رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الخامس عشر
الفصل الخامس عشر(كانت هي ملجأه)
-الأمر أشبه بأنني أريدك أن تعلم،ولا أود إخبارك.
“جبران خليل جبران”
_____________________
أراد أنا يطمئن عليها بهذا السؤال،أراد أن يعرف إذ كانت بخير أم لا بعد كل مامرت به اليوم،فاليوم كان عصيب عليها أكثر منه حتى وهو يدرك هذا جيداً،لذا اهتم بمعرفة حالها والإطمئنان عليها أكثر من نفسه،ولكن كل ماحصل عليه بعد كلماته تلك كان سؤال أخر تفوهت به،أو الأصح كان طلب:
“ممكن أسالَك سؤال؟؟”
لم يفكر كثيراً بل
أومأ لها سريعاً بالإيجاب مع قوله الرتيب:
“أكيد”
“أنتِ اتجوزتني ليه؟؟..علشان شفقان عليا صح؟؟”
وهنا كأنها ألقت عليه صخرة من قمة جبل،صخرة كبيرة الحجم سبق له أن رأها،وكان علي علم أنها في أي وقت ستسقط عليه،لذا كان متأهب لهذه اللحظة ومستعد لها..
أخرج شيهقاً عميقاً وهو يطالع يديّها التي دُفنت بين كفيّه،ثم رفع عينه لتتلاقى مع عينيها التائهة مرة أخرى،وابتسم لها بسمة هادئة لم تفهمها ولم تدرك سببها،ولكن لم تفكر في هذا كثيراً بل انتبهت له سريعاً عندما قال:
“أنتِ تعرفى ايه الفرق بين الحب والشفقة؟؟”
تفاجأت من سؤاله وقبل أن تبدأ التفكير في الإجابة وجدته يسترسل حديثه بقوله الهادئ:
“الشفقة هي إنك تتعاطف مع شخص معين وتحس بالحزن عليه،وتدرك حجم الألم والمعاناة اللي هو عاشها أو بيعيشها،والرغبة إنك تساعده وتدعمه وتخفف عنه..،أم الحب بقا فهو مودة،واحترام واهتمام بالشخص ده،الحب مابيوقفش عند إنك عايز تساعده وبس لأ،الحب إنك تحس بالفرح في قربه وتبقى عايز تشاركه في زعله وفي سعادته،وتبقى عايز تكون معاه علي طول..تكون قريب منه دايماً..،وأنا بقا مش هكدب عليكِ،أنا لما سمعت عنِّك شفقت عليكِ،بس لما شفتِك حبيتِك”
تفاجأت من صراحته وخاصة جملته الاخيرة التي عبّرت عما شعر به تجاهها،ولم يتوقف عند هذا الحد بل أضاف بنفس الوتيرة:
“أنا لما سمعت عنك وعن وضعك من الشيخ “سالم” شفقت عليكِ بجد،والسبب إن حالتك فكرتني بحالة والدتي لما بابا طلقها وسافر وسابنا أنا وهي،زعلت عليكِ رغم إن ماعرفكيش،وجالي فضول تجاهك وبقيت عايز أتعرف عليكِ،عايز أقرب منك وأساعدك،ففكرت وماأخدتش وقت كتير في التفكير وقررت إني أتقدملك،أخد الريسك وياصابت ياخابت،وأنا سبق وقلتلك الكلام ده يوم كتب كتابناً،المهم بقا لما جيت..وأول ماعيني وقعت عليكِ..قلبي حبِّك،وشارو عليكِ واختارك قبل ماأتكلم أنا وأختارك..،ارتاحلك..من أول نظرة ارتاحلك..عرف إنك إن اللي هتمليه وتريحه وتطمنيه،عِرف إنك أنت اللي تستاهله حبه..،فحبك وأنا حبيتك وبقيت مُتيّم بكِ مش شفقان عليكِ..،وصدقيني الكلام ده طالع من قلبي ليكِ ياليلى..،أنا دلوقتي عايز أكون جنبك عايز أعوضك عن كل اللي عشتيه،عايزك تثقي فيا..وتحبيني زي ماأنا بحبك”
صمتت ولم تجد رد مناسب علي كل ماقاله،فحديثه أثار دهشتها فكل كلمة تفوه بها كانت بمثابة زهرة يزرعها في حديقة قلبها،لشعورها بصدق حديثه ومشاعره في نبرة صوته التي جعلتها تشعر بالثقة والإطمئنان،وفي عيونه التي رأت بها الحب والحنان،وفي عناق يديّه ليديّها والتي أحيت لديها شعور الأمان.
