل بصوت مرتعش: هنعمل إيه يا عماد في الكارثه دى؟
حاول عماد أن يتمالك أنفاسه لكن صوته خرج متوترا، فحتى وإن كان يعلم بعودتها لكن وجودها أمامه يرعبه: أصبري، مش هنقدر نعمل حاجة دلوقتي خلينا نفكر، أنا هتجنن.
تنهدت صافيناز تنهيدة مريرة، وامتلأت عيونها بالهلع وهي تتساءل بنبرة متوترة: دي نهايتنا؟ إزاي لاقاها؟ وإمتى؟ إزاي معرفتش؟ مش أنت مراقبها؟!
أجابها عماد بخبث مصطنع: محدش بلغني من ولاد الك*لب اللى مكلفهم بمراقبتها، بس أنا هعرف اظبطهم واخليهم يشوفوا شغلهم كويس، بس واضح إنها محكتش حاجه، لأن لو كانت حكت، كان سليم حرق.نا فورا، سليم بينتقم على طول، مش بيستنى.
عضت صافيناز أصابعها من شدة الخوف، وبدأت يدها ترتعش وهي تهمس: أنا خايفه تتكلم يا عماد.
أمسك عماد يدها المرتجفه بحنان زائف، وأخرج من جيبه حبوبا أعطاها إياها وقال بحنان مصطنع: مال ايدك بتترعش ومتوترة كده ليه يا صافي، خدي دي حباية تهديكي شوية، علشان مينفعش الناس تشوف صافيناز الراوي بالشكل دي، وبعدين أنتِ خايفه من ايه ما لو كانت هتحكي كانت حكت في السنه اللى قعدتها معاه قبل ما تهرب.
صافيناز بتنهيده، وهي تأخذ منه الحبوب: عندك حق بس برضه منقدرش نراهن على ده، ماسة اللي إحنا قعدنا نخوفها كانت بنت جبانه وكنا ماسكينها من رقابتها بأهلها، لكن اللى تهرب 6شهور وتبعت واحد علشان يسأل ويجيب لها الاخبار دى مش ماسة اللي نعرفها ولازم يتعملها ألف حساب، متنساش كمان نظرة عنيها ليا في الحفله اللي كانت قبل هروبها، ده يمكن من حظى إنها الليله دي أداها علقه وهربت، الله أعلم لو مكانش دي حصل كانت ممكن تعمل ايه؟!
ثم وضعت رأسها بين كفيها وهي تنظر لأسفل، وقالت بنبره مليئه بالتوتر الممزوج بالخوف: أنا بجد خايفه يا عماد وحاسه المره دى غير كل مره، قلبي مش مطمن.
ربت عماد على يدها بحنان مصطنع وهو يقول بخبث ويناولها كوب من الماء: عندك حق، بس ابلعي الحبايه يلا علشان تهدى شويه، وبعدين هنفكر سوا وهنلاقي حل إن شاء الله، لأن مش هنكر إني كمان خايف ومتوتر ومش هفضل تحت رحمة إنها تحكى أو متحكيش كتير.
تناولت صافيناز الحبة دون تردد، وابتلعت جرعة الماء، بينما عماد يراقبها بابتسامة ماكرة، كأن سعادته تولدت من انتقام بطيء يتلذذ به.
على إتجاه آخر عند عزت وفايزة.
كانت أعين عزت وفايزة لا تفارق ماسة وهي واقفة أمامهما.
مسح عزت ذقنه بعصبية وهو يتساءل بحدة: مش أنتم كنتوا بتراقبوها، أومال لقاها ازاى وأنتم متعرفوش؟!
تحدثت فايزة بثقة مصطنعة: المفروض عماد ورشدي حطوا حد يرصدها.
عزت باستخفاف غاضب: هو عماد ورشدى يعتمد عليهم برضه يا فايزه!؟
ثم تابع بنبرة صارمة يختلط فيها الغضب بالخوف: مكانش ينفع ماسة ترجع دلوقتي، ماسة مينفعش تتكلم يا فايزة.
فايزة محاولة أن تخفي اضطرابها: والحل إيه يا باشا؟
وضع عزت إصبعه على شفتيه كأنه يحسب الخيارات، ثم ألتقط أنفاسه ببطء، وقال بصوت منخفض محسوب يحمل شيطانية خافيه: لازم نوصلها إنها لسة تحت إيدنا، المرة دي تهديد ماسة لحمايتنا، حادثة بسيطة لحد من أهلها، وبعدها نبعت رسالة محتواها: لو فتحتي بوقك هتندمي.
ابتسمت فايزة ابتسامة باردة، وضيقت عيناها من الشر قبل أن ترد بهدوء قاسي: هعمل كده فعلا، بعد الحفلة هجتمع مع الأولاد ونشوف هنعمل إيه.
رفع عزت نظره نحو ماسة بتوتر شديد، وعيناه صارت حادة كأنها بركانًا مكبوتا يكاد ينفجر، ثم قال بنبرة قاطعة كحكم محض: البنت دي بقت خطر علينا، ولو حسينا بأي تهديد منها، لازم نخلص عليها وسرنا يموت معاها، إحنا مش قد سليم.
توقف لحظة، وتبدلت ملامحه كمن خرج لتوه من قاع مظلم، كأنه اتخذ قراره الأخير في أعماق صدره، ثم همس بصوت قاتل يحمل نذر الشر: ولا أقولك!! الكلام والمماطلة مبقوش ينفعوا، مش هينفع نستنى ونلف في نفس الدائرة، هننفذ علطول، ماسة لازم تموت.
ارتسمت على شفتي فايزة ابتسامة رضا خبيثة؛ فهذا ما تريده منذ أن تزوج سليم، فقالت ببرود قاتل لا يتحمل نقاشا: فعلا، لازم نتخلص منها، ماسة تعرف حاجات مينفعش حد يعرفها.
في تلك اللحظة خرج رشدي من المرحاض وهو يحاول أن يبدو هادئا، لكن ملامحه تخفي خوفا واضحا.
على اتجاه اخر
بينما كان سليم منشغلا بالحديث مع ياسين، مر رشدي أمام عينا ماسة، فتسارع قلبها بلا سبب واضح، كأن مغناطيسا خفيا يجذبها نحوه، ودون وعي منها، تحركت بخطوات بطيئة نحوه، خطوة بعد أخرى، وجسدها يستجيب لرغبة غامضة لا تفهمها، كأن سحرا خفيا يجرها إليه رغما عنها.
لم ينتبه رشدي إلى نظرات ماسة، ولا إلى خطواتها التي تتبعه، لايزال يحاول الهرب من تلك المشاعر التي بدأت تتلاعب بعقله منذ اللحظة التي رآها فيها تدخل الحفل برفقة سليم، لم يدرك بعد أنها خلفه، تقترب منه، خطوة بعد أخرى.
توقفت ماسة خلفه مباشرة، تترددت لحظة، ثم قالت بصوت واضح يحمل براءة غريبة وسط الزحام:
رشدي…
عرف رشدي ذلك الصوت فورا؛ تجمد في مكانه، يعرف تلك العيون، ويعرف ذلك القلب الذي ينبض على بعد خطوات خلفه.
بدأ قلبه يقرع بعنف، كأن عاصفة داخلية انفجرت في صدره، أغلق عينيه لحظة، قبض على يديه بشدة كأنه يحاول كبح شيء عنيف يصرخ بداخله، وهمس في سكون نفسه، بلهجة مقطوعة بواعيد “لو فكرت تتكلم، هعرف أسكتها إزاي”.
أخذ رشدي نفسا عميقا، ثم ألتفت نحوها ببطء،
لم ينطق، فقط ظل يحدق، كأنه يحاول أن يقرأ ملامحها، ويفهم مايدور خلف تلك العيون التي يعرفها جيدا.
اقتربت ماسة خطوة، لا تدري لماذا تريد أن تتحدث إليه، أو ما الذي يدفعها نحوه؛ فهي في ذلك العمر كانت تخافه وتكرهه، لكنها الآن لا تفهم لماذا تفعل ذلك!! كأن شيئا خفيا يجبرها على ذلك.
أما رشدي، فكان متوجسا، يتابعها بنظرات حذرة، يظن أنها ربما جاءت لتهدده أو لتفتح ما طواه الزمن.
كل ذلك حدث في ثواني
وفجأة، كسرت ماسة الصمت بإبتسامة بريئة، ومدت يديها نحوه بصدق برئ، وقالت بصوت خافت صافي: مبروك يا رشدي.
نظر رشدي إليها بدهشة، وضيق عينيه محاولا أن يفهمها، ويقرأ نواياها من وراء تلك البراءة الظاهرة،
بدت له تلك التهنئة كأنها فخ، وإعلان صامت عن بداية حرب جديدة بينهما.
ألقى نظرة على يدها الممدودة نحوه، ثم رفع عينيه إلى ملامحها لحظة صامتة، قبل أن يعود ببصره إلى يدها من جديد. فجأة، ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية، خبيثة الملامح، كأنها تخفي نوايا لا تقال، ولمعت عيناه بالمكر، فمد يده ببطء نحو ماسة، وحرك جسده بخطوات محسوبة تجمع بين الحذر والحسم، كان يفكر في نفسه ببرود ثاقب “مجرد ما اقرب منها هاهددها علشان أثبت لها إنها مجرد لعبه بين ايديا”
وما أن؛ لمس كفها بكفه، بعين لا تخفي التحدي، خطا خطوة أخرى قاطعة، كان على وشك الاقتراب عاقد العزم على فرض سيطرته وإظهار سلطانه عليها.
