رواية فوق جبال الهوان – الفصل الرابع والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
استهلكه القلق وهو ينتظر خارج أعتاب غرفته، ريثما ينتهي الطبيب من فحص تلك المسكينة التي كلما احتدم عليها أمر ما تعذر على عقلها استيعابه، فتفقد وعيها تأثرًا. انتصب “غيث” في وقفته لما رأى الباب يُفتح ليخرج منه، هرع نحوه متسائلًا بنبرةٍ وشت بخوفه عليها:
-ها يا ضاكتور؟ كيف أحوالها دلوجيت؟
أجابه بلهجة هادئة، وهو يبتسم ابتسامة صغيرة عملية:
-خير إن شاء الله، ضغطها كان واطي، وده طبعًا سببلها إغماء، بجانب إنها محتاجة تهتم بصحتها كويس، يعني من الفحص الظاهري عندها ضعف عام، والتحاليل هتأكد إن ده.
هتف من فوره قائلًا بعزم:
-شوف المطلوب إيه واحنا هنعمله بمشيئة الله.
هز الطبيب رأسه متابعًا بعدما سجل بعض الملحوظاتٍ في دفتر أوراق صغير خاص به:
-مافيش مشكلة، هبعت حد من المعمل يسحب منها عينة دم، والمهم الفترة دي تاكل كويس، وتبعد عن أي حاجة فيها ضغط نفسي.
قال وهو يتناول منه تلك الورقة التي دوَّن فيها وصفة دوائية لها:
-حاضر يا ضاكتور…
لترتفع نبرته نسبيًا وهو يزعَق على خادمته:
-بت يا “سنية”.
أتته فورًا مرددة في طاعة:
-إيوه يا سيدي البيه.
أشار لها بيده مكملًا إملاء أوامره عليها:
-مع الضاكتور لتحت، وخلي حد من الغفر يرجعه الوحدة الصحية تاني.
في التو استجابت لأمره، واصطحبت الطبيب للأسفل، فيما خرجت “فاطمة” من داخل غرفته وهي تقول بشيءٍ من الإشفاق:
-نضري عليها، صغيرة على المرض.
واربت الباب ولم تغلقه، فبدا الأمر مربكًا له، خاصة مع لمحه لها من تلك الفرجة الصغيرة التي مكنته من رؤيتها غافية على وسادته وفي منتصف سريره، ومتدثرة بغطائه. قاوم بأعجوبة تلك الرغبة الشديدة التي تستحثه للذهاب إليها وتفقد أحوالها بنفسه، فقط ليطمئن قلبه الملتاع. جاهد ليبدو رزينًا هادئًا وهو يتساءل:
-فاجت يامه ولا لسه؟
تنهدت والدته قائلة وهي تشير بيدها للخلف:
-في سابع نومة…
ثم ضيقت عينيها متسائلة في شيءٍ من الاهتمام:
-عايز حاجة أجيبهالك من جوا؟
قال نافيًا وقد أشاح بوجهه بعيدًا:
-خليها مرتاحة.
…………………………….
في تلك الأثناء، استيقظت “عيشة” من نومها وهي تتثاءب في إرهاقٍ، لترفع رأسها ناظرة نحو الفراش الذي من المفترض أن تكون ابنتها نائمة عليه، سرعان ما اتسعت عيناها على آخرهما، كما هوى قلبها في قدميها هلعًا عندما وجدته فارغًا. قفزت من على سريرها مرددة في ارتعابٍ متزايد، وقد راودت رأسها عشرات الهواجس:
-يا مصيبتي! لتكون “دليلة” عملتها وهربت واحنا نايمين.
سحبت حجاب رأسها من على طرف الفراش، ولفته حول رقبتها قبل أن تخرج هامسة في جزعٍ:
-استر يا رب
انخطف لون وجهها، وبدت في حالة غير طبيعية وهي تسير في الرواق، ليأتيها صوت “فاطمة” الودود ملقية عليها التحية:
-صباح الخير عليكي يا ست “عيشة”.
وزعت نظرتها المرتبكة بينها وبين ابنها، ترددت للحظةٍ قبل أن تستجمع نفسها لتسألهما في صوتٍ مرتجف ينم عن خوفها الأمومي الكبير:
-أنا أسفة يا جماعة، بس محدش فيكم شاف “دليلة”؟
بعفويةٍ أجابتها:
-هي يا حبة عيني كانت معاي وغميت، فودينها أوضة ولدي وجبنالها الضاكتور.
لطمت “عيشة” على صدرها هاتفة في وجلٍ:
-إيه؟
حينما لاحظ “غيث” أمارات الخوف متجسدة على وجهها أخبرها مؤكدًا:
-اطمني يا حاجة، الموضوع مش مستاهل، احنا مرضناش نجلجك على الفاضي، إنتي بردك تعبانة.
صاحت من فورها تطلب منهما:
-أنا عايزة أشوفها.
أرشدتها “فاطمة” إلى غرفة ابنها، والتي تقبع في الناحية الأخرى من القصر:
-اتفضلي من إهنه.
قبل أن تسير مع ضيفتها، خاطبت ابنها قائلة في جديةٍ:
-وإنت يا ولدي متعطلش مصالحك أكتر من إكده، روح شوف وراك إيه، وأني هبجى أطمنك بالتلافون.
هز رأسه في تفهمٍ وهو يرد:
-ربنا المعين.
استدار متجهًا نحو سلم الدرج ليجد الخادمة “سنية” تُعلمه:
-سيدي البيه، الحاج “راشد” ناطرك مع البيه الكبير تحت في المضيفة.
هبط على الدرجات متحدثًا إليها في لهجةٍ آمرة:
-أني جاي، وخليكي إنتي مع الحاجة شوفي طلبات الهوانم، وخصوصًا الست “دليلة”، مش عايز حاجة تنجصها واصل.
كعهدها ردت في نبرة مطيعة:
-ماشي كلامك يا سيدي البيه.
لتشيعه بنظرة غريبة مستنكرة حتى اختفى عن ناظريها، فأكملت صعودها للأعلى وهي تتصعب بشفتيها وهامسة لنفسها بشيءٍ من الريبة والسخرية:
-عشنا وشوفنا البيه بنفسه واخد باله من حُرمة!
……………………………………..
بالكاد انتظرت خروج رب المنزل، لتتبعه متسللة فورًا بعدما تلفحت بالملحفة السوداء، وغطت معظم وجهها لئلا يبصرها أحدهم ويتعرف إليها. هرولت بخطواتٍ أقرب للركض متجهة لتلك المنطقة الواقعة على حدود البلدة، حيث يقيم الغجر وعائلاتهم في بيوت مبنية من الخشب والطوب اللبن.
تلفتت “نعمة” حولها في توجسٍ وقلق، لتسرع في خطاها نحو بيت متهالك يشبه الكوخ، نوافذه تكشف ما بداخله، فقط ستائر من القطيفة تحجب أعين المارة عن القاطنين به. أزاحت الستار الموضوع مكان الباب وولجت إلى الداخل منادية:
-يا “سحر”، إنتي إهنه؟
جاءتها امرأة أخرى تعرفها لتسألها في غنجٍ، وهي تمسك بطرف أذنها لتضع فيه قرطًا كبير الحجم ولافتًا للأنظار:
-خير يا “نعمة”؟ إيه اللي حدفك علينا من طالعة الشمش.
شتت عينيها عن القرط المتدلي هاتفة:
-أني عاوزة “سحر”.
لتظهر المرأة المنشودة من الداخل وهي ترتدي جلبابًا لامعًا ملتصقًا بجلد جسدها من اللون الفضي، تبرز ساقيها منه بسبب فتحتيه المتسعتين من كلا جانبيه. أبصرتها “نعمة” وهي تنفض شعرها الغجري الكثيف على كتفيها في دلالٍ، لتسألها الأخيرة باقتضابٍ في رنة صوت توحي بعدم مبالاتها بزيارتها:
-خير؟
بنبرة متلهفة أخبرتها:
-ستي بتجولك تفوتي أي حاجة في يدك دلوجيت وتاجي معاي حداها.
جلست “سحر” على مصطبتها المغطاة بالكليم، وقالت في تكاسلٍ:
-أني لسه مصطباحتش، حبة وهفوت عليها.
رفعت حاجبها للأعلى واستنكرت للغاية تقاعسها عن تلبية مطلب سيدتها، بالرغم من سخائها غير المحدود مع مثيلاتها من منتهزي الفرص، فصاحت في عنادٍ:
-ستي موصياني ما تنجلش من إهنه إلا ورجلي على رجلك.
ثنيت “سحر” ساقها، وبدأت في تدليكها برفقٍ، لترد عليها بعد زفرة توحي بالضجر من إصرارها المزعج:
-وأني مش هتأخر، مسافة ما توصلي هتلاقيني في ديلك.
صممت على البقاء وملازمتها حتى تفرغ مما تفعل قائلة:
-بس آ…
قبل أن تتم كلامها هدرت فيها “سحر” تهددها بما جعل كل دواخلها ينتفض خوفًا:
-اخلصي يا “نعمة”، أني لسه مفوقتش، بدل ما أعملك أعمل يعرقبلك حياتك، وإنتي مش ناقصة.
سرعان ما أبعدت الخادمة عباءتها السوداء عن صدرها لتتفل في ذعرٍ وهي تردد:
-اللهم احفظنا، ما تعوجيش.. وإداري عن العين، مش ناجصين كلام.
ثم غطت وجهها وتوارت خلف الملحفة لتخرج من المكان في عجالة، ولسانها يلهج بعباراتٍ تدعو الرحمن أن ينجيها من ألاعيب الجن وحبائل الشياطين.
لما انصرفت الخادمة جلست رفيقتها إلى جوارها تستفسر منها في تعجبٍ مشوبٍ بالقلق:
-إنتي مش خايفة يا “سحر” لملعوبك يتكشف ويتعرف إنك بتضحكي على بنت واحد من أعيان البلد؟!!!
هتفت في غير مبالاة:
-هيجرالي إيه أكتر من الهم اللي أنا فيه؟
لتنزع عنها أساور يدها البلاستيكية المزركشة متابعة في أسى وحقد:
-اللي زي دي ربنا مديها كل حاجة، حسب ونسب وفلوس مالهاش عدد، وهي زي الغبية مش حاسة بالنعمة اللي في إيديها، بتجري ورا سراب…
أصبحت نبرتها أكثر قتامة مثل نظرتها المرتكزة في نقطة وهمية تمر عبر أساورها المرفوعة للأعلى حينما تابعت:
-وأنا شغلتي أخليها تصدق إنها هتقدر تمسك السراب ده.
علقت عليها بدهشةٍ:
-يا سلام!
أطلقت ضحكة رقيعة، وتابعت في ثقة وغرور وهي تحرك الأساور في الهواء:
-أومال إيه، هي متعلقة بحبال الهوى الدايبة، ولو فكرت بعقلها هتلاقي إنه مافيش راجل يستاهل إن المَرَة تضيع عمرها علشانه، بس تقولي إيه، الحب ياما بيذل.
سألتها في شيء من الفضول:
-وإنتي ناوية تعملي إيه؟
استرخت في جلستها على المصطبة، وقالت وهي تبتسم في مكرٍ:
-هضحك عليها وأفهمها إني معايا اللي يجلب الحبيب ويقرب البعيد ويحقق المراد، وكله بحسابه.
انتشت المرأة من تفكيرها الجهنمي، وراحت تمدحها:
-ده إنتي مخك داهية!
عادت لتضحك بصوتٍ مرتفع قبل أن تقول في زهوٍ، وهذه اللمعة الخبيثة تطل من حدقتيها:
-ده أنا أعجبك.
ألقت بعدها بأساورها على المصطبة، وشردت تفكر في استبدالها بأخرى مصنوعة من الذهب وأغلى المجوهرات.
………………………………..
راجع بتركيزٍ كافة الأوراق التي بحوزته قبل أن يرتبهم في ملفاتٍ منفصلة حتى يسهل عليه الوصول إليها طبقًا لما يحتاج، ثم وضعهم بعد ذلك بداخل حقيبة جلدية سوداء، ليتطلع جانبًا إلى والده عندما سأله وهو يقبض بيده على رأس عكازه:
-كلمت خوك “سليمان” وعرفته إننا جايين؟
هز رأسه قائلًا:
-إيوه يا حاج.
فيما صاح “راشد” محذرًا بملامحٍ شبه واجمة كعادته:
-مش عايزين مصالحنا تخرب زي المرة اللي فاتت.
انتقل بعينيه تجاهه مؤكدًا:
-اطمن يا عمي، أني مرتب كل حاجة مظبوط.
زم شفتيه مبرطمًا:
-أما نشوف.
تحدث “زكريا” من جديد قائلًا وهو يستقيم في جلسته:
-جهز حالك يا “غيث” علشان نتوكلُ على الله، احنا داخلين على الضحى.
نهض من موضع جلوسه مرددًا:
-ماشي.
همَّ بالمغادرة، لكن “راشد” استوقفه بسؤاله المباغت في فضولٍ:
-أني شايف الضاكتور خارج من عندكم، هي الحاجة “أم غيث” بتشتكي من حاجة لا سمح الله؟
ألن يكف أبدًا عن حشر أنفه فيما لا يعنيه! حقًا لم يترك شاردة ولا واردة تخص من يعيش بالقصر إلا وتحرى عنها، فما كان منه إلا أن أعطاه ردًا محايدًا لا يسمن ولا يغني من جوع:
-شوية تعب وهيروحوا لحالهم، ماتحطش في بالك يا عمي.
كان والده مثله، لا يحبذ أبدًا التدخل في شئون الغير بهذه الفجاجة، وتحت أي مسمى، لذلك عمد إلى تغيير مجرى الحديث بقوله الصارم:
-يالا يا “راشد”، هات التوكيلات اللي حداك في الدار، وما تضيعش وقتك في هلفطة على الفاضي.
انتفض قائمًا، وقال وهو يتجه صوب الباب:
-طيب، هستناكو تفوتوا علي إهناك، سلام عليكم.
بادله “زكريا” التحية مومئًا برأسه:
-وعليكم السلام ورحمة الله.
انتظر ذهاب شقيقه بعيدًا ليتوجه إلى ابنه مستعلمًا:
-إيه حوار الضاكتور ده يا “غيث”؟ أني مرضتش أتكلم جصاد عمك.
عاد ليجلس بجواره، وأطلعه على ما حدث بإيجازٍ، ليصمت والده لبعض الوقت، وكأنه يقلب ما دار في رأسه، لينصحه بعدها في هدوءٍ:
-من رأيي تخليك بعيد عن الجصر اليومين دول، لسان الخلق زي المشرط ما بيرحمش.
كان محقًا في تحذيره المبطن، فما أسهل إطلاق الشائعات عن تحري الحقائق! لذا ارتأى ألا يتسبب في حدوث المزيد من التعقيدات بلا داعٍ، فأخبره بجدية بحتة:
-عامل حسابي يا بوي.
………………………………
الهمسات الخافتة بجوار أذنيها جعلتها تستفيق من سباتها، لتفتح عينيها ببطءٍ متطلعة إلى سقف الغرفة. استغرقها الأمر عدة لحظاتٍ حتى أصبحت في كامل وعيها، التفتت للجانب لتجد والدتها في ختام مكالمة خافتة مع عمتها، تبادلت عبرها الاثنتان مشاعر المواساة والحزن على فقيد العائلة الأخير.
وضعت “عيشة” الهاتف على طرف الفراش، وجلست بجوار ابنتها تسألها:
-حاسة بإيه دلوقت؟
حاولت “دليلة” رفع جسدها للأعلى، واستندت بظهرها على عارضة الفراش قائلة بصوتٍ ما زال متعبًا:
-دايخة شوية.
مصمصت أمها بشفتيها متمتمة:
-ما إنتي يا حبيبتي عمالة تكتمي في نفسك وده مش حلو، زعلنا على اللي راح عمره ما هيرجعه، احنا مافيش في إيدينا حاجة نعملها غير ندعي بالرحمة.
أصغت إليها “دليلة” وهي تدور بعينيها في أرجاء الغرفة لتتبين تفاصيلها، لم تبدُ مألوفة لها منذ الوهلة الأولى، خاصة مع وجود فراش وحيد ضخم، وخزانة ثياب أكثر عرضة عن تلك التي كانت موجودة قبل سابق، كذلك لاحظت وجود جلاليب رجالية على مشجب جانبي، بالإضافة إلى قفطانٍ وأوشحة داكنة الألوان. انتقلت بحدقتيها نحو المرآة المتسعة التي تحوي عدة زجاجات من العطر وأدوات تمشيط الشعر والعناية به، ما باتت واثقة منه أن الغرفة لم تكن بها لمحة نسائية بالمرة، استرعى ذلك فضولها واهتمامها، فتساءلت بعفوية:
-هي دي أوضة مين؟
جاء الجواب تحديدًا من “فاطمة” التي طرقت الباب أولًا ودخلت الغرفة:
-ولدي “غيث”.
ما لبث أن انتابتها موجة من الحرج الشديد بعدما علمت بهوية صاحب الغرفة، خاصة وذاكرتها قد تنشطت فجأة وعرضت عليها ومضات خاطفة لجدالهما الأخير قبل أن يتحول كل شيءٍ للإظلام التام. تنبهت إلى والدته التي ما زالت تتحدث إليها في لطافةٍ معهودة:
-مارضاش يصحي الحاجة أمك ويجلجها على الفاضي، فجابك إهنه.
ارتعشت أصابعها من الحقيقة المحرجة، لقد حملها مجددًا، وأتى بها إلى حجرته لتستقر فيها. ضمت يديها معًا، وقالت في خجلٍ وهي تتحاشى النظر ناحيتها:
-أنا أسفة جدًا، لخبطتلكم اليوم، وعملت دوشة من بدري وآ…
انزعجت “فاطمة” من تضخيمها للأمر، فقاطعتها مؤكدة:
-ماتجوليش إكده، ده بيتك.
من خارج الغرفة، وقف “غيث” للحظاتٍ مستمعًا إلى صوتها الذي أعاد نبض الحياة إلى صدره، ابتسم في حبورٍ لإفاقتها، وكأن ذلك ما كان يرجو حدوثه قبل الذهاب بعيدًا. تدارك نفسه، وحمحم مرددًا بصوتٍ مرتفع، كأنما يستأذن بالدخول بطريقةٍ مهذبة:
-يا رب يا ساتر.
لحظتها تلبكت “دليلة” من وجوده، فقد أدركت أنها حرفيًا تحتل فراشه وغرفته، كما لو صادرت كل ما فيها وأصبح مملوكًا لها، أطرقت رأسها للأسفل في توترٍ وحيرة، فيما هتفت “فاطمة” لتستدعيه:
-تعالى يا ولدي.
فعل مثلما فعلت والدته وطرق على الباب، ليتساءل في اهتمامٍ وهو خافض لرأسه:
-كيف أحوالك دلوجيت؟
رمشت بعينيها مرددة بصوتٍ متلبك وهي تجاهد للنظر تجاهه:
-الحمد لله…
ليظهر ذلك بوضوحٍ أكبر وهي تعترف له:
-معلش أنا أسفة، احتليت أوضتك وسريرك.
وهمَّت بمغادرة الفراش، فأزاحت الغطاء عنها ليصيح معترضًا على الفور وهو يشير لها بكفيه:
-والله ما إنتي جايمة…
تراجعت منكمشة على نفسها، وطالعته بهذه النظرة المرتبكة، فواصل الكلام وهو يوليها ظهره:
-أني بس هاخد كام حاجة وفايتلك المطرح تجعدي فيه براحتك، ولو مش عاجبك انغيروه لحاجة بتحبيها.
بدا وكأنه أعطاها الضوء الأخضر للتصرف فيما يخصه بلا مراجعة، لذا ردت في امتنانٍ دون أن تنظر تجاهه:
-شكرًا على ذوقك.
جمع سريعًا ما يحتاج إليه ودسهم في حقيبة صغيرة كانت موضوعة بجوار الدولاب، ليقول في شيءٍ من التوصية وهو يسير نحو الباب:
-والضاكتور جايل مافيش حركة كتير لأحسن تغمي تاني، ولا إيه يامه؟
توردت بشرتها من تذكيره لما تحاول نسيانه، فيما أكدت والدته على ما أوصى به هاتفة في عزمٍ:
-إيوه مظبوط، وأني بنفسي هتابعها.
نظرة خاطفة ألقاها “غيث” نحو “دليلة” قبل أن يستأذن بالمغادرة:
-خدوا راحتكم، أني ماشي.
ودعته “عيشة” قائلة في ودية:
-اتفضل يا ابني.
لتلحق به “فاطمة” متسائلة:
-مسافر يا ولدي خلاص؟
أخبرها وهو يضم طرفي ياقة جلبابه معًا:
-رايح عند خوي نخلصوا مصالحنا مع أبويا الحاج.
رددت بما يشبه الدعاء:
-ربنا يسلم طريجكم.
مال عليها قليلًا ليهمس لها بنبرة ذات مغزى:
-مش هوصيكي يا حاجة على الجماعة.
ابتسمت له في سرورٍ، وقد فهمت ما وراء ذلك الاهتمام العجيب بفطنتها وخبرتها الطويلة في شأن ابنها، وقالت:
-اطمن، دول في عينيا.
بادلها الابتسام داعيًا:
-ربنا يخليكي لينا.
بالفراسة وحدها استطاعت أن تعي ما يدور في ذهنه وإن لم يصرح بذلك علنًا، نظرًا للوضع الراهن والظروف الحادثة التي تحول دون التطرق لأي مسألة خاصة؛ لكنها حتمًا ستؤازره فيما يريد.
………………………………….
أصبح مسموحًا لها بالدخول إلى بيت “راشد” بعدما أصدرت “أحلام” أوامرها للخفراء بفعل ذلك بالرغم من حظر تواجدها قبل سابق. لم يجرؤ أحدهم على مخالفة الأوامر أيًا كانت، فهم ليسوا على استعداد لتحمل تبعات غضب سيدة المكان. بالطبع استغلت “سحر” الفرصة وسارت في خيلاء وتكبر، كما لو كانت صاحبة جاه ومال، تعمدت ألا تأتي سوى بمظهرها الغجري المثير للشبهات، ورنة خلخالها العالية تلفت الأنظار إليها، لتؤكد على احتياج علية القوم لخدماتها وإن كانوا يبغضون وجودها في محيطهم.
أبدت “أحلام” استيائها من قدومها على تلك الهيئة الفاضحة، ومع ذلك تغاضت عن الاستمرار في توبيخها للتطرق إلى الشيء الهام الذي أرسلت إليها من أجله. اختطفت تلك الورقة المطوية من بين أصابعها لما رأتها متسائلة في لهفةٍ:
-إنتي متأكدة إن الحجاب ده مضمون؟
بخبثٍ أكدت لها فيما يشبه الفحيح الهامس، وهي تقف ورائها كشيطانٍ يوسوس في إغراء لذوي النفوس الضعيفة ليقعوا في فخه:
-طبعًا يا ست البنات، ده متجرب وشغال، وكل اللي خدته مني مكملتش سبوع إلا واتجوزت.
شردت بذهنها متخيلة تأثير سحره اللئيم على ابن عمها، ووقوعه في حبها، بل واستجدائها للقبول بالزواج منه، وتمنعها عليه وهي بين أحضانه.
استفاقت من سرحانها اللحظي، وابتعدت عنها مسلطة كامل نظراتها على الورقة المطوية، ثم هتفت وهي تمد يدها الأخرى ناحيتها برزمة من النقود:
-أما أشوف، وساعتها هتاخدي أد اللي معاكي عشر مرات.
ما إن أبصرت عيناها النهمتان المال حتى سال لعابها، في التو أخذته منها قائلة بحماسٍ:
-يدوم العز يا بنت الأصول.
دسته في جيب صدرها، وعدلت من كنزتها الكاشفة على كتفيها مرددة:
-فوتك ابعافية.
لم تهتم بمغادرتها، وظلت مشغولة بما معها. لسوء حظها التقت “سحر” عند باب البيت بصاحبه الذي حدجها بنظرة نارية مشمئزة، فبادلته بضحكة رقيعة جعلته يبدو أكثر نفورًا منها، لم تلقِ له بالًا، وسارت بتعجرفٍ متعمدة أن يرن صوت خلخالها في الأرجاء، ليسرع “راشد” عائدًا إلى الداخل وهو يزمجر غاضبًا:
-إيه اللي جاب وش الغراب دي إهنه؟
قفزت “نعمة” فزعًا لرؤيته أمامها، وتلبكت مرددة بارتعاشة ظاهرة على شفتيها:
-سيدي “راشد”.
سألها في نبرة متحفزة، وشرارات من الغضب العارم تنتفض في عينيه:
-فينها “أحلام”؟
أجابته مشيرة بيده:
-جوا يا بيه.
انطلق مدفوعًا بحنقه العظيم مناديًا فيما يشبه الزئير:
-بت يا “أحلام”!
خبأت على الفور ما ابتاعته من
-إيوه يا بوي.
سألها في الحال، ووجهه قد صار أكثر إظلامًا:
-وش الخراب دي بتعمل إيه إهنه؟
خشيت إن باحت له بالحقيقة أن تتلقى العقاب القاسي منه، توترت، وتلعثمت وهي تجاوبه كذبًا:
-دي… دي.. كانت جاية جصداني في خدمة.
لم يقتنع مُطلقًا بما فاهت به، وصاح مستنكرًا في تحيزٍ حاقد:
-خدمة ولا شر؟ هو أني مش عارفها بت المركوب دي!
ليباغتها بسؤاله المباشر:
-إيه جولتلها تعمل عمل من إياهم؟
في التو انعكست علامات الارتباك على محياها، وتدلى فكها للأسفل محاولة البحث عن إجابة لا تكشف أمرها، تفقه ذهنه لما تفعل من وراء ظهره، فعنفها في ضيقٍ كبير وهو يلكز كتفها:
-ما ده بس اللي واكل مخك التخين.
تأوهت من ضربته القوية، وهمهمت محتجة في تبرمٍ:
-يابوي آ…
أخرسها برفع إصبعه في الهواء صائحًا بنبرته الصارمة:
-ولا كلمة، أني مش هستنى لما يحصل فضايح في داري بعد العمر ده كله.
أطبقت على شفتيها مانعة نفسها من التعليق، ليصدمها بقراره الحاسم:
-اعملي حسابك وقت ما أرجع من السفرية دي هيتكتب كتابك على ولد الحاج “فتيح”.
انفلتت منها شهقة مستنكرة قبل أن تصيح معترضة:
-تاني يابوي هتظلمني؟ وأتجوز واحد يدوجني المرار؟
نظر لها ببرودٍ، مبديًا عدم تعاطفه معها، فتجرأت لتعترف له بلا ندمٍ، لعله يدعمها في تحقيق رغبتها:
-أني عاشجة ولد عمي “غيث”، وأني أولى بيه من واحدة غريبة تاجي تاخده مني.
فاجأها برده الجارح لكبريائها كأنثى أولًا، ولمشاعرها كابنته ثانيًا:
-وإنتي ولا في دماغه من الأساس، ولو كان عاوزك كان زمانته عقد عليكي قبل سابق، وأديكي جدامه بجالك سنين ولا فكر حتى يبصلك.
هتفت بصوتٍ بدا مختنقًا، وعلى وشك البكاء:
-بس أني عاوزاه.
أصبح صوته أقرب للصراخ وهو يخبرها بغير تعاطفٍ:
-جولتلك هو مش رايدك، وبعدين من مِيتى بناخد رأي الحريم في الجواز؟ أني بختارلك الأصلح.
أجهشت بالبكاء الشديد لعله يترأف بحالها، إلا أنه تجاهلها كليًا، وأصر على رأيه بتصميمٍ:
-إنتي هتعملي اللي أمر بيه وبس.
ثم تركها وغادر، لتنهار جاثية على ركبتيها قبل أن تلطم على رأسها وهي تنوح في حزنٍ وأسى:
-يا مُرك يا “أحلام”!
ارتفع عويلها مع ندبها وقد راحت تدق على صدرها:
-هاتوا الطين وحطوه على راسي علشان بوي يرتاح!
………………………………
حملة تطهير واسعة قامت بها وزارة الداخلية في الآونة الأخيرة، للكشف عن المتواطئين مع العناصر الإجرامية، والقيام بتسريب معلومات هامة من أجل تسهيل عمليات هروبهم والحول دون إلقاء القبض عليهم في قضايا تورطهم وتدينهم أمام القانون، وكان من بين هؤلاء المتآمرين بعض المخبرين من ذوي النفوس الضعيفة ممن مدوا “زهير” بما يفيده في جرائمه الأخيرة، ليصبح محتجزًا بدلائل جديدة تدينه.
انتهى مرة أخرى من التحقيق معه، وسار محاميه إلى جواره في ردهة النيابة محاولًا تهدئته:
-فترة وهتعدي يا “زهير” بيه، كل ده وارد يحصل.
كان يجذبه فرد الشرطة المربوط معه بالأصفاد تجاهه كلما حاول الاقتراب من المحامي، فضجر من شده المتواصل، وصاح في غير صبرٍ، وقد بدا عليه الإرهاق الشديد:
-بلاش كلامك اللي ينقط ده، أنا بتورط بزيادة، شوفلك صرفة وطلعني من هنا.
أومأ برأسه مرددًا:
-حاضر، هتصرف…
ثم سكت للحظةٍ كأنما يرتب أفكاره قبل أن يخبره في ترددٍ محسوس:
-بس عايز أعرفك بحاجة.
نفخ أولًا قبل أن يسأله بحدةٍ:
-في إيه تاني؟
ابتلع ريقه، ونقل إليه الخبر المشؤوم دفعة واحدة وبلا تمهيد:
-المطعم اتحرق!
توقف عن السير هادرًا في صدمةٍ:
-بتقول إيه؟
تابع إطلاعه على تفاصيل الحادثة بترقبٍ:
-ماس كهربي ودمر كل حاجة.
ارتفع صوته الصارخ مستهجنًا:
-وإنت مصدق الحكاية دي؟ أكيد في حد وراها، شوف مين وعرفني.
هز رأسه كالعادة قائلًا:
-لسه التحقيقات شغالة!
مد يده الطليقة ليمسك به من ياقته، جذبه ناحيته في عنفٍ، وحدجه بهذه النظرة الشــرسة وهو يأمره:
-أنا ماليش دعوة بالتحقيقات دي، أنا عايز أعرف من اللي بيخرب ورايا….
صاح فيه فرد الشرطة محذرًا:
-اهدى كده يا مسجون!
بالكاد منع “زهير” نفسه من التلفظ بلفظة نابية، ودمدم في حنقٍ:
-ما هو العجل لما بيقع بتكتر سكاكينه!
أكثر ما كان يؤرقه من عودته للسجن مرة أخرى هو عدم وجود الدعم الكافي من الحلفاء، خاصة مع تزايد خصوماته مؤخرًا، حتمًا ستدبر له المكائد للتخلص منه، دون أن يتمكن من النجاة، لذا عليه أن يفكر في بدائل فورية قبل أن يطأ ذلك المكان اللعين.
……………………………
استعانت بزوجة ابنها المقيمة في مركز المدينة، لتعطيها عبر مكالمة هاتفية وصفًا مقاربًا لأحجام ضيفاتها الثلاثة، فتتمكن الأخيرة من شراء ما يحتجن إليه من ثياب نسائية ملائمة، وبعدما ابتاعت المطلوب، أرسلته عبر الشحن البريدي للقصر، لتتفاجأ “عيشة” بإحضار “فاطمة” مع الخادمة لكل هذه المتعلقات الجديدة للغرفة، شكرتها في حرجٍ كبير:
-والله إنتي تعبتي نفسك يا حاجة، احنا وشنا منك والأرض، مش عارفين نقول إيه بس على الكرم الكبير اللي عملاه معانا.
قامت باستعتابها في وديةٍ:
-ماتجوليش إكده، دي حاجة بسيطة، وبعدين أني ليا لي عتاب عندك.
انقبض قلبها بقليلٍ من الخوف، وسألتها بوجه تبدل للقلق:
-خير؟ حصل إيه مننا؟ في حد من البنات ضايقك؟ أو عمل حاجة مش مظبوطة؟
على الفور بددت ما ساورها من شكوك لحظية بتأكيدها وهي تبتسم في بشاشةٍ:
-هو في زي بناتك، يا زين ما ربيتي، بس إنتي حرماني من طلتهم علي، وطول الوجت جاعدين لحالكم في الأوضة، كأنكم في سجن لا سمح الله.
تنفست الصعداء لكون العتاب يخص بقائهن بعيدًا عن محط الأنظار، فعللت لها أسبابها بتحرجٍ:
-مش عايزين نسببلكم إزعاج، وبعدين في ناس داخلة وخارجة عندكم طول اليوم، هيقولوا إيه لما يشوفونا رايحين جايين كده؟!
ردت حاسمة الأمر في الحال:
-وهما مالهم بيكم، إنتو مجامكم عالي إهنه.
نظرت إليها بعينين تلمع فيهما الدمع الخفيف، فقلما قابلت أناس على تلك الشاكلة الفريدة في كل شيء. خاطبتها وهي تبتسم:
-أنا لساني عاجز عن الشكر حقيقي.
لتوصيها “فاطمة” في ألفةٍ:
-خلي البِنتة يروحوا وياجوا على كيفهم في الجصر أو الجنينة، أو حتى يطلعوا الروف فوج، ده متوضب كيف جعدة ولاد الذوات، أني من وجت للتاني تلاجيني فيه، هواه بحري ويرد الروح، ويجدروا يشوفوا البلد كلاتها منه.
ردت عليها وهي تومئ برأسها موافقة:
-حاضر يا حاجة.
ربتت على كتفها قائلة في حبورٍ:
-يحضرلك الخير يا ست “عيشة”.
……………………………………
انخفض جانب “إيمان” من الفراش عندما جلست شقيقتها الصغرى بجوارها، لتجدها لا تزال ممسكة بهاتفها المحمول ومحدقة فيه بعبوسٍ كبير. تفرست “دليلة” في وجهها بإمعانٍ لتسألها بعدها بحيرةٍ واستغراب:
-مالك؟ وشك قالب ليه؟
تنهدت مليًا لتخبرها بعدها بانزعاجٍ لم تستطع إخفائه:
-بطلب الأستاذ “عادل” بقالي فترة تليفونه مش بيجمع خالص.
مازحتها ساخرة من عزوفه المريب عن الرد عليها:
-إداكي بلوك ولا إيه؟
في التو نفت عنه ذلك مبدية تحيزها لصفه:
-هو مش بتاع كده أصلًا!
غمزت لها بطرف عينيها متسائلة في مكرٍ:
-أومال إيه؟
تركت الهاتف من يدها، وكتفت ساعديها أمام صدرها لتقول في تحيرٍ:
-مش عارفة والله، بس بحاول أدور على مكان بديل نستقر فيه.
لحظتها التوى ثغر “دليلة” بابتسامةٍ هازئة وهي تحادثها:
-وهو احنا هنعرف نخرج من هنا أصلًا طول ما العمدة ده واقفلنا فيها.
للغرابة وجدت شقيقتها تدافع عنه في تحيزٍ:
-طب والله راجل جدع وشهم، ده محدش عمل معانا اللي عمله من يوم ما جينا هنا.
مؤخرًا، وعلى غير العادة، لم تكن “دليلة” واثقة من عواطفها تجاهه، فكلما تحدث أحدهم عنه، تنتابها تلك الحالة من التوتر والارتباك، وكأنه يحدث في داخلها شيء ما لم تألفه بعد، لذلك لجأت للمناص من التطرق إلى سيرته قائلة بتجهمٍ مصطنع:
-احنا مش هنقضيها كلام عنه.
ردت عليها “إيمان” وهي تستعد للنهوض من موضعها:
-ماشي يا ستي، تعالي نشوف هناكل إيه، وبالمرة نطلع نقعد في الرووف شوية.
استحسنت اقتراحها واقتضبت في ردها غير الممانع:
-طيب.
……………………………………
بعد وقت العصاري بقليل، اعتادت “دليلة” على الصعود والجلوس على الأرجوحة مع شقيقتها، وربما التمدد على الأريكة العريضة المريحة عند الزاوية، خاصة مع تشجيع “فاطمة” لهما للاستمتاع بأجواء سطح القصر الذي تحول لبقعة مثالية للاستجمام والاسترخاء وسط الطبيعة الخضراء التي تحد المكان من كل جانب دون أن يقتحم أحدهم خصوصية هذا الموضع المميز.
لم تدرك أن “غيث” قد مكث بالأعلى فور أن عاد من سفرته الأخيرة، فقد كان بحاجة لتصفية ذهنه من كم الأفكار التي ازدحمت بها رأسه في الفترة الأخيرة، خاصة مع كونها متعلقة بها.
خفق قلبه بخفقةٍ قوية عصفت بكيانه لما سمع صوتها يقترب، تلبك وتحير في كيفية التصرف حينما تكتشف وجوده. لم يطرأ ببالها مطلقًا أن تلتقيه هنا، فقد توقعت أن تطول مدة غيابه، لذا كانت على سجيتها في كل شيء، وتحديدًا وهي تسترسل شاكية:
-أُقسم بالله اللبس ضاق عليا بعد أسبوع من الأعدة هنا، كل حاجة بتتعمل بالسمنة البلدي…
رغمًا عنه تطلع إليها “غيث” متابعًا ما تقوم به في أريحية تامة، دون أن تعي بعد أنه يقف قبالتها، حيث أمسكت ببطنها المنتفخة نسبيًا مواصلة شكواها بغير انتباه، وهو بالكاد يمنع نفسه من الضحك على طريقتها الطريفة في وصف ما تمر به:
-ده أنا طلعلي كرش، وجناب، ولو فضلت على الحال ده هبقى شبه الكورة، وهتدحرجوني علشان أعرف أتحرك، ده إن ماتحشرتش في الباب.
هذه المرة لم يتمكن من كتم ضحكاته المتسلية، وهو يتخيلها مثلما تحدثت، فانفجر ضاحكًا في سعادة قبل أن يعتذر منها:
-مجصدش والله، بس إنتي دمك خفيف.
جمدتها مفاجأة وصدمة وجوده في مكانها، فحملقت فيه بعينين متسعتين، ليتوقف عن الضحك عندما لاحظ صمتها المريب مكررًا اعتذاره بشكلٍ جدي:
-أني أسف لو ضايقتك.
صرعته تلك النظرة الفاتنة من عينيها إليه، فشعر بتلاحق خفقات قلبه، بل يكاد يقسم أنه على وشك القفز من موضعه في أي لحظة، لينتبه بعدها عندما خفض بصره لكونها ترتدي عباءة سوداء مفتوحة، تظهر من أسفلها منامتها ذات اللون النبيذي والمطعمة بأشكال ورود كبيرة الحجم، على حجابٍ غير معقود فوق رأسها، تداعب نسمات الهواء طرفيه، فيتحرك في تموجات خفيفة جاعلًا خصلات شعرها تبرز من تحته في جمال وبهاء. تلقائيًا ردد لسانه في إعجابٍ:
-اللهم صلي على كامل النور.
تداركت نفسها، وضمت طرفي العباءة معًا لتغلقها، ثم أولته ظهرها لتضبط حجابها قائلة في تلبكٍ، وقد غزا وجهها حمرة عجيبة:
-احم.. إنت جيت إزاي؟
فعل مثلها، وأبعد ناظريه عن جمالها الرباني الذي خطف لبه واحتل قلبه دون إنذارٍ مسبق مجيبًا إياها:
-من الباب دِه!
ألقت بطرف حجابها المتدلي على كتفها الآخر، واستدارت تسأله مرة ثانية:
-أقصد يعني جيت إمتى؟
تطلع إلى الخضرة الممتدة على مرمى بصره قائلًا:
-من شوية.
عضت على شفتها السفلى للحظةٍ، وأخبرته:
-سوري يعني إن كنت أعدة في الروف بتاعك.
لحظتها استدار ناحيتها ليقول لها بصدقٍ، وكأنه لا يستطيع السيطرة على نفسه بعدما اشتهى قربها بشوقٍ:
-أني وكل ما أملك تحت أمرك.
جملته الأخيرة بعثرت حالها بشكلٍ غير متوقع، وجعلتها في أوج ارتباكها، فقالت في تلعثمٍ:
-شكرًا على ذوقك.
لتتبدد الأجواء اللطيفة بأخرى غائمة فور أن هرعت “أحلام” إلى السطح لتلتقط أذناها جملته الأخيرة، وتنكوي بنار الحقد والغيرة، سرعان ما بادرت بالهجوم على “دليلة”، قاصدة إحراجها بوقاحةٍ وتبجح:
-واه، إيه جِلة الحيا دي؟ إيه مافيش في وشك شوية أُحمر تختشي بيه؟
اندهشت من تواجدها، واستنكرت طريقتها المريبة في توجيه الحديث إليها صائحة بشيءٍ من الضيق:
-إنتي بتتكلمي كده ليه؟
ليتدخل “غيث” هو الآخر في الحديث هادرًا بصوته الرجولي الخشن:
-فيه إيه يا بت عمي؟
لم تشح بعينيها المشتعلتين عن وجه “دليلة”، وهتفت في نبرة قاسية وموحية:
-فيه إني جاية أحط النجط فوج الحروف، وألزم كل حي بمجامه!
لتبدو نبرتها أكثر إيضاحًا واتهامًا عندما سألتها مباشرة:
-بتعملي إيه لواحدك مع واد عمي يا بت الـ.. بندر؟
على الفور فهمت “دليلة” المغزى الدنيء من وراء سؤالها الخبيث، وعجزت عن الرد عليها، لأن من يراهما ببساطة قد يسيء الظن إليهما، ويفسر الأمر بصورة غير صحيحة، ليتولى “غيث” الكلام من تلقاء نفسه بشكلٍ هجوميٍ منزعج:
-وإنتي مالك؟
هتفت في حـــرقةٍ، وقد انتفض ذلك العرق في وجهها:
-لأ مالي ونص وتلاتربع، هي هنا ضيفة، ماتنساش نفسها.
لم تطق “دليلة” سماع المزيد من الإهانات الجارحة، فغادرت على الفور ودموعها تنهمر بغزارةٍ على وجنتيها، ليزداد غضب “غيث” من تصرفها غير المراعي، فرفع إصبعه في وجهها يحذرها:
-“أحلام”، لمي لسانك عاد.
قالت بسماجةٍ مغيظة:
-أني بتكلم في الأصول لو كنت نسيتها يا واد عمي…
لتبدو أكثر وضــاعة وهي تلقي بتهمها الباطلة:
-راجل وحرمة جاعدين لحالهم في الطل، لأ وجصاد الخلق، وهاتك يا ضحك وكركرة، يبجى اسمه إيه ده؟
هنا أخرسها بزمجرةٍ قوية جعلت جسدها يرتج من طريقته المخيفة:
-ماتنطجيش بحرف زيادة….
حملقت في وجهه بتوجسٍ مرتعب، خاصة عندما تقدم خطوة ناحيتها، لتصبح المسافة بينهما متقلصة للغاية، دلت ملامحه أنه لن يتسامح مطلقًا معها. رماها “غيث” بنظرة قاسية لم ترَ مثيلتها من قبل، ليحادثها بعدها بصوتٍ منخفض؛ لكنه بعث الرجفة في كامل أوصالها، بل وجعل قلبها يعتصر ألمًا وبقوةٍ شديدة:
-دي هتبقى مَرَتي، وإني هتجوزها على سنة الله ورسوله ……………………………….!!!!
…………………………………………
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.