رواية قيود تنتظر الغفران – الفصل الأول
الدار كلها مقلوبة.
المأذون قاعد على الحصيرة، ماسك القلم والورق.
رجالة العيلة متصدرين الصف الأول: عم يوسف الكبير “عبد الجليل”، والشيخ “مبروك”، وحسين قاعد في الركن، عينه تلمع زي عيون الثعابين.
يوسف واقف، طويل وعريض، لابس جلابية كحلي، بس وشه مصفر كأنه راجع من جنازة مش فرح.
هاجر في النص التاني من المجلس، قاعدة بين ستات العيلة، طرحتها على وشها، إيدها بتترعش.
المأذون بصوت مسموع:
يا أستاذ يوسف أحمد عبد الرحيم، بتقبل جوازك من الست هاجر عبد الجليل، على كتاب الله وسنة رسوله، بالمهر المسمى بينكم؟
يوسف بلع ريقه، صوته مكتوم.
– …
الكل بص له.
عمه عبد الجليل ضرب عصيته في الأرض بقوة:
واه واه ما تنطق يا يوسف! ما تفضحناش قدام الخلق اكديه….. قول ياولد
يوسف رفع راسه، عينيه مغمورة دموع مكبوتة، وقال بصوت مبحوح:
… ايوا بقبل…
صوت صفير من حسين، حاول يغطيه بكحة.
المأذون حرك راسه ناحية هاجر.
وإنتي يا هاجر عبد الجليل… بتقبلي جوازك من يوسف أحمد عبد الرحيم، على كتاب الله وسنة رسوله؟
هاجر حست الدنيا بتلف.
دموعها نزلت، قلبها بيصرخ “لا”، لكن حواليها الستات بيزغدوا فيها:
قولي قبلت يا بت… قولي قبلت… متركبيناش العار…. والله ابوكي يطوخك عيارين يطلع روحك….. انطقي يابت وخلي الليله تعدي على خير..
صوت أمها جه من ورا:
هاجر! ما تعمليش فضيحة انطقي يابتي…. احنا بنعرف الصوح فين اكتر منك…. اسمعي الكلمه وانطقي..
هاجر كتمت شهقتها، وقالت بصوت متقطع:
– ق… قبلت.
الدنيا اتقلبت.
زغاريد ملت السما، الستات يهللوا، الرجالة يضحكوا ويشدوا في إيد يوسف.
يوسف واقف زي الصنم، ما فيهوش روح.
هاجر نزلت وشها أكتر وأكتر، طرحتها غطت نص وشها.
حسين ابتسم وهو بيبص ليوسف:
ألف مبروك يا ابن عمي… إن شاء الله خير.
وتبقى زواجه العمر كله…. مش زي اللى فاتت اكديه….
يوسف بص له نظرة نارية:
إن شاء الله خير…وملكش صالح ياحسين بزواجتي اللى فاتت ولا تجيب سيرتها علشان مزعلكش برده فعلي عليك سامع ولا لاه….
المأذون كتب الورق، وقفل الدفتر.
مبارك لكم عليكم… على بركة الله.بالرفاء والبنين باذن الله..
يوسف ما ردش.
مشي ناحية الباب بخطوات تقيلة.
هاجر قامت ببطء، رجليها تتلخبط من الخوف، مشت ورا يوسف.
بره الطريق للدار كان مزين فوانيس وورود، بس يوسف ما شافش حاجة، ولا هاجر شافت.
كانوا ماشيين جنب بعض، ساكتين، بينهم جدار صامت.
يوسف دخل الدار، بص للحوش الفاضي وقال بحدة:
اتفضلي روحي أوضتك وفضي حاجتك وانا هكون بالاوضه التانيه داي…..
هاجر وقفت، قلبها بينط من مكانه.
احم…. أوضتي؟!
يوسف: أيوا… الأوضة اللي كانت بتنام فيها سلمى… بقت أوضتك دلوك…
كلمة “سلمى” كسرت قلبه قبل قلبها.
هاجر بصت للأرض، دموعها نزلت.
دخلت الأوضة وسابت نفسها على السرير، غطت وشها بالطرحة، وبكت بصوت مخنوق.
يوسف دخل أوضته التانية، رمى نفسه جنب السرير، حط راسه في كفه، وقال بصوت واطي بيتقطع:
يا سلمى… سامحيني.ما كنتش رايد… والله ما كنت رايد…… هما اللى غصبوا عليا وضغطوا….
الليل ساكن في دار يوسف، والهوى ماشي ببرود بين جدران الطين.
يوسف وهو ممدد على حصيره في أوضته، عينه معلقة في السقف.
دماغه مشغولة، والليلة دي بالذات كل ذكرى بترجع تلسع قلبه.
صوت ضحكة سلمى بيرن جوا ودانه…
ضحكة كانت بتملأ الدار بالونس.
🎬 فلاش باك
الحوش مليان دوشة.
سلمى – مراته وبنت عمه – قاعدة بتعجن العيش في الطابونة، شعرها طالع من تحت الطرحة ووشها منور بابتسامة.
