رواية اهداب والماضي – الفصل السادس
— الفصـل السـادس « كِذبـــــة فى هــويـــه »
رحل …… دون أن يـُمهِلها لحظات الوداع ….
رحل ….. و ترك فيها فُـراقًا لا يندثِر …..
رحل ….. و قد تمنت لو ينتهى النبض ، و تشاركه الرفات ….
الأيام ثقيلة …. و قد اعتادت “فريدة” منذ وفاة زوجها الاختلاء بنفسها ، لتعيش بين ثنايا الذكريات .
وتمضي الأيام بلا ملامح …. و الليالي البارده فقدت دفء المشاعر ….
والضحكة التى كانت تُزين ثغرها الباسم ، رحلت إلى غير عودة ……
تولى “فريد” إدارة الشركة ، تعاونه فى بعض الأحيان شقيقته الكبرى “فريدة “…. وقد أقسم أمام الله أن يضحى بعمره .. بِـطاقته …. بكل عزيز لديه من أجل الأبناء اليتامي ، و شقيقة ظهرت فى قلبه فأشرقت جُنباته …..
تعددت الزيارات بين “فريدة” و ابنتها التى سافرت مع عمها أمين ، فى حين عاد ” عماد ” إلى وطنه لعدم قدرته على التكيف بالخارج …. لتهدا الأمور قليلاً … و يلتزم الجميع بالتكيف … فالحياة مستمرة ، و إن لم نألفها فعلينا التغاضي …
تلك النظرة التي تُنصت، لا تفحص…
تحنو، لا تُحقِّـق، تقول بعينٍ واحدة: (أنا أراك، كما أنت… دون تبرير، دون تحسين، دون حاجة لأن تُثبت شيئًا.)
هنا تحتاج إلى قلبٍ يفتح لك أبوابه دون أن يسألك: من أنت؟
إلى عينٍ ترى في رعشة يديك جملةً طويلةً من الحكايا لم تستطع أن تكتبها.
أتعلم؟ ……
أن الاحتواء ليس إصلاحًا، بل أحتضان ..
ليس اختِـزالًا للمأساة، بل تسكيـن لها دون نكران.
ليس إنكارًا للسقوط، بل رفقةٌ هادئة تقول:
(السقوط ليس فضيحة، بل دليل على أنك كنت تحاول الوقوف).
وفى مشفى “الشفاء”
تلك الفكرة التى شغلت تفكيره ، وهو الذى لا يزال على فراش المرض….
ذلك الأمان الذى ينشُده ، و الحسرة على ما وصل إليه ….
ذاك التسرع الذى آل به إلى هنا … بعدما كان ينعم برحابة أسرته فى أجواء العشق لزوجته ، و رعاية أبناءه..
و ها هو الآن…. مُجبر على القبول ….
نعم… سيقبل بحياة لا مكان له فيها …
و بهويه لا تعنيه ….. عله يستطع معرفة الحقيقة من وراء الستار …..
ظلت الممرضة المصاحبة لـ “مدحت” على اهتمامها ، تسجل و تشرف على حالته ، في حين تناوب الدكتور “سمير” مع زميله الدكتور “مصطفى” فى الإشراف على حالته فى صمت.
لم يذكر أحدهما الموضوع اللذان طرحاه عليه منذ ساعات قلائل ، ليخشى “مدحت” ، و تتملكه أمارات الريبه…
أيمكن أن يكونا قد صرفا النظر عن الأمر ؟!
فى حين ظل جمهور أهالي الصعيد من الأعيان و أسرهم فى ترقب للاطمئنان على ابنهم الذى سقط ضحية الغدر ..
أيام تتوالى ، و حالة “مدحت”فى تحسُن …. حتى حانت اللحظه المنتظره ، وهى إنتقاله إلى غرفته الخاصة …. ليترقب موقف الطبيبين ….
ولَّـت ساعات النهار ، ليُقبل الدكتور “سمير” برفقة زميله “مصطفى” إلى غرفة العناية المركزة ، وما إن شاهدهم والد الصعيدي الراحل حتى سأله بعيون ذابله :
— طمني يا دكتور على حالة ولدي …. هو هيفضل إكده فى العناية …. خصيمك النبي ، خليني أشوفه و أطمن عليه…. أني بجالي سبوعين جَلبي موجوع عليه …..
