رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل التاسع عشر
الفصل التاسع عشر(عِتابْ)
صاعقة قوية سقطت علي رؤوسهم جميعاً،تمكنت منهم وأصابتهم بصدمة
أسكتت أفواههم،وكان هو علي رأسهم بالطبع،فقد تشنج جسده بالكامل بعد أمر الضابط ذاك،وأضحى غير واعي لما يحدث من حوله إلى أن شعر بتلك الأصفاد الحديدية تُقيّد يديّه ويُسحب من قبل هؤلاء العناصر.
عاد لوعيه في تلك اللحظة وأدرك مايحدث من حوله،
فسارع في الدفاع عن نفسه وهتف بجدية:
“أنا عملت ايه علشان تاخدوني؟؟”
أتاه الرد من الضابط بنبرة جامدة:
“هتعرف كل حاجة في القسم”
اعترض الجميع عما قاله وارتفعت أصواتهم للدافع عن “موسى” الذي أُخذ بواسطة الشرطة عَنْوَة؛هرول الجميع خلفه دون إستثناء
وأصواتهم مازالت في سباق لتصل لأذان الضابط الذي اهتم بعمله وتجاهل ماحوله،ورفع صوته وأشار للعناصر نحو سيارة الشرطة بقوله:
“دخلوه يلا!”
امتثلوا لأمره ووضعوا الأخير في السيارة ثم صعدوا إليها هم أيضاً،وثواني قليلة وانطلقت بهم تاركة خلفها الغبار يضرب وجوهه
البقية.
ارتفع صوت داود في تلك اللحظة يهتف دون انتظار:
“جيب العربية بسرعة ياتامر!..”
التفت صوب البقية واستأنف حديثه:
“حد يتصل ب عزت وفاروق بسرعة”
أومأت له لينا سريعاً وهي تقول:
“أنا هتصل بـبابا”
أخرجت تينا هاتفها كذلك وردت علي الأخير بقولها:
“وأنا هتصل بعزت”
أتت سيارة دواد وصعد بها برفقة أشقائه بعدما استطاعوا إقناع محمد وعبير بالبقاء هنا وعدم المجئ معهم،بينما ركض طارق كذلك برفقة سامي وباقي الشباب ليأتوا بسيارة الأول ويلحقوا بالبقية،أما فيروز فوقفت تجاور والديّها أمام مدخل بيتها تنظر لأثر السيارة التي سلبت منها فرحتها هذه الليلة
،وقد قُيّدت يديها هي أيضاً مثلما حدث معه.
_____________________
دخل برفقة إحدي العناصر إلي مكتب الضابط الذي تقدم عنهما وجلس علي مكتبه،فتحدث موسى حينها بنفاذ صبر:
“ممكن أعرف بقا أنا بعمل ايه هنا؟؟”
رفع الضابط رأسه وطالع الأخير وقبل أن يجيبه علي سؤاله طُرق الباب ودلف منه إحدي العناصر والذي قال:
“سمير بيه بره حضرتك”
“دخله يابني!”
امتثل لأمره وخرج من جديد،وبعد ثواني قليلة عاد برفقة المدعو “سمير”،والذي تقدم نحو الداخل بخطواط ثابتة وبسمة جانبية بدت خبيثة إلي حد ما،وأعين توجهت تلقائياً نحو موسى الذي لم يعره اهتمام بل كان يعطيه ظهره ويتأفف بضجر وضيق من الوضع الذي أصبح فيه.
وقف الضابط وصافح ذلك الضيف،ثم نظر نحو موسى بعينه وتحدث مع الأخير:
“موسى عمران”
التفت سمير نحو موسى الذي انتبه لهم بمجرد ذكر اسمه،وعقد بين حاجبيه عندما رأي ذلك المدعو سمير يقترب منه ببسمته التي أثارت استفزازه،ثم وقف علي مقربة منه وقال:
“أنت بقا موسى!!”
“مين حضرتك؟؟”
“كنت فاكر إنك هتبقى عارفني،بس مش مهم هاعرفك علي نفسي،أنا سمير الجمّال صاحب مصنع الألبان اللي حضرتك فضحته من شهر علي صفحاتك”
اتسعت مقلتي موسى ودُهش مما سمعه،وصُدم من معرفة ذلك الرجل من هويته الحقيقية،أو بالأحري هوية “MF” الحقيقية،والتي مازلت سرية إلى الأن.
ضحك سمير بسخرية عندما رأي صدمة الأخير،الذي نبس بجدية:
“أنت عايز مني ايه؟؟”
“مش المفروض تسأل الأول عرفت هويتك ووصلتلك ازاي؟؟،ده أنا تعبت أوي علشان أوصلك ياجدع،وماكنتش فاكر إني في الأخر هوصل لحتة عيل لسه”
تحكم موسى في أعصابه ثم نظر صوب الضابط ونبس بنبرة جادة:
“أنا عايز أعرف أنا بعمل هنا ايه بدل ماأنا بسمع الكلام الفارغ ده”
نظر الضابط نحو سمير ثم عاد للأخير مجددا وأردف بنبرة هادئة رتيبة:
“سمير بيه بيتهمك بسرقة بيانات مهمة من علي موقع شركته”
أشار موسى علي نفسه بإستنكار وهو يقول:
“أنا عملت كل ده؟!”
أومأ له سمير بالإيجاب وهو يجيبه:
“آه،اخترقت system الشركة وسرقت بيانات مهمة من عليه”
نظر صوب سمير ثم أجابه بنبرة ساخرة:
“أنا سرقت بيانات من على system شركتك اللي هكرته،ازاي؟؟،وليه؟؟،ليه ممكن أعمل حاجة زي ده؟؟،هستفيد ايه من البيانات دي هفتح مصنع لبن وزبادي؟!”
رد عليه الضابط بإستياء من حديث الأخر:
“أنت بتهزر؟؟”
“عايزني أعمل ايه يعني!!،واخدنّي من وسط عيلتي ومن أهم لحظة في حياتي علشان الأستاذ بيتهمني إن مهكر system شركته وسارق بيانات من عليه،وأنا أصلا بنسى password موبايلي”
كلمات نبسها بنفاذ صبر وإستياء مما يحدث في هذه اللحظة،محاولاً بها إنكار تلك التهمة الموجهه إليه،وكذلك إنكار كونه “MF” لضمان بقاء هويته سراً.
