رواية فوق جبال الهوان الفصل الرابع والخمسون 54 – بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان – الفصل الرابع والخمسون

 

 

الفصل الرابع والخمسون

الفصل الرابع والخمسون

حينما استفاقت من غيبوبتها، وأصبح من المسموح للجميع بزيارتها في المشفى الذي انتقل إليه، توجه “غيث” مع ابنتيها إلى غرفتها المنفردة للمكوث معها. تململت “عيشة” بتعبٍ على الفراش، فتحركت “إيمان” من موضعها لتقف بجوارها، وتعيد ضبط الوسادة من خلف ظهرها، وسألتها في نبرة مهتمة:

-حاسة بحاجة يا ماما؟

لوحت بيدها الموضوع فيها إبرة طبية موصولة بمحلول طبي قائلة بصوتٍ واهن:

-لأ يا حبيبتي، أنا بخير الحمد لله.

فيما عاتبتها “دليلة” بوجهٍ يشي بخوفها:

-ما تعمليش فينا كده تاني يا ماما، أنا روحي كانت بتروح مني لما شوفتك واقعة مننا.

ردت عليها بنفس النبرة الهامسة:

-الحمد لله على كل حال.

ليتدخل “غيث” في الحوار معقبًا هو الآخر:

-جدر ولطف.

حولت “عيشة” ناظريها نحوه، وقالت في امتنانٍ:

-دوختك معايا يا ابني، وإنت لسه قايم من تعب كبير.

قال باسمًا في شيءٍ من الاحترام:

-كلنا فداكي يا حاجة.

بادلته الابتسام وهي ترد:

-كتر خيرك.

أصبحت نبرته أكثر جدية عن ذي قبل وهو يخاطب ثلاثتهن مشيرًا بسبابته:

-دلوجتي لازمًا نتفجوا هنجول إيه لأهل البلد.

رفعت “دليلة” حاجبها للأعلى كنوعٍ من الاعتراض قبل أن تفصح علنًا عن ذلك:

-اشمعنى يعني؟

ناظرها بنظرة لا تبدو ممازحة وهو يخبرها موضحًا:

-ما هو خروجكم منها في أنصاص الليالي مش هيعدي إكده من غير لت وعجن وحديت ماسخ.

رغم تعبها إلا أن “عيشة” أيدته فيما تطرق إليه مرددة:

-مش أنا قولتلكم؟

ليضيف بعدها مسترسلًا في الشرح:

-مش هنتحدتوا في اللي فات، إنتو دلوجيت عتجولوا إن الحاجة الكبيرة تعبت، وكنتوا بتدوروا على ضاكتور ليها، بس اكمنكوا ما تعرفوش حد إهنه، فطلعتوا على البر التاني، وسيبوا الباجي علي، أني هتعامل.

مرة ثانية احتجت “دليلة” على تدخل الآخرين –وخاصة الغرباء- في شئونهن الشخصية هاتفة بتبرمٍ:

-والناس مالها ومالنا؟ احنا أحرار نعمل اللي عايزينه!!

لاحظ ما بدا على تعبيرات وجهها من علامات منفعلة، فتعامل مع موقفها المتحيز بنفس الأسلوب المتعقل الذي يلجأ إليه دومًا حينما يخاطبها في مسائلٍ مصيرية:

-الحديت ده يا بت الحلال يمكن يتبلع جبل ما تبجي مَرَتي…

قبل أن تهم بالاعتراض تابع تفسيره:

-وخروجك إكده هيعتبروها شِينة في حجي جَبل منك، وأني ماجبلش إنهم يتحدتوا عنك بحديت عفش.

وكأن الغشاوة قد أزيلت عن عقل “إيمان” فتداركت ما غفلت عنه أثناء تنفيذ خطة الهروب المزعومة، لتبدو وكأنها تشاركه الرأي حين أضافت هي الأخرى:

-صح، احنا هنا في الصعيد، والمواضيع دي مش بسيطة، إزاي مفكرناش في كده.