ربت الدكتور “سمير”على كتف الأب المكلوم ، ليقول فى رفق و لين :
— اطمن يا حاج …. والله ابنك بخير ، و حالته بقت أحسن ، و عشان أفرحك هو هيتنقل بعد شويه لغرفة خاصه … تقدروا تشوفوه و تطمنوا عليه …..بس خد بالك بهدوء ومن غير إجهاد ….
أشرقت ملامح الرجل فى سعادة ، ليرفع كفيه إلى السماء مُهلِـلاً :
— الله أكبر…. يا مَنتَـا كريم يارب … الحمد لله …. الحمد لله …. يارب احفظ لي ولدي ، و احميه …..
استأذن “سمير” من الرجل ، لتعلو أمارات السعادة وجهه فى حين ينهش القلق قلبه فى خوف مما هو قادم ….
فهل سيصح ما سيفعله ؟! ….. ام أنه سيدخل بكامل إرادته إلى عُـش النحل مُغمض العينين …..
دلف كل من الطبيبين إلى الداخل ، لتنتبه الممرضة المرافقه لـ “مدحت” ، التى اقتربت منهما قائله فى عمليه:
— حالة المريض أنا سجلتها فى التقرير يا دكتور … الحمد لله مؤشراته كلها فى تحسن …. ثم قدمت له سجله الطبي .. ليتفحصه “مصطفى” فى اهتمام طبيب ، فى حين نظر إليها “سمير” قائلاً :
— جهزي غرفة ١٠٣ … علشان هننقل المريض فيها
خرجت الممرضة لتنفيذ أمر الطبيب ، فى حين اقترب منه كليهما يسألانه فى اهتمام :
— طمني عليك يا أستاذ “مدحت” … أخبارك إيه دلوقتي …. فيه حاجه تعباك…؟!
أشار مدحت بأحد أصابعه إلى رأسه ، ليقترب منه “مصطفى” متسائلاً فى قلق :
— إيه … راسك بتوجعك ؟!
أشار “مدحت” بإيماءة بسيطه علامة الموافقه ، فى نفس الوقت الذى اهتم فيه “سمير” بفحص “مدحت” فحصًا ينم عن خبرته ….
رفع “سمير” عينيه إلى “مدحت” مُطمئنًـا :
— لا … إنت النهارده أحسن بكتير …و على فكره الصداع ده بشكل مؤقت …. فـمتقلقش ….
دلوقتى إحنا هنجهزك ، قبل ما تنتقل لغرفة خاصه … هنعملك أشعة كمان للاطمئنان …. وبإذن الله تقوم بالسلامة .
قرر الاثنان الرحيل ، فى محاوله ماكِره منهم لإتيان الرد من “مدحت” دون ضغط منهم أو طلب ..
و قبل فتح الباب استعدادًا للخروج ، هتف “مدحت” بوهن :
— هو إنت صرفت نظر عن الصعايدة يا دكتور ؟!
أجاب “مصطفى” بعد أن نجح فى إخفاء ابتسامة نصر :
— لا …مصرفناش نظر ، بس الواضح إنك مش مقتنع ولا موافق …. عشان كده قولنا إنت وراحتك ….
تحلى مدحت ببعض القوة مجيبا :
— لا أنا موافق …
تنفس كلا الطبيبان الصعداء ، ليلتفتا إليه يُصرحان على مسامعه ما يريد..
— من دلوقتي اسمك “كـاشف” … والدك الحاج “زكريـا حمزاوي” …و إنت من أعيان الصعيد … هتقدر تتكلم صعيدي … ولا لأ ؟!
أجاب “مدحت” باستكانة من هو مغلوب على أمره :
— أيوه …. بس المعلومات دي مش كفايه … وكمان عايز أعرف أنا هكمل فى التمثيليه دي لإمتى ، و بالنسبة لهويتي الأساسيه …. أنا فـ نظر القانون هكون مجرم ولا إيه ؟!
أجاب “سمير” فى صدق :
— إنت في نظر القانون حاليًا ميت …. بس الموضوع ده سهل إنك تنفيه بقضيه صغيره ترفعها بعدين….