تنفس الضابط بصوت مرتفع ثم نبس بجدية:
“يعني انت بتنكر التهم اللي متوجهة لك؟؟”
أومأ له موسى بالإيجاب وأجابه بنبرة جادة ومازلت عينه مثبتة علي المدعو سمير:
“آه..بنكرها”
نظرات مبهمة تبادلها كل منهما في صمت تام،سرعان ماقُطع بواسطة العسكري الذي دق الباب وولج للداخل وتحدث إلي الضابط:
“اللواء فاروق الدسوقي ومحامي الأستاذ بره يامعاز باشا”
“دخلهم يابني بسرعة”
امتثل الرجل لأمره وخرج من المكتب ثم عاد برفقة كل من فاروق وعزت والذي وقف الضابط معاز لإستقبالهم ورحب بهم بقوله:
“فاروق باشا أهلا وسهلا”
صافح فاروق معاز وهو يجيبه ببسمة هادئة:
“أهلا يامعاذ”
بينما في الوقت ذاته،اقترب عزت من موسى ووضع يده علي كتفه وسأله:
“أنت كويس؟؟،حد عملك حاجة؟؟”
“كويس ماتخفش”
أومأ له عزت بالإيجاب ثم انتبه لفاروق الذي اقترب منهما وسأل الأخير كذلك:
“حد أذاك ولا حاجة ياض؟؟”
“محدش يقدر أصلا ياعمي ماتخفش”
تدخل معاذ في الحديث بينهم بقوله:
“وهو يقربلك يافاروق باشا؟؟”
نظر فاروق صوب معاذ ثم عاد لموسى من جديد وربت علي ظهر الأخير بقوة مرددا:
“يقربلي ومش أي قرابة كمان يامعاذ،ده يبقى ابن أخو مراتي،وزي ابني بالظبط”
صدم كل من معاذ وسمير من صلة القرابة التي تجمع بين فاروق وموسى،الذي نظر صوب سمير وأخذ يهز له حاجبيه لإثارة غيظه وهو يبتسم بإنتصارٍ وفخر
،وكأنه يخبره بنظراته أنه قد لعب مع الشخص الخاطئ.
نظر فاروق صوب مُعاذ ثم أردف بنبرة خشنة جادة:
“ممكن تعرفنا يامعاز ابننا متهم بإيه؟؟”
شرع معاز في إجابته ولكن سبقه سمير في اللحظة الأخيرة وتحدث بدلاً منه:
“ابنكم سرقني..”
نظر الجميع نحوه فاستأنف حديثه بقوله الجاد:
“الأستاذ اخترق موقع الشركة وسرق بيانات مهمة من عليه”
عقد فاروق بين حاجبيه ونبس بدهشة:
“اخترق!!،قصدك إنه هكر الموقع؟؟”
“آه”
نظر فاروق صوب موسى وسأله بجدية:
“أنت تعرف تهكر ياض؟؟”
حرك موسى رأسه سريعاً بالنفي وهو يقول:
“ولا أعرف،أنت تعرف عني كده ياعمي”
تدخل سمير في الحديث وهو يهتف بإنفعال:
“إزاي متعرفش؟؟،أومال مين اللي اخترق النظام قبل كده وسرب الفيديو غش المواد ونشره علي كل صفحاته؟؟”
رد عليه عزت سريعاً بقوله الترتيب:
“ثانية ياأستاذ،هو حضرتك صاحب مصنع اللبن إياه؟؟”
“آه أنا”
“تمام،اللي اعرفه إن اللي سرب الفيديو ده يبقى MF مش ابن عمي خالص،أكيد في سوء تفاهم”
“لا مفيش أي سوء تفاهم ياأستاذ،االلي سرب الفيديو فعلا هو MF اللي يبقى ابن عمك”
أنهى جملته وهو ينظر صوب موسى الذي ادعى الغباء والصدمة ونبس بإستنكار:
“أنا MF!،مش معقول،إزاي؟؟،أكون أنا ومعرفش يعني”
فقد سمير السيطرة علي أعصابه من كذب الأخير هذا فهتف بغضب واستياء:
“أنت هتسعبط يالا،بطل لف ودوران”
رفع معاذ صوته وهتف بتحذير:
“الصوت لو سمحت ياسمير بيه،اوعى تنسى انت واقف فين”
عض سمير شفته السفلى ثم تنفس بصوت مرتفع ونظر صوب معاذ وقال بنبرة أهدأ من سابقتها:
“أنا محتاج أتكلم كلمتين أنا وهو علي انفراد،لو تسمحلنا يعني”
تنهد معاذ ثم نظر صوب موسى وسأله بنظراته إذا كان يريد ذلك أم لأ، وسرعان ماأتت إليه الإجابة من الأخير عندما أومأ له بالإيجاب بعد تفكير فقال:
“تمام،احنا هنسيبكم خمس دقايق،وهنكون بره”
أومأ له كلاهما بالإيجاب ثم خرح برفقة كل من عزت وفاروق الذي ربت علي كتف موسى قبل ذلك وأردف ليطمأنه:
“احنا هنا ماتقلقش”
أُغلق باب المكتب وبقيّ كل منهما فقط،فاتجه سمير نحو أقرب مقعد وجلس عليه ثم حث موسى بنظراته علي الجلوس علي المقعد أمامه،فزفر الأخر بضيق ثم امتثل لطلبه وجلس حيثما أشار،ليصبحا في مواجهة بعضهما كأنهما في طرفيّ حرب مدوية.