أطرقت رأسها وأغمضت عينها ببطء،وفي أقل من لحظة سقطت الدموع المحتجزة علي وجنتيها،فسارع في فك حصار يدها ورفع يديّه ومسح دموعها تزامناً مع قوله لها:
“بلاش عياط..علشان خاطري”
فتحت عينها وطالعته لترى خوفه وحزنه عليها يكسو ملامحه وفجأة وجدت ابتسامة هادئة تشق وجهه وتلاها فوراً قوله الرتيب:
“والله لو كان بيدي لِمَنعتُ دموعكِ من السقوط..لكُنت سجنتها خلف القُضبانٍ ومنعتها من الخروج”
التقط نفساً عميقاً ثم أضاف بنفس الوتيرة:
“اوعي تعيطي ياليلى،مش عايز أشوفك بيتعطي أبداً،عايز أشوفك وأنت مبتسمة وبتضحكي،علشان ضحكتك حلوة والله وبتحلّي يومي..،عايزك تتفائلي وتنسي اي حاجة بتزعلك،عايزك تنسي كل اللي حصل النهاردة،اعتبريه كابوس وانتهى وماتفكريش فيه تاني،عيشي حياتك وفكري في اللي جاي وانسي اللي راح واللي فات..،وأنا معاكِ..أنا هساعدك علشان تنسيه أو علي الأقل تعتبريه ماضي ومات”
صمت قليلا وضم شفتيه ثم أضاف:
“أما بقا بخصوص جوازي منك..،فأنا اتجوزتك علشان بحبك..بأكد عليكِ تاني علشان تشيلي فكرة الشفقة دي من دماغك،وبس..أنا مستني بقا تحنّي عليا وتحبيني،وتثقي في حبي ليكِ”
أنهى جملته ببسمة حنونة،جعلتها تتأمله وتغرق في كلماته لها والتي كانت أشبه بالبحر الصافي،أما هو فتنفس بعمق ثم ربّت علي كف يدها بحنانٍ ثم شرع في النهوض ولكن فجأة شعر بلمسة يدها،عندما تمسّكت بيده فالتفت لها وطالعها من جديد فوجدها تقول بنبرة خافتة:
“أنا أسفة،أنا بجد أسفة علي كل اللي حصلك بسبي..،أنت أنت ماتستاهلش واحدة زيي،أنت كتير عليا..،أنت تستاهل واحدة أحسن مني وظروفها أحسن،مش واحدة دخلت القسم بسبها بعد أسبوع من جوازك منها”
انقبضت ملامحه،وأدرك أنها تأثرت بحديثه والده السابق،فابتلع ريقه ثم عاد لوضعيته السابقة وجلس أمامها،ثم تنهد وقال:
“أنتِ تستاهليني عادي علي فكرة،أنت مش قليلة ولا ناقصك حاجة علشان تقولي كده،أنت ست البنات في الحنية والجمال وأحسن أم وأحسن زوجة كمان،أي حد هيقدر يشوف ده،هيشوفه بقلبه قبل عينه،زي ماأنا شوفته كده..،أنتِ الي كتير عليا ياليلى والله مش أنا،وبعدين يعني بطلّي تشوفي نفسك قليلة،خليكِ واثقة من نفسك،وانسي كلام أي حد شكك فيكِ أو قلل منك قبل كده،وانسي أي واحد ماعرفش ولا أقدر قيمتك الحقيقية،علشان الشخص ده هو اللي مايتساهلكيش”
كان يقصد ذلك ال “عاصم” بكلماته الأخيرة،كانت جملة صريحة منه يحثها بها علي نسيان مامرت به معه،وعلي كل مرة حاول التقليل منها ومن شأنها،حثها بأن تثق بنفسها من جديد وألا تتأثر بما قيل وبما سيُقال.
فهمت هي مايقصده بحديثه،وما حثها عليه،فظلت تتباعه بأعين تائهة،فرغم ثقتها به وبحديثه ورغم نجاحه في التاثير عليها بكلماته،لاتزال تائهة في ذكريات الماضي وصراعات الحاضر،لاتزال تائهة في كلمات والده التي فتحت جروحها من جديد.
لاحظ هي نظراته تلك لاحظ الضياع التي ابتلعها،فتنفس بهدوء ثم قال:
“ممكن أسألك سؤال؟؟..،هو كان بيضربك؟؟”
تعمد أن يسألها ليعلم إن كان مايفكر به صحيح أم لأ،فهو منذ رؤيته المدعو عاصم وجداله معه في وقت سابق،وهو يفكر في هذا الأمر،يفكر هل كان يتعامل معها بوحشية مثلما حاول اليوم مع رفاقه؟؟،هل كان حاد معها هكذا؟؟
،هل كان هذا سبب إنفصالها عنه؟؟
صُدمت وظهر عليها الرفض وأبت التحدث والتزمت الصمت،ولكن تفهم هو كل ذلك وقرر ألا يضغط عليها،فتنهد ثم قال:
“أنا مش هضغط عليكِ علشان تجاوبيني..،هسيبك براحتك وامتي ماتبقى جاهزة تتكلمي وتحكيلي أنا هبقى جاهز أسمعك،كل مافي الموضوع إني عارف إنك مريتِ بظروف وحشة بس أنا معرفش هي كانت ايه بالظبط،أو بالأصح انا معرفش منها غير إنه كان شخص غير مسئول وتابع لوالدته وبيسمع كلامها في كل حاجة،بس أظن إن ده مش السبب الوحيد ورا انفصالكم،فعلشان كده خمنت إنه ممكن كان بيتعدى عليكِ بالضرب وفكرت كده بسبب الي عمله النهاردة،علي العموم أنا زي ماقولتلك مش هتضغط عليكِ،امتي ماتحبّي تتكلمي أنا جاهز أسمعك..أنا جنبك ومعاكِ علي طول”
ابتسم لها بسمة صغيرة حنونة،وهو يربّت على يدها مجدداً،ثم همّ ناهضاً تزامناً مع قوله لها:
“أنا هدخل استحمى وأغيّر هدومي،وبعدين أنزل الجامع أصلي العصر علشان فاتني..،مش هتأخر عليكي”
أنهى جملته بإماءة بسيطة مثل ابتسامته ثم انصرف من أمامها واتجه إلي غرفة النوم،بينما هي رافقته بنظراته والتي غلبها الأسف..،أسف علي كل مابدر منها حتى رفضها في عدم اخباره عما عانت منه،ولكن الأمر خارج إرادتها،فافي النهاية هي لاتزال تتألم من الماضي ومازال يصعب عليها التحدث عنه
،يصعب عليها حتي تذكره،ولكن هي علي ثقة الأن أنها في وقت ما ستستطيع..ستتشجع وتستطيع إخباره بكل شئ،وخاصة بعد أن أثبت لها صدق مشاعره وحبه لها وزادت ثقته به لأضعاف بعد موقفه هذا.
