رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الرابع 4 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الرابع

الفصل الرابع(زفاف)

الفصل الرابع(زفاف)

صلوا علي شفيعنا يوم القيامة…

نبدأ بسم الله…

____________________

_

تلك الأصوات التي تتخلل جدران البيوت وتنعش الأرواح قبل الآذان، أصوات الزغاريد الشعبية التي تنفجر في فضاء بيت آل عمران، حادة كنبض الفرح، دافئة كحُضن أمّ تزفّ ابنتها. اختلطت بنغمات الموسيقى المنبعثة من الطابق الثاني، موسيقى تتراقص على أوتارها الضحكات والتهاني، وكأن البيت بأكمله يتنفس سعادة في هذا اليوم.

اليوم ليس يومًا عاديًا… اليوم هو عرس مدللة أبيها، آخر عنقود العائلة، دلال، تلك التي اعتادت أن تُحاط بالحب والدلال، والتي لم يعرف قلب أبيها ولا إخوتها فرحة تضاهي فرحتهم بزفافها. اليوم تُزف إلى طارق، الرجل الذي سكن قلبها منذ زمن، حتى أصبح جزءًا من روحها.

وصلت كل تلك الأصوات إليه… إلى حيث يقف في شرفة شقته في الطابق الأخير، بعيدًا عن الضوضاء لكنه في قلب الحدث. عيناه تتجولان في الأسفل حيث يقف والده وأعمامه وأبناء عمومته، يتحركون هنا وهناك بحيوية لا تهدأ، يرفعون المقاعد، يعلّقون الزينة، يشرفون على العمال وينظمون المكان استعدادًا للاحتفال الكبير.

وقف يرمقهم من الأعلى، يطلّ من شرفته كغريب يراقب عالمًا اعتاد تفاصيله، لكن قلبه اليوم يراه من زاوية مختلفة.

ارتسمت على وجهه بسمة هادئة، بسمة تحمل بين طياتها فرحًا صافيًا يلمع في عينيه، عيون تفيض بلمعان الفرح الممزوج بشيء خفي… خليط من الحنين والدهشة.

ظل هكذا للحظات، ساكنًا وسط صخب الحياة في الأسفل، ثم تنهد طويلًا وكأنه يفرغ صدره من ثِقل شعور لا يعرف كيف يصفه، وأخذ يحدّث نفسه بصوت خافت يكاد لا يسمعه أحد:

“العمر عدى بسرعة… ولا لمحته… مين يصدق؟ البنت اللي كنت من يومين بلعب معاها وأشد شعرها لما تعصبني… كبرت واتجوزت! خلاص… الليلة دي فرحها… كل حاجة حصلت بسرعة… فجأة ومن غير أي مقدمات بقت عروسة… ومش أي عروسة… عروسة خالي… خالي اللي كان بيشيلنا على إيده احنا الاتنين…”

تسللت ابتسامة صغيرة إلى وجهه وهو يكمل، وكأن الذكريات تتراقص أمامه:

“خالي اللي كان يضحك معانا، ويودينا الحضانة الصبح… بقى جوز عمتي… دلال… دلال اللي عمري ما شُفتها كعمتي أصلاً… كانت أختي… رفيقة البيت… والنهاردة؟ النهاردة آخر يوم ليها هنا… بقى ليها بيت تاني… حياة تانية… هتبعد عننا… يمكن اللي مخفف عليا الفكرة إنها قريبة… عشر دقايق مشي ونوصلها… بس… المشكلة مش في المسافة… المشكلة في غيابها عن وسطنا… في فراغ هيعمله غيابها… وفي إني… إني مش هلاقي حد أتشاكل معاه بعد كده… رسميًا… بقيت لوحدي في البيت الكبير ده… كله كبر ومشي… ومافضلش غيري.”

رفع يده إلى رأسه، مرر أصابعه في خصلات شعره كما لو كان يحاول ترتيب أفكاره، ثم أطلق زفرة ثقيلة وقال بصوت أشبه بالهمس:

“أنا كنت عيل من يومين… دخلت أنام… صحيت لقيت العمر عدى ومأخدنيش معاه… حصل بجد يا فنان…”

قد تبدو كلماته شذرات أغنية عابرة، لكنها بالنسبة له حقيقة دامغة… صرخة داخلية يعرفها كل من ذاق مرارة الزمن حين يسرقنا بلا إنذار.

هكذا هي الحياة؛ نمشي فيها بخطى ظنناها بطيئة، حتى نستيقظ فجأة لنسأل أنفسنا: متى؟ كيف؟ متى مضى كل هذا الوقت؟ كيف كبرنا هكذا؟ وكيف صار كل ما أحببناه جزءًا من ماضٍ نطل عليه من بعيد؟

_____________________

ترجّل بخطوات ثابتة، خطوات ظاهرها القوة وباطنها مزيج من التردد والرهبة، حتى وصل إلى الطابق المقصود.

توقف عند الباب لحظة، كأنما يستجمع شيئًا من شجاعته قبل أن يدلف إلى الداخل. وما إن دخل، حتى استقبلته ضجة الأحاديث النسائية المتشابكة، ضحكات تتعالى، أصوات زغاريد متقطعة، ورائحة عطر البخور الممزوجة بعبق الحناء.

وقف في مكانه، عينيه تتنقلان بين وجوه النساء المتحلقة هنا وهناك، يتأملهن بصمت، وكأنه لا ينتمي لهذه الأجواء رغم كونه جزءًا منها. لم يطل الأمر حتى لاحظته يمنى، فرفعت رأسها نحوه وقالت بصوتٍ فيه شيء من الدهشة:

“موسى!”

التفتت الأنظار كلها نحوه في لحظة واحدة، وكأن اسمه الذي نطقت به كان إشارة صامتة للجميع. ظل واقفًا في مكانه، متماسكًا في مظهره، بينما داخله يضج بأسئلة لا يبوح بها.

بادرت يمنى بقولها، وهي تشير له أن يتقدم:

“واقف كده ليه؟؟… ادخل!”

تحرك موسى بخطوات هادئة نحو منتصف الغرفة، توقف عندها كأنه بلغ حدًا لا يريد تجاوزه. عندها تقدمت والدته بسؤالها وهي تتفحص ملامحه:

“عايز حاجة ولا إيه يا موسى؟”

رفع بصره نحوها، نظرة صامتة حملت أكثر مما قالت كلماته، ثم أجاب بعد لحظة تردّد:

“هي… دلال جوه؟”

أومأت والدته بالإيجاب قائلة:

“آه، جوه في أوضتها.”

تردّد قليلًا قبل أن يسأل:

“في حد معاها؟”

“مفيش غير نورهان وعمتك سهير.”

هزّ رأسه ببطء وهو يقول بصوت منخفض لكنه حاسم:

“تمام… ماشي… أنا هدخلها.”

قالها موسى ومضى نحو باب الغرفة، طرق طرقات خفيفة، طرقات تحمل شيئًا من التردد، وكأنها استئذان لقلبه قبل أن تكون استئذانًا لباب.

وما إن أُذن له بالدخول، حتى فتح الباب ببطء ودلف للداخل.

“موسى!.. تعالى.”

كانت هذه جملة نورهان التي ابتسمت له بخفة، ثم اقتربت مشيرة بيدها ليتقدم أكثر، قبل أن تضيف بنبرة عملية:

“أنا هروح أجهز بقى يا عمتو.”

ردت عليها سهير وهي تتحرك من مقعدها:

“استني… أنا جاية معاكي.”

توجهت الاثنتان نحو الباب وغادرتا، وأغلقت نورهان الباب خلفها تاركة وراءها صمتًا ثقيلًا، وكأنها أغلقت معه العالم كله على شخصين فقط.