انزعجت “دليلة” مما اعتبرته مجازًا تحامل الجميع عليه، فصاحت في تذمرٍ:

-يعني أنا الغلطانة دلوقتي؟ ما إنتو بنفسكم سمعتوا كانوا بيقولوا عني إيه؟ هستنى إيه تاني؟

مرة أخرى خاطبها “غيث” بهدوءٍ:

-مالكيش صالح بحد غيري، أني المسئول عنك، وإنتي مُلزمة مني.

سعلت “عيشة” قليلًا، ووجهت أمرها لابنتها الصغرى:

-اسمعي الكلام يا “دليلة”، “غيث” معاه حق في كل اللي قاله.

لترد عليها بما يشبه الاعتراض:

-يا ماما احنا مش بتوع مشاكل أصلًا، ولما مشينا من هنا علشان ما نضايقش حد بمشاكلنا.

هذه المرة تذمر “غيث” على عنادها قائلًا بصبرٍ قليل:

-بردك عتجولي نفس الحديت، وأني عجولك أني مش أي حد، أني جوزك…

ضيقت عينيها ناحيته في عبوسٍ، فاستأنف حديثه مؤكدًا:

-وبعدين أني ماشتكتش، يوم ما جصر إمعاكي يبجالك الحق تعترضي.

قبل أن تنطق بشيءٍ جديد، سمعوا طرقات خفيفة على الباب أتبعها ولوج “وهبة” مستأذنًا بالدخول ليقول في أدبٍ وهو خافض لبصره:

-سلام عليكم يا حاجة، كيفك دلوجيت؟

ردت عليه “عيشة” وهي تنظر ناحيته:

-بخير يا ابني.

ليتوجه بعدها بالحديث إلى “غيث” فأعلمه:

-العربية جاهزة يا كبيرنا، وجت ما تحبوا تمشوا من إهنه نادم علي، أنا جاعد برا مستني.

ربت على كتفه مرددًا في استحسانٍ:

-ماشي يا واد عمي.

غادر بعدها منتظرًا بالخارج، ليتساءل “غيث” مرة ثانية في تحفزٍ:

-خلاص اتفجنا عتجولوا إيه؟

كانت “إيمان” أول من علقت بالقبول:

-أه تمام.

فيما ظلت “دليلة” على صمتها، ليقترب منها متسائلًا في جديةٍ:

-وإنتي يا بنت الناس، إمعاي؟

تنهدت قائلة في استسلامٍ:

-أيوه، معاك.

كلماتها وإن كانت مقتضبة، محدودة، بسيطة، إلا أنها لا تزال تحدث تأثيرًا في نفسه، راح “غيث” يطالعها بهذه النظرة المتيمة، ولسان حاله يردد بين ثنايا خافقه:

-دايمًا يا رب تكوني إمعاي.

…………………………………

راقبت بعينين يقظتين حركة صغارها وهم يلهون حولها ويلعبون في مرحٍ وبراءة بحديقة القصر الخلفية، كانت قد انتهت لتوها من شرب قهوتها، وظلت تتابع أطفالها باهتمامٍ إلى أن جاءت إليها الخادمة “سنية” تركض في لهفةٍ وهي تناديها:

-ست “عبير، يا ست “عبير”!

اندهشت من تلهفها عليها، وأمرتها بالجلوس، لتفترش الأخيرة الأرضية وتميل عليها هامسة:

-عايزة أجولك على حاجة إكده!

سألتها مستفهمة، وقد خبت نبرتها هي كذلك:

-خبر إيه يا به؟

تلفتت أولًا حولها في حيطةٍ، لتتابع في همسٍ:

-سمعت الناس في البلد عميتحدتوا بحديت عِفش عن مَرَت الكبير.

ضيقت “عبير” ما بين حاجبيها متسائلة في توجسٍ، وهذا التعبير الجامد قد غطى كامل وجهها:

-تجصدي “دليلة”؟

أومأت برأسها مؤكدة ذلك:

-إيوه.