_____________________
دلف إلي شقته بتعبٍ بعد كل مامر به اليوم،ليجد والده يجلس في منتصف المنزل وبهيئة علم منها أنه كان ينتظر قدومه،فألقى السلام عليه بنبرة هادئة طبيعية:
“السلام عليكم”
أتته الإجابة سريعاً من والده بنبرة حادة:
“وعليكم السلام..شرفت يابيه،شرفت ياللي طول عمرك رافع راسنا بعمايلك اللي زي وشك بالظبط”
أطرق رأسه قليلا وتنهد،ثم تقدم نحو الأخير ووقف علي مقربة منه وقال بنبرة هادئة معتذراً:
“حقك عليا ياحج،ماحدش كان متوقع اللي حصل ده”
“لا كتر خيرك بجد،أنا كده رضيت عنك يالا”
زفر موسى بضيق من أسلوب والده ذلك،ثم رفع عينه وطالعه وقال بثباتٍ:
“طب اعملك ايه تاتي ياحج؟؟،ماأنا اعتذرتلك أهو،وبعدين أنتَ تعرف سبب الخناقة اصلا؟؟”
“آه أعرفه،خالتك نادية اتصلت بعمك يحيى واحنا رايحين لكم وقالتله كل حاجة”
“طب ايه بقا!،أديك عارف إحنا اتخناقنا ليه؟؟،ليه محسسني إني كنت قاصد أتخانق وينقبض عليا”
“لا ماكنتش قاصد ياض،بس كان ممكن تتجنب تتعارك من الأول وتدخل في الحوارات دي”
اتسعت عين موسى بصدمة من حديث والده ذلك وأسرع قائلا بجدية:
“أتجنب ايه ياحج؟!،واتجنب إزاي أصلا،دول شوية عيال ماشموش ريحة الرجولة جايين يتهجموا علي ست متجوزة وياخدوا منها ابنها غصب عنها،كنت عايزني أقف اتفرج وأسقفلهم
”
“لأ ياظريف،كان ممكن تحل الموضوع بالهداوة بدل ماكان يوصل للقسم ياحيلتها”
“هداوة ايه ياحج اللي يتحل بيها!،بقولك كان بيتهجموا علي الست وكانوا عايزين ياخدوا ابنها،ولما فيروز وخالتي نادية حاولوا يمنعوهم زقّوهم بعيد،كنت عايزني اعمل ايه بقا وانا شايفهم بيعملوا كده،أخدهم علي جنب واقولهم اللي بتعملوه غلط”
انتفض داود من مجلسه مرددا بغضب:
“أنت بتهزر؟؟”
“حضرتك اللي بتهز ياحج..،كلامك لامؤاخذة مايدخلش عقل عيل عنده سنتين،ازاي يعني أكلمهم بالهدواة وأنا شايفهم بيتصرفوا كده؟!،اللي احنا عاملناه النهاردة فيهم شوية عليهم أصلا،كان المفروض مانسبش عضمة سليمة فيهم”
“علشان كنت تقضها في التخشيبة بقا أنت وصحابك”
أومأ له موسى بالإيجاب مع قوله الجاد والثابت:
“آه كنت أقضيها ومالو..،طالما كنت وقتها عرفتهم قيمتهم علي حق ماكنش في مانع إن أتحبس أي كانت المدة”
“وتبقى رد سجون زي ماأنت دلوقتي رد اقسام،وتقل من قيمتي ومن قيمة العيلة قدام الناس”
أزاح موسى رأسه يميناً وهو يزفر بضيق ويضغط علي أسنانه،ثم عاد للاخير من جديد وهتف بنفاذ صبر:
“كنت عارف إنك عامل الحوار ده كله علشان سمعة العيلة وسمعة حضرتك،علشان خايف يتمسوا بضرر من عاميلي اللي حضرتك شايفها بتقل منكم وبتعرّ..،علشان حوارتي اللي مابتخلصش واللي بالنسبة لك أكبر هموم في حياتك”
انفجر داود قائلا بغضبٍ:
“مظبوط،أنت وحوارتك أكبر هموم حياتي،أنت أكبر همّ ومصيبة في حياتي،كل يومين عامل مصيبة وحوار شكل،كل يومين لازم تنكد علينا وترفعلي ضغط،وكل مرة المصيبة بتبقي أسوء من اللي قبلها،وأخريهم إنك توصلنا للقسم..،حفيد عيلة عمران وابني يتقبض عليها ويتاخد في البوكس في نص الحارة علشان كان بيتخانق”
رد عليه موسى بإستياء وغضب مماثل له:
“آه كنت بتخاتق ياحج،شوفت شوية كلاب بيتهجموا علي بيت صاحبي وطلعت وراهم ودخلت معاهم في خناقة،ومش ندمان إني عملت كده،لو اتكرر الموضوع تاني هعمل نفس اللي عملته،مش هتردد ولو لحظة إني أعمله،علشان انا مغلطش ياحج،أنا واثق إني اللي عملته هو الصح..،وبصراحة بقى ومن الأخر حضرتك بتتلككلي،علشان مفيش تفسير منطقي لردة فعلك دي غير كده،أنا بقيت حاسس إنك مستنيني أغلط علشان تزعقلي”
“ماهو من عمايلك،أنا فقدت عقلي وأعصابي من عمايلك ومن شخصيتك التافهة..،أنا مش مستنيك علي غلطة زي ماأنت بتقول،أنا بقيت متوقع أي غلط منك،بقيت متوقع أي حاجة منك،مش هستغرب لو اتسجنت المرة الجاية”
زفر موسى بضيق بعد حديث والده الغاضب والساخط،ثم شرع في الرد عليه ولكن توقف عندما سمع صوت فتح باب الشقة وتلاه مباشرة صوت والدته وهي تقول:
“فيه ايه؟؟،ايه اللي بيحصل؟؟،صوتكم واصلّي وأنا طالعة علي السلم..ايه اللي حصل ياداود؟؟”
أنهت جملتها وهي تضع حقيبة يدها علي المنضدة،واقتربت من زوجها وهي تستأنف حديثها:
“عمل ايه تاني المحروس ده؟؟”
ضحك موسى بإستهزاء ثم سارع في الرد عليه بقوله الحانق:
“عملت يامصيبة ياحجة..زرت القسم النهاردة،وإن شاء اللي المرة الجاية أزور الحبس قولوا أمين”
شهقت والدته وضربت صدرها بكف يدها وهي تقول بصدمة:
“قسم؟!”
أومأ لها بالإيجاب مرددا ببرود:
“آه قسم،ابقى اعرفي التفاصيل من جوزك بقا علشان انتِ محضرتيش ال show..عن اذنكم”
أنهي جملته واتجه نحو الباب مباشرة ودلف للخارج،بينما التفت والدته لداود الذي جلس علي الكرسي ووضع كف يده علي مقدمة رأسه،بينما يستمع لسؤال الأخيرة له:
“ايه اللي حصل ياداود؟!،قسم ايه اللي الواد كان بيتكلم عنه؟؟”
رد عليها داود بإستياء ومازال بنفس الوضعية:
“جيبيلي كوباية مايه الاول وبعدين هفهمك اللي حصل”
هرولت إلي المطبخ لتحضر ماطلبه منها مرردة بقلقٍ:
“ماشي”
بينما علي جهة الأخري..