تنفس سمير بصوت مرتفع ثم دس يده في جيب بذلته وأخرج منها عبوة سجاير،والتقط واحدة منها وقدمها للأخير مرددا:
“اتفضل”
نظر موسى للسيجارة في يده بإزدارء كعادته ثم أجابت ببرود:
“مش بشرب”
“أوكى”
أنهى جملته وهو يضع السيجارة في فمه ثم أشعلها بواسطة قداحة أخرجها من الجيب نفسه،وأخذ ينفث الدخان من فمه وحينها شرع في التحدث مع الأخير المستاء:
“احنا بقينا لوحدنا أهو،بلاش لف دوران أكتر من كده بقا”
“مش فاهم”
“لا أنت فاهمني أوي،فاهم وعارف كويس أنا بتكلم عن إيه”
تنفس موسى بعمق ثم نبس بجدية:
“أنت عايز من ايه؟؟”
أخرج مافي رئتيّه من دخان ثم أجابه:
“عايز أنتقم منك علي اللي عملته فيا،وعلي الخسارة اللي خلتني أتعرض ليها بعد ماسربت الفيديو إياه”
“ماهو انت تستاهل اللي جرالك بصراحة،لما تستعمل مواد مغشوشة وغير صحية علشان تزود انتاج مصنعك علي حساب صحة الناس يبقى تستاهل اللي يجرالك”
ابتسم سمير بسخرية ثم قال:
“يعني بتعترف إنك MF؟؟”
عاد بجسده للخلف علي المقعد ثم رد علي الأخير بثبات:
“آه بعترف،أنا MF اللي ميعرفش أنت عرفت إزاي هو يبقى مين”
“تعبت،تعبت أوي علي ماوصلتلك،من ساعة ماسربت الفيديو وأنا بدور عليك،كلمت اللي أعرفهم وجبت ناس زيك هكر وغيره،كل ده بس علشان أوصلك وعلشان أنتقم منك”
“وعلشان تنتقم مني عايز تلبسني مصيبة؟؟،بتتهمني بسرقة بيانات معرفش عنها حاجة”
“أنا مستعد ألبسك جريمة قتل علشان أخد حق منك،أصل مش معقول يبقى حتة عيل زيك سبب في تدمير شغلي”
أطلق موسى ضحكة ساخرة من حديث الأخير ثم تنهد بعمق وأردف بجدية:
“وهو أنت لست شوفت تدمير،أنت مسمي اللي عملته فيك ده حاجة أصلا؟؟”
عقد بين حاجبيه وأردف بإستغراب:
“قصدك ايه؟؟”
“قصدي إني هوديك في ستين داهية لو مسحبتش المحضر ده وشلت التهمة ده من عليا،ولو فضلت مطول في كذبتك دي وفي تهمك الباطلة ليا هخليك تروح الورا الشمس”
ضحك سمير بسخرية بسخرية واستهزأ بحديث الأخير وهو يقول:
“وده هتعمله ازاي بقا إن شاء الله؟؟”
“هعمله بطريقتي،نفترض يعني إنك كملت في اللي بتعمله وماسحبتش الشكوى،ببساطة هطلع بكفالة النهاردة وأديك شوفت أنا معايا مين بره،ده أولا،ثانيا بقا وده الأهم إني أول ماهطلع من هنا همسك اللابتوب بتاعي حبيبي وأعمل اللي اتهمتني بيه واخترق system شركتك وحساباتك،وأنا واثق مليون في المية إن هلاقي بلاوي توديك في داهية،فاأنا هاخد البلاوي ده وأذيعها علي العلن وأخلي اللي مايشتري يتفرج،وتبقى قضية بقضية بقا،لو هتوديني في داهية فأنت كمان هتيجي معايا”
نجح موسى في استفزازه وإثارة غضبه،فقد نجح بتلك الكلمات علي الضغط عليه بإستخدام نقطة ضعفه فنبس بغضب مكتوم وهو يضغط علي أسنانه:
“أنت بتهددني؟؟”
حرك موسى رأسه بالنفي سريعاً وهو يقول:
“أبداً،أنا بس هقولك علي اللي هعمله،أصل مش معقول أسيبك تلبسني تهمة باطلة وأقعد أتفرج عليك ياروحي،عيب حتي لازم أردهالك”
التزم سمير الصمت وأصبح في أقصى مستويات غضبه في هذه اللحظة،وبات هذا واضحاً من عروق قبضة يده البارزة،ومن إطفائه لسيجارته بعنف على المنضدة الصغيرة أمامه.
بينما الأخر كان يتابعه بملامح جادة ونظرات إشمئزاز،ثم استأنف حديثه بنفس الجدية والثبات:
“أنت اخترت الشخص الغلط علشان تلعب معاه،أنا مش حتة عيل زي ماأنت قلت ياسمير بيه”
اتكأ على أحرف اسم الأخير الذي رفع رأسه وطالعه بأعين بدت حمراء وتشتعل من الغضب بعدما أدرك أنه فشل في تحقيق مراده،وأن ذلك الفتي-موسى- ليس بالخصم الهيّن أبداً.
_____________________
وقف العشرة بجوار سيارتهم أمام قسم الشرطة بإنتظار خروج من في الداخل سالمين برفقة من أتوا من أجله،ومن هاجمهم القلق لأجله.
كان داود يقف مع أشقائه يحاولون بث الأمان والطمأنينة في نفسه،
وجوارهم تماماً وقف الخمسة برفقة طارق وأعينهم جميعاً كانت مثبتة علي قسم الشرطة،وقلوبهم وعقلوهم جميعاً كانت معه.
كان سامي من بينهم بالطبع يقف مجاوراً لطارق وكارم،بينما كان يتحدث في الهاتف مع شقيقته يحاول أن يهدئها ويطمأنها على حبيب روحها:
“خير يافيروز،والله خير إن شاء الله،عزت وعمي فاروق دخلوله من ساعتها وإن شاء لله يطلعوا وهو معاهم”
وصل إليه صوتها وهي تجيبه بنبرة مختنقة من البكاء:
“يعني هيطلع ياسامي،مش هيحصه حاجة صح؟؟”
رد عليها سامي برتابةٍ:
“مش هيحصله إن شاء الله،ادعيلوا أنت بس كده،واهدي وكفاية عياط بقا علشان خاطري،خير بإذن الله خير”
“بس هما خدوه ليه أصلا؟؟”
“والله مانعرف،احنا زينا زيكم لحد الأن،لسه لما يطلعوا إن شاء الله هيعرفونا ايه اللي حصل”
مسحت عينيها بيدها وهو تجيبه:
“ماشي”
“تمام،يلا أنا هقفل بقا وأنتٍ حاول تهدي،وانا هتصل عليكِ لو حصل حاجة”
“ماشي وأنا هستني اتصالك”
“تمام،مع السلامة”
أغلق هاتفه عقب انتهاء المكالمة مع شقيقته ثم وضعه في جيب بنطالعه ووجه عينه نحو القسم كما يفعل البقية،وبعد ثواني قليلة ظهروا وأخيرا..ظهروا برفقته.
رسمت بسمة صغيرة تلقائيا علي وجوههم فور رؤيتهم له وهو يقترب منهم برفقة كل من عزت وفاروق،حتي توقف الثلاثة علي مقربة من داود الذي ظل يطالع ابنه بنظرات مبهمة،بينما الأخر أخرق رأسه بخجل ونبس بنبرة خافتة معتذراً:
“أنا..أنا أسف”
رفع رأسه وطالع والده وهو يستأنف حديثه:
“أنا بجد أســ..”
توقف عن التحدث والتفكير أيضاً،عندما وجد جسده يسحب من قبل والده،يسحبه بقوة ليحضتنه بين ذراعيه،مما جعله يفتح عينه وفمه بصدمة،يكاد لايستوعب أن والده يحتضنه الأن وبهذه القوة أيضاً.
ربت داود علي ظهرت بحنان ونبس بنبرة مختنقة كأنه كان يجاهد لعدم البكاء:
“خوفتني عليك”
ظل يحدق في اللاشئ أمامه وهو يقع بين ذراعي والده،مازال لايعي مايحدث معه الأن،يكاد لايصدق أن والده يعامله بهذا اللين وهو من كان يتوقع أنه سيثور غضباً عليه ويعاتبه علي ماحدث بسببه اليوم،ولكن لأ..ماحدث كان مخالف لتوقعاته تماماً.