يوسف داخل شايل حمل علف على كتفه.
يوسف: واه يا ولية، هتخلصي عجين النهارده ولا لساتك بتعجني فيه عاد….
سلمى تضحك وهي تمسح عرقها:
واه ياراجل إنت جايب حملك والغيط اللى ورا الدار وعاوزني أخلص عجيني في ساعة؟ لاه إنت مش يوسف اللي أعرفه!
يوسف يقعد جنبها، ياخد عجينة في إيده.
واه وبعدهالك عاد…. طب خليني أساعدك اكديه بقيت يوسف اللى تعرفيه صوح….
سلمى: واه واه يوسف على سن ورمح هيحط إيده في العجين ؟! دي معجزة لو حوصولت…. ومحدش هيصدقني واصل….
يوسف: واه ليه يعني؟ أنا صوح راجل إيديا ناشفة من الأرض والزرع، مش هتعرف تعجن يعني؟
سلمى هي تبص له وتضحك:
لاه، دي إيدينك للحرث والجدعنة… سيب العجن عليا….. ايوا رايدين ناكل مش يجيلنا مغص ووجع بطن…..
يوسف ساب العجينة ورجع ضحك معاها.
صوت أولادهم جريوا في الحوش: ابووووووي… يا ابوي… ابوي جه ابوي جه…
اتنين صغيرين، عيونهم فيها نفس لمعة سلمى.
يوسف شال واحد على كتفه وقال:
يا مرحب يا مرحب بالباشا سليم… ديه بقى قلب أبوه.
والتاني شد هدومه وقال:
وأنا يا يابا؟
يوسف: وإنت يا وليد… نور الدار.
سلمى بصت عليهم والدمعة في عينها من فرحتها:
ربنا يخليهم ليك ويخليك ليهم قادر ياكريم…
بالليل، يوسف قاعد في الحوش، سلمى قاعدة جنبه.
سلمى قالت له:
بقولك يا يوسف… لو جرالي يوم حاجة…را…
يوسف بيقاطعها: استغفري ربك يا سلمى، ما تقوليش اكديه تاني…. وخلي الليله تعدي على رواق عاد….
سلمى: اهدى بس اكديه… بقولك فرض يعني… لو مشيت وسيبتك والعيال؟
يوسف بص لها بحزم:
وبعدهالك عاد ياوليه…مش قولتلك ما تقوليش اكديه تاني. إنتي عمرك ما هتمشي وتسيبيني خلاص بقى عاد ومتنكديش اكديه الله لا يسيئك يا سلمى الحديت الماسخ بيوجعلي قلبي…
سلمى: بس يا يوسف انا بقول الحق كلنا رايحين يا يوسف… وانا بس رايده اطمن عليك وعلى العيال…..
يوسف شد إيدها:
بصي يا سلمى علشان نقفل الحديت ديه ومنفتحش فيه تاني واصل….. إنتي عمري يا سلمى. لو بعدتي… أنا اللي أموت….. انتى فى كل حاجه يا سلمى مقدرش ابعد عنك واصل اقفلي على الحديت الماسخ ديه
سلمى ابتسمت وهي تبص للنجوم.
ربنا يطول في عمري علشانك.
الأيام تتقلب، والضحكة تسكت.
سلمى عيت فجأة، مرض غريب هدها.
يوسف يوديها للدكاترة، يلف بيها من بلد لبلد.
كل ما يرجع، عينه مليانة دموع، وهو ماسك إيدها اللي بتضعف يوم بعد يوم.
في ليلة برد، يوسف كان قاعد جنبها، وهي بتنهج:
سلمى: يوسف… ما تسيبش العيال يتيهوا…من بعدي…. الله يخليك يا يوسف فكر فيهم زين واعمل اللى فى مصلحتهم…
يوسف: يا سلمى، بلاش الحديت ديه عاد. إنتي هتخفي باذن الله وهتقومي بالف خير وسلامه وهتاخدي بالك من العيال بنفسك….
سلمى: اوعدني… لو أنا مشيت… إنك هتفضل فاكرني، ومش هتجيب واحدة تاخد مكاني فى قلبك…. تاخد مكانى فى الدار مع العيال ايوا بس فى قلبك لاه…. واحكي كتير مع العيال عني متخليهمش ينسوني يا يوسف بالله عليك….
يوسف بحزن: ايه اللى انتى بتقوليه ديه؟! والله ما في واحدة غيرك هتاخد مكانك فى قلبي…. انا قلبي ملكك انتى وبس يا سلمى بالله عليكي انتى اجمدي اكديه واقوي وقوملنا بالسلامه…
سلمى: يا يوسف… أمانة عندك… ريح قلبي عاد…. متخلنيش اروح وانا قلبي مش مطمن عليك وعلى العيال… مش عايز تريحنى فى نومتي ليه عاد….
يوسف فضل سايب دموعه تنزل على إيدها، وهو يردد:
أمانة يا سلمى… أمانة.
الصبح طلع، والدار كلها عزاء.