وقف موسى في منتصف الغرفة يرمقها… تلك التي وقفت هناك، أمام المرآة، ظهرها له، ترتدي ذلك الفستان الأبيض البسيط الذي لم يحتج إلى زينة إضافية ليجعلها تبدو كالملاك… أو هكذا رآها عينيه.

كانت مشغولة بتعديل طرحتها، غير منتبهة لوقع نظرته التي ثبتت عليها وكأنها تحاول حفظ ملامحها في ذاكرته قبل أن يسلبها الزمن منه.

التفتت فجأة نحوه، وكأنها شعرت بعيونه، فرأى وجهها… وجهٌ يعرفه منذ سنوات، لكنه الآن بدا مختلفًا، أكثر إشراقًا، وكأن الضوء نفسه اختار أن يسكن ملامحها في هذه الليلة.

بقي شارداً بها، ببساطة حضورها وعمق اللحظة، حتى ارتسمت على شفتيه بسمة هادئة، لم يدرك أنه ارتسمت، قبل أن يقطّع صوتها خيوط شروده:

“إيه؟!.. بتبصلي كده ليه؟”

ارتبك لوهلة، حرّك رأسه سريعًا نافيًا وهو يخفي ابتسامته:

“مفيش… متفاجأ من شكلك بس، أول مرة أشوفك كده.”

أشارت إلى فستانها بخفة، نظرة عابثة في عينيها:

“طب… إيه؟ شكلي حلو؟”

لم يتأخر رده، جاء صريحًا، لكنه محمّل بما لم يقله:

“عادي… شكلك عروسة.”

قالها ببرودٍ متعمّد، وكأن الكلمات وحدها لا تكفي لتفضح ما يجول بداخله…

نظرت هي له بضيق، تجعّد جبينها في استياء واضح، ثم أردفت بنبرة غيظ:

“أنت غتت أوي… مستخسر تجاملني حتى وتقول إني حلوة وخلاص.”

أجابها بهدوء لا يخلو من عناد:

“أنتِ عارفة إني ما بحبش أجامل.”

هزّت رأسها بيأس، وزفرت بامتعاض مرددة:

“مفيش فايدة فيك.”

ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه، ابتسامة المنتصر في معركة صغيرة يعرف تفاصيلها، ثم قال ساخرًا:

“أنتِ خلصتي كده؟”

نظرت له بنظرة حادة وردّت بنحنق:

“آه… يدوبك هنروح على السيشن.”

رفع حاجبه باهتمام زائف وهو يقول:

“على كده ما رحتِيش الكوافير؟”

أجابته ببساطة:

“لأ… البنات جولي هنا ومشيوا من شوية.”

أومأ برأسه وكأنه يقيّم الوضع، ثم قال ببرود مصطنع:

“تمام… ألف مبروك.”

رسمت على شفتيها ابتسامة دافئة، نبرة صوتها اختلفت وهي تجيبه بهدوء صادق:

“الله يبارك فيك… عقبالك.”

رد عليها سريعًا دون تردّد:

“شكرا.”

ثم ما لبثت أن أطلقت تعليقًا بخبث مقصود:

“ربنا يجمعك بيها بأسرع وقت.”

جاء رده التلقائي، وكأنه لم يدرك في البداية ما قال:

“يا رب… قصدي إن شاء الله، الله أعلم.”

ابتسمت له بخفة على طريقته تلك، قبل أن تقول مازحة:

“بلاش الكلام ده معايا… أنا عارفة كل حاجة لو ناسي يعني.”

نظر إليها بثبات وقال بجدية يختبئ خلفها قلق حقيقي:

“لا مش ناسي… أنتِ الوحيدة اللي تعرفي بالموضوع ده، ومحدش غيرك لازم يعرف… أظن فاهمة قصدي كويس؟”

طمأنته بنبرة حاسمة:

“ماتخفش… سرك في بير ومن زمان أوي.”

أجابها بحدة خافتة:

“وياريت يفضل في البير ده على طول.”

هزّت كتفيها بخبث، وقالت:

“مش عارفة… ممكن البير ده يتخرم… يتصدع في يوم… الله أعلم.”

تغيّرت ملامحه، نظر لها بغيظ واضح، وصوته صار أكثر جديّة:

“دلال… لو حصل وحد عرف، هزعلك جامد.”

ضحكت بخفة متحدّية:

“مش هتعرف تعملي حاجة زي كل مرة… وغير كده أنا ما بقيتش عايشة معاك خلاص.”

سكت موسى، كأن كلماتها الأخيرة طعنته في مكان ما لا يودّ الاعتراف به. حدّقت فيه هي باستفهام، محاولة قراءة صمته، ثم سألت بنبرة تجمع المزاح بالاهتمام:

“إيه؟ سكت ليه؟ أوعي تكون زعلان علشان همشي؟”

أجاب ببرود متعمّد يخفي به ما لا يريد أن يظهر:

“خالص… بالعكس… أنا مبسوط إنك هتمشي وهارتاح من صداعك واستفزازك بقى… وغير كده هعرف أقرب من جدي براحتي بعد ما أنتِ تمشي… علشان دايمًا كان بيقف في صفك ويحميكي مني لما نتخانق.”

اتسعت عيناها دهشة، وقالت:

“قصدك إنك هتلعب في دماغ بابا؟!”

أومأ بثقة باردة:

“آه… مش أنا الابن الوحيد اللي فاضل في العمارة كلها؟ أكيد هيدلعني وهيعملي اللي أنا عايزه.”

شهقت ضاحكة رغم استيائها:

“أنت مجنون؟!”

ابتسم ابتسامة جانبية وقال بهدوء:

“عارف… وأنتِ كمان عارفة.”

رمقته بحنقٍ صادق، وكأنها لا تعرف كيف تغضب منه حقًا:

“هو حد يعرفك زيي!!”

هز رأسه نافيًا ببطء، وصوته هادئ لكنه صادق:

“مع كامل الأسف… لأ.”

تجمدت لحظة بينهما… نظرة قصيرة لكنها محمّلة بأكثر مما يقال. هي حدّقت فيه بضيق مزيف، سرعان ما تبدل بإبتسامة، وهو ابتسم بخبث محاولًا كسر ثقل تلك اللحظة التي باغتته كما باغتتها.

وفجأة… اخترق الصمت صوت بوق السيارات في الخارج، صوت صاخب أعادهم إلى الواقع دفعة واحدة.

نظرا كلاهما نحو النافذة في الوقت ذاته، وصوت أحد الأطفال يعلو في الخارج بفرح طفولي صافٍ:

“العريس وصل!”

التفت موسى إليها مجددًا، نظرته ثابتة لكنها تحمل ما لا يقوله، ثم قال ببرودٍ مقصود:

“عريسك وصل… اتفضلي.”

لم ترد عليه، اتجهت نحو النافذة لترى ما يجري في الأسفل، بينما هو ظل يتابعها بعينيه، يتأملها للحظة أخيرة قبل أن يهمس بنبرة بالكاد تُسمع، كأنها سر أُطلق في الهواء لا ليُلتقط:

“عروسة… زي القمر.”

وقبل أن تلتفت إليه، كانت فتيات العائلة قد دلفن إلى الغرفة، ضحكاتهن تتعالى وحماسهن يغمر المكان، يلتفون حول دلال يخبرنها بوصول العريس.

بعضهن أطلقن الزغاريد التي اخترقت أذنيه فجعله يقطب حاجبيه ضجرًا ويتمتم بحنق:

“ناويين تجيبولي صرع.”

_________________

بعد دقائق قليلة….

في الأسفل، اصطف الرجال يحيّون العروسين قبل أن يرحلا…

كان طارق يتبادل السلام مع داوود، يعانقه بحرارة بعدما صافح الجميع. وفي الوقت نفسه، كانت دلال بين ذراعي والدها؛ تعانقه بقوة، وكأنها تحاول أن تسرق من حضنه طمأنينة تكفيها لعمرٍ كامل.