ابتعدت أجسادهم عن بعض بعد عناق دام أكثر من دقيقة،ولكن بقيت أعينهم مثبتة علي بعضهما،وبقي هو مصدوم ومندهش كما هو،إلا أن جذب عمه محمود انتباهه عندما اقترب منه وربت علي كتف وتحدث بمرواغة:
“كفارة ياابن داود”
اقترب أحمد وهو الأخر منه وهو يقول:
“الف حمد علي السلامة”
“الله يسلمك ياعمي،تسلموا كلكم”
ابتلع ريقه ووزع نظراته علي جميع عائلته حتي توقفت علي أصدقائه فاستأذن من والده وأعمامه بعينه ثم اتجه لهم ووقف في مقابلة سامي بالتحديد،فابتسم بسعادة وفتح ذراعيه لهم واقترب منهم وهو يقول بمرح:
“مش هتستقبلوني ولا ايه؟؟”
“طبعاً”
نبس سامي تلك الكلمة بجدية بالغة تزامناً مع رفع يده وتوجيه لكمة عنيفة إلي وجه الأخير أصابت الجميع بصدمة كبيرة وعلي رأسهم بالطبع كان موسى الذي وضع يده موضع الضربة ثم نظر صوب سامي بأعين متسعة مصدومة،وقبل أن يفتح فمه ويتحدث بحرف واحد وجد جسده يسحب بقوة من قبل صديقه يضمه إلي صدره ويربت علي ظهره ويهمس في أذنه بحنان يتنافى مع مافعله منذ لحظات:
“الحضن علشان خوفتنا عليك،أما البوكس فاأنت عارف كويس ليه”
ضحك موسى بصوت مرتفع بعد إداركه السبب خلف ضرب صديقه له،ثم توقف وأردف بنبرة هادئة:
“عارف،وحقك عليا أنا فعلا أستاهل الضرب علشان خبيت عنك حاجة زي دي”
ابتعد سامي عنه وهو ينبس بجدية:
“بس دي ولا حاجة،أنا لسه ماحاسبتكش الحساب الصح،لسه هاأعرفك ازاي تخبي عنى إنك بتحب أختي،والله أنا لسه مش قادر أنطقها منك لله ياشيخ”
ضحك موسى مجددا ثم نبس من بين ضحكاته:
“أسف”
مسح سامي وجهه بغضب ثم حرك رأسه بالنفي وهو يتنهد،بينما الأخر ضحك ضحكة مكتومة حتى اقترب أصدقائه منه وعانقه محسن أولا وهو يقول بإشتياق:
“وحشتنا يا صاحبي؟؟”
“محسسني إني بقالي قرن جوه يامحسن مش ساعتين بس”
ابتعد محسن عنه مرددا:
“ولو ياصاحبي،أنت متعرفش الساعتين دول عدوا علينا ازاي”
“حقك عليا يامحسن،حقكم عليا كلكم علشان عيشتكم في حاجة زي دي،أنا أسف”
رد عليه طارق بنبرة هادئة رتيبة:
“بس ده حصل ليه؟؟،أنت اتقبض عليك ليه؟؟”
“موضوع كبير،كبير أوي نحكيه واحنا في الطريق”
أومؤا له جميعاً بالإيجاب،ثم صاح أحمد وأمرهم بالتحرك،فامتثلوا لأمره وصعدوا كل منهم إلي السيارة التي أتوا بها ماعدا موسى الذي صعد برفقة ابن عمه عزت برفقة صديقه سامي أيضا.
_________
____________
مع مرور الوقت…
دلف إلي شقة جده برفقة والده وأعمامه وخاله بعدما اتجه أصدقائه إلي منازلهم بعد توديعه؛وقف جميع الموجودين في الشقة بمجرد أن فُتح الباب بواسطة دلال وظهوره هو برفقة البقية.
واتجهوا جميعاً نحوه يرحبون به،وكانت أولهم بالطبع من فتحت له والتي عانقته بقوة عبرت بها عن مدى خوفها عليه واشياقه له:
“كده تخوفنا عليك بالشكل ده؟؟”
بادلها هو العناق كذلك بعدما أزال كل الحواجز الذي وضعها بينهما ورد عليها بنبرة هادئة:
“حق قلبك عليا علشان خوفته عليا،أنا أسف”
ابتعدت عنه بعد كلماته تلك لتترك مساحة للباقى لإستقابله أيضاً،وكانت والدته أول البقية فقد اقتربت منه وعانقته بقوة،ثم ابتعدت عنه واحتضنت وجهه بكفيها مرددة بإشتياق والدموع لاتزال علي وجنتها:
“حمد الله علي سلامتك،متعرفش حصلي ايه من ساعة ماشوفتهم بيخدوك من وسطنا”
“أنا خلاص قدامك وكويس أهو ماتعيطيش بقا”
أنهى جملته وهو يرفع يديه واخذ يمسح بهما دموعه والدته ثم اقترب منها ولثم جبينها وهو يبتسم لها بهدوء.
ابتعدت هي أيضاً وتركت مساحة لبقية العائلة والذي رحب به أكثرهم منهم بعيد بأعينهم وبكلمات بسيطة،أما محمد فقد اقترب منه وضرب وجهه بكفه بخفة وهو يمزح معه:
“كنت فاكر هتطول شوية هناك”
“يعني كنت عايزني أبات في التخشيبة قد ايه مثلا ياجدي علشان ترتاح مني؟؟”
“مش عارف قد ايه يالظبط،بس كنت عايزها مدة كويسة،مدة كفيلة إنك توحشني فيها،رغم إنك كنت بدأت توحشني أصلا من خمس دقايق تصدق بقا”
اتسعت ابتسامته تلقائياً بعدما كلمات جده تلك والذي وضع يده علي كتفه وربت عليها بحنان مع بسمة صغيرة حنونة.
تنهد هو حينها براحة ثم وزع نظراته علي من حوله من عائلته،حتي انتبه لعمه عمه محمود الذي قال:
“يلا ادخلوا بقا هنفضل واقفين علي الباب كده”
“لا محدش داخل..”
تفاجأ الجميع من قول محمد الجاد هذا ونظروا نحوه فوجوده يستأنف حديثه بقوله:
“محدش هيدخل يقعد،كل واحد فيكم ياخد مراته ويروح علي شقته في ناس هنا عايزه تقعد لوحدها وتتكلم في مواضيع مهمة خاصة”
فهموا مايرمى إليه بتلك الكلمات وأنه يقصد موسى ووالديه يحديثه هذا،فأموأ له جميعاً بالإيجاب وامتثلوا لأمره،واستأذنوا منه أولاً ثم غادر كل منهم برفقة زوجته وعائلته حتي طارق ودلال أيضاً،ولم يبقى سواه هو وابنه مصطفى فقط في الشقة.