فجأة، شعرت ماسة بشيء يهزها كزلزال يضرب أعماقها، ارتجف جسدها، وتبعثر عقلها، إذ انفجرت في رأسها صور متسارعة، تتلاحق بلا نظام ولا معنى، سحبت يدها من كفه بسرعة، كأن لمسه أحرقها، ثم وضعت كلتا يديها على رأسها من الاتجاهين، وأغمضت عينيها بشدة، تحاول أن تتمالك نفسها، دقات قلبها تتسارع بجنون، وأنفاسها تتلاحق في اضطراب مؤلم، اشتد الألم في رأسها حتى شعرت كأن مطرقة تهوي عليها من الداخل.
وقف رشدي مذهولا، يمرر عينيه عليها ببطء متعجبا، يحاول أن يفهم مايحدث، بينما قلبه يتأرجح بين الفضول والتحفظ، بين رغبة في الاقتراب وخوف من أن ينكشف ما في داخله.
كل ذلك لم يستغرق أكثر من دقيقة.
وفي تلك اللحظة، اقترب منها سليم بخطوات سريعة وقلقة، وأسند ذراعيه إلى ظهرها المائل إلى الأمام، وصوته خرج هادئا رغم اضطرابه: مالك يا ماسة؟
كانت ماسة غارقة في صور متزاحمة تتناوب في رأسها، جسدها يرتجف بخفة، وعيناها شاردتان كأنهما تبحثان عن شيء لا تراه.
لف سليم، يده على ظهرها، واحتواها بحذر وقلق صادق: تعالي معايا، أهدي بالراحه، كل حاجة هتكون كويسة
لكن ماسة مازالت تلهث، تتشبث برأسها بكلتا يديها، تغمض عينيها بقوّة، وملامح وجهها مشدودة بالألم، بينما الصور المتداخلة تزدحم في عقلها بلا رحمة.
فهي ترى رشدي يتهجم عليها، لكن عقلها يعجز عن تفسير ما تراه؛ الصور تتلاحق أمامها كالكوابيس مشنقة، وضرب، وركض، وطعن مشاهد متداخلة تفقد فيها القدرة على التمييز بين الوهم والحقيقة.
ارتبك سليم، ونظر حوله سريعا، ثم سحبها من خصرها برفق وهو يهمس بنبرة خافتة حازمة: تعالي معايا، متخليش حد يشوفك تعبانة كده.
بينما رشدي لا يزال واقفا، ولا يفهم ما أصابها، تساءل بفضول: هي مالها يا سليم؟
رفع سليم عينيه نحوه وهو يضمها، بدأ يتحرك بها ببطء: تعبانة شوية زي ماقولتلك، يلا يا عشقي.
قبل أن تتحرك مع سليم، فتحت ماسة عينيها ببطء، ونظرت إلى رشدي بصمت غامض، كانت عيناها مملوءتين بالدهشة والخوف، مشوشتين من صور هجومه عليها التي رأتها قبل لحظات.
توقف سليم عند إحدى الطاولات الخاصة بهم، وقال بصوت مرتفع قليلا: مكي، هات ميه بسرعة.
اقترب مكي مسرعا، يحمل زجاجة مياه، يبدو أنهم أجلبوها معهم، وضعها أمام ماسة على الطاولة، لكن ملامحها ظلت مضطربة، وأنفاسها غير منتظمة، والصور لا تزال تتساقط أمام عينيها، أمسكت جبينها بيدها، وقلبها يخفق بعنف، جسدها كله يرتجف من الداخل.
مد سليم يده، ومسح على ظهرها برفق، مال نحوها بصوت مبحوح بالقلق والحنان: أنتِ لسة شايفة الصور؟
هزت ماسة رأسها إيجابا، وخرج صوتها متقطعا من بين لهاثها: مش عايزة تروح.
مرر سليم أصابعه على شعرها برفق، وساعدها على أن تنتصب قليلا، قائلا بصوت دافئ مطمئن: أهدي يا حبيبتي، وأشربي شوية ميه.
أمسكت الزجاجة بيد مرتعشة، وبدأت تحتسي ببطء، حتى هدأ نفسها تدريجيا، لكن عيونها ظلت زائغة، كأنها ترى شيئا لا يراه أحد.
اقترب مكي بقلق صادق، وقال بنبرة مرتجفة: هي مالها يا سليم؟
نظر سليم إلى مكي موضحا بصوت خافت: شافت الصور إللي بتشوفها.
ثم ألتف نحوها فجأة، وقال بنبرة حادة تحمل قلقا مكتوما: هو مش أنا قولت متتحركيش من جنبي؟!
رفعت ماسة نظرها إليه، عيناها تلمعان بالخوف، وصوتها خرج واهنا، متقطع الأنفاس: آني مش عارفة، أول ماشوفت رشدي، حسيت بحاجة بتجرني ليه، ولما لمس إيدي، حسيت بزلازل جوة دماغي، شوفت ناس، بس شكلهم مش واضح، كان فيه ضلمة وصوت حد بيتعذب، وكان فيه دم، كمان شوفت رشدي زى ما آني شيفاك كده يا سليم، بس النوبه دى كان بيخوفني.
نظر لها مكي مذهولا، وضيق عينيه بتعجب: شوفتي رشدي؟!
هزت ماسة رأسها بإيجاب، صوتها يرتعش وهي تمسك الزجاجة وتحتسي جرعة صغيرة: آه، وكمان شوفت مشنقة ودم وعربية، وحد بيتغز بالسكينه، مش فاهمة الصور دي معناها ايه؟!
ساد الصمت لثواني ثقيلة، لم يسمع فيها سوى صوت أنفاسها المضطربة، بينما نظرات سليم تجمدت عليها، يحاول أن يخفي ارتباكه خلف ملامح جامدة، بدأت عيناه تتحركان بين مكي وماسة، يحاول أن يجمع خيوط ما تقول.
تنهد ببطء وقال بصوت تغلب عليه الحيرة: أنا مش فاهم حاجة.
نظرت له بتوتر، أنفاسها مازالت متقطعة: ولا آني.
تساءل مكي في محاول لفهم المزيد: بس يا ماسة، دي أول مرة تشوفي الملامح دي صح؟
رفعت رأسها ببطء، كأنها تفتش في ذاكرتها: آه أول نوبة.
نظر مكي إليها بعينين مطمئنتين، وقال بهدوء يشبه النصح: ده شيء كويس يا ماسة، مادام بدأتي تشوفي حتى لو الحاجات دي غريبة أو مؤلمة، يبقى ذاكرتك بدأت تشتغل، لما تقعدي هنا وتقربي من الناس أكتر، الذكريات هترجع تدريجيا.
هز سليم رأسه بإيجاب، وخرج صوته فيه مزيج من الأمل والتعجب: عندك حق، أول مرة تحصلك يا ماسة وتحددي ملامح حد، بس اشمعنا رشدي؟!
مد مكي وجهه متعجبا، وتساءل بنبرة متعجبة: وأشمعنا شوفتيه بالصورة إللي قولتي عليها دي؟!
صمت سليم للحظة، ثم نظر أمامه وكأنه يحاول حل لغز غامض، وقال بصوت متزن، ونبرة تحمل مزيجا من التحليل والقلق: يمكن أول حاجة افتكرتيها كانت التجارب السيئة، ومحاولته للتحرش بيها، أو حتى مشاهد القتل إللي حكينا عنها، يمكن لما حكيتلك عن الخطف والحادثة من يومين، الذاكرة ربطت كل ده بالحاجات إللي بتوجعك، لأن كل الألم ده مرتبط ببعضه.
صمت، ونظر إليها طويلا، ثم أكمل بصوت منخفض أقرب إلى الرجاء: بس المهم دلوقتي إنك بدأتي تفتكرى، حتى لو كانت الصور مرعبة، إلا إنها الطريق الوحيد إنك تفتكري كل حاجة.
همس مكي بجدية وقد ارتسمت على وجهه ملامح التفكير: ممكن كمان يا سليم، الدكتور يساعدنا نفهم أكتر، الصور دى معناها ايه؟!
هز سليم رأسه بإيجاب، وقال بحزم هادئ: أنا أكيد هكلمه واحكيله اللي حصل.
ثم ألتفت إلى ماسة، وصوته صار أكثر دفئا، وهو يمد يده ليمسح على ظهرها برفق: عشقي أنتِ كويسة دلوقتي؟
تنفست ماسة ببطء، وعيناها بدأت تستقر قليلا: آه آني بقيت كويسة.
قبض سليم على يديها برفق، لكن بحركة تنم عن خوف دفين، عيناه تتأرجحان بين القلق والحزم: ماسة أرجوكي، متمشيش من جنبي تاني، مش إحنا اتفقنا؟
همست ماسة بصوت متردد، لكن غضب ممزوج ببراءه: أنت بتزعقلي ليه، ما آني قولتلك آني أنجريت ليه وآني مش داريه بنفسي.
تنهد سليم بغلب، وصوته يحمل مزيجا من حب واستسلام مرهق، وهو يمسك يديها بإحكام أكبر: طب يعني أعمل إيه؟ أفضل ماسكك بإيدي زي الأطفال؟ بلاش عند بقى.
قلبت ماسة وجهها بتعب وقالت ببراءه: آني أصلا عايزة أمشي، مش حابة المكان، ومخنوقة، عايزة أسلم على العروسة وأمشي.