ابتعد عنها قليلًا، رفع يده ليمسح على شعرها بحنان، وعيناه تحملان دموعًا حاول أن يخفيها خلف ابتسامة أبوية دافئة:

“ألف مبروك يا نور عيني.”

أمسكت يده وقبّلتها قائلة بامتنانٍ يغلبه التأثر:

“الله يبارك فيك يا بابا… ويخليك ليا.”

ابتسم لها مرة أخرى، ربت على رأسها بحبّ، ثم التفت نحو طارق وهو يوصيه بنبرة تحمل مزيج الجد والرجاء:

“خدوا بالكم من نفسكم… وما تتأخروش علشان نبدأ الليلة.”

أومأ طارق باحترام وقبّل يده، ثم عانقه بإخلاص… أما دلال، فرفعت رأسها ولوحت بيدها نحو من يقفون في الشرفات.

وفي تلك اللحظة، وقعت عيناها عليه…

هناك، في أعلى الطابق الأخير، يقف صامتًا في شرفة شقته، كتفاه مستندتان إلى السور، وملامحه ساكنة على غير عادتها.

التقت عيناها بعينيه… فتشنجت… شعرت بثقل في صدرها، وكأن كل الأصوات حولها انطفأت.

رأت في نظراته شيئًا لم تستطع تحديده؛ حزنًا؟ وداعًا؟ فراغًا؟ كل ما عرفته أنها لم تستطع صرف عينيها عنه.

ظلّت تحدق فيه حتى جاء صوت شقيقها أحمد، واقعيًا كصفعة على وجه اللحظة:

“يلا يا عروسين… اركبوا علشان ما تتأخروش!”

التفتت مرغمة، تبعت طارق إلى السيارة، لكنها ما زالت تسرق النظرات نحو الأعلى، نحو شرفته. جلست في المقعد، وأغلقت الباب، ورغم ضحكات المهنئين والزغاريد التي ملأت السماء، لم تسمع سوى الصمت الذي تركه في قلبها.

انطلقت السيارة، تبعتها سيارة فادي التي أقلّت يمنى وكريم ونورهان… وهو وحده بقي في مكانه، عينيه تتبعانها حتى غابت في شارعٍ آخر.

وحين اختفى أثرهم تمامًا، استدار ببطء، دخل إلى شقته، وأغلق الباب خلفه. خلع حذاءه بلا اهتمام، ثم ألقى بجسده على الفراش كمن أُلقي بثقله كله دفعة واحدة.

ثبت عينيه على سقف غرفته، حدق فيه بصمت طويل، ثم تنهد بعمق وقال بصوت منخفض، كأنه يحدّث نفسه:

“ليلتنا طويلة.”

_____________________

مع مرور الوقت…

فتح باب شقته بخطوات سريعة بعدما ألقى النظرة الأخيرة في المرآة. قميص أسود يلتصق بجسده، وبنطال بنفس اللون، وحذاء لامع يُصدر صوتًا مكتومًا مع كل خطوة على درج العمارة.

كانت ملامحه مشدودة، وكأن في داخله شيئًا يُطارده، فيما هاتفه مثبت بين كتفه وأذنه:

“أيوه يا كارم… قلت نازل أهو.”

جاءه صوت صديقه من الطرف الآخر، يحمل شيئًا من الحماس:

“طب يلا يا بني، إحنا واقفين تحت من بدري!”

“ماشي… ماشي… سلام.”

أنهى المكالمة وأعاد الهاتف إلى جيبه، يلتقط أنفاسه بسرعة كأن الدرج أرهقه، لكن خطواته توقفت فجأة حين دوّى صوت أمه من أعلى، بنبرة قوية اعتادها:

“استنى يا بني!”

استدار بتلقائية، وعاد بضع درجات إلى حيث وقفت عند باب شقة جده. اقترب منها مبتسمًا بخفة أراد بها تهدئة الموقف:

“نعم يا ست الكل؟”

أشارت إليه بإيماءة حادة:

“مالبستش البدلة اللي خالك جابهالك ليه؟”

أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يجيب ببرود متعمد:

“أنتِ عارفة إني مابحبش ألبس بدل.”

رفعت حاجبها، وصوتها يزداد صرامة:

“النهاردة فرح خالك وعمتك… مش أي يوم! كنت تعالى على نفسك شوية… إلبسها وخلاص.”

ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة، وقال:

“معلش يا ست الكل… ماقدرش أجي على نفسي في حاجة زي ديد ودلوقتي… تسمحيلي أنزل؟ لسه رايحين نجيب العروسين.”

ظلت تنظر إليه لثوانٍ طويلة، وكأنها تقرأ ما بين كلماته، ثم زفرت تنهيدة استسلام:

“روح… بتعرف تهرب من أي حاجة بسهولة.”

ابتسم هذه المرة بعفوية، وقال:

“دي موهبة عندي يا ست الكل.”

أشاحت بوجهها بضيق، ملوحة بيدها:

“امشي من قدامي!”

ضحك بخفوت، وهو يرد:

“كنت ماشي أصلًا… عن إذنك يا ست الكل.”

تركها خلفه، وهبط بخطوات أسرع، وما إن بلغ الأسفل حتى رأى أصدقاءه بانتظاره عند مدخل العمارة، يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم.

اقترب منهم، وصوته عاد جادًا:

“يلا بينا!”

رد عليه محسن بابتسامة واسعة:

“طبعًا يلا… فين عربية بلال؟”

“قال إنه راكنها على أول الشارع… يلا بينا.”

_______________________

ساد صمت قصير في السيارة، قطعه محسن بصوته الهادئ لكن النبرة المليئة بالتساؤل:

“أومال ماروحتش مع خالك وعمتك ليه يا موسى؟”

لم يلتفت موسى للخلف، ظل محدقًا بالطريق أمامه، وعيناه تراقبان الخطوط البيضاء على الإسفلت وكأنها تهرب منه، بينما انعكس وجهه المتجهم في مرآة السيارة الأمامية، قبل أن يرفع حاجبه ببرود ويقول:

“أروح معاهم أعمل إيه؟”

أجابه محسن بنبرة تحمل استنكارًا خفيفًا:

“تروح معاهم… دول خالك وعمتك يا بني.”

ضحك موسى ضحكة قصيرة، لكنها خالية من أي دفء، ثم قال وهو يعيد يده إلى المقود بإحكام أكبر:

“هما رايحين عمرة!.. ده سيشن تصوير، المصور هيخد لهم كام صورة ويرجعوا تاني، مش مستاهلة أروح معاهم يعني.”

تحرك سامي في مقعده الجانبي قليلًا، التفت برأسه نحو موسى وقال بصوت ينطوي على تحدٍ ساخر:

“يعني في السيشن بتاعي مش هتيجي معايا؟”

رمقه موسى بنظرة سريعة في المرآة، وكأنه يقيس مدى جدية السؤال، ثم رد ببرود متعمد:

“وقتها تفرج.”

لم يتراجع سامي، بل زاد إصرارًا:

“لا… أنا عايز إجابة دلوقتي.”

شهق موسى وكأنه يكبح غضبه، ثم قال متحاشيًا النظر إليه:

“سامي… بلاش هبل أبوس إيدك، قلت وقتها تفرج… يا عالم إيه اللي يحصل وقتها؟ ممكن تحصل حاجة تمنعني.”

قطب سامي حاجبيه وقال:

“أعوذ بالله من الطاقة السلبية… أنت جايبها منين يا ض؟”

ابتسم موسى بسخرية وهو يهمس:

“من أبويا… تحب أخليه يديك شوية؟”

رفع سامي كفه مستسلمًا وهو يرد:

“لا كتر خيرك… عندي منها وأنت عارف، بس ما بحبش أحتفظ بيها… بخليها تتسرب أول بأول.”