لتتساءل بعدها في فضولٍ مشوبٍ بالحيرة:

-حديت إيه ده؟

ازدردت ريقها، واستطردت في حذرٍ:

-عجولك، بس إديني الأمان.

نفد صبرها من مماطلتها السخيفة، وصاحت بها آمرة:

-انطجي يا به!

لتشرع بعدها في نقل ما سمعته مصادفة أثناء ابتياعها لبعض الضروريات المطلوبة للقصر مع أحد الخفراء. بهتت تعابير وجه “عبير” ولطمت على صدرها هاتفة في جزعٍ:

-يا وجعة سودة!

قصّت “سنية” عليها المزيد، فشخصت أبصارها وغدت لا تعي ما الذي يفعله صغارها، لتكمل كما لو كانت تحادث نفسها:

-ده لو الكبير شم خبر بالحديت الواعر ده لهتطير فيها رجاب.

استوعبت خطورة الكارثة الوشيكة، فانتفضت تأمر خادمتها بغير تساهلٍ:

-إياكي يا به تفتحي خاشمك وتجولي حاجة عن اللي سمعتيها، وخصوصي الحاجة الكبيرة، فاهمة ولا أجطع لسانك؟

ردت في إذعانٍ تام:

-حاضر يا ستي، أني معرفش حاجة واصل، أني بس جولت اللي سمعته.

نهرتها في غلظةٍ وقد أظلمت نظراتها:

-ولا تجوليه حتى مع نفسك، كنه محصلش، سامعة! وغوري شوفي وراكي إيه.

نهضت ممتثلة لأمرها وهي ترد في توجسٍ:

-حاضر.

فيما بقيت “عبير” على حالتها المرتاعة وهي تتخيل فداحة تأثير شائعات حقيرة كتلك على العائلة، وليس “دليلة” فحسب! انقبض قلبها بشدةٍ، وأخذت تدعو في رجاءٍ وتضرع:

-عديها على خير يا رب!

………………………………….

مكالمة أخرى أساسية يجريها مع رب عمله يوميًا ليطلعه عبرها على آخر المستجدات، كما يكلفه خلالها بمباشرة المزيد من الأعمال، إلى أن يعود إلى محل عمله ويكمل بنفسه ما يخصه. انتهى تابعه من تلقي أوامره، وأكد له بنبرة مرتفعة مسموعة لمن حوله:

-تمام يا ريس “وهبة”، أنا متابع كل حاجة بنفسي، متقلقش…

ليبدو أحدهم متأهبًا في وقفته كلما سمعه يخاطب “وهبة”، حيث تحرك بخفةٍ ليقترب منه، وراح كالعادة يتلصص على مكالمته دون أن ينتبه لوجوده، بينما الأول غير مدركٌ لما يقوم به.

أنهى معه الاتصال، فتساءل آخر مستفهمًا:

-برضوه الريس “وهبة” مش جاي؟

رد وهو يعاود الإمساك بدفترٍ ورقي ضخم يدون فيه بعض الأشياء:

-لأ وراه شغل عند قرايبه اللي في الصعيد.

فيما جاء آخر هاتفًا بصوتٍ مرتفع، ومن خلفه أحد الموظفين التابعين لشركة الكهرباء

-لمحصل عايز الفواتير تدفع بتاعة التكية.

ترك الدفتر على سطح المكتب، وفتح الدرج العلوي بالمفتاح الذي يملكه متسائلًا:

-عايز كام يا أخينا؟

ليرد الموظف وهو يناوله إيصالًا ورقيًا بالمبلغ المطلوب سداده:

-مكتوب عندك في الفاتورة…

قرأ الرقم الضخم، وأخذ يعد النقدية لدفعها إليه، ليضيف محصل الكهرباء متسائلًا:

-وفي فاتورتين متأخرين لـ “فارس العُرباني” هتدفعوهم زي تملي؟

أجابه وهو يناوله المبلغ المالي:

-هندفعهم، الريس “وهبة” موصينا نخلص أي حاجة تخص المرحوم “فارس” أو عيلته.