وقتها المحضر خلاص اتقفل ، ومظنش حد هيفتكر تانى ، ومش ضروري وسائل الإعلام تعرف …
أكمل مصطفى بتركيز :
— وبالنسبة للمعلومات الناقصه عن هويتك الجديده ، متقلقش انا هقعد مع والدك وأتكلم معاه و أفهمه ، إن حالتك الصحية لسه مش مستقره ، و خصوصا استجابتك للي حواليك …و كل اللي أنا هعرفه هبلغك بيه …..
ليعود” سمير ” إلى حديثه :
— مفيش داعي للقلق ….. أنا و”مصطفى” هنكون جنبك أول بأول …. الاختبار هيكون بعد ما ترتاح فى غرفتك الخاصه ويدخلوا يطمنوا عليك …. إحنا عاملين حسابنا لأي مفاجآت متقلقش علشان تقوم بالسلامة ….
وساعتها هنشوف رد فعلهم ، هيتعرفوا عليك ولا هيشكوا فيك…
تساءل” مدحت “فى ارهاق :
— هو الصعيدى اللى مات ده شبههي اوى كده ؟!
بدون سابق اتفاق أجاب الإثنان :
— و كأنكم توأم …. حتى نفس قَصة الشعر و الملامح …و الذقن …. و كأنه صورة منك بالكربون …..
هدأ “مدحت” قليلاً ليستعيد أنفاسه ، وفى لحظات كان فى غرفة الأشعة التى استغرقت ما يقارب الساعه ، ليطمئن الثلاثه على حالته .
انتقل “مدحت” إلى غرفته ، لتأتى اللحظة المرتقبه ، حين سمح الدكتور” سمير ” لوالد “كـاشف” و أربعة من أعمامه الدخول ، و الاطمئنان عليه بعد طول انتظار خلال الأيام المؤلمة السابقة…..
دلف الرجال الى الغرفه فى لهفه ، ليقف الحاج “زكريا” قليلاً ، يتمعن النظر فى ذاك المُثجَى على فراش المرض قائلاً بعد فترة وجيزة :
— ألف حمد لله عــ سلامتك يا ولدي ….. أجر و عافيه إن شاء الله…. كيفك دِلوك …؟! …. طمنى عليك يا حبيبى..
اقترب الحاج” زكريا “من فراش” مدحت” ، ممسكًا بيده قائلا :
— كلنا اتوحشناك يا ولدي …. و شجاعتك و رجولتك الكل عم يحكي عنيها الكبير جَبْـل الصغير….
أني ربيت راچل يُوجف على رچليه ، يِزلزل المرض ما يِهزمـُه …. عشان إكده عايزك متطولش فى الرَّجْده داي …
هنا فقط أجاب “مدحت”، أو بالأحرى _ “كاشف”_بهويته الجديده :
— إن شاء الله يا حاچ … جِريب هتلاجيني واجِف چارك يا بوي ….
تبسم الحاج زكريا ابتسامته التى تدل على صفاء قلبه :
— حمدلله بسلامتك يا ولدي …. الله لا يعِيدها يارب …..
الحاچه كانت ناوية تاچِي إهنِـه تطمن عليك ، لكن لما عرفت بالخبر المشئوم ده ، تعبت و رَجدت فى السرير …
لكن لما تعرف إنك جُومت بالسلامة ، و عتتحدت وَياي ، الفرحة مش هتساعها ….
اكتفى “مدحت” بابتسامة امتنان ، يُسلِط أنظاره على والده و أعمامه ، و نفسه تتأمل الأفضل ، إلا أن القادم ليس هينًا كما وصفه الطبيبان ….
أيام تغدو ، ثم تودع الأخرى … لينهض مدحت من فراشه بعد أن أمره الطبيب ، لإلتئام الجرح .
خلال تلك الفتره ، تحدث الدكتور “سمير”مع الحاج” زكريا “لمعرفة بعض المعلومات عن “كـاشف “، و من هو السبب وراء الرصاص الذى أصابه ، بعد أن أيقن “سمير” بقوة ؛ وسطوة تلك العائله ، و قدرتها على التعتيم عن الحادث ، وكف يد الأمن عن استجوابه ….