هنا مال كارم من الخلف للأمام، ووضع كفيه على كتفي سامي كأنه يثبّت موقفه، وقال بجدية تخالطها ابتسامة:

“جدع يا واد يا سامي… إنت صح، مهما كان اللي حواليك سلبيين، خليك محافظ على إيجابيتك، ولو طاقتهم اتسربت ليك؟ رجعها ليهم تاني… أوعى تحتفظ بيها.”

ضحك سامي بخفة وهو يشير بإصبعه إلى موسى:

“قوله الكلام ده يا كارم… علشان صاحبنا عايم في بحر من السلبيات.”

زفر موسى بضيق، وصوته خرج منخفضًا في البداية قبل أن يعلو قليلًا:

“في إيه يا جماعة؟ كفاية تلقيح بقى… وخلي الليلة دي تعدي على خير… بدل ما أقلب العربية بينا… وأنا مجنون وممكن أعملها.”

ساد التوتر للحظة، حتى تدخل حسن الذي ظل صامتًا طوال الطريق، بصوت هادئ لكنه حاسم:

“خلاص يا موسى، اهدى… وإنتوا يا شباب اقفلوا السيرة.”

تبادل سامي وكارم نظرات ضيقة مع موسى، ثم عاد كارم ببطء إلى مقعده الخلفي، وأسند رأسه إلى المقعد متظاهرًا باللامبالاة، بينما اكتفى سامي بالتنهد قائلاً بسخرية مهادنة:

“حاضر يا شيخ حسن.”

نظر موسى إلى المرآة الأمامية مرة أخرى، تفحص وجوه أصدقائه الصامتة، ثم تنهد بعمق وهو يحاول كسر الجمود قائلاً بصوت متهكم:

“حد يقوم الأميرة النائمة دي يا جماعة!”

نظر الأربعة جميعًا إلى حسين الملقى في المقعد الخلفي، رأسه مائل إلى جانب الزجاج، يتنفس بعمق كطفل غلبه النعاس بعد عناد طويل.

قطع محسن الصمت بنبرة خفيفة الظل:

“معلش يا موسى.. الأميرة النائمة تقيلت في الغدا النهاردة، علشان كده نامت.”

التفت موسى نحوه سريعًا عبر المرآة، حاجباه منعقدان بسخط، ثم قال بنبرة لاذعة:

“هو الواد ده مش هيبطل العادة دي؟! مفيش بني آدم طبيعي ينام بعد ما ياكل على طول!”

ابتسم محسن مائلًا برأسه نحوه، وغمز في سخرية واضحة:

“ومين قالك إن حسين بني آدم أصلاً؟”

لم يمهله حسن كثيرًا، إذ وجه إليه ضربة خفيفة بمرفقه على ضلوعه وهو يهمس بتحذير صارم:

“اتلم.”

تأوه محسن من أثر الضربة، واستدار نحو توأمه بعينين متحفزتين كأنه يوشك أن يردها له، لكن صوته اختنق قبل أن يخرج حين باغته سامي، الذي لم يحتمل هذا الجدال الطفولي أكثر، قائلاً بنبرة مشدودة:

“ماتتلموا أنت وهو بقى! وخلونا نوصل على خير.”

ارتفعت نظرات موسى عن الطريق للحظة، التقت بأعين سامي ثم أومأ بتأكيد وهو يقول بجدية أثقل من الجو داخل السيارة:

“ياريت بقى… علشان أنا قربت أفرقع.”

أشار سامي بيده نحو الطريق أمامه، محاولاً امتصاص التوتر:

“طب ركّز الله يخليك في السواقة.. خلينا نوصل بقى.”

ضغط موسى على المقود بقوة، ثم تمتم بحدة وهو يعيد عينيه إلى الطريق:

“لو سكيتوا هأعرف أركز.”

لم يتركه محسن يهنأ بهذا الهدوء الموعود، إذ أردف بابتسامة ماكرة:

“هنسكت… لو شغلتلنا أغنية.”

رفع كارم رأسه من الخلف مؤيدًا، ضاربًا على ظهر المقعد بحماس طفولي:

“بالظبط! شغلنا حاجة حلوة كده.. تليق على جو الأفراح.”

زفر موسى بضيق عميق، كمن يستسلم لتيار لا طائل من مقاومته، ثم قال بلا حماس:

“ماشي… شغّلهم اللي عايزينه يا سامي.”

ابتسم سامي بانتصار ساخر، وغمز له من غير أن يلتفت:

“من عيوني يا برنس.”

مد يده إلى هاتفه، يتنقل بين الأغاني حتى استقر على واحدة ذات إيقاع صاخب، ما إن انطلقت حتى اشتعلت أجواء السيارة دفعة واحدة…

_

____________________

مع مرور الوقت، وصلت الزفّة التي أعدّتها العائلة بعناية، تسبقها الموسيقى والزغاريد التي تملأ المكان بحماسٍ احتفالي.

توقّفت السيارة المزيّنة أمام الجميع، وترجّل طارق بخطواتٍ واثقةٍ تحمل مزيجًا من الفرح والتوتر، ثم اتجه نحو الجهة الأخرى من السيارة.

انحنى قليلًا ومدّ يده لعروسه، وكأنّه يقدم لها وعدًا غير منطوق بالحماية والاهتمام، فأمسكت بيده بخجلٍ رقيقٍ ونزلت بخطواتٍ مترددة لكنها سعيدة، تتمايل فستانها الأبيض كتموّج البحر في ليلة هادئة.

سارا معًا في الممر المزدان بالورود البيضاء والحمراء، تتساقط بتأنٍّ على خطاهما، فيما النساء يطلقن الزغاريد المتواصلة، وبعض الحضور يلقون الورود عليهما بحماس.

تبادلا الابتسامات مع الحاضرين؛ ابتسامات تحمل شيئًا من الامتنان لكل هذه القلوب الملتفة حول فرحتهما، وفي الوقت نفسه شيئًا من الحرج الطبيعي الذي يشعر به كل من يقف تحت أضواء الجميع.

وصل العروسان إلى المنصّة الرئيسية، صعدا بخطوات متزامنة، ثم التفت إليها طارق ومد يده لها مرة أخرى، لتبدأ رقصة هادئة على أنغام أغنية رومانسية شاعرية، تتسلّل ألحانها إلى النفوس لتذيبها دفئًا.

بدت ملامحهما في تلك اللحظة كأنها انعكاس لنقاء اللحظة نفسها؛ نظراته إليها عميقة مطمئنة، ونظراتها إليه خجولة لكنها ممتلئة ثقة.

ارتفعت أصوات التصفيق حولهما، واختلطت بضحكات الحضور وتهليلهم، فيما عمّت الفرحة المكان.

وعلى مقربة منهم، كان موسى وأصدقاؤه يقفون إلى جوار رجال العائلة، يراقبون المشهد. بعضهم بدأ يتسلل بهدوء لقضاء مهامٍ أخرى مرتبطة بالحفل، فيما ظلّ موسى والبقية في أماكنهم.

قطع صوت إشعارٍ على هاتف سامي هذه اللحظة؛ أخرجه سريعًا من جيب بدلته الأنيقة ونظر إلى الشاشة، ثم قال معتذرًا:

“معلش يا شباب.. مضطر أسيبكم شوية.. خطيبتي وأهلها وصلوا.”

التفت الخمسة إليه في وقتٍ واحد، ليعلّق كارم بمرحٍ ساخر:

“يا بختك يا سيدي.. عندك خطيبة تسلم عليها.. أما إحنا واقفين.. كما خلقتنا أرزقنا!”