تنهد سليم ببطء، وصوته خرج مبحوحا بمهاودة: حاضر شوية وهنروح.
لم تكن ماسة قد استعادت ذاكرتها بعد، لكن وجودها في ذلك القصر، وسط تلك الوجوه التي تلاحقها بنظرات متوترة، كان كافيا ليوقظ في داخلها مشاعر الخوف والاختناق، شيء غامض تحرك في أعماقها، كأن ذكريات مدفونة تحاول التملص من تحت الرماد، صور وأصوات تتداخل في ذهنها بلا وضوح، لكنها كلها تحدث فيها ارتجافا غريبا لا تملك تفسيره.
لقد عاشت على أيديهم الأهوال، رأت الألم والتهديد بأم عينيها، وكان رشدي بالخصوص أكثرهم قسوة وإيلاما، هو الذي هددها، وأذلها، وأوجعها حتى وهي فاقدة للذاكرة، مجرد رؤيتها له، كافية لتعيد إليها ذلك الإحساس بالرهبة، إحساسها بالاختناق كلما اقترب منها.
كانت دائما ترى في عقلها ظل أسود دائم، شبح مخيف لا ترى ملامحه، لكنها كانت واثقة أنه ليس سليم، والأن علمنا أن هذا الظل الذي يثير الرعب في داخلها، ما هو إلا صورة مختزلة لرشدي وكل أفراد عائلة سليم، فإن عقلها الباطن، حتى في غياب الذاكرة، ظل يعرفهم ويدق أجراس الخطر في صمت، كلما اقترب أحد منهم، كأن خوفها هو ذاكرتها الأولى.
على إتجاه آخر
بينما الموسيقى تملأ المكان بنغمات خفيفة، والضحكات تتناثر بين الأرجاء، اقتربت هبة تمسك بيد نالا الصغيرة، في تلك اللحظة، كان ياسين يجلس مع لوجين، يضحك معها على شيء ما، حتى وقفت هبة بجانبه
هبة بإبتسامة متصنعة: مساء الخير.
رفع ياسين رأسه نحوها بجمود: اتأخرتي ليه؟
هبة بنبرة ذات معنى: بعدين.
ثم ألتفتت برأسها نحو لوجين: أزيك يا …، لوجين مش كده؟
ابتسمت لوجين بلطف وهي تمد يدها: أيوه، أنا سعيدة إني اتعرفت عليكي أخيرا.
هبة بإبتسامة مغلفة بغيرة خفيفة: وأنا أكتر والله.
في تلك اللحظة، تركت نالا يد هبة وركضت نحو لوجين وهي تهتف بفرحة: چوچااا!
ضحكت لوجين حملتها واحتضنتها: وحشتيني يا روحي.
نالا وهي تضمها بقوة: أنتِ كمان وحشتيني خالص.
نظرت نالا لهبة: دى يا مامي دى چوچا اللى جابتلي العروسة وأحنا في المزرعه.
رفعت هبة حاجبها، وقالت ببرود موجه حديثها لياسين: مش هتعرفنا؟
ياسين بتهذب وهو يشير بيده: نهى هانم والدت لوجين، ودي أختها نغم
هبة ببرود: تشرفنا.
ابتسمت نغم ومدت يدها بأدب: إزي حضرتك.
هبة بنبرة مقتضبة، وهي تمد يدها بتحفظ: الحمد لله.
ضحكت نالا، وهي تشد على يد لوجين: لوجين تعالي نلعب.
لوجين بإبتسامة وهي تلعب في شعرها: مش هينفع علشان الناس لما نكون لوحدنا هنبقي نلعب زى ما أنتِ عايزة.
هبة بحزم: نالا عيب كده.
نالا بطفولة: أنا عايزة ألعب.
ياسين بحزم ناعم: روحي ألعبي مع ولاد عمتو صافي، مش هينفع لوجين تلعب معاكي هنا، نسمع الكلام ونقول حاضر.
نالا بإستسلام وحزن طفولي: حاضر يا بابي.
ثم نظرت للوجين، وقالت بحزم طفولي: بس بعد ما الناس تمشي هنلعب مع بعض يا لوجين، لو مشيتي هزعل.
هزت لوجين رأسها بايجاب، وغادرت نالا للبحث عن مريم وزين للعب معهم.
لمحت هبة ماسة بين الحاضرين، فرفعت حاجبها وسألت ياسين: هي إللي هناك دي ماسة؟
ياسين باقتضاب: أيوة.
هبة وهي تهم بالتحرك: طب أنا رايحة أسلم عليها.
بينما كانت هبة تقترب، لاحظها سليم، فانحنى قليلا نحو ماسة وقال بصوت خافت: إللي جاية دي هبة، مرات ياسين كانت صحبتك زمان، بس حصل بينكم موقف مش لطيف، فبقيتوا تتعاملوا مع بعض بشكل رسمي، فخدي بالك وإنتِ بتسلمي عليها، ومتنسيش الكلمات اللي حفظتهالك.
نظرت له ماسة باستغراب حقيقي، حاجباها انعقدا في دهشة:طب ليه زعلنا سوا؟! هو آني قولتلها حاجة تضايق؟
ابتسم سليم بخفة، وهمس: مش وقت استفسارات والنبي، هبقى أفهمك بعدين، بس خدي بالك، بنتها أسمها نالا، وإنتِ إللي سميتيها.
اتسعت عينا ماسة بدهشة لا تصدق: آني؟!
ابتسم سليم مؤكدا بعجله: أيوة، دي قصة طويله هبقي احكيلك بعدين قولت، مش وقت فضول.
في تلك اللحظة، اقتربت هبة بخطوات مترددة لكنها دافئة، ابتسمت بملامح يغمرها الشوق: ماسة! إزيك؟ وحشتيني.
بادلتها ماسة ابتسامة هادئة، وردت بنبرة آليه، وهي تمد ذراعيها للمصافحة: الحمد لله، إزيك؟
ابتسمت هبة بلطف: الحمد لله.
تحدث سليم، وهو يتلفت حوله، لتغير مجري الحديث: أمال فين نالا؟
لوحت هبة بيدها: راحت تلعب مع ولاد صافي، ثانية واحدة أشوفها فين وأجيبهالك
اشارت بيدها لأحدي الخادمات وحينما اقتربت، قالت لها: نادى لنالا علشان تسلم علي عمها سليم.
ثم حولت نظراتها لماسه، وهي تتساءل: أنتِ لسه زعلانه مني يا ماسة؟!
رمشت ماسه بعينيها، لا تعرف ماذا تقول، ثم قالت بآليه: لا، أنا تمام.
زمت هبة شفتيها بأسف، وقالت: طالما بتكلميني كده يبقي لسه زعلانه.
وقبل أن ترد ماسة، جاءت نالا تركض نحوهم، ففتحت ماسة ذراعيها واحتضنتها بحنان طفولي وتحدثت معها بلهجتها القديمة، فقد نسيت العالم بمجرد أن رأت نالا فهي تحب الاطفال بشدة: ناالا، إيه الچمال ده، أنتِ چميلة خااالص! عاملة ايه؟ فاكراني؟
نالا بإبتسامة واسعة: أيوة، إنتِ طنط ماسة مرات عمو سليم!
جلست ماسة على ركبتها، وهي تقبل نالا: أيوة آني ماسة، هاتي شوية سكر يا مسكرة أنتِ.
راقبتها هبة باستغراب، وعقدت حاجبيها بتساؤل: مالك بتتكلمي بطريقتك القديمة ليه؟
تدخل سليم سريعا، في محاولة للخروج من الموقف بذكاء: هي الفترة دي بتحاول تفتكر أيام زمان وتتكلم بطريقتها القديمة، علشان الثيرابيست اللى متابعين معاه نصحها بكده، وهى تقمصت الدور أوى.
هبة بعدم اقتناع: والله!! طب كويس.
أقترب سليم من نالا بابتسامة: مش هتسلمي عليا؟
نالا بإبتسامة، وهى تتجه لنحوه لتحتضنه: إزيك يا عمو سليم؟ واحشني خالص.
حملها وقبلها بحنان أبوي: تمام يا روح عمو سليم، هاتي بوسة بقى.
فقامت نالا بوضع قبله على خده، وبادلته العناق بشدة.
ماسه بغضب طفولي: خلاص بقي مش سلمت عليك نزلها العب معاها.
سليم ضاحكا: روحي يا نالا لتاكلني، اعتقد مش هتلاقي عقليه أقرب من كده ليكي تلعبي معاها.
وهنا اقترب رشدي بخطوات محسوبة، وإلى جواره حازم شقيق مي، ومعه زوجته تقى، كانت ملامحهم جميعا تحمل ابتسامة اجتماعية، فقد أرادوا التعرف بسليم وزوجته، وياسين وزوجته، بشكل يبدو وديا رغم التوتر الذي يملأ الجو.
أشار رشدي نحو ياسين أولا كي يأتي.
ثم قال رشدي بصوت هادئ، متجنبا النظر في عيني ماسة كأنها مرآة يخشى ما تعكسه: ده سليم أخويا، وإللي جاي هناك ده ياسين أخويا الصغير ودى هبة مراته.
اقترب ياسين بخطوة للأمام، يمد يده بإبتسامة رسمية: ألف مبروك.
صافحهم سليم بلطف وتهذيب: تشرفنا.
ابتسم حازم بإحترام: الشرف لينا.