برجاحة عقل ، كشف الحاج “زكريا “عن بعض الأمور ، و أخفى البعض الآخر ، ليُمهِـل اليقين فاجعة الحذر ؛ فقال :
— أيوه يا دَكتـور …. “كـاشف” هو ولدي الكبير ، على خمس بنات …. هو امتدادي فى الدنيا ، و عكازي بعد شيبتي ….
ولاد الحرام كَتير ، و البُغـض لما يدخل الجَلب ، الضمير يموت …. لكن الحمد لله ربنا نصفني و موجعنيش فيه …. احنا عليتنا كيف ما حضرتك شايف كَبيـرة جَوِي جَوِي ، و تِجْـدر تحمي ولادها ، لكن الغدر لما يَاجي من ولاد الحرام ، مفيش حد يِجدر يسكت عليه ….
دِلوك كل اللي يهمني هو صحة وَلدي ، أما اللي حُصل ده حسابه بعدين …. وعلى يَدِّي ….
بانتباه ، أنصت “سمير” للرجل صاحب الهيبه … أشيب الفؤدين ، نَضِـر الوجه والملامح :
— والله يا حاج .. أنا شايف لو فيه عداوة حاولوا تحلوها بالمعروف ، و المناقشه … لأن الخلاف هيخسر الطرفين … و عموما ألف حمد لله على سلامته ….
ضروري لما يرجع بلده يرتاح ، و خد بالك هو عمل عمليه كمان في المخ ، لأن الحادث سبِب له نزيف ، و بمعجزه قدرنا نوقفه … فهتلاقيه أوقات ، فيه حاجات مش فاكرها …. شوية شويه هيرجع زي الاول و أحسن …
تساءل “زكريا “فى خوف :
— جَصدَك إن ولدي فَجَدْ الذاكره ؟!
فى سرعة نفى “سمير” ذلك الحديث قائلا :
— لا … مش فقدان ذاكرة بالمعنى المعروف … دي أعراض ما بعد العمليه …. شىء عادى و بيزول مع الوقت … ما تقلقش … ولو قلقان كمان ، أنا ممكن أطلب من دكتور “مصطفى” ياخد أجازه من المستشفى ، و يصاحب المريض لغايت ما يطمن عليه بشكل كامل ، قولت إيه ؟!
استحسن “زكريا” ذاك الرأي ، ليقول فى حبور :
— يا مرحب …يا مرحب… إن ما شاليتوش الأرض ، نِشيله على راسنا ….. الدَكتور و كل من طرفه ينورونا و يشرفونا ….
جلس” سمير “مع” مصطفى” يسرد عليه ما اتخذه من قرار ، ليتفاجىء “مصطفى” ، و يفقد اتزانه صائحًا :
— إنت بتقول إيه يا “سمير “…. هو إنت اتجننت ولا إيه ؟!… أجازة إيه اللي هاخدها ، و صعيد إيه اللي هروحه …. لا يا حبيبى …. أنا عملت اللي عليا ، ووقفت جنبك على أد ما قدرت ، إنما تقولي أجازه وسفر … فأنا آسف يا صاحبي …. سافر إنت لو عايز ….!!
أطرق “سمير ” رأسه ، مُـطئطئًا إلى الأسفل ، قائلاً فى خِزي :
— أنا عارف إني تعبتك معايا يا “مصطفى” … و ورطتك فى موضوع ملكش دخل فيه ، بس والله ما كنت أقصد وإنت عارف … ولولا ظروف “سمر” و حملها اللي خلاني من البداية أعتذر عن العمليه … كنت أنا اللي سافرت معاه أطمن عليه ، و أسنده …. لكن ولا يهمك يا صاحبي …. أنا هتصرف …..
تساءل “مصطفى” فى فضول :
— هتتصرف ازاي يعنى ؟!
أجاب” سمير “فى خنوع :
— هبعت سمر لوالدتها تقعد معايا الكام يوم اللى فاضلين قبل الولاده ، و هقولها إني مسافر ، و ربنا كبير
يحلها من عنده .