_____________________
ولج ثلاثتهم إلي شقتهم في الطابق الأخير،وتقدم داود عنهم وأشعل أنوار الغرفة المظلمة ثم اتجه لغرفة المعيشة وجلس علي إحدي الأرائك هناك،واقتربت عبير منه وجلست بجواره،بينما هو وقف عند الباب يوزع نظراته عليهما ثم تنفس بصوت عالي وتقدما نحوهما هو الأخر.
جلس علي أريكة أخرى
أمامهما وأخرق رأسه محاولا ألا ينظر إليهما ولكن فشل في ذلك ورفع رأسه عندما وجد الصمت قد طال بينهم وعندما فتح فمه وشرع في التحدث سبقته والدته وقالت:
“ليه خبيت عننا كل ده؟؟”
تنهد بثقل ثم ابتلع ريقه وقال بنبرة هادئة رتيبة:
“كنت مضطر…ماكنتوش هتسمعوني لو جيت وقلتلكم علي اللي عايز أعمله،علشان أنا قبل كده حاولت أخليكم تسمعوني وفشلت”
طالعوه بأعين متسعة وعدم فهم لحديثه المبهم،فسارع في التوضيح بنفس الوتيرة:
“أنا..أنا حلمت بس،حلمت وكنت عايزكم جنبي علشان أحقق حلمي بس انتوا للأسف خذلتوني،أنا سبق وجيت وطلبت منكم إنكم تديوني فرصة لتحقيق حلمي..،يوم نتيجة تالتة إعدادي لما جيت لحضرتِك وقلتلك إن عايز أدخل ثانوي وهشتغل علي نفسي وأذاكر أكتر،ووقتها أنت قلتلي إن أروح لأبوايا هو اللي يقرر حاجة زي دي،فسمعت الكلام وروحتلك ياحج”
أنهى جملته وهو ينظر صوب داود المنتبه له بجميع حواسه،ثم ابتلع ريقه وأضاف:
“جيت وطلبت منك إن تديني فرصة وتثق فيا المرة دي وتخليني أدخل ثانوي وأدخل الكلية اللي أنا عايزها ومحددها،بس حضرتك من قبل حتى ماأقولك أسبابي اللي مخلياني عايز أدخل رفضت،رفضت وقلتلي إن مش هنفع،مستوايا ضعيف ومش هنفع في الثانوي،وأكبر دليل مجموعي في الإعدادي اللي أقل بكتير من مجموع دلال،وبالتالي ماليش طريق غير التجارة،أدخلها ومنها لأي كلية،ولو ماشتغلتش بكليتي أقدر أشتغل معاك أو مع أي حد تاني من أعمامي،وقتها أنا حاولت معاك أكتر من مرة،حاولت أخليك تغير رأيك بس رفضت رفض قاطع وقلت إن ده أخر قرار عندك،فماكنش عندي خيار غير إن أخضع وأقول حاضر وأدخل،ودخلت..بس دخلت وأنا مقرر إني هعمل الشيئ اللي بحبه،ماكنتش بذاكر مافتحتش كتاب طول ال٣ سنين ومعرفش نجحت ازاي أصلا،أنا كنت بقرا كتب تانية خالص،كتب عن البرمجة،كنت بنزل أستعير كتب من المكتبة اللي في الشارع اللي جنبنا وأسهر عليها وأقراها وأتعلم منها،واللي كنت بتعلمه كنت بطبقه علي أي كومبيوتر في السايبر،مرة أفشل ومرة أنجح وكانت ماشية،لحد مااتعلمت حاجات كتير واتعلمت أكتر لما بدأت أبحث علي النت وأقرا كتب أكتر وهكذا لحد مابقيت اللي أنا عليه دلوقتي،ولحد الآن أصلا لسه بتعلم وهفضل أتعلم،علشان دي الحاجة اللي بحبها،دي الحاجة اللي لقيت نفسي فيها”
أغمض داود عينه بصعوبة ومازلت هيئته توحي بالمندهش والمصدوم،ثم نبس بنبرة خافتة:
“كل ده واحنا منعرفش حاجة!”
“محدش كان يعرف حاجة من اللي قلتها غير صحابي وبس،سامي والباقى هما بس اللي يعرفوا كل ده،وهما كمان اللي كانوا بيساعدوني في الشغل”
“وهل كنت ناوي تقولنا علي كده؟؟”
طالع موسى والده للحظات ثم رد عليه مع تنهيدة:
“مش عارف،مفكرتش في اللحظة اللي هقولكم فيها،ماجاش في بالي خالص،حتي النهاردة أنا قولتلكم لما حسيت إن كنت هخسر فيروز،كنت هخسر اللي عملت كل ده علشانها أصلا”
أومأ له داود بالإيجاب وهو يحاول استيعاب كل ماقيل في هذه اللحظة وما قيل قبل ذلك أيضاً،أما عبير فبللت شفتيها ثم قالت:
“احنا..احنا مكناش عايزين غير مصلحتك،لما أبوك قرر إنك تتدخل تجارة كان علشانك”
“وأنا ماكنتش عايز غير أنكم تسمعوني..”
نظر كلاهما له بصدمة وعدم استيعاب لحديثه،بينما هو ابتلع ريقه ثم استأنف حديثه بنبرة هادئة معاتبة:
“أنا ماكنتش عايز منكم غير إنكم تسمعوني،تحسوا بيا وتعرفوا أنا عايز ايه..،كنت عايز أحس إن ابنكم،كنت عايز أحس أنكم بتحبوني.”
تفاجا كلاهما من حديثه وسارعت عبير في الدفاع:
“بس احنا بنحبك،مين قال إننا مش بنحبك؟؟”
“اسمعيني للأخير معلش..”