أما تقى، فقالت بلطف صادق لكن فيه فضول ظاهر:
أنا من زمان نفسي أتعرف عليكم، أنتم قصتكم كانت مالية السوشيال ميديا وقتها، حتى الحادثة بتاعتكم بس ليه مجبتوش أولاد؟ آسفة لو بتدخل، بس بلاش تخلوا الحادثه تأثر عليكم.
ابتسم سليم ابتسامة حزينه، وقال بنبرة تحمل وجع خافت، وكأن كل كلمة منها لمست جرحا قديما: إن شاء الله، كل حاجة لما بتيجي في وقتها بتكون أحسن.
ثم نظر نحو ماسة، ومد يده برفق يشير إليها مبتسما بهدوء مصطنع: دي ماسة مراتي.
كانت ماسة منغمسه باللعب مع نالا ولم تلحظ شيء من هذا الحوار، وحينما سمعت صوت سليم يرتفع باسمها، رفعت رأسها بإبتسامة هادئة، وضعت يدها على ذراع سليم الممتد اليها ليساعدها على الوقوف تشبث به كأنها تستمد منه الأمان، فوقفت بجانبه احاط سليم خصرها بذراعيه يقربها منه أكثر، وأكمل بنبرة لطيفة وهو يعرفها عليهم: مستر حازم أخو مي، ودي مدام تقى مراته.
ابتسمت ماسة بهدوء وهزت رأسها بتحية صامته.
قال رشدي بسرعة وهو يحاول الهرب من وقوفه أمامها أكثر من اللازم: طب يلا، خليني أعرفكم على الباقي.
تحرك بخطوات محسوبة مبتعدا، وكأن البقاء بقربها يثقله، تابعته ماسة بنظرة خاطفة، ثم ما لبثت أن ألتفتت إلى نالا التي كانت تضحك ببراءة، فجلست إلى جوارها مرة أخرى وواصلت اللعب معها ثانية.
انتبه ياسين لطريقة حديث ماسة؛ فقد عادت للهجتها القديمة دون أن تشعر، وما زاد دهشته أنه رآها تجلس على الأرض تلعب مع «نالا» بمرح طفولي، فقد مضى زمن طويل منذ آخر مرة فعلت فيها ذلك، كانت دئما تراعي تصرفاتها أمام الاغراب، تحرص على أن تحفظ لنفسها وقارها، كي تليق بأن تكون زوجة سليم الراوي، أما الآن فكانت ماسة التي يعرفها منذ زمن، تلك الفتاة التي تضحك بصدق، وتجلس على الأرض ببساطة، دون تكلف أو حساب.
فمال ياسين تجاه سليم وهمس وصوته بالكاد يسمع وسط الضجيج: هي ماسة كويسة؟
سليم بهدوء متماسك، لكن نبرته مشوبة بالتوتر: بعدين هبقي أقولك، بس خد مراتك وبنتك بعيد عن هنا، مش عايز حد يلاحظ حاجة.
أومأ ياسين بتفهم، نظر سريعا نحو هبة، وسحب يدها برفق، وقام بحمل نالا على كتفه وغادر بهم المكان بهدوء تام.
أقترب سليم من ماسة، وهو يهز رأسه بيأس وغلب من تصرفاتها: مش اتفقنا منقولش غير خمس كلمات؟ فين الصيام اللي اتفقنا عليه يا ماسة!؟
قلبت ماسة وجهها بتزمر طفولي، وهي تتحدث بعفوية: وآني عملت ايه، ما آني فعلا مقولتش غير الخمس كلمات من أول ماجيت! بتتظرظر عليا ليه دلوقتي !؟
سليم بشدة، وعينيه مليئة بالحرص: وطي صوتك، عيب كده أحنا وسط ناس.
ماسة بضجر: هو اني اتكلمت.
في تلك اللحظة، رفع الـDJ صوته في الميكروفون:
نحب نبدأ دلوقتي بأول رقصة للعروسين، جاهزين؟
صفق الجميع، ومد رشدي يده إليها، قال بحماس، وهو يغمز بعينه: يلا بينا يا ست البنات، أول رقصة لينا.
ترددت مي لحظة، ثم وضعت يدها في يده بخجل واضح، واتجهوا الي ساحت الرقص، وقفا متقابلين، تتجنب مي النظر إليه خجلا، بينما كانت عينا رشدي تتشبثان بها بنظرة يغمرها العشق،اقترب منها ببطء، وأحاط خصرها بذراعه في حنو، فوضعت كفها على كتفه بخجل واضح، قبل أن تتشابك أيديهما في صمت يفيض دفئا، ومع أوتار الموسيقى التي انساب لحنها في الأرجاء، بدأا يتمايلان بخفة، كأن الزمن توقف احتراما لرقصتهما الأولى.
كانت مي تضحك بخفة على رد فعل رشدى كلما أخطأت في الإيقاع وضغطت على قدمه بكعب حذائها.
رشدى مازحا، وهو يغمض عينيه بنبرة متألمه: أبوس إيدك ارحمي رجلى كفايه، رجلي ورمت.
مي بخجل وبساطه: سورى يا رشدى، متوترة شويه.
رشدى بسخريه: هو أنتِ علشان متوترة بتنتقمي من رجلي أنا؟!
مي باستهجان: خلاص نوقف الرقصه لحد هنا.
رشدى مازحا: خد هنا يا محمود خلاص كسر وأنا أجبس ولا يهمك.
فابتسمت مي بخجل وواصلت الرقص معه.
فقربها رشدي اليه أكثر، وهمس قرب أذنها: بس قوليلي مبسوطة؟
ردت بإبتسامة صغيرة خجله: أكيد.
سألها بخفة وهو ينظر لعينيها: رقصتي قبل كده مع حد؟
ضحكت بخجل: أيوة مع بابا وأخواتي وخطيبي، بس هتصدقني لو قولتلك إن الإحساس معاك مختلف؟
ابتسم رشدي وهو يضم كفها أكثر: هصدقك، لإنه نفس شعوري.
ثم تابع بنبرة مازحه: بس قوليلي بتورمي رجليهم زى برضو ولا دى وصايه ليا أنا بس.
مي بغلاسه: أه يا رخم وإن كان عاجبك.
رشدى مازحا: أنا أي حاجه بتعجبني منك يا محمود، أرقص يا حودة وكسر براحتك.
ظلا يرقصان حتى خمدت النغمة، وتعالت الزغاريد والتصفيق من حولهما، فانحنى رشدي يقبل يدها وسط ابتسامات الجميع.
رفع الـDJ صوته مجددا: دلوقتي ياريت الكابلز، الموجودين في الحفله يشاركوا العروسين في الرقصة التانية.
تبادل الحاضرين النظرات، وبدأت بعض الأزواج تتقدم بخفة.
ألتفت سليم إلى ماسة وهو يبتسم بعينين تلمعان: تيجي نرقص؟
ماسة بنبرة مترددة وهي تزيح خصلات شعرها: ما آني نسيت الرقص كمان.
اقترب منها خطوة، صوته خافت ودافئ: نفتكروا سوا ياقطعة السكر.
ضحكت بخجل وهي تهز رأسها: بس متتمهزأش بيا لو لخبطت، هخاصمك ٣أيام.
نظر لها بابتسامة صغيرة دون رد، ثم شبك كفه في كفها وتحركا ببطء حتى وصلا إلى ساحة الرقص، وضع ذراعيه حول خصرها، بينما أحاطت هي عنقه برفق، وبدأا يتمايلان على أنغام الموسيقى، في البداية كانت ماسة تتحرك بتردد واضح، لا تعرف كيف تتابع خطواته، قدماها تتعثران أحيانا، لكنه كان يقودها برفق حتى انسابت معه في الإيقاع شيئا فشيئا، صارت تتمايل بخفة ونعومة، كأنها نسيت كل شيء إلا وجوده.
كانت نظراتهما تقول ماعجزت الكلمات عن قوله، كل شيء يقال بين العيون فقط، كانا هائمين ببعضهما بشدة، كأن العالم من حولهما اختفى، ولم يبقَ سواهما، يتنفسان بإيقاع واحد، ويذوب كل منهما في حضور الآخر كشمعة تذوب في ضوء من تحب.
على الطاولة.
كانت هبة تتابع ياسين بنظرة دقيقة، لاحظت نظراته العابرة نحو لوجين، لكنها التزمت الصمت،ثم فجأة أمسكت يده وقالت بخفة يسمعها الجميع: ياسين، تعالي نرقص!
نظر لها بإستغراب وهي تسحبه نحو ساحة الرقص،
وحين وقف أمامها قالت بإبتسامة سريعة وهي تلف ذراعها حول رقبته: رقصة الوداع الأخير.
نظر لها بصمت وهو يرفع حاجبيه بتعجب، لم يعتد منها على تلك الطريقة، لكنه لم يهتم، واكتفى بابتسامة صغيرة مرت على شفتيه قبل أن تتلاشى في ملامحه الهادئة.
بدأت الرقصة تجمع الأزواج في دوائر متداخلة،
تتشابك فيها الأيدي وتتمازج الخطوات على إيقاع ناعم يملأ المكان
وعلى الطاولة، جلست لوجين تبتسم برقة، يتأمل الراقصين أمامها وهم يتمايلون بخفة وتناغم، غير أن تلك الابتسامة ما لبثت أن انطفأت شيئا فشيئا، حين وقع بصرها على ياسين ينحني ليهمس في أذن هبة بكلمة أطلقت ضحكتها عاليا، تجمدت ملامحها، وتراجعت ابتسامتها، وشردت نظراتها في الفراغ، لم تفهم ما بها، كل ماشعرت به كان وخزة غامضة في صدرها، ووجعا تسلل إلى روحها دون استئذان، كأن نغمة نشاز اخترقت لحن الموسيقى لتوقظ ماحاولت نسيانه.