شعر “مصطفى” بالخِـزي ، من تخلِيـه عن صديق عمره ، و رفيقه ليقول بعد تفكير عميق :
— خلاص يا”سمير” …. متشغلش بالك إنت … أنا برضه مُتحمل المسئوليه زيك ، ويمكن أكثر كمان … متنساش إن أنا اللى عملتله العملية ، و الغلطه فى الأساس غلطتى …. خليك إنت جنب مراتك ، وأنا اللي هسافر الصعيد مع “مدحت ”
أجاب سمير مُصحِحًا :
— تقصد” كـاشف” …. بلاش “مدحت” دي …. عشان تتعود ، وخد بالك إوعى تغلط…وأنا معاك على تواصل … لو حصل حاجه ، كلمنى وأنا هتصرف … متشكر أوي يا صاحبي ، حقيقي إنت ونعم الاخ …
اتجه كليهما إلى “مدحت” ليُبلغاه بما عرفا ، و قررا ، ثم أخبره “سمير” بخطوته الأخيرة :
— دلوقتي إنت عرفت بعض معلومات هتفيدك ، وأنا فهِّمت الحاج ” زكريا ” إن حالتك لسه مش مستقره كفايه …. بالنسبة لمقتنياتك الشخصية الحقيقية هتفضل معايا أمانه لحين ما تقرر ترجع من تانى “مدحت”… ويوم ما تفكر… أنا معاك برضه ، و هرفع لك القضيه عند أكبر محامي فـ مصر …. عندك أي أسئلة …؟! … ليك أي طلب ….. ؟!
أومأ “مدحت” بالنفى ، ليستعد إلى مغادرة المشفى بصحبة أسرته من أهل الصعيد ، و مرافقة الدكتور “مصطفى” الذى قدَّم طلب إلى مدير المشفى باجازه لمدة شهر بـحُجة سفره إلى الإسكندريه للإطمئنان على والده المريض ، وبعد أن وافق المدير على مضض نظرًا لبراعة “مصطفى” فى عمله ، إلا أنه لا يملك سوى القبول ..
بعد ذلك رحل “مصطفى” إلى منزله الذى يحيا فيه بمفرده ، مستمتعًا بحرية العزوبيه ، ليُجهز حقيبة سفره ، رافعا كفيه إلى السماء :
— يارب سامحنى … أنا مكنتش أقصد أقتله …. و الله ده غصب عنى ، وهو كان شبه ميت بالمرض اللى تفشى فـ جسمه ….. ساعدني فـ اللي جاي ، و اللى أنا بعمله لصالح الكل ….
اللهم إني وكلتك أمري فأنت خير وكيل ، و استودعتك همي فأنت خيرُ من يُحسِن التدبير.
……. ثم رحل صوب المشفى ، ومنها إلى رحلة المجهول ….رحلة الصعيد ….
اليد التى تُعيد بناءك ، وتتمسك بك فى أحلك الأوقات ..هى التى تحترم فيك الشروخ ، و تقف متأصله بعلامات النجاه …
فيا من تسهرين الليل مع الذكريات … فضلاً و ليس أمرًا إلتفتي للوراء ….
ستجدين من يقف معكِ بُنيانًا شاهقا فى وجه الأزمات
ينتظر …لا يكل ولا يتعب …
يكتمل بسعادتك ….. ولا يُطالب إلا ببسمة و كلمتين فقط ….” أنا بخير” ….
مرت الشهور متلاحقة ، حقق فيها “فريد” أرباحاً طائلة ليودعها فى حساب شقيقته دون أن يمس منها مقابل أتعابه ، أو يخصص له راتبًا محدودا ..
إلا أن هذا الأمر سبب الضيق لـ” فريدة” ، فلم تكن لتحتمل تضحية أخيها بكامل صحته ، و وقته دون مقابل …
لذا ذهبت إلى شقيقها بالشركة مُكررة الحديث معه فى إلحاح حتى يرضخ
— شوف يا “فريد “…. بصراحة بقى الموضوع ده تاعبني أوي.. أنا مش راضيه أبدا عن إجهادَك ده فـ الشغل … إنت لازم تاخد أجازه ترتاح شويه … بقالك شهرين ، ضاغط على نفسك ، وحتى نسبتك من الأسهم نظير شغلك مش راضي تاخده …. انا لا يمكن أسمح بكده تانى … كفاية بقى يا حبيبى .. انا موجوده أشيل عنك شويه …. قولت ايه ؟!