ليلتقط ذلك الرجل المندس خلسة وسط رجال “وهبة” أهم ما قيل مرددًا مع نفسه في حماسٍ، لكونه يعلم المردود المادي العائد عليه من ذلك:

-أخبار زي دي لازمًا توصل المعلم “عباس”!

وانسل مبتعدًا عن الجميع بخطواتٍ حثيثة ليجري مكالمته العاجلة، تلك المتبوعة بمكافأة مجزية.

……………………………………….

لم يكن في نيته البقاء معزولًا عن الجميع للأبد، مكوثه هنا مجرد وسيلة لإشباع توقه لها، سرعان ما ضجر “زهير” من بقائه حبيس تلك الجدران، خاصة مع إصرار “عباس” على عدم الخروج إلا في الضرورة القصوى مهابة التعرض لخطر إلقاء القبض عليهما.

مجددًا اشتكى “زهير” في انفعالٍ:

-أعدتي في السجن كانت أحسن من الحبسة السودة اللي أنا فيها دي، لا عارف أروح ولا أجي، وكل حاجة تخصني واقفة.

بهدوءٍ حذر أوضح له “عباس” وهو يضع صينية الطعام أمامه:

-كله علشان سلامتك يا كبيرنا، الحكومة لو عترت فينا مش هنعرف نخرج تاني، وخصوصًا إن خارجتنا كانت بزفة محترمة.

نظر إلى ما وضعه رافضًا تناوله:

-شيل الأكل ده ماليش نفس.

أصر عليه بتصميمٍ:

-يا كبيرنا دي حاجة مفتخرة، رم عضمك، علشان تقدر تصلب طولك وتقاوم اللي جاي، احنا داخلين على معارك.

إلا أنه لم يرضخ لمطلبه، فقدانه للشهية كان نابعًا من رغبته الملحة في الوصول إلى تلك التي عاندته، وانزلقت من بين أصابعه كالزئبق.

رن هاتف “عباس” برقم جاسوسه المندس وسط أتباع “وهبة”، فأجاب عليه في الحال:

-ها ياض، حصل حاجة عندك؟

سكت ليستمع إلى ما يقوله بتركيزٍ، وشبح ابتسامة ماكرة قد لاح على زاوية فمه، بمجرد أن أنهى الاتصال معه هتف في حماسٍ مراقبًا ردة فعل “زهير”:

-عرفنا مكان شقة “فارس العرباني”!

من فوره هتف باندفاعٍ وهو يسرع نحو باب المنزل

-بينا على هناك، هما أكيد مستخبيين فيها.

لحق به “عباس” ليستوقفه قبل أن يخرج قائلًا بما يشبه التحذير:

-هيحصل يا كبيرنا، بس لازم نرتب خروجنا الأول في أمان قبل ما حد يكشفنا.

في صبرٍ يكاد يكون معدومًا تراجع مبتعدًا عن الباب، ودمدم وهو يكز على أسنانه:

-ماشي يا “عباس”، ماشي!

………………………………..

اجتاحتها موجة من الفرح العارم، بعدما تلقت بشارتها السارة، وكادت تطلق العنان لزغرودة غادرة كتعبيرٍ عن ابتهاجها الشديد بإسقاط عدوتها اللعينة بنشر أكاذيبها المضللة. انتزعت “أحلام” من أذنيها قرطها الذهبي، وألقته عند قدميها لتنحني خادمتها جاثية على الأرض لتلتقطه، والأولى تخبرها في نشوةٍ وسرور:

-براوة عليكي يا بت، تستاهلي الحلج ده.

في التو دسته بين راحتيها هاتفة بسعادةٍ، وقد التمعت عيناها بوهج الجشع:

-من يد ما نعدمها يا ستي.