اقتربت والدتها وهمست بكلمات ذات مغذى: شكلهم حلو أوي، مش كده؟
أكتفت لوجين بهز رأسها بابتسامة واهنة، تخفي وراءها غصة لم تفهمها بعد.
أنتهت الأغنية، وخفتت الموسيقى، وتصاعد التصفيق من جديد.
ابتسمت ماسة بخجل وهي تهمس: كنت فاكرة إني مش هعرف أرقص.
ضحك سليم بخفة: أنتِ شطورة، كنت عارف إنك هتنجحي قبل حتى ما تمسكي إيدي.
نظرت له للحظة، بإبتسامة حب تخرج من قلبها قبل عينيها، تأملها سليم للحظات بعشق ثم سحبها ببطء قائلا: لسه تعبانه؟ نروح؟
ردت بهدوء: لا، آني بقيت كويسة، خلينا نقعد شوية لما يلبسها الدهب…
ثم أضافت ببراءة: كراميل آني عايزة أشرب حاجة ساقعة.
أومأ برأسه بايجاب، تحركا نحو طاولتهما، وطلب سليم من مكي أن يجلب زجاجه مياه غازية لماسة من خارج القصر، وبعد قليل، أحضرها مكي بنفسه، فبدأت ماسة ترتشف منها بهدوء، حينها انتبهت فريدة التي كانت تقف عند طاولة قريبة منهما.
اقتربت فريدة معلقة: إيه، مش عايزها تشرب حاجة من هنا؟ للدرجة دي؟
سليم بجمود: حقي.
فريدة بإعتراض: مش للدرجه دى يا سليم، وبعدين أنت ليه مخلتش صافيناز تعتذرلها.
نظر لها بثبات: فريدة بعدين.
رفعت حاجبيها بدهشة: هي متعرفش بالحباية؟
تمتم بحدة وهو ينظر بعيدا: قولتلك بعدين، روحي أقفي مع جوزك.
هزت رأسها بإستسلام: طيب زي ما تحب.
ثم ألتفت إلى ماسة قائلا برقة: لو عايزة حاجة تانية قوليلي.
أومأت بإبتسامة صغيرة: ماشي يا كراميل.
على الجانب الآخر
كانت فايزة تتحدث مع عزت وصافيناز بنبرة خافتة، لكن أعينهم كانت تتجه نحو ماسة بين الحين والآخر.
حتى رشدي، الذي كان يجلس مع مي، كان كلما ألتقت عيناه بوجه ماسة، يحاول أن يتصنع الهدوء، لكن ملامحه تفضح شيئا من القلق أو عدم الراحة.
همست منى لطه وهي تراقب المشهد: سليم مش مخلي ماسة تتحرك من جنبه، ولا حتى سايبها تحط لقمة في بوقها.
طه بإبتسامة جانبية: حقه خايف عليها.
هز رأسها: عندك حق، ده كلهم هيكلوها بعنيهم، حاسة فيه حاجة مش مفهومة.
طه بحسم منخفض: مش قولنا نخلينا في حالنا وملناش دعوة.
منى بتراجع: أوكيه زي ما تحب.
في تلك اللحظة، عاد الDJ يعلن من جديد بصوته الحماسي عن فقرة الشبكة.
صفق الجميع بحماس، وتقدمت فايزة بخطوات ارستقراطيه، تحمل علبة مربعة صغيرة، يلمع بداخلها خاتم وسوار من الماس، قدمتها إلى رشدي بإبتسامة وقورة، وقالت بخفة وهي تنظر إلى رشدي: يلا يا رشدي لبس الشبكة للأميرة الجديدة لعائلة الراوي.
ابتسمت مي بخجل، بينما عدل رشدي جسده في زاوية مي، وعيونه لا تفارق وجهها، مد يده بخفة وهو يخرج الخاتم، ثم البسها اياه بنظرة دافئة وطويلة كأنها تعهد صامت.
كانت مي تشعر بالخجل الشديد، وأطراف أصابعها ترتجف قليلا، نظرت للأرض للحظة تابع الأسوارة ثن العقد، ثم رفعت عينيها إليه بخجل صافي كأنها تحمل الدنيا في تلك النظرة، ثم، أمسكت يده وألبسته الدبلة برقة تشبهها.
إنحنى رشدي بعدها يقبل يدها برفق، فتفجر التصفيق والتصفير من كل جانب، وسط خجلها الذي زادها جمالا وبريقا.
صمت للحظة وهو يتأمل ابتسامتها وملامحها بعشق، قلبه يخفق من السعادة والخوف معا أقترب منها وهو يقول بنبرة حب: أنا مبسوط أوى، إننا بقينا مع بعض، كنت مستني اللحظة دي من زمان، وأكتر لحظة مستنيها هي اللحظة إللي هنبقى فيها متجوزين.
ابتسمت مي بخجل دون رد، تامل رشدي ابتسامتها التي خطفت قلبه، وقال بهمس وهو يركز النظر في ملامحها: بحبك.
أحمرت وجنتيها بشكل أكبر وهبطت برأسها إلى الأسفل.
ابتسم بخفه، واقترب منها وامسك يدها: مش ناويه تقولي لي، أنا كمان بحبك؟
رفعت عينيها ببطء وخجل، ثم همست بصوت صادق:
أنا كمان بحبك يا رشدى.
صمتت للحظة ثم تنهدت وأضافت بنبرة حب صادقة: بحبك بجد، مش عارفة ليه؟! وإزاي؟! وامتي!؟ بس بحبك، يمكن عشان أنت الوحيد إللي حاولت وعافرت علشان توصلي، واتغيرت علشاني، وبتحاول علشاني، أنا عمري ماحد حاول علشاني.
أهتز صوتها قليلا، بعينين تترقرق بالدموع: أنت عارف يعني إيه إنسان يحاول يتغير علشانك، يعمل أي حاجة علشان يقرب منك، إحساس جميل، محدش هيفهمه، غير إللي عاشه وحاسه، فيه مقولة بتقول: إيهما أجمل إنك تحب ولا تتحب؟! أنا كنت بقول الأثنين، ولسة زي ما أنا مقتنعه بكدة، بس احساس إنك تتحب إحساس جميل أوي بيهز القلب، وده إللي أنا حسيته لما أنت حبتني وحاربت علشان توصلي، حسيت بمشاعر عمرى ماحسيت بيها قبل كده، مشاعر حلوة أوي.
نظر رشدي إليها بصمت، لا يعرف ماذا يقول أمام صدق كلماتها، لكنه لمس يدها ووضع قبلة خفيفة عليها، وابتسم لها بصمت
رشدى بخفه: إيه يا عم الكلام الجامد دى، ما أنتِ طلعتي بتعرفي تقولى أهو، أومال أيه شكرا دى.
مي بمرح: أنت ديما متسرع يا رشدى، اتقل تاخد حاجه حلوه.
حاول أن يبتسم، لكن قلبه كان مثقلا بالخوف؛ كان يظن أنه سيكون سعيدا، لكن من وقت ما رأى ماسة، والخوف استبد به وجعل ذلك اليوم الذي كان ينتظره لا يستطيع أن ينعم به.
وأثناء ذلك، اقتربت نانا ترتدي فستان مثير وهي تبتسم بحيوية، وتصافح فايزة: مساء الخير! ألف مبروك يا هانم، عقبال الفرح!
فايزة بإبتسامة: الله يبارك فيكي، وعقبالك يا نانا! عايزين نفرح بيكي بقى.
ثم وجهت نظراتها الي عزت، وأضافت بسخرية: إيه يا عزت، مش هنشوف لها عريس، نانا دي عشرة؟
ابتسمت نانا، ورفعت كتفها بخجل مصطنع: لا، أنا مبفكرش في الجواز خالص يافندم، بعد إذنكم، هروح أبارك للعروسين.
تحركت نانا، وأخذت فايزة تتابع تحركها بصمت، وإذا بها تلمح هاتفها يرن، وتصلها رسالة، فتحت الصورة المرفقة؛ بالطبع صورة تجمع بين نانا وعزت.
رفع عزت عينيه نحو نانا، ثم نظر إلى فايزة وتنهد بصمت
في تلك اللحظة، بدأت العائلة تتجمع، مستعدة لألتقاط الصور مع العروسين، والفرحة تملأ المكان، نظرت ماسة لهم بابتسامة واسعة، والضحكات تتردد في الجو، فتشعر بدفء المكان وسط أجواء الأسرة.
ألتفتت نحو سليم بعينين فيهما لمعة طفولية وقالت وهي تشد على يده: سليم، عايزة أتصور معاهم.
رفع حاجبه وهو ينظر إليها بنصف ابتسامة متعبة: أبوس إيدك، الطفلة إللي جواكي أقتليها النهاردة.
اتسعت عيناها بدهشة طفولية، ثم أدارت وجهها بعيدا وهي تضم ذراعيها إلى صدرها وقالت بنبرة مستاءه: طيب.
تأملها سليم لحظة، لم يستطع منع نفسه من الابتسام، ثم أقترب منها وقال بحنان:تعالي يا طفلة، يلا نتصور.
ضحكت بخفة، وهي تسحبه من يده وتجره خلفها: يلا بسرعة!