كان يترجل علي الدرج بخطواط سريعة وملامح مستاءة وغاضبة،ولكن فجأة توقف جسده عندما وصل إليه ذكر اسمه من قبل جده:
“موسى!”
تنفس موسى الصعداء ثم التفت جهة جده فوجده يجلس علي كرسي مجاور للباب ويمسك بمِسْبَحَته ليختم صلاته،فتحدث معه بنبرة جاهد لتخرج طبيعية:
“معلش ياجدي،أنا مزاجي وحش ومش فايق لمناقشة تانية خالص”
“اللي عملته صح،أنت ماغلطتش في اللي عملته..،راجل ياض”
نجح محمد بتلك الكلمات الرتيبة في رسم الإبتسامة علي وجه الأخير وتعزيز ثقته في نفسه من جديد بعد ماسمعه من والده قبل لحظات،فابتلع ريقه بغصة ثم قال بنبرة هادئة ممتنة:
“شكرا ياجدي..شكرا”
تنهد ثم أومأ له بالإيجاب مرددا:
“عن اذنك”
ترجل من علي الدرج ليخرج من العمارة ببسمة هادئة رُسمت علي وجهه بعدما كلمات جده تلك والتي كانت أشبه بشروق الشمس في يوم ممطر،بينما جده تنهد هو الأخر وهو ينظر لأثره ببسمة هادئة،ثم تحدث بينه وبين نفسه:
“ربنا يهديك ياابن داود..أنت وأبوك”
____________________
_
جلس في الجامع،يستند بجسده علي إحدى الأعمدة في المنتصف،مُغمض العينين ومُرخى الجسد،يحاول الإسترخاء في أكثر الأماكن راحة وهدوء والمحببة علي قلبه،بعدما انتهي من صلاة العصر وقراءة بعض أيات القراءن الكريم وذكر لله والتسبيح.
تنفس الصعداء محاولاً الإسترخاء،ولكن فجأة شعر بيد تُضع علي كتفه اليمنى وصوت صديقه الذي يميزه يقول:
“كنت حاسس إني هلاقيك هنا”
فتح سامي عينه والتفت برأسه وطالع الأخير الذي جلس
بجواره وهو يجيبه بقوله الهادئ:
“هروح فين يعني؟؟،ليا مكان غير ده أروحله!”
جلس موسى بجوار الأخير بنفس الوضعية،فأدرك الاخير منها ومن ملامحه ماحدث فقال:
“اتخانقت ما مع عمي داود بسبب الي حصل مش كده؟؟”
ابتسم محاولاً إظهار عدم الاهتمام ثم اردف ساخراً:
“ده العادي بتاعنا..،أنا لو عطست بس هيزعقلي”
ضحك سامي ضحكة مكتومة ثم قال بجدية:
“كوميديا سودا”
ضحك هو الأخر علي قول صديقه ثم أردف بجدية:
“أنت بقا ايه اللي حصل معاك؟؟”
“تتوقع ايه يعني،أكيد اتخانقنا”
نظر موسى نحو الأمام وهو يجيب الأخير مرددا بجدية:
“يعني أبوك عمل زي أبويا..،تفكيرهم شبه بعض أوي”
“ممكن..ممكن تفكيرهم شبه بعض فعلا،بس أبوك مش أناني زي أبويا”
تفاجأ من جملة صديقه وعاد إليه بنظراته المتعجبة،وقبل أن يستفسر منه عن سبب حديثه هذا،وجده يأكد حديثه ويضيف بنفس الجدية والهدوء بينما نظرت عينيه في اللاشيئ أمامه:
“أبويا فعلا أناني،ومابيفكرش غير في نفسه وسمعته وشكله قدام الناس وبس..،طول عمره كده وماتغيرش،اتجوز من والدتي علشان أهله ضغطوا عليه وكانوا مستعجلين في موضوع جوازه،راح عرض عليها الجواز وهي لسه في تانية كلية ووعدها إن هيخليها تكمل تعليمها وهو اللي هيصرف عليها بعد جوازهم،بس في الاخر خلف وعده وقعدها في البيت بحجة إن ظروفه ماتسمحش،قالها مالوش لازمة تكملي أنا بشتغل وانا اللي هصرف عليكِ وعلي البيت،وفعلا وافقت علي كلامه وقالت تقدر ظروفه وتشتري رضاه..”
عاد لصديقه من جديد ثم استانف حديثه بنفس الوتيرة:
“بس هو ولا اشترى رضاها ولا اشترها من الأساس،في أول فرصة ليه لما ترقى في شغله وبقا ليه مركزه بقا يقلل منها بما إنها مكملتش دراستها،بقا يعيارها إن هو اللي بيصرف وبيدفع،وهي مجرد ست بتدير بيته وبتربي عياله وبتلبّي طلباته وبس،بقا كل يوم يسمعها كلمتين ولما ترد عليه يهددها إن يطلقها،فضل سنين علي الحال ده واحنا بس متابعين الموضوع وماينفعش ندخل،ماينفعش ندخل بينهم هما يحلوا مشاكلهم بنفسهم،هو دايماً كان بيقلنا كده أنا فيروز لما بيتخانقوا مع بعض،وطبعاً كنا بنقول حاضر،وسمعاً وطاعة..،لحد مافي يوم لقناهم مطلقين وبقينا كمان مجبرين إننا نفترق وإن كل واحد فينا هيعيش ما حد فيهم،والسبب أو حجته وقتها إن كان عايز يسافر وأمي رفضت تسيب اهلها وتمشي معاه،وهو لما صدق فراح قالها لو ماوفقتيش تسافري معايا يبقى أنت من طريق وأنا من طريق،وزي ماتقول كده أمي صبرها نفذ فراحت قالتله من الأخر أنا ماكنتش أنفع ليك من الأول،ولا أنت كنت تنفع ليا..،وفعلا اتطلقوا وسابلها البيت كمأخر ليها،وأخد
فيروز معاه وسافر..،
أخد فيروز معاه بالذات علشان هي كانت أشطر مني في الدراسة،كان متوقع لها إنها هتبقى حاجة كبيرة،وبقت فعلا دكتورة زي القمر وماخيبتش ظنه فيها،أما أنا بقا فكنت يدوبك بجيب تقديرات تنجحني علي قد مستوايا الدراسي،هو اختارها علشان ترفع رأسه أكتر وتعلّي من مقامه أكتر على عكسي أنا طبعاً،هو طول عمره مش بيفكر غير في مصلحته وشكله وبس”
سكت قليلا ثم أضاف مع تنهيدة:
“طول عمره
أناني ومتحكم كمان،عايز يتحكم في كل اللي حوله،وينفذوا اللي هو عايزه وبس،زي ماعمل مع أمي وفيروز وزي ماكان عايز يعمل معايا برضه..،هو رغم سفره كان عايز يتحكم فيا..،كان عايزني أدخل الكلية اللي هو اختارهلي،كان عايزني اشتغل في المكان اللي اختارهولي،كان عايزني اتجوز واحدة من اختياره مش اختياري أنا،علشان كده هو رافض ليلى وسطنا ومش بتقبلها لحد اللحظة دي
..،هو كان عايزني أسمع كلامه وأقوله أمين علي كل حاجة بيقولها..،بس أنا مستحيل كنت أعمل كده، مستحيل كنت أسمحله يتحكم فيا،ولا هو ولا حد تاني..،أنا باخد قراراتي بنفسي،ممكن أسمع وجهه نظرهم كانت مقنعة كان بها،أما بقا لو لأ فولا كأني سمعتها..وهنفذ اللي أنت شايفه صح،علشان في الأخر دي حياتي أنا،أنا اللي هرسم طريقي بنفسي مش حد تاني..،علشان كده مستحيل أسمح له إن يعاملني زي ماكان بيعامل والدتي،مستحيل أسمحله إن يتحكم فيا زي ماكان بيتحكم فيها،مستحيل أسمحله إن يبقى سبب في دمار حياتي،زي ماكان سبب في دمار حياتنا زما
ن
”
وكأن طاقته في كبْت مشاعره قد نفذت،وأراد أن يتحدث ويبوح بمافي خاطره من ألم وعتاب تجاه والده،
كأن مشاعره أرادت الخروج عبر الكلمات،ولم تتحمل أن تُحبس أكثر من ذلك،فأخرج كل شئ دون أن يُطلب منه،ودون أن يُسأل عنه،فقد أخرجه لتستريح روحه ولو قليلاً.
ابتلع ريقه بغصة ثم مسح وجهه بيده وهو يضيف:
“تعرف بقا ايه اللي يزعل اكتر من كل ده؟؟..إني مش قادر أواجه ولا أقوله اللي أنا قلته ده،مش قادر أقوله إن متحكم وأناني وإن السبب في دمار عيلتنا..،أنا عايزه يعرف بس مش عايز أقوله..،فاهمني؟؟”
وكيف لايفهمه وهو يمر بالحالة نفسها؟؟،كيف لا وقصته متشابه معه؟؟،فهو يريد البوح بكثير من الأشياء لوالديه،يريد التحدث عن مشاعره وأسراره وكل مافي في خاطره معهما ولكن عاجز عن فعل هذا.
شرد في سؤاله وفكر في حاله،ثم عاد إليه من جديد وحرك رأسه بإمائة بسيطة مع قوله الهادئ:
“فاهمك..وفاهمك أوي كمان”
أومأ له سامي بالإيجاب ثم أطرق رأسه ودفن وجهه بين كفيه وتنفس الصعداء،تحت أعين الأخر الذي كان يراقبه عن كثب وجميع حواسه منتبهة له،وفجأة رفع رأسه وطالعه من جديد ثم قال:
“وجعتلك راسك صح؟؟”
أتته الإجابة سريعا من موسى بقوله الجاد:
“أوعى تقول كده..،لو مسمعناش بعض مين اللي يسمعنا ياصاحبي،امتي ماتحب تتكلم أنا موجود علشان أسمعك”
ابتسم له سامي بإمتنان ثم رفع يده وربّت علي ذراعه كأنه يشكره لإستماعه له،والإصغاء إلي ماقاله،ثم أخفض يده وأردف بنبرة هادئة:
“مش عايز تتكلم انت كمان؟؟،أنا جاهز أسمعك علي فكرة”
“لا خليها مرة تانية،كفاية جرعات النكد اللي خدناها النهاردة”
أطلق سامي ضحكات شبه عالية علي حديث الأخير الساخر والذي كان يحمل طابع الجدية رغم ذلك،وسرعان ماشاركه الضحكات هو الأخر،وكأنهما يضحكان علي حزنهما وهمومهما بدلاً من أن يبكيان ويشتكيان.
ولكن سرعان ماتوقفوا عن الضحك عندما وصل إلي مسامعهم صوت يعرفانه جيداً:
“ده قاعدين يضحكوا!،ايه الروقان ده كله ياشباب؟!”
لم يكن هذا الصوت إلا لصديقهم كارم الذي وجدوه يقترب منهما برفقة التوأم،وجلسوا علي مقربة منهما وشكلوا دائرة تقريباً،ثم أضاف كارم بنفس الوتيرة:
“شايفكم بتضحكوا ورايقين،هي الدنيا حلوة كده عندكم؟؟”
نظر كل من سامي وموسى لبعضهما ثم تحدث الأول:
“حلوة أوي..”
استكمل موسى جملة الأخير:
“أوي أوي”
ارتفعت ضحكاتهم مجددا تحت أنظار الأربعة المندهشة والمتعجبة منهما،ولكن رغم ذلك كانوا يعرفون أن هذه الضحكات ليس إلا ستار يخفي الألم والحزن اللذان يشعران به.
ظلوا يتابعونهما بحزن علي حالهما حتي توقفوا عن الضحك ومسح كل منهما وجهه ليستعيد ثباته،ثم بادر سامي في التحدث بعدما لبس ثوب الجدية:
“كفاية ضحك لحد كده،قولولي هو انتوا جايين مع بعض؟؟”
وجهه سؤاله لأربعتهم فأجابه كارم بهدوءٍ:
“لأ،ده انا قابلتهم وأنا نازل من البيت فجينا علي طول علي هنا”
أومأ له سامي بالإيجاب،ثم تحدث محسن إليه:
“مظبوط ياسامي،أنت كنت عايز تكلمنا في حاجة بخصوص الشغل قبل مايحصل اللي حصل”
تذكر سامي الأمر فقال:
“آه افتكرت..،الموضوع إنه شركة**** اللي بنتعامل معاها علي طول طالبة شغل جديد مستعجلين فيه،ودفعوا نص المبلغ مقدماً كعادتهم والباقي بعد ماالشغل يخلص إن شاء الله،انا وافقت علي الشغل بتاعهم علشان احنا دايما بنتعامل معاهم وكده”
رد عليه موسى بنبرة هادئة جادة:
“عادي احنا اتعاملنا معاهم كذا مرة قبل كده فواثقين فيهم،المهم بقا هما عايزين الشغل امتى؟؟”
“خلال ٣ أيام..،حاولت معاهم تبقى المهلة أكبر علشانك بس هما مستعجلين”
“٣ أيام ٣ أيام عادي،أنا هسهر عليه الليلتين دول وأخلصه إن شاء الله،ابعلتي أنت بس التفاصيل وأنا هظبط الدنيا”
“تمام،هبعتهملك أول ماوصل البيت”
أومأ له موسى بالإيجاب مرددا:
“أوكى”
أومأ له سامي كذلك ثم انتبه لحسين الذي قال:
“هما هيدفعوا كام ياسيمو”
“٢٠٠..٢٠٠ الف”
اتسعت بسمة كل من حسين ومحسن وكارم وأطلق الثاني صفير خافت مرددا بحماسة:
“ده حاجة عنب أوي”
أيد حسين حديث توأم مرددا:
“عنب وشيكولاته كمان”
ضحكوا جميعاً على جملته تلك ولكن سرعان ماتوقفوا عندما سمع صوت رنين هاتف،فنظر كل منهم إلي هاتفه حتي علموا أنه الخاص بكارم،الذي قال:
“ده تلفوني أنا”
اخرجه من جيب بنطاله وبمجرد أن رأي من المتصل عقد بين حاحبيه وقال بحنقٍ:
“بيتصل ده ليه بقا؟!”
سأله محسن سريعاً:
“مين؟؟”
“مديري..أو الأصح مديري السابق بقا..الأستاذ فهمي كُفته”
ضحك الجميع علي جملته،وتحدث سامي من بين ضحكاته:
“عيب تقول عليه كده ياكارم”
رد عليه كارم بضجر:
“هو ايه اللي عيب!،ماهو مدير كفته فعلاً”
“طب رد عليه وشوفه عايز ايه”
“هرد،عالله يبقى يبقى الموضوع مهم وإلا هروح أخلع مناخيره من وشه المرة دي”
أنهى جملته ثم بدأ المكالمة مع المتصل وقال بحنقٍ:
“ألو..خير!،بتتصل ليه؟؟”
وصل إليه صوت الأخير يردف بهدوء:
“خير ياأستاذ ياكارم،أنا اتصلت بيك علشان كل خير لحضرتك”
تعجب كارم من أسلوبه المهذب هذا الغير اعتيادي بالمرة،ثم اردف بحنقٍ:
“حضرتي!،وأستاذ كارم!..،أنت شارب حاجة يافهمي بيه لمؤاخذة يعني؟؟”
تحكم الأخير بأعصابه وتنهد ثم عاد للأخير وقال بنبرة جاهد لتخرح طبيعية وثابتة:
“لا مش شارب حاجة ياأستاذ كارم،المهم يعني علشان ماطولش عليك انا اتصلت بيك علشان اقولك إن بإمكانك ترجع الشغل من تاني وفي منصب أعلى كمان ابتداءاً من الأسبوع الجاي”
انكمش حاجبي كارم والتزم الصمت بسبب صدمته مما سمعه،وفجأة ضيق عيونه وتحدث بشكٍ:
“أنا بدأت اتاكدت إنك شارب حاجة فعلا”
وصل إليه صوت الأخير يقول بهدوء:
“صدقني مش شارب حاجة”
“أومال ازاي بتطلب من حاحة زي دي،وأنا لسه كسرلك مناخيرك امبارح وهزأتك قدام الشركة كلها”
جزّ فهمي علي أسنانه عندما تذكر ماحدث ثم قال مدعي الهدوء والثبات:
“ايه اللي حصل كان خارج إرادتك،أنت اتعصبت وقتها وعملت اللي عملته،وأنا مقدر موقفك لو أي حد كان في مكانك كان ممكن يعمل كده،المهم أنا عايزك تنسى اللي حصل وتبدأ معانا من جديد في منصب أعلي وبمرتب أحسن كمان،أنت شخص مجتهد وحرام الشركة تخسرك..،أظن العرض ده مايترفضش ياأستاذ كارم،أنا هديك فرصة تفكر في الموضوع،ولو موافق هنتقابل أول الأسبوع إن شاء الله،فكر وقرر..ودلوقتي مع السلامة”
أنهي حديثه ثم أغلق الهاتف مباشرة،تاركاً الأخير متعجباً مما سمعه و غارقاً في الأفكار التي داهمته ونظرات أصدقائه المتسائلة عما يجري،وبادر محسن في سؤاله مردداً:
“فيه ايه؟؟،ايه اللي حصل؟؟”
نظر له كارم وظل يتابعه في صمت ثم أجابه وهو يمرر نظره عليهم:
“عايزني أرجع الشغل تاني في منصب أعلي ومرتب أحسن كمان”
ابتسموا جميعاً وظهر عليهم الفرح بما سمعوه وعبر محسن أولا عن سعادته بقوله:
“ده حاجة كويسة أوي،ايه الخبر الحلو ده”
“هو خبر حلو وكل حاجة،بس مش فاهم برضه ليه؟؟،ازاي يرجعني الشغل بعد كل اللي عملته؟؟”
أتته الإحابة من سامي بقوله الرتيب:
“ممكن علشان أنت موظف مجتهد ومش عايزين يخسروك”
“هو قالي كده برضه لما سألته،بس أنا مش مقتنع بصراحة”
رد عليه محسن بضجر:
“مش مقتنع ولا لأ،المهم إنك رجعت ياباشا للشغل واتريقت كمان وفي زيادة راتب في أحلي من كده”
أيد حسين حديث توأمه بقوله:
“مفيش أحلي من كده خالص،ده أحلي خبر نسمعه النهاردة ياجدع،خبر نحلّي بيه بعد مرارة اليوم كله”
وافقهم سامي الرأي أيضا بقوله:
“معاهم حق،المفروض تنبسط بخبر زي ده وماتفكرش كتير،ربنا كرمك أهو بدل ماكنت لسه هتنزل تدور علي شغل وتتعب في اللف”
“يعني أوافق ياشباب؟؟”
أتته الإجابة سريعاً من سامي بقوله:
“طبعاً وافق ياباشا”
سألهم كارم مجددا بصيغة أخري:
“يعني أفرح؟؟”
أتته الإجابة من موسى بقوله الرتيب:
“افرح..،افرح دلوقتي وابقى فكر في ازاي وليه بكره ياصاحبي”
اتسعت ابتسامة كارم وحرك رأسه بالإيجاب وهتف بسعادة:
“معاك حق،نفرح دلوقتي وبكره نفكر في الباقي،ونعرف ايه اللي مستنينا”
أومؤا له الجميع بإبتسامة هادئة،بينما هو نظر في اللاشئ ببسمة واسعة ويحرك رأسه بالإيجاب،ثم نظر سريعاً صوب حسن وقال:
“بقولك ايه ياحسن،ماتقرألنا ورد كده علشان ربنا يبارك في فرحتنا”
أيد موسى حديث صديقه بقوله:
“مظبوك ياحسن،وبالمرة اعصابنا ترتاح من اللي حصلنا”
أوما لهما حسن بإبتسامة مرددا برتابةٍ:
“حاضر،من عينيا..”
انتبهوا له جميعاً بكل حواسهم،بينما هو حمحم قليلا وأخذ نفساً عميقاً،ثم بدأ بتلاوة أيات من القرآن الكريم عليهم بصوته العزب،فهو قد حفظ القرآن الكريم علي يد والده الشيخ سالم،وقد ورث منه كثير من الأشياء الحسنة وأهمها صوته العزب في قراءة القرآن،الذي يشق القلب من جماله وصفاءه.
_
_
_
_________________
_
مع مرور الوقت…
دلف إلي شقة جده بعد صلاة العشاء،وبمجرد أن تقدم للداخل وجده يجلس في غرفة المعيشة مع كل من أعمامه مصطفي وأحمد،فألقى التحية الإسلامية عليهم بقوله:
“السلام عليكم”
رد الثلاثة التحية عليه،ثم تحدث جده إليه بنبرة هادئة:
“هتنام النهاردة هنا كمان؟؟”
أومأ له موسى بالإيجاب مع قوله الهادئ:
“آه..،أنا هطلع أقعد في البلكونة شوية”
“ماشي”
أومأ له موسى بالإيجاب ثم اتجه للشرفة وولج إليها،
وسحب إحدي المقاعد من حول المنضدة الصغيرة وجلس عليه،ثم ظل يتابع باب شرفتها ولكن هذه المرة بنظرات مشتاقة امتزجت بالحزن
.
مرت لحظات وهو يراقبها في صمت،حتي تنفس الصعداء ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله القماشي،وقام بفتحه واتجه إلي سجل أسماء ولامس الشاشة حتي وصل إلي رقمها والذي سُجّل ب “F1r0zi”.
ظل ينظر للشاشة المضيئة في صمت وتردد،حتي قرر الإتصال بها ورفع اصبعه ليبدأ المكالمة ولكن توقف في أخر لحظة وتحدث مع نفسه قائلا:
“أتصل بيها؟..طب لو سألتني جبت رقمها منين أقولها ايه؟؟..”
سكت للحظات ثم أجاب علي أسئلته بقوله مصحوب بإبتسامة:
“أقولها أخدته من دلال”
أنهي جملته ثم شرع في الضغط علي بدأ المكالمة ولكن تردد مرة اخري وتوقف عن فعل ذلك مع قوله:
“طب لو اتصلت أقولها ايه؟؟،هتكلم معها في ايه؟؟”
تنهد بيأس وحزن،ثم أغلق هاتفه ووضعه علي المنضدة أمامه بضيق،وعاد بجسده للخلف ورفع رأسه وطالع النجوم في السماء بملامح متضايقة ومهمومة
،ووجه عابس لم تجري الرياح كما اشتهى.
ولكن كان للقدر رأي أخر،فقد كُتب له أن تُرسم علي وجهه ابتسامة ويحصل علي مايريد هذه المرة،حيث وصل إلى مسامعه صوت فتح إحدي الأبواب وتلاه مباشرة صوتها الذي كان أشبه بنغمة موسيقية يعشقها يلفظ بإسمه:
“موسى”
انتفض من مكانه فور سماعه لصوته،كأنه استيقظ لتوه من نوم عميق علي صوت صافرة قطار..،بينما هي فوجئت من ردة فعله هذا واتسعت مقلتيها وسارعت في سؤاله:
“مالك؟؟”
انتبه لصوتها الذي كان عالي نسبياً،وشعر بالإحراج للموقف الذي وضع به،لهذا سارع في ادعاء الثبات وعدم الإكتراث ب ردة فعله تلك،واعتدل في وقفته ومال بجسده علي السور مع ابتسامة واثقة ثم قال:
“ماليش..،ماحصلش حاجة”
ابتسمت بهدوء وأومأت له بالإيجاب،فاتسعت هو ابتسامته وهو يطالع وجهها الذي بدا بالنسبة له أجمل من القمر في ليلة اكتماله،فكيف لا وهي من يعشقها قلبه وتهواها عيناه
،ولكن فجأة خرج من شروده هذا علي صوتها عندما قالت:
”
هي بتوجعك؟”
انكمش حاجبيه ولم يفهم ماذا تقصد فسأ
لها مستفسراً:
“هي ايه؟!”
وضعت يدها علي طرف شفتها كإشارة له مع قولها:
“هنا بيوجعك”
وضع يده علي موضع الجرح في شفته من الجهة اليمنى،واستوعب ماكانت تقصده،فحرك رأسه بالنفي مع قوله الهادئ ليطمأنها:
“لأ،مش بيوجعني ماتقلقش،مجرد خدش صغير يعني”
“طب حطتله مطهر؟؟”
صمت للحظات لعدم إجابة مناسبة لسؤالها،ولكن في النهاية اتخذ قراره وأجابها بإرتباكٍ:
“آه،حطلته أول..ماوصلت البيت”
طالعته بشكٍ لثواني ولكن لم يكن لديها خيار سوا تصديقه فقالت:
“تمام”
صمت كلاهما لثواني وهم يطالعان السماء،حتي عاد هو لها من جديد وقال:
“الجو حلو الليلة دي مش كده؟؟”
أتته الإجابة سريعا منها بقولها الهادئ:
“آه..دافي،دافي أوي..،بيفكرني لما كنا صغيرين وكنا بنقف كده فنفس الجو ده كده”
أنهت جملتها وهي تنظر له،فرد عليها بنفس الوتيرة:
“مظبوط كنت أنا وأنتِ ودلال وسامي،كنا بنفضل واقفين نتكلم علي مواضيع كتير وماندخلش غير علي النوم”
“مظبوط..كانت أيام حلوة أوي،ووحشاني أوي أوي”
“وأنا كمان وحشاني..،من زمان والأيام دي وحشاني..،من ساعة ماسافرتي”
أطلق تلك الكلمات وهذه المرة لم يسحبها أو يتراجع عنها،بل قالها بتعبير صادق وهو يقصدها،وقد وصل ماأراده لها فقالت بنبرة لامسها الحزن:
“حاجات كتير اتغيرت من بعد مامشيت صح؟؟”
“للأسف آه..،احنا كنا صحاب وقريبين أوي،وفجأة سيبتنا ومشيتي فسبتِ حتة فاضية في قلبنا محدش سكنها بعدك…،أنا بتكلم عني وعن سامي ودلال كمان”
وقد كان يكذب فيما قاله في النهاية،فذلك الكلام عبّر به عن نفسه وعن حالته فقط،ولكن ليتجنب غرابة الموقف والحديث بالنسبة لها قال تلك الكلمات.
أطرقت راسها للأسفل قليلا ثم تنهدت وقالت:
“أسفة..بس اللي حصل كان غصب عني،كنت مضطرة أسافر وقتها وأسيبكم،زي ماأنا مضطرة أسافر دلوقتي كمان”
وكأنها وضعت الزيت علي النار بكلماتها تلك،لتذكره بأنها ستغادر من جديد وتترك قلبه وحيداً مجدداً،لتذكره أنه سيخسرها مرة أخري إلا إذا حدثت معجزة وبقت..وقد يكون هو الذي خلف هذه المعجزة.
راقب ملامحها الحزينة واليائسة بنظرات أسى وأسف،وبعد ثواني من الصمت علي هذا الخال بادر في سؤالها بصوة مختنق:
“هتمشي امتي؟؟”
رفعت رأسها وطالعته وهي تجيبه:
“أسبوع،بعد أسبوع..،بابا كان عايز نمشي بعد بكره بسبب اللي حصل النهاردة بس أصرينا عليه وأنا وماما وخلانه يستني أسبوع كمان”
“أسبوع بس؟!”
أومأت له بالإيجاب بأعين ظهر بها الحزن،مع قولها مدعية الثباتٍ والتقبل:
“آه أسبوع،مدة كويسة هحاول أشبع من كل حبايبي علشان أسافر وأنا راضية ومرتاحة،وغير كده انا معايا أرقامهم كلهم هقدر اتواصل معاهم ونتكلم زي مانحب”
أبعد نظراته عنه وابتلع ريقه بغصة،ثم تنهد وعاد إليها من جديد،وابتسم بسمة مُرغمة وقال بصوت يكاد يختفي:
“مظبوط،هتقدري تتواصلي معانا فعلا عكس المرة اللي فاتت..،مظبوط”
انقبضت ملامحها وهي تراقبه وكأنها كانت تتوقع منه شئ أخر ولكن لم تحصل عليه،فابتسمت بسمة مشابه لخاصته وهي تومأ له بالإيجاب وهي تؤيد حديثه بقوله:
“مظبوط”
نفذ رصيدهم من الكلمات،وأصبح الصمت ثالثهم،وكل ماتبادل بينهم كانت النظرات،نظرات بين الأسى والحزن والعجز،ولكن انتهت تلك النظرات أيضا سريعاً عندما وصل إليها صوت والدتها وهي تناديها،فستأذنت من الأخير ببسمة ظهرت مُرغمة مع قولها الهادئ:
“أنا لازم أدخل علشان ماما بتناديلي..تصبح علي خير”
رد عليها بإبتسامة مزيفة ونبرة جاهد في أن تخرج طبيعية:
“وأنتِ من أهله”
أومأت له بالإيجاب ثم ولجت لغرفتها،بينما هو اختفت ابتسامته فور دخولها،وهو يطالع اثرها بوجهٍ عابس وواجم،
وكأن الدنيا أغلقت أبوابها في وجهه،وأصبح كالتأئه في الصحراء بلا مأوي…كل هذا بسبب فكرة ذهابها من جديد وعجزه وافتقاده للجرأة لمحاولة التمسك بها ومنعه من ذلك،وإذا ظل علي هذا الحال سيفقدها مجدداً وهذه المرة قد تكون للأبد.
.
.
.
بعد دقائق…
وصل إلي وجهته بعدما غادر شقة جده،نظر إلي الطابق الذي تقع به ثم دلف إلي المدخل،ثواني قليلة وأصبح أمام شقتها فأخذ نفساً عميقاً ثم طرق علي الباب طرقات بسيطة وتوقف بمجرد أن وصل صوتها إليه تحثه علي الإنتظار.
انتظر للحظات وسرعان مافُتح الباب بواسطتها وبمجرد أن وقعت عينه عليها خرجت الكلمات منه بنبرة مختنقة مباشرة:
“أنا محتاج أتكلم معاكِ أوي يادلال..”
كانت هي ملجأه ليخرج من داومة التفكير التي نجحت في ابتلاعه،وليجد طريق الخروج من إعصار الأفكار الذي داهم عقله،كانت ولازلت معاونه وسنده بعد الله.
يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.