رفع سامي حاجبيه متصنّعًا الاستياء:

“يا ساتر يا رب من عينك! اتقي الله أبوس إيدك.. مش ناقص مشاكل قبل فرحي أنا!”

انفجر البقية ضاحكين بخفة، حتى قال موسى وهو يربّت على كتف صديقه:

“روح يا سامي.. سلم على خطيبتك.. وسيبك من اللي عنده جفاف عاطفي ده.”

رمقه كارم بحدة متصنّعة، ثم قال متهكمًا:

“يا سلام! على أساس إن حضرتك ما عندكش يعني!”

التفت موسى نحوه ببرود، ونطق بجدية حاسمة:

“لا.. معنديش.”

سكت كارم لحظة، ثم ابتسم نصف ابتسامة وقال بخبث:

“كدّاب أوي.”

ضحك موسى عليه واكتفى بهزّ رأسه، قبل أن يشيح بوجهه عنه ويشير لسامي بالرحيل:

“يلا يا بني امشي.. وسيبك من المتخلف ده.”

ابتسم سامي بدفء وأومأ له بالإيجاب، ثم غادر بخطوات سريعة متجهًا نحو المدخل حيث تنتظره خطيبته وأهلها.

تابعته أنظار موسى حتى ابتعد، ثم التفت إلى البقية بنظرةٍ حاسمة، وقال بصوتٍ منخفضٍ جاد:

“يلا يا شباب.. جه وقت الشغل.”

تبادلوا النظرات في صمتٍ ثقيل، ثم أومأوا جميعًا بالإيجاب، وارتسمت على وجوههم ابتسامة خبيثة تحمل في طياتها شيئًا أكبر من مجرد “مهمة عادية”.

_____________________

في جهة أخري…

في زاوية بعيدة عن صخب الموسيقى وضجيج الزغاريد، وقف مصطفى منفصلًا عن عالم الاحتفال، يضغط الهاتف إلى أذنه بصوت خافت متعجل:

“أيوه… سامعك… ماشي… تمام… هبعتهم بكرة إن شاء الله… الله يبارك فيك… مع السلامة.”

أنهى المكالمة، أسدل يده ببطء، ودفع الهاتف إلى جيب بذلته الزرقاء، ثم أخذ نفسًا عميقًا واستدار ليعود إلى الحفل، لكنه اصطدم فجأة بجسدٍ عابر.

تساقطت حقيبة امرأة أربعينية على الأرض، فانحنى مصطفى بسرعة يلتقطها، ثم نهض ومدّها نحوها قائلاً:

“اتفضلي…”

توقف صوته فجأة…

كأن الكلمات علقت في حلقه، وملامحه تجمدت، حين ارتطمت عيناه بوجهها… وجه يعرفه قلبه قبل أن تتعرفه عيناه.

حدقت فيه هي الأخرى بدهشة متجمدة لوهلة، قبل أن تتمالك نفسها وتهمس بصوت يحمل ارتجافة ذكرى:

“مصطفى!”

ازدرد ريقه في صعوبة، كأن اسمه على شفتيها أيقظ وجعًا نائمًا في صدره، ومع ذلك حاول إخفاء ارتباكه وردّ بنبرة مبحوحة:

“إزيك؟… بقالي كتير ما شوفتكيش يا شمس.”

ابتسمت ابتسامة باهتة تحاول أن تبدو عادية، وقالت:

“وأنا كمان بقالي كتير ما شوفتكش… عامل إيه؟”

تردد قليلًا، كأن الكلمات تتثاقل في صدره، ثم أجاب وهو يخفض بصره:

“كويس… الحمد لله… والمهم إنتِ عاملة إيه؟”

“الحمد لله… كويسة.”

أومأ بإيماءة صغيرة، كأنه يصدقها رغم أن عينيه تبحثان عن شيء خلف كلماتها، ثم قال بصوت يكاد يتهدج:

“الحمد لله…”

صمت لحظة، ثم سأل بصوت متردد:

“إنتِ هنا علشان الفرح؟”

“آه… سهير وعبير أصرّوا إني أجي… مقدرتش أرفض.”

“كويس إنك جيتي…”

ابتسم بخفة مصطنعة، ثم أردف بصوت متقطع:

“أقصد… ما فيش حاجة تخليكي ما تجيش… مظبوط؟”

أومأت في صمت، وقالت:

“مظبوط.”

تطلع إلى الحقيبة في يده، وكأنه يبحث عن مهرب من هذا الموقف، ومدّها لها:

“اتفضلي… شنطتك.”

“آه، ماشي.”

مدّت يدها لتأخذها، وعيناه سقطتا دون إرادة منه على خاتم في إصبعها.

توقف الزمن لثانية، شعر بانقباضة حادة في صدره، وحرارة مريرة تتصاعد في حلقه. أغمض عينيه لحظة يستجمع ما تبقى من تماسكه، ثم فتحهما وهو يحاول الكلام:

“إنتِ اتجـ…”

توقف فجأة حين اقتربت فتاة يافعة، تشبه شمس في ملامحها البريئة، وقالت:

“واقفة هنا ليه يا ماما؟”

نظرت شمس إلى ابنتها، ثم إلى مصطفى، في حين حدقت الفتاة فيه وسألت بفضول طفولي:

“مين حضرتك؟”

ترددت شمس لحظة، لكن مصطفى تدخل بسرعة بصوت هادئ يحاول أن يبدو طبيعيًا:

“صديق قديم… أنا صديق قديم لوالدتك.”

رمقته شمس بدهشة صامتة، لكن كتمت انفعالها أمام ابنتها، التي ابتسمت قائلة:

“أهلاً وسهلاً، اتشرفنا… أنا عالية.”

أومأ لها بابتسامة متحفظة:

“تشرفنا يا عالية… أنا مصطفى… مصطفى عمران.”

“حضرتك أخو العروسة؟”

“آه.”

“ألف مبروك.”

“الله يبارك فيكي… عقبالك.”

ضحكت بعفوية، وقال:

“وعقبال ولادك.”

تجمدت ابتسامته، وكأن كلماتها أصابت جرحًا دفينًا، لمحَت شمس انكساره، فسارعت لتغيير الموقف قائلة لابنتها:

“يلا ندخل يا عالية.”

“ماشي… يلا.”

نظرت شمس إلى مصطفى نظرة خاطفة تحمل مزيجًا من الأسف والحذر، وقالت:

“عن إذنك يا أستاذ مصطفى.”

اكتفى بهزة رأس صامتة، وشاهدها وهي تبتعد، وابنتها تمسك بيدها، وبقي هو يتبع خطواتهما بعينيه حتى اختفيتا وسط الحفل.

أدار بصره بعيدًا، نزع نظارته، ثم تنفس بعمق يحاول ابتلاع الغصة، وهمس لنفسه:

“ماكنتش متخيل إني هزعل كده لما أشوفك بعد السنين دي كلها يا شمس… كنت فاكر الوقت هيداوي… بس طلع مجرد مسكّن.”

مسح عينيه بكفيه، أعاد نظارته إلى مكانها، وسار ببطء نحو قلب الاحتفال… جسد حاضر، وقلب غائب هناك، حيث وقفت هي منذ لحظات.

_____________________

في الجهة الأخرى، كان بلال وشقيقه منشغلين بتوزيع المشروبات الغازية والساخنة على المدعوين برفقة فريق الضيافة، وجوههم يعلوها بعض التعب لكن الابتسامات لم تفارقهم، فيما كان العروسان على المنصة يبدوان وكأنهما في عالم آخر؛ يتبادلان النظرات المليئة بالود والابتسامات الرقيقة، يرفع كل منهما كوبه البارد ليرتشف قليلاً وسط همسات خافتة بينهما لا يسمعها سواهما.