صعدا معا نحو العائلة، ووقفت ماسة بجواره بخجل خفيف ممزوج بحماس، وهي ترفع كتفيها وتبتسم للكاميرا.
وقف الجميع في صف واحد أمام عدسة المصور، يبتسمون كما لو أن الحياة تسير على ما يرام.
اقترب المصور أكثر، وقال وهو يرفع الكاميرا: تمام كده، واحد، اتنين، تلاتة!
وفي لحظة الوميض، ارتسمت الابتسامات على الوجوه، إلا أن العيون ظلت متوترة، فمازال وجود ماسه مربك بالنسبه لهم.
كانت هبة تقف بجوار ياسين، الذى يحمل نالا ويدابعها بخفه، فتضحك بمرح بريء وهي تلوح بيديها أمام عدسة المصور، ضحك ياسين، ونظرت له هبة بإبتسامة واسعة، فبدت الصورة وكأنهم عائلة مثالية، حتى لو كان المشهد بأكمله تمثيلا مؤقتا.
قال المصور بحماس بعد أن التقطت صورة لياسين وهبه ونالا: برافو! الصورة دي هتطلع تجنن.
كانت لوجين تجلس على الطاولة، تراقب الصور وهي تضحك بخفة، لكن سرعان ما خفتت الضحكة، حين رأت صورة ياسين وهو يضحك بصدق إلى زوجته، تجمد وجهها للحظة، كأن شيئا انكسر بداخلها مرة أخري.
مالت نهي نحوها قليلا، وقالت بنبرة ذات معني: شايفة شكلهم عامل إزاي في الصورة؟ حلوين أوى.
نظرت لوجين إليها بتوتر: قصدك إيه يا ماما؟
مدت نهى وجهها باشارة لياسين وزوجته، وهي تقول بنبرة لاذعه: قصدي إن مهما كانت مشاكلهم، شوفي هي واقفة فين؟! وأنتِ فين؟! أعرفي مكانك كويس يا بنتي.
لوجين بإرتباك وعدم فهم صادق: يعني إيه؟ أنا مش فاهمة تقصدى إيه بالظبط.
ابتسمت نهى بخبث وهي تلوي شفتيها: مقصدش حاجة، بس أوقات الصورة الواحدة بتفضح أكتر من ألف كلمة.
صمت لوجين لحظة، تحدق فيهم من بعيد، كان ياسين يبتسم وهو يحمل طفلته، وزوجته تقف إلى جواره، تضع يديها على خصره وتنظر اليه نظرة رضا ودفء، تنفست لوجين ببطء، محاولة أن تبتلع الغصة العالقة في صدرها، لكنها لم تستطع، كان المشهد جميلا ومؤلما في آن واحد، وفجأة، انزلقت دمعة دافئة من عينها، ارتطمت بخدها بصمت، كأنها إعلان متأخر عن شعور حاولت طويلا أن تنكره، ويبدو أنها أخيرًا فهمت.
وبعد انتهاء الصوره تفرقت العائله، وبدأوا يتبادلون التهاني والضحكات مع المدعويين.
أقترب ياسين من الطاولة التي تجلس عليها لوجين بخطوات هادئة، وقال بحماس: چوچا ما تيجي ناخد صورة سوا؟
نظرت إليه بصمت لوهله، ثم قالت وهي تحاول الابتسام: لا، أنا أصلا همشي، علشان ماما تعبت، صح يا ماما؟
نهى بنبرة مصطنعة: آه، معلش يا ياسين.
ابتسم ياسين بخفة: لا لا، ألف سلامة على حضرتك، طب ثانية واحدة، هاجي أوصلكم.
لكن نهى ردت بسرعة، بنرة قاطعة: توصلنا فين؟ خليك مع أخوك، يلا يا لوجين بجد مش قادرة.
حاولت لوجين غصب ابتسامه على وجهها وهي تودعه قائله: بعد أذنك يا ياسين، وألف مبروك.
قالت كلمتها تلك وأخذت والدتها وأختها وغادرت بسرعة، بينما ظل ياسين يراقبهم للحظة بصمت ودهشه، كان يشعر أن هناك شيئا غير طبيعي، لكنه لم يستطع تحديده.
اقتربت هبة وهي تساءل بخبث: مشيت بدري كده ليه؟
ياسين بهدوء: مامتها تعبانة.
نظرت إليه بتهكم: لا ألف سلامه، طب هتعمل إيه في موضوع الطلاق
تنفس ياسين بعمق وقال بصوت منخفض لكنه واضح: شكلك مستعجلة أووي.
رفعت هبة حاجبيها، ونظرت إليه نظرة ثابتة وقالت بكبرياء: طبعا ده إللي كان لازم يحصل من زمان.
هز رأسه ببطء وقال بهدوء: تمام بكرة هفتح معاهم الموضوع.
هبة ببرود: ياريت بسرعة.
ثم تركته وذهبت إلي الطاولة التي تجلس عليها والدتها.
مالت والدتها نحوها وهي تتساءل: كنتي بتتكلمي مع ياسين في ايه؟
هبة ببرود: في طلاقنا.
عقدت ساميه حاجبيها باستغراب: أومال الرقص والصور دى كانت ليه؟؟ دى أنا قولت إن ربنا هداكي ورجعتي لعقلك.
هزت هبة رأسها بنفي، وهي تقول بسخرية وخبث: كنت بوصل رسالة لحد معين ووصلت.
تنهدت ساميه بيأس: ربنا يهديكي يا بنتي.
على الجانب الآخر.
اقترب سليم من ماسة هامسا بإبتسامة خفيفة: ماستي الحلوة، يلا نمشي بقي؟
زفرت ماسة بضجر لطيف: أنت مستعجل على المشيان ليه، ما تستنى لما الفرح يخلص، دى آني حتي لسة مسلمتش على العروسة.
هز سليم رأسه بإيجاب: طيب نسلم ونمشي، علشان متتعبيش
هزت راسها نافيه بابتسامه: آني كويسه أهو ومش تعبانه.
سليم بنبرةٍ هادئة لكنها حازمة: يلا يا ماسه بقي بلاش دلع كفايه كده، هنروح نسلم على العروسه هتقوليلها “ألف مبروك يا مي”، وبس، تمام؟
هزت رأسها بايجاب على مضض: طيب.
تحركا سويا نحو العروسين حتى توقفا أمامهما،
ابتسمت ماسة قائلة بنبرة آليه مقلده لنبرة سليم: ألف مبروك يا مي.
مي بابتسامه لطيفه: الله يبارك فيكي يا ماسة.
ثم نظرت ماسة نحو رشدي وقالت بتهذب واضح: مبروك يا رشدي.
أومأ برأسه في صمت، بعينين لا تعرفان إن كانتا تشكران أم تهربان.
سليم بإبتسامة خفيفة: مبروك يا مي، لو زعلك في يوم كلميني على طول.
ضحكت مي وهي تنظر لرشدي بحب ظاهر: بس أنا متأكدة إنه مش هيزعلني أبدا.
ابتسم سليم بهدوء: أتمنى لكم حياة سعيدة من قلبي
ثم وجه نظره نحو رشدي بإبتسامة: مبروك يا رشدي.
فتح سليم ذراعيه نحو رشدي، فتردد الأخير للحظة، ثم اقترب منه وعانقه عناقا سريعا، بدا كأنه أول عناق بينهما منذ سنوات كانت عين رشدي تدور بإستغراب وهو بين احضان سليم يشعر بشيء غريب ربما تأنيب الضمير ربما ندم ربما كره لا يعرف.
سليم وهو يبتعد: بعد إذنكم.
ثم ألتفت إلى ماسة وهمس: يلا بينا.
ماسه بعفويه: سلام يا رشدى، سلام يا مي.
تحركا معا وسط الحديقة المضيئة بالأضواء والضحكات، لكن ما إن وصلا منتصف الممر حتى ظهرت أمامهما فايزة.
فايزة بإبتسامة مصطنعة وعيون تلمع بخبث: أخيرا شوفناكي يا ماسة، سليم كان مخبيكي عننا ولا إيه؟
ابتسمت ماسة بأدب، وردت بنفس ذات النبرة الآليه: إزيك؟
فايزة وهي تلمح لها بنظرة غريبة: الحمد لله.
ثم تابعت بتساؤل: هتيجوا القصر ولا لأ؟
تدخل سليم سريعا، قائلا بحسم: لا، أحنا مرتاحين في فيلتنا.
رفعت فايزة حاجبيها بتساؤل: أنت ماشي ولا ايه؟
سليم بهدوء: أيوه، سلام.
فايزة بنبرة فيها لسعة لا تخطئها الأذن: مش هتخلي صافيناز تعتذر لها زى ما قولت؟
سليم ببرود ظاهر وهو يحدق فيها بثبات: عايزة تبوظي خطوبة إبنك وتخليها فضيحة على مستوى البلد ولا ايه؟ مش وقته، سلام.
ثم أمسك يد ماسة وغادر معها ببطء ثابت، بينما ظلت فايزة تتابعهما بعينيها، وبمجرد أن غادرا، عادت الأصوات ترتفع من جديد، والضحكات تنتشر في المكان، كأن الجميع تنفس راحة بعد خروجهما، لكن تلك الراحة لم تكن إلا قشرة فوق جرح مازال ينزف.
💞________________بقلمي_ليلةعادل
سيارة سليم وماسة، الساعة الحادية عشرة مساء.