ابتلع ريقه ثم أضاف بصوت مختنقه وغصة:
“أنا..أنا طول عمري نفسي أحس أنكم بتحبوني،من ساعة ماوعيت علي الدنيا وأنا عايز أحس بده،بس للأسف ولا مرة حسيت بيه..،بحس بس بإهتمامكم ورعايتكم غير كده لأ..،مش عارف العيب منكم ولا مني،بس أنا واثق إن في حاجة غلط،أصل مش طبيبعي أبقى ابنكم وتعاملوني كده،وابنكم الوحيد كمان،يعني بجد مش عارف..مش عارف ليه مش بحس إنكم بتحبوني،بحس دايماً إن في فجوة بينكم وبيني،وفي جفاف،وخاصة بيني وبينك..يابابا”
أنهى جملته وهو ينظر صوب دواد الذي كان يطالعه بتركيز وانتباه شديد،ثم تنفس بصوت مرتفع وأردف:
“أنا عارف إن كان بيجي عليكم وقت وتتمنوا إني مابقاش موجود،وعلي فكرة ده حقكم يعني أي أب وأم في مكانكم عندهم ابن زي وفي وضعي كان هيتمنى كده،كان هيقولوا ياريتنا ماخلقنا ولا خلفوا واحد زيي،أنا واثق إنكم كنتوا بتقول كده في أوقات،زائد إني مدرك تماماً إني خيبت ظنكم فيا كتير،يعني انتوا أكيد حطتوا أمل كبير فيا وخاصة إني ابنكم الوحيد،يعني ربنا أراد إن أكون نصيبكم وإن مايبقاش عندكم ولاد غيري،وللأسف طلعت خيبة أمل كبيرة ليكم..،وأنا بصراحة مش عارف هل الحق في ده عليا ولا عليكم،بجد معرفش،بس اللي أعرفه يعني إن كنت المفروض أحس بأي حب منكم ليا طالما أنا الوحيد يعني،بس أنا للأسف ماحستش..،ممكن حسيت أوقات من ناحيتك ياماما..،بس أنت ياحج للأسف ولا مرة،ولامرة حسيت إنك بتحبني”
رفع كفه ومسح دمعة متمردة من عينه ثم أضاف بنفس الوتيرة:
“ماحستش بيه مثلا يوم ماطلبت منك أدخل ثانوي وأحقق حلمي،ولا يوم ماكدبتني في موضوع علبة السجاير،ولا في أي يوم تاني..،حتي في يوم وموقف عمرهم مايروحوا عن بالي،يوم مارجعنا أنا وولاد عمي من عند عمتي من اسكندرية لما صيفنا هناك أسبوعين ورجعنا،الكلام ده بعد موقف السجاير بفترة،وقتها أصلا حضرتك كنت رافض أروح معاهم وكنت معاقبني ورافض إني أطلع من أوضتي أصلا،لولا إن جدي وقتها أصر عليك وخلاك توافق توديني معاهم،وفعلا روحت وقضيت المدة وبعديها رجعنا،وكنت متوقع وقتها إني لما أرجع حضرتك هتبقى نسيت اللي حصل وسامحتني بس للأسف محصلش اللي كنت متوقعه خالص”
تنهد بعمق ثم استأنف حديثه بغصة باتت واضحة في صوته:
“وقتها لما رجعت مع ولاد عمي ودخلنا عليك في شقة جدي وأنت متجمع مع أعمامي..،وقتها عمي أحمد قام واستقبل ولاده وخدهم في حضنه وقالهم وحشتوني مدة قصيرة بس وحشتوني..،أما عمي محمود فراح مشارور ليهم علشان يقعدوا جنبه،ولما قعدوا راح مطبطب علي ظهر كل واحد فيهم ومبتسمله وكان فرحان برجعوهم ولا كأنهم غابوا عنه قرن مش أسبوعين بس..،أما أنا بقا ففضلت واقف،فضلت واقف علي الباب مستني أي إشارة منك ولو نظرة حتى،بس ماأخدتش..،زعلت وانكسرت جامد فوق ماتتخيل بس قلت إنك أكيد لسه زعلان ومتضايق مني،فقلت ماشي مش مهم،وروحت قعد جنبك..،استنيت تبصلي مابصتش فضلت عامل نفسك مش شافني،طب حتي كلمني ماكلمتنيش..معملتش أي حاجة خالص،سبتني بس قاعد جنبك في عالم غير عالمك،ففقدت الأمل وقلت خلاص هقوم،هقوم وأمشي لعلي ألاقى استقبال كويس من أمي،وأسمع منها اللي ماسمعتوش منك”
نظر صوب والدته ثم تنهد وقال هو يجاهد في كبت دموعه:
“فعلا قمت وطلعتلك في شقتنا هنا،خبطت الباب ودخلت ورميت السلام،ردتي وبعدين طلعتي من المطبخ وأول ماشوفتيني روحتي قايلة أنت جيت طب ادخل غير بقا وارتاح شوية أكون حضرت الغدا وناكل كلنا،وده بس اللي أخدته منك…،حتى..حتى من قريب على فكرة لما تعبت وجالي حرارة من فترة قريبة،وقتها دلال اللي أخدت بالها مني وفضلت جنبي لحد مابقيت كويس،وبعدين لما رجعت أنتِ وشوفتيني واقف في البلكونة روحتي قايلالي ماأنت كويس أهو أومال عمتك بتقول إنك تعبان ليه،زعلت..زعلت أوي من رد فعلك الحقيقة بس كالعادة كتمت جوايا وروحت رديت عليكي بكل بساطة وقلتلك إنه كان شوية صداع وراح لحاله”
سكت قليلا يحاول ضبط نفسه ومنعه نفسه من البكاء ثم استأنف حديثه:
“دول بس شوية مواقف،عينات بس مش أكتر،لكم بقا أن تتخيلوا الباقي بنفسكم وتتخيلوا إحساسي ايه بقا وقتها،وإزاي كنت بحس إني ولا حاجة بالنسبة لكم..،ممكن النهاردة بس للحق حسيت إن ليا اهمية عندكم،حسيت للحظة إنكم بتحبوني..،بس في نفس الوقت للأسف بقول إن مش هحس بحاجة زي دي غير لما أقع في مصيبة،يعني مش هحس بحبكم ليا غير لما أبقى في كارثة زي اللي أنا كنت فيها النهاردة أو لما أموت مثلا،بس ساعتها يعني هحس ازاي وأنا ميت..هحس إزاي بس”
فقد السيطرة وانتهت قدرته علي التحمل والكبت،فأخرق رأسه ودفن وجهه بين كفيه وأجهش في بكاء حاد بعدما نفذت طاقة احتماله في إخفاء مشاعره أكثر من ذلك،ليصبح أمامهما طفل صغير بهيئة شاب يافع،وصوت بكائه اخترق أذانهم وفطر قلوبهم.
بكت والدته علي بكائه ثم نهضت من مجلسها وجلست بجوارها ووضعت يدها علي ظهره وأردفت بصوت مختنق:
“حقك عليا،أنا أسفة إني خليتك تحس في يوم إننا مش بنحبك وإننا مش عايزينك،أنا اسفة ياروحي،حقك عليا يابني”
عانقته عقب كلماته تلك،فاعتدل هو في جلسته ثم بادلها العناق وبكى علي كتفها،وكانت هي أيضاً تبكي وتربت علي ظهره بحنان والدموع تسقط علي وجنتيها بعدما غرقت في بحر حزن ولدها الوحيد.
كل هذا تحت انظاره هو والذي لمعت عيناه هو الأخر وانكسر جليده بعد كل ماقيل وماسمعه من ابنه الوحيد وفلذة كبده الذي وهبه الله له ليكون سنده ومعاونه في الدنيا.
تنفس داود الصعداء وكأنه غريق نجا لتوه من الغرق ثم نهض من مجلسه واتجه نحو الجالسيّن أمامه ووقف أمامهما تماماً،فابتعدت عبير عن ابنها عندما شعرت بما يريده داود،بينما الأخر مسح دموعه بكلا كفيّه ثم وقف أمام والده وأخذ يهرب بنظراته منه، ولكن فجأة جذبه داود إليه وعانقه بقوة وهمس في أذنه بندم وإنكسار:
“حقك علي قلبي،حقك عليا يانور عيني”
أجهش في البكاء من جديد ولم يستطع منع نفسه،ولكن هذه المرة علي كتف والده،كتف والده الذي اشتاق إليها حتي نسى هذا الشعور تماماً.
ربت داود علي ظهر ابنه كأنه أب يحمل رضيعه الصغير علي ذراعه،وقد استسلم له الأخر تماماً واستسلم لحزنه واستمر في بكائه علي كتفه،دموعه كانت مزيجاً من الغضب والحنين والرغبة في استعادة ماضاع،ومع كل دمعة تسقط،كان عبء جديد يزول،تاركاً مكانه راحة لم يذق طعمها منذ وقت طويل،بعدما أخرج كل مافي قلبه من عتاب تجاه والديه،وأخرج كل ماكان يحمله من مشاعره مكبوتة طيلة هذه السنوات.
لتنتهي تلك الليلة دون أسرار ودون أي أحزان،انتهت بعناق أسريّ بعد سنوات من الجفاء والجفاف
،لتكن بداية جديدة لعلاقة شابت بفعل السنين،لكنها لم تفقد جذورها أبداً.
____________________
_
في صباح اليوم التالي…
جلس في غرفة المعيشة يحتسي فنجان من القهوة ليتخلص من الصداع الذي تملك منه من الصباح بسبب ليلة الأمس الذي كانت ثقيلة عليه.
اقتربت زوجته منه بعدما أنهت عملها في المطبخ وهو تقول:
“أقومه يصلي الضهر؟؟”
التفت برأسه نحوها ثم أومأ بالنفي مرددا بنبرة هادئة:
“لا،سيبه نايم لحد مايقوم لوحده،ليلة امبارح كان صعبة ومتعبة عليه أكتر مننا كلنا”
أومأت له بتفهم ثم اقتربت منه وجلست بجواره وقالت:
“صحيح..،أنت عرفت بموضوع يحيى صح؟؟”
“عرفت،سمعته أصلا واحنا نازلين ورا البوليس امبارح،ماتوقعتش إنه يبقى ندل كده بصراحة”
“طب هنقول لموسى إزاي إنه رجع في كلامه وبقى رافض موضوع جوزاه من فيروز”
“مين ده اللي رجع في كلامه..”
اتسعت أعين كليهما ونظرا نحو الصوت والذي لم يكون سوا موسى الذي انتظر منهم إجابة لسؤاله ولكن لم يحصل عليها،فكرر السؤال مجددا بلهفة وتوتر رغم توقعه للإجابة فقد أراد أن يسمعها بأذنيه:
“حد فيكم يجاوبني بسرعة مين اللي رجع في كلامه ومش عايز يجوزني فيروز؟؟”
تنهد داود بعمق ثم أجابه:
“يحيى،لما البوليس قبض عليك امبارح قعد يزعق ويقول إن مستحيل يجوز بنته ليك خلاص”
سكت قليلا يطالعهم في صمت مما أثار ريبتهم،ففتحت عبير فمهما وشرعت في الإستفسار منه عن صمته ولكن سبقها وهو عندما هتف بجدية:
“على جثتي”
_____________________
“افتح ياعمي،افتح الباب ياعمي”
هتف تلك الكلمات وهو يضرب باب شقة يحيى بكف يده
وهو علي علم بجود الأخير بالشقة،وقد صاب حدثه فقد كان يحيى في الداخل بالفعل يمنع كل من نادية وفيروز من الخروج إليه.
“محدش فيكم يفتحله،خليه بره علشان يعرف إننا رافضين الجوازة دي؟؟”
“بس أنا مش رافضة يايحيى،أنا موافقة جدا إنه يتجوز فيروز علشان مش هلاقى أحسن منه ليها كفاية بس إنه مننا وعلينا وبيحبها ومستعد يعمل أي حاجة علشان”
أيدت فيروز حديث والدتها بقولها:
“أيوه يابابا،موسى أكتر واحد بيحبني،وأنا كمان بحبه بصراحة وموافقة أتجوزه”
“بس أنا مش موافق يافيروز،انسي تتجوزي واحد زي ده رد أقسام ويلا ادخلي علي اوضتك لحد مامشي روميو ده”
أنهى جملته وهو يتجه نحو الباب،بينما هي أبت طلبه وظلت تقف في مكانها تراقبه هي والدتها حتي فتح الباب وخرج بنصف جسده منه وتحدث مع الأخير بهدوء:
“عايز ايه ياموسى؟؟”
“هو اللي عايز ايه ياعمي!!،أنت عارف كويس أنا عايز ايه”
“أنا مش موافق”
رد عليه موسى بنفاذ صبر محافظاً علي تهذيبه معه:
“هو ايه اللي مش موافق ياعمي،حضرتك اديتني كلمة امبارح ماينفعش تتراجع عنها بقا”
“لا اتراجعت عنها وسحبت كلامي خلاص،انا معنديش بنات للجواز”
“معندكش ازاي؟!،أومال اللي جوه دي بتعمل ايه؟!”
رد عليه يحيى بنبرة هادئة أثارت غيظ وغضب الأخر أكثر:
“اللي جوه دي مالكش دعوة بيها،أخرك معاها لحد مانسافر تاني صباح النور،مساء الخير وبس،أنا ماقدرش أدي بنتي لواحد البوليس أخده من نص بيتي امبارح”
“هو أخدنى في دعارة،ده كان محضر باطل وطلعت منه في ساعتها أكيد سامي قالك يعني”
“قالي وألف حمد علي سلامتك ياسيدي،بس برضه أنا لسه عند رأيي أنا مش موافق علي الجوازة دي،ووافقت امبارح اصلا لما جدك ضغط عليا،فايابن الحلال دور في مكان تاني نصيبك مش هنا،ولأخر مرة بقولهالك أنا معنديش بنات للجواز..ودلودقتي عن اذنك”
أنهى جملته وهو يغلق الباب في وجهه الأخير ودلف للداخل من جديد،فوقف موسى في صدمة للحظات يطالع الباب بفمٍ مفتوح ثم حرك رأسه بالايجاب وهو يردف بصوت خافت:
“معنديش بنات للجواز؟؟،ماشي ياعمي،أنتَ اللي جبتوا لنفسك،حقك عليا من دلوقتي”
____________________
_
“ألو ألو شغال؟؟”
نبس تلك الكلمات في الميكروفون(مكبر الصوت) الذي أحضره ووقف يمسكه تحت بيت يحيى في منتصف الطريق.