صوت القرآن يتردد من الميكروفون، النسوان تلطم وتعيط.
يوسف قاعد على الأرض، راسه مدفونة بين ركبته.
سليم ووليد قاعدين ساكتين، مش فاهمين حاجة غير إن أمهم مش هترجع.
واحد من الرجالة ربت على كتف يوسف:
وحد الله اكديه…. اصبر يا يوسف… دي إرادة ربنا وانت مؤمن وموحد بالله ومفيش اعتراض على حكمه وقضاءه اجمد اكديه وقوى قلبك علشان خاطر العيال داى….. وهى ربنا رحمها من العذاب اللى كانت فيه…
يوسف ما ردش، بس قلبه بيتقطع.
بعد ايام العزا.. الأهل اتجمعوا.
عمه عبد الجليل قال بصوت عالي:
بصو يا جماعة، الراجل ديه عنده ولاد صغار، والدار محتاجة ست. الحل الوحيد… يتجوز.
واحدة من الستات قالت:
معك حق…بس يتجوز مين؟ الغرباوية ولا واحدة من البلد؟ ومين بس هتقبل تتجوزو وهو ارمل ومعاه ولدين؟!
العم عبد الجليل:
هاجر… أخت سلمى أيوا، أختها أولى. العيال متعودين عليها.وهي هتكون احن عليهم من اى واحده تانيه….
واحده من الستات:
ايوا وسمعة البنيه كمان بقت على كل لسان فى الكفر… الناس هتقول إيه وهي داخلة طالعة دار يوسف؟ محدش هيرحمها ويقول انها بتراعي ولاد اختها الله يرحمها….
يوسف سمع الكلام ده، عينه ولعت:
لاه… لا وألف لاه. ومين قالكم انى رايد اتجوز اصلا…
عبد الجليل: ليه يا يوسف؟ مش أحسن العيال يفضلوا في حضن واحدة يعرفوها؟ وتراعيهم زين…. انتى ناسي انهم احفادي زي ما هم ولادك….
يوسف:لاه العيال احسن تفضل في حضني أنا. أنا أبوهم وأمهم. ولو على سمعه هاجر حقكم عليا كلكم وعلى راسي وهى متجيش داري واصل وانا هشيل العيال فى عيوني واراعيهم هى كتر خيرها لحد اكديه…
عبد الجليل: بس الدار عايزة ست… والألسنة ما بترحمش. وانت مهما كان راجل.. بتعرف ايه انت عن شغل البيت ولا تربيه العيال ومين هيراعي ارضك وشغلك عاد وانت فى البيت بتراعي عيالك….
يوسف بص لهم بغضب:
أنا وعدت سلمى… وعدت مراتي إني ما أجيبش مكانها حد والحديدت ديه منتهى بالنسبه ليا ومرايدش اسمعه تاني واصل…. انا مستحيل اتجوز بعد سلمى…
عبد الجليل: ديه كلام عيال يا يوسف! الحياة ما بتمشيش اكديه.ولا بتوقف على حد واصل…. ولو انت قلبك محروق علشان مرتك ف انا قلبي بيتخلع من مكانه علشان بتى…. بس العيال اهم واصلح وانا عيال سلمى مرايدش ينقصهم حاجه واصل ولا يتيهوا ويتعذبوا من بعدها…..
هاجر كانت قاعدة في الركن، ساكتة، دموعها بتنزل.
هاجر: بس وأنا كمان رافضة… حرام أتجوز جوز أختي. مستحيل يا ابوي…. اعملها كيف عاد… لو على العيال وسمعتى انا مبرحش داره واصل هو يفوت علينا وهو رايح شغله الصبح يسيب العيال ويرجع ياخدهم اخر النهار واكديه المشكله تتحل…
امها: يا بتي، الناس هتاكلك بكلامهم. واحنا ميرضاش ربنا اكديه…. لو متجوزتيش يوسف مين هيرضا يتجوزك بعد ما طلع عليكي سمعه والكفر كله معندهوش سيره غيرك….
هاجر: خلي الناس تقول اللي تقوله عاد…. انا مستحيل اتزوج جوز اختى..
حسين دخل في الكلام وهو متصنع الحكمة:
بصراحة يا جماعة… أنا شايف إن الحل ديه هو اللي ينقذ سمعة الكل. يوسف محتاج ست لداره وعيالو، وهاجر ما ينفعش تفضل في بيت أبوها من غير عريس.
يعني… اتنين مشاكلهم تتحل مرة واحدة.
يوسف بص له بعين كلها كره.
مهما حوصول انا مش هتجوزها. وديه اخر كلام عندي….
لكن الأصوات عليت، والضغط زاد.
في اللحظة دي يوسف صحى من ذكرياته.
رجع للواقع… للدار اللي سكنها الصمت بعد كتب الكتاب بالغصب.
حط راسه في الحيط وقال بصوت مكتوم:
يا سلمى… خانوني… غصبوني… بس قلبي لسه ليكي.
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية قيود تنتظر الغفران) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.