ماسة مستندة برأسها على ذراع سليم، نظر إليها سليم بطرف عينيه، وتساءل بابتسامة خفيفة: بعد الحفلة دي كلها، مش حاسة إنك افتكرتي أي حاجة؟
رفعت رأسها عن كتفه ببطء، وقالت بصوت ناعم متردد: لا خالص، هي بس الصور اللي شوفتها دي، كان شكلها غريب وخوفتني، بس سمعت كلامك ومحبيتش أركز فيها، شوفت رشدي، ودي أول مرة أشوف ملامح حد.
سليم بهدوء وهو يراقب ملامحها بعينين متفحصتين: ماهو عشان كده بسأل رشدي بس؟ متأكدة؟!
هزت رأسها إيجابا: أيوه يا سليم، رشدي بس، أول ما سلمت عليه، ولمس إيدي حسيت إن في صفارة جوه وداني، وصوت صريخ وحاجات تخوف، وشوفته وهو بيتهجم عليا.
ارتسمت على وجهه ملامح قلق خافتة، وتساءل وهو يحدق فيها بنظرة مترددة: وأنا؟ مشوفتيش أي حاجة تخصني؟ ولا حتى وأنا بخوفك؟
نظرت له باستغراب، ثم ابتسمت بخفة مالت نحوه وتضغط على كفه بدفء: لا يا كراميل، وبعدين أنت هتخوفني ليه؟ ده أنت طيب خالص…
وضعت قبلة صغيرة على خده، ونظرت له بابتسامة مطمئنة: وبعدين أني خلاص قلبي حاسس إني هفتكر قريب مادام شوفت رشدي، مش أنت قولت إن قصتنا بدايتها كانت معاه؟
ابتسم بتعب وهز رأسه موافقا، رغم أن الضيق كان واضحا في عينيه، سرعان ما انطفأت ابتسامته، واشتد ضيق صدره، كأن كلماتها طعنته دون قصد، ظل صامتا ينظر أمامه، ويده مازالت بين يديها، فيما يتردد في ذهنه صداها الموجع: “بتفتكر الكل، إلا أنا!”
تسلل الغضب إلى صدره يحاول كبته، لكن عينيه فضحتا وجعه، أدار وجهه نحو النافذة، وبقي صامتا طوال الطريق، والغضب يمتزج بالحزن والخذلان، بينما كانت ماسة تبتسم بهدوء، تظنه متعبا، غير مدركة أن قلبه كان يصرخ وجعا.
منزل لوجين، الحادية عشرة مساء
دخلت لوجين بخطوات متعبة، تتبعها والدتها وشقيقتها، كان الحزن واضحا على ملامحها، رغم محاولتها إخفاءه بكل ما أوتيت من قوة.
لوجين بنبرة مكتومه: أنا هدخل أنام.
انتبهت نغم لها وقالت بدهشة: مالك يا بنتي؟ من أول ماخرجنا من الحفلة وأنتِ عاملة كده، كأنك شايلة الدنيا فوق دماغك!
لوجين بصوت خافت متعب: مفيش حاجة، أنا كويسة، بس محتاجة أنام.
اقتربت منها نغم، باهتمام وقلق: مالك يا جيجي؟!
نهى بهدوء فيه شيء من الحزن: سيبي أختك يا نغم،
ثم وجهت نظرتها نحو لوجين: روحي ارتاحي يا بنتي، وأنا متأكدة إنك هتعرفي تختاري الصح.
نظرت لوجين لولدتها لحظة، ثم هزت رأسها بصمت واتجهت إلى غرفتها، تبعتها والدتها وشقيقتها بنظرة قلقة.
نغم متسائله: هو في إيه يا ماما؟
نهى بتنهده: مفيش يا نغم، بس أختك ماشية في طريق آخره وجع، وأنا خايفة عليها.
غرفة لوجين
دخلت بخطوات بطيئة، وألقت حقيبتها على الفراش جلست عليه متساقطة كأوراق الشجر في فصل الخريف.
مررت يديها على وجهها بتعب، وغرقت في صمت ثقيل، كلمات والدتها تتردد في رأسها كصدى بعيد، تنهدت تنهيدة طويلة خرجت من أعماقها، ثم غطت وجهها بكفيها، بدأت الدموع تهبط من عينيها، حتى تتسللت من بين أصابعها وقلبها يخفق بعنف خلف صدرها، وأنفاسها تتسارع، وضعت يدها على صدرها كأنها تحاول الإمساك بوجع لا يحتمل.
عادت إليها صور الحفلة؛ ياسين وهو يضحك مع هبة، يرقص معها، يحمل ابنتهما الصغيرة.
شعرت بغصة تخنقها، كأن الألم يمزق أحشاءها، وجع الحب الممزوج بالغيرة، أخيرا بدأت تدرك الحقيقة التي كانت تهرب منها: لقد وقعت في حب ياسين، وقعت في حب مستحيل.
ارتجفت، ثم أجهشت بالبكاء، التقطت وسادتها، دفنت وجهها فيها لتخنق صراخها المكتوم، رفعت رأسها بعدها قليلا، ضمت الوسادة إلى صدرها وهمست لنفسها بصوت مبحوح: أنا عملت إيه؟ إحنا إزاي وصلنا لكده؟ ياسين مكانش أول راجل يبقى قريب، أنا عندي أصحاب كتير! يمكن قربنا من بعض شوية، بس إزاي حبيته؟ وإمتى؟أنا إزاي أعمل كده؟ إزاي حصل كده؟إزاي أحب واحد متجوز؟! أنا اللي كنت دايما بكره النوع ده من العلاقات، أنا اللي كنت بلوم الناس اللي تقع في الحفرة دي، وأنا دلوقتي وقعت فيه!!
ثم أغلقت عينيها بشدة، كأنها تريد أن تطفئ ما اشتعل في داخلها، لكن الحريق ازداد اشتغالات.
ضربت كفها على الفراش بحدة، ودموعها تنهمر أكثر،
همست لنفسها بتعجب: أنا إزاي مخدتش بالي؟ إمتى حصل ده؟ كان مجرد اهتمام، وكلام عادي! مجرد اخوه وصداقه بريئه، وأنا كنت فاكرة إني عاقلة! إزاي قلبي خانني بالشكل ده؟
نهضت من مكانها تتحرك في الغرفة كأن الأرض غير ثابتة تحتها، كان قلبها يخفق داخل صدرها كأنه يصرخ، تارة تنظر في المرآة، فتشاهد وجهها وتزداد كرها لنفسها.
شهقت وبكت بحرقه: أنا إزاي حبيت راجل ليه بيت؟ ليه زوجه؟ وليه بنت؟ أنا كنت فين؟ كنت عامية؟!
رن هاتفها فجأة نظرت إلى الشاشة كان ياسين، تجمدت في مكانها، مدت يدها بتردد، ثم سحبتها سريعا كأنها لمست جمرة نار، تنهدت بحرقة، ضغطت على الزر الأحمر وأغلقت المكالمة، ثم أغلقت الهاتف تماما وألقته بعيدا عنها، كأنها تهرب من شيء لم تتوقع ان سيحدث.
سارت في الغرفة بارتباك، تمسك رأسها بكلتي يديها، تهمس لنفسها بين شهقة وأخر: أنا مش قادرة أعيش بالإحساس ده! يا ريتني ماعرفتك، ياريتني ما شوفتك!
اقتربت من الحائط لحظة، وضربت جبينها عليه بخفة، تحاول تطفئ وجعا داخليا لا يطفأ، ثم انزلقت ببطء إلى الأرض، وجلست تبكي بحرقة، كتفيها تهتزان، وصوتها يختنق بين النحيب والأنين.
مرت لحظات طويلة وهي على هذا حالها، كأن الوقت تجمد حولها، ثم فجأة، رفعت رأسها وعيناها تلمعان بدموع مختلطة وتصميم غامض، همست بصوت مبحوح بالكاد يسمع: مفيش غير حاجة واحدة، هي اللي لازم تتعمل، وهعملها.
ثم انحنت، أسندت رأسها على ركبتيها، وظلت تبكي بصمت موجع حتى غلبها التعب.
فيلا سليم وماسة، الواحدة مساء
غرفة النوم
وقف سليم في الشرفة، سيجارة بين أصابعه تشتعل ببطء، والدخان يتصاعد أمام وجهه كغلالة تخفي اضطرابه، ملامحه متوترة، حاجباه معقودان، وصدره يعلو ويهبط بثقل واضح.
كان الضيق ينهش داخله، فما حدث في الحفلة مازال عالق في ذهنه كطعنة خفية، يثقل صدره بالضجر؛ إذ لم يستوعب، لماذا لم تتذكره؟ لم تتذكره ولو للحظة واحدة، رغم كل الصور التي تراها، رغم كل ما عاشته معه، بل تذكرت رشدي من مجرد لمسة يد!! ومن رشدي حتى تتذكره؟ وهو زوجها، حبيبها، كيف استطاعت ذاكرتها أن تحذف كل ما بينهما وتبقي سواه؟
أيا تري عقلها يعجز عن استحضاره إلى هذا الحد؟ أم أنها أرادت أن تنساه؟ هل بلغ بها الكره أن تقصيه من ذاكرتها تماما؟
لقد مرت عشرة أيام دون أي تقدم، حتى بعد أن جمعتهما علاقة زوجية لأكثر من مرة، ظلت تنظر إليه كما لو أنه رجل جديد في حياتها.