استقام “فريد” من كرسي رئيس مجلس الاداره ليقترب من شقيقته و يضمها إلى صدره فى حنان :
— يا حبيبتى … أنا مشتكِيتش …. ومش تعبان … وبعدين أنا أخدت عهد على نفسي لا يمكن أقرب من فلوس الولاد ، و فلوسك أيا كان ….
أنا الحمد لله بحاول أوفق ما بين شغلي والشركة ، وربنا يقدرني …. إنسي ومتشغليش بالك ولا تحملي هم …. قوليلي كَلمتى “أهـداب ” النهارده فيديو ولا لسه !!
أجابت “فريدة” بعد أن أخذت القرار بإيداع مبلغ فى حساب “فريد” دون عِـلمه ، حتى يرتاح قلبها العاصف بثورته :
— لا لسه يا حبيبى … منتظره لما نخلص شغل ، ونرجع سوا نتعشى ونكلمها كلنا بالليل …
و فى خضم حديثهم ، استأذنت السكرتيرة فى الدخول ، لإبلاغ فريد بوجود خاله “رأفت” فى انتظار مقابلته
تهللت أسارير “فريد” ، لشِدة حبه وامتنانه لذاك الرجل الذى وقف إلى جواره و جوار أخيه بدور الأب ؛ ثم أردف فى لهفه :
— قوليله يدخل حالا ….
و فى حفاوة استقبل “فريد” خاله العزيز استقبالاً حارًا ، ليحتويه فى اشتياق ، ثم رحبت به” فريدة” فى رُقي ، ليجلس على الأريكة بجوار ابن شقيقته قائلاً :
— وحشتوني أوي أوي ….. و” لـؤي “حبيبي وحشنى بشكل …. طمنوني عليكم … كده يا” فريد” … تنسى خالك …. من يوم ما طلبت إنك تستقر مع أختك ، و أنا مش فى بالك خالص ….يصح كده ؟!
شعرت “فريدة” ببعض الخجل ، والاحراج الذى انتبه له كلا من “رافت” و” فريد” ، لينتبه “رأفت” إلى خطأه فى التعبير ، ليهمس فى حنان :
— و الله يابنتي أنا ما أقصد حاجه …. وجود “فريد” جنبك ضروري ، و أهم مني … و لو مكنش طلب ، كنت هفرض عليه كده ….
الأمر وما فيه إنهم وحشونى اوى ، ومن يوم ما اجوا اسكندريه يعيشوا معايا ، و أنا حياتي مبقاش ليها قيمه إلا بيهم …عشان كده قولت أجى أقعد معاكم كان يوم ….
شعرت فريدة بالامتنان لوجود” رأفت “جوار شقيقيها فى محنتهم ، ثم هتفت فى اتزان :
— حمدا لله عـ السلامة …. خير ما فعلت والله يا استاذ “رأفت” …. حضرتك شرفتنا ، لكن ليه مجبتش المدام معاك …؟!
أجاب “رأفت” فى توضيح :
—” سعاد “عند اهلها فـ دمنهور بقالها يومين … أبوها بيجهز يقضى فريضة الحج ، وطلبت إنها تقعد مع والدتها كان يوم ، و بما إني متعودتش أقعد فـ البيت لوحدي ، اخدت اجازه من الشغل ، و قولت أجى أقضيها مع ولاد اختى
أردف “فريد” فى مشاكسه :
— الله الله يا أستاذ “رأفت “….يعنى لولا إن طنط سافرت ، مكنتش تفتكرنا خالص … مش كده ؟!
ضحك “رأفت” فى ارتياح :
— بس يا ولد …. إنت جاي تشعللها ولا إيه ….؟!
انتهت ساعات العمل بالشركة ليعود ثلاثتهم إلى الفيلا ، وما إن رأى” لـؤي “خاله بعد عودته من النادي ، حتى إرتمي بين ذراعيه فرحًا سعيدا ..
هدوء خيم على تلك الأجواء المرحة ، تناولت فيها الأسرة السعيده طعام العشاء ، ثم تبادلوا الحديث حول أحوالهم المعيشية ، و أمور العمل .
وفى نهاية السهرة ، انسجموا جميعا فى اتصال مشترك مع الصغيرة “أهداب” وعمها “أمين”.