حمحم قليلا ثم شرع في التحدث في الميكروفون تحت أعين المرة في الطريق:
“عمي يحيى!،ياعمي..،اطلع لو سمحت”
خرج أفراد العائلة وتحديداً النساء إلي شرف شقتهم فور سماعهم لصوت الأخير،كما خرج داود من الورشة عندما سمع صوت ابنه،ثم رفع رأسه نظر حيث ينظر فوجد يحيى يخرج إلي شرفة شقته وخلفه كانت نادية وفيروز.
اقترب يحيى من السور وطالع الأخير وهتف بتعجب:
“أنت بتعمل ايه يابني!!”
رد عليه موسى ببساطة:
“بعمل الصح ياعمي،عايز أخليك تسمعني وترجع توافق علي طلبي وترضى تجوزني القمر بنتك”
“بلاش جنان ياموسى،وادخل بيتك يابني”
“للأسف مقدرش أدخل غير لما أسمع كلمة موافق منك”
رد عليه يحيى بإنفعال:
“وأنا سبق وقلتلك إني مش موافق يابني،خلاص الكلام انتهى بالنسبة لي أنا معنديش بنات للجواز”
هتف يجيبه في الميكروفون بنفاذ صبر:
“مفيش حاجة اسمها معنديش بنات للجواز!،البنت دي بتاعتي تلزمني أنا،وهتجوزها يعني هتجوزها،ولو حضرتك ماوافقتش لأخطفها وأتجوزها وأنا مجنون وأعملها والحارة دي كلها تشهد إني مجنون،ودلوقتي بقيت سوابق كمان،فخد كلامي علي محمل الجد صدقني ياعمي ده لمصلحتك”
زفر يحيي بقوة وحاول التحكم في أعصابه وتجاهل الأخير،ثم نظر صوب محمد الذي كان يحتسي كوب الشاي في شرفته ويستمتع بمشاهدة مايفعله حفيده،وقال:
“ياحج محمد عقل حفيدك،اللي بيعمله ده ماينفعش”
وضع محمد كوب الشاي علي الطاولة الصغيرة أمامه ثم عاد ليحيى ونبس بنبرة هادئة:
“الواد ماغلطش يايحيى،الواد بيحب بنتك وعايز يتجوزها هيعمل ايه يعني؟؟”
“ماينفعش اللي بيعمله ده ياحج محمد،هيفضحنا كده في الحتة”
“أنت في ايدك ماتخلهوش يفضحنا يايحيى،وافق وخلاص وجوزهاله”
“لأ،أنا مش موافق،هو غضب”
“لا مش غصب يايحيى،بس اللي انت بتعلمه ده لعب عيال أكتر من اللي بيعمله العيل اللي تحت ده،أنت اديته كلمة امبارح وقرينا الفاتحة جاي دلوقتي تسحب كلامك وتقوله معنديش بنات للجواز طبيعي جدا بقا إنه يعمل اللي بيعمله ده”
أشار يحيى علي نفسه بإستنكار وهتف بتعجبٍ:
“يعني أنا دلوقتي اللي بقيت غلطان؟!”
“أيوه غلطان يايحيى،طالما اديت كلمة خليك قدها وماتسحبهاش بقا،وبعدين يعني بنتك بتحبه وموافقة وابننا بيحبها وهيكون قد المسؤولية وزيادة،وأنا مش هيعيد بقا اللي قلته امبارح”
هدأ يحيى قليلا ثم أردف:
“يعني حضرتك عايز ايه من الأخر ياحج محمد؟؟”
“عايز ألم شمل الأحبة يايحيى،وافق علي الجوازة دي قبل ماحفيدي يفضحك في المنطقة وفي المناطق المجاورة وزي ماهو قالك مجنون ويعملها،وأنا بنفسي أشهد بده”
تنهد يحيى بقلة حيلة ثم أخرق رأسه وطالع الأخير المنتظر في الأسفل ثم التفت نحو ابنته التي وقفت بجوار والدته خلفه وقال:
“بتحبيه أوي كده؟؟”
أومأت له سريعاً بالإيجاب،فضم شفيته ثم قال:
“ممكن تهربي معاه وتتجوزيه فعلا؟؟”
ردت عليه دون تفكير:
“مش ههرب معاه،بس هتجوزه”
اختبأت خلف والدتها لتتحامى بها بعد جملتها الجرئية تلك،بينما يحيى طالعها بصدمة للحظات ثم ابتلع ريقه وتنهد بقلة خيلة والتفت صوب محمد وقال:
“تمام ياحج محمد،موافق”
اتسعت بسمة كل من موسى وفيروز وكذلك محمد الذي قال:
“عين العقل،يبقى نلبس الدبل الخميس الجاي”
وصلت تلك الجملة لمسامع موسى فهتف سريعاً بحماسة:
“ماينفعش يبقى كتب الكتاب ياجدي”
ضرب داود وجهه بيده،بينما أخرق محمد رأسه وطالع حفيده وضحك علي ماقاله ثم تحدث من بين ضحكاته:
“نسلّك بس الخطوبة وأنا عينيا ليك ياجدو”
“تسلملي عينيك ياأحلى جدو في العالم”
ضحك محمد بصوت مرتفع عليه،ثم انتبه ليحيى الذي قال:
“مش بدري شوية ياحج محمد الخميس الجاي؟؟”
“ولا بدري ولا حاجة،خلي الولاد تفرح وخلينا احنا كمان نفرح”
أومأ بالإيجاب بعدما أدرك أنه لافائدة ترجى من النقاش مع الأخير،ثم تنهد بقلة حيلة وأخذ يطالع موسى الذي رفع يده بجواره وهتف بسعادة:
“فــيروز!”
اقتربت من السور وطالعته ببسمة سعيدة تكاد تصل إلي أذنيها،فوجدته يشير نحوها ويهتف بسعادة:
“وأخــيراً..وأخيراً هتكوني ليا وأكون ليكي…وأخيرا الدنيا هتحلو”
كلمات نبسها بصوت مرتفع وفرحة عارمة،فرحة وصلت لقلب كل من كان يسمعه في تلك اللحظة،وكيف لا وهو في هذه اللحظة قد خطا أول خطوة في تحقيق أعظم أمنياته-هي-والتي لطالما حلم بها،اليوم فقد حصل قلبه علي مايريد وحصل هو على ماأراده وماتمـنّاه.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.