نعم، هي أحبته من جديد، وهو يدرك ذلك ويشعر بيه في كل ابتسامة خجولة، في كل لمسة مترددة
لكن هذا ليس ما يريده.
إنه لا يريد حبا يولد من البداية، بل يريدها أن تتذكره، وهذا بالضبط ما كان يقتله ببطء، أن تحبه ولا تتذكره، أن يراها تبتسم له بنفس الملامح، لكن بدون ذاكرة، سحب نفسا آخر من سيجارته، وعيناه تلمعان بوجع صامت.
وأثناء ذلك خرجت ماسة من الحمام وهي ترتدي قميصا قصيرا يعلوه روب حريري، بدا عليها غاية في الجمال، وقد تركت شعرها منسدلا خلف ظهرها.
ولما أبصرت سليم واقفا في الشرفة، ابتسمت بخفوت، ثم أسرعت نحو التسريحة، وضعت قليلا من العطر الذي يفضله على عنقها ومعصميها، ثم لونت شفتيها بحمرة ناعمة، قبل أن تتجه نحوه بخطوات هادئة.
اقتربت منه، وأحاطت خصره بذراعيها، وأسندت رأسها على ظهره بإبتسامة دافئة، ارتسمت على شفتي سليم ابتسامة خفيفة، كأن شيئًا من الراحة قد عاد إليه، فوضع يديه فوق يديها في هدوء.
تساءلت بصوت منخفض وهي ترفع رأسها قليلا: بتعمل إيه يا كراميل؟
حاول أن يخفي اضطرابه: لسة صاحية؟ افتكرتك نمتي.
ضحكت بخفة، ثم عادت لتضمه برفق وتضع رأسها على صدره: مقدرش أنام وأنت صاحي، تعالى ننام سوا.
رفعت رأسها لتنظر إليه بعينين حانيتين: وبعدين، مينفعش تشرب سجاير، دي غلط ومضرة لصحتك، إزاي سبتك تشربها؟ آني المفروض كنت أخليك تبطلها زي ما بطلت الخمرة.
تنهد بعمق وهو يشيح بوجهه عنها، صوته خرج متعبا: ماسة، معلش أنا عايز أبقى لوحدي شوية، روحي نامي.
اقتربت أكثر وهمست بدلال طفولي: وآني مش عايزة أنام، عايزة أقعد معاك.
حاول ضبط صوته: روحي شوفي فيلم، سيبيني لوحدي، محتاج أهدى شوية.
نظرت إليه بعينين مملوءتين قلقا: مالك يا سليم؟ أنت زعلان مني؟ من إللي عملته في الحفلة؟ آني أسفة.
زفر أنفاس متقطعة، وقال بنبرة مبحوحة تخنقها الغصة: ياستي مش زعلان، أسمعي الكلام بقى، عايز أكون لوحدي.
اقتربت منه أكثر، مدت يديها تلفها حول عنقه وهمست بدلال: طب تعال، أعملك فشار ونشوف فيلم سوا؟
رفع عينيه نحوها بغضب مكبوت: هو أنتِ مبتسمعيش الكلام ليه؟ قولتلك عايز أقعد لوحدي! روحي نامي أو شوفي هتعملي إيه.
تجمدت للحظة، هبطت يدها ببطئ وهمست بصوت خافت مكسور: إني آسفة، خلاص على راحتك، آني هروح أنام.
ابتعدت بخطوات بطيئة وملامحها تذوب بين الخجل والحزن، جلست على طرف الفراش، عيناها زائغتان نحو الشرفة حيث يقف سليم، لكنه لم يلتفت إليها.
كان الصمت يملأ الغرفة، لا يسمع فيها سوى أنفاسها المتقطعة من الحزن، فهي ظنت أنه غاضب منها، وأنها السبب فيما يشعر به، فازدادت حزنا، وجلست تبكي بصوت مكتوم، تمددت على الفراش وعيناها تدمعان حتى غلبها النوم من شدة التعب والبكاء.
في الخارج، ظل سليم واقفا في مكانه، لم يخطر بباله لحظة أنها تبكي، أو أن كلماته جرحتها، كان مايزال غارقا في اضطرابه، أفكاره متشابكة، قلبه مثقل بالضيق، يشعر بأن شيئا بداخله ينهار كلما تذكر ماحدث.
أشتعل غضبه فجأة، فمد يده إلى الهاتف وأتصل بطبيبه النفسي بصوت مرتجف من العصبية: أنا لازم أجيلك دلوقتي!
حاول الطبيب تهدئته: يا سليم الساعه 3الفجر، تعالى بكرة.
لكنه صرخ بعناد وغضب: قولت هاجي يعني هاجي! عشان متجبرنيش أجي أكسر العيادة على دماغك، أنا سليم الراوي! متنساش نفسك.
صمت الطبيب لحظة، وقد أدرك من نبرة صوته أن سليم خرج تماما عن نطاق السيطرة، فقال بتوتر: خلاص يا سليم، تعالى.
أما ماسة، فقد كانت قد استسلمت للنوم، دموعها مازالت تبلل وسادتها، لا تدري أنه في تلك اللحظة، لم يكن يفكر بها أصلا، بل كان يحارب عاصفة بداخله لا تهدأ.
خرج سليم من الشرفة بعد لحظاتٍ من الصمت، نظر نحو السرير نظرة عابرة، رآها نائمة بهدوء، ظن أنها استسلمت للنوم منذ وقت طويل، لم يقترب منها، ولم يلحظ التعب على ملامحها ولا الإحمرار في عينيها من البكاء، فقط شعر بثقل غامض في صدره، كأن بينهما مسافة لا ترى ولا تختصر.
مد يده إلى المفاتيح الموضوعة على الكومود، ألتقطها بصمت، ثم ألقى نظرة أخيرة عليها دون أن يطيل، وخرج من الغرفة بخطوات بطيئه مضطربة، يغلق الباب خلفه برفق، وكأنه يخشى أن يوقظها، أو يوقظ في نفسه ما يحاول الهروب منه.
سيارة نانا، الثانية عشر بعد منتصف الليل.
كانت تقود سيارتها عائدة إلى المنزل بعد انتهاء خطوبة رشدي، وهي تغني بمرح، والسعادة ترتسم على وجهها، أصابعها تضرب المقود بإيقاع الأغنية.
وفجأة، ظهرت سيارتان جيب سوداوان من العدم، تقتربان بسرعة، كأنهما خرجتا من بطن الليل أمامها.
ضغطت على الكلاكس مرات متتالية، ثم تمتمت بصوت مرتعش: إيه ده؟ هما ماشيين ورايا ليه؟
بدأت السيارتان في التضييق عليها، واحدة من اليمين، والأخرى من اليسار، ارتبكت يدها على المقود، وصوت أنفاسها أرتفع، وقطرات العرق تسيل على جبينها رغم برودة المكيف.
صرخت وهي تحاول الإنحراف بالسيارة: أبعدواااا!
لكنهم لم يتراجعوا، حاولت زيادة السرعة، العجلات تصرخ على الأسفلت، والهواء يصطدم بزجاج السيارة كصفعة، كانت تحاول النجاة، وملامح الهلع ترتسم على وجهها، لكنهم اصطدموا بها من الخلف بقوة، فاهتز جسدها وارتطم رأسها بالمقود، لم تفقد وعيها، لكن كان هناك خدش بسيط نزف عند صدغها.
توقفت السيارة بعنف، وقبل أن تستعيد توازنها، سحب الباب فجأة، وامتدت يد غليظة جذبتها بعنف إلى الخارج، كانت تقاوم، تلوح بيديها في الهواء، تصرخ بصوت ممزق: إنتو مين؟! وعايزين مني إيه؟!
لم يجبها أحد، كمم أحدهم فمها، ووضع عصابة سوداء على عينيها، أنفاسها تتسارع، وصوت دقات قلبها يملأ الصمت داخل السيارة التي تحركت من جديد، مسرعة نحو المجهول.
مرت الدقائق كأنها ساعات، شعرت بالسيارة تتوقف، تحركت معهم وهي تقاوم، أزال أحدهم العصابة عن عينيها، فانكشفت أمامها صحراء واسعة تمتد بلا نهاية، تتخللها حفرة عميقة تبدو كفم مفتوح ينتظر فريسته.
صرخت بصوت يتردد في الفراغ: أنا فين؟! إنتو مين؟!
لم يجبها أحد، بعد لحظات، توقفت سيارة أخرى على بعد أمتار، مرسيدس لامعة، خرجت منها أمرأة بخطوات بطيئة واثقة، يسبقها ظلها الطويل تحت ضوء المصابيح الخافت.
كانت نانا تنظر إليها، جسدها يرتجف، وشفتيها ترتعشان وهي تحاول التعرف على الملامح القادمة نحوها، وحين اقتربت المرأة بما يكفي، خيل إليها أن الأرض تميد من تحت قدميها.
همست بصوت مبحوح، بالكاد يخرج من حلقها الجاف: فايزة هانم؟
وقفت فايزة أمامها مباشرة، نظرتها جامدة لا تقرأ، مالت قليلا للأمام، وصوتها خرج هادئا، باردا كأن لا شيء يهزه:إزيك يا نانا، لعبنا كتير، وضحكنا أكتر…
ثم رفعت يدها ببطء، أزاحت خصلة شعر علقت على وجه نانا المرتجف، وابتسمت ابتسامة قصيرة قبل أن تهمس: تعالي بقى، نبدأ الجد.
تفتكروا فايزة هتعمل إيه؟!
- يتبع.. (رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.