تسارعت الأيام كما لو كانت فى سباق لتنتهي إجازة
” رأفت” ، وقبل أن يقرر العوده الى الاسكندريه طالب بإصطحاب” لـؤي” معه بإحدى رحلاته إلى أسوان ، فقد قررت شركة السياحة التى يعمل بها مرافقته للأفواج السياحية فى رحلة شيقة إلى أسوان ….
وافق” فريد “على طلب خاله فى ترحاب ، ثم رحلا الى الاسكندريه فى سعادة …
هدوء نسبي تعايشه الجميع ، كلٌ فى موضعه …. فمن جانب “كـاشف” ، وصل إلى ربوع الصعيد الشامخة …. ليجد نفسه أمام بيت أشبه بالقلعه …
ترجل من السيارة ، لترتمي بين ذراعيه إمرأة مشرقة الملامح ، دامعة العينين قائله فى سعادة صادقه :
— حمدلله على سلامتك يا نضري…. ألف حمدلله على سلامتك …..اتوحشتك جوي جوي …. منهم لله اللى وچعوا جلبي عليك ، و كسروا فرحتي … البيت بغيابك كان كيف الجبر …. ياما انت كريم يارب … رچعتلي ولدى من تاني …. تعال …. ادخل يا حبيبى….. أكيد انت تعبان مـ السفر ….. تعال فـ حضن امك .
ما إن دلف” كـاشف” إلى الداخل ، إلا وجد جمع من النساء تهافتن على الترحاب به فى لهفه و محبة صادقه ، ليشعر خلال تلك اللحظات بشعور لم يتخلل قلبه من قبل .
صعد إلى الاعلى بصحبة أبيه و عدد من أقاربه ، ليرتاح قليلا …
وبعد دقائق ….رحل الجميع من الغرفه باستثناء الطبيب “مصطفى” تاركين “مدحت” لينعم ببعض الراحة ، فلا يزال بحاجة إلى العناية واستكمال العلاج .
اقترب ” مصطفى” من “مدحت” هامسًا فى أذنيه فى مرح :
— حمدا لله على سلامتك يا كـاشف …. إيه رأيك…؟! شايف العِـز اللي إنت فيه ، و عيلتك الجديده ، و الهيبه … طب والله إنت ربنا بيحبك …. مكنتش أنا ألاقيلي حد يشبهني كده …. ده أنا كنت مسكت فيهم و فقدت الذاكره مخصوص عشانهم
ابتسم” مدحت “قليلاً ، ثم تساءل :
— تفتكر اللى بنعمله ده صح ، ولا نصب فـ نصب …؟!
استنكر “مصطفى” قول” مدحت” ، ثم زفر أنفاسه فى حنق مردفًا :
— نصب إيه بس …؟! … إنت إيه يا آخي عدو الثراء … أه معلش نسيت إن إنت كنت فى الأصل من أصحاب الملايين … وبعدين هو إحنا هناخد منهم حاجه …. إحنا بنساعدهم مش بننصُـب عليهم ..
تساءل “مدحت” فى سخريه:
— بنساعدهم فى إيه إن شاء الله….؟!
انتبه “مصطفى” لنبرة “مدحت” الساخره ، ليبتلعها فى ضيق ثم أردف :
— أقولك بنساعدهم ف إيه …. إنت مش شايف الفرحة فـ عيون الكل وخصوصًا والدَك ووالدِتك …. تفتكر لو كانوا عرفوا إن ابنهم مات ، كان ده هيبقى حالهم ….. أنا جاي معاك أساندك و أطمن عليك ، و أباشر حالتك …
مش جاي أطلب فلوس ، ولا طمعان فيهم…..
الحمد لله معايا ، و عندي اللي يكفيني .. و إفتكر كويس إننا خيرناك ، و إنت اللي وافقت …. فياريت تقفل الصفحة دي ، وتنسى الكلام ده …. الحيطان ليها ودان ، و دول صعايدة يا بوي ..
ابتلع “مدحت” كلماته فى صمت ، ثم أبدل ثيابه ليرتاح قليلاً ….. يحاول التكيف مع هويته الكاذبة …… هوية ابن الصعيد ” كاشف زكريا الحمزاوي ”
الفصل التالي اضغط هنا
يتبع.. (رواية اهداب والماضي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.