استرخت “أحلام” أكثر في جلستها، وراحت تلف خصلة من شعرها حول إصبعها متابعة حديثها إلى خادمتها في شماتةٍ وحقد:

-آه لو تعرفي كيف بردتي ناري باللي عملتيه، ولسه كمان لما الكبير يعرف، مش بعيد يجطع فرطها من الدنيا بحالها.

ثم ضحكت عاليًا لتضيف وهي تنهض بدلالٍ من على الأريكة ساحبة عكازها الطبي معها:

-والله وانكتبت نهايتك يا بت البندر.

……………………………………….

جاهد لئلا يقــــتل أحدهم خلال طريق عودته إلى القصر بعدما نما إلى ما سمعه من تناقلته الألسن عن زوجة شقيقه. مدفوعًا بغضبه المشحون، اخترق البوابة على أقصى سرعة، مخلفًا ورائه سحابة من الغبار والعفر، ترجل عن سيارته بعدما صفها أمام باب القصر ليزمجر مناديًا فيما يشبه الزئير وهو يلج للبهو المتسع:

-وينه “غيث”؟

توجست “فاطمة” خيفة من هيئة ابنها المُرعبة، وسألته في استرابةٍ:

-في إيه يا “سليمان”؟

في نفس النبرة الهجومية سألها بصوته المرتفع والمعبر عن حنقٍ شديد:

-صُح اللي سمعته ده يامه؟

ابتلعت ريقها الجاف في حلقها، وسألته:

-سمعت إيه يا ولدي؟

أجابها بغضبٍ مستعر:

-إن “غيث” خوي راح ورا مَرَته اللي هربت من البلد جَبل ما تنكشف فضيحتها لأجل ما يصفي دمـــها.

من ورائه صدح صوت “غيث” المستنكر، وقد تجسد على وجهه تعبيرًا شرسًا للغاية:

-ومن مِيتى بنسمحُ لحد يخوض في أعراض حريمنا يا خوي يا صغير؟

لم يرتدع “سليمان” عن مواجهته، وانتقل بنظرته العدائية نحو “دليلة” التي ظهرت من خلفه، ليوضح شقيقه الأكبر:

-مَرَت أخوك أهي معاي، كيف عتجول إنها فاتتني وهربت، أومال دي إيه خيال مآته؟!

زمت “دليلة” شفتيها محتجة على وصفه لها، فيما قالت “عيشة” وهي تتأبط ذراع ابنتها البكرية:

-أنا السبب يا ابني في القلق اللي حاصل ده، تعبت فجأة، وخوفت ألبخكم معايا، فقولت للبنات يودوني على المستشفى، بس إكمننا أغراب عن هنا، فمعرفناش نروح فين ولا نيجي منين، حقكم عليا.

تحولت عينا “سليمان” نحوها ليقول بصوتٍ أجش لازال حانقًا:

-سلامتك يا حاجة، بس الحديت الداير مش إكده واصل!!

ثم ارتكز بعينيه المشتعلتين بجمرات غضبه على وجه “دليلة” ليخاطبها بكلماتٍ ذات مغزى:

-في حاجات تمس شرف العيلة وسمعتها بين أهل البلد، واحنا مش عنجبلوا نكونوا لبانة في بق اللي يسوى واللي ما يسواش.

قبل أن يفكر في الاعتراض عليه، جاء والده ليقول كلمته الأخيرة وهو يطرق بعكازه على الأرضية اللامعة:

-خوك حديته مظبوط يا “غيث”!

تطلع إليه الأخير بوجهٍ جامد التعبيرات، فأكمل والده مشددًا، وبنبرة حاسمة:

-اجطع ألسنة الشيطان، وإنت خابر هتعمل إكده كيف.

تراجعت “دليلة” خطوة للخلف لتبدو قريبة من شقيقتها، وسألتها في حيرةٍ:

-هما بيتكلموا عن إيه بالظبط؟

بنفس التخبط أخبرتها “إيمان” وهي تتابع ما يدور بذهولٍ:

-مش عارفة.

ليوجه بعدها “زكريا” أمره إليهم:

-خلوا الحاجة تطلع فوج ترتاح، وخد مَرَتك واتحدت وياها.

قال “غيث” في طاعة:

-حاضر يابوي.

بينما تحركت “فاطمة” نحو “عيشة” لتعاونها على الصعود إلى الأعلى، فتحدثت إليها في وديةٍ:

-تعالي إمعاي يا ست “عيشة”.

في حين منحت “إيمان” شقيقتها ربتة سريعة على ذراعها قبل أن تهمس لها في توجسٍ:

-خدي بالك من نفسك يا “دليلة”.

ازدردت ريقها وظلت باقية بمفردها مع الثلاثة رجال، كلٌ يرمقها بنظراتٍ متفاوتة، وكأنها مُدانة بالفعل.

ابتعد “سليمان” مع أبيه، بعدما سدد نظرة حانقة نحو “دليلة”، ليقوم “غيث” بالإشارة إليها لتتحرك معه نحو الصالة.

جلس كلاهما في مواجهة بعضهما البعض، فبادرت متسائلة في استياءٍ:

-في إيه لكل ده؟

تنهد “غيث” في عمقٍ قبل أن يخبرها مباشرة دون أي مقدماتٍ:

-من الآخر إكده، احنا لازمًا نكملوا جوازنا.

بدت عليها علامات الحيرة والارتباك وهي تسأله مستفهمة:

-يعني إيه؟

نظر لها صامتًا ففهمت من طريقة تحديقه بها أنه يريد إتمام الزيجة فعليًا، وألا تكون مجرد حجة واهية يستغلها للدفاع عنها وحمايتها، ما لبث أن برقت عيناها، وخفق قلبها بقوةٍ وهي تتخيل حدوث الأمر على أرض الواقع، انتفضت قائمة من مجلسها، وأخذت تصيح في انفعال رافضة ما يمليه عليها بشكلٍ قطعي:

-لأ طبعًا، احنا متفقين على كل حاجة، ده مجرد كلام على ورق، وشوية وهننفصل، استحالة يحصل أكتر من كده

رأى ما طرأ عليها من جزعٍ وخوف، فأخبرها في هدوءٍ محاولًا توضيح مدى الخطورة الناجمة عن إصرارها على الرفض:

-بصي يا بنت الناس، إهنه الحال غير، وطالما اتجال حديت بطال وعفش عنك، يبجى لازمًا نتصرفوا باللي يخرس الكل.

تمسكت برأيها في عنادٍ أكبر:

-مش هيحصل.

لتتفاجأ بعودة شقيقه وتدخله في حوارهما الخاص بقوله الصارم، المحمل بتهديد صريح في مجمله، وهذه النظرة النارية تتقافز في عينيه:

-امسك لجام مَرَتك يا خوي، وإلا أني اللي عتصرفوا إمعاها.

نظرت إليه شزرًا، فتحرك “غيث” صوبه ليمسك به من ذراعه، ثم سحبه للخارج هامسًا في أذنه:

-ملكش صالح يا “سليمان”، دي مَرَتي وأني خابر كيف أجنعها.

رد عليه معاندًا:

-كله إلا الشرف يا خوي، مش شوية حريم عيخلونا نحطوا راسنا في الطين على آخر الزمن.

استعر الغضب بصدر “غيث” من أسلوب شقيقه المحفز، فنهره في غلظةٍ:

-وإنتي شايفني مش راجل إياك؟

قال مشددًا على كل حرفٍ يتفوه به، وبما يضمن سعيه وراء إثبات نقاء سيرة وسريرة من باتت تحمل لقب العائلة:

-إنت سيد الرجالة كلهم يا كبير العيلة، وأني مستنظر اللي عتعمله ………………………………………

…………………………………………..!!!

يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق