رواية كارثة الحي الشعبي – الفصل الرابع
الفصل الرابع
أنظر جيدًا.
كارثة الحي الشعبي.
فاطمة محمد.
الفصل الرابع:
شحب وجه “فاتن” بات باهتًا…جامدًا…على يقين تام بأنها قد استمعت إليهم…وأنها على وشك أن تصبح عاطلة عن العمل بعد أن تقوم تلك المتعجرفة بطردها لتطاولها عليها بالسباب اللاذع…
أغمضت جفونها لبرهة مترقبة صياحها عليها وطردها…..
ثم فتحت عيناها واختطفت نظرة نحو “ساندي” المرتبكة وحالتها لا تختلف كثيرًا عن حال صديقتها…
تقدمت”وئام” منهم خطوتان موصدة الباب من خلفها….والاثنان عيناهم لا تفارقها…..
ارتفع حاجبي “وئام” الأيسر وقالت بنبرة صارمة ألجمتهم:
-واقفين كدة ليه وسايبين الشغل؟؟؟؟ على شغلكم يلا….
لانت ملامح “فاتن” ولم تتوقع ما تفوهت به…بينما ضحكت “ساندي” براحة…فقامت “وئام” برمقها بنظرة مبهمة جعلت الأخرى تخفي ضحكتها وتجذب رفيقتها للخارج تحت أنظار “وئام”……
أطبق الباب واختفى الأثنان عن عيناها….وفي الحال تبدلت قسماتها لأخرى غامضة مستمتعة بتلك الأجواء والمشاحنات التي تنهي ضجرها والملل الذي يكاد يطيح بها ويملئ حياتها….
حملقت بصورتها المنعكسة في المرآة الكبيرة من أمامها….وثبتت حدقتاها على خصلاتها….
لاحت شبه بسمة على شفتيها مدركة ما عليها فعله فتطاول تلك الفتاة لن يمر مرور الكرام وستعاقبها بطريقتها الخاصة…………
***********
مرت دقائق معدودة حتى ظهرت قبالتهم من جديد…لكن تلك المرة كانت عيناها وكأنها تبحث عن شيء ما….
ارتكزت عيناها عليه…وابتسمت بسمة خفيفة وهي تراه يودع إحدى السيدات الذي انتهى عمله معها للتو…ويصاحبه بسمته الرجولية…ملقيًا كلمات غزل على أذنيها قد تطيح بأي أنثى من أمثالها ومن المؤكد بأن المرأة ستكرر مجيئها مرارًا وتكرارًا……
انتهزت تلك الفرصة…..تحديدًا عندما جلس مكان السيدة محركًا عنقه يمينًا ويسارًا بأرهاق….
دنت منه واقفة أمامه عاقدة ساعديها متمتمة بنبرة كانت بسيطة وبها بعض من المرح الذي ادهشه:
-بقولك إيه…مش جعان ؟
حقًا لم يستطع إخفاء صدمته تلك المرة….فقد باغتته بسؤالها الذي لا يدري مغزاه…..
التقطت الصدمة والحيرة على وجهه، فتابعت مختطفة نظرة نحو “فاتن” التي تدعي انشغالها مع إحدى السيدات لكنها في الحقيقة تتابعهم بغيرة شديدة….
-كل الصدمة دي عشان سألتك سؤال !!! اومال لما اكمل واقولك انك هتقوم معايا وهنخرج ناكل سوا هتعمل ايه؟؟ هتقع من طولك…..!
حقًا بات لا يتحمل هذا الكم من الصدمات المتتالية…من المؤكد أنها ليست بحالتها الطبيعية….
ضيق عيناه وكاد يتفوه لولا حديثها الاخير قبل أن تتوجه لغرفة والدتها:
-استناني برة عقبال ما اجيب شنطتي واجيلك..ومتقلقش مش هاخرك على الشغل…….
على الطرف الآخر..
كادت تنفجر وتشتعل مكانها حتى تدري عما يتحدثان…ولما غادرت وتحرك هو الآخر وكأنه ينوي الخروج قبل انتهاء موعد عملهم….
لم تكبح غيرتها وفضولها…فتركت السيدة مستأذنة منها لثوانِ واقتربت من “عابد” الذي كان على مشارف الخروج من الصالون هاتفه بأسمه….
-عابد..
ألتفت لها محركًا رأسه باستفهام :
-نعم يا فاتن؟
ازدردت ريقها وقالت دفعة واحدة:
-ممكن اعرف في إيه وكانت بتقولك ايه…ورايح فين دلوقتي….
مط “عابد” شفتاه وحك رأسه بآسف لا يشابه لسانه الذي نطق بفظاظة من تدخلها فيما لا يعنيها:
-هو أنا آسف ليكي والله…بس أنتِ مالك؟؟؟!
-يعني إيه أنا مالي…هو أنت أعمى…مبتحسش…طب مش شايفني؟؟؟؟؟؟؟ أنا …
لم تكمل…توقفت عن اعترافها بعشقه…لمجئ “وئام” التي منحت “عابد” بسمة وقالت بنعومة متجاهلة الأخرى تمامًا:
-يلا….
اماء لها “عابد” برأسه وخرج رفقتها تاركًا الأخرى بأعين تلمع بالدموع الحبيسة….
جاءت “ساندي” بتلك اللحظة وقالت مشجعة إياها محاولة التهوين عليها:
-اتلم تنتون على تنتن واحد نتن والتانية انتن ومشفوش ساعة تربية…فكك منهم..وكملي شغل….يلا يا فاتن….
جزت “فاتن” على أسنانها ونطقت مدركة مخطط الأخرى:
-أنا فهمت دلوقتي…..هي سمعتنا يا ساندي…سمعتنا…بس بدل ما تطردني…قررت توجع قلبي….
قطبت “ساندي” حاجبيها متسائلة:
-وهي هتعمل كدة ليه يا بنتي…لا اكيد الموضوع مش كدة…روحي كملي شغلك يلا…ولما تخلصي الزبونة اللي معاكي نكلم….
ابتسمت بألم ولم تجيب على كلمات صديقتها مسترسلة عملها…مقررة هي الأخرى أن تقلب الطاولة عليها….
**********
داخل إحدى المطاعم وبعدما جاء النادل بالطعام الذي انتقوه….أو الذي انتقته “وئام” إذا صح القول…
يجلسان مقابل بعضهم يجيب على استفسارها حول عائلته:
-بحبهم اوي…بابا رجل خلوق متفهم …وماما ست في حالها…مبتحبش تعرف حد عننا حاجة وبتحافظ على اسرارنا….كمان عندي أربع أخوات… أشرف ونضال وخليل وجابر…. والاخير ده توأمي أكبر مني بخمس دقايق مرة واحدة وعُمره ما فكر يذلني بيهم..واكتر واحد اخلاق فينا..تشوفيه تحبيه ابن ناس في نفسه كدة…..
ابتسمت “وئام” بلهفة وفضول مبتلعة الطعام المتواجد داخل ثغرها…متمتمة بحماس:
-الله…عندك توأم زيي…ويا ترى شبه بعض وبتلخفنوا الناس..ولا كل واحد شكل مختلف….
أجاب ببسمة جذابة:
-لا مختلفين….اصلا جابر ده حبيبي بعشقه عشق مقولكيش…عُمرنا ما اتخانقنا…او اتشاكلنا…امي دايما تقولنا اول مرة اشوف توأم بيحبوا بعض اوي كدة….
زاد حماس “وئام” وصاحت:
-لا كدة بقى لازم اشوفوا…
همس “عابد” بخفوت:
-متشوفيش وحش…..ده لو شافك ممكن يشقطك من غير ما تحسي…
لم تستمع لما قاله فقالت بجدية:
-لا بجد كدة لازم اشوفوا…احكيلي اكتر عنكم….
-اقولك إيه بس الكلام مش هيوفي حقنا…احنا من كتر حبنا في بعض قاعدين في اوضة واحدة…مبنرضاش نفارق بعض…وهو محترم اوي عُمره ما فكر يكلم بنت….لا وبيتعب…بيتعب جامد في الشغل…واكتر حاجة بحبها فيه تمسكه بشغله…
ظل يتحدث ويلقي عليها الكثير والكثير من الأكاذيب حول عائلته وتوأمه…مجملًا صورته…بينما أنهت هي طعامها وظلت تتأمله…وتتابعه بتمعن أثناء حديثه….
لا تدري ما المختلف به؟!!!!
ليس وسيمًا لتلك الدرجة…فهو شاب ذو ملامح عادية…داكن البشرة…حتى جسده ليس مفتول العضلات…
لكن به شيء جذاب…ترى هل طريقته الساحرة بالحديث هي سر وسامته ام ماذا ؟!
************
-واقوم إيه بقى ابصلك الاقيلك الاتنين بيتخانقوا ولا اكنهم عيال في حضانة وقعدوا يزقوا بعض ويعضوا في بعض..وناقص يشدوا في شعور بعض..وهوب فتحوا على ابوهم باب الحمام…خلوني في نص هدومي….
كانت تلك كلمات “دلال” وهي تقص على شقيقتها ما حدث معهم صباحًا…جالسة على الأريكة وعلى قدميها صحن كبير من النوع البلاستيكي وبين يديها سكين…تقم بتقطيع إحدى الخضروات التي ستقوم بطهيها مساءًا….
ردت “نجلاء” بصدمة واضحة:
-يالهوي وسلطان عمل معاهم إيه؟؟؟ اكيد طاح فيهم ضرب….
نفت “دلال” قائلة:
-لا لسة بس الخطوة الجاية.. حساه هيطيح فيهم….
انتهت متنهدة بصوت مسموع مرددة:
-ياما نفسي يريحوا قلبي وكل واحد يشوف مصلحته وافرح بيهم واشوف عيالهم واربيهم… وأشرف يسيب اللي ما تتسمى….البت دي مش هتعمر مع ابني أنا قلبي حاسس….
-تفي من بقك يا دلال…ما أنتِ عارفة أن أشرف روحه فيها….والبت الف مين يتمناها…عيبها الوحيد أمها….
تلفظت “نجلاء” بصدق…وانفرج الباب بذات اللحظة وظهر من خلفه “جابر” الذي كان يدندن إحدى المهرجانات الشعبية…ويتراقص بطريقته البلهاء…..
مغلقًا الباب متقدمًا من دلال التي تابعت تقدمه بأعين مدهوشة وأغلقت مع أختها:
-طب اقفلي دلوقتي… أما اشوف خيبتي الكبيرة هبب ايه….
لم تعي “نجلاء” عمن تتحدث لكنها انصاعت لها فـ عاجلًا ام آجلًا ستدري عمن تتحدث…انتهت المكالمة…فجلس “جابر” جوارها ببسمته الواسعة البشوشة….
متمتم بأسلوب مرح ملتقطًا ذراع دلال:
-وحياة أمي لخلي درعاتك دي يتقلوا من الدهب…ومتبقيش عارفة تحركيهم…
تجاهلت حديثه و وعده ذلك…منتشلة ذراعيها من يداه ضاربة إياه بصدره:
-ايه اللي رجعك يا ولا…هببت ايه لابوك….ها…
ابتسم مريحًا ظهره على الأريكة متحدثًا بعجرفة وتسلط لم يزده سوى بلاهة مغمغم:
-مهببتش…بس خلاص لقيت الشغلانة اللي هكسب من وراها دهب…وهأكلكم الشهد بيها….انا قررت ياما اشتغل مُدرس عربي للعيال اللي في المنطقة واكسب فيهم ثواب….
شهقت “دلال” ضاربة على صدرها قائلة:
-يا مصيبتي….مُدرس ده إيه..!!!!!!
ده انت مش حافظ أ..ب….ده انت بتكلم بالعافية…وكلامك بيئة يا واد…بقى أنت هتبقى مُدرس عربي…ده انت ساقط يالا….وكنت بتشيل ملاحق قد كدة…..
حمحم “جابر” وقال بضيق طفيف:
-ايام ومضت…بصي لقدام ومتبصيش لورا…..جابر خلاص هيتغير يا منطقة….ومن بكرة هدي العيال دروس…
نهض بعد أن انتهى من إلقاء كلماته تلك متجهًا نحو غرفته….وضع يديه على المقبض مردد دون أن ينظر إليها:
-أنا جعان…أكليني و
ابتلع البقية بفوهه بسبب خفها الذي تصادم بظهره….كز على اسنانه والتفت لها برأسه ليجدها تصيح به:
-هات الشبشب ده يا واد وتعال….واعمل حسابك مش هتشتغلها يا ساقط…يا فاشل…انا معنديش استعداد استني العيال تسقط وأهاليهم يجوا يحدفونا بالطوب…….
بلل “جابر” شفتاه وقال بطريقة مسرحية مثيرة للضحك قبل أن تلتقط خفها الثاني وتصوبه نحوه:
-أعداء نجاح…..بكرة مش هشوفكم وهدوس عليكم بفلوسي…..استفوخس عليكم….
لم يكمل واختبئ بغرفته خوفًا من بطشها…..مرددة بتهليل:
-استفوخس عليك انت وعلى اللي خلفتك يا معفن…اومال يا واد لو كنت عدل شوية كنت عملت فينا ايه…ده انت ساقط…وفاشل…….
************
جذب “مروان” زوجته بعيدًا عن عائلتهم مستفسرًا عن مكان ابنته التي غابت عن الأرجاء :
-وئام فين يا علياء؟! مش شايفها يعني!!!!
ردت “علياء” بهدوء:
-خرجت راحت تودع واحدة صاحبتها مسافرة..وهتعدي على البيوتي سنتر…
انهال عليها بالأسئلة المتتالية لا يبلع لعابه:
-مين صاحبتها دي….اسمها ايه…وهتروحلها البيت ولا المطار؟
قطبت “علياء” حاجبيها وقالت مدهوشة:
-ايه يا مروان..تحقيق ده ولا ايه..بنتك مش صغيرة وعارفة الغلط من الصح…وانا واثقة فيها…
رد بنبرة لاذعة:
-وانا بقى مش واثق…بنتك لسة صغيرة وممكن يضحك عليها بسهولة….لازم نبقى عارفين رايحة فين وجاية منين…اه عارفة الصح من الغلط بس ده مش مبرر….كلميها خليها ترجع….عيب اوي نبقى كلنا مجمعين وهي تخرج وتسبنا…. يلا….
كانت لهجته صارمة لم تعتاد عليها….ردت عليه محاولة تجنب غضبه:
-التليفون فوق هطلع اكلمها واقولها….
تركته وصعدت نحو غرفتها كي تأتي بهاتفها….
دخلت الحجرة وسرعان ما وصل إليها رنينه…التقطته من أعلى الفراش وردت عليه….
-ألو…..
-مدام علياء أزي حضرتك.. أنا فاتن اللي بشتغل عند حضرتك في الصالون….
تذكرتها “علياء” وردت بترحاب:
-اهلا يا فاتن اخبارك إيه؟؟
-الحمدلله…كنت بكلم حضرتك عشان ابلغك أن صبغات الشعر بتخلص والمندوب لسة مجبش الجديد…انا كنت هبلغ آنسة وئام عشان تكلمه بس ملحقتش خرجت مع عابد من بدري ولحد دلوقتي مرجعوش……
ظهرت الدهشة على قسمات “علياء” وسألتها مباشرة:
-عابد!!!! مين عابد؟؟؟؟
-عابد سلطان اللي شغال معانا…
ارتفع حاجبي الأخرى ورددت بعدم تصديق:
-وئام بنتي خرجت مع عابد…!
اكدت لها “فاتن” قائلة بانتصار:
-أيوة.. عشان كدة اضطريت اكلم حضرتك….عشان تتواصلي مع المندوب…..
-طيب يا فاتن…هكلمه….
أغلقت معها وتعابيرها تتبدل لأخرى غاضبة من كذب وئام عليها…..
على الجانب الآخر…
صدح رنين هاتف “وئام” فحمحمت واستأذنت من “عابد” وابتعدت قليلًا مجيبة عليها:
-أيوة يا مامي…
-نص ساعة وتبقي قدامي يا وئام….نص ساعة بضبط…لو ملقتكيش قدامي هقول لـ مروان..وعمامك انك بتخرجي مع الولد اللي اسمه عابد……
هتفت “علياء” بتهديد و وعيد…جعل الرعب يدب بأوصال ابنتها….التي تفاقم خوفها وارتعابها عندما أغلقت في وجهها ولم تنتظر إجابة منها…..
ازدردت ريقها وحاولت ألا تظهر ذلك الخوف….بارحت مكانها عائدة للطاولة وسرعان ما نطقت بأستنكار وهي تراه يحاسب على طعامهم:
-أنت بتعمل ايه انا اللي عزماك…..
-وانا قبلت عزومتك وجيت معاكي بس اني اخليكي تحاسبي أظن ده شيء مش حلو في حقي…انا لمؤاخذة مش سوسن…..
تبخر خوفها لثوانِ مندهشة من حديثه… فلم تتوقع فعلته….كبحت شعورها ذلك…والتقطت حقيبتها وغادرا سويًا من المطعم..وكلا منهما يفكر في شيء….فهي تفكر بما ينتظرها ومن أين علمت والدتها بخروجها مع “عابد”…..!!!!
أما هو فكان يفكر بجرأتها… وخروجها معه….وهي لا تعرفه جيدًا…وما الذي قد يحدث معها وقد تجنيه بسبب تلك التصرفات الهوجاء..الطائشة……مقتطفًا نظرة نحوها……..
**********
في المساء خرجت “زينة” من المستشفى التي تعمل بها…مدركة بأنه بالخارج في انتظارها كي يصطحبها ويذهبان سويًا لمنزلها…..
استقبلته ببسمة طفيفة عاقدة ساعديها أمام صدرها مردفة بتساءل:
-واصل بقالك كتير؟؟
نفى برأسه دون أن يتلفظ لسانه بشيء…فقط يكتفي بمطالعتها…فقالت مقاومة رغبتها بالحديث معه عما حدث من شجار عنيف مع ذلك الشخص المدعو “محمد” من حيهم….
-طب إيه مش يلا….
عض “أشرف” على شفتاه متمتم بترقب:
-مكلمتنيش امبارح ليه؟
عقبت بسؤال آخر:
-وأنت متصلتش ليه؟
انفعل “اشرف” وقال بتشنج وعروق بارزة:
-أنتِ اللي المفروض كنتي تسألي عليا….انا اللي كنت بتخانق…استنيتك تتصلي ومتصلتيش…..
-وانا كمان استنيتك تتغير…وتبطل خناق ..بس إزاي مينفعش…أنت اصلا مبتفكرش فيا ولا بتعمل عشاني حاجة…..
أشار على ذاته بسبابته مردد كلماتها الأخيرة بنبرة يشوبها الألم:
-أنا…. أنا مبعملش حاجة مش كدة؟…صح أنا مبعملش حاجة…
صمت واحتفظ بسكوته ذلك ثوانِ ثم حك انفه وتحرك كي يستقلان إحدى سيارات النقل العام….وبالفعل استقلى الأثنان إحدى العربات….ولم يتبادلان الاحاديث طيلة الطريق……
***********
انهى “سلطان” و “خليل” صلاة العشاء للتو…مقابلًا في طريقه للمنزل إحدى اصدقائه فتحدث محثًا “خليل” على استرسال طريقه مخبرًا إياه بأنه قادم خلفه….
وما أن اختفى “خليل” عن أنظار “سلطان” حتى وجهه حديثه للرجل:
-طمني يا نبيل سألتلي ؟
اماء “نبيل” مانحًا اياه بسمة قائلًا:
-سألت..في جمعية هتبدأ الشهر الجاي وضبطلك الدنيا وهتقبضها اول دور….
تهللت أسارير “سلطان” وحمد ربه فـأخيرًا سيستطع الوقوف جوار ابنه….فتلك الأموال سيمنحها لاشرف كي يستطع الزواج بزينة…..
تنهد براحة وتحدث بأمتنان:
-مش عارف اقولك ايه يا نبيل…
-متقولش حاجة يا سلطان…وان شاء الله ربنا يتمم لاشرف على خير..
ردد “سلطان” ورائه:
-يـــارب يا نبيل..يـــارب…
************
تصدح ضحكات الجميع بأركان المنزل بعدما قصت عليهم “دلال” ما ينوي عليه “جابر” وهو عمله بالتدريس….
انزعج “جابر” من سخريتهم منه وصاح بهم:
-جرا ايه قالت نكتة هي ولا ايه…..
هتفت “نجلاء” من بين ضحكاتها العالية:
-والله يا واد يا جابر أنت اللي في العيلة دي…..
اتسعت بسمته وظن انها تمدحة لكن سريعا ما اختفت بسمته بالفضاء عندما تابعت وهي تضرب على قدم اختها:
-هو الوحيد اللي بيضحكني…ما تبعتوه السيرك يا دلال… اهو يضحك الناس وينسيها همومها..
تأفف بضجر وعقب بتهكم غير عابئًا بضحكات أشقائه عليه….
-ليه اراجوز…ولا قرد….
ردت ابنه خالته “أسماء” راغبة في غيظه مخرجة لسانها له:
-الاتنين يا ابن خالتي….
عقب مستهزئًا:
-بكرة لما ابقى غني والقرش يجري في ايدي مش هشوفكم…وهفرجكم كلكم….وهدوس عليكم….واتفرج عليكم وانتوا بتقولوا الباش مُدرس جه…الباش مُدرس راح……
دخل “سلطان” بتلك اللحظة مرحبًا بشقيقة زوجته وبأبنتها أسماء البالغة من العُمر تسعة عشر عامًا وابنها الأصغر حسام البالغ ستة عشر عامًا ….وما أن انتهوا من تبادل التحية حتى قالت دلال موجهه حديثها لـ عابد:
-كلم أخوك اشرف شوفوا فين…
رد “سلطان” يخبرها:
-اشرف عند خطيبته يا أم أشرف بيتعشا عندهم يلا احنا……اتفضلي يا نجلاء…يلا يا ولاد البيت بيتكم….ونور بيكم والله ….
لوت دلال شفتيها بحركة شعبية شاعرة بالغيرة على ابنها مردفة بهمس وصل لابنائها الأربعة:
-من دلوقتي وبيخطفوه مني ومن أهله اومال بكرة هيعملوا ايه…والله لوريكي يا عفاف….
صرخ “جابر” بصوت عالي قاصدًا فزعها:
-بتقولي ايه ياما…..
ضربته في صدره وهي تنهض:
-فزعتني يا واد يخربيتك…..يالا يا نجلاء…يلا يا عيال…….
تحركوا سريعًا نحو مائدة الطعام… فأشار نضال لاشقائه وهمس لهم:
-يكون في علمكم العشا بتاع اخوكم مش هيعدي على خير….امكم عينها رشقت في العشا…..وادي دقني اهي أن مكنش يحصل عركة…..
************
رحب “أسامة” والد “زينة” بـ أشرف…كذلك فعلت “عفاف” على مضض..لا تطيق رؤياه.. تراه لا يستحق ابنتها الطبيبة….وتراها كثيرًا عليه…
انتهت مفارقة الصالون تاركة إياه رفقة زوجها…
لاحقتها “زينة” داخل المطبخ وما أن رأتها وشعرت بوجودها حتى التفتت لها متحدثة من بين أسنانها:
-ممكن أعرف جايين مع بعض ليه؟ أنتوا خرجتوا من غير ما تدونا خبر ولا إيه….
نفت “زينة” مهدئة من روعها، متلفظة بحسم:
-لا يا ماما مخرجناش…كل الحكاية أنه عدى عليا في الشغل و روحنا سوا…
شعرت “عفاف” بالراحة ولزمت الصمت مؤقتًا وشرعت بتحضير العشاء….وبسمة لعوبة على ثغرها……!!!
بعد مضي بعض الوقت…كانوا يتناولون العشاء سويًا بأجواء هادئة يتخللها بعض النظرات المقتطفة بين أشرف و زينة….
ولم يخرب هذا الهدوء سوى استفسار “عفاف” التي مضغت الطعام بفوها:
-ها يا أشرف إيه جديدك….
رمقها “أشرف” بعدم فهم فأسترسلت ساخرة :
-يعني لقيت شغل ولا لسة عاطل؟
حدق بها “أشرف” للحظات بينما سعل زوجها من طريقتها الوقحة بالحديث معه….
ازدرد ريقه وكبت غضبه وأجابها راسمًا بسمة زائفة تناقض ما يشعر به الآن..
-لا لقيت ومن بكرة هقف في صيدلية بس ان شاء …
كاد يخبرها بأن ذلك العمل ليس بدائم فقط مؤقتًا لكنها لم تمنحه فرصه…ثارت…واندلعت صارخة بوجهه وكأنها قد وجدت فرصتها كي تهينه وتخرب علاقته بأبنتها:
-نـــــــــعم !!!!! صيدلية….أنت متعرفش أنك خاطب دكتورة ولا ايه يا أستاذ….حلوة اوي دي دكتورة تجوز واحد واقف في صيدلية..حتى ياريتها بتاعته….
استشاط “أشرف” غضبًا…وكم رغب بالرد عليها..لكنه صمت من أجل حبيبته….
حول أنظاره تجاها يناظرها فوجدها تعبث بالطعام لا تبالي بأهانته وكأنها تقبل بكلماتها….فـ هدوء مميت كان يليح على قسماتها….
حاول “أسامة” تهدئه الأجواء فصاح:
-الشغل مش عيب يا ام زينة…وكفاية أنه
قاطعته بحدة وأعين قاتمة من رده السخيف..التقليدي بوجهه نظرها:
-فعلا الشغل مش عيب ..بس العيب أن لما حد يسأل بنتي جوزك شغال ايه..تقولهم عامل في صيدلية….اسمع يا أشرف شغلك ده مينفعش…ومش كل شوية تطلعلنا بشغلانة…حالك ده ميفتحش بيوت….يا تثبت على شغلانة يا تسيب بنتي تشوف حالها….وياخدها اللي يعرف يسعدها ويصرف عليها….
لم ينتظر “أشرف” كي ينصت أكثر ويصمت عن اهانته وكأن لسانه قد بتر….فترك العنان لساقيه ورحل من المنزل بأكمله….
حاول “أسامة” اللحاق به والاعتذار منه عما بدر من زوجته لكنه لم يستطع و وجده اختفى وكأنه في سباق مع الرياح…
عاد لزوجته متمتم بخشونة:
-ينفع كدة يعني اللي عملتيه ده…الراجل جاي ياكل معانا نقوم سمين بدنه بالشكل ده….
تشنجت “عفاف” مردفة:
-اه ينفع اللي مينفعش بحق بقى أن بنتي تجوزه….
لوح لها “أسامة” بذراعيه والجًا غرفته تاركًا ابنته الهادئة الصامتة برفقتها…
انتبهت “عفاف” لها ولرد فعلها..وعدم دفاعها عنه مثلما اعتادت لتعلم على الفور نجاحها…فرغبت بطرق الحديد وهو ساخن مقتربة من ابنتها متمتمة:
-شوفتي…راح اشتغل في صيدلية…يا ترى بقى كان قالك ولا لا…ولو قالك وافقتي ازاي..منظرك ايه قدام زمايلك….لا ومش عجبه ابن دلال…ده كل شوية يطلعلنا بشغلانة…وملوش شغل ثابت…انا مش عارفة
تركتها “زينة” وهبت من جلستها مختبئة بغرفتها موصدة الباب خلفها…اتسعت بسمة “عفاف” المتشفية متمتمة بخفوت:
-هانت يا ابن دلال..هانت اوي وبنتي مش هتبص في وشك وهتاخد اللي يستاهلها ويعيشها ملكة……
***********
وصل “مؤنس” و شقيقة “زيدان” منزل عائلة الحلواني واستقبلوهم الجميع بترحاب يتغلله المرح…..
ثم جلسوا وتناولوا طعام العشاء سويًا….لكن هناك من لم تستطع الاندماج معهم وظل ذهنها مشغولًا…. ألا وهي “وئام” التي تجاهلتها “علياء” تمامًا……وفضلت الحديث معها بمفردهم وبهدوء تام بعد نوم الجميع…….كي تعلم لماذا كذبت عليها وهي من منحتها ثقتها……
بينما كان قلب ” ثراء” على وشك الخروج من مكانه…..لمزاحه معها…وعدم تجنبه لها مثلما يفعل دائمًا…..
وهناك “داليدا” التي كانت تؤنب حالها على ارتكابها مثل ذلك الخطأ….وتحدثها مع شاب لا تدري عنه شيء…وانصياعها خلف طيشها وحماقتها…..فماذا كان سيحدث لو أدرك والدها ما تفعله……
بعد دقائق انتهوا من تناول الطعام وخرجت العشر فتيات وبرفقتهم “أحمد” “مؤنس” “زيدان” إلى الحديقة….يلعبون ويمرحون….والمريب أن مؤنس لم يتوقف عن المزح أو إظهار سعادته…..
لم تستطع “ثراء” مقاومة رغبتها ولهفتها في معرفة ما يجعله سعيدًا لتلك الدرجة…
فقامت بطرح سؤالها عليه مرددة:
-قولي يا مؤنس حساك انهاردة مبسوط شويتين…تلاته على غير العادة…..
وافقتها “وعد” صارخة:
-خمسة عليكي يا بت يا ثراء..وانا كمان ملاحظة ده….وانا كبنت عمتك من حقي اعرف ابن خالي ايه مخليه منشكح اوي كدة…..
احتلت بسمة ثغره مجيبًا على اسئلتهم متعمدًا الكذب…
-بصراحة كدة… شكلي بحب…..
تهللت أسارير “ثراء” ولوهله ظنت بأنه يقصدها….حتى جاء سؤال فجر:
-طب مين نعرفها ؟؟!!!! اسمها إيه؟
نفى بحالمية مزيفة أجاد إتقانها متجاهلًا نظرات شقيقه نحوه:
-لا متعرفوهاش……بس هي زي القمر……ولما تتعرفوا عليها هتحبوها اوي….
اختفت بسمة “ثراء” وتحطم وجدانها في الحال….وتحولت نظرات “داليدا” “وعد” “وئام” “فجر” “أبرار” نحوها كي يرون رد فعلها…….!!!!!
__يتبع__
فاطمة محمد.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية كارثة الحي الشعبي) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.