وفجأة، اخترق صوت حاد صاخب الأجواء، حين صعد كارم إلى منصة الرقص ممسكًا بالميكروفون، يلوّح بيده لجذب انتباه الجميع، ثم صدح صوته في المكان:

“ألو ألو.. كلكم سامعيني؟”

تحوّلت الأنظار نحوه، تراجعت بعض الضحكات وتحولت إلى ترقّب، بينما ابتسم هو بثقة واسترسل:

“حلو… أنا دلوقتي جاي أقول كلمتين وأبارك للعروسين ولعيلة عمران كلها، وأقولهم ألف ألف مبروك ويبارك في فرحتكم يا رب… تصقيفة ليا بقى.”

دوّت التصفيقات في القاعة، بعضهم صفق بحرارة، وآخرون صفروا ابتهاجًا، فيما كان والده والحاج محمد وأولاده يضحكون عليه بخفة وكأنهم يعرفون حركاته تلك جيدًا.

لكن كارم لم يكتفِ، بل تابع بحماسة متزايدة:

“طب أسمع تحية لكبير المنطقة وعمنا.. الحاج محمد عمران!”

ازدادت التصفيقات قوة، فابتسم أكثر واستطرد:

“طب أسمع تحية لأولاد الحاج عمران!”

تعالت التصفيقات مجددًا، وأخذت القاعة في التفاعل معه، فرفع كارم حاجبيه وأردف بصوت أعلى:

“طب أسمع تحية لأحفاد الحاج عمران.. واللي ضمنهم صاحبي موسى!”

تعالى التصفيق مرة أخرى، وبدت علامات الفخر على وجهه، لكنه سرعان ما لمح داود بين الحاضرين، يرمقه بعين حادة ويشير له بيده إشارة واضحة.

تلعثم كارم لثانية، ثم حاول إنهاء الموقف بخفة دم:

“طب أنا مضطر أستأذن علشان أبو صاحبي موسى عايزني… سمعوني تحية علشانه!”

ضحك بعض الحاضرين وصفقوا مجددًا، فيما أعاد الميكروفون سريعًا لأحد الشباب وغادر المنصة بخطوات مترددة.

لم يكد يقترب من داود حتى شعر بقبضة قوية على كتفه تجذبه بقسوة، وصوت داود يخترق الضوضاء بنبرة ممتلئة بالتحذير:

“مين اللي قالك تعمل كده؟”

ابتلع كارم ريقه وأجاب ببرود:

“محدش يا عمي… أنا عملت كده من نفسي كواجب يعني…”

قطّب داود حاجبيه واقترب منه أكثر حتى كاد صوته لا يسمعه سواه:

“طب ما تحاولش تعمل واجب تاني بقى… علشان ما زعلكش.”

أومأ كارم بسرعة، محاولًا التخفيف من حدة الموقف وهو يرفع إصبعيه إلى عينيه:

“حاضر يا عمي… من عنيا.”

تركه داود وهو يلوح بيده في إشارة انصراف حادة:

“طب امشي يلا من قدامي.”

أومأ له كارم بإيجاب صامت، ثم التفت وهو يطلق ضحكة مكتومة، كأنها ضحكة انتصار خفية، وتوارى بخطوات سريعة خلف المنصة.

وما إن غاب عن الأنظار حتى خرج حسين، بخطوات واثقة لا تخلو من البرود، تناول الميكروفون من يد الشاب القائم على الصوت، وصعد إلى المنصة بخفة، كمن يعتلي مسرحًا ينتظره منذ زمن.

تنحنح عمدًا، كأنه يملك زمام اللحظة، وما إن دوّى صوته عبر السماعات حتى خيّم الصمت على المكان:

“مساء الفل على الكل..”

وصل صدى كلماته إلى داود، الذي زفر بضيق شديد، ومسح وجهه براحة يده بعصبية واضحة.

أما حسين، فتابع كلماته ببرود متعمّد، نبرة هادئة لكنها تحمل بين طياتها استفزازًا مستترًا:

“طبعًا مش محتاج أقول إحنا متجمعين ليه.. ده فرحة عيلة عمران وعيلة الخواجة… سمعوني أحلى تحية للعروسين يا ناس يا عسل!”

تعالى التصفيق والتصفير، وكأن الحضور ينتظرون شرارة العبث هذه ليتحمسوا أكثر، وكان كارم قد خرج من خلف المنصة وبدأ يطلق صفيرًا عاليًا، تبعه بعض الشباب، فاختلطت الضحكات بالتصفيق في صخب متزايد.

وواصل حسين، ممعنًا في اللعب على أوتار الاستفزاز:

“جامدين يا منطقة كالعادة… سمعوني بقى واحدة لعريسنا الكابتن طارق الخواجة… عريسنا وطيارنا العسل… وخال صاحبي موسى!”

اشتعل المكان بالتحيات مجددًا، لكن في قلب طارق اشتعل شيء آخر… شيء أشبه ببركان على وشك الانفجار. اشتد فكه وهو يحدق في حسين، وكاد ينهض من مكانه لينقض عليه، لولا يد دلال التي امتدت إليه برفق، وضغطت على ذراعه وهمست:

“اقعد يا طارق… علشان خاطري.”

التفت إليها بعينين تقدحان شررًا:

“اقعد إزاي يا دلال؟! الواد ده لازم يتجاب من زمارة رقبته… وأقسم لك بالعشرة، لو ماكنش ابن أختِك ورا اللي بيحصل يبقى أنا مش طارق!”

أجابته بهدوء متزن رغم ضحكاتها المكتومة:

“ما هو ابن أختك كمان…”

قطب حاجبيه بحدة، ونطق ببرود قاتل:

“اتبرّيت منه خلاص… من اللحظة دي، لا هو ابن أختي ولا أعرفه.”

ابتسمت بخفة محاولة تهدئته:

“ما تقولش كده بس… وبعدين خد الأمور ببساطة، اللي بيحصل مدّي جو لذيذ للفرح.”

توسعت عيناه بدهشة غاضبة:

“لذيذ؟! أنا قربت أتشل يا دلال!”

ربّتت على يده بخفة وهمست:

“بعد الشر عليك من الشلل… بلاش الكلام ده.. الليلة دي دُخلتنا.”

أخذ نفسًا عميقًا، محاولًا كبح العاصفة التي تعصف بداخله، ثم قال بصوت مبحوح:

“همسك نفسي… علشان خاطرك بس.”

ابتسمت بفخر خافت، وقال:

“شاطر.”

حدق فيها مستنكرًا:

“شاطر؟!”

أبعدت نظرها عنه، والابتسامة نفسها ما زالت على محياها، كأنها تعمدت ترك الكلمة تتردد في أذنه. لكن سكينته المؤقتة تلاشت حين سمع صوت حسين من جديد، هذه المرة وهو يوجه ضربة جديدة إلى قلبه مباشرة:

“سمعوني تحية لأحلى عروسة… الدكتورة دلال عمران… واللي تبقى عمة موسى!”

قفز طارق من مقعده كمن لدغته نار، وقد نفد صبره تمامًا:

“لا… ده كده كتير بقى!”

لكنه ما إن خطا خطوته الأولى نحو الأخير حتى توقّف فجأة، عندما رأى داود يعتليها بخطوات بطيئة وحازمة، ونظراته كالسيف المرفوع في وجه حسين.

تشدّدت أصابع داود على ذراع حسين وهو يجذبه نحو زاوية بعيدة عن أعين الناس، وصوته ينزل ببرودٍ يقطر غضبًا:

“تعالى معايا.”

حاول حسين التملص بحجة واهية، فابتسم ابتسامة صفراء وهو يقول بصوتٍ عالٍ متصنع:

“طب أستأذن أنا بقى يا جماعة… علشان عمي عايزني.”

ثم ألقى الميكروفون على الأرض بخفةٍ متعمدة، وكأنّه يعلن انسحابه غير آبه، قبل أن يختفي خلف داود الذي أوقفه وجهًا لوجه، والشرر يتطاير من عينيه:

“إنتوا عايزين تجنّنوني يا حسن؟!”

رفع حسين حاجبيه بدهشة مفتعلة وأجاب ببرود:

“أنا حسين يا عمي.”

ازداد الغضب في ملامح داود، وصوته ارتفع قليلًا:

“حسين ولا حسن… إنتوا ناويين تجنّنوني؟!”

مدّ حسين يده كأنه يدعو له بالعافية:

“بعد الشر عنك يا عمي، ما تقولش كده.”

اقترب داود منه أكثر، نبرته الآن حادة وحادة فقط:

“أومال بتعملوا كده ليه؟!”

أخذ حسين نفسًا طويلًا وأمال رأسه كمن يحاول التذاكي:

“بنعمل إيه؟!”

كاد داود ينفجر، لكنّه استدرك نفسه في اللحظة الأخيرة، ضغط على أسنانه وهو يقول:

“ولا… بلاش شغل الاستعباط ده.”

رفع حسين كفيه كمن يبرئ نفسه، وبصوتٍ متماسك ردّ:

“فيه إيه يا عمي؟! شغل استعباط إيه بس اللي حضرتك بتتكلم عليه؟! إحنا بنعمل الواجب مش أكتر يعني.”

ساد صمت لحظة، أخذ خلالها داود نفسًا عميقًا، ثم قال بنبرة أقل حدة، لكنها محمّلة بالتحذير:

“تعرف الواجب اللي عايزه منكم بجد إيه؟”

“إيه؟”

رفع داود إصبعه أمام وجهه فجأة وصاح بصوتٍ جهوري:

“إني ما شوفش خلقة واحد فيكم الليلة دي، وعلى رأسكم ابني المصون.”

ابتسم حسين ابتسامة جانبية، وأشار على عينيه كمن يعطي وعدًا بلا نية للوفاء:

“من عنيا يا عمي… هنختفي خالص من قدامك، حاضر.”

أطلق داود الكلمة الفاصلة:

“يلا غور.”

“حاضر.”

استدار حسين ومضى بخطوات هادئة، متعمدة الاستفزاز، بينما وقف داود مكانه يزفر بثقل محاولًا استعادة هدوئه… لكنه حين رفع رأسه نحو المنصة تجمّد في مكانه؛ هناك كان

محسن

يقف بثقة، يمسك بالميكروفون، وصوته يعلو وسط تصفيق الحضور:

“مساء الخير على أهل المنطقة الكرام… واللي متجمعين الليلة دي علشان فرحة عيلة الخواجة وعِمْران… أحب أشكر كل اللي شرفنا ونوّرنا الليلة دي… وسمعوني أحلى تحية للعروسين… وللحاج محمد جد صاحبي موسى… وللحاج أحمد وولاده… وللحاج محمود وولاده… وللأستاذ مصطفى… وللحاج داود وابنه موسى، صاحبي وأخويا الغالي… سمعوني أجمد تحية يا منطقة!”

انهالت التحايا والتصفيق الحار، وانحنى محسن بخفة وهو يبتسم ابتسامة المنتصر:

“أنا كده خلصت… سلامو عليكم.”

ثم ترك الميكروفون ونزل من على المنصة، وقبل أن يختفي وقعت عيناه على داود المشتعل غضبًا، والذي صرخ بأعلى صوته:

“الله يحرقك إنت وصاحبك موسى يا بعيد!”

رفع محسن حاجبه باستهتار، بينما أشار له داوود من بعيد:

“تعالى يا ض!”

فجاءه الردّ لامباليًا وهو يواصل السير للخلف:

“مش فاضي… بعدين أبقى أجي.”

اختفى وراء المنصة تاركًا داود في ذهول، يردد لنفسه بصوتٍ مرتجف من الغيظ:

“هو إيه اللي بعدين أبقى أجي…؟”

عقد حاجبيه فجأة كمن ضربه إدراك مباغت، وقال:

“ثانية واحدة… هما بيعملوا إيه ورا المسرح؟!”

_____________________

خلف المنصّة، حيث الأضواء لا تصل والضحكات تتلاشى، وقف موسى متكئًا على طاولة قديمة، يلوّح بمحفظته في يد، ونظرة المراوغة تعلو ملامحه.

أخرج ورقة نقدية من فئة المائة، وناولها لمحسن قائلاً بابتسامة ماكرة:

“اتفضل يا برنس.”

تناولها محسن ببطء، نظر إليها ثم رفع عينيه صوب موسى وهو يقول بسخرية طفيفة:

“بس؟!”

رد موسى وهو يشيح بيده كأنه يستغني عن النقود نفسها:

“مش عاجباك… جيبها يا غالي.”

ابتسم محسن ابتسامة المنتصر، طوى الورقة وأدخلها في جيب بنطاله قائلاً:

“لا خلاص… عجباني.”

التفت موسى نحو رفاقه الثلاثة_كارم وحسين ومحسن_ ورفع حاجبيه كمن يُعلن انتهاء الصفقة:

“أظن كده الكل راضي؟”

أومأوا جميعًا بالموافقة، فهتف كارم بنبرة مرتاحة:

“فل الفل يا برنس.”

فتح موسى محفظته من جديد وبدأ يعدّ بقية النقود بعناية، كمن يستمتع بلحظة النصر… لكن فجأة، انقضّت يد قوية من الخلف وسحبت المال من يده دفعة واحدة.

استدار موسى مذعورًا ليجد والده

داود

واقفًا خلفه، وجهه جامد كالحديد، قبضته تشدّ ياقة قميص ابنه من الخلف حتى كادت تخنقه.

وبصوتٍ منخفض لكنه حاد كالسيف قال:

“اديني سبب… سبب واحد… يخلّيني أغفرلك اللي عملته؟”

رفع موسى حاجبيه، محاولًا كسر حدّة الموقف بابتسامة ساذجة:

“إني ابنك… مثلاً؟”

ازدادت قبضته على ياقة قميصه، بينما عقله يكاد ينفجر غضبًا…

وفي تلك اللحظة، حاول كارم التملص من الموقف فابتسم ابتسامة متوترة وقال بصوتٍ خافت:

“طب نستأذن بقى إحنا… دي أمور عائلية… ملناش دعوة بيها.”

تحركوا للرحيل، لكن صوت داود جاء كالطلقة:

“قف انت وهو… وهو!”

توقف الثلاثة في أماكنهم كأنهم تماثيل، فتابع بصوتٍ آمر:

“لفّوا.”

استداروا ببطء نحو داود، الذي رفع الأوراق النقدية أمام وجوههم وقال ساخرًا:

“اشتراكم بمية جنيه؟!”

ابتسم كارم ابتسامة مصطنعة محاولًا تبرير الموقف:

“إيه اشترانا دي يا عمي… عيب عليك! ده معروف بنعملهوله.”

ضحك داود ضحكة ساخرة مريرة:

“معروف بفلوس؟!… إنت شايفني عيل قدامك يا ض؟”

هزّ كارم رأسه نافيًا بسرعة:

“طبعًا لأ يا عمي… ما تقولش كده… ده إنت على راسي.”

أشار داود نحوهم بيده كأنه يزيحهم عن طريقه:

“خليكوا انتوا على جنب كده.”

ثم نظر مباشرة في عيني ابنه وقال بصرامة:

“وتعالى انت بقى… مش دي الفلوس اللي اديتهالك امبارح علشان بتوع الدي جي والخيل؟”

أومأ موسى بهدوء مفتعل:

“آه.”

“أومال ناقصين ليه؟… ولا انت وزّعتهم؟”

أخذ موسى نفسًا عميقًا وقال بلهجة دفاعية:

“ما أنا حاسبت بتاع الدي جي والخيل كمان… و٣٠٠ للشباب دول.”

تجهم وجه داود أكثر، نظر للنقود في يده ثم رفع عينيه نحو ابنه:

“أومال الفلوس اللي فاضلة دي بتاعة إيه؟ المفروض تبقى خلصت مش يفيض منها.”

رفع موسى يده إلى رقبته، يفركها بتوتر، يحاول إيجاد كذبة مقنعة، لكنه لم يمهله القدر؛ إذ اندفع حسن إليهم وهو يلهث قائلاً:

“إلحق يا موسى… الحصان اللي انت جبته وقع ومش راضي يتحرك!”

تجمد داود مكانه، فغر فمه غير مصدّق، ثم ابتلع ريقه بصعوبة وحدّق في وجه ابنه:

“يا مصيبتك السودا…”

لكن موسى تجاهل غضبه، التفت نحو حسن وأجابه بثبات مدهش:

“ما تخافش… الراجل قالي إنه ساعات بيعمل كده… علشان كبير في السن، قالي لو حصل معاه كده اديله تفاحية أو جزراية.”

سأله حسن بسرعة:

“طب أجيب له تفاح أو جزر منين؟”

“اطلع شقة جدي، المفتاح تحت العتبة… هتلاقي في التلاجة تفاح وجزر… بس خد جزر علشان التفاح غالي.”

أومأ حسن موافقًا وغادر مسرعًا، فيما ظل داود يحدق في ابنه مشدوهًا، ثم ترك ياقة قميصه، وخرج صوته ممتزجًا بالسخط:

“جايبلي حصان في آخر أيامه… علشان توفّر قرشين لنفسك يا روح أمك؟”

رفع موسى حاجبيه مستغربًا من الاتهام:

“لا… أنا كنت بوفرلك إنت يا حاج.”

“بطل كدب يا ض!… ده أنا قاري دماغك دي… وعارف بتفكر إزاي… ده انت مستعد تبعني أنا شخصيًا علشان قرشين!”

ابتسم موسى ابتسامة باردة وأجاب بثقة مريبة:

“ما تقولش كده يا حاج… أنا مستحيل أعمل كده… غير في الضرورة القسوة.”

تجمد داود مذهولًا من جرأته، بينما انفجر أصدقاء موسى ضاحكين كأنهم وجدوا نكتة الموسم.

عندها انحنى داود فجأة، وهمّ بنزع حذاءه بسرعة، وهو يصرخ:

“امشي من قدامي يا ابن الـ…!”

لم ينتظر موسى ولا رفاقه كلمة أخرى؛ انطلقوا يركضون كالعصافير المذعورة، والضحك الهستيري يتردد في أرجاء المكان.

_______________________

على المنصة….

ارتفع صوت طارق بغتة، حادًّا وحاملًا انفعالًا مكبوتًا:

“أنا عايز أفهم… إنتِ بتضحكي عليه؟!”

توقفت دلال عن الضحك للحظة، كأن صوتَه هزّ شيئًا بداخلها، لكنها سرعان ما تماسكت، ومسحت دمعة صغيرة علقت بطرف عينها من شدة الضحك، ثم نظرت إليه بعينين تتراقص فيهما الدعابة وقالت:

“أنا اللي مش فاهمة… إنت مش بتضحك ليه على اللي حصل؟!”

زمّ طارق شفتيه، وكأنه يحاول كبح انفعاله:

“أضحك إزاي؟!.. دول عيال مجانين… ده أنا مش هسيبهم غير لما آخد حقي منهم.”

ضحكت مرة أخرى رغم حدة صوته، ثم قالت بخفة ظلّها المعتادة:

“والله لُذاذ… أنا ما توقعتش إنهم يعملوا كده بصراحة… بس ضحّكوني أوي.”

نظر إليها، وشيء في داخله انكسر أمام بساطتها، أو ربما أمام قدرتها على تحويل توتره إلى شيء أقل قسوة.

تنهد مستسلمًا، ثم قال بصوت أكثر هدوءًا، يحمل دفئًا مفاجئًا:

“باين كده هضطر أسامحهم… علشان خاطر ضحكتِك دي.”

تسارعت أنفاسها قليلًا، وأدركت أن قلبها سبقها بخطوة إليه… ابتسمت بخجل، خفضت نظرها، فالتقط هو اللحظة، وكأنه وجد فيها انتصاره الحقيقي.

اقترب منها قليلًا، وقال بصوت متهدج لكنه صادق:

“على فكرة… أنا بقيت جوزِك رسمي، والناس دي كلها تشهد… فما بقاش في سبب يخليكِ تتكسفي مني.”

تسللت حمرة خفيفة إلى وجنتيها، وشبكت أصابعها بتوتر في طرف فستانها، ثم همست بصوت خافت يكاد يذوب في الهواء:

“الموضوع… صعب نتعود عليه بسهولة.”

ابتسم، تلك الابتسامة المطمئنة التي يعرف كيف يجعلها تليق بالمواقف الحساسة:

“بصي… أنا مش هاخبي عليكِ… أنا كمان لسه ما تعودتش، ولسه بحس بالخجل والله… بس بحاول أتعود، لأني ده اللي كنت عايزه من زمان… واللي إنتِ كمان كنتِ عايزاه… صح؟”

ساد صمت قصير، لم يقطعه إلا صوت الموسيقى… نظرت إليه، بعينيها إجابة أوضح من أي كلمات، ثم أومأت بخجلٍ صريح.

عندها ابتسم ابتسامة واسعة صادقة، وأمسك بيدها برفق، رفعها إلى شفتيه، وطبع عليها قبلة خفيفة جعلت قلبها يقفز في صدرها.

لكن… كما هي عادة اللحظات الجميلة، لا تكتمل دون مقاطعة، إذ جاء صوت موسى الصاخب كصفعة على وجه السكينة:

“معلش يا عصافير الحب، مضطر أقطع اللحظة الرومانسية الغريبة دي وأخدك معايا يا عريس.”

ضحكت دلال بخفوت، بينما ارتسمت على وجه طارق علامات ضيق واضحة، التفت إلى موسى وقال ببرود حانق:

“عايز إيه يا بومة إنت؟!.. مش كفاية اللي عملوه صحابك؟”

تجاهل موسى سخريته ورد بجديّة ظاهرة:

“عايزك في كلمتين على جنب… لوحدنا.”

رفع طارق حاجبيه بتحدٍّ:

“قول اللي إنت عايزه هنا… دي مراتي، مش حد غريب.”

ابتسم موسى ابتسامة صغيرة، لكنها خالية من أي دعابة:

“ما دي عمتي، ما قلناش حاجة… بس أنا عايز أتكلم معاك لوحدنا.”

نظر طارق إلى دلال، فوجدها تشير له بصمت أن يذهب، فزفر طارق بعمق، ثم وقف متثاقلًا وقال ببرودٍ مصطنع:

“تعالى… بس خد بالك، أنا كده كده هقولها… مش هخبي عنها حاجة.”

رد موسى بنبرة تحمل نفاد صبر:

“يا عم ابقى قولها… تعالَ.”

هز طارق رأسه يائسًا من أسلوبه، ثم أشار له بالنزول من على المنصة، وهو يتمتم بسخرية:

“يلا يا أخويا قدامي… ع الله يبقى الموضوع تافه بعد ده كله.”

أجابه موسى، وهذه المرة صوته أعمق، أكثر جدية:

“هتعرف كمان شوية… إذا كان تافه أو لأ.”

يتبع….

_________________

كتابة/أمل بشر.

أرائكم؟؟

توقعاتكم؟؟

دمتم بخير..سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق